تفسير سورة الملك

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الملك من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الملك
«١» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم من لم تتعطّر القلوب إلّا بنسيم إقباله، ولم تتقطّر الدموع إلّا للوعة فراقه أو روح وصاله فدموعهم في كلتا الحالتين منسكبة، وقلوبهم في عموم أحوالهم ملتهبة وعقولهم في غالب أوقاتهم منتهبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣)
تقدّس وتعالى، من إحسانه تواتر وتوالى، فهو المتكّبر في جلال كبريائه، المتجرّد فى علاء بهائه ودوام سنائه.
«بِيَدِهِ الْمُلْكُ» : بقدرته إظهار ما يريد، وهو على كل شىء قدير.
«الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» خلق الموت والحياة، ابتلاء للخلق، يختبرهم ليظهر له شكرانهم وكفرانهم، كيف يكونان عند المحنة في الصبر وعند النعمة في الشكر- وهو العزيز الغفور.
«الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟»
(١) قال ﷺ بشأن هذه السورة: «هى المانعة هي المنجية تنجيكم من عذاب القبر».
عرّفهم كمال قدرته بدلالات خلقه، فسمك السماء وأمسكها بلا عمد، وركّب أجزاءها غير مستعين بأحد في خلقها، وبالنجوم زيّنها، ومن استراق سمع الشياطين حصّنها، وبغير تعليم معلّم أحكمها وأتقنها.
«ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟» : لا ترى فيما خلق تفاوتا ينافى آثار الحكمة ولا يدل على كمال القدرة.
ويقال: ما ترى فيها تفاوتا، فى استغنائه عن الجميع.. ما ترى فيها تفاوتا في الخلق فخلق الكثير واليسير عنده سيّان، فلا يسهل عنده القليل ولا يشقّ عليه الكثير لأنه متنزّه عن السهولة عليه ولحوق المشقة به.
فأنعم النظر، وكرّر السّبر والفكر.. فلن تجد فيها عيبا «١» ولا في عزّه قصورا.
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (٦٧) : آية ٥]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥)
زيّن السماء بالكواكب والنجوم، وزيّن قلوب أوليائه بأنواع من الأنوار والنجوم فالمؤمنون قلوبهم مزيّنة بالتصديق والإيمان ثم بالتحقيق بتأمّل البرهان، ثم بالتوفيق لطلب البيان. والعارفون قلوبهم مزيّنة بشمس التوحيد، وأرواحهم مزيّنة بأنوار التفريد، وأسرارهم مزينة بآثار التجريد «٢».. وعلى القياس: لكلّ طائفة أنوار.
«وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» : فمن النجوم ما هو للشياطين رجوم، ومنها ما هو للاهتداء به معلوم.. فأخبر أن هذا القدر من العقوبة بواسطة الرجوم لا يكفى، وإنما يعذّبهم مؤبّدين في السعير.
(١) هكذا في م وهي في ص (عبثا).
(٢) يميز الكلاباذى بين التفريد والتجريد فيقول (ملخصا) :
التجريد: أن يتجرد بظاهره عن الأعراض وبباطنه عن الأعواض، يفعل ذلك لوجوب حقّ الله تعالى لا لعلة غيره ولا لسبب سواه، ويتجرد بسره عن المقامات والأحوال التي ينازلها.
والتفريد: أن ينفرد عن الأشكال، وينفرد في الأحوال، ويتوحد في الأفعال ويغيب عن رؤية أحواله برؤية محوّلها ولا بأنس بأشكاله ولا يستوحش (التعرف ص ١٣٣).
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ٦ الى ١١]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١)
أخبر: أنهم يحتجّ عليهم بإرسال الرسل، فتقول لهم الملائكة: ألم يأتكم نذير؟
«قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» «وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ... » فأخبر أنهم لم يكن لهم سمع قبول، فاستوجبوا العقوبة لأجله «١»، لم يسمعوا نصيحة الناصحين ولا وعظ الواعظين، ولا ما فيه لقلوبهم حياة.
