ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
١ - ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ الآية. قال المفسرون (١): نزلت هذه الآيات من أول هذه السورة في خولة بنت ثعلبة (٢)، وزوجها أوس بن الصامت (٣)، وكان به لمم (٤)، فاشتد به لممه ذات يوم فظاهر منها ثم ندم على ذلك -وكان الظهار طلاقًا في الجاهلية- (٥) وقال لها: ما أراكانظر: "تنوير المقباس" ٦/ ٤، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٧، و"جامع البيان" ٢٨/ ٢، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٣٣، و"زاد المسير" ٨/ ١٨٠، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١٨.
(٢) خولة بنت ثعلبة بن أصرم الأنصارية الخزرجية. ويقال لها: خويلة، بالتصغير، لها وقفة مع عمر بن الخطاب؟ في خلافته تناصحه وتذكره وتعظه، وقد سمع منها -رضي الله عنهما- حتى انتهت من كلامها. انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد ٨/ ٣٧٨، و"الإصابة" ١٢/ ٢٣١، و"التقريب" ٢/ ٥٩٦.
(٣) أوس بن الصامت الأنصاري الخزرجي، شهد بدرًا، وأحدًا، والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات في خلافة عثمان وله خمس وثمانون. انظر: "الطبقات الكبرى" ٣/ ٥٤٧، و"الإصابة" ١/ ٢٢٠، و"التقريب" ١/ ٨٥.
(٤) ليس المراد باللمم هنا الخبل والجنون، إذ لو كان كذلك ثم ظاهر في تلك الحال لم يكن يلزمه شيء، وإنما المراد به الإلمام بالنساء، وشدة الحرص والتوقان إليهن. انظر: "اللسان" ٣/ ٢٩٧ (لمم)، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٩.
(٥) انظر: "المغني" ١٠/ ٤٠٠، و"فتح الباري" ٩/ ٤٣٢، و"نيل الأوطار" ٦/ ٢٢٠، و"الفقه على المذاهب الأربعة" ٤/ ٤٩.
قوله تعالى: ﴿قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ أي: تجادلك في قول زوجها وكلامه، وهي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كلما قال لها: "حرمتِ عليه"؛ قالت: والله ما ذكر طلاقًا، فكان هذا مجادلتها النبي -صلى الله عليه وسلم- في زوجها.
قوله تعالى: ﴿وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ يعني قولها: أشكو إلى الله فاقتي
(٢) رواه الإمام أحمد في "مسنده" ٦/ ٤١٠، وابن ماجه في "سننه" المقدمة، باب: فيما أنكرت الجهمية (١١٨)، والحاكم ٢/ ٤١١، وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، والواحدي في "أسباب النزول" ص ٤٧١، وذكره الوادعي في "الصحيح المسند من أسباب النزول" ص ١٤٩، قلت: المؤلف كما هي عادته -رحمه الله - يذكر الأحاديث والأقوال بالمعنى، ولهذا قل أن تجد حديثًا أو قولاً يخرج عن هذا، والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ أي تخاطبكما ومراجعتكما الكلام. والتحاور والمحاورة: مراجعة الكلام في المخاطبة، يقال: حاور فلانًا في المنطق، وأحرت إليه جوابًا، وكلمته فما أحار بكلمة، أي: ما أجاب. والحوير اسم من المحاورة. تقول: سمعت حويرهما وحوارهما (١).
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ قال ابن عباس: سميع لمن يناجيه ويتضرع إليه.
﴿بَصِيرٌ﴾ بمن يشكو إليه (٢).
٢ - ثم ذم الظهار والمظاهر فقال: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ أي: يقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا، وذكرنا القراءات واللغات في (تظاهرون) في ابتداء سورة الأحزاب (٣).
(٢) لم أجده عن ابن عباس، أو غيره. وانظر: "الوسيط" ٤/ ٢٥٩.
(٣) عند تفسيره الآية (٤) من سورة الأحزاب. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب ﴿تَظَاهِرُونَ﴾ بفتح التاء وتشديد الهاء والظاء، بلا ألف، وكذا هنا في المجادلة، وقرأ عاصم بضم التاء، وفتح الظاء، وألف بعدها، وكسر الهاء مخففة. وقرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر، وخلف، وأبو جعفر بفتح الياء وتشديد الظاء بعدها ألف مع فتح الهاء مخففة. وفي لأحزاب قرأ حمزة، والكسائي، وخلف بفتح التاء، والهاء، وتخفيف الظاء، وألف بعدها. وقرأ ابن عامر في الأحزاب بضم التاء، وتشديد الظاء، وألف بعدها، وكسر الهاء مع تخفيفها. "حجة القراءات" ص ٧٠٣، و"النشر" ٢/ ٣٤٧، و"الإتحاف" ص ٣٥٣.
ويزعم حسل أنه فرع قومه | وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل (٢) |
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٣٩، و"الإنصاف في مسائل الخلاف" ٢/ ٦٩٤، ولم أجد البيت منسوبًا لقائل، والشاهد في قوله:
وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل
فإنه أهمل (ما)، فلم يرفع بها الاسم وينصب الخبر على لغة تميم.
(٣) انظر: "الكشاف" ٤/ ٧١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٧٩، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٣٢، وذكر أبو زرعة وجه قراءة الرفع دون ذكر خلاف في القراءة. انظر: "حجة القراءات": ٣٧٠.
(٤) انظر: "الكتاب" ١/ ٢٩، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٧٩.
قوله تعالى: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ مضى الكلام في: ﴿اللَّائِي﴾ في سورة الأحزاب عند قوله: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي﴾ الآية (٢). والمعنى: ما أمهاتهم إلا الوالدات ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ يعني المظاهرين ﴿لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ﴾ قال ابن عباس: فظيعًا (٣).
