ﰡ
إثبات وجود اللَّه تعالى ووحدانيته ووقوع الحشر والرد على عبدة الأوثان
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
الإعراب:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ مبتدأ وخبر.
ماذا خَلَقُوا مفعول به ثان ل أَرُونِي.
البلاغة:
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صيغة مبالغة.
أَرَأَيْتُمْ فيه مجازان، حيث أطلق الرؤيا وأراد الإخبار، والعلاقة السببية، واستعمل
ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أمر يراد به التعجيز.
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ بينهما جناس اشتقاق.
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ استفهام على سبيل الإنكار، أي لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يدعو الأصنام من دون اللَّه، فيتخذها آلهة ويعبدها، وهي إذا دعيت لا تسمع.
المفردات اللغوية:
حم هذه الحروف المقطعة للدلالة على إعجاز القرآن وتحدي العرب في أنه منظوم من حروفهم الهجائية، وللتنبيه على خطورة ما يتلى في السورة الْكِتابِ القرآن الكامل في كل شيء، وإنما كرر مع بداية السورة السابقة لتأكيد مدلول الكتابة الْعَزِيزِ القوي القاهر في ملكه الْحَكِيمِ في تدبيره وصنعه، يضع كل أمر في موضعه إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا خلقا ملازما للحق:
وهو ما تقتضيه الحكمة والعدل، للدلالة على قدرة اللَّه ووحدانيته، وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم والبعث للجزاء والحساب وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي بتقدير أجل مسمى ينتهي إليه الكل، وهو يوم القيامة أُنْذِرُوا خوّفوا به من العذاب مُعْرِضُونَ مدبرون، لا يتفكرون فيه ولا يستعدون له.
أَرَأَيْتُمْ أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمل فيها ما تَدْعُونَ تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ الأصنام أَرُونِي أخبروني، وهو تأكيد لما سبق من طلب الإخبار أَمْ همزة الإنكار شِرْكٌ نصيب ومشاركة فِي السَّماواتِ مشاركة مع اللَّه في خلق السموات ائْتُونِي بِكِتابٍ منزّل مِنْ قَبْلِ هذا أي القرآن أَوْ أَثارَةٍ بقية مِنْ عِلْمٍ يؤثر ويروى عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام أنها تقرّبكم إلى اللَّه صادِقِينَ في دعواكم.
وَمَنْ أَضَلُّ استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد يَدْعُوا يعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره، وهم الأصنام، لا يجيبون عابديهم إلى شيء يسألونه أبدا وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ عبادتهم غافِلُونَ لأنهم جماد لا يعقلون أو عباد مشتغلون بأحوالهم.
حُشِرَ النَّاسُ جمعوا يوم القيامة كانُوا أي الأصنام لَهُمْ لعابديهم بِعِبادَتِهِمْ بعبادة عابديهم كافِرِينَ جاحدين.
حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي إنه تعالى كما بدأ سورة الجاثية هو الذي أنزل القرآن على عبده ورسوله محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وليس من عند محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم كما يزعم المشركون، وهو مع هذا التنزيل موصوف بالعزة التي لا يفوقها شيء، فهو القوي القاهر الذي لا يغلب، وهو الحكيم في تدبيره وصنعه وأقواله وأفعاله، يضع كل أمر في موضعه. وإذا كان الأمر كذلك، فما على الناس إلا الإيمان بالقرآن والتصديق بما جاء فيه، والإيمان بصدق محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم في نبوته، وفيما دعا إليه من التوحيد الخالص، وإثبات البعث والجزاء، ودعوة الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة، والأخلاق الكاملة النافعة.
ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ أي ما أوجدنا وأبدعنا السموات العلا، والأراضي السفلى وما بينهما من سائر المخلوقات إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية، وليس على وجه العبث والباطل، فليس خلقها عبثا ولا باطلا.
وقد خلقناها إلى مدة معينة محددة لا تزيد ولا تنقص، وهي يوم القيامة، فإن السموات والأرضين والمخلوقات تنتهي، وتتبدل السموات والأرض بغيرها.
أما الذين جحدوا باللَّه، بالرغم من هذه الأدلة، ومن إنزال الكتب، وإرسال الرسل، فهم لا هون عما يراد بهم، مولّون عما خوّفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء، غير مستعدين له، وسيعلمون غب ذلك وعاقبته.
وبعد إثبات وجود الإله ووقوع الحشر والبعث يوم القيامة، ردّ اللَّه تعالى على عبدة الأوثان بقوله:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ
أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين العابدين مع اللَّه غيره:
أخبروني وأرشدوني عن حال آلهتكم من الأصنام وأصحاب القبور، بعد التأمل في خلق السموات والأرض وما بينهما، هل استطاعوا الاستقلال بخلق شيء في الأرض، وهل لهم مشاركة في ملك السموات والتصرف فيها؟
الواقع أنهم لم يخلقوا شيئا ولا شركة لهم في السموات والأرض، فكيف تعبدون مع اللَّه الخالق لكل شيء غيره وتشركون به؟
ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي أحضروا لي دليلا مكتوبا قبل القرآن مما نزل على الأنبياء كالتوراة والإنجيل يدل على صحة عبادتكم لآلهتكم، أو بقية من علم الأولين والأنبياء السابقين يرشد إلى صحة هذا المنهج الذي نهجتموه، إن كنتم صادقين في ادعائكم ألوهية الأصنام.
والمعنى: لا دليل لكم نقليا ولا عقليا على ذلك.
وبعد أن نفى اللَّه تعالى القدرة عن الأصنام في الخلق وغيره، أتبعه بنفي العلم عنهم من كل الوجوه، فقال:
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ أي لا أحد أضل وأجهل ممن يعبد من دون اللَّه أصناما، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة، فإنه دعا من لا يسمع، فكيف يطمع في الإجابة؟ والأصنام التي يدعونها غافلون عمن دعاها، لا يسمعون ولا يعقلون، لكونهم جمادات.
والمعنى: أن الأصنام لا قدرة لها على شيء، ولا علم لديها بشيء، فما هي إلا جماد، وعبادة الجماد محض الضلال، وهذا يستدعي التوبيخ والتهكم.
وقوله: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ تأبيد على عادة العرب، أي ما دامت الدنيا.
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ أي وإذا جمع الناس العابدون للأصنام في موقف الحساب، كانت الأصنام لهم أعداء، تتبرأ منهم وتلعنهم، وكانوا جاحدين مكذبين منكرين لعبادتهم، فيخلق اللَّه الحياة في الأصنام فتكذبهم، وتتبرأ الملائكة والمسيح وعزير والشياطين ممن عبدوهم يوم القيامة.
ونظير الآية قوله سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم ١٩/ ٨١- ٨٢] أي سيكذبونهم ويعادونهم في وقت أحوج ما يكونون إليهم. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل عليه السلام: وَقالَ: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً، مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات البينات إلى ما يأتي:
١- تأكيد مطلع سورة الجاثية: وهو كون مصدر القرآن من اللَّه العزيز الحكيم، لا من عند محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا غيره من العرب أو العجم.
٢- دلت آية: ما خَلَقْنَا السَّماواتِ.. على أمور ثلاثة: هي إثبات الإله بخلق هذا العالم، وإثبات أن إله العالم عادل رحيم، لقوله تعالى: إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا لأجل الفضل والرحمة والإحسان، وإثبات البعث والقيامة، إذ لو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين، ولتعطل إيفاء الثواب للمطيعين، وإقامة العقاب على الكافرين، وذلك ينافي كون خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق.
٤- بعد إثبات أصول العقيدة الثلاثة المتقدمة، فرّع اللَّه تعالى عنها التفاريع، فرد على عبدة الأصنام بأنها عديمة القدرة على خلق الأشياء، وغير عالمة أصلا بعبادة الوثنيين لها، وكل من الأمرين ينفي صلاحيتها للعبادة، فهي لا قدرة لها أصلا على الخلق والفعل، والإيجاد والإعدام، والنفع والضر، وهي جمادات لا تسمع دعاء الداعين، ولا تعلم حاجات المحتاجين، وإذا انتفى العلم والقدرة من كل الوجوه، لم يبق مسوغ للعبادة ببديهة العقل، فهي لا تضر ولا تنفع.
ثم وبخ اللَّه تعالى عبدة الأصنام، وأبان لهم أنه لا أحد أضل وأجهل ممن يعبد الأوثان، وهي إذا دعيت لا تسمع، ولا يتصوّر منها الإجابة لا في الحال، ولا بعد ذلك إلى يوم القيامة.
٥- أرشد قوله تعالى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إلى جواز الاعتماد على الخط المكتوب، وكان الإمام مالك رحمه اللَّه يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه، أو عرف الحاكم خطه أو خط من كتب إليه، فيحكم به، ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل والتزوير، وقد روي عنه أنه قال: «يحدث الناس فجورا، فتحدث لهم أقضية».
ولكن أجاز مالك الأخذ بشهادة الشهود على أن هذا خط الحاكم وكتابه، وكذلك الوصية، أو خط الرجل باعترافه بمال لغيره يشهدون أنه خطه، ونحو ذلك.
٦- قال ابن العربي: إن اللَّه تعالى لم يبق من الأسباب الدالة على الغيب
وقال- كما علّمه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك» «١».
شبهات المشركين حول الوحي والنبوة والقرآن- ١-
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
الإعراب:
بَيِّناتٍ حال.
كَفى بِهِ شَهِيداً تمييز منصوب.
وَكَفَرْتُمْ بِهِ جملة حالية.
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ.. أدغمت الدال من شَهِدَ في الشين من شاهِدٌ لقرب الدال من الشين، كما يجوز إدغام الثاء والسين والضاد في الشين، فالثاء كقوله تعالى: حَيْثُ شِئْتُمْ والسين كقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً والضاد كقوله تعالى: لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ. وإنما أدغمت هذه الأحرف في الشين، ولم يدغم الشين في هذه الأحرف، لأنها أزيد صوتا منها، لما فيها من التفشي.
البلاغة:
أَمْ يَقُولُونَ أَمْ: بمعنى «بل» الإضرابية، والإضراب: الانتقال من معنى لآخر، والهمزة للإنكار.
بِما تُفِيضُونَ فِيهِ استعارة تبعية، استعمل الإفاضة في الأخذ في الشيء والاندفاع فيه.
وَشَهِدَ شاهِدٌ بينهما جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
عَلَيْهِمْ أي على أهل مكة آياتُنا القرآن بَيِّناتٍ واضحات ظاهرات قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة لِلْحَقِّ أي آيات القرآن والمعنى في شأن الحق ولأجله لَمَّا جاءَهُمْ حينما جاءهم من غير نظر وتأمل هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر بطلانه.
أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون، والهمزة الاستفهامية للإنكار، والمراد: الإضراب عن تسميتهم إياه سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه وإنكار له وتعجيب افْتَراهُ أي اختلقه وهو القرآن قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ على سبيل الافتراض مِنَ اللَّهِ من عذابه شَيْئاً أي إن عاجلني اللَّه بالعقوبة، فلا تقدرون على دفع شيء منها، فكيف أجترئ عليه، وأعرّض نفسي للعقاب من غير توقع نفع، ولا دفع ضرّ من قبلكم تُفِيضُونَ تندفعون وتقولون في القرآن من القدح والطعن والتكذيب كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والإنكار، وهو وعيد بالجزاء على إفاضتهم في آيات القرآن الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الكثير المغفرة والرحمة، وهو وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن، وإشعار بحلم اللَّه، فلم يعاجلهم بالعقوبة.
بِدْعاً أو بديعا، أي مبتدعا ليس له مثال أو سابقة، وقرئ: بدعا جمع بدعة مِنَ الرُّسُلِ أي لست أول مرسل، فقد سبق قبلي كثيرون منهم، فكيف تكذبونني؟ وَما أَدْرِي
في الدارين، إذ لا علم لي بالغيب، ولا لتأكيد النفي، وما إما موصولة منصوبة، أو استفهامية مرفوعة إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أتبع إلا القرآن الموحى به، ولا أبتدع شيئا من عندي، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ منذر بيّن الإنذار بالشواهد والمعجزات عن عقاب اللَّه.