وفي الآية للمؤمنين بشارة لأنهم يسمعون ويعقلون ما يسمعون فإنّ من سمع بالحقّ سمع كل ما يقال عن الحق من كل من يقول عن الحق، فيحصل له الفهم لما يسمع، لأنه إذا كان من أهل الحقائق يكون سمعه من الله وبالله وفي الله.
قوله جل ذكره: «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» اعترفوا بذنبهم ولكن في غير وقت الاعتراف.. فلا جرم يقال لهم: «فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ».
(١) من الآية ومن إشارتها يتضح: أن العقوبة لا تكون إلا بعد إرسال الرسل الذين يبسطون الحجة ويسقطون العذر.
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١٢ الى ١٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥)
الخشية توجب عدم القرار «١» فيكون العبد أبدا- لانزعاجه- كالحبّ على المقلى لا يقرّ ليله أو نهاره، يتوقّع العقوبات مع مجارى الأنفاس، وكلّما ازداد في الله طاعة ازداد لله خشية.
قوله جل ذكره: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» خوّفهم بعلمه، وندبهم إلى مراقبته، لأنه يعلم السّرّ وأخفى، ويسمع الجهر والنجوى...
ثم قال مبيّنا:
«أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» وفي كل جزء من خلقه- من الأعيان والآثار- أدلة على علمه وحكمه.
قوله جل ذكره: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» أي إذا أردتم أن تضربوا في الأرض سهّل عليكم ذلك.
كذلك جعل النّفس ذلولا فلو طالبتها بالوفاق وجدتها مساعدة موافقة، متابعة مسابقة... وقد قيل في صفتها:
هى النّفس ما عوّدتها تتعود وللدهر أيام تذمّ وتحمد
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠)
(١) هكذا في ص وهي في م (الفراق) والصواب ما أثبتنا- بدليل ما بعدها.
«مَنْ فِي السَّماءِ» أراد بهم الملائكة الذين يسكنون السماء، فهم موكّلون بالعذاب.
وخوّفهم بالملائكة أن ينزلوا عليهم العقوبة من السماء، أو يخسفوا بهم الأرض، وكذلك خوّفهم أن يرسلوا عليهم حجارة كما أرسلوا على قوم لوط. وبيّن أنّ من كذّب قبل هؤلاء رسلهم كيف كانت عقوبتهم، ثم زاد في البيان وقال:
«أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» أولم يروا كيف خلق الطيور على اختلاف أجناسها، واختصاصها بالطيران لأن لها أجنحة- بخلاف الأجسام «١» الأخر... من الذي يمسكهن ويحفظهن وهن يقبضن ويبسطن أجنحتهن فى الفضاء؟ وما الذي يوجبه العقل حفظ هذه الطيور أم بقية الأجسام الأخر؟.
«أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» إن أراد الرحمن بك سوءا.. فمن الذي يوسّع عليكم ما قبضه، أو يمحو ما أثبته، أو يقدّم ما أخّره، أو يؤخّر ما قدّمه؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ٢٢ الى ٣٠]
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)
(١) هكذا في م وهي في ص (الأصنام) والصواب ما أثبتناه، لأن المقصود المقارنة بين الطيور وغيرها من (الأجسام) بصفة عامة. [.....]
614
وخصّكم بالسمع والبصر والأفئدة، وأنتم لا تشكرون عظيم نعمه.
«وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟» وأجاب عنه حيث قال: لا تستعجلوا العذاب، وبيّن أنهم إذا رأوه كيف يخافون وكيف يندمون.
قوله جل ذكره: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا... »
وإليه أمورنا- جملة- فوّضنا.
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» من الذي يأتيكم بالماء إذا صار غائرا في الأرض لا تناله الأيدى.
وهذه الآيات جميعها على وجه الاحتجاج عليهم.. ولم يكن لواحد عن ذلك جواب.
615
Icon