ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦)
. (١) إن يثقفوكم: هنا بمعنى إن يلقوكم ويظفروا بكم.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(١) نداء للمؤمنين فيه نهي عن اتخاذ الكفار أولياء ونصراء وعن فعل ما فيه مودة ومحبة وفائدة لهم. وتعليلا لهذا النهي: فهم أعداء الله تعالى وأعداؤهم.
(٢) وتنبيها لهم بأن فعل ما فيه مودة للكفار وبخاصة بصورة سرّية متناقض مع الإخلاص في الإيمان إذا كانوا حقّا مخلصين فيه وإذا كانوا حقّا قد هاجروا من وطنهم ابتغاء وجه الله وجهادا في سبيله.
(٣) وإنذارا بأن الله يعلم ما يخفون وما يعلنون وبأن من يوادّ الكفار منهم يكون قد ضلّ عن السبيل الحقّ وانحرف عن واجب الإخلاص.
(٤) وتذكيرا لهم بشدة حقد الكفار عليهم: فهم لو لقوهم وظفروا بهم لعاملوهم معاملة الأعداء الألداء ولبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالشرّ والأذى.
وإنهم ليودّون أن يكفروا بعد إيمانهم.
(٥) وتقريرا بأنه لن تكون أية فائدة ونفع للأرحام والأولاد يوم القيامة وبأن الله تعالى سوف يفصل بينهم فيه حسب أعمالهم وهو البصير الرقيب على كل ما يفعلونه.
(٦) وضرب مثل لهم بموقف إبراهيم والذين آمنوا معه من قومهم: فقد أعلنوا جهرا ومواجهة براءتهم من قومهم وما يعبدونه من دون الله. وعالنوهم العداء والبغضاء إلى الأبد ما داموا كفارا، مقررين إيمانهم بالله وحده وإسلام النفس إليه واعتمادهم عليه. معترفين بأنه هو مرجعهم. طالبين منه المعونة. ملتمسين منه أن لا يجعلهم موضع فتنة الكفار وأذاهم. وأن يغفر لهم هفواتهم وذنوبهم. وفي هذا الأسوة الحسنة للمؤمنين المخلصين حقّا الذين يرجون رضاء الله وحسن العاقبة في اليوم الآخر. أما الذين ينحرفون عنه فهم وشأنهم والله غني عنهم حميد للمخلصين الصادقين.
وقد احتوت الآية الرابعة استدراكا فيه حكاية لما وعد إبراهيم به أباه من استغفار الله له مع إعلانه أنه لا يملك له من الله شيئا.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ | إلخ والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من روايات وأقوال وما انطوى فيها من صور وتلقين |
ورواها البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود أيضا فاخترنا إيراد نصّهم حيث جاء فيه «٢» عن علي بن أبي طالب أنه قال: «بعثني رسول الله ﷺ أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب قالت ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ أو لتلقينّ الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبيّ ﷺ فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممّن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبيّ فقال ما هذا يا حاطب؟ قال لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأ من قريش ولم أكن من أنفسهم. وكان المهاجرون لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فقال النبيّ ﷺ إنه قد صدقكم، فقال عمر دعني يا رسول الله فأضرب عنقه. فقال إنه شهد بدرا وما يدريك لعلّ الله عزّ وجلّ اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت الآيات» وفي رواية أوردها الطبري أن النبي ﷺ قال: «لا تقولوا له إلّا خيرا».
ولقد روى البغوي في تعريف المرأة خبرا فيه صورة طريفة حيث روي أنها مولاة لبني عبد المطلب قدمت إلى المدينة فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: أمسلمة جئت؟
قالت: لا، قال: أمهاجرة؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل
(٢) التاج ج ٤ ص ٢٣٣.
ومضمون الآيات واختصاصها المهاجرين بالخطاب يؤيدان صحة الرواية. غير أن أسلوبها يلهم أن النهي والتحذير والتنبيه موجه إلى جملة من المسلمين. وإذا كانت نزلت في مناسبة رسالة حاطب- وهذا قوي الرجحان لتعدد الروايات بطرق مختلفة وعدم الاختلاف فيها- فإن أسلوبها الشديد وما ورد في مواضع عديدة من السور المدنية من آيات فيها نهي عن اتخاذ الآباء والأبناء والعشيرة والإخوان أولياء وموادتهم، وإنذار لمن يفعل ذلك كما جاء في آية سورة المجادلة هذه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ.... وآيات سورة التوبة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤).
فكل هذا يسوغ القول بأنه كان يعتلج من حين لآخر في نفوس بعض المهاجرين أزمات نفسية بسبب ما صار إليه الأمر من العداء والبغضاء والدماء والتناكر الشديد بينهم وبين أهل مكة الذين تربط بينهم الأرحام والعصبيات والمصالح المتنوعة في ظرف كان للأرحام وعصبيتها أثر نافذ عميق في الحياة
ولقد اختلفت الروايات التي رواها المفسرون «١» عن أهل الصدر الأول في ظروف إرسال الرسالة حيث روي أن حاطب أرسلها في مناسبة اعتزام النبي ﷺ تسيير جيش نحو مكة بعد وقعة بدر بسنتين. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي ﷺ السفر إلى مكة للعمرة وهي السفرة التي أدت إلى صلح الحديبية. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي ﷺ على غزو مكة لفتحها بعد هذا الصلح بسنتين. وفي المقطع الثاني من السورة قرينة تكاد تكون حاسمة على أنها نزلت بعد صلح الحديبية. وهذا ما يجعلنا نرجح الرواية الثالثة.
ولعل الرواية الأولى أو الثانية هما اللتان جعلتا رواة ترتيب لنزول يرتبون نزول السورة بعد سورة الأحزاب. والله أعلم.
والآيات كما هو ظاهر احتوت تعليلا لوصف الكفار بالأعداء والنهي عن موادتهم بما كان من كفرهم وبدئهم المسلمين بالأذى وإلجائهم إلى الخروج من وطنهم وإضمارهم لهم العداء والسوء وتمنّي ارتدادهم عن دينهم وكفرهم به. وهذا متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن ونبهنا عليه من كون موقف المسلمين العدائي نحو غيرهم هو موقف دفاع ومقابلة بالمثل وحسب. وقد انطوى فيها في الوقت ذاته مبدأ في غاية العدل والحق والتمشي مع طبائع الأمور دائما وهو عدم موادة المسلمين لأناس يبدأونهم بالعدوان والأذى ويضمرون لهم الشر والسوء وعدم جواز اطلاعهم على أسرارهم. ووجوب الوقوف منهم موقف الحذر والاستعداد وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل ظرف ومكان.
