تفسير سورة التحريم

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة التحريم
آياتها اثنتا عشرة وفيها ركوعان وهي مدنية

في الصحيحين عن عطاء أنه سمع عبيد ابن عمير يقول سمعت عائشة تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم وكان يمكث عند زينب بنت جحش يشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحداهما فقالت له ذلك فقال لا بأس شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزلت ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾١ يعني العسل والاستفهام للإنكار يعني لا ينبغي أن تحرم الحلال، وفي رواية للبخاري عن عطاء بإسناده قال لا ولكن كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا يعني بذلك مرضاة أزواجه وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق ابن أبي مليكة بسند صحيح عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند سودة العسل فيدخل على عائشة قالت إني أجد منك ريح مغافير ثم دخل على حفصة فقالت مثل ذلك فقال أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه فنزلت الآية قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري الراجح أن صاحبة العسل زينب لا سودة لأن طريق عبيد ابن عمر أثبت من طريق ابن أبي مليكة بكثير ويرجحه أيضا ما روى البخاري عن عائشة إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يرجح أن زينب هي صاحبة العسل ولهذا عارت عائشة منها لكونها من غير حزبها.
فائدة : وقد ورد في صحيح البخاري من حديث عروة عن عائشة أن صاحبة العسل حفصة وذلك أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه فيدنو منهن فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة فقلت أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة وقلت إذا دخل عليك فإنه سيد قومك فقولي يا رسول الله أكلت مغافير فيقول لا فقولي يا هذه الريح ؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول سقتني حفصة شيء عسل قولي يا رسول الله جرست نحله العرفظ وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية فلما دخل على سودة قالت والله الذي لا إلاه إلا هو لقد كدت أن أناديه بالذي قلت لي وأنه على الباب فرقا منك فلما دنى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله أكلت مغافير ؟ قال لا، قالت فما بال هذا الريح ؟ قال سقتني حفصة شربة عسل، قالت جرست نحله العرفظ فدخل علي فقلت له مثل ذلك فدخل على صفية فقالت له مثل ذلك فلما دخل على حفصة قالت يا رسول الله ألا أسقيك منه قال لا حاجة لي به قالت يعني عائشة تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه قالت يعني عائشة قلت لها اسكتي.
قال الحافظ ابن حجر وطريق الجمع بين هذا الحديث الدال لى أن صاحبة العسل حفصة وبين ما سبق أنها زينب الحمل على تعدد الوقعة فلا يمتنع تعدد السبب لأمر واحد فإن صح إلى الترجيح فرواية عبيد عمير أثبت لموافقة ابن عباس لها على أن المتظاهرتين حفصة وعائشة فلو كانت حفصة صاحبة لعسل لم تقرره في المظاهر بعائشة لكن يمكن تعدد القصة في شرب العسل وتحريمه واختصاص النزول بالقصة التي فيها أن عائشة وحفصة هما متظاهرتان ويمكن القصة التي وقع فيها شرب العسل عند حفصة كانت سابقة ويؤيد هذا الحمل أنه لم يقع في طريق هشام ابن عروة التي فيها شرب العسل كان عند حفصة تعرض الآية ولا لذكر سبب النزول قال القرطبي الرواية التي فيها أن المتظاهرتان عائشة وصفية وسودة ليست بصحيحة لأنها مخالفة التلاوة بمجيئها بخطاب الاثنين دون الخطاب جمع المؤنث فالتوفيق ما ذكرنا أن قصة شرب العسل عند حفصة كانت سابقة فلما قيل له ما قيل ترك شرب الخمر من غير تصريح بتحريج ولن ينزل في ذلك شيء لم لما شرب في بيت زينب تظاهرت عائشة وحفصة على ذلك القول، حرم العسل فنزلت الآية، وأخرج ابن سعد عن عبد الله ابن رافع قال سألت أم سلمة عن هذه الآية قالت كان عندي عكة من العسل أبيض فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلعق منها وكان يحبه وقالت عائشة نحلها تجرس عرفظا فحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية كذا أخرج الطبري ورفع في تفسير السدي، قال الحافظ ابن حجر هذا مرجوج لإرساله وشذوذه وقال أكثر المفسرين إن الآية نزلت في تحريم مارية ذكر البغوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فلما كانت يوم حفصة استأذنت زيارة أبيها فأذن فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقا فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي فقال ما يبكيك ؟ فقالت إنما أذنت لي من أجل هذا فدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي أما رأيت لي حرمة وحقا ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هي جاريتي أحلها الله لي أسكتي فهي حرام علي ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار التي بينها وبين عائشة فقالت ألا أبشرك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية وقد أراحنا الله منها وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فغضبت عائشة فلم يزل نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها فأنزل الله عز وجل هذه الآية وأخرج البزار بسند صحيح عن ابن عباس قال نزلت ﴿ يا أيها النبي لم تحرم ﴾ الآية في سرية.
