تفسير سورة النّاس

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة الناس من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ
مثل " الفلق " ؛ لأنها إحدى المعوذتين.
وروى الترمذي عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم :" لقد أنزل الله على آيات لم ير مثلهن :﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾ إلى آخر السورة ﴿ وقل أعوذ برب الفلق ﴾ إلى آخر السورة ). وقال : هذا حديث حسن صحيح. ورواه مسلم.

تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِهِ، وَكَثْرَةِ ضَرَرِهِ. وَالْحَاسِدُ عَدُوُّ نِعْمَةِ اللَّهِ. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: بَارَزَ الْحَاسِدُ رَبَّهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا- أَنَّهُ أَبْغَضَ كُلَّ نِعْمَةٍ ظَهَرَتْ عَلَى غَيْرِهِ. وَثَانِيهَا- أَنَّهُ سَاخِطٌ لِقِسْمَةِ رَبِّهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِمَ قَسَمْتَ هَذِهِ الْقِسْمَةَ؟ وَثَالِثُهَا- أَنَّهُ ضَادَّ فِعْلَ اللَّهِ، أَيْ إِنَّ فَضْلَ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ يَبْخَلُ بِفَضْلِ اللَّهِ. وَرَابِعُهَا- أَنَّهُ خَذَلَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، أَوْ يُرِيدُ خِذْلَانَهُمْ وَزَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ. وَخَامِسُهَا- أَنَّهُ أَعَانَ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ. وَقِيلَ: الْحَاسِدُ لَا يَنَالُ فِي الْمَجَالِسِ إِلَّا نَدَامَةً، وَلَا يَنَالُ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا لَعْنَةً وَبَغْضَاءَ، وَلَا يَنَالُ فِي الْخَلْوَةِ إِلَّا جَزَعًا وَغَمًّا، وَلَا يَنَالُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا حُزْنًا وَاحْتِرَاقًا، وَلَا يَنَالُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا وَمَقْتًا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُمْ: آكِلُ الْحَرَامِ، وَمُكْثِرُ الْغِيبَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ غِلٌّ أَوْ حَسَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ). وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[تفسير سورة الناس]
سُورَةُ" النَّاسِ" مِثْلُ" الْفَلَقِ" لِأَنَّهَا إِحْدَى الْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ آيَاتٍ لَمْ يُرَ مِثْلَهُنَّ: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَ (قُلْ أَعُوذِ بِرَبِّ الْفَلَقِ) إِلَى آخِرِ السورة) ". قال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الناس (١١٤): الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ أَيْ مَالِكِهِمْ وَمُصْلِحِ أُمُورِهِمْ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ رَبًّا لِجَمِيعِ الْخَلْقِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ النَّاسَ مُعَظَّمُونَ، فَأَعْلَمَ بِذِكْرِهِمْ أَنَّهُ رَبٌّ لَهُمْ وَإِنْ عُظِّمُوا. الثَّانِي: لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِمْ، فَأَعْلَمَ بِذِكْرِهِمْ
أنه هو الذي يعيذ منهم. إنما قَالَ: مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ لِأَنَّ فِي النَّاسِ مُلُوكًا يَذْكُرُ أَنَّهُ مَلِكُهُمْ. وَفِي النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ، فَذَكَرَ أَنَّهُ إِلَهُهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ، وَأَنَّهُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُسْتَعَاذَ بِهِ وَيُلْجَأَ إليه، دون الملوك والعظماء.