وفي التصرف الذي تصرفه رسول الله ﷺ والحديث الذي قاله في حق أهل
والأسوة التي دعت الآيات المسلمين إلى التأسي بها رائعة قوية الإحكام من ناحيتين. الأولى كونها عائدة إلى إبراهيم عليه السلام، والذين آمنوا معه في ظرف يتداول سامعو القرآن من المسلمين أنه أحد آبائهم ويأمر القرآن النبي ﷺ بأن يقول إنّ ربّه هداه إلى صراط مستقيم دينا قيما ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين كما جاء في الآية [١٦١] من سورة الأنعام. والثانية شدة حسم الأسلوب الذي يعلن به إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه لقومهم الكفار العداوة والبغضاء أبدا ما لم يؤمنوا بالله وحده. في ظرف تعتلج في نفوس بعض المسلمين أزمة من جراء ما بينهم وبين الكفار من قومهم من أرحام ووشائج ومصالح.
وأهل التأويل من التابعين متفقون على ما ذكره المفسرون «١» على أن جملة إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ هي استثناء للأسوة أي أن المسلمين لهم أسوة بإبراهيم والذين آمنوا معه إلّا قول إبراهيم هذا فليس لهم فيه أسوة. بل قد روى الطبري عن مجاهد أن المسلمين نهوا بهذه الآية عن الاستغفار للمشركين. ونحن نتوقف في التسليم بهذا التخريج والاستنتاج. ويتبادر لنا أن الاستدراك استطرادي لحكاية وعد إبراهيم عليه السلام وحسب. ولو كان فيه معنى النهي لما أمكن أن يستغفر النبي ﷺ وبعض المؤمنين لبعض أقاربهم المشركين وهو ما أشير إليه بأسلوب عتابي في آية سورة التوبة التي نزلت بعد هذه السورة وهي: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣). ويظهر أنهم فعلوا ذلك اقتداء بإبراهيم عليه السلام الذي وعد أباه بالاستغفار على ما أخبر بذلك القرآن في آية سورة مريم هذه: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧). فاقتضت
ولأهل التأويل من التابعين تخريجان لجملة: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا على ما ذكره المفسرون. أحدهما أنها بمعنى (ربنا لا تصبنا ببلاء وعذاب لئلا يقولوا إنهم لو كانوا على حقّ لما أصابهم هذا البلاء والعذاب من الله) فيكون بذلك فتنة لهم تجعلهم يستمرون على كفرهم. وثانيهما بمعنى (ربنا لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك ويقولوا لو كانوا على حقّ لما غلبناهم) وكلا التخريجين وجيه.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٧ الى ٩]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
. تعليق على الآية عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً... إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد انطوى في الآية الأولى تأميل للمؤمنين الذين وجّه الخطاب إليهم بأن يجعل الله بينهم وبين من عادوهم مودّة بعد العداء وتواصلا بعد الجفاء والقطيعة: فالله قدير على ذلك. وهو غفور رحيم يغلب غفرانه ورحمته في معاملة الناس. وفي الآيتين الثانية والثالثة تنبيه تقريري بأن الله لا ينهاهم عن البرّ والإقساط وحسن التعامل مع الذين لم يقاتلوهم ولم يعتدوا على حريتهم ولم
وقد روى ابن كثير عن مقاتل أن الآية الأولى نزلت في أبي سفيان حيث تزوج رسول الله ﷺ ابنته أم حبيبة فكان ذلك مودّة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعزا الطبري إلى أهل التأويل من التابعين أن الله تعالى أخبر بالآية بما سوف يكون من إسلام كثير منهم ومن قيام حالة سلم بين بعضهم وبين المسلمين. أما في صدد الآيتين الثانية والثالثة فقد روي عن أهل التأويل من التابعين أقوال وروايات عديدة «١».
منها أنه عني بهما المسلمون الذين ظلوا في مكة أو حيث هم. ولم يهاجروا إلى المدينة. ومنها أنه عني بهما قبيلتا خزاعة ومدلج اللتان صالحتا النبي ﷺ على أن لا تقاتلاه ولا تعينا عليه. ومنها أنه عني بهما مشركو مكة الذين لم يقاتلوا المسلمين ولم يؤذوهم. ومنها أنه عني بهما من لم يؤذ المسلمين ويقاتلهم من المشركين عامة. ومنها ما جاء في حديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير قال: إن أمّ أسماء بنت أبي بكر قتيلة- وكان أبو بكر قد تزوجها في الجاهلية وطلقها ولم تسلم- قدمت على ابنتها في المدينة ومعها هدية لها فقالت لها لا تدخلي حتى يأذن رسول الله ﷺ وذكرت ذلك لعائشة فذكرته للنبي ﷺ فأنزل الله الآيتين «٢».
(٢) هذه الرواية وردت في حديث رواه الشيخان عن أسماء وليس فيه ذكر لنزول الآيتين بمناسبة ذلك حيث جاء في الحديث «قالت أسماء قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله ﷺ مع أبيها فاستفتيت رسول الله فقلت إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها. قال نعم صلي أمك» التاج ج ٥ ص ٤ و ٥. وعهد قريش هو صلح الحديبية الذي انعقد بين النبي وبينهم. وهذا الحديث يدعم ترجيحنا نزول السورة بعد صلح الحديبية بالإضافة إلى المقطع الثاني من السورة الذي يدعمه كما قلنا.
والروايات إلى هذا تقتضي أن تكون الآيات الثلاث نزلت متفرقة، في حين أن الانسجام بينها قائم وقوي أولا. وأن الصلة بينها وبين سابقاتها سياقا وموضوعا ملموحة بقوة ثانيا. حيث اكتفي باستعمال ضمير الجمع المخاطب على اعتبار أن صفة المخاطب واضحة في الآيات السابقة وهي مهاجر والمسلمين. وحيث اكتفي بتعبير (منهم) للدلالة على أهل مكة الكفار الذين كانوا موضوع الحديث في الآيات السابقة. وفي الآيتين الثانية والثالثة دلالة أخرى على ذلك في تعبير الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ. ويتبادر لنا بناء على ذلك ومن روح الآيات وبخاصة الأولى أن الآيات السابقة قد أثرت تأثيرها المطلوب في نفوس المهاجرين، وحزّت في الوقت نفسه في قلوبهم، وأيأستهم أو كادت من أقاربهم وذوي أرحامهم الكفار. ولعل بعضهم فاتح النبي ﷺ بالأمر أو سأله عما إذا كان النهي شاملا لجميع أهل مكة الباغي منهم والمسالم على السواء فاقتضت حكمة التنزيل إيحاء الآيات للتنفيس والتأميل من جهة. وللتفريق بين الباغي والمسالم ووضع الأمر في نصابه الحق من جهة أخرى. ومن الممكن في الوقت نفسه أن يلمح فيها- وبخاصة في أولاها- بشرى تطمينية بين يدي ما اعتزمه النبي ﷺ من غزو مكة- والآيات قد نزلت بين يدي هذا العزم على ما رجحناه استلهاما من الآيات والروايات- من
وهذا الشرح لا يمنع أن تكون رواية قدوم أم أسماء المدينة واستفتاء ابنتها من رسول الله ﷺ صحيحة فكان في الآيات فتوى لها أيضا.