روى ابن الجوزي في التحقيق بسنده عن ابن عباس قال كانت حفصة وعائشة متحابين فذهبت حفصة إلى أبيها تحدث عنده فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جارية فظلت معه في بيت فرجعت حفصة فوجدتها في بيتها فخرجت الجارية ودخلت حفصة وقالت قد رأيت من كان عندك والله لقد سويتني فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأرضيك وإني أسر إليك سرا فاحفظه، قالت ما هو ؟ قال أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضي لك فأنزل الله هذه الآية، وأخرج الحاكم والنسائي بسند صحيح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمه يطأ فلم تزل به حفصة حتى جعلها على نفسه حراما فأنزل الله هذه الآية وأخرج في المختار من حديث ابن عمر عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة :( لا تخبري أحدا أن أم إبراهيم علي حرام ) فلم يقربها حتى أخبرت عائشة فأنزل الله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) وأخرج الطبراني بسند ضعيف من حديث أبي هريرة قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمارية سرية بيت حفصة فجاءت فوجدتها معه فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي دون بيوت نسائك فقال فإنها علي حرام أن أمسها يا حفصة واكتمي هذا علي فخرجت حتى أتت عائشة فأخبرتها فأنزل الله يا أيها النبي لم تحرم الآيات فهذه الأحاديث تدل على أن الآيات في تحريمه عليه الصلاة والسلام على نفسه مارية القبطية على خلاف ما سبق من الأحاديث قال الحافظ ابن حجر يحتمل أن الآية نزلت في السببين معا ويدل على هذا التوفيق ما وقع في رواية يزيد ابن رومان عن عائشة عند ابن مردوية وفيه أن حفصة أهديت لها عكة فيها عسل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها حبسته حتى يلعقه أو يستقيه منها فقالت عائشة بجارية لها حبشية يقال لها خضراء إذا دخل على حفصة فانظري ما يصنع فأخبرتها الجارية بشأن العسل فأرسلت إلى صواحبها فقالت إذا دخل عليكن فقلن أنا نجد منك ريح مغافر فقال هو عسل والله لا أطعمه أبدا فلما كان يوم حفصة استأذنته أن تأتي أباها فأذن فذهبت فأرسل إلى جارية فأدخل بيت حفصة قال فرجعت حفصة فوجدت الباب مغلقا فخرج ووجهه يقطر وحفصة تبكي وعاينته فقال أشهد أنها علي حرام وانظري لا تخبري بهذا امرأة وهي عندك أمانة فلما خرج قرعت الجدار الذي بينهما وبين عائشة فقالت أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم أمته قلت : هذا الحديث يوجب الجمع بين قصة مارية وقصة شرب العسل عند حفصة قبل ذلك ولعل الراوي جمع في الرواية قصة شرب العسل عند حفصة وقصة تحريم مارية وترك ما بين ذلك من قصة شرب العسل عند زينب وتحريم العسل قال الحافظ ابن حجر والراجح من الأقوال كلها في سبب نزول الآية قصة مارية لاختصاص عائشة وحفصة بها خلاف لعسل فإنه اجتمع فيه جماعة منهن يعني سودة وصفية مع عائشة كما مروا الله تعالى أعلم ﴿ تبتغي مرضات أزواجك ﴾ تفسير للتحريم أو حال من فاعله أو استيناف ببيان الداعي إليه ﴿ والله غفور ﴾ لك هذه الزلة فإنه لا ينبغي تحريم ما أحل الله بالحلف ﴿ رحيم ﴾ رحمك فجعل لك مخرجا من التحريم ولم يؤاخذك به وعاتبك محاماة لك عما لا ينبغي
١ أخرجه البخاري في كتابك الطلاق باب: ﴿لما تحرم ما أل الله لك﴾ ﴿٥٢٦٧﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الطلاق باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق ﴿١٤٧٤﴾.
﴿ قد فرض الله ﴾ أي شرع ﴿ لكم تحلة أيمانكم ﴾ أي تحليل ما حرم باليمين أو حل عقدة اليمين أو المعنى أوجب عليكم أن تكفروا بالأيمان إذا حنثتم والكفارة هي ما تحل به اليمين أي يرفع إثم نقضه فإن قيل صلة الوجوب تكون كلمة على دون اللام، قلنا لما كان وجوب الكفارة جالبا المنفعة الحل ورفع الإثم أورد كلمة اللام موضع على والكفارة ما ذكرت في سورة المائدة ﴿ والله مولاكم ﴾ أي وليكم وناصركم الجملة حال من فاعل فرض أو مستأنفة ﴿ وهو العليم ﴾ بما يصلحكم ﴿ الحكيم ﴾ المتقن في أفعاله وأحكامه اختلفوا في أنه صلى الله عليه وسلم هل كفر أم لا فقال مقاتل أعتق رقبة في تحريم مارية وقال الحسن لم يكفر لأنه مغفور له والصحيح عندي قول مقاتل فأن قوله تعالى :﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ بعد قوله ﴿ لم تحرم ﴾ دليل واضح على افتراض الكفارة على النبي صلى الله عليه وسلم بالتحريم المذكور وكونه مغفورا له لا ينافي وجوب الكفارة كما لا ينافي وجوب سجود السهو وغيرها وأيضا قول مقاتل شهادة على الإثبات فتقبل بخلاف قول الحسن ويؤيد قول المقاتل قول ابن عباس ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )١ وأخرج الحارث ابن أبي أسامة في مسنده عن عائشة ( قالت لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح أنزل الله تعالى ﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ متفق عليه وهذا غريب جدا في سبب نزولها.
