ﰡ
ويمكن أن يقال : سميت المحكمات أمّاً : لأنها أنفع لعباد الله تعالى، وأفضل من المتشابهات، كما سميت فاتحة الكتاب أم الكتاب، وسميت مكة أم القرى.
ويحتمل أن يقال : سمّي المحكمات أم الكتاب لأنه يلوح معناها، فيستنبط منها الفوائد، ويقاس عليها فسماها أم الكتاب، أي الأم والأصل من الكتاب.
فعلى المحمل الأول، إذا قلنا معنى أم الكتاب أن المتشابهات مردودة إلى المحكمات، ومعتبرة بها، ومقيسة عليها، فالمتشابهات هي التي تحتمل معاني مختلفة، فيتعرف مراد الله منها بالمحكمات، وإذا لم يقل ذلك، فالمتشابهات يجوز أن يعنى بها ما لم يعلم معناه من آيات الساعة وغيرها، وحروف التهجي التي ظن قوم أنها أودعت معاني لا يعلمها إلا الله، وإن كان ذلك فاسداً عندنا.
والمتعلق بالأحكام أن تأويل ما يتعلق بأحكام الشرع واجب، وما لا يتعلق به فلا يجب ويجوز، وقد ظن قوم أنه لا يجوز لأنه تعالى قال :﴿ فَأمّا الّذينَ في قُلوبِهمْ زَيْغٌ٢ فَيَتّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ﴾ [ ٧ ].
وقد جعل قوم تمام الكلام عند قوله :﴿ والرّاسِخونَ في العِلْمِ ﴾ [ ٧ ] وجعل الواو في قوله :﴿ والرّاسِخونَ ﴾ للجمع، ومنهم من جعل تمام للكلام عند قوله :﴿ إلاّ اللهُ ﴾، وأن معناه ﴿ وَما يَعْلَمُ تأويلَهُ إلاّ اللهُ ﴾ يعني تأويل المتشابهات، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين :﴿ آمَنّا به كُلٌ مِنْ عِندِ رَبِّنا ﴾، بما نصب من الدلائل في المحكم، ومكن من رده إليه، فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا : آمنا بالجميع، كل من عند ربنا، وما لم يحط علمنا به من الخفايا مما في شرعه المصالح، فعلمنا عند ربنا.
ومن الناس من حرم تأويل المتشابهات ورأى أن معنى قوله في المحكمات :﴿ هُنَّ أمُّ الكِتابِ ﴾ أي فواتح السور، أو هي الأوامر والنواهي ومجامع التكاليف التي هي عماد الدين، كما أن عماد الباب أم الباب، واستدل بقوله :﴿ وَما يَعْلَمُ تأويلَهُ إلاَّ اللهُ ﴾، وقال قوم :﴿ والراسِخونَ في العِلْمِ ﴾ لا يجوز أن يكون مضموماً إلى قوله :﴿ إلاّ اللهُ ﴾ لأنها لو كانت للجمع لقال : ويقولون آمنا به، ويستأنف ذكر الواو لاستئناف الخبر.
والذين خالفوا هذا الرأي ذكروا أنَّ مثل هذا شائع، وقد وجد مثله في القرآن، وهو قوله في شأن قسم الفيء. ﴿ ما أفاءَ اللهُ على رسولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرّسولِ ﴾٣ إلى قوله ﴿ شَديدُ العِقابِ ﴾، ثم تلاه بالتفصيل، وتسمية من يستحق هذا الفيء فقال :﴿ لِلْفُقَراءِ المُهاجرينَ ﴾، إلى قوله :﴿ والّذينَ جاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ٤ ﴾، وهم لا محالة داخلون في استحقاق الفيء كالأولين، والواو فيه للجمع ثم قال :﴿ يَقولونَ رَبّنا اغْفِر لَنا ولإخْوانِنا٥ ﴾.
كذلك قوله :﴿ والرّاسِخونَ في العِلْمِ ﴾، يقولون معناه : والراسخون في العلم يعلمون تأويل ما نصب لهم الدلالة عليه من المتشابه قائلين :" ربنا آمنا "، فصاروا معطوفين على ما قبله داخلين في خبره، ولأنهم إذا منعوا تأويل المتشابه، ووجب اتباع الظاهر، تناقضت الظواهر ووقعت الأحكام العقلية والسمعية، وهؤلاء الذين ينظرون إلى هذا الظاهر، أو لا ينظرون إلى ظاهر الواو في دلالته على الجمع المذكور ولم يحلوا ذلك على الابتداء وقطع المعطوف عليه، وذلك خلاف ظاهر دلالة الواو وهذا بين.