هذا من الوجهة الزمنية المتصلة بالسيرة النبوية. أما من النواحي العامة فالآية الأولى متسقة مع الأسلوب القرآني في جعل الباب مفتوحا أمام غير المسلمين سواء أكانوا أعداء محاربين أم غير ذلك للمسالمة والموادة والتوبة والإنابة والارعواء عن الغلو والمواقف المنبثقة من الغرض والمآرب والمكابرة والاستكبار أو الجهل مما مرّ منه في السور السابقة أمثلة كثيرة جدا نبهنا عليها في مناسباتها فلا ضرورة لتمثيل جديد. وفي عبارة الآية تلقين من شأنه أن يجعل أفق المسلمين واسعا وصدرهم رحبا ويحملهم على النظر في الأمور من أكثر من ناحية. ويبثّ فيهم أمل السلام والخير والاستبشار. ويجتث منهم العداء والحقد الشديدين. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. والآيتان الثانية والثالثة متسقتان بدورهما مع المبدأ القرآني العام الذي نبهنا عليه ونوهنا به في مناسبات سابقة عديدة والذي يقرر معاملة العداء للعدو المعتدي وحسب ويجعل ذلك مقابلة للعدوان وليس بدءا. أما الذين يوادون المسلمين ويكفون عنهم ألسنتهم وأيديهم من غير المسلمين فلا يعتبرون أعداء ولا مانع من برّهم والإقساط إليهم. بل إن أسلوب الآية الثانية ينطوي على الحثّ والتشويق على ذلك.
وفي الآيتين إلى هذا تقرير وتنظيم للمناسبات بين المسلمين وغيرهم أولا.
وفرض لوجود طبقة بين مشركي العرب وكفار الكتابيين يمكن تسميتها بالمسالمين ثانيا. وهي على ما يتبادر لنا غير طبقة المعاهدين الذين يقوم بينهم وبين المسلمين
وفيهما دلالة على عدم وجاهة القول بعدم قبول شيء غير الإسلام أو القتل من مشركي العرب. وبعدم قبول شيء غير الإسلام أو الجزية من أهل الكتاب. وعلى عدم وجاهة القول بإيجاب محاربة غير المسلمين مع إطلاق القول حتى يسلموا.
فالقتال والعداء كما قررنا وذكرنا في مناسبات عديدة سابقة استلهاما من آيات عديدة صريحة أو ملهمة إنما شرعا بالنسبة للبادئين بقتال المسلمين وأذيتهم وفتنتهم أو الصادين عن سبيل الله ودينه أو من يساعد على ذلك ثم لمن ينكث عهده مع المسلمين ويتحول من موقف المعاهد إلى موقف العدو. ومع هؤلاء ينتهي الأمر بالإسلام أو المعاهدة أو الجزية فقط. وطبيعي أنه ليس كل غير مسلم يكون قد آذى المسلمين وقاتلهم واعتدى عليهم وصدّ عن سبيل الله حيث لا يمكن إلّا أن يكون فئات كثيرة في كل ظرف ومكان لم تفعل ذلك ولم تساعد عليه. فهؤلاء يباح البرّ والإقساط معهم بل يستحسنان. وهذا تشريع عام محكم ومستمر وشامل وفيه من الروعة والجلال ما يغني عن الإطناب. ومما يزيد في روعته وجلاله أن الآيات مطلقة لا تشترط بدءا من غير المسلمين في البر والإقساط والموادة. فيكفي من غير المسلم أن يكون مسالما غير مؤذ بلسانه أو يده مباشرة أو غير مباشرة ليكون موضع برّ المسلم ومودته وقسطه. والأمثلة على ذلك كثيرة في السيرة النبوية وعن الخلفاء الراشدين. فلم يقاتلوا ولم يأمروا بقتال غير الأعداء الذين يقاتلونهم وتركوا وأمروا
(٢) ابن سعد ج ٢ ص ٤١ وما بعدها وج ٣ ص ٧٠. [.....]
والله أعلم.
ولقد تحقق ما توقعته الآية الأولى وأمّلت المسلمين به فدخل معظم قريش ثم معظم العرب في دين الله في حياة النبي ﷺ وانقلب ما كان من عداء بينهم وبين المسلمين إلى مودّة وإخاء فكان ذلك من معجزات القرآن الباهرة.
ولقد ترد ملاحظة على الفرق في التعبير في الآيات. ففي الآية الثانية استعمل
(٢) أهل الحرب اصطلاح فقهي كان مطلقا في العصور الإسلامية الأولى على أهل البلاد التي أهلها كفار. ولم يكن الإطلاق سليما إلا في حالة أن يكون بينهم وبين المسلمين حالة حرب وعداء. ويتبادر لنا أنه أطلق لأن البلاد التي كانت مجاورة لبلاد المسلمين كانت في حالة حرب مع المسلمين إما في حالة حرب قائمة أو في حالة حرب متوقفة بهدنة. وكلام الطبري هو في صدد من يكونون غير محاربين للمسلمين ولا متآمرين عليهم من أهل هذه البلاد.
وهذا يشمل التحالف كما يشمل التعاون والتحذير والتواصل والتراسل والتوادّ.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٠ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)
. (١) فامتحنوهن: اختبروا صحة دعواهن الإسلام.
(٢) وآتوهم ما أنفقوا: الضمير راجع إلى الكفار أزواج اللائي جئن إلى المدينة مهاجرات مؤمنات. والجمهور على أن جملة ما أَنْفَقُوا تعني مهور النساء.
(٣) عصم: القصد منها عقود الزوجية.
(٤) الكوافر: جمع كافرة.
(٥) وإن فاتكم: بمعنى إن ضاع عليكم أو ذهب منكم أو فرّ من عندكم.
(٦) فعاقبتم: فكان لكم عقبى بالنصر وحصلتم على غنائم من أعدائكم.
الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين. وقد تضمنت:
(١) أمرا بامتحان من يأتين إليهم مؤمنات مهاجرات واختبار صحة دعواهن الإيمان أو التوثّق منها.
(٣) وأمرا بالتعويض على أزواجهم الكفار ما أنفقوه عليهن.
(٤) وإباحة لهم أن يتزوجوا باللائي جئن مؤمنات مهاجرات.
(٥) ونهيا لهم عن الاستمرار في التمسك بأنكحة زوجاتهم اللاتي بقين على كفرهن وتخلفن عنهم مع تقرير حق الأزواج بمطالبة ذويهن الكفار بما أنفقوا عليهن وحقّ الأزواج الكفار بالمطالبة بما أنفقوه على زوجاتهم اللاتي أسلمن وهاجرن.
(٦) وتقريرا لحق الأزواج المسلمين الذين تلتحق زوجاتهم بذويهن في دار الكفر باستيفاء ما أنفقوه عليهن من الغنائم التي قد تقع في أيدي المسلمين من أموال الكفار حينما يتيسر لهم ذلك.
(٧) وتنبيها إلى أن هذه الأحكام هي أحكام الله التي يجب السير في نطاقها وهو العليم بمقتضيات الأمور الذي يقرر ما فيه الحكمة والصواب.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ... إلخ والآية التي بعدها وما ينطوي فيهما من أحكام وصور وتلقين
ولقد روى المفسرون «١» أن الآية الأولى نزلت في نسوة جئن إلى النبي ﷺ مهاجرات مؤمنات من مكة بعد صلح الحديبية. ومنهم من روى أنهن جئن وهو في الحديبية بعد أن تمّ الاتفاق بينه وبين قريش وقبل أن يرجع إلى المدينة، ومنهم من ذكر أسماء اختلفت باختلاف الروايات مثل سبيعة بنت الحارث الأسلمية زوجة من بني مخزوم أو زوجة صيفي الراهب أو أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت عاتقا- غير متزوجة- أو أميمة بنت بشر إحدى نساء بني أمية بن زيد بن أوس الله كانت عند ثابت بن الدحداحة، فجاء ذووهن أو أزواجهن في طلبهن استنادا إلى
واحتمال صحة إحدى الروايات قوي مع ترجيحنا وقوع الحادث بعد رجوع النبي ﷺ إلى المدينة بمدة ما على ما تلهمه روح الآية ومقامها المتأخر كثيرا عن سورة الفتح. فلو لم يكن هناك عهد لما كان ضرورة للأمر بعدم الإرجاع ولما كان هناك مجال لمجيء الكفار ومطالبتهم بالإرجاع كما هو ظاهر.
والآيتان وحدة تشريعية تامة ومنسجمة بحيث يسوغ ترجيح نزولهما معا بقوة. وفيهما أمور ليست من أسباب ومحتوى الرواية حيث يصحّ القول بأن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الآيتين أحكاما متصلة بأمور عديدة من باب واحد في مناسبة إحدى الحوادث المروية.
ولقد تعددت روايات المفسرين في حقيقة شروط الصلح لمعرفة ما إذا كان في الأمر بعدم الإرجاع نسخ لبعضها. فمن هذه الروايات أن النصّ كان مطلقا «لا يأتيك أحد منّا بدون إذن أهله إلّا رددته ولو كان مسلما» ومنها أنه كان بهذه الصيغة «لا يأتيك رجل منّا.. إلخ» ومنها أنه كان في شأن النساء فقط هكذا «لا تأتيك امرأة ليست على دينك إلّا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج تردّ على زوجها الذي أنفق». وليس هناك نصّ للعهد في حديث صحيح.
والنفس تطمئن إلى الرواية الأولى أكثر من غيرها. ولا سيما وهناك رواية ذكرت أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو وكان مسلما قد قيده أبوه بالحديد وحبسه جاء إلى النبي ﷺ في الحديبية يرسف في أغلاله، وكان أبوه هو مندوب المفاوضة مع النبي ﷺ وكان الاتفاق قد تمّ على الشروط فطلب الأب ردّ الابن تنفيذا للعهد فردّه النبي ﷺ على ما شرحناه في سياق سورة الفتح. والرواية الثالثة متطابقة الفحوى مع الآية الأولى فلا يكون هناك ضرورة لأمر رباني ناسخ للاتفاق. وهذا فضلا عن أن نقض العهد الصريح وعدم تنفيذه لم يكن متسقا مع المبادئ القرآنية المكررة بشأن الوفاء بالعهود والعقود. وآيات سورة المائدة الأولى بخاصة قوية
والمتبادر أن قريشا كانوا يعتبرون نصّ العهد شاملا للنساء والرجال معا.
فجاء ذوو النساء المهاجرات إلى المدينة ليطالبوا بردهن. ولم يكن هذا النصّ صريح الشمول فشاءت حكمة التنزيل أن يؤمر المؤمنون بعدم إرجاعهن ما دام ليس هناك نص صريح، ثم شاءت أن يعوض أزواجهن عن النفقة التي أنفقوها والتي يتفق المؤولون على أن المراد منها الصداق إرضاء لهم لأنهم كانوا يرون في المطالبة بردهن شبهة من الحق. ولم يرو أحد أنهم رفضوا هذا الحلّ حيث ينطوي في هذا أنهم لم يكونوا يرون أنفسهم محقين أو مستندين إلى نصّ صريح. وهو بعد حلّ فيه العدل والإحسان. وفيه تلقين جليل في كل موقف مماثل.
ويلفت النظر خاصة إلى جعل الحقوق متبادلة بين المسلمين والكفار في مطالبة الأزواج المسلمين تعويضا عن نسائهم اللائي تخلفن عنهم أو التحقن بذويهم ولو كن كوافر أصلا أو ارتدادا وفي مطالبة الأزواج الكفار تعويضا عن نسائهم اللائي أسلمن والتحقن بالمسلمين. ففي ذلك تسوية متقابلة عادلة إنما تكون في ظروف عهدية وسلمية مستمرة ومحترمة من طرفيها. وفي ذلك أمارة من أمارات رحابة أفق وصدر الشريعة الإسلامية في المناسبات بين المسلمين وغير المسلمين، وتلقين جليل مستمر المدى في كل موقف مماثل أيضا.