مسألة : من قال حرمت على نفسي أمتي هذه أو طعامي هذا أو طعاما كذا يكون يمينا عند أبي حنيفة وأحمد والأوزاعي وهو المروي عن أبي بكر وعائشة والحجة لهذا القول هذه الآية حيث قال الله تعالى :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾ ﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ حيث جعل تحريم الحلال يمينا وقال البغوي أخبرنا عن سعيد ابن عباس قال في الحرام يكفر ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ وقال الشافعي تحريم الحلال ليس يمين لكن في صورة الأمة عليه كفارة اليمين بنفس اللفظ لا بالحنث في صورة تحريم الطعام لا شيء عليه وإن، قال لزوجته أنت علي حرام أو حرمتك فإن نوى طلاقا فهو طلاق وإن نوى به ظهار وإن نوى التحريم وأتتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين عند الشافعي وعند أبي حنيفة هو إيلاء يكفر بعد الفيء قال البيضاوي : الاحتجاج بهذه الآية على كون التحريم مطلقا أو تحريم المرأة يمينا ضعيفا إذ لا يلزم من وجوب كفارة اليمين فيه كونه يمينا مع احتمال أنه صلى الله عليه وسلم أتى بلفظ اليمين، وقول البيضاوي هذا لا يخفى ضعفه فإن الله سبحانه ذكر من النبي صلى الله عليه وسلم التحريم مطلقا ومن غير ذكر الحلف ومن غير تخصيص التحريم بالمرأة ثم سماه يمينا حيث قال قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فهو دليل واضح على كون التحريم نفسه يمينا والله تعالى أعلم.
١ قول ابن عباس أنه في الحرام يكفر ثم قرأ الآية. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير باب: ﴿يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك﴾ ﴿٤٩١١﴾.
﴿ وإذ أسر النبي ﴾ كما في حديث عمر متعلق بأذكر ﴿ إلى بعض أزواجه ﴾ يعني حفصة ﴿ حديثا ﴾ هو تحريم العسل كما ورد في الصحيحين في حديث عبيد ابن عمير عن عائشة في آخر الحديث المذكور أولا وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا لقوله بل شربت عسلا أو تحريم أمته مارية وهو الأرجح عند أهل التفسير والله أعلم بالحكمة في الإسرار يظهر الحكمة في الإسرار فيما رواه ابن سعد من طريق شعبة مولي ابن عباس عنه قال خرجت حفصة من بيتها يوم عائشة فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية القبطية بيت حفصة فجاءت فرقبته حتى خرجت الجارية فقالت له أما أني قد رأيت ما صنعت قال فاكتفي علي وهي حرام فانطلقت حفصة إلى عائشة فقالت أما يومي فتعرس فيه بالقبطية وتسلم لنسائك سائر أيامهن فنزلت الآية فإنه يعلم من هذا الحديث أن الإسرار كان لئلا تغضب عائشة بتعريسه صلى الله عليه وسلم بالقبطية في يومها وقال سعيد ابن جبير عن ابن عباس إسرارا الخلافة بعده فحدثت به حفصة قال الكلبي أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي أخرج الواحدي عن ابن عباس قال والله إن أمارة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله تعالى قال الله تعالى وإذ أسر النبي على بعض أزواجه حديثا قال لحفصة أبوك وأبو عائشة أولياء الناس يعد فإياك أن تخبري به أحدا وله طرق وكذا روى عن علي وميمون بن مهران وحبيب ابن ثابت وعن الضحاك ومجاهد وقال ميمون ابن مهران أسر أن أبا بكر خليفتي من بعدي ﴿ فلما نبأت به ﴾ الضمير راجع إلى بعض أزواجه يعني أخبرت بذلك أسر عائشة ﴿ وأظهره الله عليه ﴾ أي اطلع لله نبيه على إفشائها سره فيه دليل على أن عائشة لما غضبت بتعريسه صلى الله عليه وسلم بالقبطية لم يقل أن حفصة أطلقتني الفعل الذي فعلت من إفشاء السر من قول القائل لمن أساء إليه لأعرفن لك ما فعلت أي جازينك عليه وجاز إهابه عليه بأن طلقها فلما بلغ ذلك عمر قال لو كان في الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء جبرائيل وأبوه لمراجعتها واعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهر أو قعد في مشربه أم إبراهيم مارية حتى نزلت آية التخيير كذا قال البغوي وقال مقاتل ابن حبان لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وإنما هم بطلاقها فأتاه جبرائيل فقال لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة فلم يطلقها وقرأ الجمهور عرف بالتشديد أي أخبر حفصة ببعض ما قالت بعائشة من سره صلى الله عليه وسلم ﴿ وأعرض عن بعض ﴾ يعني لم يخبرها به، قال الحسن ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الكراهة في وجه حفصة لأجل تعريسه صلى الله عليه وسلم بالقبطية في بيتها على فراشها أراد أن يرضيها فأسر إليها الشيئين تحريم الأمة على نفسه وبشرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر فأخبرت به حفصة عائشة وأطلع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم عرف حفصة ببعض ما أضمرت به عائشة وهي تحريم الأمة وأعرض عن بعض يعني ذكر الخلافة كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتشر ذلك في الناس وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس قال لما