فأما قوله تعالى :﴿ فأمّا الّذينَ في قُلوبهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعونَ ما تَشابهَ مِنْهُ، ابْتغاءَ الفِتْنَةِ ﴾، فمثل ما روي عن الربيع بن أنس، أن هذه الآية نزلت في وفد٦ نجران لما حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروح منه ؛ ؟ فقال : بلى. فقالوا : حسناً، أي أنا لا نسمع منك بعد هذا قولك إنه عبد الله، بعد أن قلت إنه روح الله، فنزل قوله تعالى :﴿ فأمّا الّذِينَ في قُلوبهِمْ زَيْغٌ فيتّبِعونَ ما تشابهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتْنةِ وابْتِغاءَ تأويلهِ٧ ﴾. ثم أنزل تعالى :﴿ إنَّ مثلَ عيسى عِندَ اللهِ كمثلِ آدَمَ خلقهُ مِنْ تُرابٍ٨ ﴾، الآية، وقال :﴿ هُوَ الّذي أنْزَلَ عليْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكماتٌ هُنَّ أمُّ الكِتابِ٩ ﴾، معناه : إن كون عيسى عبد الله، محكم على معنى أن التأويل لا يتطرق إلى الآيات الدالة على أن عيسى عبد الله، وقوله :" كلمة الله " يحتمل أن يكون معناه : أنه الذي بشر به في كتب الأنبياء المتقدمين، ومثله قوله تعالى :﴿ ذَلكَ عِيسى ابنُ مرْيمَ قوْلَ الحقِّ الّذي فيهِ يَمْترُونَ ﴾١٠ الآية، فسماه كلمة وقولاً من حيث قدم البشارة به. وسمى روحه، لأنه خلق من غير ذكر، بل أمر جبريل عليه السلام فنفخ في جيْب مريم فقال :﴿ فنفخْنا فيهِ مِنْ روحِنا١١ ﴾، فأضاف الروح إلى نفسه تشريفاً له كبيت الله، وأرض الله، وسماء الله.
وقد سمى القرآن روحاً، لأنه يحيي به من الضلال، وسمى عيسى روحاً، لأنه كان يحيي به الناس في أمور دينهم، فصرف أهل الزيغ ذلك إلى مذاهبهم الفاسدة، وإلى ما يعتقدونه من الكفر والضلال، فهذا مثال المحكم والمتشابه، الذي يجب أن يرد معناه إلى معنى المحكم.
قوله تعالى :﴿ وَيقْتُلونَ الّذينَ يأمُرونَ بالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ ﴾١٢ الآية [ ٢١ ] : يدل على جواز الأمر بالمعروف مع خوف القتل١٣.
٢ - الزيغ: الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، ويقال: زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد..
٣ - سورة الحشر، آية ٧..
٤ - سورة الحشر، آية ٨ و٩ و١٠..
٥ - سورة الحشر، آية ١٠..
٦ - أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع أن النصارى أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخاصموه في عيسى، فأنزل الله: (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم). إلى بضع وثمانين آية منها.
انظر أيضا أسباب النزول للواحدي/ ٩٠ – ٩١..
٧ - أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى (ابتغاء الفتنة) أي الإضلال لأتباعهم أيها ما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم. (وابتغاء تأويله) أي تحريفه على ما يريدون..
٨ - سورة آل عمران، آية ٥٩، والمعنى أي كآدم خلقه من تراب ثم قال له (كن فيكون)..
٩ - سورة آل عمران، آية ٧..
١٠ - سورة مريم، آية ٣٤..
١١ - سورة التحريم، آية ١٢..
١٢ - وهم اليهود، قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، وقتلوا حزقيس عليه السلام، قتله قاض يهودي لما نهاه عن منكر فعله، وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم عليهما السلام، ولما كان المخاطبون راضين بصنيع أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم، أهـ. انظر محاسن التأويل..
١٣ - ويقول القرطبي: "دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة" ج٤ ص٤٧..
٢ - يقول القرطبي: "في هذه الآية دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم لأنه دعى إلى كتاب الله، فإن لم يفعل كان مخالفا يتعين عليه الزجر بالأدب على قدر المخالف، وهذا الحكم الذي ذكرناه مبين في التنزيل في قوله تعالى: (وإذا دعوا الله ورسوله ليحم بينهم إذا فريق منهم معرضون). إلى قوله تعالى: (بل أولئك هم الظالمون). وقال ابن خويز منداد المالكي:
"واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداؤه من المدعي والمدعى عليه"..
٣ - رواه أبو داود في كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود..
قوله تعالى :﴿ لا يَتّخِذُ المؤمِنونَ الكافِرينَ أولياءَ مِن دونِ المؤمِنينَ ﴾٢ الآية [ ٢٨ ] : يدل على أنه لا يجوز أن يتخذ منهم أولياء وأن يلاطفوا، ومثله من كتاب الله :﴿ لا تَتّخِذوا بِطانَةً مِنْ دونِكُمْ لا يَألونَكُمْ خَبالاً٣ ﴾، وقال :﴿ لا تجِدُ قَوْماً يؤمِنونَ باللهِ والّيومِ الآخِرِ٤ ﴾، وقال :﴿ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظّالمينَ٥ ﴾، وقال :﴿ فَلا تَقْعُدُواْ مَعَهُم حتّى يخوضوا في حديِثٍ غَيْرِهِ إنّكُمْ إذاً مِثْلُهُمْ٦ ﴾، وقال :﴿ ولا تَرْكَنوا إلى الّذينَ ظَلَموا فَتَمَسّكُمُ النّارُ٧ ﴾، وقال :﴿ فأعْرضْ عَمّنْ تَولّى عَن ذِكْرِنا، ولَمْ يُرِدْ إلاَ الحياةَ الدُّنيا٨ ﴾، وقال :﴿ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ٩ ﴾، وقال :﴿ يا أيها النّبيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ١٠ ﴾، وقال :﴿ يا أيها الّذين آمَنوا لا تَتّخِذوا اليَهودَ والنّصارى أوْلِياءَ بَعْضُهُم أوْلِياءُ بَعْضٍ١١ ﴾، وقال :﴿ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بِه أزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فيهِ١٢ ﴾.