وقال مقاتل: لا يعرف ذلك في الشرع ﴿وَزُورًا﴾ كذبًا (٤).
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ عفا عنهم وغفر لهم بجعله الكفارة عليهم.
٣ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾، (الذين) رفع بالابتداء، وخبرهم: فعليهم تحرير رقبة، ولم يذكر عليهم لأن (٥) في الكلام دليلاً عليه. قاله الزجاج، وقال: وإن شئت أضمرت فكفارتهم تحرير رقبة (٦).
(٢) من الآية (٤) من سورة الأحزاب، حيث قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف (اللائي) بإثبات ياء ساكنة بغير الهمزة. وقرأ الباقون (اللاي) بغير مد ولا همز. انظر: "حجة القراءات" ص ٥٧١، و"النشر" ١/ ٤٠٤، و"الإتحاف" ص ٤١٢.
(٣) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٧٩، ولم ينسبه لقائل. وفي "تنوير المقباس" ٦/ ٦، قال: (قبيحًا).
(٤) "تفسير مقاتل" ١٤٤ ب، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٧٩.
(٥) في (ك): (لأنه) والصواب ما أثبته.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٣٤.
قال صاحب النظم: ليس قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي. مأخوذًا من الظهر الذي هو عضو من الجسد، لأنه لو كان المراد بهذا القول الظهر بعينه لم يكن الظهر أولى من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعة والتلذذ، والظهر هاهنا مأخوذ من العلو، ومنه قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ﴾ [الكهف: ٩٧]، أي يعلوه، وكل من علا شيئًا فقد ظهره، وبه سمي المركوب ظهرًا، لأن راكبه يعلوه، وكذلك امرأة الرجل ظهره، لأنه يعلوها بذلك البضع وإن لم يكن من ناحية الظهر، وكأن امرأة الرجل للرجل مركب وظهر، ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق: نزلت عن امرأتي، أي: طلقتها، وفي قولهم: أنت عليّ كظهر أمي حذف وإضمار؛ لأن تأويله: ظهرك عليّ، أي: ملكي إياك وعلوي حرام كما علوي أمي وملكها حرام عليّ (٢).
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ أكثر الاختلاف في معنى العود المذكور هاهنا، فمذهب الشافعي -رحمه الله- أن معنى العود لما قالوا: السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلق فيه، وذلك أنه إذا ظاهر فقد قصد التحريم، فإن وصل ذلك بالطلاق، فقد جرى على ما ابتدأه من إيقاع التحريم وأتمه، ولا كفارة عليه، وإذا سكت عن الطلاق فذلك للندم منه على ما ابتدأ به من التحريم فهو عود إلى ما كان عليه، فحينئذٍ
(٢) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٥١، و"غرائب القرآن" ٢٩/ ٨.
وقال الفراء: يعودون لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا. معناه: يرجعون عما قالوا، قال: ويجوز في العربية أن تقود: عاد لما فعل، أي: فعله مرة أخري، ويجوز عاد لما فعل. أي: نقض ما فعل (٣).
وهذا الذي قاله الفراء يبين صحة ما ذهب إليه الشافعي، لأن المعنى عنده: ثم يعودون لما قالوا بالنقض، وهو السكوت عن الطلاق، وعلى هذا ﴿مَا قَالُوا﴾ لفظ الظهار، ويجوز أن يكون معنى ﴿مَا قَالُوا﴾ المقول فيه. والمقول فيه هو النساء، وما قالوا والمقالة والقول واحد في المعنى. و (ما) هاهنا للمصدر والمفعول يسمى بالمصدر كثيرًا كقولهم: ضرب الأمير، ونسج اليمن. هذا الذي ذكرنا بيان مذهب الشافعي في هذه الآية (٤).
وقال قتادة: فمن حرمها ثم يريد أن يعود لها يطأها ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ (٥) وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل العراق. قالوا: معنى العود: هو العزم على الوطء، فإذا عزم على وطئها ونوى أن يغشاها كان عودًا ويلزمه الكفارة (٦).
(٢) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٥، و"روح المعاني" ٢٨/ ٧.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٣٩.
(٤) انظر: "الأم" ٥/ ٢٦٥، وما بعدها، و"المجموع" ١٧/ ٣٦٢.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٧، و"الكشف والببان" ١٢/ ٧٧ أ.
(٦) انظر: "البحر الرائق" ٤/ ٩٧، و"تبيبن الحقائق شرح كنوز الدقائق" ٣/ ٣، و"أحكام القرآن" لابن العربي ٤/ ١٧٥٢.
﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ قال: الغشيان في الفرج، ونحو ذلك قال طاووس، والزهري. قالا: الوطء، وإلى هذا ذهب مالك. فقال: إن وطئها كان عودًا (٢).
قال أصحابنا: العود المذكور هاهنا صالح للجماع كما قال مالك، وللعزم على الجماع كما (٣) قال أهل العراق، ولترك الطلاق كما قال الشافعي (٤)، وهو أول ما ينطلق عليه اسم العود، فيجب تعليق الحكم به، لأنه الظاهر، وما زاد عليه يعرف بدليل آخر (٥).
وقال أبو العالية: إذا كرر اللفظ بالظهار كان عودًا، وإن لم يكرر لم يكن عودًا (٦)، وإلى هذا ذهب أهل الظاهر، فجعلوا العود تكرير لفظ الظهار، واحتجوا بأن ظاهر قوله: ﴿يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ يدل على إعادة لفظ الظهار مرة أخرى (٧).
(٢) انظر: "أحكام القرآن" للجصاص ٣/ ٤١٨، و"المغني" ١١/ ٧٣، و"المحلى" ١٠/ ٥١، قال صح ذلك عن طاوس وقتادة، والحسن، والزهري، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٨٠، و"الفروع" لابن مفلح ٥/ ٤٩٤.