دخلت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم بيتها فوجدت معه مارية فقال لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة أن أباك يلي هذا الأمر بعد أبي بكر إذا أقامت فذهبت إلى عائشة فأخبرتها فقالت له عائشة ذلك والتمست منه أن يحرم مارية فحرمها ثم جاء إلى حفصة فقال أمرتك أن لا تخبري عائشة فأخبرتها فعاتبها ولم يعاتبها على أمر الخلافة فلذا قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض وأخرج الطبراني في الأوسط وفي عشرة نساء عن أبي هريرة نحوه بتمامها وفي كل منها ضعف ﴿ فلما نبأها ﴾ يعني أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ﴿ به ﴾ أي بما أظهره الله عليه من إفشائها سره هذه الآية يناسب قراءة الجمهور عرف بالتشديد فإنه بمعنى الإنباء لكنها لا ينفي قراءة الكسائي بالتخفيف لتحقيق الأخبار والمحاذاة جمعا ولا منافاة بينهما ﴿ قالت ﴾ حفصة من ﴿ من أنبأك هذا ﴾ أي إفشائي سرك ﴿ قال ﴾ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ نبأني العليم الخبير ﴾
﴿ إن تتوبا ﴾ يعني عائشة وحفصة فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المعاتبة وروى في الصحيحين في حديث عبيد ابن عمير عن عائشة في آخر الحديث المذكور في أول السورة قوله إن تتوبا إلى الله لعائشة وحفصة يعني تتوبا ﴿ إلى الله ﴾ من التعون على النبي صلى الله عليه وسلم وإفشاء سره وجزاء الشرط محذوف أي أتيتما بالواجب أقيم علة مقامه حيث قال ﴿ فقد صغت ﴾ أي زاغت ومالت ﴿ قلوبكما ﴾ عن الاستقامة على طريق الحق حيث رضيتما بما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحريم أمة وإفشاء سره والواجب على كل واحد أن يحب ما يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكره ما يكرهه أطلق القلوب على لقلبين ولم يقل قلباكما استثقالا للجمع بين التثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة والفاء لتعليل الجزاء فإن زيغ القلوب سبب للمعصية والمعصية سبب لوجوب التوبة، روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال لم أزل حريصا على أن أسأل عمر ابن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التي قال الله تعالى :﴿ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ﴾ حتى حج وحججت معه وعدل وعدلت معه باداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فقلت له يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى :﴿ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ﴾ قال واعجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال كنت أنا ورجال من الأنصار من بني أمية ابن زيد وهم من عد إلى المدينة وكنا نتناوب النزول عن النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل يوما فإذا نزلت حدثته مما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره وإذا نزل فعل مثله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نسائهم فطفق مساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني قالت ولم تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فأفزعني ذلك وقلت قد خلبت من فعلت ذلك فيهن ثم جمعت على ثيابي فنزلت فدخلت علي حفصة فقلت لها أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل قالت نعم فقلت قد خبت وخسرت أفتأمنين أن يغضب الله بغضب رسوله فتهلكي لا تستكثري على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه وسليني ما بدا لك ولا يغيرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد عائشة قال عمر وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنزل صاحبه الأنصار يوم نوبته فرجع إلينا عشاء فضرب بأبي ضربا شديدا فقال أثمه هو ففزعت فخرجت إليه فقال قد حدث اليوم أمر عظيم قلت ما و أجاء غسان قال لا بل أعظم من ذلك وأطول طلق النبي صلى الله عليه وسلم نسائه فقلت خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون فجمعت على ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مشربة له فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي فقلت ما يبكيك ألم أكن حذرتك هذا طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لا أدري ها هو ذا معتزل في المشربة فخرجت فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم فجلست معهم قليلا ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لغلام له استأذن لعمر، فدخل الغلام فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع فقال كلمت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتك له فصمت فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذي عند المنبر ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم رجع إلي فقال ذكرت له فصمت فلما وليت منصرفا فإذا الغلام يدعوني فقال قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال في جنبه متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف فسلمت عليه، ثم قلت وأنا قائم يا رسول الله أطلقت نساءك فرفع إلي بصره فقال لا الله أكبر قلت أنا قائم أستأنس برسول الله صلى الله عليه وسلم لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساءهم فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلت يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها لا يغيرنك أن جارتك أوضاع منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عائشة فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى فجلست حين يتبسم فرفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر لا غير أهبة ثلاثة فقلت يا رسول الله أدع الله فليتوسع أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئا فقال أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت يا رسول الله استغفر لي فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعا وعشرين ليلة وكان قال ما أنا بداخل عليهن شهرا من شدة موجدة عليهن حين عاتبه الله فما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشة يا رسول الله إنك كنت أقسمت ألا تدخل علينا شهرا وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عدا فقال :( الشهر تسع وعشرون )وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين ليلة قالت ثم أنزل الله آية التخيير فبدأ بي أول مرة من نسائه فاخترته ثم خير نسائه كلهن فقلن ما قالت عائشة١ وروى البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها إني فاكر لك أمرا فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم قال إن الله قال :﴿ يا أيها النبي قل لأزواجك ﴾ إلى تمام الآيتين فقلت أو في هذا استمر أبوي فإني أيد الله ورسوله والدار الآخرة. هذا الحديث يدل على أن سبب اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم نسائه الشهر كان إفشاء حفصة سرها إلى عائشة وما أخرجه مسلم عن جابر أنه دخل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه سلم فوجد الناس جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن لأحد منهم فأذن لأبي بكر فدخل ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا وحوله نساءه واجما ساكتا قال فقال عمر لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لو رأيت بيت خارجة سألتني النفقة إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :( هن حولي كما ترى تسألني النفقة ) فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقولان لا تسألين رسول الله أبدا ما ليس عنده ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين ليلة ثم نزلت آية التخيير فبدأ بعائشة الحديث٢ قال الحافظ ابن حجر ويحتمل أن يكون مجموع هذه الأشياء يعني قصة عسل وقصة مارية وإفشاء حفصة السر وقصة سؤال النفقة وقصة رد زينب الهدية ثلاثا وزيادة النبي صلى الله عليه وسلم في هديتها كل مرة رواه ابن سعد من طريق عمرة ومن طريق عروة عن عائشة كان سببا لإعتزالهن وهذا هو اللائق بمكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وسعة صدره وكثرة صفحه أن ذلك لم يقع منه حتى تكرر موجبه منهن ورضى عنهن صلى الله عليه وسلم والله اعلم ﴿ وإن تظاهرا عليه ﴾ قرأ الكوفيون بتخفيف الظاء فحذف أحد التائين والباقون بالتشديد وإدغام أحد التائين في الظاء وأصله تظاهرا أي تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بما يسويه من الإفراط في الخيرة وإفشاء سره ولم تتوبا وهذا شرط حذف جزائه أعني لا تظفرا عليه ﴿ فإن الله ﴾ يعني لأن الله علة لعدم الظفر هو ضمير فصل ﴿ مولاه ﴾ وناصره ﴿ وجبريل ﴾ رئيس الكروبين قرينه وناصره ﴿ وصالح المؤمنين ﴾ صالح صيغة المفرد أريد بها الجنس ولذلك عم بالإضافة أو صيغة جمع أسقط عند الواو لالتقاء الساكنين وخطأ أيضا باتباع اللفظ يعني من صلح من المؤمنين أجمعين اتباعه وأعوانه وحواليه قال الكلبي هم الذين هم مخلصون ليسوا بمنافقين وروي عن ابن مسعود وأبي ابن كعب أن صالحوا المؤمنين أبو بكر وعمر وكذا روى ابن مسعود وأبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر وابن عباس وسعيد ابن جبير أنها نزلت في أبي بكر وعمر وقوله جبرائيل وصالح المؤمنين إما معطوف على الله مرفوع حملا على محله وإما مبتدأ خبره مع ما عطف عليه ظهير وهذا أولي لأن الله وحده كفى به ناصرا وإنما ذكر جبرائيل وصالح المؤمنين والملائكة من جملة ما ينصره إليه به تعظيما لهؤلاء وخص جبرائيل من الملائكة لتعظيمه ﴿ والملائكة ﴾ مع كثرتهم ﴿ بعد ذلك ﴾ أي بعد نصرة الله وجبرائيل وصالح المؤمنين ﴿ ظهير ﴾ أي متظاهرون قال البغوي هذا من الواحد الذي يؤدي من الجمع كقوله تعالى :﴿ وحسن أولئك رفيقا ﴾ ٣ وهذه الآية تدل على أن جبرائيل الذي هو من خواص الملائكة أفضل من عوام البشر وهم صالح المؤمنين أفضل من عوام الملائكة.