فنهى بعد النهي عن مجالستهم وملاطفتهم، عن النظر إلى أموالهم وأحوالهم في الدنيا.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بإبل بني المصطلق، وقد عَبست١٣ بأبوالها من السمن، فتقنع بثوبه ومضى يقول : يقول الله عز وجل :﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بهِ أزْواجاً مِنْهُمْ١٤ ﴾.
وقال تعالى :﴿ يا أيها الّذينَ آمَنوا لا تَتخِذوا عَدُويّ وعَدُوَّكُم أوْلِياءَ تُلقونَ إلَيْهِمْ بالمَوَدَّةِ١٥ ﴾.
"أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولا يقتل ولا يتأتي مأثما".
وعرف بعضهم التقية بأنها: المحافظة على النفس والمال من شر الأعداء، فينقيهم الإنسان بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها..
٢ - الأولياء: جمع ولي، ومعانيه كثيرة، منها: المحب، والصديق، والنصير.
وقال الزمخشري: نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم، أو صداقة قبل الإسلام، أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر.
ويقول القاسمي: قال بعض مفسري الزبدية: ثمرة الآية الكريمة تحريم موالاة الكفار، لأن الله تعالى نهى عنها بقوله:
(ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء)، أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية.
ويقول الجصاص:
"وفي الآية ونظائرها دلالة على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء.
ويعقب الصابوني على ذلك فيقول:
"ومما يؤيد هذا الرأي ويرجحه قوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) ثم يقول: ما ترشد إليه الآية الكريمة:
١- موالاة الكافرين، ومحبتهم، والتودد إليهم محرمة في شريعة الله.
٢- التقية عند الخوف على النفس أو المال أو التعرض للأذى الشديد.
٣- الإكراه يبيح للإنسان التلفظ بكلمة الكفر بشرط أن يبقى القلب مطمئنا بالإيمان.
٤- لا صلة بين المؤمن والكافر بولاية أو نصرة أو توارث، لأن الأيمان يناقض الكفر.
٥- الله تعالى مطلع على خفايا النفوس لا تخفى عليه خافية من أمور عباده. أهـ.
انظر تفصيل القول في تفسير القاسمي ج٤ ص٨٢٤..
٣ - سورة آل عمران، آية ١١٨..
٤ - سورة المجادلة، آية ٢٢..
٥ - سورة الأنعام، آية ٦٨..
٦ - سورة النساء، آية ١٤٠..
٧ - سورة هود، آية ١١٣..
٨ - سورة النجم، آية ٢٩..
٩ - سورة الأعراف، آية ١٩٩..
١٠ - سورة التحريم، آية ٩..
١١ - سورة المائدة، آية ٥١..
١٢ - سورة طه، آية ١٣١..
١٣ - عبست الإبل: تعلق بأذنابها من أبوالها وأبصارها ما يجف عليها..
١٤ - سورة طه، آية ١٣١..
١٥ - سورة الممتحنة، آية ١..
وذكر القاسمي: "روى عن قتادة وغيرهم أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم، فأيهم ثبت في جرية الماء فهو ناقلها، فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا، فإنه ثبت.
ويقال: "إنه ذهب صاعدا يشق جرية الماء".
قال أبو مسلم
"معنى يلقون أقلامهم" مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون عنها ما يكتبون عليها أسماءهم، فمن خرج له السهم سلم له الأمر"..
٢ - أي العبيد يعتقهم في مرضه ثم يموت..
٣ - أي في هذا الجواز..
٤ - انظر الجصاص ج٢ ص٢٩٤..
٥ - أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو داود في سننه، وابن ماجة في سننه عن عائشة رضي الله عنها:
"كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه"..
وقال كثير من العلماء : إن هذا مخصوص بالحسن والحسين أن يسميا ابني رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهما، لقوله عليه السلام :" كل سببٍ يَنْقَطِعُ يومَ القِيامةِ إلاَّ سَبَبي ونَسي٥ ".
وقد قال بعض أصحابنا : فمن أوصى لولد فلان، ولم يكن لصلبه ولد، وله ولد ابن، وولد ابنة، أن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة، وهو قول الشافعي٦، وإلا فإذا استولد الهاشمي جارية حبشية كان الولد متشرفاً بأبيه.
والمباهلة: الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره، يقال: بهله الله أي لعنه، والبهل: اللعن.
وحكى أبو عبيدة: بهله الله يبهله بهلة، أي لعنة.
ويقول ابن كثير:
"وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا ف يوفد نصارى نجران لما قدموا المدينة فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والإلهية، فأنزل صدر هذه السورة رداً عليهم كما كره الإمام محمد بن إسحاق وغيره.
انظر البخاري في كتاب المغازي باب قصة نجران. والقرطبي ج٤ ص١٠٤.
ويقول صاحب محاسن التأويل:
"استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين، وأن من جادل وأنكر شيئا من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به صلى الله عليه وسلم، والمباهلة الملاعنة" أهـ.
ويقول ابن القيم في زاد المعاد:
"أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه بلك ورسوله" أهـ..
٢ - رواه البخاري في كتاب الفتن وفي المناقب..