أَرَأَيْتُمْ أخبروني عن حالكم إِنْ كانَ القرآن وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ هو عبد اللَّه بن سلام، وشهادته بما في التوراة من نعت الرسول عَلى مِثْلِهِ مثل القرآن، أي شهد على مثل ما في القرآن من التوراة من المعاني المصدّقة للقرآن المطابقة لها، أو شهد على مثل ذلك وهو كون القرآن من عند اللَّه فَآمَنَ الشاهد وَاسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الإيمان إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ هذا دليل على جواب الشرط المحذوف، تقديره: ألستم ظالمين؟.
سبب النزول: نزول الآية (١٠) :
قُلْ أَرَأَيْتُمْ..:
أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا معه، دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، يحطّ اللَّه عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خلفه، فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال: أي رجل تعلموني يا معشر اليهود؟
قالوا: واللَّه ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب اللَّه، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال: فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا: كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شرا، فأنزل اللَّه: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ.. الآية.
وأخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن سعد بن أبي وقاص قال: في
المناسبة:
بعد تقرير التوحيد ونفي الأضداد والأنداد، ذكر اللَّه تعالى أمر النبوة وشبهات المشركين حولها وحول القرآن، فأبان أنهم يسمون معجزة القرآن بالسحر، وأنهم متى سمعوا القرآن قالوا: إن محمدا افتراه واختلقه من عند نفسه، ثم أبطل تعالى شبهتهم، فقال: إن افتريته على سبيل الفرض، فإن اللَّه تعالى يعاجلني بالعقوبة، وأنتم لا تقدرون على دفع العذاب عني، فكيف أقدم على هذه الفرية، وأعرّض نفسي لعقابه؟! ثم حكى عنهم نوعا آخر من الشبهات، وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجابهم اللَّه تعالى بأن يقول لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لست بأول رسول أرسله اللَّه، حتى تنكروا إخباري بأني رسول اللَّه إليكم، وتنكروا دعوتي لكم إلى التوحيد، ونهي عن عبادة الأصنام، فإن كل الرسل إنما بعثوا لهذه الأهداف والغايات، وأنا من جنس الرسل وواحد منهم لا أستطيع ولا أقدر على الإتيان بالمعجزات والإخبار عن المغيبات، فذلك ليس في وسع البشر، وإنما هو بقدرة اللَّه تعالى.
التفسير والبيان:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي إذا تليت على المشركين آيات القرآن حال كونها بيّنة واضحة
ثم ذكر اللَّه تعالى ما هو أشنع من وصف القرآن بالسحر ورد عليهم، فقال:
أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ، قُلْ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ، فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي بل أيقولون: افترى محمد هذا القرآن واختلقه من عند نفسه، كذبا على اللَّه؟
فرد اللَّه تعالى عليهم: قل لهم أيها الرسول: لو افتريته وكذبت على اللَّه على سبيل الفرض والتقدير كما تدّعون، وزعمت أنه أرسلني رسولا إليكم، ولم يكن الأمر كذلك، لعاقبني أشد العقوبة، ولم يقدر أحد من أهل الأرض، لا أنتم ولا غيركم أن يدفع عقابه عني، فكيف أقدم على هذه الفرية، وأعرّض نفسي لعقابه؟
وقوله: أَمْ للإنكار والتعجيب كما تقدم، كأنه قيل: دع هذا واسمع القول المنكر العجيب.
ونظير الآية قوله تعالى: قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ [الجن ٧٢/ ٢٣]. وقوله سبحانه:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة ٦٩/ ٤٤- ٤٧] وذكر هنا:
هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ، كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي اللَّه أعلم بما تقولون في القرآن، وتخوضون فيه، من التكذيب له، والقول بأنه سحر وكهانة، كفى بالله شاهدا صادقا يشهد لي بأن القرآن من عنده، وبالبلاغ لكم، وبالتكذيب والجحود منكم، ومع كل هذا الذي صدر منكم فالله هو الغفور لمن تاب وآمن، وصدّق بالقرآن، وعمل بما فيه.
وهذا جمع بين الوعيد والتهديد والترهيب وبين الترغيب لهم في التوبة
ثم رد اللَّه على المشركين شبهة أخرى هي اقتراح الإتيان بمعجزات، والإخبار عن مغيبات فقال:
قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي لست بأول رسول جاء إلى العالم، بل قد بعث اللَّه قبلي كثيرا من الرسل، فما أنا بالأمر المبتدع الذي لا نظير له، حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم، ولست أعلم ما يفعل بي ولا بكم في مستقبل الزمان في الدنيا وكذا يوم القيامة، هل أبقى في مكة أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل، وهل تعجل لكم العقوبة أيها المكذبون أم تمهلون؟ والمعنى: إني لا أعلم بما لي بالغيب، فأفعاله تعالى وما يقدره لي ولكم من قضاياه لا أعلمها «١».
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي إنما أتبع الوحي الذي ينزله اللَّه علي في القرآن والسنة، ولا أبتدع من عندي شيئا، ولست إلا نذيرا لكم أنذركم عقاب اللَّه وأخوفكم عذابه على نحو واضح ظاهر لكل عاقل.
وهذا دليل على أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يدري ما يؤول إليه أمره وأمر المشركين في دار الدنيا، أما في الآخرة فهو صلّى اللَّه عليه وسلّم جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وذلك في الجملة، ولا يقطع لشخص معين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة المبشرين بالجنة «٢»، وابن سلام، والعميصاء، وبلال، وسراقة،
(٢) وهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وطلحة بن عبد اللَّه، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنهم.
أخرج أحمد والبخاري عن أم العلاء- وهي امرأة من نساء الأنصار- قالت: «لما مات عثمان بن مظعون، قلت: رحمك اللَّه أبا السائب، شهادتي عليك، لقد أكرمك اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: وما يدريك أن اللَّه أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، واللَّه ما أدري- وأنا رسول اللَّه- ما يفعل بي ولا بكم، قالت أمّ العلاء: فو اللَّه لا أزكي بعده أحدا».
وفي رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: «أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئا لك ابن مظعون الجنة، فنظر إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نظر مغضب، وقال: وما يدريك؟ واللَّه، إني لرسول اللَّه، وما أدري ما يفعل اللَّه بي، فقالت: يا رسول اللَّه، صاحبك وفارسك وأنت أعلم، فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى، وأخاف عليه ذنبه».
ثم أكد اللَّه تعالى خسارة المشركين قائلا:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَفَرْتُمْ بِهِ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند اللَّه في الحقيقة، والحال أنكم قد كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل اللَّه في التوراة على صحته وعلى مثله وهو القرآن، أو على مثل ما قلت، فآمن الشاهد بالقرآن لما تبيّن له أنه من كلام اللَّه، وهذا الشاهد هو عبد اللَّه بن سلام الذي أسلم بعد الهجرة، ثم تكبرتم عن الإيمان به، فقد ظلمتم أنفسكم «١» وكنتم
والمفعول الثاني لقوله أَرَأَيْتُمْ مقدر، أي ألستم ظالمين؟
وبعبارة أخرى: ما ظنكم أن اللَّه صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي قد جئتكم به قد أنزله اللَّه علي لإبلاغكم به، وقد كفرتم به وكذبتموه، ألستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟! أو ألستم كنتم ظالمين لأنفسكم؟ يدل على هذا الجواب المحذوف قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
والشاهد في رأي أكثر المفسرين هو عبد اللَّه بن سلام، بدليل
ما ذكر صاحب الكشاف: «لما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة نظر- أي ابن سلام- إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، وقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإن سبق ماء المرأة نزعته، فقال: أشهد أنك رسول اللَّه حقا، ثم قال:
يا رسول اللَّه، إن اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود، فقال لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيّ رجل عبد اللَّه فيكم؟
فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال:
أرأيتم إن أسلم عبد اللَّه؟ قالوا: أعاذه اللَّه من ذلك، فخرج إليهم عبد اللَّه، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا رسول اللَّه، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللَّه، وأحذر» «١».
أما إنكار أن يكون الشاهد هو عبد اللَّه بن سلام، لأن إسلامه كان بالمدينة
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- عادى مشركو مكة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكذبوا كون القرآن نازلا من عند اللَّه، وكذبوا النبوة، ووصفوا القرآن بأنه سحر واضح.
٢- ولم يكتفوا بوصف القرآن بأنه سحر، بل قالوا ما هو أشنع من ذلك، قالوا: إن محمدا اختلقه وافتراه من عند نفسه، لا من عند اللَّه.
٣- ردّ اللَّه عليهم افتراءهم بأنه لو افتراه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم على سبيل الفرض والتقدير لعجّل اللَّه له العقوبة في الدنيا، ولم يقدر أحد أن يرد عنه عذاب اللَّه، واللَّه أعلم بما يتقوّله ويخوض به من التكذيب هؤلاء المشركون، وكفى بالله شاهدا على أن القرآن من عند اللَّه، وأنه يعلم صدق نبيه وأنهم مبطلون.
وبالرغم من ذلك فالله الغفور لمن تاب، الرحيم بعباده المؤمنين، فإذا آمن هؤلاء المشركون، غفر لهم ما قد سلف منهم من الذنوب والمعاصي.
٤- ليس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أول رسول يرسل، بل هو خاتم الرسل الكرام، قد كان قبله رسل، فليست دعوته إلى التوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وعدم علمه بالغيب مقصورا عليه، وتلك دعوة قديمة هي دعوة جميع الرسل.
لكن نظرا لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلم كونه نبيا، فهو يعلم أنه لا تصدر عنه الكبائر، وأنه مغفور له، وقد تأكد هذا بقوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح ٤٨/ ٢] وقوله سبحانه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الفتح ٤٨/ ٥] وقوله عز وجل:
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٤٧].
٦- لا نسخ في آية: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ لما
ذكر الواحدي وغيره عن ابن عباس: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصّها على أصحابه، فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك، فقالوا: يا رسول اللَّه، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا، ثم قال: «إنما هو شيء رأيته في منامي، ما أتبع إلا ما يوحى إلي»
أي لم يوح إليّ ما أخبرتكم به. قال القشيري: فعلى هذا لا نسخ في الآية.
٧- دلت آية قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. على إنذار المشركين الظالمين بعذاب أليم إذا استمروا في تكذيبهم بالقرآن، وتكبروا عن الإيمان به وعن اتباعه وطاعة الرسول المنزل عليه، بالرغم من شهادة رجل منصف عارف بالتوراة بأن القرآن حق، سواء أكان عبد اللَّه بن سلام أم موسى عليه السلام. وعلى كل حال فهذه الآية بشارة بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في التوراة وعلى لسان موسى عليه السلام
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف ٦١/ ٦].
وفي الآية تقديم وتأخير، تقديره: قل: أرأيتم إن كان من عند اللَّه، وشهد شاهد من بني إسرائيل على ذلك، أي على صدق القرآن، فآمن هو، وكفرتم، إن اللَّه لا يهدي القوم الظالمين، أي الكافرين المعاندين.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تهديد، وهو قائم مقام الجواب المحذوف للشرط: إِنْ والتقدير: قل أرأيتم إن كان من عند اللَّه، ثم كفرتم به، فإنكم لا تكونون مهتدين، بل تكونون ضالين.
شبهات أخرى للكفار- ٢-
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
الإعراب:
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً كِتابُ: مبتدأ، ومِنْ قَبْلِهِ: خبره، وإِماماً وَرَحْمَةً: منصوبان على الحال من الضمير في الظرف، أو من «الكتاب».
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها خالِدِينَ: منصوب على الحال من أَصْحابُ الْجَنَّةِ والعامل فيها معنى الإشارة في أُولئِكَ كقولك: هذا زيد قائما.
