تفسير سورة الشورى

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وآياتها ٥٣

سورة الشورى
مكية [إلا الآيات ٢٣ و ٢٤ و ٢٥ و ٢٧ فمدنية] وآياتها ٥٣ [نزلت بعد سورة فصلت] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥)
قرأ ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما: حم سق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ أى مثل ذلك الوحى. أو مثل ذلك الوحى. أو مثل ذلك الكتاب يوحى إليك وإلى الرسل مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ يعنى أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور، وأوحاه من قبلك إلى رسله، على معنى: أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده من الأوّلين والآخرين، ولم يقل: أوحى إليك، ولكن على لفظ المضارع، ليدل على أن إيحاء مثله عادته. وقرئ: يوحى إليك، على البناء للمفعول.
فإن قلت: فما رافع اسم الله على هذه القراءة؟ قلت: ما دلّ عليه يوحى، كأن قائلا قال: من الموحى؟ فقيل: الله، كقراءة السلمى: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم على البناء للمفعول ورفع شركائهم، على معنى: زينه لهم شركاؤهم. فإن قلت: فما رافعه فيمن قرأ نوحى بالنون؟ قلت: يرتفع بالابتداء. والعزيز وما بعده: أخبار، أو العزيز الحكيم: صفتان، والظرف خبر. قرئ: تكاد، بالتاء والياء. وينفطرن، ويتفطرن. وروى يونس عن أبى عمرو قراءة غريبة: تتفطرن بتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر، روى في نوادر ابن الأعرابى: الإبل تشممن. ومعناه: يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته، يدل عليه مجيئه بعد العلى العظيم. وقيل: من دعائهم له ولدا، كقوله تعالى تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ.
208
فإن قلت: لم قال مِنْ فَوْقِهِنَّ؟ قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة: فوق السماوات، وهي: العرش، والكرسي، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أى يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانية. أو: لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السماوات، فكان القياس أن يقال: ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهنّ، ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ فجعل الحميم مؤثرا في أجزائهم الباطنة. وقيل: من فوقهنّ: من فوق الأرضين.
فإن قلت: كيف صح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار أعداء الله؟ وقد قال الله تعالى أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ فكيف يكونون لاعنين مستغفرين لهم؟ قلت: قوله لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يدل على جنس أهل الأرض، وهذه الجنسية قائمة في كلهم وفي بعضهم، فيجوز أن يراد به هذا وهذا. وقد دل الدليل على أن الملائكة لا يستغفرون إلا لأولياء الله وهم المؤمنون، فما أراد الله إلا إياهم. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة المؤمن وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وحكايته عنهم فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب به الاستغفار فما تركوا للذين لم يتوبوا من المصدقين طمعا في استغفارهم، فكيف للكفرة. ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار: طلب الحلم والغفران في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا إلى أن قال إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً وقوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ والمراد: الحلم عنهم وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاما. فإن قلت: قد فسرت قوله تعالى تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ بتفسيرين، فما وجه طباق ما بعده لهما؟ قلت: أما على أحدهما فكأنه قيل: تكاد السماوات ينفط في هيبة من جلاله واحتشاما من كبريائه، والملائكة الذين هم ملء السبع الطباق وحافون حول العرش صفوفا بعد صفوف يداومون- خضوعا لعظمته- على عبادته وتسبيحه وتحميده، ويستغفرون لمن في الأرض خوفا عليهم من سطواته. وأما على الثاني فكأنه قيل: يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء، والملائكة يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات التي يضيفها إليه الجاهلون به، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه التي علم أنهم عندها يستعصمون، مختارين غير ملجئين، ويستغفرون لمؤمنى أهل الأرض الذين تبرؤا من تلك الكلمة ومن أهلها. أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب مع وجود ذلك فيهم، لما عرفوا في ذلك من المصالح، وحرصا على نجاة الخلق، وطمعا في توبة الكفار والفساق منهم.
209

[سورة الشورى (٤٢) : آية ٦]