والحادث الذي نزلت الآيتان في مناسبته والأمر بعدم الإرجاع يدلان على كل حال على أن موقف المسلمين صار أقوى من موقفهم أثناء عقد صلح الحديبية فاقتضت حكمة التنزيل التساهل في مسألة ليس فيها نصّ صريح. في حين لم يكونوا في تلك الأثناء من القوة ما يكفي لإصرارهم على المساواة في بعض
ولقد روى المفسرون «١» روايات عديدة في كيفية الامتحان الذي أمرت الآية الأولى به. منها أن النبي ﷺ كان يحلّف المرأة بالله أنها ما خرجت من بغض زوج ولا لالتماس دنيا وإنما خرجت حبّا لله ورسوله. ومنها أنه كان يحلّفها بأنها لم تخرج إلّا للدين. ومنها أنه كان يطلب منها بيعة بصيغة الآية التالية للآيتين. وهي «أن لا تشرك بالله شيئا ولا تسرق ولا تزني ولا تقتل أولادها ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها ولا تعصيه في معروف». وهذه الرواية بخاصة من مرويات البخاري والترمذي في سياق تفسير الآية عن عائشة حيث قالت: «إنّ رسول الله ﷺ كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية» «٢» ونحن نرجح هذه الرواية لأنها أوثق سندا وبقرينة ورود الآية التي تحتوي الصيغة بعد الآيتين. ولعلّها نزلت معهما.
ولقد انطوى في الآيتين صور عديدة من صور السيرة النبوية في العهد المدني زادتها الروايات جلاء:
(١) من ذلك أن بعض النساء المكيّات اللاتي أسلمن ولم يستطعن الهجرة وظلّت المتزوجات منهن في كنف أزواجهم المشركين كنّ يتحيّنّ الفرصة للهجرة إلى النبي ﷺ تاركات وطنهنّ وأهلهنّ وأزواجهنّ على ما كان يحفّ هذا العمل من أخطار ومصاعب. وفي هذا صورة رائعة للمرأة العربية ودورها في الدعوة الإسلامية وما بثّه الإسلام فيها من قوة وإخلاص وجرأة وإقدام وتضحية.
(٢) ومن ذلك أن بعض زوجات المهاجرين تخلّفن عن أزواجهنّ محتفظات بشركهن. ومؤثرات أهلهنّ على أزواجهنّ، وممن روت الروايات أسماءهن قريبة
(٢) انظر التاج ج ٤ ص ٢٣٣.
(٣) ومن ذلك أن من المهاجرات من ارتددن وفررن من المدينة ولحقن بأهلهن. وممن ذكرت الروايات أسماءهن أم الحكم بنت أبي سفيان زوجة عياض بن شداد، وبروع بنت عقبة زوجة شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى زوجة عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل بن هشام زوجة هشام بن العاص بن وائل «٢».
(٤) ومن ذلك أن بعض المسلمين ظلوا يحتفظون بعقد زوجيتهم بالكافرات اللاتي تخلفن عنهم ولم يسلمن ولم يهاجرن. وممن ذكرت الروايات أسماءهن عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وزوجاتهم اللاتي ذكرنا أسماءهن قبل قليل فطلقاهن بناء على أمر الله في الآية الأولى «٣».
(٥) ومن الصور الطريفة التي رواها الطبري أن زوجة أحد المسلمين فرت إلى مكة وجاءت في هذه الأثناء امرأة من مكة مهاجرة مؤمنة فدعا رسول الله ﷺ الذي ذهبت زوجته وقال للمرأة القادمة هذا زوج التي ذهبت إلى المشركين أزوجكه. فقالت يا رسول الله عذر الله زوجة هذا أن تفرّ منه لا والله ما لي به حاجة. فدعا رجلا جسيما اسمه البختري فقال لها هذا قالت نعم.
ومما يلحظ أن آية سورة البقرة [٢٢١] نهت عن نكاح المشركات. فالظاهر أن هذا النهي فهم على أنه بالنسبة للزواج بعد الإسلام وأنه ليس شاملا للعقود الزوجية السابقة فاحتفظ المسلمون بزوجاتهم الكافرات إلى أن نزلت هذه الآيات.
وفي هذا مشهد من مشاهد تطور التشريع القرآني.
وقد قال المؤولون على ما ذكره الطبري وغيره في جملة وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا
(٢) هذه الأسماء رواها الطبرسي عن الزهري. وقد قال الطبري إنه لم يخرج إلا امرأة واحدة ولم يذكر اسمها.
(٣) الطبري.
وقد قال المؤولون كذلك في جملة: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا إنها في صدد أمر المؤمنين إعطاء صداق زوجات المؤمنين اللاتي يلحقن بالكفار مما ييسره الله من غنائم العدو.
وهذا حقّ مستلهم من روح الجملة. والمتبادر أن ما يعطاه الزوج يكون غير سهمه الخاص من الغنائم. وهذا من شأن ولي أمر المؤمنين الذي تكون قسمة الغنائم إليه.
هذا، وهناك أحاديث يصحّ إيرادها في هذا المقام لتناسبها مع الموضوع وفيها أحكام تشريعية نبوية.
من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «إنّ رجلا جاء مسلما على عهد النبي ﷺ ثم جاءت امرأته مسلمة فقال يا رسول الله إنها كانت أسلمت معي فردّها عليّ فردّها عليه» «١».
ومن ذلك حديث رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس قال: «أسلمت امرأة على عهد رسول الله فتزوّجت فجاء زوجها الأول إلى النبيّ فقال يا رسول الله إني قد كنت أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها النبيّ ﷺ من زوجها الثاني وردّها إلى الأول» «٢».
(٢) المصدر نفسه.
وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «ردّ النبي ﷺ زينب على أبي العاص بن الربيع بعد ستّ سنين بالنّكاح الأول ولم يحدث نكاحا» «١» وزينب هي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن هشام قصتها. وخلاصة ذلك أن زوجها وقع أسيرا في جملة أسرى بدر، وكانت هي في عصمته في مكة فأرسلت قلادتها لفدائه. فاستشار النبي أصحابه بالمنّ عليه بدون فداء فوافقوا ومنّ عليه على شرط أن يرسلها إلى المدينة ففعل. ثم وقع أسيرا مرة أخرى وجيئ به إلى المدينة فاستجار بزينب فأخبرت بذلك أباها فأجاره ولكنه نبّه عليها قائلا: «لا يخلصنّ إليك فإنّك لا تحلّين له. وقد عاد إلى مكة بعد هذا الحادث وقضى مصالحه ورجع فأسلم فردّ النبي عليه زوجته بدون نكاح جديد» «٢».