[سورة الناس (١١٤): آية ٤]
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤)
يَعْنِي: مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ. وَالْمَعْنَى: مِنْ شَرِّ ذِي الْوَسْوَاسِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ (بِفَتْحِ الْوَاوِ) بِمَعْنَى الِاسْمِ، أَيِ الْمُوَسْوِسِ. وَ (بِكَسْرِ الْوَاوِ) الْمَصْدَرُ، يَعْنِي الْوَسْوَسَةَ. وَكَذَا الزَّلْزَالُ وَالزِّلْزَالُ. وَالْوَسْوَسَةُ: حَدِيثُ النَّفْسِ. يُقَالُ: وَسْوَسَتْ إِلَيْهِمْ نَفْسُهُ وَسْوَسَةً وَوِسْوَسَةً (بِكَسْرِ الْوَاوِ). وَيُقَالُ لِهَمْسِ الصَّائِدِ وَالْكِلَابِ وَأَصْوَاتِ الْحَلْيِ: وَسْوَاسٌ. قال ذُو الرُّمَّةِ:
فَبَاتَ يُشْئِزُهُ ثَأْدٌ وَيُسْهِرُهُ تَذَوُّبُ الرِّيحِ وَالْوَسْوَاسُ وَالْهِضَبُ «١»
وَقَالَ الْأَعْشَى:
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا انْصَرَفَتْ كَمَا استعان بريخ عِشْرِقٌ زَجِلُ «٢»
وَقِيلَ: إِنَّ الْوَسْوَاسَ الْخَنَّاسَ ابْنٌ لِإِبْلِيسَ، جَاءَ بِهِ إِلَى حَوَّاءَ، وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهَا وَقَالَ: اكْفُلِيهِ. فَجَاءَ آدَمُ [عَلَيْهِ السَّلَامُ «٣»] فَقَالَ: مَا هَذَا [يَا حَوَّاءُ «٤»]! قَالَتْ: جَاءَ عَدُوُّنَا بِهَذَا وَقَالَ لِي: اكْفُلِيهِ. فَقَالَ: أَلَمْ أقل لك لا تطيعيه في شي، هُوَ الَّذِي غَرَّنَا حَتَّى وَقَعْنَا فِي الْمَعْصِيَةِ؟ وَعَمَدَ إِلَى الْوَلَدِ فَقَطَعَهُ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ، وَعَلَّقَ كُلَّ رُبُعٍ عَلَى شَجَرَةٍ، غَيْظًا لَهُ، فَجَاءَ إِبْلِيسُ فَقَالَ: يَا حَوَّاءُ، أَيْنَ ابْنِي؟ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا صَنَعَ بِهِ آدَمُ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] فَقَالَ: يَا خَنَّاسُ، فَحَيِيَ فَأَجَابَهُ. فَجَاءَ بِهِ إِلَى حَوَّاءَ وَقَالَ: اكْفُلِيهِ، فَجَاءَ آدَمُ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] فحرقه بالنار، ودر رَمَادَهُ فِي الْبَحْرِ، فَجَاءَ إِبْلِيسُ [عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ] فَقَالَ: يَا حَوَّاءُ، أَيْنَ ابْنِي؟ فَأَخْبَرَتْهُ بِفِعْلِ آدم إياه، فذهب
(١). شئز الرجل: قلق من مرض أو هم. والثأد: الندى والقر والامر القبيح. وتذوب الريح: هبوبها من كل وجه وهو مأخوذ من خداع الذئب. والهضب (بكسر الهاء): الأمطار.
(٢). العشرق (كزبرج): نبت له ورق فإذا يبس طار. ونبت زجل: صوتت فيه الريح.
(٣). زيادة عن نوادر الأصول للترمذي الحكيم. [..... ]
(٤). زيادة عن نوادر الأصول للترمذي الحكيم.