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ جعلوا له شركاء وأندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ رقيب على أحوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء، وهو محاسبهم عليها ومعاقبهم، لا رقيب عليهم إلا هو وحده وَما أَنْتَ يا محمد بموكل بهم ولا مفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان، إنما أنت منذر فحسب.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٧]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)
ومثل ذلك أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها: من أنّ الله تعالى هو الرقيب عليهم، وما أنت برقيب عليهم، ولكن نذير لهم، لأنّ هذا المعنى كرره الله في كتابه في مواضع جمة، والكاف مفعول به لأوحينا. وقُرْآناً عَرَبِيًّا حال من المفعول به، أى أوحيناه إليك وهو قرآن عربى بين، لا لبس فيه عليك، لتفهم ما يقال لك، ولا تتجاوز حدّ الإنذار. ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا، أى: ومثل ذلك الإيحاء البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسانك لِتُنْذِرَ يقال أنذرته كذا وأنذرته بكذا. وقد عدى الأوّل، أعنى:
لتنذر أمّ القرى إلى المفعول الأوّل والثاني، وهو قوله وتنذر يوم الجمع إلى المفعول الثاني أُمَّ الْقُرى أهل أمّ القرى، كقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ. وَمَنْ حَوْلَها من العرب.
وقرئ: لينذر بالياء والفعل للقرآن يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة، لأنّ الخلائق تجمع فيه. قال الله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ وقيل: يجمع بين الأرواح والأجساد. وقيل: يجمع بين كل عامل وعمله. ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محل له «١». قرئ: فريق وفريق، بالرفع والنصب، فالرفع على: منهم فريق، ومنهم فريق. والضمير للمجموعين، لأن المعنى: يوم جمع الخلائق.
والنصب على الحال منهم، أى: متفرّقين، كقوله تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ.
فإن قلت: كيف يكونون مجموعين متفرّقين في حالة واحدة؟ قلت: هم مجموعون في ذلك اليوم، مع افتراقهم في دارى البؤس والنعيم، كما يجتمع الناس يوم الجمعة متفرّقين في مسجدين. وإن أريد بالجمع: جمعهم في الموقف، فالتفرّق على معنى مشارفتهم للتفرّق.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٨]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)
(١). قوله «لا محل له» لعله. لا محل له من الاعراب. (ع)
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أى مؤمنين كلهم على القسر والإكراه، كقوله تعالى وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وقوله تعالى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً والدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان: قوله أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وقوله تعالى أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ بإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله. دليل على أنّ الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. والمعنى: ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان «١»، ولكنه شاء مشيئة حكمة، فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون، ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء. ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين ويترك الظالمين بغير ولى ولا نصير في عذابه.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٩]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)
معنى الهمزة في أَمِ الإنكار فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ هو الذي يجب أن يتولى وحده ويعتقد أنه المولى والسيد، فالفاء في قوله فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ جواب شرط مقدّر، كأنه قيل بعد إنكار كل ولى سواه: إن أرادوا وليا بحق، فالله هو الولي بالحق، لا ولىّ سواه وَهُوَ يُحْيِ أى: ومن شأن هذا الولي أنه يحيى الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو الحقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٠]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ حكاية قول رسول الله ﷺ للمؤمنين. أى:
ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين، فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى الله تعالى، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين ذلِكُمُ الحاكم بينكم هو اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في ردّ كيد أعداء الدين وَإِلَيْهِ
(١). قوله «لقسرهم جميعا على الإيمان» هذا عند المعتزلة: أما عند أهل السنة، فالارادة تستلزم وجود المراد، لكن لا تستلزم القسر والجبر للعباد، لأنها لا تنافى الاختيار، لما لهم في أعمالهم من الكسب. وإن كانت مخلوقة له تعالى. وأما التي لا تستلزم المراد وهي التي سماها مشيئة الحكمة، فهي التي بمعنى الأمر عند المعتزلة، ولا يثبتها أهل السنة، كما تقرر في التوحيد، فمعنى الآية: ولو شاء ربك إيمان الكل لآمن الكل، ولكن شاء إيمان البعض، فآمن من شاء إيمانه. (ع)
أرجع في كفاية شرهم. وقيل: وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تؤثروا على حكومته حكومته غيره، كقوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وقيل: وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم، فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله والظاهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: الله أعلم، كمعرفة الروح. قال الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي: فإن قلت: هل يجوز حمله على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة؟ قلت: لا، لأنّ الاجتهاد لا يجوز بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١١]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)
فاطِرُ السَّماواتِ قرئ بالرفع والجر، فالرفع على أنه أحد أخبار ذلكم. أو خبر مبتدإ محذوف، والجرّ على: فحكمه إلى الله فاطر السماوات، وذلِكُمُ إلى أُنِيبُ اعتراض بين الصفة والموصوف جَعَلَ لَكُمْ خلق لكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم من الناس أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أى: خلق من الأنعام أزواجا. ومعناه: وخلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا يَذْرَؤُكُمْ يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق: بثهم وكثرهم. والذر، والذرو، والذرء:
أخوات فِيهِ في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في يَذْرَؤُكُمْ يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين «١». فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير، ألا تراك تقول. للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم: كان أبلغ «٢» من قولك:
(١). قال محمود: «إن الضمير المتصل بيذرؤ عائد على الأنفس وعلى الأنعام مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين» قال أحمد: الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين، أحدهما: مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطبا أو غائبا. والثاني: مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب، فالأول لتغليب العقل. والثاني لتغليب الخطاب.
(٢). قوله «لا تخفر الذمم كان أبلغ» في الصحاح: أخفرته، إذا نقضت عهده وغدرت به. وفيه: «أيقع الغلام» أى: ارتفع: وهو يافع، ولا تقول: موقع. وقوله «كان أبلغ» لعل تقديره: فان قلت له ذلك كان أبلغ. (ع)
212
أنت لا تخفر. ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه، يريدون: إيفاعه وبلوغه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: «ألا وفيهم الطيب الطاهر «١» لداته» والقصد إلى طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كالله شيء، وبين قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد: وهو نفى المماثلة عن ذاته، ونحوه قوله عز وجل بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ فإنّ معناه:
بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها: لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئا آخر، حتى أنهم استعملوا فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل «٢» له، ولك أن تزعم أنّ كلمة التشبيه كرّرت للتأكيد، كما كرّرها من قال:
وصاليات ككما يؤثفين «٣»
(١). قال محمود: «تقول العرب: مثلك لا يبخل، فينفون البخل عن مثله، والمراد نفسه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم. ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته، تريد طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية: لم يكن فرق بين قولك ليس كالله شيء وبين قوله ليس كمثله شيء، إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها. ونحوه قوله تعالى بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ فان معناه بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط، لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون بها شيئا آخر، حتى أنهم يستعملونها فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل، وفيمن لا مثل له، ثم قال:
ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد كما كررت في قوله من قال:
وصاليات ككما يؤثفين
ومن قال:
فأصبحت مثل كعصف مأكول
انتهى كلامه. قال أحمد: هذا الوجه الثاني مردود على ما فيه من الإخلال بالمعنى، وذلك أن الذي يليق هنا تأكيد نفى المماثلة، والكاف على هذا الوجه إنما تؤكد المماثلة وفرق بين تأكيد المماثلة المنفية، وبين تأكيد نفى المماثلة، فان نفى المماثلة المهملة عن التأكيد أبلغ وآكد في المعنى من نفى المماثلة المقترنة بالتأكيد، إذ يلزم من نفى المماثلة الغير المؤكدة نفى كل مماثلة. ولا يلزم من نفى مماثلة محققة متأكدة بالغة نفى مماثلة دونها في التحقيق والتأكيد. وحيث وردت الكاف مؤكدة للمماثلة وردت في الإثبات فأكدته، فليس النظر في الآية بهذين النظرين مستقيما والله أعلم. ومما يرشد إلى صحة ما ذكرته أن للقائل أن يقول: ليس زيد شبيها بعمرو، لكن مشبها له، ولو عكس هذا لم يكن صحيحا، وما ذاك إلا أنه يلزم من نفى أدنى المشابهة نفى أعلاها، ولا يلزم من نفى أعلاها نفى أدناها، فمتى أكد التشبيه قصر عن المبالغة. والوجه الأول الذي ذكره هو الوجه في الآية عنده، وأتى بمطية الضعف في هذا الوجه الثاني بقوله: ولك أن تزعم، فافهم.
(٢). رواه ابن عبد الرحمن بن موهب حليف بنى زهرة عن أبيه: حدثني مخرمة بن نوفل بحديث سقيا عبد المطلب لكن ليس فيه الطيب الطاهر لداته ورواه الطبراني وأبو نعيم في الدلائل من حديث عروة بن مصرف عن مخرمة ابن نوفل عن أمه رقيقة بنت أبى صيفي بن هاشم، وكانت لدة عبد المطلب. قالت «تتابعت على قريش سنون- الحديث بطوله»
ورويناه في جزء أبى السكين. «تنبيه» وقع رقيقة بنت صيفي والصواب بنت أبى صيفي.
(٣).
لم يبق من آي بها يحلين... غير رماد وعظام كثفين
وغير ود جازل أو ودين... وصاليات ككما يؤثفين
لخطام المجاشعي. والآي: واحده آية، أى: علامة. ويحلين: مضارع مبنى للمجهول، من حليته تحلية: إذا وصفت حليته وصفته. يقول: لم يبق من آثار هذه الديار علامات فيها تذكر صفتها غير رماد وعظام متكاثفين متراكمين. والكشف- بالتحريك-: كسبب: المجتمع، فلعله سكنه للوزن. وروى: غير رماد وخطام كثفين.
والخطام: الزمام. ويروى بالمهملة، وهو ما تحطم وتكسر من الحطب اليابس. والكثف- كحمل-: وعاء الرعي فكثفين على حذف العاطف. وقيل بدل مما قبله. والأوجه روايته وخطام كثفين بالاضافة، لأجل موافقة القوافي أى: ورباط وعاءين، وكرر أداة الاستثناء للتوكيد. والود: أصله وتد، فقلبت التاء دالا وأدغمت في الأخرى عند تميم شذوذا. والجادل: المنتصب والغليظ، أى: لم يق غير وتد منتصب بها أو وتدين لا غير، حيث لم يشك إلا في ذلك. والصاليات صفة للاثافى. وقيل: صفة للنساء الموقدات للنار: وقيل: صفة للخيل الصاليات للحرب كالأثافى الصاليات للنار، لكنهما لا يناسبان وصف الدار بالخلو. والأثفية: حجر الكانون، وزنها: أفعولة في الأصل، وجمعها أثافى. وأثفيت للقدر: وضعت الأثافى لها. وثفيتها تثفية: وضعتها على الأثافى. وقوله:
يؤثفين مضارع مبنى للمجهول، جاء على الأصل مهموزا، كيؤكر من بالهمزة، وهذا يدل على أن الصاليات صفة للأحجار الملازمات للنار المحترقات بها، فلعله شبه النساء بالأثافى لدمامتهن وسوادهن، بكثرة الدخان وملازمتهن النار.
وعليه فالمعنى: ونساء صاليات كالأحجار تثفى وتوضع للقدر، فما موصولة واقعة على الأحجار لا مصدرية ولا كافة، وكرر كاف التشبيه للتوكيد، لكن الثانية اسم بمعنى مثل، لأن حرف الجر لا يدخل على مثله. ويمكن أنه كرر الحرف من غير إعادة المجرور شذوذا. ويروى بعد قوله وصاليات... الخ
لا يشتكين عملا ما أنقين... ما دام مخ في سلامى أو عين
وهو يناسب القول بأنها صفة للنساء أو الخيل على التشبيه السابق. والانقاء: كثرة النقي بالكسر وهو المخ. يقال:
أنقت الإبل إذا سمنت وكثر مخها، أى: لا يشتكين عملا مدة إنقائهن وسمنهن، وفسر ذلك بقوله: ما دام مخ... الخ والسلاميات: عظام الأصابع وهي والعين آخر ما يبقى فيه المخ. ويروى أيضا هكذا:
أهل عرفت الدار بالغريين... وصاليات ككما يؤثفين
والغريان: بناء ان طويلان، يقال: هما قبرا مالك وعقيل: نديمى جذيمة الأبرش، سميا بذلك لأن النعمان كان يغريهما يمن يريد قتله إذا خرج يوم بؤسه. والأشبه أن ذلك من تخليط الراوي، وأن الصاليات: الأحجار. وقوله «لا يشتكين... الخ» ليس من هذا الرجز، فلا ينبغي روايته معه، وهو الذي من صفة الخيل، أو أصل النساء لا الصاليات. ويجوز أن الرجز هكذا:
أهل عرفت الدار بالغريين... لم يبق من آي بها يحلين
وأن قوله «لا يشتكين... الخ» من موضع آخر من ذلك الرجز في صفة الخيل، كما رواه صاحب الكافي شاهدا على الأكفاء في القافية هكذا:
بنات وطاء على خد الليل... لا يشتكين عملا ما أنقين
لاختلاف حرفى الروى. والوطاء- بالضم والتشديد-: من الوطء على الأرض. وخد الليل: طريقه الذي لا يسلك إلا فيه. وقال بعضهم: إن هذا في صفة الخيل، وأنه من مشطور المنسرح الموقوف. وعلى أنه في صفة أجل، أى: فلك المطايا بنات نوق أو فحول، وطاء: جمع واطئ أو واطئة، على خد الليل: كناية عن قوتهن في السير، حتى كأنهن يغلبن الليل، فيصر عنه ويطأن على خده، فهن لا يبالين به. [.....]
213
ومن قال:
فأصبحت مثل كعصف مأكول «١»
(١).
بالأمس كانت في رخاء مأمول فأصبحت مثل كعصف مأكول
يروى لرؤية بدله:
ولعبت طير بهم أبابيل فصيروا مثل كعصف مأكول
يقول: بالأمس، أى: في الزمن الماضي القريب، كانت تلك الديار مثلا في رخاء، أى: خصب وسعة من الثروة والغنى، مأمول ذلك، أى: متمنى للناس، وكرر كلمة التشبيه للتوكيد، والعصف: ما على الحب وعلى ساق الزرع من التين والورق اليابس، مأكول: أى أصابه الأكال، وهو الدود. وأكلته الدواب ثم راثته. وأبابيل، بمعنى جماعات متفرقة، صفة طير، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه. وقيل: واحده أبول كعجول. وقيل: إبال كمفتاح. وقيل إبيل كمسكين. وقول رؤية «صيروا» بالتشديد والبناء للمجهول، ولعل هذا رجز غيره ذاك.
214