وقد روى الإمام مالك حادثا مماثلا في حديث رواه عن ابن شهاب جاء فيه «أنّ صفوان بن أمية فرّ يوم الفتح فأرسل إليه النبيّ أمانا فعاد وكانت امرأته قد أسلمت قبله فردّها عليه بدون نكاح جديد» «٣». وروى البخاري حديثا عن ابن عباس قال: «إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها بساعة حرّمت عليه» «٤».
وقد يكون إسلام أبي العاص قبل نزول آيات الممتحنة التي حرّمت الزوجات المسلمات على أزواجهم الكافرين فلم يكن فيما فعله النبي نقض لأن الحكم القرآني لم يكن قد نزل. غير أن هذا ليس واردا بالنسبة لصفوان وزوجته. ويمكن والحالة هذه أن يقال إن النبي ﷺ فسّر جملة: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ في آية سورة الممتحنة بحرمة الوطء دون انفساخ العقد. وتكون جملة «حرّمت عليه» في
(٢) ابن هشام ج ٢، ص ٢٩٦ و ٢٩٧ و ٣٠٢ و ٣٠٣.
(٣) الموطأ ج ٢ ص ٣١.
(٤) التاج ج ٢ ص ٣٢٥. [.....]
والمتبادر أن بقاء الزوجتين بدون زواج هو الذي جعل النبي ﷺ يمضي حكمه الحكيم. ولو تزوجتا قبل إسلام زوجيهما لما كان محلّ ولا إمكان لذلك.
والتحريم هو تشريع مدني كما هو واضح. فليس من محلّ للسؤال عن سبب بقاء بنت رسول الله التي نعتقد أنها كانت مؤمنة في عصمة زوجها المشرك في العهد المكي ثم في شطر من العهد المدني قبل نزول التحريم. ويظل الحكم الشرعي هو التفريق بين الزوجين إذا ارتدّ أحدهما ولم يتب. أما إذا تاب فقد يكون ما فعله النبي ﷺ محلّ قياس فيعود الزوجان إلى زوجتيهما بدون عقد جديد. وإذا كان الزوج هو المرتدّ فتكون عودة زوجته إليه إذا تاب رهنا ببقائها غير متزوجة. فإن تزوجت فيكون الأمر قد انتهى. والله تعالى أعلم.
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)
(١) ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن: ولا يقدمن على شيء مما تفعله الأيدي والأرجل فيه كذب وافتراء. وقد أوّلها معظم المؤولين بنسبة النساء لأزواجهم أولادا نتيجة للزنا والفاحشة. فبطنها الذي تحمل فيه ولد الزنا بين يديها، وفرجها الذي تلده منه بين رجليها «١» وهو تأويل وجيه.
في الآية أمر للنبي ﷺ بأنه إذا جاءه النساء المؤمنات يردن أن يبايعنه ويعطينه العهد على أنفسهن بأن لا يشركن ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا ينسبن كذبا لأزواجهن ولدا ليس منهم نتيجة للزنا والفاحشة ولا يعصينه في ما يأمر
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ... إلخ وما روي في صددها من أحاديث وروايات وما فيها من تلقين وبخاصة في صدد توطيد شخصية المرأة واستقلاليتها في المجتمع الإسلامي إزاء الرجل
لقد أوردنا في سياق تفسير الآيات السابقة ما رواه البخاري والترمذي عن عائشة عن كيفية امتحان النبي ﷺ النساء اللاتي يأتين إلى المدينة مؤمنات مهاجرات وهي مثل نصّ هذه الآية. مع التنبيه على أن صيغة حديث عائشة لا تفيد أنها أنزلت لذلك. ولم نطلع على رواية أخرى في صدد نزولها. وكل ما هناك أن المفسرين رووا روايات عديدة في تطبيقها. وقد يرد بالبال أن تكون نزلت مع الآيتين السابقتين لها لتكون صيغة الامتحان. وفي حال صحة هذا الاحتمال تكون صلتها بالآيات السابقة لها وموضوعها وثيقة. غير أن اختلاف الصيغة بين هذه الآية والآيتين السابقتين لها يجعلنا نتردد في الجزم بذلك. فالخطاب في الآيتين السابقتين يوجّه إلى المؤمنين بامتحان النساء المؤمنات اللاتي يجئن إليهم مهاجرات. والخطاب في الآية موجه إلى النبي ﷺ بالاستجابة إلى النساء المؤمنات إذا جئن إليه للمبايعة. والفرق غير يسير في ما يتبادر لنا بالرغم مما يمكن أن يصح أن يقال إن الخطاب للمؤمنين يعني الخطاب للنبي. وكل هذا يجعل الاحتمال أقوى أن تكون الآية نزلت مستقلة استجابة إلى طلب تقدم به بعض المؤمنات إلى النبي ﷺ بأن يبايعهن استقلالا عن الرجال. وقد روي شيء من ذلك في مناسبة الآية [١٩٥] من سورة آل عمران والآية [٣٥] من سورة الأحزاب على ما أوردناه في مناسبتهما. فإذا صحت وجاهة وقوة هذا الاحتمال فتكون الآية قد نزلت في ظرف مثل هذا الطلب وقبل مجيء المؤمنات مهاجرات من مكة فجعلت صيغتها
ولقد روى ابن هشام أن النبي ﷺ أخذ البيعة من أول رهط أسلم من الأوس والخزرج قبل الهجرة إلى المدينة بصيغة هذه الآية «١». وروى الطبري عن أم عطية أن النبي ﷺ بعد مقدمه إلى المدينة جمع طائفة من نساء الأنصار في بيت وجاء إليهن مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسلّم عليهن من وراء البيت وقال: أنا رسول الله، فقلن: مرحبا وحبّا، فقال: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا، إلى جملة ولا تعصين في معروف، قلن: نعم. فمدّ يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: اللهمّ فاشهد.
ولقد روى المفسرون أن النبي ﷺ عقب فتح مكة أخذ البيعة من الرجال ثم أخذ البيعة من النساء، وأن صيغة بيعة النساء كانت صيغة الآية. ومن طريف ما روي في صدد ذلك أن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان من جملة من أقبل من نساء قريش على مبايعة النبي ﷺ وكانت متنكرة لأنها حسبت أن يكون النبي ﷺ حاقدا عليها وقد يقتلها لما فعلته في عمّه حمزة رضي الله عنه يوم أحد. حيث روي أنها بقرت بطنه وأخذت قطعة من قلبه أو كبده فلاكتها شفاء لنفسها من قتل أبيها
إلخ. قالت والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد ومكارم الأخلاق، ولما لقنهن وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ قالت ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنت وهم أبصر. وضحك عمر حتى استلقى على قفاه وتبسّم النبي صلى الله عليه وسلم. ولما لقنهن وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قالت ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
وروايات مبايعة النبي ﷺ النساء بهذه الصيغة معقولة بالنسبة إلى ما بعد نزولها سواء أكان ذلك ممن كن يأتين مؤمنات مهاجرات قبل الفتح ويدعين الإسلام أم كان ذلك من نساء قريش عقب الفتح. أما روايات أخذ البيعة بنفس الصيغة قبيل هجرة النبي ﷺ إلى المدينة وعقب هجرته إليها ففيها نظر إلّا أن يكون النبي ﷺ قد ألهم الصيغة قبل أن ينزل بها الوحي قرآنا. وفي هذا إذا صحت الروايات مشهد من مشاهد التوافق بين أقوال النبي ﷺ الملهمة وبين الوحي القرآني «٢».