261
إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: يَا خَنَّاسُ، فَحَيِيَ فَأَجَابَهُ. فَجَاءَ بِهِ إِلَى حَوَّاءَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ: اكْفُلِيهِ. فَنَظَرَ، إِلَيْهِ آدَمُ، فَذَبَحَهُ وَشَوَاهُ، وَأَكَلَاهُ جَمِيعًا. فَجَاءَ إِبْلِيسُ فَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ [حَوَّاءُ «١»]. فَقَالَ: يَا خَنَّاسُ، فَحَيِيَ فَأَجَابَهُ [فَجَاءَ بِهِ] مِنْ جَوْفِ آدَمَ وَحَوَّاءَ. فَقَالَ إِبْلِيسُ: هَذَا الَّذِي أَرَدْتُ، وَهَذَا مَسْكَنُكَ فِي صَدْرِ وَلَدِ آدَمَ، فَهُوَ ملتقم قلب ابن آدَمَ مَا دَامَ غَافِلًا يُوَسْوِسُ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ لَفَظَ قَلْبَهُ وَانْخَنَسَ. ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ بِإِسْنَادٍ عَنْ وهب ابن مُنَبِّهٍ. وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ووصف بالخناس لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ «٢» [التكوير: ١٥] يَعْنِي النُّجُومَ، لِاخْتِفَائِهَا بَعْدَ ظُهُورِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَخْنِسُ إِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ اللَّهَ، أَيْ يَتَأَخَّرُ. وَفِي الْخَبَرِ [إِنَّ الشَّيْطَانَ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابن آدم، ف إذا غفل وموس، وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ] أَيْ تَأَخَّرَ وَأَقْصَرَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَنَّاسِ الشَّيْطَانُ لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الْكَلْبِ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ، فَإِذَا غَفَلَ الْإِنْسَانُ «٣» وَسْوَسَ لَهُ، وَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خَنَسَ. يُقَالُ: خَنَسْتُهُ فَخَنَسَ، أَيْ أَخَّرْتُهُ فَتَأَخَّرَ. وَأَخْنَسْتُهُ أَيْضًا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْعَلَاءِ الْحَضْرَمِيِّ- أَنْشَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَأَنَّ دحسوا بالشر فاعف تكرما وإن خنسوا عند «٤» الْحَدِيثَ فَلَا تَسَلْ
الدَّحْسُ: الْإِفْسَادُ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ، وَإِذَا نُسِيَ اللَّهُ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَوَسْوَسَ]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ الْعَبْدُ خَنَسَ مِنْ قَلْبِهِ فَذَهَبَ، وَإِذَا غَفَلَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَحَدَّثَهُ وَمَنَّاهُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: أَوَّلُ مَا يَبْدُو الْوَسْوَاسُ مِنْ قِبَلِ الْوُضُوءِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ خَنَّاسًا لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِذَا غَفَلَ الْعَبْدُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَالْخَنَسُ: الرُّجُوعُ. وَقَالَ الرَّاجِزُ:
وَصَاحِبٍ يَمْتَعِسُ «٥» امتعاسا يزداد إن حييته «٦» خناسا
(١). زيادة عن الترمذي الحكيم.
(٢). آية ١٥ سورة التكوير.
(٣). في نسخة من الأصل (ابن آدم).
(٤). في اللسان: (عنك).
(٥). يمتعس: يتحرك.
(٦). في بعض الأصول (جتتته) وبعضها (جننته) وفي بعضها بدون إعجام.
262
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ الرَّاجِعُ بِالْوَسْوَسَةِ عَنِ الْهُدَى. الثَّانِي: أَنَّهُ الخارج بالوسوسة من اليقين.
[سورة الناس (١١٤): آية ٥]
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥)
قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ الشَّيْطَانَ فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ، يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعُرُوق، سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ]. وَهَذَا يُصَحِّحُ مَا قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُرِيَنِي الشَّيْطَانَ وَمَكَانَهُ مِنِ ابْنِ آدَمَ فَرَأَيْتُهُ، يَدَاهُ فِي يَدَيْهِ، وَرِجْلَاهُ فِي رِجْلَيْهِ، وَمَشَاعِبُهُ فِي جَسَدِهِ، غَيْرَ أَنَّ لَهُ خَطْمًا كَخَطْمِ الْكَلْبِ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَنَكَسَ، وَإِذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَخَذَ بِقَلْبِهِ. فَعَلَى، مَا وَصَفَ أَبُو ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ مُتَشَعِّبٌ فِي الْجَسَدِ، أَيْ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ شُعْبَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُ قَالَ- وَقَدْ كَبِرَ سِنُّهُ-: مَا أَمِنْتُ الزِّنَى وَمَا يُؤْمِنُنِي أَنْ يُدْخِلَ الشَّيْطَانُ ذَكَرَهُ فَيُوْتِدَهُ! فَهَذَا الْقَوْلُ يُنَبِّئُكَ أَنَّهُ مُتَشَعِّبٌ فِي الْجَسَدِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُقَاتِلٍ. وَوَسْوَسَتُهُ: هُوَ الدُّعَاءُ لِطَاعَتِهِ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ، يَصِلُ مَفْهُومُهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنْ غير سماع صوت.