٣ - لا ترزموا: لا تقطعوا بوله قبل أن يتمه. رواه أبو يعلى في المطالب العالية باب إزالة النجاسة وباب الحسن والحسين..
٤ - سورة الأنعام، آية ٨٤ – ٨٥..
٥ - أخرجه الدارقطني في سننه عن ابن عمر رضي الله عنه..
٦ - وقد ذكر ذلك بنصه القرطبي في تفسيره ج٤ ص١٠٤ - ١٠٥..
وفيه رد على الروافض الذين يقولون : يجب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي، وأنه يحل ما حرمه الله، من غير أن يبين مستنداً من الشريعة.
انظر محاسن التأويل ج٤ ص٨٧٠ للقاسمي..
٢ - انظر أحكام الجصاص ج٢ ص٢٩٩. والقرطبي ج٢ ص١٢٠..
وقد رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى فجعلها مخصوصاً لموضع النص، وأبو حنيفة رأى ذلك أصلاً في تحريم كل مباح وأجراه مجرى اليمين٧.
٢ - انظر الجصاص ج٢ ص٣٠٢..
٣ - أخرج أبو عبد الرحمن النسائي بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها فأنزل الله عز وجل: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) إلى آخر الآية. انظر أيضا القاسمي ج١٦ ص٥٨٥٥..
٤ - أي يجعل كفارة اليمين مزيلة للتحريم، قال الجصاص: قد دلت الآية على أن تحريم إسرائيل لما حرمه من الطعام على نفسه قد كان واقعا، ولم يكن موجب لفظه شيئا غير التحريم وهذا المعنى هو منسوخ بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه حرم مارية على نفسه فلم يحرمها الله عليه وجعل موجب لفظه كفارة يمين..
٥ - سورة التحريم، آية ١..
٦ - الصحيح لا يختص بالمرأة..
٧ - انظر القرطبي ج١٨ ص١٨٥..
قوله :﴿ فيهِ آياتٌ بيِّناتٌ مقامُ إبراهيمَ١ ﴾ : والآية في ذلك أن قدميه دخلتا في حجر صلد بقدرة الله عز وجل، ليكون ذلك آية ودلالة على توحيد الله وصدق نبوة إبراهيم، ومن الآية فيه إمحاق الأحجار في موضع الرمي٢،
وامتناع الطير من العلو عليه، وإنما يطير حوله لا فوقه، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته - وقد كانت العادة جارية بذلك - ومن جملة ذلك : هلاك أصحاب الفيل.
فقال الشافعي : لما ذكر الله تعالى أن فيها آيات بينات جعل من جملتها :" أن من دخله كان آمناً "، وإن كان من الآيات في أن الله تعالى جعل لذلك الموضع هيبة ووقاراً وعظمة في نفوس المفسدين المتمردين، كما قال تعالى :﴿ فلْيعْبُدوا رَبَّ هذا البيْت، الذي أطْعَمََهُمْ مِنْ جوعٍ ﴾٣ بأن يجبي إليه ثمرات كل شيء وهو بواد غير ذي زرع، ﴿ وأمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾. وقال :﴿ أوَلَمْ نُمَكِّنْ لهُمْ حَرَماً آمِناً٤ ﴾.
فقوله :﴿ كانَ آمِناً ﴾ : مرتباً على ذكر الآيات، ظاهر في كونه خبراً عن شيء كان، وذلك لا يدل على أن من عصى الله تعالى، والتزم حد الله تعظيماً لأمر الله وإجلالاً لدينه، فهرب مما وجب، وصاحب الشرع يحرم عليه الالتجاء إلى الحرم، فإنه أمر تسليم النفس لحق الله تعالى، أنه يكون آمناً. وهذا ليس بتأويل، إنما هو دليل مأخوذ من ظاهر الخبر، وهو قوله " كان " ومن ظاهر السياق في ذكر الآيات وعد كونه آمناً في جملتها.
فإذا قيل : معناه لا تقتلوا أنتم، فليس ينتظم ذلك في سياق الآية، سيما وهو يضطر إلى الخروج بقطع المير عنه، فهو خائف صباحاً ومساء، فكونه آمناً يخالف ذلك.
ويدل على ذلك أن القائل إذا قال : من دخل هذا الموضع كان آمناً، ثم لزمته حدود النفس وعقوبات على الأطراف، فإذا قيل : إنها تستوفى منه، لم يتحقق معنى الأمن مع ذلك، وعد إطلاق لفظ الأمن على كل داخل، مع إيجاب هذه العقوبات عليه مستلزماً.
فإذا تقرر ذلك، فكيف تترك العمومات في القصاص والزواجر لهذا الكلام الوارد في معرض الآيات بلفظ الخبر ؟ وهل جاز الحبس في الحرم الملتجئ إليه في دين عليه إلا لعموم قوله عليه السلام :" لي الواجد يحل عرضه وعقوبته٥ " ؟ وهل وجب القصاص في النفس وغيرها، إلا على وجه واحد بقوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فيها أنَّ النّفْسَ بالنّفْسِ والعَيْنَ بالْعَينِ ﴾ الآية٦ ؟ أولا يعلمون أنه إذا قطعت أطرافه لم تكن أمنة، ولا الداخل آمناً، فإن قطع الطرف يخشى منه هلاك النفس ؟
وامتناع الطير من العلو عليه، وإنما يطير حوله لا فوقه، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته - وقد كانت العادة جارية بذلك - ومن جملة ذلك : هلاك أصحاب الفيل.