(٣) (كما) ساقطة من (ك).
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٥٧.
(٥) وقال الإمام أحمد: العود الغشيان إذ أراد أن يغشى كفر. "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" ٢/ ٣٩٦، والعود عند مالك هو العزم على الوطء.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٧، و"الكشف" ١٢/ ٧٧ أ، و"الجامع" ١٧/ ٢٨.
(٧) انظر: "المحلى" ١٠/ ٥١ - ٥٢، و"المغني" ١١/ ٧٤، و"أحكام القرآن" للجصاص ٣/ ٤١٦.
أحدهما: أن يصير إلى شيء قد كان عليه قبل فتركه ثم صار إليه.
والآخر: أن يصير إلى شيء وان لم يكن على ذلك قبل.
وكأن هذا الوجع غمض عليهم، وهذا عند من خوطب بالقرآن، كالوجه الأول في الظهور. وفي أنهم يعرفونه كما يعرفون ذلك، فمن ذلك قول الهذلي (١):
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل... سوى الحق شيئًا فاستراح العواذل
معناه: وصار، وكذلك قول العجاج:
ويصحبني حتى كاد... يعود بعد أعظم أعوادًا
وقال امرئ القيس:
وماء كون الزيت قد عاد آجنًا... قليل به الأصوات ذي كلإ مخلي (٢)
وسميت الآخرة المعاد ولم يكن فيها أحد، ثم صار إليها. وهذا إذا تتبع كثير جدًّا (٣).
قال أبو إسحاق -وذكر هذا المذهب فقال-: قال بعض الناس: لا
(٢) انظر: "الديوان": ٤١٣، و"الخزانة" ٥/ ١٢١، و"تهذيب اللغة" ٧/ ٣١.
(٣) انظر: "مشكل إعراب القرآن" ٢/ ٧٢٢.
وأما أهل المعاني فإن أبا الحسن الأخفش قال: تقدير الآية: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم (٢). أي: فعليهم تحرير رقبة لما قالوا، أي: لما نطقوا به من ذكر التحريم الموجب الامتناع من الوطء إلا بعد التكفير، والجار في قوله: ﴿لِمَا قَالُوا﴾ متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم.
وقوله: ﴿يَعُودُونَ﴾ أي: إلى نسائهم، يعني: إلى وطئهن الذي كانوا حرموه على أنفسهم بالظهار منهن، وأما التقديم والتأخير الذي قدره في الآية فهو كثير جدًا كقوله: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا﴾ [النمل: ٢٨] الآية. والمعنى: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم. هذا قول الأخفش. وشرحه أبو علي (٣).
قال أبو إسحاق: وهذا مذهب حسن (٤)، وقال ابن قتيبة: أجمع الناس على أن الظهار (٥) يقع بلفظ واحد، وتأويل قوله: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ هو أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ
(٢) انظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٧٠٥، وذِكرُ المؤلف له هنا بالمعنى.
(٣) انظر: "شرح الأبيات المشكلة الأعراب" لأبي علي الفارسي ١/ ١٠٠ - ١٠٢.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٣٥.
(٥) في (ك): (الظاهر).
قوله تعالى ﴿لِمَا قَالُوا﴾ قال الأخفش: لما قالوا، وإلى ما قالوا واحد، يقال: عدت إلى ذاك، وعدت لذاك (٣)، قال أبو علي: إلى واللام يتعاقبان (٤) كقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: ٤٣] وقال: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٢٣] وقال: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٥]. وقال: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ﴾ [هود: ٣٦].
قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ قالوا أراد رقبة مؤمنة؛ لأنه قيد في كفارة
(٢) وبه قال الثوري -رحمه الله- ذكره الرازي في "تفسيره" ٢٩/ ٢٥٧، ثم قال: وهذا القول ضعيف، لأنه تعالى ذكر الظهار، وذكر العود بعده بكلمة (ثم) وهذا يقتضي أن يكون المراد من العود شيئًا غير الظهار، فإن قالوا: المراد والذين كانوا يظاهرون من نسائهم قبل الإسلام والعرب تضمر لفظ كاند.. قلنا: الإضمار خلاف الأصل. وانظر: "غرائب القرآن" ٢٨/ ١٣.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٣٩، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٧٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٨٢، وليس في "معاني القرآن" للأخفش.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٥٦، و"غرائب القرآن" ٢٨/ ١١.
قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ أي: يجامعا، وذكر الكلام في هذا عند قوله: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ (٣) فلا يجوز للمظاهر أن يطأها قبل التكفير، وإنما قيل ﴿قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ بعد قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ﴾ لأن المراد به الزوجان، فعاد الكلام إليهما؛ لأن الجماع بينهما، والظهار يختص به الرجال، فأخبر عن الرجال أولاً، فلما انتهى الكلام إلى ذكر المسببين عاد إلى الزوجين لما ذكرنا.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ﴾ قال أبو إسحاق: المعنى ذلك التغليظ في الكفارة توعظون به (٤). أي: تؤمرون به من الكفارة ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من التكفير وتركه ﴿خَبِيرٌ﴾.
٤ - ثم ذكر حكم العاجز عن الرقبة فقال: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ أي الرقبة ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ أي فكفارته، أو فعليه صيام شهرين ﴿مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ﴾ الصيام فكفارته إطعام ﴿سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾.
وهذه الأنواع من الكفارات كلها قبل المسيس، فإن جامع قبلها أتى محرمًا ويكون قد أخر الكفارة عن وقتها إلى غير وقتها، ثم يأتي بها على وجه
(٢) وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد في رواية. انظر: "أحكام القرآن" للجصاص ٣/ ٤٣٥، و"المغني" ١١/ ٨١، و"الأم" ٥/ ٢٦٦.