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ جَزاءً: إما مفعول لأجله، أو منصوب على المصدر المؤكد، أي جوزوا جزاء.
البلاغة:
لِيُنْذِرَ وَبُشْرى بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هم قريش، وقيل: بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع، لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار، وقيل: اليهود حين أسلم ابن سلام وصحبه.
لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجلهم وفي حقهم، وقيل: إليهم. لَوْ كانَ الإيمان. ما سَبَقُونا إِلَيْهِ فهم أناس أدنياء، إذ عامتهم فقراء وموالي ورعاة. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي حينما لم يهتد القائلون بالقرآن، وإذ للماضي ظرف لمحذوف مثل: ظهر عنادهم. هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي القرآن كذب قديم، مثل قولهم: أساطير الأولين.
وَمِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن. كِتابُ مُوسى التوراة. وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ أي القرآن مؤيد لكتاب موسى. لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا هم مشركو مكة، وهو علة لقوله.
مُصَدِّقٌ وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ أي والقرآن مبشر للمؤمنين.
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا على الطاعة، أي جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم، والاستقامة في أمور الدين والعمل، وقوله ثُمَّ للدلالة على تأخير رتبة العمل وتوقفه على التوحيد. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه في المستقبل. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات محبوب في الماضي، والفاء في فَلا لتضمن جملة إِنَّ الَّذِينَ معنى الشرط. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من اكتساب الفضائل العلمية والعملية.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: أخرج الطبراني عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعزّ، ونحن ونحن، فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا...
وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله يقال لها (زنّين) أو (زنّيرة) فكان عمر يضربها على إسلامها حتى يفتر، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنين، فأنزل اللَّه في شأنها: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً الآية.
وقال عروة بن الزبير: إن زنّيرة- رومية كان أبو جهل يعذبها- أسلمت، فأصيب بصرها، فقالوا لها: أصابك اللات والعزّى، فرد اللَّه عليها بصرها، فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنّيرة، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وقال ابن عباس والكلبي والزجاج: إن الذين كفروا هم بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع، قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه رعاة البهم، إذ نحن أعزّ منهم.
وقال أكثر المفسرين: إن الذين كفروا من اليهود قالوا للذين آمنوا- يعني عبد اللَّه بن سلام وأصحابه-: لو كان دين محمد حقا ما سبقونا إليه.
المناسبة:
هذه شبهة أخرى للقوم: المشركين أو اليهود، في إنكار نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وبعد تقرير دلائل التوحيد والنبوة وذكر شبهات المنكرين والإجابة عنها، ذكر تعالى جزاء المؤمنين العاملين عملا صالحا، طبقا لما جاء به القرآن المجيد.
التفسير والبيان:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي قال كفار مكة أو اليهود لأجل إيمان بعض الفقراء والمستضعفين، كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم رضي اللَّه عنهم: لو كان هذا الدين حقا وكان ما جاء به محمد من القرآن والنبوة خيرا ما سبقونا إلى الإيمان به، ظنا منهم أنهم سبّاقون إلى المكارم، وأن لهم وجاهة عند اللَّه، وله بهم عناية.
وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، فإن اللَّه سبحانه يصطفي للنبوة ولدينه من يشاء، والآية كقوله تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الأنعام ٦/ ٥٣] أي يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا.
وقوله تعالى: لِلَّذِينَ آمَنُوا معناه كما ذكر الزمخشري: لأجلهم، يعني أن الكفار قالوا لأجل إيمان الذين آمنوا: لو كان خيرا ما سبقونا إليه. ويصح أن يكون المعنى: وقال الذين كفروا للذين آمنوا، على وجه الخطاب، كما تقول: قال زيد لعمرو، ثم تترك الخطاب وتنتقل إلى الغيبة، كقوله تعالى:
حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس ١٠/ ٢٢].
ثم وصف اللَّه تعالى حال أولئك الكفار بعد ذلك القول وأجاب عنه بقوله:
قال عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه مسلم والترمذي عن ابن مسعود: «الكبر: بطر الحق، وغمص- أو غمص- الناس»
أي احتقارهم. وبطر الحق:
دفعه ورده.
ثم ذكر اللَّه تعالى دليلا على صدق القرآن وصحته، فقال:
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ أي ومما يدل على أن القرآن حق وصدق وأنه من عند اللَّه: اعترافكم بإنزال اللَّه التوراة على موسى، الذي هو إمام وقدوة يقتدى به في الدين، وهو رحمة لمن آمن به، وهذا القرآن الموافق للتوراة في أصول الشرائع مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب الإلهية المتقدمة، أنزله اللَّه حال كونه بلغة عربية واضحة فصيحة يفهمونها، من أجل أن ينذر به هذا النبي من عذاب اللَّه الذين ظلموا أنفسهم وهم مشركو مكة، ويبشر به المؤمنين الذين أحسنوا عملا، فهو مشتمل على النذارة للكافرين، والبشارة للمؤمنين. وهو ليس إفكا قديما كما يزعمون، بدليل توافقه مع التوراة.
وبعد ذكر شبهات المنكرين، ذكر اللَّه تعالى حال المؤمنين وجزاءهم قائلا:
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي إن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة على منهج الشريعة، لا يخافون من وقوع مكروه بهم في المستقبل، ولا يحزنون من فوات محبوب في الماضي، وجزاؤهم ما قال تعالى:
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أولئك المؤمنون الموحدون المستقيمون على أمر اللَّه هم أهل الجنة، ماكثين فيها على
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن شأن المتكبرين المقصرين تسويغ تقصيرهم بأتفه الأسباب وأسخف المقالات بدافع الكبر والاستعلاء، لذا قال أهل مكة: لو كان هذا الدين حقا ما سبقنا إليه هؤلاء العبيد والمستضعفون، وأضافوا إلى ذلك حينما لم يهتدوا افتراءهم بقولهم: هذا القرآن كذب متوارث، وأساطير الأولين. ومن جهل شيئا عاداه.
٢- مما يدل على صدق القرآن وأنه من عند اللَّه توافقه في أصول العقيدة والشريعة مع التوراة كتاب موسى عليه السلام الذي يقرّون بأنه كتاب اللَّه، فهو قدوة ورحمة يؤتم به في دين اللَّه وشرائعه، والقرآن مصدّق للتوراة ولما قبله من كتب اللَّه في أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم رسول حقا من عند اللَّه، وهو بلغة عربية فصيحة بيّنة واضحة لكل من نظر فيه وتأمل، يشتمل على إنذار الكافرين وبشارة المؤمنين.
وكأنه تعالى قال: الذي يدل على صحة القرآن: أنكم لا تنازعون في أن اللَّه تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام، وجعل هذا الكتاب إماما يقتدى به، ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا سلّمتم كون التوراة إماما يقتدى به، فاقبلوا حكمه في كون محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم رسولا حقا من عند اللَّه تعالى.
٣- إن الذين جمعوا بين الإيمان بالله وحده لا شريك له، وبين الاستقامة على الشريعة في غاية السعادة النفسية والمادية، فهم آمنون مطمئون مرتاحون لا يعكر صفوهم مخاوف المستقبل ولا أحزان الماضي، وهم خالدون دائمون في جنات النعيم، بسبب ما قدموا من عمل صالح في دار الدنيا.
- ١- وصف الولد البار بوالديه
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
الإعراب:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً وقرئ: حسنا وحسنا، وإحسانا: منصوب على المصدر، أي أن يحسن إحسانا. وحسنا: صفة لمفعول محذوف، أي ووصينا الإنسان بوالديه أمرا ذا حسن، وحسنا: تقديره: فعلا حسنا.
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ثَلاثُونَ: خبر مبتدأ الذي هو حَمْلُهُ وإنما رفع، لأن في الكلام مقدرا محذوفا، تقديره: وقدّر حمله وفصاله ثلاثون شهرا. وفي هذا ما يدل على أن أقل الحمل ستة أشهر، مراعاة لآية أخرى هي: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة ٢/ ٢٣٣] فإذا أسقط حولان من ثلاثين أشهرا بقي مدة الحمل ستة أشهر.
فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ حال، أي كائنين في جملتهم.
وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد لنفسه.
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً بعد قوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ من قبيل ذكر الخاص بعد العام لزيادة العناية بالأم.
حَمَلَتْهُ وَوَضَعَتْهُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَوَصَّيْنَا من التوصية والإيصاء والوصية: وهي الأمر المقترن بضرورة الاعتناء والاهتمام، أي أمرنا إِحْساناً أن يحسن لهما إحسانا: وهو ضد الإساءة، والحسن ضد القبح، أي أن يفعل معهما فعلا ذا حسن كُرْهاً مشقة. وَحَمْلُهُ مدة حمله. وَفِصالُهُ فطامه، أي المدة القصوى لفطامه من الرضاع سنتان، وأقل مدة الحمل ستة أشهر، والباقي أكثر مدة الرضاع. حَتَّى إِذا غاية لجملة مقدرة، أي وعاش حتى بَلَغَ أَشُدَّهُ بلوغ الأشد: كمال العقل والرأي والقوة، وأقله ثلاثون أو ثلاث وثلاثون سنة. وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أي تمامها، وهو أكثر الأشد، قيل: لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. قال البيضاوي: وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه إذا حط منه للفصال حولان لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة ٢/ ٢٣٣] بقي ذلك، وبه قال الأطباء. ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما.
أَوْزِعْنِي ألهمني ووفقني ورغّبني. نِعْمَتَكَ نعمة الدين وغيرها من النعم. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ نكّر كلمة صالِحاً أي عملا صالحا للتعظيم، أو أنه أراد أي عمل أو نوع من جنس الأعمال يحقق رضا اللَّه عز وجل. وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم. أُولئِكَ أي قائلو هذا القول الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي حسن أعمالهم وطاعاتهم، فإن المباح حسن ولا يثاب عليه وقرئ: يتقبل. وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ لتوبتهم وقرئ: ويتجاوز. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي كائنين في عدادهم أو معدودين فيهم. وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [التوبة ٩/ ٧٢].
سبب النزول: نزول الآية (١٥) :
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ: روى الواحدي عن ابن عباس قال: أنزلت في
وقال السدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، أخرج مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن سعد رضي اللَّه عنه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس اللَّه قد أمر بطاعة الوالدين، فلا آكل طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً.
وقال الحسن البصري: «هي مرسلة نزلت على العموم». وهذا هو الأولى، لأن حمل اللفظ على العموم منذ بداية نزول الوحي أوقع وأفيد وأشمل، وإن كانت العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
المناسبة:
بعد أن ذكر اللَّه تعالى جزاء المؤمنين الموحدين المستقيمين على الشريعة، أمر ووصى ببر الوالدين، وأشاد بصفة خاصة بالبارّ والديه بعد بلوغه سن الأربعين،
التفسير والبيان:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً أي وصيناه وأمرناه أن يحسن إليهما إحسانا في الحياة وبعد الممات بالحنو عليهما وبرهما والإنفاق عليهما عند الحاجة والبشاشة عند لقائهما، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.. [الإسراء ١٧/ ٢٣] وقوله سبحانه:
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان ٣١/ ١٤].
وجاءت الأحاديث النبوية الكثيرة المؤيدة للقرآن في هذا الأدب العظيم، وجعل بر الأبوين من أفضل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر، ووصل البر بعد الوفاة، منها
ما أخرجه البخاري عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس»
ومنها ما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي اللَّه عنه قال: «بينا نحن جلوس عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول اللَّه، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما».
ثم ذكر سبب التوصية وخص الأم لزيادة العناية والاهتمام بها، فقال تعالى:
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي حملته في بطنها بمشقة، وولدته بمشقة، فإنها قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا من وحم وغشيان وثقل وكرب، ووضعته بمشقة أيضا من ألم الطّلق وشدته، ووجع الولادة ثم الرضاع
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أي إن مدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا، أي عامان ونصف، عانت فيهما الأم آلام السهر، وعناء الرضاع والغذاء والتنظيف والتربية بمحبة وحنان، دون ضجر ولا سأم.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب، لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة، وأرضعته وحضنته، وعنيت به بتعب وصبر، ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك، وإن تعب في الكسب والإنفاق، لذا جاءت الأحاديث النبوية تؤكد بر الأم، وتقدّمه بمراتب ثلاث على مرتبة الأب،
أخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك».