والنهي عن قتل الأولاد متصل بعادة وأد البنات على ما ذكره المفسرون. وقد كان النساء إلى ذلك إذا ما ولدن بنتا يخنقنها حال ولادتها سخطا وكراهية ولادة
(٢) هناك حديث عن عبادة بن الصامت رواه الشيخان والترمذي والنسائي جاء فيه: «كنّا مع النبي ﷺ في مجلس فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله». انظر التاج ج ٣ ص ٣٤. وعبادة بن الصامت من الذين بايعوا النبي قبيل هجرته إلى المدينة وعيّنه النبي نقيبا مع رفاق له على ما شرحناه في سياق [الآية: ٣٠] من سورة الأنفال. وهذا الحديث الصحيح قد يفيد أن هذه البيعة تمت بعد الهجرة النبوية. والله أعلم.
وفي فقرة وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ تلقين جليل بالنسبة لظروف نزول الآية وبالنسبة لواجب المسلمين نحو أولياء أمورهم وواجب هؤلاء نحو المسلمين.
حيث قرن النهي عن عصيان النبي ﷺ بتعبير فِي مَعْرُوفٍ للإيذان بأنه ليس من حق ولي الأمر أن يأمر بمعصية، وأن ينتظر من الناس طاعة مطلقة بدون قيد. وبأن الطاعة الواجبة عليهم هي فيما هو متعارف عليه أو معروف بأنه خير وصلاح ومفيد ولا إثم فيه ولا منكر ولا عدوان- ولو كان النبي- وهذا من باب التعليم والتوكيد على هذا المبدأ الدستوري القرآني لأن النبي ﷺ معصوم عن الأمر بمعصية أو بما ليس فيه صلاح وخير وفائدة.
وقد سبق قيد قريب من هذا في إحدى آيات سورة الأنفال [٢٤] التي تأمر المؤمنين بالاستجابة إلى الرسول إذا دعاهم لما فيه خيرهم وحياتهم. فهذا القيد وذاك ينطويان على مبدأ دستوري قرآني عام بسبيل تنظيم الحقوق بين المسلمين وأولياء أمورهم. وبسبيل تقرير كون الحكم في الإسلام ليس مطلقا وإنما هو مقيد بأحكام الكتاب والسنّة وبما فيه الخير والحقّ والصلاح. وقد انطوى في آية سورة النساء [٥٩] حلّ دستوري لذلك فيما إذا قام نزاع عليه بين المسلمين أو بين المسلمين وأولياء أمورهم وهو ردّ النزاع إلى الله ورسوله أي إلى كتاب الله وسنّة رسوله على ما شرحناه في سياقها. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «١». حيث ينطوي فيه تدعيم حاسم.
وهذه الروايات والأحاديث قد تكون صحيحة. غير أنها ليس فيها حديث نبوي يفسر الجملة بالمنهيات أو يحصرها فيها. وليس من شأنها بالتبعية أن تغطي على المعنى الدستوري العام المطلق الذي ينطوي في الجملة. وكل ما في الأمر أن النبي ﷺ كان ينهى النساء حينما كان يأخذ البيعة منهن عن بعض عاداتهن المنكرة التي فيها معصية والتي هي من متناول النهي القرآني فالتبس الأمر على الرواة.
ونستطرد إلى القول بأن المفسرين أوردوا أحاديث نبوية عديدة في سياق تفسير هذه الجملة في النهي عن النياحة وردت في الكتب الخمسة أيضا. وقد رأينا أن نجاريهم في إيرادها لما فيها من تأديب نبوي رائع. من ذلك حديث عن عبد الله رواه الخمسة إلّا أبا داود جاء فيه: «قال النبيّ ﷺ ليس منّا من ضرب الخدود وشقّ
ولقد أورد المفسرون في سياق الجملة كذلك أحاديث نبوية أخرى فيها تلقينات جليلة منها حديث رواه الطبري عن أميمة التيمية قالت: «إنّ النبيّ ﷺ قال لنسوة جئن لمبايعته بعد أن أخذ عليهن البيعة بأن لا يعصينه في معروف: «فيما أطقتن واستطعتن» فقلن الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا». وهذا متسق مع المبادئ القرآنية المتكررة من كون الله تعالى لا يكلّف نفسا إلّا وسعها. ومنها حديث رواه الطبري كذلك عن قتادة: «أنّ النبيّ ﷺ لما نهى النساء أن لا ينحن ولا يخلون مع غير المحارم من الرجال أو لا يخلونّ بحديث الرجال إلّا مع ذي محرم قال
(٢) المصدر نفسه. والصالقة هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة هي التي تمزق ثيابها عند المصيبة.
(٣) المصدر نفسه ص ٣٠٧.
(٤) المصدر نفسه ص ٣٠٨.
(٥) المصدر نفسه. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي موسى قال «لمّا أصيب عمر جعل صهيب يقول وا أخاه فقال عمر أما علمت أن النبي ﷺ قال إن الميت يعذّب ببكاء الحي وفي رواية أن الميت يعذّب ببكاء أهله. وذكر لعائشة قول عمر فقالت رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله بذلك، ولكن قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه. وقالت حسبكم القرآن. ولا تزر وازرة وزر أخرى. وفي رواية سمعت عائشة بقول ابن عمر الميت يعذب ببكاء أهله فقالت يغفر الله لأبي عبد الرحمن إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ. إنما مرّ النبي ﷺ على يهودية يبكي عليها أهلها فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها» والمتبادر أن في تصحيح عائشة رضي الله عنها تفريقا بين البكاء والنواح وجواز الأول دون الثاني. وحديث عائشة من مرويات الخمسة أيضا. انظر المصدر نفسه ص ٣٠٨- ٣٠٩.