(٣) عند تفسيره الآية (٢٣٧) من سورة البقرة. وانظر: "المفردات" ص ٤٦٧، و"اللسان" ٣/ ٤٨٣ (مس).
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٣٥.
وذكر الله الكفارة بالعتق، والصيام، فنص فيها على ما قبل الجماع بقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾، ولم يذكر في الإطعام أنه قبل التماس، وذلك أنه لما ذكر في الإعتاق وانه قبل التماس ألحق به الإطعام، لأن زمانهما لا يطول، وأعاد في الكفارة بالصوم أنها قبل التماس، لأنه بخلاف الإعتاق، ولطول مدة الصوم فلم يمكن أن يلحق الصيام بالإعتاق في أنه قبل المسيس لو لم يذكر ذلك لمخالفتهما في طول المدة وقصرها (٣).
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ قال أبو إسحاق: ذلك في موضع رفع. المعنى: الفرض ذلك الذي وصفنا ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، لتصدقوا ما أتى به الرسول، وتصدقوا أن الله أمر به (٤).
وقال صاحب النظم: المعنى فعلنا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله (٥)؛ لأن هذه اللام تقتضي سببًا تكون هي وما بعدها جوابا له.
﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ يعني ما وصف من الكفارة في الظهار.
قوله تعالى: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قال ابن عباس: لمن جحد هذا وكذب به (٦).
(٢) راجع تفصيل هذه المسألة في: "الأم" ٥/ ٢٦٥، و"المجموع" ١٧/ ٣٦٦، و"شرح فتح القدير" لابن الهمام ٤/ ٢٤٩.
(٣) انظر: "الانتصاف بما تضمنه الكشاف من الاعتزال" ٤/ ٧٢.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٣٦.
(٥) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٧٤.
(٦) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٧.
وقال عكرمة: لما نزل الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذه الآيات، قال للمرأة التي أتته: "ابشري فقد أنزل الله فيك وفيه، مريه فليعتق رقبة". قالت: أنّى يا رسول الله، وما يخدمني غيره، ولا يخدمه غيري. قال: "فليصم شهرين متتابعين". قالت: أنى ولولا أنه يأكل في اليوم كذا وكذا لذهب بصره. قال: "مريه فليطعم ستين مسكينًا". قالت: أنى يا رسول الله وإنما هي وجبة. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مريه فليأت فلانة فليأخذ شطر وسيق فليتصدق به". قالت: فلما رآني أوس مقبلة قال: ما وراءك؟ قلت: خير وأنت ذميم، قد أمرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تأتي فلانة فتأخذ منها شطر وسق فتصدف به (٢). قالت: فانطلق من عندي وعهدي به لا يحمل خمسة أصوع فأتى بشطر وسق يحمله على ظهره حتى طرحه.
(٢) أخرجه ابن جرير مختصرًا عن ابن عباس من طريق عكرمة، وأخرجه البغوي عن عطاء بألفاظ متقاربة، واين سعد عن عمران عن أنس. انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٦، و"الدر" ٦/ ١٨١.
وقال المبرد: أصل المحادة الممانعة، ومنه يقال للبواب حداد، وللممنوع الرزق محدود (٤). وتقدم الكلام في هذا عند قوله: ﴿مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ﴾ في سورة التوبة (٥).
قوله تعالى: ﴿كُبِتُوا﴾ قال عطاء والسدي: لعنوا (٦). وقال المقاتلان: أخزوا كما أُخزي من كان قبلهم من أهل الشرك (٧). قال ابن عباس: يعني المنافقين (٨).
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٣٦، قال:.. وكذلك يشاقون يكونون في الشق الذي فيه أعداء الله.
(٣) عند تفسيره الآية (١١٥) من سورة النساء.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٦٢.
(٥) عند تفسيره الآية (٦٣) من سورة التوبة.
(٦) نسبه القرطبي في "جامعه" ١٧/ ٢٨٨ للسدي، وفي كتاب "اللغات في القرآن" ص ٤٦، نسبه لابن عباس وقال: هي لغة مذجح.
(٧) أخرجه عبد الرزاق، وابن جرير، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة، وهو اختيار ابن جرير.
انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٤ ب، و"جامع البيان" ٢٨/ ٩، و"فتح الباري" ٨/ ٦٢٨، وزاد نسبه تخريج ابن أبي حاتم له عن مقاتل بن حيان. "الدر" ٦/ ١٨٣.
(٨) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٦٢، و"الجامع" ١٧/ ٢٨٨، ولم ينسب لقائل.
وقال الزجاج: أُذِلُّوا وأُخزوا بأن غلبوا (٢).
قال المبرد: يقال كبت الله فلانًا إذا أذله. والمردود بالذل يقال له: مكبوت (٣)، وقد تكلمنا في هذا الحرف عند قوله: ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ (٤).
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ قال ابن عباس: يريد فرائض قيمة معروفة (٥). ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ قال: يريد لمن لم يعمل بها ولم يصدق بها ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.
٦ - ثم بين أن ذلك العذاب متى يكون فقال: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾.
وقوله: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ قال مقاتل: حفظ الله أعمالهم ونسوا هم (٦).
٧ - قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ قد ذكر أن النجوى مصدر عند قوله: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ (٧). ويجوز أن يوصف به كما يقال: قوم نجوى، ومنه قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٣٦.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٦٢، ولم أجده في مؤلفات المبرد.
(٤) عند تفسيره الآية (١٢٧) من سورة آل عمران.
(٥) المعنى ظاهر، ولم أجد من عزاه لابن عباس.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٤ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٧.