[سورة الناس (١١٤): آية ٦]
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
أَخْبَرَ أَنَّ الْمُوَسْوِسَ قَدْ يَكُونُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ الْحَسَنُ: هُمَا شَيْطَانَانِ، أَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَيُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، وَأَمَّا شَيْطَانُ الْإِنْسِ فَيَأْتِي عَلَانِيَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ؟ فَقَالَ: أو من الْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ قَالَ: نَعَمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ «١» الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الانعام: ١١٢]... الْآيَةَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ النَّاسَ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْجِنُّ. سُمُّوا نَاسًا كَمَا سُمُّوا رجالا في قوله: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ
(١). آية ١١٢ من سورة الانعام.
263
الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ «١» [الْجِنِّ: ٦]- وَقَوْمًا وَنَفَرًا «٢». فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَالنَّاسِ عَطْفًا عَلَى الْجِنَّةِ، وَيَكُونُ التَّكْرِيرُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ: جَاءَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ فَوَقَفُوا. فَقِيلَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ. وَقِيلَ: الْوَسْوَاسُ هُوَ الشَّيْطَانُ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْجِنَّةِ بَيَانُ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ وَالنَّاسِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْوَسْوَاسِ. وَالْمَعْنَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ، الَّذِي هُوَ مِنَ الْجِنَّةِ، وَمِنْ شَرِّ النَّاسِ. فَعَلَى هَذَا أُمِرَ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ شَرِّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَالْجِنَّةُ: جَمْعُ جِنِّيٍّ، كَمَا يُقَالُ: إِنْسٌ وَإِنْسِيٌّ. وَالْهَاءُ لِتَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الْجِنِّ، كَمَا يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي صُدُورِ النَّاسِ عاما في الجميع. ومِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بَيَانٌ لِمَا يُوَسْوِسُ فِي صَدْرِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ أَيِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وَهُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ]. رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بالمراد من ذلك.
(١). آية ٦ سورة الجن.
(٢). وذلك في قَوْلُهُ تَعَالَى:
264
- ط -
مقدمة الطبعة الثانية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

مقدمة الطبعة الثانية
لعلنا في غير حاجة إلى تعريف القراء بهذا التفسير العظيم، بعد ان عرفوه في طبعته الاولى فأقبلوا عليه إقبالا منقطع النظير. إذ لم يكد يخرج منه جزء حتى تهافت عليه الجمهور، ممن عرفوا فضل القرطبي وعلمه وأدبه، ودقته في تأويل كتاب الله تعالى، وعرض اقوال الأئمة من جهابذة المحققين، وأولي البصر بكتاب الله من أعلام المجتهدين. ولقد رأى القراء حين طلع عليهم تفسير القرطبي مبلغ ما بذله مؤلفه من جهد كبير، وعناية فائقة، يدلان على عمقه في البحث، ومقدرته على فهم كتاب الله، وإلمامه بأصول علوم الشريعة وفروعها، من لغة وأدب وبلاغة. يتجلى كل أولئك في استنباطه الأحكام الشرعية من نصوص الآيات الكريمة، حتى ليكاد يستغني به القارئ عن دراسة كتب الفقه، ثم في استشهاده بكثير من النصوص الأدبية من لغة العرب شعرها ونثرها، مما يشهد له بطول البيع وسعة الأفق. وإن أخذ عليه شي فليس إلا هنات يسيرة، لا تنقص من مقداره، ولا تغض من قيمته، فقد ينبو الحسام، وقد يكبو الجواد. فمن ذلك أنه خالف أحيانا ما اشترطه على نفسه في مقدمة كتابه إذ يقول:"... وَأَضْرِبُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ قَصَصِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَخْبَارِ الْمُؤَرِّخِينَ، إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا غنى عنه للتبيين... "