وفي الآية أيضا إيماء إلى أن أقل الحمل ستة أشهر (نصف عام) وكان علي رضي اللَّه عنه أول من استدل بهذه الآية وآية لقمان. وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [١٤] وقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة ٢/ ٢٣٣] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأن أكثر مدة الرضاع والفطام حولان كاملان، فبقي للحمل من الثلاثين شهرا ستة أشهر.
وهو استنباط صحيح، وافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي اللَّه عنهم،
روى ابن أبي حاتم ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية عن معمر بن عبد اللَّه الجهني قال: تزوّج رجل منا امرأة من جهينة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي اللَّه عنه، فذكر ذلك له، فبعث إليها،
وروى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر، كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر، كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا وضعته لستة أشهر، فحولين كاملين، لأن اللَّه تعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً، حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ.
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أي حتى إذا قوي وشب وارتجل، فاستحكم عقله وقوته، وذلك بين الثلاثين والأربعين، وتناهي عقله، وكمل فهمه وحلمه ببلوغ الأربعين سنة. وقوله حَتَّى غاية لمحذوف تقديره:
فعاش أو طالت حياته حتى إذا بلغ الأشد، أي القوة، وذلك يكون بكمال قوته المادية والعقلية، لذلك قيل: إنه لم ينبأ نبي قبل الأربعين إلا ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام.
قالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي إذا بلغ الأربعين قال: رب ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي
وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي هذا معطوف على قوله: أَنْ أَشْكُرَ أي ألهمني ووفقني للعمل الصالح الذي ترضاه مني، والعمل الصالح المرضي: هو ما يكون سالما من غوائل عدم القبول، واجعل الصلاح ساريا في ذريتي «١»، متمكنا راسخا فيهم، حتى يكون لهم طبعا وخلقا.
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ، وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي إني تبت وأنبت إليك من جميع الذنوب، والآثام، وإني من المستسلمين لك، المنقادين لطاعتك، المخلصين لتوحيدك، الخاضعين لربوبيتك.
قال ابن كثير: وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى اللَّه عز وجل، ويعزم عليها «٢»،
وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يعلّمهم أن يقولوا في التشهد: «اللهم ألّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجّنا من الظلمات إلى النور، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتمّها علينا».
ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء هؤلاء الصالحين قائلا:
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا، وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ، فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ. وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي أولئك الذين هذه
(٢) تفسير ابن كثير: ٤/ ١٥٧ وما بعدها.
وهم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند اللَّه عز وجل، كما وعد اللَّه من تاب إليه وأناب، فهو وعد منجّز لا خلف فيه ولا شك في حصوله، وهو الوعد الذي وعدهم اللَّه به في كتبه وعلى لسان أنبيائه، واللَّه منجز ما وعد.
وقوله: أُولئِكَ إشارة إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ وجمعه باعتبار أفراد الإنسان الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف من معرفة حقوق الوالدين، والرجوع إلى اللَّه بسؤال التوفيق للشكر، وهو إيذان بأن هذه الأوصاف هي صفات الإنسانية الكاملة.
وقوله: أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي حسن ما عملوا، فيشمل الحسن والأحسن.
وقوله: وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد لما قبله، أي وعد اللَّه أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن الإحسان إلى الوالدين فرض في الإسلام، لقوله تعالى:
وَوَصَّيْنَا والتوصية: الأمر، والأمر يقتضي الوجوب.
٣- إن حق الأم كما تقدم بدلالة الآية أعظم من حق الأب، لأنه تعالى قال أولا: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً فذكرهما معا، ثم خص الأم بالذّكر، فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وذلك يدل على أن حقها أعظم، وأن تحملها المشاق بسبب الولد أكثر.
٤- دلت الآية أيضا كما تقدم على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثين شهرا، وكان أقصى مدة الرضاع حولين كاملين، بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر، بعد إسقاط مدة حولي الرضاع، وهي أربع وعشرون شهرا من الثلاثين. روي عن عمر أن امرأة رفعت إليه، وكانت قد ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فقال علي: لا رجم عليها، وكذلك روي عن عثمان أنه همّ بذلك، فأبان له علي أو ابن عباس ما دلت عليه الآيات كما تقدم، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها.
وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا، حملته أمه تسعة أشهر، وأرضعته إحدى وعشرين شهرا.
٥- ودلت الآية أيضا على أن أكثر مدة الرضاع سنتان، لأنه إذا دلت على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإنها تدل في الباقي من الثلاثين شهرا على أن أكثر مدة الرضاع حولان كاملان، وتأيّد هذا بآية: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة ٢/ ٢٣٣].
٧- على الإنسان أن يشكر نعمة اللَّه عليه إذا بلغ أربعين سنة، وهي مرحلة كمال العقل والبنية، وأن يطلب من اللَّه تعالى توفيقه للعمل الصالح الذي يرضيه، وأن يجعل الصلاح ساريا في ذريته، راسخا متمكنا فيهم.
قال علي رضي اللَّه عنه: هذه الآية: رَبِّ أَوْزِعْنِي نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه! أسلم أبواه جميعا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، فأوصاه اللَّه بهما، ولزم ذلك من بعده.
ووالده: هو أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم.
وأمه: أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وأم أبيه أبي قحافة: «قيلة». وامرأة أبي بكر الصديق اسمها «قتيلة» بنت عبد العزّى.
وقال ابن عباس عن قوله تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي: أجاب اللَّه دعاء أبي بكر، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذّبون في اللَّه، منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه اللَّه عليه. ولم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده، ولم يكن أحد من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وهذا دليل على استجابة دعاء أبي أبكر.
ومن فضائل أبي بكر: ما ذكر
في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر:
أنا، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة».
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ.. مرسلة، نزلت على العموم، وهو قول الحسن كما تقدم، فتشمل أبا بكر وغيره.
٩- وهذه الآية أيضا تدل على أن المتصف بالصفات التي قبلها هو أفضل الناس، لأن الذي يتقبل اللَّه عنه أحسن أعماله، ويتجاوز عن كل سيئاته، يجب أن يكون من أفاضل الخلق وأكابرهم.
وأجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبو بكر، لدلالة الآية عليه، وأنه هو أولا المراد منها، وتنطبق على أمثاله من بعده.
١٠- وصف اللَّه تعالى هذا الداعي أنه طلب من اللَّه تعالى ثلاثة أشياء: هي أن يوفقه اللَّه للشكر على نعمته، وأن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عند اللَّه، وأن يصلح له في ذريته، وبذلك جمع جوانب السعادة النفسية والبدنية والخارجية. ويلاحظ منها أنه تعالى قدم الشكر على العمل، وأن طلب إلهام الشكر على نعم اللَّه دليل على أنه لا يتم شيء من الطاعات والأعمال إلا بإعانة اللَّه تعالى، وأنه لا يكفي كون الشيء صالحا في ظنه، يل يكون صالحا عنده وعند اللَّه تعالى.
١١- دل آخر الآية: إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ على أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة والإسلام والانقياد لأمر اللَّه تعالى.
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
الإعراب:
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي؟.. الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: في موضع رفع مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: وفيما يتلى عليكم الذي قال لوالديه أو خبره: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ. وأُفٍّ اسم فعل مضارع مبني على الكسر بمعنى أتضجر. وأَ تَعِدانِنِي بكسر النون، على الأصل في نون التثنية، وهو الكسر، في اللغة المشهورة الفصيحة، وقرئ بالفتح على لغة بعض العرب تشبيها لها بنون الجمع، كما كسروا نون الجمع تشبيها لها بنون التثنية، حملا لإحداهما على الأخرى، وقرئ أيضا بالإدغام.
وَيْلَكَ آمِنْ وَيْلَكَ: منصوب على المصدر، وهو من المصادر التي لا أفعال لها، وهي ويحك، وويسك، وويبك. والأجود في هذه المصادر إذا كانت مضافة النصب، والرفع فيها جائز، والأجود فيها إذا كانت غير مضافة الرفع، والنصب جائز فيها.
البلاغة:
ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ بصيغة الحصر.
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا فيها استعارة، استعار الدرجات للمراتب.
أَذْهَبْتُمْ.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أراد به الجنس من أي قائل، وإن صحّ نزولها في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللَّه عنه قبل إسلامه، فإن خصوص السبب لا يوجب التخصيص. أُفٍّ بكسر الفاء وفتحها، اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر، أو مصدر، أي: نتنا وقبحا، والأصل فيه أنه صوت يظهر عند التضجر والتبرم. لَكُما أتضجر منكما. أَنْ أُخْرَجَ أبعث من القبر.
وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي مضت الأمم من قبلي ولم يخرج أحد من القبور. وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يقولان له: الغياث بالله منك، أي من كفرك، إنكارا واستعظاما له، أي يطلبان الغوث من اللَّه من كفره، أو يطلبان من اللَّه أن يغيثه بالتوفيق للإيمان، أي يسألان اللَّه أن يوفقه للإيمان، ويقولان له: وَيْلَكَ آمِنْ باللَّه وبالبعث. وَيْلَكَ آمِنْ أي هلكت، آمن بالبعث، والويل: دعاء بالهلاك والثبور، أو واد في جهنم، والمراد به الحث على الفعل أو تركه حتى لا يهلك، لا حقيقة الهلاك. فَيَقُولُ: ما هذا أي ما هذا القول بالبعث إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أكاذيب الأقدمين وأباطيلهم التي سطروها في كتبهم من غير حقيقة.
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وجب عليهم الحكم بالعذاب وأنهم من أهل النار، قال البيضاوي: وهو يردّ النزول في عبد الرحمن بن أبي بكر، لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك، وقد جبّ عنه إن كان لإسلامه. إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل للحكم على الاستئناف، أي إنهم من الذين ضيعوا الفكر والنظر، الشبيه برأس المال، باتباعهم وساوس الشياطين.
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي ولكل من الفريقين المؤمن والكافر مراتب ومنازل من جزاء وسبب ما عملوا من الخير والشرّ، فدرجات المؤمنين في الجنة عالية، ودرجات الكافرين في النار سافلة. والدرجات غالبة في المثوبة والعلو، وجاءت هنا على التغليب، ويقابلها الدركات في الانخفاض والنزول. وعَمِلُوا أي عمل المؤمنون من الطاعات، والكافرون من المعاصي.
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي ليوفيهم اللَّه جزاء أعمالهم، وقرئ ولنوفيهم. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا بنقص ثواب للمؤمنين وزيادة عقاب للكفار.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يعذبون فيها، أو تكشف لهم. أَذْهَبْتُمْ أي يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ، فالقول مضمر وتقرأ بهمزتين مخففتين، وبهمزة ومدة، وبهمزة وتسهيل الثانية. طَيِّباتِكُمْ لذائذكم وشبابكم وقوتكم. وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها تمتعتم بها، فما بقي لكم منها شيء. عَذابَ الْهُونِ الهوان والذلّ. تَسْتَكْبِرُونَ تتكبرون. تَفْسُقُونَ أي تخرجون عن
سبب النزول: نزول الآية (١٧) :
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: نزلت هذه الآية: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: أُفٍّ لَكُما في عبد الرحمن بن أبي بكر قال لأبويه، وكانا قد أسلما، وأبى هو، فكانا يأمرانه بالإسلام، فيرد عليهما، ويكذبهما ويقول: فأين فلان وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات، ثم أسلم بعد، فحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا الآية.
وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس مثله.