(٧) عند تفسيره الآية (١١٤) من سورة النساء. وانظر: "معاني الزجاج" ٢/ ١٠٤.
فأما قوله: ﴿مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ قال أبو علي: يحتمل جر ﴿ثَلَاثَةٍ﴾ أمرين:
أحدهما: أن يكون مجرورًا بإضافة ﴿نَجْوَى﴾ إليه كأنه ما يكون من سرار ثلاثةٍ، ويجوز أن يكون ﴿ثَلَاثَةٍ﴾ جرًا على الصفة على قياس قوله: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ (١) وهذا معنى قول الفراء: ﴿ثَلَاثَةٍ﴾ إن شئت خفضتها على أنها من نعت النجوى، وإن شئت أضفت النجوى إليها (٢)، وبيانه أن النجوى إن جعلتها مصدرًا أضفتها إلى ثلاثة، وإن جعلتها بمعنى المتناجين جعلت (ثلاثة) صفة لها.
قال أبو إسحاق: ﴿نَجْوَى﴾ مشتق من النجوة، وهي ما ترتفع وتَنَحَّى (٣). والمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرهما كخلو المرتفع من الأرض عما يتصل به.
ومعنى ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ أي ما يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئًا ويتناجون به (٤). ومعنى قول المفسرين في النجوى أنها إسرار. قال ابن عباس: ما من شيء تناجي به صاحبك (٥).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٠، و"اللسان" ٣/ ٥٩٣ (نجا).
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٣٧.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٩.
(٥) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٧، ولم ينسبه لقائل. ومن عبارة البغوي يتضح السقط هنا، ولعل العبارة: ما من شيء تناجي به صاحبيك إلا هو رابعهم. والله أعلم.
٨ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى﴾ قال المفسرون: إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ولم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآية (٢).
قوله تعالى: ﴿وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الإثم والعدوان مخالفتهم الرسول في النهي عن النجوى، فلما عادوا إلى ما نهاهم عنه لزمهم الإثم والعدوان وصاروا آثمين ظالمين.
والثاني: أن الإثم والعدوان ذلك السر الذي يجري بينهم، لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين، أو شيء يسؤهم فهو إثم وعدوان (٣).
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٧٨ ب، عن ابن عباس، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٧٤ عن ابن عباس، و"الجامع" ١٧/ ٢٩١.
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٦٦.
قوله تعالى: ﴿وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾ قال المقاتلان: وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه (٣). وقال أبو إسحاق: يوصي بعضهم بعضًا بمعصية الرسول (٤). والقولان هاهنا كما ذكرنا في الإثم والعدوان.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾. قال المفسرون: يعني اليهود كانوا يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: السام عليك والسام الموت (٥). وهم يوهمونه أنهم يقولون: السلام عليكم، فأخبر الله نبيه بذلك في قوله: ﴿حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ﴾ (٦) وذكر معنى التحية في سورة النساء (٧).
(٢) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٧٩ - ٢٨٥، و"حجة القراءات": ٧٥٤.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٥ أ، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٧٩ أ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان، و"الدر" ٦/ ١٨٤.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٣٧.
(٥) انظر: "اللسان" ٢/ ٢٤٦ (سوم).
(٦) أخرج الإمام أحمد في "المسند" ٢/ ٤٥٥ والبيهقي في "شعب الإيمان" بسند جيد، و"الدر" ٦/ ١٨٤، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٧٤ وأخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٢٣.
(٧) عند تفسيره الآية (٨٦) سورة النساء.
٩ - ثم نهى المنافقين عن التناجي فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال ابن عباس: يريد آمنوا بزعمهم (٢).
وقال مقاتل: يعني المنافقين (٣).
وقوله: ﴿فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ﴾ تقدم تفسيره.
قوله: ﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ قال مقاتل: بالطاعة وترك المعصية (٤).
ثم خوفهم نقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ فيجزيكم بأعمالكم. وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية خطاب للمؤمنين، وأنهم نهوا أن يفعلوا كفعل المنافقين واليهود، وهو اختيار أبي إسحاق. قال: يقول ولا تكونوا كاليهود والمنافقين (٥) والأول الوجه.
(٢) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٨، ونسبه لعطاء، و"الجامع" ١٧/ ٢٩٤، ولم ينسبه لقائل.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٨، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٦٧، قلت: والمعنى الظاهر أن الخطاب للمؤمنين على الحقيقة من الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا ما اعتمده ابن جرير، وابن كثير، ولم يذكرا غيره.
انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٢، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٢٣.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٥ ب.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٣٨، وهو اختيار ابن جرير، وابن كثير، كما تقدم ذكره، وانظر: "روح المعاني" ٢٨/ ٢٧.
قال الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا﴾ أي وليس النجوى بضارهم. قال أبو إسحاق: أي ليس يضر التناجي المؤمنين شيئًا، ويجوز أن يكون المعنى: وليس بضارهم الشيطان شيئًا، ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي إلا ما أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- (٣).
قال مقاتل: يقول إلا بإذن الله في الضر (٤).
قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي يكلون أمورهم إلى الله، ويستعيذون به من الشيطان.
١٢ - قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ﴾ (٥)
(٢) وهو سبب نزول الآية كما قال قتادة -رحمه الله- وأخرجه الأئمة عنه باختصار. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٩، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٢، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٧٨، وقال: أصح ما قيل فيه قول قتادة.. ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٦٧.
(٣) انظر: "معاني الزجاج" ٥/ ١٣٨.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٤٥ ب.
(٥) كذا كتبها المؤلف (المجلس) على الإفراد. وهي قراءة الجمهور. وقرأ عاصم (المجالس) على الجمع. انظر: "حجة القراءات" ص ٧٠٤، و"النشر" ٣/ ٣٨٥.