3
- ي -
فليس مما لا بد منه أو لا غنى عنه ما ينقله عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ:" أَنَّ إِبْلِيسَ تَغَلْغَلَ إِلَى الْحُوتِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرْضُ كُلُّهَا، فَأَلْقَى فِي قَلْبِهِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا عَلَى ظَهْرِكَ يَا لُوثِيَا «١» مِنَ الْأُمَمِ وَالشَّجَرِ وَالدَّوَابِّ وَالنَّاسِ وَالْجِبَالِ! لَوْ نَفَضْتَهُمْ أَلْقَيْتَهُمْ عَنْ ظَهْرِكَ أَجْمَعَ. قَالَ: فَهَمَّ لُوثِيَا بِفِعْلِ ذَلِكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ دَابَّةً فَدَخَلَتْ فِي مَنْخَرِهِ، فَعَجَّ إِلَى الله منها فخرجت «٢».... ". وليس مما لا بد منه:" أَنَّ الْحَيَّةَ كَانَتْ خَادِمَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْجَنَّةِ فَخَانَتْهُ بِأَنْ مَكَّنَتْ عَدُوَّ اللَّهِ من نفسها وأظهرت له العداوة هناك، فلما هبطوا تأكدت العداوة وجعل رزقها التراب «٣» ". وليس مما لا بد منه ما يرويه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" سَأَلَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّعْدِ مَا هو؟ قال: ملك من الملائكة مَعَهُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حيث شاء الله «٤» ". وليس مما لا بد منه ما ذكره عن كلب اصحاب الكهف والاختلاف في لونه وفي اسمه «٥». ولا ما يرويه عن الزهري في قوله تعالى" جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ": أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَ إِسْرَافِيلَ إِنَّ لَهُ لَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ جَنَاحٍ، مِنْهَا جَنَاحٌ بِالْمَشْرِقِ، وَجَنَاحٌ بِالْمَغْرِبِ، وَإِنَّ الْعَرْشَ لَعَلَى كَاهِلِهِ، وَإِنَّهُ فِي الْأَحَايِينِ لَيَتَضَاءَلُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ مِثْلَ الوصع «٦».... ". ولا ما ذكره في قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ": أَنَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ «٧» بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سماء، وفوق ظهورهن العرش «٨» ".
(١). اسم الحوت.
(٢). راجع ج ١ ص ٢٥٧.
(٣). ج ١ ص ٣١٣.
(٤). ج ١ ص ٣٢٧.
(٥). راجع ج ١٠ ص ٣٧٠.
(٦). ج ١٤ ص ٣٢٠ والوصع: عصفور صغير.
(٧). الأوعال: جمع وعل، وهو التيس الجبلي.
(٨). ج ١٨ ص ٢٦٧.
4
- ك -
إلى غير ذلك من الأمثلة التي ترد في مناسبات مختلفة، جارى فيها من سبقه من المفسرين
الذين ينقلون عن الإسرائيليات ولا يتحرون الدقة في المعلومات الكونية، خصوصا في الكلام على خلق السموات والأرض، وتأويل الآيات التي تتعرض للظواهر الطبيعية، أو تشير إلى المسائل العلمية. وللمؤلف في ذلك كثير من العذر، لأنه- رحمه الله- تابع فيه ثقافة عصره، وما تجري به ألسنة العلماء في ذلك الزمان. وقد رأت الدار- بعد أن تحققت حاجة الناس إلى هذا الكتاب، ورغبة الكثير من العلماء في الأقطار الإسلامية في ذيوعه- أن تقرر إعادة طبعها تعميما للفائدة. هذا وسيرى القارئ أننا حرصنا على أن تكون هذه الطبعة موافقة لسابقتها في أجزائها وصفحاتها وأرقامها، إلا في تفاوت يسير، يستطيع القارئ أن يدركه في الصفحة التالية أو السابقة. كما أننا نبهنا في هذه الطبعة إلى أمر لم يكن في سابقتها، فعند ما يذكر المؤلف عبارة: (على ما يأتي بيانه) نوضح ذلك في الهامش، مبينين موضعه من الكتاب حتى يسهل على القارئ متابعة الدراسة، وربط الكلام بعضه ببعض، دون جهد أو عناء. ولا يفوتني أن أنوه بفضل حضرات الزملاء الذين اشتركوا معي في تصحيح هذا الكتاب في طبعته الأولى بعد جزئه الرابع، وهم السادة: الشيخ إبراهيم أطفيش، والشيخ بشندي خلف الله، والشيخ محمد محمد حسنين. والله المسئول أن ينفع بهذا التفسير الجليل، وأن يجزي مؤلفه خير الجزاء، وأن يعين القائمين بنشر التراث الإسلامي من أمثال هذا الكتاب العظيم. وأن يوفق" الدار" في تأدية رسالتها حتى تنهض بهذا العبء الكبير، وتقدم للعالم أجمع خير تراث تركه الأقدمون. وصلي الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
مصححه أحمد عبد العليم البردوني
١٦ من المحرم سنة ٦ (١٣٧٢ من أكتوبر سنة ١٩٥٢).