[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٢]

لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
وقرئ: ويقدّره. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فإذا علم أنّ الغنى خير للعبد أغناه، وإلا أفقره.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٣]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه، وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ومحل أَنْ أَقِيمُوا إما نصب بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه، وإما رفع على الاستئناف، كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. ونحوه قوله تعالى إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عظم عليهم وشق عليهم ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من إقامة دين الله والتوحيد يَجْتَبِي إِلَيْهِ يجتلب إليه ويجمع. والضمير للدين بالتوفيق والتسديد مَنْ يَشاءُ من ينفع فيهم توفيقه ويجرى عليهم لطفا.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٤]
وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
وَما تَفَرَّقُوا يعنى أهل الكتاب بعد أنبيائهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ أن علموا أنّ الفرقة ضلال وفساد، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي عدة التأخير إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ حين افترقوا لعظم ما اقترفوا وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ وهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله ﷺ لَفِي شَكٍّ من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان. وقيل: كان الناس أمّة واحدة مؤمنين بعد أن أهلك الله أهل الأرض أجمعين بالطوفان، فلما مات الاباء اختلف الأبناء فيما بينهم، وذلك حين بعث الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم. وإنما اختلفوا للبغي بينهم. وقيل: وما تفرّق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وإنّ الذين أورثوا الكتاب من من بعدهم هم المشركون: أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل.
وقرئ: ورّثوا، وورثوا.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٥]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)
فَلِذلِكَ فلأجل التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعبا فَادْعُ إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القديمة وَاسْتَقِمْ عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ المختلفة الباطلة بما أنزل الله من كتاب، أىّ كتاب صحّ أنّ الله أنزله، يعنى الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، كقوله تعالى وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلىّ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أى لا خصومة لأنّ الحق قد ظهر وصرتم محجوجين به فلا حاجة إلى المحاجة. ومعناه: لا إيراد حجة بيننا، لأنّ المتحاجين: يورد هذا حجته وهذا حجته اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم، وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق وقيام الحجة والإلزام. فإن قلت: كيف حوجزوا وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلت: المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة لا المقاتلة.

[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٦]

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦)
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ يخاصمون في دينه مِنْ بَعْدِ ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام، ليردّوهم إلى دين الجاهلية، كقوله تعالى وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم «١» وأولى بالحق. وقيل: من بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر وأظهر دين الإسلام داحِضَةٌ باطلة زالة.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٧ الى ١٨]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨)
أَنْزَلَ الْكِتابَ أى جنس الكتاب وَالْمِيزانَ والعدل والتسوية. ومعنى إنزال العدل، أنه أنزله في كتبه المنزلة. وقيل: الذي يوزن به. بالحق: ملتبسا بالحق، مقترنا به، بعيدا من الباطل أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة. أو بالواجب من التحليل والتحريم وغير ذلك السَّاعَةَ في تأويل البعث، فلذلك قيل قَرِيبٌ أو لعل مجيء الساعة قريب.
فإن قلت: كيف يوفق ذكر اقتراب الساعة مع إنزال الكتاب والميزان؟ قلت: لأنّ الساعة يوم الحساب ووضع الموازين للقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم، ويوفى لمن أوفى ويطفف لمن طفف.
المماراة: الملاجة «٢» لأنّ كل واحد منهما يمرى ما عند صاحبه لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ من الحق:
لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله، ولدلالة الكتاب المعجز على أنها آتية لا ريب فيها، ولشهادة العقول على أنه لا بدّ من دار الجزاء.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ١٩]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
لَطِيفٌ بِعِبادِهِ برّ بليغ البرّ بهم، قد توصل برّه إلى جميعهم، وتوصل من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه، وهم أحد من كلياته وجزئياته. فإن قلت: فما معنى قوله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
(١). قوله «ونحن خير منكم» لعله: «فنحن» كعبارة النسفي. (ع)
(٢). قوله «الملاجة» بالجيم: التمادي في الخصومة، ويمرى: أى يستخرج، كذا في الصحاح. (ع)
بعد توصل برّه إلى جميعهم؟ قلت: كلهم مبرورون لا يخلو أحد من برّه، إلا أنّ البرّ أصناف، وله أوصاف. والقسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا الحكمة والتدبير، فيطير لبعض العباد صنف من البر لم يطر مثله لآخر، ويصيب هذا حظ له وصف ليس ذلك الوصف لحظ صاحبه، فمن قسم له منهم ما لا يقسم للآخر فقد رزقه، وهو الذي أراد بقوله تعالى يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ كما يرزق أحد الأخوين ولدا دون الآخر، على أنه أصابه بنعمة أخرى لم يرزقها صاحب الولد وَهُوَ الْقَوِيُّ الباهر القدرة، الغالب على كل شيء الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يغلب.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٠]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)
سمى ما يعمله العامل مما يبغى به الفائدة والزكاء حرثا على المجاز. وفرق بين عملى العاملين:
بأن من عمل للآخرة وفق في عمله وضوعفت حسناته، ومن كان عمله للدنيا أعطى شيئا منها لا ما بريده ويبتغيه. وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه وماله نصيب قط في الآخرة، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب، على أن رزقه المقسوم له واصل إليه لا محالة، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢١]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١)
معنى الهمزة في أَمْ التقرير والتقريع. وشركاؤهم: شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا، لأنهم لا يعلمون غيرها وهو الدين الذي شرعت لهم الشياطين، وتعالى الله عن الإذن فيه والأمر به وقيل شركاؤهم: أوثانهم. وإنما أضيفت إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة. وتارة إلى الله، ولما كانت سببا لضلالتهم وافتتانهم: جعلت شارعة لدين الكفر، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ. وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أى القضاء السابق بتأجيل الجزاء. أى: ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أى بين الكافرين والمؤمنين. أو بين المشركين وشركائهم. وقرأ مسلم بن جندب: وأنّ الظالمين، بالفتح عطفا له على كلمة الفصل، يعنى: ولولا كلمة الفصل وتقدير تعذيب الظالمين في الآخرة، لقضى بينهم في الدنيا.