فقال الشافعي : لما ذكر الله تعالى أن فيها آيات بينات جعل من جملتها :" أن من دخله كان آمناً "، وإن كان من الآيات في أن الله تعالى جعل لذلك الموضع هيبة ووقاراً وعظمة في نفوس المفسدين المتمردين، كما قال تعالى :﴿ فلْيعْبُدوا رَبَّ هذا البيْت، الذي أطْعَمََهُمْ مِنْ جوعٍ ﴾٣ بأن يجبي إليه ثمرات كل شيء وهو بواد غير ذي زرع، ﴿ وأمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾. وقال :﴿ أوَلَمْ نُمَكِّنْ لهُمْ حَرَماً آمِناً٤ ﴾.
فقوله :﴿ كانَ آمِناً ﴾ : مرتباً على ذكر الآيات، ظاهر في كونه خبراً عن شيء كان، وذلك لا يدل على أن من عصى الله تعالى، والتزم حد الله تعظيماً لأمر الله وإجلالاً لدينه، فهرب مما وجب، وصاحب الشرع يحرم عليه الالتجاء إلى الحرم، فإنه أمر تسليم النفس لحق الله تعالى، أنه يكون آمناً. وهذا ليس بتأويل، إنما هو دليل مأخوذ من ظاهر الخبر، وهو قوله " كان " ومن ظاهر السياق في ذكر الآيات وعد كونه آمناً في جملتها.
فإذا قيل : معناه لا تقتلوا أنتم، فليس ينتظم ذلك في سياق الآية، سيما وهو يضطر إلى الخروج بقطع المير عنه، فهو خائف صباحاً ومساء، فكونه آمناً يخالف ذلك.
ويدل على ذلك أن القائل إذا قال : من دخل هذا الموضع كان آمناً، ثم لزمته حدود النفس وعقوبات على الأطراف، فإذا قيل : إنها تستوفى منه، لم يتحقق معنى الأمن مع ذلك، وعد إطلاق لفظ الأمن على كل داخل، مع إيجاب هذه العقوبات عليه مستلزماً.
فإذا تقرر ذلك، فكيف تترك العمومات في القصاص والزواجر لهذا الكلام الوارد في معرض الآيات بلفظ الخبر ؟ وهل جاز الحبس في الحرم الملتجئ إليه في دين عليه إلا لعموم قوله عليه السلام :" لي الواجد يحل عرضه وعقوبته٥ " ؟ وهل وجب القصاص في النفس وغيرها، إلا على وجه واحد بقوله تعالى :﴿ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فيها أنَّ النّفْسَ بالنّفْسِ والعَيْنَ بالْعَينِ ﴾ الآية٦ ؟ أولا يعلمون أنه إذا قطعت أطرافه لم تكن أمنة، ولا الداخل آمناً، فإن قطع الطرف يخشى منه هلاك النفس ؟
قوله تعالى :﴿ وللهِ عَلى النّاسِ حجُّ البَيْتِ مَنِ استَطاعَ إليهِ ﴾ الآية [ ٩٧ ] :
والاستطاعة وردت مطلقة، وفسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالزاد والراحلة، لا على معنى أن الاستطاعة مقصورة عليها، فإن المريض، والخائف، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة، والزمن، وكل من تعذر عليه والوصول، فهو غير مستطيع للسبيل إلى الحج، وإن كان واجداً للزاد والراحلة، فدل أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :" الاستطاعة الزاد والراحلة "، إبانة أن من أمكنه المشي إلى البيت ولم يجد زاداً أو راحلة، لا يلزمه الحج، فبين النبي صلى الله عليه وسلم، أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي، وأن من لا يمكنه الوصول اليه إلا بالمشي الذي يشق عليه ويعسر، فلا حج عليه، وذلك تنبيه على أن كل من لا يصل إلى البيت إلا بمشقة شديدة، فقد سقط عنه الحج، وقد قال الله تعالى :﴿ وَما جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِّينِ مِنْ حَرَج١ ﴾.
والمرأة لما كانت كلحم على عظم، وكان ما يتوق٢ - من خروجها دون محرم ونسوة ثقات - من الضرر على نفسها، أعظم من ضرر المشي في حق القادر عليه، فعلم بسقوط فرض المشي لما فيه من المشقة، سقوط ما فوقه، وهذا بالغ حداً.
نعم هذا الذي قلناه من المنصوص عليه، ودلالته في سقوط الحج، لضرر يعود إلى من عليه الحج، مع أنه قد ورد في منع وجوب الحج على المرأة٣، وعلى الزمن الذي لا يستطيع ركوب الراحلة إلا بمشقة شديدة أخبار خاصة٤.
وقد يمتنع وجوب الحج لضرر يرجع إلى الغير، إلى الحاج، كأن يكون عليه دين، أو يكون٥ أجيراً، والمرأة إذا أرادت حجة الإسلام وهي منكوحة.
والاستطاعة تنعدم بهذه الجهات والأسباب، إذا امتنعت الاستطاعة، لضرر يرجع إلى الماشي، فلأن تمتنع بحق الغير أولى، فإن الماشي إن تكلف المشقة ربح الثواب، وأما من له الحق فإنه يتضرر من غير نفع يحصل له في مقابلته، وذلك يدل على أن الأمر فيه أعظم.