ولقد روى الطبري أيضا حديثا عن أميمة: «أنّ النساء بعد أن بايعن رسول الله ﷺ قلن يا رسول الله ألا تصافحنا؟ فقال إني لا أصافح النساء ما قولي لامرأة واحدة إلّا كقولي لمائة امرأة». ولقد روى البخاري والترمذي عن عائشة حديثا جاء فيه: «أنّ رسول الله ﷺ كان يبايع النساء بالكلام دون أن تمسّ يده يد امرأة» «١».
ولعلّ هذه الأحاديث هي مستند الذين يحرمون أو يكرهون مصافحة الرجال للنساء. وقد يكون الاستناد في محلّه. غير أن من الحق أن نذكر أنها لا تنطوي على ما يمكن الجزم به بأن ذلك كان حراما أو مكروها. والله تعالى أعلم.
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
. (١) قد يئسوا من الآخرة: من المفسرين من أوّل الجملة بمعنى قد يئسوا من رحمة الله ورضائه وثوابه في الآخرة. ومنهم من أوّلها بمعنى قد يئسوا من أي احتمال للبعث الأخروي. وكلا التأويلين وجيه تتحمّله العبارة.
(٢) كما يئس الكفار من أصحاب القبور: بعض المفسرين أوّل الجملة بمعنى أن الأحياء من الكفار قد يئسوا من أي احتمال لبعث الذين ماتوا وصاروا أصحاب القبور. وبعضهم أولها بمعنى أن الأموات من الكفار يئسوا من أي بعث أخروي أو من رحمة الله ورضائه في الآخرة. والتأويلات الثلاثة وجيهة ومحتملة.
وفي هذه الآية نهي للمؤمنين عن موالاة أناس غضب الله عليهم فغدوا يائسين من رضاء الله في الآخرة أو ليس عندهم أي احتمال لبعث أخروي. وكان مثلهم في
ولم يرو المفسرون «١» رواية في نزول الآية. وإنما قالوا والله إن المقصود من (قوم) هم اليهود وإنه كان أناس من فقراء المسلمين يتصلون باليهود ويخبرونهم بأخبار المسلمين فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله.
ويلحظ أن السورة قد نزلت قبيل الفتح المكي على ما سبق ذكره. وقد كان يهود المدينة قد أجلوا قبل ذلك بنحو سنتين عنها. كما أن خيبر وغيرها من القرى كانت دخلت في حيازة النبي والمسلمين وحكمهم فلم يبق يهود يصحّ أن يتخذهم المسلمون أولياء. ولقد بدأت السورة بنهي المسلمين عن اتخاذ الكفار المشركين أولياء والمساررة إليهم بالمودة. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل شاءت أن تختم بالنهي نفسه حتى يجتمع طرفاها في أمر واحد. فإذا صح هذا يكون في الآية مشهد من مشاهد التأليف القرآني. ويكون القوم هم الكفار المشركون أنفسهم وهو ما نرجو أن يكون صحيحا. وليس من الضروري أن يكون وصف القوم بأنهم الذين غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مصروفا إلى اليهود ولو أن القرآن كثيرا ما وصفهم به. وهذا الاعتبار هو على الأغلب الذي أوحى بذلك. فالوصف يصح على كلّ كافر بطبيعة الحال. والله تعالى أعلم.
في هذه السورة دعوة إلى الإخلاص في الإيمان. والبذل في سبيل الله.
وتحذير للمسلمين من قسوة القلوب والاستغراق في الدنيا وأغراضها كما صار إليه أهل الكتاب. وحضّ على الخير والتسابق فيه مع الاعتماد على الله. وتنديد بالبخلاء المختالين. وتنويه بالمؤمنين المخلصين وتقريع وإنذار للمنافقين بمناسبة موقف ممضّ وقفه بعض مرضى القلوب المنافقين. وفيها تشبيهات واستطرادات إلى حكمة إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد العدل وما كان من أمر الأمم السابقة وانحراف أكثرهم مما فيه توطيد لفكرة السلطان وهدفه. وفيها إشارة تنويهية إلى أخلاق الذين اتبعوا عيسى عليه السلام مع الإشارة إلى فسق كثير منهم أيضا.
وفصول السورة غير منقطعة عن بعضها بحيث يسوغ القول بأنها نزلت متتابعة. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أنها نزلت بعد سورة الزلزلة التي يروى أن سورة النساء نزلت بعدها وقبل سورة محمد. ومعظم رواة ترتيب النزول يجعلون ترتيبها مثل ترتيبها في هذا المصحف «١» في حين أن فيها آية تفيد بصراحة أنها نزلت بعد الفتح الذي يتفق معظم المؤولين على أنه فتح مكة «٢».
وليس في السورة ما يمكن أن يساعد على القول بأن فصولا منها نزلت قبل هذا الفتح. وهذا ما جعلنا نؤخر ترتيبها عن الترتيب المروي للتوفيق بين ظروف
(٢) انظر الطبري والنيسابوري والبغوي والزمخشري والخازن وابن كثير والطبرسي.
ولقد وردت كلمة الفتح في سورة النصر، والجمهور على أنه فتح مكة أيضا غير أن الإشارة جاءت فيها بأسلوب التذكير والتنويه، والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن السورة هي آخر سور القرآن نزولا. وقد ذكر ذلك الزمخشري. وروى ابن كثير حديثا عن ابن عمر أنها نزلت في حجة الوداع التي لم يعش النبي ﷺ بعدها إلا نحو ثمانين يوما. وروى حديثا عن ابن عباس أن السورة لما نزلت دعا النبي ﷺ فاطمة رضي الله عنها وقال إنه قد نعيت إليّ نفسي. وحديثا عن عبد الله بن عقبة «أنّ ابن عباس سأله أتعلم آخر سورة نزلت من القرآن؟ قال نعم إنها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ. فقال صدقت. وحديثا عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: «نعيت إليّ نفسي بها وإني مقبوض هذه السنة». وقال النيسابوري: إنّ النبي ﷺ لم يعش بعد نزولها إلّا سبعين يوما. حيث تتضافر هذه الروايات على أنها نزلت قبل قليل من وفاة النبي ﷺ التي كانت بعد فتح مكة بنحو سنتين. ولقد احتوت سورة التوبة آيات تفيد بصراحة أنها نزلت بعد فتح مكة منها هذه الآية: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... [٣] وهذه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا... [٢٨].
وبناء على ما تقدم وضعنا سورة الحديد بعد سورة الممتحنة لأن الفتح المكي وقع بعد نزول هذه السورة وفي ظروف نزول سورة الحديد. والله تعالى أعلم.