لكن أخرج البخاري من طريق يوسف بن ماهان قال: قال مروان بن الحكم في عبد الرحمن بن أبي بكر: إن هذا الذي أنزل اللَّه فيه: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: أُفٍّ لَكُما فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل اللَّه فينا شيئا من القرآن، إلا أن اللَّه أنزل عذري.
وأخرج عبد الرزاق من طريق مكي: أنه سمع عائشة تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، وقالت: إنما نزلت في فلان، وسمّت رجلا.
وقال الحافظ ابن حجر: ونفي عائشة أصح إسنادا، وأولى بالقبول.
وقال ابن كثير: ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللَّه عنهما، فقوله ضعيف، لأن عبد الرحمن أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان من
المناسبة:
بعد أن وصف اللَّه تعالى الولد البار بوالديه وفوزه وتقبل اللَّه عمله، وصف الولد العاقّ لوالديه هنا وجزاءه المستحق له، ثم أخبر تعالى أن لكل من الفريقين منازل ودرجات عند ربهم: إما رفعة وإما انخفاضا، وأخبر أيضا عما يقال للكفار توبيخا وتقريعا حين عرضهم على النار: إنكم تمتعتم في الحياة، وتكبّرتم عن اتباع الحق، وفسقتم عن طاعة اللَّه، فتجازون اليوم جزاء ما عملتم ومن أجل ما عملتم.
التفسير والبيان:
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما، أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ، وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي؟ هذا عام في كل من قال هذا، إذ قال لأبويه حينما دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر: أفّ لكما، أي تضجر وتبرم مما تقولانه، أأنتما تخبرانني أنني سأبعث من قبري بعد الموت لموعد اللَّه؟ إن هذا البعث بعد الموت المستبعد مستنكر، فقد مضت الأمم السابقة الكثيرة من قبلي، كعاد وثمود، ماتوا ولم يبعث منهم أحد، وذهبوا ولم يرجع منهم مخبر.
والخلاصة: المراد بالآية الجنس، لأن خصوص السبب لا يوجب التخصيص.
وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ، وَيْلَكَ آمِنْ، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي ووالداه يسألان اللَّه أن يوفقه للإيمان، ويقولون له: ويلك آمن بالله وبالبعث، أي
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ١٩٧
فَيَقُولُ: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي فيقول هذا الولد مكذبا لما قال والداه: ما هذا الذي تقولانه من البعث إلا أحاديث الأولين وأباطيلهم التي سطّروها في الكتب، فما البعث في الحقيقة إلا أمر باطل، لا يقبله العقل، أي في زعمه ووهمه.
ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء هذا القائل، فقال:
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ أي إن أولئك القائلين هذه المقالة هم الذين وجب عليهم العذاب، واستحقوا غضب اللَّه، في جملة الأمم الكافرة المتقدمة، فهم منضمون في ذلك إليهم، سواء كانوا من الجن أو الإنس الذين كذبوا الرسل، لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، لتضييعهم الفكر والنظر الشبيه برأس المال، باتباعهم ووساوس الشيطان.
والمراد بالقول: قول اللَّه أنه يعذبهم في جملة أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس. وهذا يقتضي أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس «١». ولعل المراد بالقول هنا قوله سبحانه لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص ٣٨/ ٨٥]. والإشارة بقوله: أُولئِكَ للتحقير.
ثم ذكر اللَّه تعالى مراتب كل من الفريقين: المحسن والمسيء، فقال:
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي ولكل فريق من الفريقين: المؤمنين المحسنين الأبرار، والكافرين الأشقياء المسيئين
والدرجات: بمعنى المنازل والمراتب تشمل درجات أهل الجنة العالية، ودركات أهل النار النازلة، لكنه عبر بالدرجات للتغليب، إذ الثواب درجات، والعقاب دركات.
وبعد بيان إيصال الحق لكل أحد، بيّن اللَّه تعالى أولا أحوال العقاب وأهوال القيامة التي يتعرض لها الكافرون، فقال:
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا، وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي واذكر أيها النّبي لقومك حين تعرض النار على الكفار، أي يعذبون فيها، أو يوم ينكشف الغطاء، فينظرون إلى النار، ويقربون منها، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا: استوفيتم وأخذتم لذائذكم في الدنيا، وتمتعتم بها، باتباع الشهوات واللذات في معاصي اللَّه سبحانه، دون مبالاة بالذنب، وتكذيبا منهم لما جاءت به الرسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظوظكم شيء منها، ففي هذا اليوم تجازون بالعذاب الذي فيه ذلّ لكم، وخزي عليكم، وإهانة، بسبب تكبركم عن عبادة اللَّه والإيمان به وتوحيده، وخروجكم عن طاعة اللَّه وعملكم بمعاصيه.
وهكذا جوزوا من جنس عملهم، فكما متعوا أنفسهم، واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي، جازاهم اللَّه تبارك وتعالى بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة في دركات جهنم، أعاذنا اللَّه منها.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن عقوق الوالدين من الكبائر، وإن من أكبر الكبائر الإشراك بالله، وإنكار البعث والمعاد.
٢- إن عاطفة الأبوين الصادقة المتأججة تدفعهما إلى الاستغاثة باللَّه وسؤاله ودعائه بالهداية لولدهما الكافر منكر البعث، أو الاستغاثة بالله من كفره، وهما يقولان له: ويلك آمن، أي صدّق بالبعث، إن وعد اللَّه صدق لا خلف فيه، والمراد بالدعاء عليه الحثّ والتحريض على الإيمان، لا حقيقة الهلاك.
٣- لم يقابل الولد تلك العاطفة بالتقدير والاحترام، فأجاب والديه:
ما هذا الذي تقولانه من أمر البعث وتدعوانني إليه إلا أكاذيب الأولين الأقدمين وأباطيلهم. ولم يكن قوله بلطف وإنما بتضجر وتبرم، وذلك من الكبائر أيضا.
٤- كان هذا الولد القائل وأمثاله من الذين حقت عليهم كلمة العذاب، أي وجب عليهم العذاب بكلمة اللَّه: «هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي» مع أمم تقدمت ومضت من قبلهم من الجن والإنس الكافرين، وإن تلك الأمم الكافرة ومن سار في منهجهم كانوا خاسرين لأعمالهم، ضيعوا سعيهم، وخسروا الجنة.
٦- يقال للكافرين تقريعا وتوبيخا حين تقريبهم من النار ونظرهم إليها، أو عند تعذيبهم بها: لقد تمتعتم بطيبات الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي، فاليوم تجزون عذاب الخزي والفضيحة والهوان، بسبب استعلائكم على أهل الأرض بغير استحقاق، وتكبركم عن اتباع الحق والإيمان، وخروجكم عن طاعة اللَّه بغيا وظلما.
ويلاحظ أن الاستكبار عن قبول الحق: ذنب القلب، والفسق: عمل الجوارح (الأعضاء).
ويحتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لأن فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم، ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات.
قال المفسرون: والأشياء الطيبة اللذيذة غير منهي عنها، لقوله تعالى:
قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف ٧/ ٣٢]، ولكن التقشف وترك التكلف دأب الصالحين، لئلا يشتغل بغير المهم عن المهم، ولأن ما عدا الضروري لا حصر له، وقد يجرّ بعضه بعضا إلى أن يقع المرء في حد البعد عن اللَّه تعالى «١».
وفي الحديث: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل على أهل الصّفّة، وهم يرقعون ثيابهم بالأدم «٢»، ما يجدون لها رقاعا، فقال: «أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة، ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة، ويراح بأخرى، ويستر
(٢) أدم: جمع أديم وهو الجلد.
وذكر قتادة عن عمر رضي اللَّه عنه، قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وأحسنكم لباسا، ولكنني أستبقي طيباتي للآخرة، لأن اللَّه وصف قوما، فقال:
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ.
وعن عمر أن رجلا دعاه إلى طعام فأكل، ثم قدّم شيئا حلوا فامتنع، وقال:
رأيت اللَّه نعى على قوم شهواتهم، فقال: أَذْهَبْتُمْ الآية، فقال الرجل: اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا ولست منهم، فأكل وسرّه ما سمع.
وفي صحيح مسلم وغيره: أن عمر رضي اللَّه عنه دخل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في مشربته «١» حين هجر نساءه، قال: فالتفت فلم أر شيئا يردّ البصر إلا أهبا «٢» جلودا معطونة، قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول اللَّه، أنت رسول اللَّه وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الدّيباج والحرير؟ قال: فاستوى جالسا وقال: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» فقلت: استغفر لي، فقال: «اللهم اغفر له».
والخلاصة: أن الآية للنعي على الكفار الذين يعذبون بالنار، وأن استمتاعهم بالطيبات في الدنيا ليحرموا منها في الآخرة، عدلا من اللَّه وفضلا ورحمة. وليس في الآية أن كل من أصاب الطيبات المباحات في الدنيا، فإنه لا يكون له منها حظ في الآخرة، والمؤمن يؤدي بإيمانه شكر المنعم، فلا يوبّخ بتمتعه بالدنيا.
(٢) الأهب: جمع إهاب: وهو الجلد.
قصة هود عليه السلام مع قومه عاد
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٢٨]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ إِذْ: بدل اشتمال.
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ.. فَما أَغْنى.. وَحاقَ بِهِمْ قد: حرف يقرب الماضي من الحال ويقلل المستقبل. وفِيما أي في الذي وإِنْ مَكَّنَّاكُمْ تحتمل إِنْ وجهين: إما بمعنى (ما) النافية، أو زائدة. فَما أَغْنى: ما: إما نافية، ويؤيده دخول (من) للتأكيد في قوله تعالى:
مِنْ شَيْءٍ أو استفهامية منصوبة ب أَغْنى والتقدير: أي شيء أغنى هو؟ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ: فِيما فاعل حاقَ وهي مصدرية، وفي الكلام حذف مضاف تقديره: وحاق بهم عقاب استهزائهم، لأن نفس الاستهزاء لا يحل عليهم. وإنما يحل عليهم عقابه.
قُرْباناً آلِهَةً قُرْباناً: إما منصوب على المصدر، أو مفعول لأجله، أو مفعول اتَّخَذُوا وآلِهَةً بدل منه.
وَما كانُوا يَفْتَرُونَ وما: مصدرية، أو موصولة، والعائد محذوف، أي فيه.
البلاغة:
وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ثم قال: فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ من قبيل الإطناب بتكرار اللفظ لزيادة التقبيح عليهم.
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ توافق الفواصل الذي يزيد في جمال الكلام.
المفردات اللغوية:
أَخا عادٍ هو هود عليه السلام، وعاد قبيلة عربية من إرم. أَنْذَرَ خوف.
بِالْأَحْقافِ واد باليمن فيه منازلهم، بين عمان ومهرة، وهي في الأصل جمع حقف: وهو رمل مستطيل مرتفع معوج فيه انحناء. خَلَتِ النُّذُرُ مضت الرسل التي تنذر، والنذر جمع نذير أي منذر، والجملة معترضة أو حال. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ من قبل هود ومن بعده. «ألا» أي بأن قال: «لا تعبدوا» أو النذر بألا تعبدوا، فإن النهي عن الشيء إنذار بمضرته. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عبدتم غير اللَّه. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هائل بسبب شرككم.
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك أنه يأتينا. قالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ قال هود: لا يعلم أحد متى يأتيكم العذاب، ولا مدخل لي فيه فأستعجل به، وإنما علمه عند اللَّه، فيأتيكم به في وقته المقدّر له. وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إليكم، وما على الرسول إلا البلاغ. وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ باستعجالكم العذاب ما هو، ولا تعلمون أن الرسل بعثوا مبلّغين منذرين، لا معذّبين مقترحين.
فَلَمَّا رَأَوْهُ أي العذاب. عارِضاً سحابا عرض في أفق السماء. مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ متوجها نحو أوديتهم. هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي يأتينا بالمطر. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب. رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ريح مشتملة على عذاب مؤلم، أي هي ريح، أو بدل من فَلَمَّا.