قوله: ﴿تَفَسَّحُوا﴾ قال أبو عبيدة: توسعوا (٢).
وقال الليث: الرجل يفسح لأخيه في المجلس فسحًا إذا وسع له، والقوم يتفسحون إذا مَكَّنُوا، والفساحة السعة. يقال: بلد فسيح ومفازة فسيحة، ولك فيه فسحة، أي: سعة، هذا كلامه (٣).
والمستعمل من هذا الحرف أربعة أوجه. فسح يفسح فسحًا إذا وسع في المجلس. يقال: أفسح لي، أي: وسّع، وفسح يفسح فساحة إذا صار واسعًا، ومكان فسيح وتفسح إذا توسع، ومثله تفاسح (٤) وبه قرأ الحسن.
(٢) انظر: "مجاز القرآن" ٢/ ٢٢٥.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٢٧ (فسح).
(٤) انظر: "اللسان" ٢/ ١٠٩٤ (فسح). وقد قرأ الحسن؛ وقتادة، وعيسى وداود بن أبي هند (تَّفَاسَحُوا) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤١، و"الجامع" ١٧/ ٢٩٧، و"البحر المحيط" ٨/ ٢٣٦.
ومعنى ﴿تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ﴾ هو أن القوم إذا جلسوا حول النبي -صلى الله عليه وسلم- متضايقين منضمين إليه لم يجد غيرهم ممن يأتي بعدهم مجلسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا تنحوا عنه في الجلوس وتوسعوا وجد غيرهم مكانًا يجلس فيه في فلك الحلقة (٢)، فأمر الله تعالى المؤمنين بالتواضع، وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتساوى الناس في الأخذ بالحظ منه (٣).
وقرئ ﴿فِي الْمَجَالِسِ﴾ (٤) والوجه التوحيد؛ لأنه يعني به مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره فهو على إرادة العموم مثل قولهم: كثر الدرهم والدينار. ووجه الجمع أن تجعل لكل جالس مجلسًا. أي موضع جلوس (٥).
قال المبرد: تفسحوا ينبيء عن أن لكل واحد مجلسًا، لأنه لا يجوز أن يكون اثنان يشغلان مكانًا واحداً، وإنما معناه ليفسح كل رجل في
(٢) وممن قال بأن المراد بالمجلس مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قتادة، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد. انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٦٠، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٩، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٣، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٧٨.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٣٩.
(٤) تقدم تخريجها وهي قراءة عاصم، ومعن السُّلَمي وزِرّ بن حُبيش.
(٥) في (ك): (حلس). وذكر المفسرون في المراد بالمجلس ثلاثة أقوال: مجالس القتال، مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، المجالس والمجامع على عمومها، وقد رجح ابن جرير اطلاقها على مجالس القتال، ومجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ لم يخصص مجلسًا دون آخر. "جامع البيان" ٢٨/ ١٣.
وقال القرطبي: (الصيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب، أو ذكر، أو مجلس يوم الجمعة...) "الجامع" ١٧/ ٢٩٧.
قوله تعالى: ﴿فَافْسَحُوا﴾ أي: أوسعوا ﴿يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ يوسع الله لكم الجنة والمجالس فيها.
وذكر في التفسير أنهم أمروا بأن يتوسعوا ويجلسوا متوسعين، ويوسعوا لغيرهم فلم يفعلوا وضن كل واحد بمجلسه فأمروا بالطاعة في التفسح والفسح، ووعدوا على ذلك أن يفسح لهم في الجنة (٢).
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ قال ابن عباس، ومقاتل: إذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا (٣)، ومعناه قوموا، وفيه قراءتان: كسر الشين وضمها وهما لغتان (٤) مثل يعكفون، ويعكفون و (ويعرشون) (٥).
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٣، عن ابن زيد، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٩، و"الدر" ٦/ ١٨٤، عن قتادة.
(٣) وهو قول أكثر المفسرين. انظر: "تنوير المقباس" ٦/ ١٨، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٣، و"الكشف" ١٣/ ٨١ أ، قال (إذا قيل لكم قوموا وتحركوا وارتفعوا وتوسعوا لإخوانكم فافعلوا. وقال أكثر المفسرين معناه: وإذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة والجهاد والذكر وعمل الخيرات. أي حق كان فانشزوا ولا تقصروا...). وانظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٢٦، والنشز: هو المتن المرتفع من الأرض، وإنشاز عظام الميت رفعها إلى مواضعها وتركيب بعضها على بعض. "اللسان" ٣/ ٦٣٧ (نشز).
(٤) قرأ نافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص، وأبو بكر من رواية الجمهور (انشُزُوا فانشُزُوا) بضم الشين فيهما. وقرأ الباقون بكسر الشين. انظر: "حجة القراءات" ص ٧٠٥، و"النشر" ٢/ ٣٨٥، و"الإتحاف" ص ٤١٢.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤١.
وفي قوله تعالى: ﴿فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٣٨] قرأ =
وقال مقاتل: الذين أوتوا العلم، يعني الذين قرأوا القرآن يرفع الله لهم درجات في الجنة على سواهم ممن لم يقرأ القرآن، قال: وإذا انتهى المؤمنون إلى باب الجنة، يقال للمؤمن الذي ليس بعالم: ادخل الجنة، ويقال للعالم: أقم على باب الجنة، فيشفع للناس، هذا الذي ذكرنا في هذه الآية معنى قول قتادة، والكلبي، والمقاتلين (٢).