١ أخرجه البخاري في كتاب: المظالم باب: الغرفة والعلية المشرفة في السطوح وغيرها ﴿٢٤٦٨﴾.
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الطلاق: باب: في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن ﴿١٤٧٩﴾.
٣ سورة النساء الآية: ٦٩.
روى البخاري عن عمر ابن الخطاب قال لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نسائه وذكر الحديث وقال دخلت عليه وقلت يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك والملائكة وجبرائيل وميكائيل وأبو بكر والمؤمنون معك وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول فنزلت ﴿ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله ﴾ ١ خيرا منكن الجملة جواب الشرط قرأ نافع وأبو عمر ويبدله بالتشديد والباقون بالتخفيف ﴿ أزواجا خيرا منكن ﴾ على التغليب فإن الخطاب مع حفصة وعائشة أو على تعميم الخطاب وليس في الآية ما يدل على أنه لم يطلق حفصة وإن في النساء خيرا منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه قال البغوي هذا إخبار عن القدرة لا عن الكون ﴿ مسلمات ﴾ خاضعات لله تعالى ﴿ مؤمنات ﴾ مصدقات للرسل ﴿ قانتات ﴾ مواظبات على الطاعة أو مصليات أو داعيات ﴿ تائبات ﴾ عن الذنوب أو راجعات إلى الله تعالى وإلى أمر رسول الله ﴿ عابدات ﴾ متعبدات لله تعالى أو متذللات لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ سائحات ﴾ صائمات سمى الصائم سائحا لأن السائح لاذ دمعه فلا يزال متمسكا حتى يجد من يطعمه فشبه به الصائم في إمساكه إلى وقت إفطاره وقال بعضهم الصوم ضربان حقيقي وهو ترك المطعم والمنكح وحكى وهو حفظ الجوارح من المسمع والبصر واللسان والأيدي والأرجل وغيرها عن المعاصي فالسائح الصائم الذي يصوم هذا الصوم أو مهاجرات في سبيل الله وقيل اللاتي مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث ساح، وقيل السائحون الذين يسيرون على ما اقتضاه قوله تعالى :﴿ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ﴾٢ ﴿ ثيبات وأبكارا ﴾ وسط العاطف بينهما لتنافيهما ولأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيابة في بعضهن والبكارة في بعض آخر.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير باب: قوله تعالى: ﴿واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى﴾ ﴿٤٤٨٣﴾.
٢ سورة الحج الآية: ٤٦.
﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم ﴾ بأداء الواجبات وترك المعاصي ﴿ وأهليكم ﴾ بالتعليم والتأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿ نارا وقودها الناس والحجارة ﴾ صفة للنار يعني تتقد بهما كما تتقد غيرها بالحطب ﴿ عليها ملائكة ﴾ صفة ثانية لنار يعني خزنتها ﴿ غلاظ ﴾ فظاظ على أهل النار ﴿ شداد ﴾ أقوياء يدفع الواحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا في النار وهم الزبانية أخرج الضياء المقاسة في صفته النار عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة قبل أن يخلق جهنم بألف عام فهم في كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يفيضوا على ما فيضوا عليه بالنواصي والأقدام } وأخرج القعبني في عيون الأخبار عن طاووس أن الله تبارك وتعالى خلق مالكا وخلق له أصابع على عدد أهل النار لا يعذب إلا ومالك يعذب به بأصبع من أصابع فوالله لو وضع أصبعا من أصابعه على السماء لأذانها ﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ﴾ بدل اشتمال من الله والتقدير فيما أمرهم ﴿ ويفعلون ما يؤمرون ﴾ أي لا تمنعون من قبول الأوامر والتزامها ويوادون ما يؤمرون
﴿ يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون ٧ ﴾ علة للنهي من الاعتذار يقال لهم ذلك عند دخولهم النار والنهي عن الاعتذار لهم حقيقة وما يعتذرون به من قولهم ﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾١ وقولهم ﴿ ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا ﴾ ٢ لا ينفعهم
١ سورة الأنعام الآية: ٢٣.
٢ سورة السجدة الآية: ١٢.
﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله ﴾ من المعاصي ﴿ توبة نصوحا ﴾ بفتح النون على قراءة العامة أي بالغة في النصح والنصح تحري قول أو فعل فيه صلاح صاحبه فهو صفى للتائب فإنه ينصح نفسه بالتوبة وصف به التوبة مجاز مبالغة أو بالغة في النصاحة بمعنى الخياطة فإن التوبة تنصح ما افترق من الدين والتقوى بالذنب أو النصح بمعنى الإخلاص يقال عسل ناصح إذا خلق والمعنى توبة خالصة من الرياء والسمعة وقرأ أبو بكر بضم النون فهو صدر بمعنى انصح كالشكر والشكور أو النصاحة كالثبات والثبوت تقديره ذات نصوح أو تنصح نصوحا أو توبوا نصوحا لأنفسكم، قال البغوي قال عمر وأبي معاذ التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع وقال الحسن هي أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود وقال الكلبي هي أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن وقال القرظي يجمع أربعة أشياء الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيء الإخوان وقال البيضاوي سئل علي رضي الله عنه عن التوبة فقال يجمعها ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندم وللفرائض الإعادة ورد المظالم واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن تعود وأن تزكي نفسك على طاعة الله كما رأيتها في المعصية ﴿ عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ ذكر بصيغة الإطماع إشعارا بأنه تفضل والتوبة غير موجبة إذ لا يجب على الله شيء وأن العبد لابد من أن يكون بين خوف ورجاء، أخرج أبو نعيم عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك أن لا يتكلوا على أعمالهم فإني لا أناصب عبد الحساب يوم القيامة لا أشاء أن أعذبه إلا عذبته وقل لأهل معصيتي من أمتك لا تلقوا بأيديهم فإني أغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي ) وأخرج البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله تعالى يقول الله لأصغر نعمة في ديوان النعم خذي منك من العمل الصالح فتستوعب له الصالح فيقول وعزتك ما استوعبت وتبقى الذنوب وقد ذهب اعمل الصالح كله فإذا أراد الله أن يرحم عبدا قال يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سيآتك وذهبت لك نعمتي ) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) ١ وفي الباب أحاديث كثيرة ﴿ يوم لا يخزي الله النبي ﴾ ظرف ليدخلكم ﴿ والذين آمنوا معه ﴾ عطف على النبي إحمادا لهم وتعريضا لمن ﴿ نأواهم على هذا جملة { نورهم يسعى ﴾ علة لعدم إخزائهم وقيل الموصول مبتدأه خبره نورهم يسعى ﴿ بين أيديهم ﴾ ويكون ﴿ وبأيمانهم ﴾ على الصراط ﴿ يقولون ﴾ مستأنف أو خبر بعد خبر للموصول يقولون ذلك إذا الطفى نور المنافقين ﴿ ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ﴾ تعليل للإتمام لتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم فيسألون إتمامه تفضلا وقد ذكرنا تفاوت الأنوار والأعمال الموجبة للنور في سورة الحديد.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق: باب القصد والمداومة على المعمل ﴿٦٤٦٣﴾ وأخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى ﴿٢٨١٦﴾.
﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار ﴾ بالسيف والحجة ﴿ والمنافقين ﴾ بالرد والتفضيح إذا ظهر نفاقهم ﴿ واغلظ عليهم ﴾ أي استعمل الخشونة فيما تجاهدهم ولا ترحمهم ﴿ ومأواهم جهنم ﴾ حال مقدرة من الكفار والمنافقين ﴿ وبئس المصير ﴾ جهنم أو ما ولهم
﴿ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح ﴾ اسمها واعلة ﴿ وامرأت لوط ﴾ اسمها وأهلة امرأة نوح وامرأة لوط يدلان من مثلا بحذف المضاف أي مثل نوح وامرأة لوط كذا قوله وامرأة فرعون في الجملة التالية مثل الله تعالى حال الكفار في أنهم يعذبون بكفرهم ولا ينفعهم ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابات والواصلات كما لم ينفع المرأتين وصلتهما بالنبيين حيث ﴿ كانتا تحت عبدين ﴾ جملة مستأنفة ﴿ من عبادنا صالحين ﴾ يريد به تعظيم نوح ولوط مدحهما بالصلاح فإن كمال الصلاح بالعصمة التي هي من النبوة ﴿ فخانتاهما ﴾ بالكفر والنفاق، قال ابن عباس ما بغت امرأة بني قط وإنما كانت خيانتهما أنهما كانت على غير دينهما فكانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون وإذا آمن به أحد أخبرت الجبائرة وأما امرأة لوط كانت تدل قومه على أضيافه إذا نزل به ضيف بالليل أو قدت نارا وإذا أنزل بالنهار دخنت ليعلم قومه أنه نزل به ضيف وقال الكلبي أسرتا النفاق وأظهرتا الإيمان ﴿ فلم يغنيا ﴾ أي لا يدفعا ﴿ عنهما ﴾ مع نبوتهما ﴿ من ﴾ عذاب ﴿ الله شيئا ﴾ أو لم يغنيا بحق الأزواج شيئا من الأغنياء ﴿ وقيل ﴾ للمرأتين عند موتهما أو يوم القيامة ﴿ ادخلا النار ﴾ مع سائر الداخلين } من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء أو أحد من المؤمنين قطع الله تعالى بهذه الآية طمع من يكفر أن ينفعه إيمان غيره أخبر أن كفر غيره لا يضره إذا كان مؤمنا بقوله ﴿ وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون ﴾