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]

تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
تَرَى الظَّالِمِينَ في الآخرة مُشْفِقِينَ خائفين خوفا شديدا أرق قلوبهم مِمَّا كَسَبُوا من السيئات وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ يريد: ووباله واقع بهم وواصل إليهم لا بدّ لهم منه، أشفقوا أو لم يشفقوا. كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها عِنْدَ رَبِّهِمْ منصوب بالظرف لا بيشاءون قرئ: يبشر، من بشره. ويبشر من أبشره. ويبشر، من بشره. والأصل: ذلك الثواب الذي يبشر الله به عباده، فحذف الجار، كقوله تعالى وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ ثم حذف الراجع إلى الموصول، كقوله تعالى أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. روى أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟
فنزلت الآية إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى يجوز أن يكون استثناء متصلا، أى: لا أسألكم أجرا إلا هذا، وهو أن تودوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة، لأنّ قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعا، أى: لا أسألكم أجرا قط ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. فإن قلت: هلا قيل: إلا مودّة القربى: أو إلا المودة للقربى. وما معنى قوله إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى؟ قلت: جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة. ولى فيهم هوى وحب شديد، تريد: أحبهم وهم مكان حبى ومحله، وليست فِي بصلة للمودّة، كاللام إذا قلت: إلا المودّة للقربى، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس. وتقديره: إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة «١» فيها. والقربى: مصدر كالزلفى والبشرى، بمعنى: قرابة. والمراد في أهل القربى. وروى أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا
(١). قال محمود: «إن قلت هلا قيل: إلا مودة القربى. أو: إلا المودة للقربى. وأجاب بأنهم جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان هوى وحب شديد، وليس فِي صلة للمودة، كاللام إذا قلت:
إلا المودة للقربى، وإنما هي متعلقة بمحذوف تقديره: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها»
قال أحمد: وهذا المعنى هو الذي قصد بقوله في الآية التي تقدمت: إن قوله يذرؤكم فيه، إنما جاء عوضا من قوله: يذرؤكم به، فافهمه.
219
مودّتهم؟ قال: «علىّ وفاطمة وابناهما «١» » ويدل عليه ما روى عن على رضى الله عنه: شكوت إلى رسول الله ﷺ حسد الناس لي. فقال «أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا» «٢» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة» «٣» وروى. أنّ الأنصار قالوا: فعلنا وفعلنا، كأنهم افتخروا، فقال عباس أو ابن عباس رضى الله عنهما: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم في مجالسهم فقال: «يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بى» ؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: «ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بى» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «أفلا تجيبونني» «٤» ؟
قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: «ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك» قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله. فنزلت الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات على حب آل محمد مات شهيدا «٥»، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة، ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله
(١). أخرجه الطبراني وابن أبى حاتم والحاكم في مناقب الشافعي من رواية حسين الأشقر عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وحسين ضعيف ساقط. وقد عارضه ما هو أولى منه. ففي البخاري من رواية طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية. فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم؟
فقال ابن عباس: عجلت. إن النبي ﷺ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة- الحديث» قلت وأخرج سعيد بن منصور من طريق الشعبي قال «أكثروا علينا في هذه الآية. فكتبنا إلى ابن عباس فكتب- فذكر نحوه، وابن طاوس أتم منه.
(٢). أخرجه الكريمي عن ابن عائشة بسنده عن على رضى الله عنه ورواه الطبراني من حديث أبى رافع «أن النبي ﷺ قال لعلى «إن أول أربعة يدخلون الجنة- فذكره»
وسنده واه.
(٣). أخرجه الثعلبي من حديث على رضى الله عنه. وفيه عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه. وهو كذاب
(٤). أخرجه الطبري وابن أبى حاتم وابن مردويه والطبراني في الأوسط، كلهم من حديث ابن عباس. وفيه يزيد بن زياد وهو ضعيف
(٥). أخرجه الثعلبي: أخبرنا عبد الله بن محمد بن على البلخي حدثنا يعقوب بن يوسف بن إسحاق حدثنا محمد بن أسلم حدثنا يعلى بن عبيد عن إسماعيل بن قيس عن جرير- بطوله. وآثار الوضع عليه لائحة. ومحمد ومن فوقه أثبات. والآفة فيه ما بين الثعلبي ومحمد.
220
قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب «١» بين عينيه: آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة» وقيل:
لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله ﷺ وبينهم قربى، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت. والمعنى: إلا أن تودوني في القربى، أى: في حق القربى ومن أجلها، كما تقول: الحب في الله والبغض في الله، بمعنى: في حقه ومن أجله، يعنى: أنكم قومي وأحق من أجابنى وأطاعنى، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا علىّ. وقيل:
أتت الأنصار رسول الله ﷺ بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله، قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك «٢»، فنزلت وردّه. وقيل الْقُرْبى: التقرب إلى الله تعالى، أى: إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح. وقرئ: إلا مودّة في القربى مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً عن السدّى أنها المودّة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه ومودّته فيهم. والظاهر: العموم في أى حسنة كانت، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى:
دل ذلك على أنها تناولت المودّة تناولا أوّليا، كأنّ سائر الحسنات لها توابع. وقرئ: يزد، أى: يزد الله. وزيادة حسنها من جهة الله مضاعفتها، كقوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وقرئ: حسنى، وهي مصدر كالبشرى، الشكور في صفة الله: مجاز للاعتداد بالطاعة، وتوفية ثوابها، والتفضل على المثاب.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٤]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤)
أَمْ منقطعة. ومعنى الهمزة فيه التوبيخ «٣»، كأنه قيل: أيتما لكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء، ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفترى عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم، وهذا الأسلوب مؤدّاه استبعاد الافتراء من مثله،
(١). قوله «مكتوب بين عينيه» لعله: مكتوبا. (ع)
(٢). ذكره الثعلبي والواحدي في الأسباب عن ابن عباس بغير سند. ويشبه أن يكون عن الكلبي عن أبى صالح عنه. وروى الطبراني من طريق عثمان بن القطان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه عنه.
(٣). قوله «ومعنى الهمزة فيه التوبيخ» لعله: فيها. (ع)
وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا: أن يخوّن بغض الأمناء فيقول لعل الله خذلنى، لعل الله أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب.
وإنما يريد استبعاد أن يخوّن مثله، والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم، ثم قال: ومن عادة الله أن يمحو الباطل ويثبت الحق بِكَلِماتِهِ بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ يعنى: لو كان مفتريا كما تزعمون لكشف الله افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه. ويجوز أن يكون عدة لرسول الله ﷺ بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت «١» والتكذيب، ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مردّ له من نصرتك عليهم، إنّ الله عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك. وعن قتادة يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ: ينسك القرآن ويقطع عنك الوحى، يعنى: لو افترى على الله الكذب لفعل به ذلك، وقيل يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ: يربط عليه بالصبر، حتى لا يشق عليك أذاهم. فإن قلت: إن كان قوله وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ كلاما مبتدأ غير معطوف على يختم، فما بال الواو ساقطة في الخط؟ قلت: كما سقطت في قوله تعالى وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ وقوله تعالى سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ على أنها مثبتة في بعض المصاحف.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٥]
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥)
يقال: قبلت منه الشيء، وقبلته عنه. فمعنى قبلته منه: أخذته منه وجعلته مبدأ قبولى ومنشأه.
ومعنى: قبلته عنه: عزلته عنه وأبنته عنه. والتوبة: أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعاود، لأنّ المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب. وإن كان فيه لعبد حق: لم يكن بد من التفصي على طريقه، وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله ﷺ وقال: اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له على رضى الله عنه: يا هذا، إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة. فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، وردّ المظالم، وإذا به النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ عن الكبائر إذا تيب عنها، وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ. قرئ بالتاء والياء: أى: يعلمه فيثيب على حسناته، ويعاقب على سيئاته.
(١). قوله «من البهت» أى: اتهام الإنسان بما ليس فيه، (ع)