وقال عطاء: هذه الآية نزلت في مجالس الحرب ومقاعد القتال، وذلك أن الناس كانوا يقعدون صفوفًا في القتال فربما قعد الرجل في موضع ليس هو بأهل، ويكون من هو أشجع منه وأنجد خلفه ويستحي رسول الله
وفي قوله تعالى: ﴿أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: ٦٨] قرأ ابن عامر، وأبو بكر (يعرُشون) بضم الراء فيهما. وقرأ الباقون بكسرها فيهما. انظر: "حجة القراءات" ص ٢٩٤، ٣٩٢، و"النشر" ٢/ ٢٧١، و"الإتحاف" ص ٢٢٩.
(١) لم أجده عن ابن عباس، ولا عن غيره، ودخول المهاجرين والأنصار في هذه الآية أولى من غيرهم -رضوان الله عليهم-.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٥ ب، ١٤٦ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٩، و"الجامع" ١٧/ ٢٩٩ - ٣٠٠.
وقال الحسن: إنهم تشاحوا على الصف الأول رغبة منهم في الجهاد والشهادة، وكان الرجل منهم يجيء إلى الصف الأول، ويقول: توسعوا لي فلا يوسعون له (٢). وهذا قول أبي العالية، والقرظي، ورواية العوفي عن ابن عباس (٣).
وقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ قال الحسن: في القتال في الصف (٤).
وقال مجاهد: إلى كل خير، قتال عدو، أو أمر معروف أو حق ما كان (٥).
وقال قتادة: يقول: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا (٦).
وقال عكرمة، والضحاك: إن رجالاً تثاقلوا عن الصلاة فأمروا بالقيام لها إذا نودي (٧).
وقال ابن زيد: كانوا إذا دخلوا بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقومون، وكان كل واحد يحب أن يكون آخر القوم عهدًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الله: {وَإِذَا قِيلَ
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٨١ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٩.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٨٠ ب، ٨١ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٩، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٦٩.
(٤) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٠، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٨١ أ.
(٥) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٦٠، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٣.
(٦) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٩، و"الدر" ٦/ ١٨٥، وزاد نسبه إخراج لعبد بن حميد.
(٧) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٣ عن الضحاك، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٨١ أ.
قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، أي: إذا عملوا بما أمروا.
١٢ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ قال ابن عباس في رواية الوالبي: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى شقوا عليه، وأراد أن يخفف عن نبيه، فلما نزلت هذه الآية ضن كثير من الناس فكفوا عن المسألة (٣).
وقال مقاتل بن حيان: إن الأغنياء غلبوا الفقراء على مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- وأكثروا مناجاته حتى كره النبي -صلى الله عليه وسلم- طول جلوسهم ومناجاتهم، فأمر الله بالصدقة عند المناجاة، فأما أهل الميسرة فمنع بعضهم ماله وحبس نفسه، وأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئًا، واشتاقوا إلى مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- وحديثه فلم يقدروا على ذلك حتى نسخ هذا (٤).
وقال مقاتل بن سليمان: لما نزلت هذه الآية انتهى الأغنياء وقدرت
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٣٩.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٥، و"الدر" ٦/ ١٨٥، وزاد نسبة تخريجه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٨٢ أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٧٦، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣١.
١٣ - ﴿أَأَشْفَقْتُمْ﴾ الآية (١).
وروى ليث عن مجاهد قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي (٢) ولا يعمل بها أحد بعدي: آية النجوى، كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فناجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فكنت كلما ناجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قدمت بين يدي نجواي درهمًا، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد (٣).
ونحو هذا قال ابن جريج، والكلبي، وعطاء عن ابن عباس أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه أحد إلا علي تصدق بدينار، ثم نزلت الرخصة (٤)، قالوا: وما كانت إلا ساعة من النهار حتى نسخت. وهو قول الكلبي (٥).
وقال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ (٦)، ولم تقدر
(٢) (قبلي) ساقطة من (ك).
(٣) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٦٠، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٠، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٥، "المستدرك" ٢/ ٤٨٢، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٧٦.
(٤) انظر: "معالم التزيل" ٤/ ٣١٠، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص ٢٣٦، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧١.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨٠ وزاد نسبته لقتادة، و"أحكام القرآن" للجصاص ٣/ ٤٢٨، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٨٢ ب.
(٦) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٨٢ ب، وفي "جامع القرطبي" ١٧/ ٣٠٣، نسبه لابن عباس وعلي بن أبي طالب، و"نواسخ القرآن" ص ٢٣٦، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧١، و"الدر" ٦/ ١٨٥، ونسب تخريجه لابن أبي حاتم.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يعني للفقراء، وهذا يدل علي أن من لم يجد ما يتصدق به كان معفوًّا عنه.
وأجمعوا على أن هذه الآية منسوخة الحكم بقوله: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ﴾ قال ابن عباس: أبخلتم (٢)، وقال مقاتل: أشق عليكم (٣)، والمعنى: أخفتم العيلة أن قدمتم بين يدي نجواكم صدقات، وهذا خطاب للأغنياء، لأن من لم يجد لا يقال له هذا.
ونسخت الزكاة الصدقة التي كانت عند المناجاة، وهو قوله تعالى: ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ (٤).
(٢) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣١١، و"الجامع" ١٧/ ٣٣.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ أ، و "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٦٠، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٦، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٨٠، ونسبوه لمجاهد.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ أ، و"نواسخ القرآن" ص ٢٣٦، ونسبه لابن عباس، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٢.
قلت: مراد المؤلف -رحمه الله- من نسخ صدقة المناجاة بالزكاة أي أن قوله تعالى: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ﴾ الآية بكاملها نسخت الآية السابقة عليها، فعاد المسلمون إلى مناجاة النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير تقديم شيء، وهو المجمع عليه من المفسرين -رحمه الله- والله أعلم.
١٤ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ قال المفسرون: يعني المنافقين، تولوا اليهود ونقلوا إليهم أسرار المسلمين. واليهود هم المذكورون بالغضب عليهم في مواضع من القرآن.