مع أنه يمكن أن يذكر فيه معنى آخر، وهو أن الحج قد ثبت بالدليل أنه على التراخي، وهذه الحقوق على الفور، والحج لا يفوت، وهذه الحقوق تفوت، والحج حق الله، وهذه الحقوق للآدمي، فربما يجري فيها زيادة مضايقة لحاجة الآدمي، وليس الشروع في هذه المعاني من مقصودنا إنما مقصودنا : اقتباس هذه الأحكام من هذه الآية الواردة في معنى الاستطاعة.
وهاهنا نوع آخر من الكلام، وهو أن الذين لا استطاعة لهم من المكلفين قسمان : أحدهما : إذا تكلف المشقة وحج وقع عن فرض حجة الإسلام،
والآخر : إذا حج لم تقع عن حجة الإسلام : فالقسم الأول كالمرأة إذا سافرت دون محرم أو نسوة ثقات، أو تكلف الماشي المشي، أو المريض تكلف المشقة، والقسم الآخر كالعبد يحج دون إذن مولاه، فإنه لا يقع عن حجة الإسلام، حتى إذا عتق وجبت حجة الإسلام، مع أن القسمين على سواء في سقوط خطاب الأداء فيهما٦.
وقد خالف في العبد قوم من السلف، وحكى الرازي هذا المذهب عن الشافعي، وهو منه غلط، ولم يختلف قول الشافعي في هذا المعنى، ولا عن أصحابه وجه على ما رواه عنه الرازي.
والفارق بين القسمين : إن كان من وصل إلى البيت ولزمه الحج، كالفقير والمريض الذي سهل عليه ذلك العذر من العمل، أو بسقط صاحب٧ الحق، مثل المديون والأجير والزوج، أو لصاحبه المحرم مثل المرأة، فيلزمهم الحج، فإذا حجوا بأنفسهم وقع الموقع، فإنه يعلم بوجوب الحج عليهم عند حضور البيت، أو رصا من له الحق أن امتناع الأداء عارض، وأن الوجوب لولا العارض ثابت، وإذا أدى٨ الحج، فليس في منع الاعتداد به عن حجة الإسلام إضرار بالغريم، فلا حج عليه، فدل أن المانع في الخطاب، وأن الخطاب قاصر عنه لنقص فيه، بالإضافة إلى الحج، فلا جرم لا يقع عن حجة الإسلام بحال.
فإن قال قائل : ولو وقع السؤال عن هذا وقيل : العبد إذا كان حاضراً في المسجد الحرام وأذن له السيد، فلم لا يلزمه الحج ؟ قلنا هذا سؤال على الإجماع، وربما لا يعلل ذلك، ولكن إذا ثبت هذا الحكم بالإجماع، استدللنا به على أنه لا يعتد بحجة في حال الرق على حجة الإسلام، ولعل المعنى فيه : أن الرق ضرب على الكافر في الأصل، ولم يكن حج الكافر معتداً به، ولما ضرب عليه الرق، ضرب عليه ضرباً مؤبداً، فلم يكن في حالة الكفر أهلاً لأداء عبادة الحج، ولما ضرب الرق المؤبد عليه، تقاصر عنه الخطاب أبداً، فلم يدخل تحت خطاب الحج بوجه.
وأما الفقر فعارض لا يدوم، والمرض كمثل، وقد سبق الخطاب، وكذا المنكوحة، فهذا هو السبب فيه.
نعم العبد لا جمعة عليه، وإذا أداها سقط الفرض، لأن عليه الظهر، والجمعة قائمة مقامه، وليس عليه شيء يقوم الحج مقامه، وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أيما صبي حج ثم أدرك، فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر، فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق، فعليه أن يحج حجة أخرى٩ ".
وهذا إذا صح أغنى عن تكلف كل معنى.
وظاهر قوله :﴿ وللهِ عَلى النّاسِ حجُّ البَيْتِ ﴾ : الاكتفاء بحجة واحدة١٠.
٢ - أي يظهر..
٣ - إذ يمنعها زوجها، يقول القرطبي:
"والمرأة يمنعها زوجها، وقيل: لا يمنعها، والصحيح المنع، لاسيما إذا قلنا: إن الحج لا يلزم عل الفور" أهـ..
٤ - ويفصل القرطبي القول فيقول:
"المريض والعضوب ـ والعضب القطع، ومنه سمى السيف عضبا ـ وكان من انتهى إلا بقدر أن يستمسك على الراحلة ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه، إذ لا يقدر على شيء. انظر القرطبي ج٤ ص١٥١ – ١٥٢..
٥ - انظر القرطبي ج٤ ص١٤٩..
٦ - يقول القرطبي: أجمع العلماء على أن الخطاب بقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) عام في جمعهم مسترسل على جملتهم..
٧ - أي سقوط..
٨ - أي العبد..
٩ - أخرجه الخطيب في التاريخ وقال غريب، والضياء في المختارة، ورواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (فيض القدير)..
١٠ - يقول الصابوني: ظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى ـ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" ـ أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر، وهو رأي الجمهور، إذ ليس في الآية ما يوجب التكرار..