[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٦]

وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا أى يستجيب لهم، فحذف اللام كما حذف في قوله تعالى وَإِذا كالُوهُمْ أى يثيبهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب تفضلا، أو إذا دعوه استجاب دعاءهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم. وقيل: الاستجابة: فعلهم، أى يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها وَيَزِيدُهُمْ هو مِنْ فَضْلِهِ على ثوابهم. وعن سعيد بن جبير: هذا من فعلهم: يجيبونه إذا دعاهم. وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تجيبوه، ثم قرأ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ، وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٧]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)
لَبَغَوْا من البغي وهو الظلم، أى: لبغى هذا على ذاك، وذاك على هذا، لأنّ الغنى مبطرة مأشرة «١»، وكفى بحال قارون عبرة. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:
«أخوف ما أخاف على أمّتى زهرة الدنيا وكثرتها» «٢» ولبعض العرب:
وقد جعل الوسمىّ ينبت بيننا وبين بنى رومان نبعا وشوحطا «٣»
يعنى: أنهم أحيوا فحدّثوا أنفسهم بالبغي والتفانن. أو من البغي وهو البذخ والكبر، أى: لتكبروا في الأرض، وفعلوا ما يتبع الكبر من الغلو فيها والفساد. وقيل: نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى. قال خباب ابن الأرت: فينا نزلت، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع فتمنيناها بِقَدَرٍ بتقدير. يقال قدره قدرا
(١). قوله «مبطرة مأشرة» في الصحاح: الأشر: البطر. (ع) [.....]
(٢). أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة قال. ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. بهذا- وزاد «وكان يقال خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك» وفي الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدري. بلفظ «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا»
(٣). يروى: وقد جعل الوسمي أول مطر السنة، لأنه يسم الأرض بالنبات. والنبع: شجر تتخذ منه القسي.
والشوحط مثله، أى: قد يشرع المطر في إنبات الأشجار بيننا وبينهم. والمعنى: أنهم يطلبون الاقامة حتى تعظم الأشجار بينهم لأنهم أغنياء لا يكثرون الارتحال كغيرهم. أو المعنى: أنهم كانوا إذا جاء الربيع وبلغت تلك الأشجار يتخذون منها الرماح والقسي، ويتحاربون. فالكلام كناية عن انتشاب الحرب بين القبيلتين، وهذا هو الذي يعطيه السياق، وذكر البينية، وتخصيص ذلك الشجر.
وقدرا. خَبِيرٌ بَصِيرٌ يعرف ما يؤول إليه أحوالهم، فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم وأقرب إلى جمع شملهم، فيفقر ويغنى، ويمنع ويعطى، ويقبض ويبسط كما توجبه الحكمة الربانية. ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم لهلكوا. فإن قلت: قد نرى الناس يبغى بعضهم على بعض، ومنهم مبسوط لهم، ومنهم مقبوض عنهم، فإن كان المبسوط لهم يبغون، فلم بسط لهم: وإن كان المقبوض عنهم يبغون فقد يكون البغي بدون البسط، فلم شرطه؟ قلت: لا شبهة في أنّ البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب، وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه، فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه «١» الآن.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٨]
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)
قرئ: قنطوا بفتح النون وكسرها وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أى: بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب. وعن عمر رضى الله عنه أنه قيل له: اشتدّ القحط وقنط الناس «٢» فقال: مطروا إذا: أراد هذه الآية. ويجوز أن يريد رحمته في كل شيء، كأنه قال: ينزل الرحمة التي هي الغيث، وينشر غيرها من رحمته الواسعة الْوَلِيُّ الذي يتولى عباده بإحسانه الْحَمِيدُ المحمود على ذلك يحمده أهل طاعته.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٢٩]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩)
وَما بَثَّ يجوز أن يكون مرفوعا ومجرورا يحمل على المضاف إليه أو المضاف. فإن قلت:
لم جاز فِيهِما مِنْ دابَّةٍ والدواب في الأرض وحدها؟ قلت: يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبسا ببعضه، كما يقال: بنو تميم فيهم شاعر مجيد أو شجاع بطل، وإنما هو في فخذ «٣» من أفخاذهم أو فصيلة من فصائلهم، وبنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله نويس
(١). قوله «عكس ما عليه الآن» لعله: ما هو عليه. (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي من طريق قتادة قال «ذكر لنا» فذكره بتمامه. ورواه باختصار عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال «ذكر لنا أن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين. قحط المطر وقنط الناس. فقال:
مطروا إذن»
.
(٣). قوله «فخذ» العشائر أقلها الفخذ، وفوقه البطن، ثم العمارة، ثم الفصيلة، ثم القبيلة، ثم الشعب. فهو أكثرها. أفاده الصحاح. (ع)
منهم. ومنه قوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وإنما يخرج من الملح «١». ويجوز أن يكون للملائكة عليهم السلام مشى مع الطيران. فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسى. ولا يبعد أن يخلق في السماوات حيوانا يمشى فيها مشى الأناسى على الأرض، سبحان الذي خلق ما نعلم وما لا نعلم من أصناف الخلق. إِذا يدخل على المضارع كما يدخل على الماضي. قال الله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ومنه إِذا يَشاءُ وقال الشاعر:
وإذا ما أشاء أبعث منها آخر اللّيل ناشطا مذعورا»
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
في مصاحف أهل العراق فَبِما كَسَبَتْ بإثبات الفاء على تضمين «ما» معنى الشرط. وفي مصاحف أهل المدينة «بما كسبت» بغير فاء، على أنّ «ما» مبتدأة، وبما كسبت: خبرها من غير تضمين معنى الشرط. والآية مخصوصة بالمجرمين، «٣» ولا يمتنع أن يستوفى الله بعض عقاب المجرم ويعفو
(١). قال محمود: «فان قلت: لم جاز فيهما من دابة والدواب في الأرض وحدها؟ وأجاب بأنه يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان لبعضه، كقوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وإنما يخرج من الملح...
الخ»
قال أحمد: إطلاق الدواب على الأناسى بعيد من عرف اللغة، فكيف في إطلاقه على الملائكة. والصواب- والله أعلم-: هو الوجه الأول، وقد جاء مفسرا في غير ما آية، كقوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ثم قال وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فخص هذا الأمر بالأرض، والله أعلم.
(٢). إذا: ظرف للمستقبل، فإذا دخل عليه الماضي كان مستقبلا، أو المضارع كان نصا في الاستقبال، وجرد من الناقة أمرا آخر لشدة سيرها، فلذلك قال: منها. وأصل المعنى: أبعثها في آخر الليل كالناشط، وهو الثور الوحشي يخرج من أرض إلى أخرى، والمذعور: الخائف وهو كناية عن سريع السير جدا.
(٣). قال محمود: «الآية مخصوصة بالمجرمين... الخ» قال أحمد: هذه الآية تنكسر عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها، فإنهم حملوا قوله تعالى وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ على التائب، وهو غير ممكن لهم هاهنا، فانه قد أثبت التبعيض في العفو، ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقرونا بالتوبة، فانه يلزم تبعيض التوبة أيضا. وهي عندهم لا تتبعض. وكذلك نقل الامام عن أبى هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم. فلا محمل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه، وهو مرد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة.
وقول الزمخشري إن الآلام التي تصيب الأطفال والمجانين لها أعواض، إنما يريد به وجوب العوض على الله تعالى على سياق معتقده، وقد أخطأ على الأصل والفرع، لأن المعتزلة وإن أخطأت في إيجاب العوض، فلم تقل بإيجابه في الأطفال والمجانين. ألا ترى أن القاضي أبا بكر ألزمهم قبح إيلام البهائم والأطفال والمجانين فقال: لا أعواض لها، وليس مترتبا على استحقاق سابق فيحسن، فإنما يتم إلزامه بموافقتهم له على أن لا أعواض لها.
عن بعض. فأمّا من لا جرم له كالأنبياء والأطفال والمجانين، فهؤلاء إذا أصابهم شيء من ألم أو غيره فللعوض الموفى والمصلحة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولما يعفو الله عنه أكثر» «١» وعن بعضهم: من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه، وأنّ ما عفا عنه مولاه أكثر: كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وعن آخر: العبد ملازم للجنايات في كل أوان، وجناياته في طاعاته أكثر من جناياته في معاصيه، لأنّ جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه، والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أوّل خطوة: وعن على رضى الله عنه وقد رفعه: من «عفى عنه في الدنيا عفى عنه في الآخرة «٢» ومن عوقب في الدنيا لم تثن عليه العقوبة في الآخرة» وعنه رضى الله عنه: هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن بِمُعْجِزِينَ بفائتين ما قضى عليكم من المصائب مِنْ وَلِيٍّ من متول بالرحمة.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤)
الْجَوارِ: السفن. وقرئ: الجوار كَالْأَعْلامِ كالجبال. قالت الخنساء:
كأنّه علم في رأسه نار «٣»
(١). أخرجه عبد الرزاق وابن أبى حاتم من طريق إسماعيل بن سليم عن الحسن والطبري والبيهقي في أواخر الشعب. عن قتادة كلاهما مرسل. ووصله عبد الرزاق من رواية الصلت بن بهرام عن أبى وائل عن البراء رضى الله عنه
(٢). أخرجه ابن ماجة من رواية أبى جحيفة عن على رفعه. بلفظ: من أصاب ذنبا في الدنيا فعوقب به، فالله أعدل من أن يثنى على عبد عقوبته. ومن أذنب ذنبا فستر الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء عفا عنه» ورواه أحمد والبزار والحاكم والدارقطني والبيهقي في الشعب في السابع والأربعين. وقال إسحاق في مسنده:
أخبرنا عيسى بن يونس عن إسماعيل بن عبد الملك بن أبى الصفراء عن يونس بن حبان عن على نحوه وفيه انقطاع
(٣).
وإن صخرا لمولانا وسيدنا وإن صخرا إذا يشتو لنحار
أغر أبلج تأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
للخنساء ترثى أخاها. ويشتو: أى يدخل في الشتاء، وهو حكاية حال ماضية. ونحار: كثير نحر الإبل للضيفان كناية عن كثرة كرمه. والأغر: الأبيض. والأبلج: الطلق الوجه المعروف. والهداة: جمع هاد: من يتقدم غيره ليدله. والعلم: الجبل: وفي رأسه نار: صفة علم جاءت لترشيح التشبيه وتقريره، والمبالغة في توضيح المشبه وتشهيره، وعادة دليل الركب: الاهتداء إلى الطريق بالجبال الشامخة، فإذا كان فوقها نار: علم أن أهلها كرام.
ويروى:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
وقرئ: الرياح فيظللن بفتح اللام وكسرها، من ظل يظل ويظل، نحو: ضل يضل ويضل رَواكِدَ ثوابت لا تجرى عَلى ظَهْرِهِ على ظهر البحر «١» لِكُلِّ صَبَّارٍ على بلاء الله شَكُورٍ لنعمائه، وهما صفتا المؤمن المخلص، فجعلهما كناية عنه، وهو الذي وكل همته بالنظر في آيات الله، فهو يستملى منها العبر يُوبِقْهُنَّ يهلكهن. والمعنى: أنه إن يشأ يبتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين: إما أن يسكن الريح فيركد الجواري على متن البحر ويمنعهن من الجري، وإما أن يرسل الريح عاصفة فيهلكهن إغراقا بسبب ما كسبوا من الذنوب وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ منها، فإن قلت: علام عطف يوبقهن؟ قلت: على يسكن، لأنّ المعنى: إن يشأ يسكن الريح فيركدن. أو يعصفها فيغرقن بعصفها. فإن قلت: فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه؟ قلت: معناه: أو إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم. فإن قلت: فمن قرأ وَيَعْفُ؟ قلت: قد استأنف الكلام.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٥]
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
فإن قلت: فما وجوه القراءات الثلاث في وَيَعْلَمَ؟ قلت: أما الجزم فعلى ظاهر العطف وأما الرفع فعلى الاستئناف. وأما النصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره: لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن، منه قوله تعالى وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وقوله تعالى وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وأما قول الزجاج: النصب على إضمار أن، لأنّ قبلها جزاء، تقول: ما تصنع أصنع مثله وأكرمك.
وإن شئت وأكرمك، على: وأنا أكرمك. وإن شئت وأكرمك جزما، ففيه نظر لما أورده سيبويه في كتابه. قال: واعلم أنّ النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتنى آتك وأعطيك:
ضعيف، وهو نحو من قوله:
وألحق بالحجاز فاستريحا «٢»
فهذا يجوز، وليس بحدّ الكلام ولا وجهه، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا، لأنه ليس بواجب
(١). قال محمود: «معناه ثوابت لا تجرى على ظهر البحر» قال أحمد: وهم يقولون: إن الريح لم ترد في القرآن إلا عذابا، بخلاف الرياح. وهذه الآية تخرم الإطلاق، فان الريح المذكورة هنا نعمة ورحمة. إذ بواسطتها يسير الله السفن في البحر حتى لو سكنت لركدت السفن، ولا ينكر أن الغالب من ورودها مفردة ما ذكروه. وأما اطراده فلا. وما ورد في الحديث: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، فلأجل الغالب في الإطلاق، والله أعلم.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٥٥٧ فراجعه إن شئت اه مصححه.
أنه يفعل. إلا أن يكون من الأوّل فعل، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه: أجازوا فيه هذا على ضعفه اه. ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحدّ الكلام ولا وجهه، ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه، وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة. فإن قلت: فكيف يصح المعنى على جزم وَيَعْلَمَ؟ قلت: كأنه قال: أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور: هلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين مِنْ مَحِيصٍ من محيد عن عقابه.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٦]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)
ما الأولى ضمنت معنى الشرط، فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية. عن على رضى الله عنه: اجتمع لأبى بكر رضى الله عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله والخير، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون، فنزلت.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٧]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ عطف على الذين آمنوا، وكذلك ما بعده. ومعنى كَبائِرَ الْإِثْمِ الكبائر من هذا الجنس. وقرئ: كبير الإثم. وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنه: كبير الإثم هو الشرك هُمْ يَغْفِرُونَ أى هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب، لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول حلوم الناس، والمجيء بهم وإيقاعه مبتدأ، وإسناد يَغْفِرُونَ إليه لهذه الفائدة، ومثله:
هُمْ يَنْتَصِرُونَ.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٨]
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ نزلت في الأنصار: دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته، فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه وَأَقامُوا الصَّلاةَ وأتموا الصلوات الخمس. وكانوا قبل الإسلام وقبل مقدم رسول الله ﷺ المدينة: إذا كان بهم أمر اجتمعوا وتشاوروا، فأثنى الله عليهم، أى: لا ينفردون برأى حتى يجتمعوا عليه. وعن الحسن:
ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم» «١» والشورى: مصدر كالفتيا، بمعنى التشاور. ومعنى
(١). أخرجه ابن أبى شيبة والبخاري في الأدب وعبد الله بن أحمد في زيادات الزهد. وقد ذكره المصنف مرفوعا في آل عمران. [.....]
قوله وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أى ذو شورى، وكذلك قولهم: ترك رسول الله ﷺ وعمر بن الخطاب رضى الله عنه الخلافة شورى.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)
هو أن يقتصروا في الانتصار على ما جعله الله لهم ولا يعتدوا. وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق. فإن قلت: أهم محمودون على الانتصار؟ قلت: نعم، لأنّ من أخذ حقه غير متعد حدّ الله وما أمر به فلم يسرف في القتل إن كان ولى دم أورد على سفيه، محاماة على عرضه وردعا له، فهو مطيع.
وكل مطيع محمود.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٠]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)
كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة، لأنها تسوء من تنزل به. قال الله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ: يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا. والمعنى: أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة، فإذا قال أخزاك الله قال: أخزاك الله فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء، كما قال تعالى فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم. وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة «١» والاعتداء خصوصا في حال الحرد «٢» والتهاب الحمية فربما كان المجازى من الظالمين وهو لا يشعر. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
«إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على الله أجر فليقم. قال: فيقوم خلق، فيقال لهم:
ما أجركم على الله؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عمن ظلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة بإذن الله «٣»
.
(١). قال محمود: «فيه دلالة على أن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه... الخ» قال أحمد: معنى حسن يجاب به عن قول القائل: لم ذكر هذا عقب العفو مع أن الانتصار ليس بظلم، فيشفى غليل السائل ويحصل منه على كل طائل.
ومن هذا النمط والله الموفق: قوله تعالى: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ.
(٢). قوله «الحرد» في الصحاح: «الحرد» بالتحريك: الغضب. (ع)
(٣). أخرجه العقيلي والطبراني في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب في السابع والخمسين كلهم من طريق الفضل بن يسار عن غالب العطار عن الحسن بن أنس رفعه. قال «إذا وقف العبد للحساب ينادى مناد: من كان أجر» على الله فليدخل الجنة- الحديث» وله طريق أخرى عند الثعلبي من رواية زهير بن عباد عن ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس. وأخرى عن البيهقي من رواية الثوري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أتم منه- قال البيهقي: المتن غريب- والاسناد ضعيف.