تُدَمِّرُ تهلك. كُلَّ شَيْءٍ من النفوس والأموال. بِأَمْرِ رَبِّها بإرادته ومشيئته، فأهلكت رجالهم ونساءهم وصغارهم وأموالهم. كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي كما جزيناهم نجزي الكافرين. وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أي لقد جعلنا لهم مكنة وقدرة في الذي جعلناه لكم يا أهل مكة من القوة والمال. سَمْعاً أسماعا. وَأَفْئِدَةً قلوبا. فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ شيئا من الإغناء، وقوله: مِنْ شَيْءٍ مِنْ: زائدة للتأكيد.
إِذْ كانُوا إِذْ: معمولة لأغنى، وفيها معنى التعليل. يَجْحَدُونَ ينكرون. بِآياتِ اللَّهِ حججه وبراهينه البيّنة. وَحاقَ نزل. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي العذاب.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى أي أهلكنا من جواركم من أهل القرى كثمود وعاد وقوم لوط. وَصَرَّفْنَا الْآياتِ بيّناها لهم. فَلَوْلا نَصَرَهُمُ هلا نصرهم بدفع العذاب عنهم؟ مِنْ دُونِ اللَّهِ غيره. قُرْباناً مصدر أو اسم لما يتقرب به إلى اللَّه تعالى، من طاعته. آلِهَةً معه وهم الأصنام. ضَلُّوا غابوا. عَنْهُمْ عند نزول العذاب. وَذلِكَ أي الضلال والضياع وعدم نفع آلهتهم سببه: إِفْكُهُمْ أي كذبهم، وقرئ: أفكهم أي صرفهم. يَفْتَرُونَ يكذبون.
المناسبة:
بعد بيان أدلة التوحيد والنبوة التي أعرض عنها أهل مكة، بسبب استغراقهم في لذات الدنيا واشتغالهم بطلبها، ذكر اللَّه تعالى قصة قوم عاد للعظة والتذكر والعبرة، فقد أهلكهم اللَّه تعالى بسبب شؤم كفرهم، مع أنهم كانوا أكثر أموالا وقوة وجاها من مشركي مكة، ليعتبروا بذلك، ويتركوا الاغترار بالدنيا.
التفسير والبيان:
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ، وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي واذكر أيها النبي لقومك أخا عاد: وهو هود عليه السلام الذي كان أخاهم في النسب، لا في الدين، بعثه اللَّه إلى عاد الأولى الذين كانوا يسكنون الأحقاف في حضر موت، جمع حقف: وهو الهضبة من الرمل العظيم، وهو الأصح، أو واد يدعى برهوت، وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبل هود وبعده أنذروا نحو إنذاره بألا يعبدوا غير اللَّه ولا يشركوا معه إلها آخر، فإني أخشى عليكم عذاب يوم عظيم الأهوال.
ونظير الآية قوله عز وجل: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [فصلت ٤١/ ١٣- ١٤].
فأجابه قومه قائلين:
قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي قال قومه له: هل جئتنا لتصرفنا وتصدنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، فأتنا بما تعدنا من العذاب العظيم إن كنت صادقا في قولك ووعدك لنا به على الشرك.
وهذا دليل واضح على أنهم استعجلوا عذاب اللَّه وعقوبته، استبعادا منهم وقوعه، وإنكارا لحصوله، كقوله سبحانه: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى ٤٢/ ١٨]. وفيه دلالة على أن الوعد قد يستعمل في موضع الوعد.
قالَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي قال هود: لا علم لي بالوقت الذي يحصل فيه ذلك العذاب، وإنما العلم بوقت مجيئه عند اللَّه تعالى، لا عندي، لأنه هو الذي قدّره، لا أنا، ولم يخبرني متى سيأتي به، وإنما شأني أن أبلغكم ما أرسلت به إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، والتحذير من العذاب، لا أن آتي به، فليس ذلك في مقدوري، ولكني أراكم قوما لا تعقلون ولا تفهمون حيث بقيتم مصرّين على الكفر، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل اقترحتم علي ما ليس من شأن الرسل ووظائفهم.
ثم ذكر اللَّه تعالى مقدمات العذاب، فقال:
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ، قالُوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي حينما رأوا العذاب أو السحاب مستقبلهم ومتجها نحو أوديتهم، قالوا: هذا سحاب ممطر، ففرحوا به واستبشروا، وقد حبس عنهم المطر واحتاجوا إليه، فكان مطر عذاب، كما قال تعالى واصفا جواب هود، أو أنه من قول اللَّه لهم:
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ أي بل هذا هو العذاب الذي طلبتموه بقولكم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إنه ريح نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، تحمل بين جوانبها العذاب المهلك المؤلم. قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياما، فساق اللَّه إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد يقال له (المعتّب).
وضمير رَأَوْهُ عائد إلى غير مذكور، بيّنه قوله عارِضاً كما قال تعالى: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر ٣٥/ ٤٥] ولم يذكر الأرض، لكونها معلومة، فكذا هنا الضمير عائد إلى السحاب، كأنه قيل: فلما رأوا
أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن عائشة، قالت: «ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته «١»، إنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيما أو ريحا، عرف ذلك في وجهه، قلت: يا رسول اللَّه، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قال: يا عائشة، وما يؤمّنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارض ممطرنا».
ثم وصف اللَّه تعالى تلك الريح، فقال:
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي تخرب وتهلك تلك الريح كل شيء مرّت به من نفوس (عاد) وأموالها مما شأنه الخراب، بإذن اللَّه لها في ذلك، كقوله سبحانه:
ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات ٥١/ ٤٢] أي كالشيء البالي. ولهذا ذكر تعالى أنهم قد بادوا كلهم عن آخرهم، ولم تبق لهم باقية، وأصبحوا لا يرى من أموالهم وأنفسهم شيء، لكن ترى آثار مساكنهم.
وهذا حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف أمرنا، فكما جازينا عادا بكفرهم باللَّه بذلك العذاب، نجازي كل مجرم كافر. والمقصود منه تخويف كفار مكة.
أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» قالت:
«لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا»
والاختيال: أن يخال في السماء المطر.
وأخرج مسلم أيضا عن ابن عباس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور»
والصبا: ريح الشمال، والدبور: ريح الجنوب.
وبعد تخويف كفار مكة وتهديدهم ووعيدهم، وصف اللَّه تعالى قوة عاد قائلا:
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي ولقد مكنا قوم عاد والأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد وقوة الأبدان وطول العمر بمقدار لم نجعل لكم مثله ولا قريبا منه، فقد كانوا أشد منكم قوة يا أهل مكة، وأكثر أموالا وأولادا، وأعز جانبا وأمنع سلطانا وتسلطا، كما قال تعالى: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً، وَآثاراً فِي الْأَرْضِ [غافر ٤٠/ ٨٢].
وإنهم أعرضوا عن قبول الحجة والهداية، بالرغم مما أعطاهم اللَّه من الحواس التي بها تدرك الأدلة، فما نفعهم ما أعطاهم اللَّه من مفاتيح المعرفة والتذكر، ولم يتوصلوا بها إلى التوحيد وصحة الوعد والوعيد، ولم يستعملوا قدرات السمع والبصر والفؤاد في الخير وما خلقت له من شكر المنعم.
ثم ذكر اللَّه تعالى علة عدم انتفاعهم بحواسهم قائلا:
إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي لم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم لأجل أنهم كانوا يجحدون بآيات اللَّه، وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، حيث قالوا:
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا.
ثم أكد تعالى ضرورة العظة بأمثال عاد أيضا من الأمم السالفة المكذبة بالرسل، فقال:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى، وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي وأهلكنا أيضا يا أهل مكة ما حولكم من البلاد، من القرى المكذبة بالرسل، مثل قرى ثمود وقرى قوم لوط ومدين مما جاور بلاد الحجاز، وأهل سبأ باليمن، وكانت في طريقهم يمرون بها في رحلاتهم صيفا وشتاء، وبينا الآيات وأوضحناها، وأظهرنا الحجج ونوّعناها، لكي يرجعوا عن كفرهم، فلم يرجعوا.
ثم أبان اللَّه تعالى مدى الكرب والشدة بفقد الأعوان والنصراء لدفع عذاب اللَّه، فقال:
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ، وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ أي فهلا نصرتهم آلهتهم التي تقرّبوا بها إلى اللَّه لتشفع لهم، ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم، بل غابوا وذهبوا عنهم، ولم يحضروا لنصرتهم وعند الحاجة إليهم، وذلك الضلال والضياع سببه اتخاذهم إياها آلهة، وزعمهم الكاذب أنها تقربهم إلى اللَّه، وتشفع، وافتراؤهم وكذبهم بقولهم: إنها آلهة، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها.
وفي هذا توبيخ لأهل مكة، وتنبيه إلى أن أصنامهم لا تنفعهم شيئا، فلو نفعت لأغنت من كان قبلهم من الأمم الضالة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
٢- لقد توالت الإنذارات على عاد من نبيهم هود عليه السلام، ومن الرسل الذين كانوا قبله، وجاؤوا بعده، وتتركز في الدعوة إلى عبادة اللَّه وحده لا شريك له، وفي نبذ الشرك وعبادة الأصنام، فإن الشرك سبب لعذاب عظيم الأهوال.
٣- قاوم قوم عاد دعوة هود هذه، وقالوا له: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ فأتنا بالعذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا في أنك نبي.
٤- النبي مجرد مبلّغ رسالة ربه، فلا يعلم الغيب، لذا قال هود لهم: إنما العلم بوقت مجيء العذاب عند اللَّه، لا عندي، وما شأني إلا أن أبلغكم ما أرسلت به عن ربكم إليكم، وأراكم قوما تجهلون في سؤالكم استعجال العذاب.
٥- فوجئ قوم عاد بأمارات العذاب حينما رأوا سحابا معترضا في السماء والأفق، فظنوا أنه سحاب ممطر إياهم، مغيث لهم، ولكنه كان مشتملا على أداة العذاب، ألا وهي الريح المدمرة، فإن الريح التي عذّبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود عليه السلام من ديارهم، فكانت الريح تحمل الفسطاط، فترفعها في الجو حتى يرى كأنها جرادة، ثم تضرب بها الصخور.
٦- إن أعاصير الريح بالسرعة الهائلة دمرت كل شيء مرت عليه من رجال (عاد) وأموالها، بإذن ربها، فلم يبق إلا آثار مساكنهم، ومثل هذه العقوبة يعاقب بها المشركون والكفار في كل زمان ومكان. وما أكثر ما يسمى بالحوادث الطبيعية في هذا العصر من البراكين والزلازل والأعاصير المدمرة.
٨- لم يعذب اللَّه قوما بعذاب الاستئصال إلا بعد أن طغوا وبغوا واستكبروا في الأرض بغير الحق، وعطلوا طاقات المعرفة والهدى، ووسائل التفكير والنظر والتأمل، وإذ عطلوها لم تنفعهم شيئا من عذاب اللَّه، لأنهم كانوا يجحدون بآيات اللَّه، ويكفرون بها، فأحاط بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب الإلهي الذي أنذروا به.
٩- ضرب اللَّه مثلين واضحين لكفار مكة في هذه الآيات، المثل الأول- قوم عاد، والمثل الثاني- ما حولهم من أهل القرى، كديار ثمود وقرى لوط وبلاد مدين، مما كان يجاور بلاد الحجاز على طريق الشام، وكانت أخبارهم متواترة معروفة عندهم، وكذا أهل سبأ باليمن، وكانوا يمرون على ديارهم في رحلاتهم بالصيف والشتاء.
١٠- إن عدل اللَّه مطلق، فإنه تعالى لم يهلك أولئك الأقوام إلا بعد أن أقام لهم الحجج والدلالات، وأنواع البينات والعظات ليرجعوا عن كفرهم، فلم يفعلوا، وأصروا على الكفر والعناد.