فيقال لهذا القائل : هو عند الإكراه مستطيع، فيقول : إذا عظمت المشقة يحسن أن يقال : هو غير مستطيع كما قال تعالى :﴿ وكانوا لا يَسْتَطيعونَ سَمْعا٢ ﴾، ويقال لهم : ما معنى حق تقاته إلا امتثال أمر الله تعالى على نحو ما أمر ؟ وإلا فقد تعالى الله عن الغرض في عبادتنا، وإنما يتقي معاصي الله خوفاً من عقوبته لترك الأمر، فلا بد من تأمل الأمر، فكل من امتثل أمر الله تعالى فقد أتقاه حق تقاته، فعلى هذا لا نسخ فيه٣.
٢ - سورة الكهف، آية ١٠١..
٣ - انظر محاسن التأويل للقاسمي ج٤ ص٩١٢..
وحبل الله في عهده٢ في قول، والقرآن في قول آخر٣، وكل ذلك صحيح.
وقوله :﴿ ولا تَفَرَّقوا ﴾ : يجوز أن يراد به التفرق في أصول الدين، مثل قوله تعالى :﴿ وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقيماً فاتَّبِعوهُ وَلا تَتّبِعوا السُبلَ فَتَفرَّقَ بكُمْ عَنْ سَبيلِهِ٤ ﴾، ويجوز أن يكون معناه :" ولا تفرقوا " ٥ متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخواناً، فيكون ذلك منعاً لهم عن التقاطع والتدابر، ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى :﴿ واذكُروا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتم أعداء فألّفَ بينَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتمْ بنِعْمَتِهِ٦ إخْواناً ﴾ [ ١٠٣ ].
وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع، فإن ذلك ليس اختلافاً، إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وليس اختلاف حكم الحائض والطاهرة في الصوم والصلاة، واختلاف حكم المقيم والمسافر في الإتمام والقصر، اختلافاً من حيث إن الواجب على كل واحد منهم، غير الواجب على الآخر، والاختلاف إذاً هو كالاختلاف في الصناعات والحرف وأصغار الأشياء، ومراسم الناس في أنها سبب الانتظام، وإنما منع الله اختلافاً هو سبب الفساد فهذا حكم مسائل الاجتهاد، فإن الاختلاف فيها سبب لاستخراح الغوامض ودقائق معاني الشرع، فاعلمه.
وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متواصلون، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك :" اختلاف أمتي رحمة٧ ".
"واعتصموا" العصمة: المنعة، "بحبل" الحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة والحبل: حبل العانق. والحبل: مستطيل من الرمل، والحبل الرسن. والحبل العهد. والمراد به هنا بمعنى العهد، أو بمعنى القرآن..
٢ - كما قال تعالى في الآية ١١٢ من سورة آل عمران: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس)، أي بعهد وذمة..
٣ - روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ألا وأني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة... الحديث"..
٤ - سورة الأنعام، آية ١٥٢..
٥ - يقول صاحب محاسن التأويل
قوله: (ولا تفرقوا) أي لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم، كما اختلف اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية..
٦ - قال الزمخشري: "كانوا في الجاهلية بينهم الاجن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وقذف فيها المحبة، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخوانا متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في الله" أهـ.
كذلك انظر تفسير ابن كثير ج١ ص٣٨٩..
٧ - قال في المقاصد: رواه البيهقي في المدخل بسند منقطع عن ابن عباس بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهما أوتيتم من كتاب فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فمما قاله أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة".
ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني والديلمي بلفظه، وفيه ضعف..
وقد قال الله تعالى في هذا المعنى :﴿ وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المؤمِنينَ اقْتَتَلوا فأصْلِحوا بَيْنَهُما فإنْ بَغَتْ إحْداهُما على الأخّرى فقاتِلوا الّتي تَبْغَى حَتّى تَفىءَ إلى أمْرِ اللهِ٤ ﴾، وقال :﴿ لُعِنَ الّذينَ كَفروا مِن بَني إسْرائيلَ عَلى لِسانِ داوُد ﴾٥ - إلى قوله - ﴿ كانوا لا يَتَناهونَ عَنْ مُنْكرٍ فَعَلُوه ﴾.
وقد قال الله تعالى :﴿ يا أيها الّذينَ آمنوا عَلَيْكُم أنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيتْم ﴾٦ الآية : وليس ذلك ناسخاً لوجوب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه إذا أمكنه إزالته بلسانه فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة والقتل فليفعله، وإن انتهى بدون القتل لم يجز بالقتل وهذا يتلقى من قوله تعالى :﴿ فَقاتِلوا الّتي تَبْغِي حَتّى تَفيءَ إلى أمْرِ اللهِ٧ ﴾.
وعليه بنى العلماء : أنه إذا دفع الصائل٨ على النفس، أو على المال عن نفسه، أو عن ماله، أو مال غيره، أو نفس غيره، فله ذلك ولا شيء عليه، ولو رأى زيد عمراً وقد قصد مال بكر، فيجب عليه أن يدفعه عنه، إذا لم يكن صاحب المال قادراً عليه ولا راضياً به، ولو قصد ماله، فيجوز له أن يتركه عليه ولا يدفعه، وفي الصيال على النفس خلاف.