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤١ الى ٤٢]

وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢)
بَعْدَ ظُلْمِهِ من إضافة المصدر إلى المفعول، وتفسره قراءة من قرأ: بعد ما ظلم فَأُولئِكَ إشارة إلى معنى مِنْ دون لفظه ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ للمعاقب ولا للعاتب والعائب إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبتدئونهم بالظلم وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٣]
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
وَلَمَنْ صَبَرَ على الظلم والأذى وَغَفَرَ ولم ينتصر وفوّض أمره إلى الله إِنَّ ذلِكَ منه لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وحذف الراجع لأنه مفهوم، كما حذف من قولهم: السمن منوان بدرهم. ويحكى أن رجلا سب رجلا في مجلس الحسن رحمه الله، فكان المسبوب يكظم، ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية، فقال الحسن: عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون.
وقالوا: العفو مندوب إليه، ثم الأمر قد ينعكس في بعض الأحوال، فيرجع ترك العفو مندوبا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي، وقطع مادة الأذى. وعن النبي ﷺ ما يدل عليه: وهو أن زينب أسمعت عائشة بحضرته، وكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة: «دونك فانتصرى» «١».
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٤]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤)
(١). أخرجه النسائي من رواية خالد بن مسلمة عن عروة عن عائشة قالت: ما علمت حتى دخلت على زينب بغير إذن وهي بمعنى [بياض بالأصل.] فذكر نحوه. ولم يذكر فيه النهى. ولفظه ودخل على رسول الله ﷺ وعندنا زينب بنت جحش- إلى أن قال: فأقبلت زينب هجم لعائشة فنهاها رسول الله ﷺ فأبت أن تنتهي. قال: لعائشة سبيها فسبتها فغلبتها».
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذل الله «١» فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)
خاشِعِينَ متضائلين متقاصرين مما يلحقهم مِنَ الذُّلِّ وقد يعلق من الذل بينظرون، ويوقف على خاشعين يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أى يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفى بمسارقة، كما ترى المصبور ينظر إلى السيف «٢». وهكذا نظر الناظر إلى المكاره:
لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها، كما يفعل في نظره إلى المحاب. وقيل: يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم. وذلك نظر من طرف خفى. وفيه تعسف يَوْمَ الْقِيامَةِ
إما أن يتعلق بخسروا، ويكون قوله المؤمنين واقعا في الدنيا، وإما أن يتعلق بقال، أى: يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٧]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧)
مِنَ اللَّهِ من صلة لا مردّ، أى: لا يرده الله بعد ما حكم به. أو من صلة يأتى، أى:
من قبل أن يأتى من الله يوم لا يقدر أحد على ردّه. والنكير: الإنكار، أى: ما لكم من مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيأ مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم.
[سورة الشورى (٤٢) : آية ٤٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
(١). قوله «ومن يخذل الله. فما له من ولى» تأويل على مذهب المعتزلة: أنه تعالى لا يخلق الشر. وعند أهل السنة: يخلقه كالخير، فالاضلال خلق الضلال. ومن بعده: أى من بعد إضلاله. (ع)
(٢). قوله «كما ترى المصبور ينظر إلى السيف» أى: المحبوس للقتل. أفاده الصحاح. (ع)
أراد بالإنسان الجمع لا الواحد، لقوله وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ولم يرد إلا المجرمين، لأن إصابة السيئة بما قدّمت أيديهم إنما تستقيم فيهم. والرحمة: النعمة من الصحة والغنى والأمن. والسيئة:
البلاء من المرض والفقر والمخاوف. والكفور: البليغ الكفران، ولم يقل: فإنه كفور، ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم «١»، كما قال إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها «٢».
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها: أنبع ذلك أنّ له الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد، ويهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته، فيخص بعضا بالإناث وبعضا بالذكور، وبعضا بالصنفين جميعا، ويعقم آخرين فلا يهب لهم ولدا قط. فإن قلت: لم قدّم الإناث أوّلا على الذكور مع تقدّمهم عليهنّ، ثم رجع فقدّمهم، ولم عرف الذكور بعد ما نكر الإناث؟
قلت. لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد، فقدم الإناث لأنّ سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم، والأهم واجب التقديم، وليلى الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء، وأخر الذكور فلما أخرهم لذلك تدارك تأخيرهم، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم، لأن التعريف تنويه وتشهير، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، وعرّف أن تقديمهنّ لم يكن لتقدّمهنّ، ولكن لمقتض آخر فقال ذُكْراناً وَإِناثاً كما قال إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وقيل: نزلت في الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، حيث وهب لشعيب ولوط إناثا، ولإبراهيم ذكورا، ولمحمد ذكورا وإناثا، وجعل يحيى وعيسى عقيمين إِنَّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد قَدِيرٌ على تكوين ما يصلحهم.
(١). قال محمود: «لم يقل: فانه كفور، ليسجل على هذا الجنس أنه موسوم بكفران النعم... الخ» قال أحمد:
وقد أغفل هذه النكتة بعينها في الآية التي قبل هذه، وهي قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ فوضع الظالمين موضع الضمير الذي كان من حقه أن يعود على اسم إن، فيقال: ألا إنهم في عذاب مقيم، فأتى هذا الظاهر تسجيلا عليهم بلسان ظلمهم
(٢). قوله «وينسى النعم ويغمطها» يبطرها ويحقرها. أفاده الصحاح. (ع)