١١- لقد بات مؤكدا لمن كان عنده أدنى نظر وتأمل أن الآلهة المزعومة من الأصنام وغيرها لم تنفع عابديها بمنع العذاب عنهم في الدنيا، فكذلك لن تنفعهم بالشفاعة لهم في الآخرة، حيث قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس ١٠/ ١٨] فإن تلك الآلهة ضلت وغابت عنهم وقت الشدة والمحنة، وهي إفكهم وكذبهم في قولهم: إنها تقربهم إلى اللَّه زلفى، وافتراؤهم بأنها آلهة، أو أن
إيمان الجن بالقرآن
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
الإعراب:
يَسْتَمِعُونَ الجملة حالية.
المفردات اللغوية:
إِذْ واذكر حين صَرَفْنا أملنا ووجهنا نحوك نَفَراً جماعة ما دون العشرة، جمع أنفار مِنَ الْجِنِّ جن نصيبين أو جن نينوى، وكانوا سبعة أو تسعة، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم- فيما رواه الشيخان- ببطن نخلة- على نحو ليلة من مكة عند منصرفه من الطائف- يصلي بأصحابه الفجر يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ورد الفعل جمعا مراعاة للمعنى فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي القرآن أو الرسول قالُوا: أَنْصِتُوا قال بعضهم لبعض: أنصتوا أي اسكتوا واستمعوا بإصغاء قُضِيَ فرغ وانتهى من قراءته، وقرئ: قُضِيَ بالبناء للمجهول، والضمير للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أي فرغ من قراءته وَلَّوْا رجعوا مُنْذِرِينَ مخوفين قومهم العذاب إن لم يؤمنوا، وكانوا يهودا ثم أسلموا.
سَمِعْنا كِتاباً هو القرآن أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى قيل: إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا،
أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الذي يدعو إلى الإيمان بالله يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ يغفر بعض ذنوبكم وهو ما يكون خالص حق اللَّه تعالى، فإن حقوق الناس ومظالم العباد لا تغفر بالإيمان، وإنما تسقط برضا أصحابها وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي يحمكم من عذاب مؤلم معدّ للكفار. قال البيضاوي: واحتج أبو حنيفة رضي اللَّه عنه باقتصارهم على المغفرة والإجارة على أن لا ثواب لهم، والأظهر أنهم في توابع التكليف كبني آدم.
فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي لا يعجز اللَّه بالهرب منه ولا يفوته وَلَيْسَ لَهُ لمن لا يجيب مِنْ دُونِهِ دون اللَّه أَوْلِياءُ أنصار يدفعون عنه العذاب أُولئِكَ الذين لم يجيبوا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ خطأ بيّن ظاهر.
سبب نزول الآية (٢٩) :
وَإِذْ صَرَفْنا: أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: إن الجن هبطوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه، قالوا:
أنصتوا، وكانوا تسعة، أحدهم زوبعة، فأنزل اللَّه تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا: أَنْصِتُوا الآية، إلى قوله:
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
المناسبة:
بعد أن بيّن اللَّه تعالى أن في الإنس من آمن، وفيهم من كفر، أردفه هنا ببيان أن الجن أيضا فيهم من آمن وفيهم من كفر، وأن مؤمنهم معرّض للثواب، وكافرهم معرّض للعقاب، وأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسل إلى الإنس والجن معا.
والملائكة والجن عالمان غيبيان غير مرئيين، يجب أن يؤمن المسلم بهما، كما يجب أن يؤمن بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تلقى الوحي من طريق الملائكة، وأنه بلّغ رسالته إلى الجن فبشّرهم وأنذرهم، أما كيفية التلقي والتبليغ فغير معروفة لدينا إلا بطريق الأخبار الدينية السمعية النقلية، ولا مجال للعقل في ذلك.
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا: أَنْصِتُوا، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي واذكر أيها النبي لقومك حين وجهنا إليك يا محمدا نفرا من الجن، وبعثناهم إليك، لهداية قومهم، فلما حضروا القرآن عند تلاوته، أمروا بعضهم بعضا بالإنصات والإصغاء لكي يسمعوا سماع تدبر وتأمل وإمعان، وكان ذلك ببطن نخلة على بعد ليلة من مكة على طريق الطائف، وكانوا من أشراف جنّ نصيبين أو من نينوى بالموصل، بعد عودة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الطائف حينما خرج يدعوهم إلى الإسلام.
فلما فرغ من تلاوة القرآن في صلاة الفجر، رجعوا قاصدين إلى قومهم، مخوفين إياهم من مخالفة القرآن، ومحذرين لهم من عذاب اللَّه.
والآية دالة على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مرسلا إلى الجن والإنس ودلت روايات السنة على أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة في الليلة الأولى، وإنما استمعوا قراءته، ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا، قوما بعد قوم، وفوجا بعد فوج.
من تلك الروايات الدالة على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يشعر بحضورهم: ما ذكر سابقا عن ابن مسعود في سبب النزول، ومنها
ما رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي، فيسمعون الكلمة، فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوا حقا، وما زادوا باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبثّ جنوده، فإذا بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض.
ما رواه البخاري ومسلم عن مسروق قال: «سألت ابن مسعود، من آذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجن ليلة استمعوا القرآن قال: آذنته بهم الشجرة»
فهو مؤيد لما سبق، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة، أي أعلمته باجتماعهم.
وهناك روايات كثيرة دالة على لقاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجن وتبليغهم رسالته وتلاوة القرآن عليهم «١»، منها
ما أخرجه أحمد ومسلم في صحيحة عن علقمة قال: قلت لعبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه: هل صحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة، فقلنا:
اغتيل؟! استطير؟! ما فعل؟ قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح- أو قال: في السحر- إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا:
يا رسول اللَّه، فذكروا له الذي كانوا فيه، فقال: «إنه أتاني داعي الجن، فأتيتهم، فقرأت عليهم القرآن» فانطلق، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.
وفي رواية عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «بت الليلة أقرأ على الجن واقفا بالحجون».
وسورة الجن قاطعة الدلالة على استماع الجن القرآن ومطلعها: قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، فَآمَنَّا بِهِ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [١- ٢].
وقال اللَّه تعالى هنا:
قالُوا: يا قَوْمَنا، إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ قالت الجن: يا قومنا الجن: إنا سمعنا كتابا أنزله اللَّه من بعد توراة موسى، مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة على
ولم يذكروا عيسى عليه السلام إما لأنه كما قال عطاء: كانوا يهودا فأسلموا، وإما لأن عيسى أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ ورقائق أدبية إنسانية، وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، فالعمدة في التشريع لليهود والنصارى على السواء هو التوراة، فلهذا قالوا: أنزل من بعد موسى.
وهكذا
قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقصة بدء نزول الوحي عليه ونزول جبريل عليه السلام أول مرة، فقال: «هذا الناموس «١» الذي نزّل اللَّه على موسى، يا ليتني فيها جذعا «٢» إذ يخرجك قومك».
والخلاصة: أنهم خصوا التوراة، لأنها مصدر الشرائع والأحكام في الماضي، ولأنها متفق عليها عند أهل الكتاب.
يا قَوْمَنا، أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي يا قومنا الجن، أجيبوا رسول اللَّه خاتم النبيين أو القرآن إلى توحيد اللَّه وعبادته وطاعته، يغفر لكم بعض ذنوبكم التي هي من حقوق اللَّه، أما حقوق العباد فلا تسقط إلا بتنازل أصحابها عنها، وكذلك يحميكم ويقيكم وينقذكم من عذاب موجع مؤلم هو عذاب النار، ويدخل المؤمن منكم الجنة، لقوله تعالى:
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن ٥٥/ ٤٦- ٤٧].
وفي الآية دلالة واضحة على أن اللَّه تعالى أرسل محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الثقلين: الجن والإنس، حيث دعاهم إلى اللَّه تعالى، وقرأ عليهم سورة الرحمن التي فيها خطاب
(٢) أي شابا جلدا قويا.
ولا فرق في الثواب والعقاب والأوامر والنواهي واستحقاق الجنة والنار بين الإنس والجن، لأن التكليف واحد، ولأن عموم آيات خطاب الفريقين يشمل كلا منهما، فلا يصح ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما يجأرون فقط من عذاب النار يوم القيامة. ومما يدل على ذلك أيضا عموم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف ١٨/ ١٠٧].
ثم حذروا قومهم من المخالفة، فقالوا:
وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ، فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ومن لا يجب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى التوحيد وطاعة اللَّه، فلا يفوت اللَّه ولا يسبقه، ولا يفلت منه، ولا يقدر على الهرب منه، لأنه في أرض اللَّه، وليس له من غير اللَّه أنصار ينصرونه ويمنعونه من عذاب اللَّه، أولئك الذين لا يجيبون داعي اللَّه في خطأ ظاهر واضح.
وهذا تهديد ووعيد، وبذلك جمعوا على وفق نهج القرآن بين الترغيب والترهيب، ولهذا جاؤوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفودا وفودا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن المقصود من الآيات توبيخ مشركي قريش على عدم إيمانهم، فإن الجن سمعوا القرآن، فآمنوا به، وعلموا أنه من عند اللَّه، فما بالكم أيها المشركون وأمثالكم تعرضون وتصرون على الكفر؟! ٢- وهناك قصد آخر وهو تسلية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عما يلقاه من صدود قومه عن
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
٣- وفي عودته صلّى اللَّه عليه وسلّم من الطائف حينما كان يصلي الفجر أو قيام الليل في موضع يسمى «نخلة» من ضواحي مكة، جاءه وفد من الجن سبعة أو تسعة من جن نصيبين أو من نينوى بالموصل، فاستمعوا إلى تلاوته القرآن، وهو لا يشعر بهم، فكانت هذه الآيات تطييبا لخاطره، وشد عزيمته وتقوية روحه.
٤- كان أدب الجن عظيما حين سماعهم القرآن، فينبغي التأسي بهم، فإنهم لما حضروا القرآن واستماعه أو حضروا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال بعضهم لبعض: اسكتوا لاستماع القرآن، فلما فرغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من تلاوة القرآن، انصرفوا قاصدين من وراءهم من قومهم من الجنّ، منذرين لهم مخالفة القرآن، ومحذّرين إياهم بأس اللَّه إن لم يؤمنوا.
٥- دلت هذه القصة على أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسل مبعوث إلى الإنس والجن معا، وعلى أنهم آمنوا به، وأنه بعد علمه بهم، أرسلهم في الليلة الثانية إلى قومهم،
٦- لقد وصفوا القرآن بوصفين:
الأول- كونه مصدقا لما بين يديه، أي مصدقا لكتب الأنبياء المشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد والأمر بمحاسن الأخلاق.
الثاني- قوله: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى دين الحق، ودين اللَّه القويم.
وهذا يدل على أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان مبعوثا إلى الجنّ والإنس، قال مقاتل: ولم يبعث اللَّه نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم.
ويؤكد عموم دعوته ما
في صحيح مسلم عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا، فأيّما رجل أدركته الصلاة صلّى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة».
قال مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والإنس.
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة: «وبعثت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون».
٧- أمر الجن قومهم بإجابة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في كل ما أمر به، ومنه الأمر بالإيمان، فإن آمنتم بالداعي، وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم يغفر لكم بعض ذنوبكم، وينقذكم من عذاب مؤلم موجع. قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم سبعون رجلا، فرجعوا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوافقوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن، وأمرهم ونهاهم.
٨- دلت هذه الآي على أن الجن كالإنس في الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقال الحسن البصري: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، وكذا قال أبو حنيفة، ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم:
كونوا ترابا مثل البهائم. وقد أجبت عن هذا في تفسير الآيات، لذا ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك إلى أن الجن كما يعاقبون في الإساءة، يجازون في الإحسان مثل الإنس. قال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند اللَّه. وقال القرطبي: قوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام ٦/ ١٣٢] يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة، لأنه قال في أول الآية: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
[الأنعام ٦/ ١٣٠] إلى أن قال: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا «١». وقال النيسابوري: «والصحيح أنهم في حكم بني آدم، يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون» «٢».