ولو كان في يد الغاصب مال غيره وسعك أن تبيعه، ويقتله إن لم يقف، وكذلك في السارق إذا أخذ المتاع فيجوز ابتياعه، والسارق الذي ينقب البيوت كمثل، حتى قال العلماء : لو فرضنا قوماً من أصحاب المكوس والضرائب والأموال الذين في أيديهم أموال الناس، وهم ممتنعون من إيصالها إلى الملاك، ولا ينفعهم الردع بالكلام والملام والتخويف بالله، فيجوز قتلهم من غير إنذار، لأنهم لا يقبلون ذلك من أحد لقوله تعالى :
﴿ لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ ﴾ يعني : لم يقبل منكم ولا يقدر على منعه من الظلم، فعليك نفسك.
وقال تعالى في ذكر أصحاب السبت٩ :﴿ أنجَيْنا الّذينَ يَنْهَوْنَ عنِ السوءِ وأخْذْنا الذينَ ظَلَموا١٠ ﴾، فدل ذلك على أن من لم ينه عن الظلم، جعل راضياً به حتى وجب تعذيبه، وقد نسب قتل الأنبياء المتقدمين، إلى من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود، الذين كانوا من موالين لأسلافهم القاتلين لأنبيائهم.
وبنى الشافعي عليه : أن فعل الفاعل، إذا كان في نفسه قبيحاً ومفسدة فيجوز دفع الفاعل عنه لما يأتي على نفسه، ولا ضمان على قاتله، مثل أن يصول مجنون أو بهيمة على مال لرجل أو نفسه، فيجوز للمصول عليه ولغيره قتله، ولا ضمان عليه، وهو من قبيل النهي عن المنكر، وليس معنى النهي تكليف الفعل، ولكنه دفع الفاعل عن الفعل القبيح والظلم والتشنيع.
وأبو حنيفة يخالف في ذلك، لأنه يرى أن القاتل ليس ظالماً بفعله، ويقال له إنه ليس ظالماً بفعله، إلا لأن الفعل غير قبيح ولا مفسدة، ولكن لجهل الفاعل، ولو علمه كان به ظالماً ولحقه الذم واللوم والسفه، وهذا بين.
ومن جملة ذلك : أنه إذا كان في بلد الإسلام من يضلل الناس بشبهة وبدعة، فأنه يجب إزالته بما أمكن، لأنه نهي عن المنكر، ومن لم يكن داعياً للناس إلى ذلك، وإنما يذعن إلى الحق، فإقامة الدلائل على صحة قول أهل لحق وتبيين فساد شبهه، ما لم يخرج على أهل الحق بسفيه، ويكون له أصحاب يمتنع بهم عن الإمام، فإن خرج داعياً إلى مقالته مقاتلاً عليها، فهذا الباغي الذي أمر الله تعالى بقتاله حتى يفيء إلى أمر الله.
٢ - ويقول الإمام الغزالي رضي الله عنه:
"في هذه الآية بيان الإيجاب، فإن قوله تعالى "ولتكن" أمر، وظاهر الأمر الإيجاب وفيها بيان أن الفلاح منوط به، إذ حصر وقال: أولئك هم المفلحون، وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين. انظر كتاب البدعة، وكتاب الإسلام دين السعادة..
٣ - أخرجه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وابن ماجة في سننه، عن أبي سعيد رضي الله عنه..
٤ - الآية: ٩ من سورة الحجرات..
٥ - الآية: ٧٨، ٧٩ من سورة المائدة..
٦ - الآية: ١٠٥ من سورة المائدة..
٧ - آية: ٩ من سورة الحجرات..
٨ - الصائل: الواثب، وصال الفحل يصول صولا: وثب..
٩ - وأصحاب السبت هم جماعة من اليهود خالفوا أمر ربهم، ففجأتهم نقمته سبحانه على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة..
١٠ - الآية: ١٦٥ من سورة الأعراف..
ولما استكتب أبو موسى رجلاً من أهل الذمة، كتب إليه عمر يعنفه ويلومه ويتلو عليه هذه الآية. وقيل لعمر : إن هاهنا رجل من أهل الحيرة لم ير رجل أحفظ منه ولا أخط بقلم، فإن رأيت أن تتخذه كاتباً، قال :" قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين٣ ".
قال الزمخشري: "بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيه الذي يفضي إليه بشعورة ثقة به"..
٢ - يقول الزمخشري: ألا في الأمر يألو: إذا قصر فيه..
٣ - رواه ابن أبي حاتم، وعمر هو ابن الخطاب رضي الله عنه.
ويقول الرازي:
"فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلا على النهي عن اتخاذ النصراني بطانة"..
يقول القرطبي:
"والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف. وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنته، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية" أهـ..
٢ - قال الخفاجي: "في الآية إرشاد إلى الاجتهاد وجوازه بحضرته صلى الله عليه وسلم.
وقال الرازي: "دلت الآية على أنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه وحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة، فلهذا كان مأمورا بالمشاورة" أهـ.
وقال بعض المفسرين:
"ثمرة الآية: وجوب التمسك بمكارم الأخلاق وخصوصا لمن يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف"..
وبالبناء للمجهول: أي ما صح أن ينسب إلى الغلول ويخون..
٢ - يقول صاحب محاسن التأويل:
أشار إلى وعيد الغلول بقوله: "ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" أي بعينه، حاملا على ظهره ليفتضح في المحشر.
وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ـ كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده ـ يأخذ الوبرة من جنب البعير من الغنم فيقول:
"مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم منه، إياكم والغلول، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، إنه لينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم"..
٣ - أخرج أبو داود والنسائي عن زيد بن خالد الجهني، أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله، ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين"..