﴿ وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون ﴾ وهي آسية بنت مزاحم فإنها كانت تحت أعداء الله ولم يضرها كفره، قال المفسرون لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربع أوتاد وألقاها في الشمس قال سليمان امرأة فرعون تعذب في الشمس فإذا انصرفوا عنها أظلها الملائكة ﴿ إذ قالت ﴾ الظرف متعلق بكائن وهو صفة لمثل امرأة فرعون أي مثل امرأة فرعون كائن وقت قولها ﴿ رب ابن لي عندك ﴾ عندية لا كيف لها فإنه منزه من المكان ﴿ بيتا في الجنة ﴾ فكشف الله لها من بيتها في الجنة حتى رأته ﴿ ونجني من فرعون وعمله ﴾ يعني تعذيبه وقال مقاتل أرادت بعمله الشرك وقال أبو صالح عن ابن عباس أرادت به جماعة ﴿ ونجني من القوم الظالمين ﴾ على أنفسهم بالكفر والمعاصي على عباد الله التعذيب من القبط التابعين له في القصة أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقي عليها فلما آتوه بالصخرة ﴿ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ﴾ فأبصرت بيتها في الجنة من درة وانتزع روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألما، وقال الحسن ابن كيسان رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب
﴿ ومريم ابنت عمران ﴾ عطف على امرأة فرعون ﴿ التي أحصنت فرجها ﴾ من الرجال ﴿ فنفخنا فيه ﴾ أي نفخ جبرائيل عليه السلام بأمرنا في جيب درعها نفخا بأمر الله تعالى وأفعال العباد كلها بخلق الله أسند الله تعالى النفخ إلى نفسه ﴿ من روحنا ﴾ أي روحا خلقناه بلا توسط أصل ومن زائدة في الإثبات على قول الأخفش وهو الظاهر وقال سيبويه يعني بعض هذا النوع كما في قوله تعالى :﴿ يغفر لكم من ذنوبكم ﴾١ ﴿ وصدقت بكلمات ربها ﴾ أي بصحفه المنزلة أو بما أوحي إلى أنبيائه والمراد شرائع الله تعالى لعباده ﴿ وكتبه ﴾ قرأ أبو عمر وحفص على الجمع والباقون قي الإفراد والمراد به ما كتب في اللوح أو جنس الكتب المنزلة وقرأ بكلمة الله وكتابه يعني بعيسى وإنجيل ﴿ وكانت من القانتين ﴾ أي من جملة مواظبين على الطاعة والتذكير للتغليب والإشعار أن رتبتها لم تعتصر عن رتبة الرجال الكاملين حتى عدت من جملتهم، عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) ٢ رواه أحمد والشيخان في الصحيحين والترمذي وابن ماجه ورواه الثعلبي وأبو نعيم في الحلية بلفظ ( كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع آسيا بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام ) قلت : لعل المراد بالكمال البلوغ إلى كمالات النبوة وما فوقعها ورواية الصحيحين كأنها أخبار عن الأمم الماضية حيث كثر الأنبياء فيهم ولم يبلغ درجة كمالات النبوة من النساء إلا آسيا ومريم وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وآسية امرأة فرعون ) وعن علي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد ) ٣ متفق عليه وفي رواية قال كريب وأشار إلى السماء والأرض وعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة عام الفتح فناجاها فبكت ثم حدثها فضحكت فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عن بكائها وضحكها قالت أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت رواه الترمذي وقد ذكرنا مبحث تفاضل مريم وآسيا وخديجة وفاطمة وعائشة رضي الله عنها في سورة آل مران في تفسير قوله ﴿ يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ﴾ ٤ فائدة : في هاتين التمثيليتين تعريض لحفصة وعائشة رضي الله عنه فيما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه وتوبيخ لهما على أغلظ الوجوه وإشارة إلى أن حقهما أن تكونا في الإيمان كهاتين المؤمنتين وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
١ سورة نوح الآية: ٤٠.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بابك فضل عائشة رضي الله عنها ﴿٣٧٦٩﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ﴿٢٤٣١﴾ وأخرجه الترمذي في كتاب الأطعمة باب: ما جاء في فضل الثريد ﴿١٨٣٨﴾ وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الأطعمة باب: فضل الثريد على الطعام ﴿٣٢٨٠﴾.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار باب: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها رضي الله عنها ﴿٣٨١٥﴾ وأخرجه مسلم في كتغاب: فضائل الصحابة: باب: فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ﴿٢٤٣٠﴾.
٤ سورة آل عمران الآية: ٤٢.
Icon