[سورة الشورى (٤٢) : آية ٥١]

وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)
وَما كانَ لِبَشَرٍ وما صح لأحد من البشر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا على ثلاثة أوجه: إما على طريق الوحى وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام، كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد: أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره.
قال عبيد بن الأبرص:
وأوحى إلىّ الله أن قد تأمّروا بإبل أبى أوفى فقمت على رجل «١»
أى: ألهمنى وقذف في قلبي. وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام، من غير أن يبصر السامع من يكلمه، لأنه في ذاته غير مرئى «٢». وقوله مِنْ وَراءِ حِجابٍ
مثل أى، كما يكلم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء الحجاب، فيسمع صوته ولا يرى شخصه، وذلك كما كلم موسى ويكلم الملائكة. وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيوحى الملك إليه كما كلم الأنبياء غير موسى. وقيل: وحيا كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملائكة أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أى نبيا كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم. ووحيا، وأن يرسل: مصدران واقعان موقع الحال، لأنّ: أن يرسل، في معنى إرسالا. ومن وراء حجاب: ظرف واقع موقع الحال أيضا، كقوله تعالى وَعَلى جُنُوبِهِمْ والتقدير: وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا، أو مسمعا من وراء حجاب، أو مرسلا. ويجوز أن يكون: وحيا، موضوعا موضع: كلاما، لأنّ الوحى كلام خفى في سرعة، كما تقول: لا أكلمه إلا جهرا وإلا خفانا، لأنّ الجهر والخفات ضربان من الكلام، وكذلك إرسالا: جعل الكلام على لسان الرسول بمنزلة الكلام بغير واسطة. تقول: قلت لفلان كذا، وإنما قاله وكيلك أو رسولك. وقوله أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ معناه: أو إسماعا من وراء حجاب، ومن جعل وَحْياً في معنى: أن يوحى، وعطف يرسل عليه، على معنى وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أى: إلا بأن يوحى. أو بأن يرسل،
(١). أى ألهمنى الله وألقى في قلبي: أنهم تأمروا. وأن مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير القوم أو الحال والشأن. واختار أبو حيان أنها لا اسم لها إذا خففت، لأنها مهملة. وإن ضمن «أوحى» معنى: قال، فان تفسيرية، أى، قد تآمروا بوزن تفاعلوا، أى: تشاوروا في الأمر، أو أجمعوا أمرهم. ومنه يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ بابل أبى أو في ليغتصبوها، فقمت في طلبهم لأردها على رجل، أى: لم أصبر حتى أركب. أو على رجل واحدة، أى: بسرعة، فلا أضع رجلي معا في الأرض.
(٢). قوله «لأنه في ذاته غير مرئى» أى: لا تجوز رؤيته، وهذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فتجوز كما تقرر في محله. (ع)
فعليه أن يقدر قوله أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ تقديرا يطابقهما عليه، نحو: أو أن يسمع «١» من وراء حجاب. وقرئ: أو يرسل رسولا فيوحى بالرفع، على: أو هو يرسل. أو بمعنى مرسلا عطفا على وحيا في معنى موحيا. وروى أنّ اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك، فقال:
لم ينظر موسى إلى الله «٢»، فنزلت. وعن عائشة رضى الله عنها: من زعم أنّ محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية «٣»، ثم قالت: أو لم تسمعوا ربكم يقول: فتلت هذه الآية. إِنَّهُ عَلِيٌّ عن صفات المخلوقين حَكِيمٌ يجرى أفعاله على موجب الحكمة، فيكلم تارة بواسطة، وأخرى بغير واسطة: إما إلهاما، وإما خطابا.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
رُوحاً مِنْ أَمْرِنا يريد: ما أوحى إليه، لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيى الجسد بالروح. فإن قلت: قد علم أن رسول الله «٤» صلى الله عليه وسلم: ما كان يدرى ما القرآن قبل
(١). قوله «أو أن يسمع من وراء حجاب» لعله: أو بأن. (ع)
(٢). لم أجده.
(٣). متفق عليه، وقد تقدم طرف منه في الأنعام.
(٤). قال محمود: «فان قلت: قد علم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يدرى الكتاب قبل الوحى... الخ» قال أحمد: لما كان معتقد الزمخشري أن الايمان اسم التصديق مضافا إليه كثير من الطاعات فعلا وتركا حتى لا يتناول الموحد العاصي ولو بكبيرة واحدة اسم الايمان ولا ياله وعد المؤمنين، وتفطن لإمكان الاستدلال على صحة معتقده بهذه الآية: عدها فرصة لينتهزها وغنيمة، ليحرزها، وأبعد الظن بايراده مذهب أهل السنة على صورة السؤال ليجيب عنه بمقتضى معتقده، فكأنه يقول: لو كان الايمان وهو مجرد التوحيد والتصديق كما نقول أهل السنة، للزم أن ينفى عن النبي عليه الصلاة والسلام قبل المبعث بهذه الآية كونه مصدقا، ولما كان التصديق ثابتا للنبي عليه الصلاة والسلام قبل البعث باتفاق الفريقين: لزم أن لا يكون الايمان المنفي في الآية عبارة عما اتفق على ثبوته، وحينئذ يتعين صرفه إلى مجموع أشياء: من جملتها التصديق، ومن جملتها كثير من الطاعات التي لم تعلم إلا بالوحي، وحينئذ يستقيم نفيه قبل البعث، وهذا الذي طمع فيه: يخرط القتاد، ولا يبلغ منه ما أراد. وذلك أن أهل السنة وإن قالوا: إن الايمان هو التصديق خاصة حتى يتصف به كل موحد وإن كان فاسقا- يخصون التصديق بالله وبرسوله، فالنبي عليه الصلاة والسلام مخاطب في الايمان بالتصديق برسالة نفسه، كما أن أمته مخاطبون بتصديقه، ولا شك أنه قبل الوحى لم يكن يعلم أنه رسول الله، وما علم ذلك إلا بالوحي، وإذا كان الايمان عند أهل السنة هو التصديق بالله ورسوله، ولم يكن هذا المجموع ثابتا قبل الوحى، بل كان الثابت هو التصديق بالله تعالى خاصة: استقام نفى الايمان قبل الوحى على هذه الطريقة الواضحة، والله أعلم. [.....]
Icon