قوله: ﴿مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ﴾ أي: ليسوا مؤمنين فليسوا منكم في الدين والولاية، ولا من اليهود، كما قال تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [النساء: ١٤٣] الآية.
قوله تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله بن نبتل المنافق: "على ماذا تشتمني أنت وأصحابك؟ " فجاء بهم فحلفوا أنهم لم يفعلوا -ولم يوالوا اليهود- وأنهم له ناصحون، فذلك قوله: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (٣) أنهم كذبة.
١٦ - قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ يعني أيمانهم الكاذبة جنة يستخفون بها من القتل ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: فصدوا المؤمنين بأيمانهم عن
(٢) انظر: "نواسخ القرآن" لمكي بن أبي طالب ص ٣٢٥.
(٣) قال السدي، ومقاتل: وهو معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ أ، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٧، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٨٣ أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٧٦.
وقال مقاتل: فصدوا الناس عن دين الله الإسلام (٢).
١٧ - قوله: ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ﴾ الآية. قال مقاتل: إن المنافقين قالوا إن محمدًا يزعم أنه ينصر يوم القيامة فقد شقينا إذًا، فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا (٣) وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة فأنزل الله هذه الآية (٤).
١٨ - قوله تعالى: ﴿فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ قال مقاتل: إذا سئلوا يوم القيامة عن أعمالهم الخبيثة استعانوا بالكذب كعادتهم في الدنيا، ويحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين كما يحلفون لكم في الدنيا (٥).
وقال قتادة: إن المنافق يحلف لله (٦) يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا (٧).
قال ابن عباس: أما الأول فكقوله: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، وأما الثاني فهو قوله: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ﴾ (٨).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ أ، و"الجامع" ١٧/ ٣٠٤، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٢٨.
(٣) (ك): (أنفسنا).
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧٤، و"الجامع" ١٧/ ٣٠٥.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ ب.
(٦) (لله) ساقطة من (ك).
(٧) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٨١، و"جامع البيان" ٢٨/ ١٧، و"الكشف والبيان" ١٢/ ٨٣ أ.
(٨) من الآية (٥٦) من سورة التوبة. وانظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧٤، و"الجامع" ١٧/ ٣٠٥.
قوله تعالى: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ قال مقاتل: على شيء من الدين (٢).
وقال غيره: ويحسبون أنهم على شيء من أيمانهم الكاذبة (٣).
﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ في قولهم وأيمانهم.
١٩ - قوله تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾ قال المفسرون: غلب واستولى.
قال أبو إسحاق: معنى استحوذ في اللغة استولى، يقال: حذت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها (٤).
وقال المبرد: استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به (٥)، ومعناه استدار عليهم الشيطان.
٢٠ - قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ﴾ قال ابن عباس: يريد الذل في الدنيا والخزي في الآخرة (٦).
وقال مقاتل: في الهالكين (٧)، وقال الزجاج: أي في المغلوبين (٨).
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ ب.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ١٧، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣١٢.
(٤) انظر: "معاني الزجاج" ٥/ ١٤.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧٥.
(٦) لم أجده.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ ب.
(٨) انظر: "معاني الزجاج" ٥/ ١٤١.
قال أبو إسحاق: ومعنى غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب غالب في الحرب، ومن بعث منهم بغير حرب فهو غالب بالحجة (١).
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي مانع حزبه من أن يذل.
وقال مقاتل: إن المسلمين قالوا: إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أُبي: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم؟ كلا والله لهم أكثر جمعًا وعدة، فأنزل الله هذه الآية (٢).
٢٢ - قوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الأكثرون على أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم لما أراد فتح مكة، وتلك القصة معروفة (٣)، وهذا قول مقاتل واختيار الفراء (٤)، والزجاج. قال: أعلم الله عز وجل أن إيمان المؤمنين يفسد بمودة الكفار، وأن من كان مؤمنًا لا يوالي من كفر، وإن كان أباه أو ابنه أو أحدًا من عشيرته (٥).
وروى عطاء عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أبي عبيدة (٦)، قتل
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٨٣ ب، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧٦، و"الجامع" ١٧/ ٣٠٦.
(٣) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٨٤ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧٧.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ ب، و"معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٤٢.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٤١.
(٦) هو أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، أمين هذه الأمة، وأحد المبشرين =
قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ قال الزجاج: يعني الذين لا يوادون من حاد الله (٢).
قوله: ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ قال السدي ومقاتل: جعل في قلوبهم التصديق (٣).
وقال الربيع: أثبت (٤).
وقال أبو علي الفارسي: معناه جمع، والكتيبة: الجمع من الجيش. والتقدير: أولئك الذين جمع الله في قلوبهم الإيمان، أي استكملوه واستوعبوه فلم يكونوا ممن يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض (٥).
(١) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧٦، عن ابن عباس.
وذكره غيره عن مقاتل بن حيان، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود. انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٨٤ أ، و"أسباب النزول" للواحدي ص ٤٧٨، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣١٢.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٤٢.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ ب.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٨٤ ب، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٠٨.
(٥) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧٧.
وقال المقاتلان: برحمة منه (٣)، وهذا يعود إلى الأول، لأن رحمته إنعامه عليهم بالنصر في الدنيا.
وقال الربيع، والسدي: يعني بالإيمان والقرآن (٤). يدل عليه قوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢] الآية.
ثم أعلم الله -عز وجل- أن ذلك يوصلهم إلى الجنة فقال: ﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ إلى آخر الآية. والله أعلم بالصواب.
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٨٤ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣١٣.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٦ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢١٣، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٠٩.
(٤) انظر: "الكشف والبيان" ١٣/ ٨٤ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣١٣، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٧٧.