٩- إن من لا يجيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ليس بمعجز لله في الأرض فلا يفوته ولا يسبقه ولا يهرب منه، وليس له من دون اللَّه أنصار يمنعونه من عذاب اللَّه، وهو من الضالين المخطئين في ضلال واضح.
(٢) غرائب القرآن: ٢٦/ ١٧
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
الإعراب:
بِقادِرٍ: دخلت الباء لدخول حرف النفي في أول الكلام، فهو في قوة أليس اللَّه بقادر، كما دخلت في قوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة ٢/ ١٠٥] وقادر: خبر أَنَّ.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. يَوْمَ: منصوب بتقدير فعل، أي واذكر يوم يعرض.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ فيه محذوف تقديره:
فإنهم لم يلبثوا يوم يرون ما يوعدون إلا ساعة من نهار، فيوم: منصوب ب يَلْبَثُوا.
وبَلاغٌ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا بلاغ، فحذف المبتدأ للعلم به، ويجوز فيه النصب لوجهين:
أحدهما- على أنه مصدر.
والثاني- على الوصف لساعة.
أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا، أي يعلم منكرو البعث يَعْيَ يعجز عنه ويضعف بَلى هو قادر على إحياء الموتى، والفرق بين بلى ونعم أن بَلى جواب للنفي بإبطاله وتقرير نقيضه، أي فهي لإثبات النقيض، ونعم لتقرير ما قبلها. وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ بأن يعذبوا في النار أَلَيْسَ هذا أي يقال لهم: أليس هذا التعذيب أو العذاب؟.
فَاصْبِرْ على أذى قومك أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أصحاب الثبات والحزم والجد والصبر، فإنك من جملتهم، ومِنَ في قوله مِنَ الرُّسُلِ للبيان، فكلهم ذوو عزم، وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات اللَّه وسلامه عليهم، فإنهم أصحاب الشرائع الكبرى الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاقها، ومعاداة الطاعنين فيها وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ لقومك نزول العذاب بهم، فإنه نازل بهم في وقته لا محالة كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب في الآخرة، لطوله لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ لم يقيموا في الدنيا في ظنهم إلا مقدار ساعة، لشدة ما يرون من أهوال بَلاغٌ أي هذا القرآن أو السورة أو الذي وعظتهم به تبليغ من اللَّه إليكم فَهَلْ يُهْلَكُ أي لا يهلك عند رؤية العذاب إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي الكافرون الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة.
المناسبة:
بعد إثبات وجود الإله القادر الحكيم المختار في أول السورة، وإبطال قول عبدة الأصنام، وإثبات النبوة، ومناقشة المشركين في عقائدهم الباطلة ورد شبهاتهم، وتوبيخهم على عدم إيمانهم مع أن الجن آمنوا بالقرآن، بعد هذا أثبت اللَّه تعالى مسألة المعاد، لأن المشركين كانوا ينكرونها، فتكون أغراض السورة المكية قد تحققت، وهي إثبات التوحيد والنبوة والبعث، ثم ذكر بعض أحوال الكفار في الآخرة.
ثم سلّى اللَّه نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأمره بالصبر في دعوته، كصبر الأنبياء أولي العزم قبله، لتبليغ ما أمروا بأدائه، وعدم استعجال العذاب لهم، وذلك تعليم لنا ودرس وعظة بليغة.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي أو لم يتفكر ويعلم هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة، المستبعدون لإعادة الحياة في الأجسام مرة أخرى، أن الذي خلق الكون من السموات والأرض في ابتداء الأمر، ولم يعجز عن ذلك ولم يضعف عن خلقهن، بل قال لها: كوني فكانت، بقادر على أن يحيي الموتى من قبورهم مرة أخرى، كما قال تعالى في آية أخرى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر ٤٠/ ٥٧].
وبما أن الجواب معروف بداهة، أجاب اللَّه تعالى عن ذلك بقوله: بلى أي بل هو قادر على ذلك كله، إنه سبحانه قادر على أي شيء أراد خلقه، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وبعد إثبات البعث ذكر تعالى بعض أحوال الكفار يوم القيامة، فقال:
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا: بَلى وَرَبِّنا أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم يعذب الكافرون بالله في النار، ويقال لهم توبيخا وتأنيبا: أليس هذا العذاب الذي تعذبونه حقا وعدلا وواقعا لا شك فيه؟ فيقولون معترفين حيث لا ينفعهم الاعتراف: بلى واللَّه ربنا إنه لحق، أي إنه لا يسعهم إلا الاعتراف.
قالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي قال اللَّه على سبيل الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار بسبب كفركم به في الدنيا وإنكاركم له.
وبعد تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجواب عن شبهات المشركين، أمر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصبر على تكذيب قومه قائلا:
روى ابن أبي حاتم والديلمي عن مسروق قال: قالت لي عائشة رضي اللَّه عنها: ظل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صائما، ثم طواه- أي ظل في يومه لا يأكل ولا يشرب- ثم ظل صائما ثم طواه، ثم ظل صائما، ثم قال: «يا عائشة، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد، ولا لآل محمد، يا عائشة، إن اللَّه تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وإني واللَّه لأصبرن كما صبروا، جهدي، ولا قوة إلا بالله».
ونظير لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ، وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل ٧٣/ ١١] وقوله سبحانه: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق ٨٦/ ١٧].
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ؟ أي كأن الكافرين حين يشاهدون ما أوعدهم اللَّه به من العذاب، لم يمكثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من ساعات الأيام، لما يشاهدونه من الأهوال العظام، كما قال تعالى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٢- ١١٣] وقال عز وجل:
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات ٧٩/ ٤٦].
وهذا القرآن الذي وعظهم به اللَّه تعالى والنبي: تبليغ كاف يقطع حجة
بمعنى التبليغ.
ولا يهلك بعذاب اللَّه إلا القوم الخارجون عن الطاعة، والواقعون في معاصي اللَّه، فلا يهلك على اللَّه إلا هالك مشرك، وهذا من عدل اللَّه تعالى ألا يعذب إلا من يستحق العذاب. وهذه الآية أقوى آية في الرجاء.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- دلت الآية الأولى: أَوَلَمْ يَرَوْا على كونه تعالى قادرا على البعث، لأنه خلق السموات والأرض، ولا شك أن خلقها أعظم من إعادة الشخص حيا بعد أن صار ميتا، والقادر على الأقوى الأكمل، لا بد من أن يكون قادرا على الأقل والأضعف.
ثم إن اللَّه تعالى قادر على كل شيء، وتعلق الروح بالجسد أمر ممكن، إذ لو لم يكن ممكنا لما وقع أولا، واللَّه تعالى قادر على كل الممكنات، فوجب كونه قادرا على تلك الإعادة.
٢- ذكر اللَّه تعالى الكفار حين تعذيبهم بالنار، حيث يقال لهم توبيخا وتهكما على استهزائهم بوعد اللَّه ووعيده: أليس هذا العذاب حقا؟ فذوقوا العذاب بكفركم.
٣- أمر اللَّه نبيه والمؤمنين بالصبر في تبليغ الدعوة ومشاق الحياة، كصبر أصحاب الشرائع الكبرى: وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. وسبب هذا الأمر: أن الكفار كانوا يؤذون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وفي قول آخر: إن كل الرسل أولو عزم، ولم يبعث اللَّه رسولا إلا إذا كان ذا عزم وحزم، ورأي وكمال وعقل، فتكون كلمة من للتبيين لا للتبعيض.
وفي قول: كل الأنبياء أولو عزم إلا يونس بن متّى، لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نهي أن يكون مثله، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولّى مغاضبا لقومه.
وهل الأمر بالصبر منسوخ؟ قال بعض المفسرين: الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة، قال القرطبي: والأظهر أنها منسوخة، لأن السورة مكية. وذكر مقاتل: أن هذه الآية نزلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد، فأمره اللَّه عز وجل أن يصبر على ما أصابه، كما صبر أولو العزم من الرسل، تسهيلا عليه وتثبيتا له.
والراجح لدي أنها غير منسوخة، لأن فضيلة الصبر ذات قيمة أدبية رفيعة، ومبدأ أخلاقي ضروري وسام في كل وقت، ومثل هذا لا يصلح للنسخ. والصبر لا يمنع الجهاد ورد العدوان وقتال الأعداء من المشركين وغيرهم، فهو أمر مطلوب في السلم والحرب.
٤- أمر اللَّه نبيه والمؤمنين أيضا من بعده بعدم الاستعجال في الدعاء على الكفار، فلكل شيء أو ان بعلم اللَّه وحكمته، والعذاب منهم قريب، وأنه نازل بهم لا محالة، وإن تأخر. والسنة في الدعاء طلب الوقاية من السوء والأذى،
أخرج الطبراني عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يدعو: «اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل برّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا همّا إلا فرّجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين».
٦- في القرآن والسنة البلاغ والكفاية في إنذار الناس من العذاب، وتحذيرهم من العقاب بسبب الكفر والعصيان.
٧- من عدل اللَّه ورحمته ألا يعذب إلا من فسق بأن خرج من طاعة اللَّه تعالى، ولم يعمل بأمره ونهيه.
قال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها، تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة، ثم تغسل وتسقى منها، وهي: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، لا إله إلا العظيم: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات ٧٩/ ٤٦].
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ صدق اللَّه العظيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة محمّد عليه الصلاة والسلاممدنيّة، وهي ثمان وثلاثون آية.
تسميتها:
سميت سورة محمد، لبيان تنزيل القرآن فيها على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ [٢]. ولم يذكر محمد باسمه في القرآن إلا أربع مرات، في سورة آل عمران: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [١٤٤] وفي سورة الأحزاب: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [٤٠] وهنا في هذه السورة، وفي سورة الفتح: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [٢٩]. وأما في غير هذه المواضع الأربعة فيذكر بصفة الرسول أو النبي.
وسميت أيضا سورة القتال، لبيان أحكام قتال الكفار فيها في أثناء المعارك وبعد انتهائها: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [٤].
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة يرتبط أولها ارتباطا قويا بآخر سورة الأحقاف: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ حتى إنه لو أسقطت البسملة بينهما، لكان الكلام متصلا مباشرة بما قبله اتصالا لا تنافر فيه، كالآية الواحدة.
ما اشتملت عليه السورة:
يمكن أن يوصف موضوع هذه السورة بأنه الجهاد في سبيل اللَّه، وبما أن
بدأت السورة مباشرة وبما يلفت النظر بالحديث عن الكفار أعداء اللَّه والرسول، وإظهار غضب اللَّه عليهم، وأردفت ذلك بوصف المؤمنين وبيان رضا اللَّه عليهم، لإظهار الفرق الواضح بين الفريقين: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ.
ثم أمرت المؤمنين بقتال الكافرين قتالا عنيفا لا هوادة فيه، لأنهم كفروا واتبعوا الباطل، وبشّرت المؤمنين بالنصر إن نصروا دين اللَّه وصبروا في مواجهة الأعداء، وأبانت خذلان الكافرين لكراهيتهم ما أنزل اللَّه، وفي هذا تعريف بجزاء المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة.
ثم عنيت بضرب الأمثال لكفار مكة وأمثالهم بالطغاة السابقين وكيفية تدميرهم بسبب طغيانهم: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا...
ووصفت بعدئذ ألوان نعيم الجنة المعدة للمتقين للترغيب والإقبال على الإيمان والطاعة.
وانتقل البيان إلى وصف المنافقين والمرتدين ووعدهم وتهديدهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ.. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ إلى آخر السورة. وذكرت في ثنايا ذلك أن الكافرين الصادّين عن سبيل اللَّه والمعادين للرسول لن يضروا اللَّه شيئا وسيحبط أعمالهم، ولن يغفر اللَّه لهم، وذكّرت بوجوب طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وختمت السورة بما يناسب موضوعها الأصلي وهو الجهاد في سبيل اللَّه، فدعت المؤمنين إلى تحقيق العزة والكرامة، وتجنب الضعف والوهن والمسالة