5
- ل -
ترجمة أبي عبد الله القرطبي مؤلف هذا التفسير «١»
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أبي بكر بن فرح (بإسكان الراء وبالحاء المهملة)، الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي المفسر، كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين، الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة. أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف.
مؤلفاته- جمع في تفسير القرآن كتابا كبيرا في اثني عشر مجلدا، سماه كتاب" الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السنة وآي الفرقان" وهو من أجل التفاسير وأعظمها نفعا، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن، واستنباط الأدلة، وذكر القراءات والاعراب والناسخ والمنسوخ (وهو هذا التفسير). وله كِتَابِ" الْأَسْنَى، فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى". وكتاب" التذكار، في أفصل الاذكار". وضعه على طريقة التبيان للنووي، لكن هذا أتم منه وأكثر علما. وكتاب" التذكرة، بأمور الآخرة". وكتاب" شرح التقصي". وكتاب" قَمْعُ الْحِرْصِ بِالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَةِ، وَرَدُّ ذُلِّ السُّؤَالِ بالكتب والشفاعة". قال ابن فرحون: لم أقف على تأليف أحسن منه في بابه. وله" أرجوزة جمع فيها أسماء النبي صلى الله عليه وسلم". وله تآليف وتعاليق مفيدة غير هذا. وكان مطرحا للتكلف، يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية. قال صاحب نفح الطيب: إنه من الراحلين من الأندلس.
(١). عن الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (مذهب مالك) لابن فرحون، ونفح الطيب للمقرى.
6
- م -
شيوخه - سمع من الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي بعض شرحه" المفهم، لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم". وحدث عن الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ محمد البكري، وحدث أيضا عن الحافظ أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن حفص اليحصبي وغيرهما. وكان مستقرا بمنية ابن خصيب، وتوفي ودفن بها في ليلة الاثنين التاسع من شوال سنة ٦٧١، رحمه الله ورضي عنه.
7
الجزء الأول
[المدخل]
[خطبة الكتاب وفيها الكلام على علو شأن المفسرين]
بسم الله الرحمن الرحيم وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وآله وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. قَالَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَدِّثُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن أحمد بن أبى بكر فَرَحٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ ثُمَّ الْقُرْطُبِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُبْتَدِئُ بِحَمْدِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْمَدَهُ حَامِدٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الرَّبُّ الصَّمَدُ الْوَاحِدُ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَمُوتُ، ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْمَوَاهِبِ الْعِظَامِ، وَالْمُتَكَلِّمُ بِالْقُرْآنِ، وَالْخَالِقُ لِلْإِنْسَانِ، وَالْمُنْعِمُ عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ، وَالْمُرْسِلُ رَسُولَهُ بِالْبَيَانِ، مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اخْتَلَفَ الْمَلَوَانِ «١»، وَتَعَاقَبَ الْجَدِيدَانِ، أَرْسَلَهُ بِكِتَابِهِ الْمُبِينِ، الْفَارِقِ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، الَّذِي أَعْجَزَتِ الْفُصَحَاءَ مُعَارَضَتُهُ، وَأَعْيَتِ الْأَلِبَّاءَ مُنَاقَضَتُهُ، وَأَخْرَسَتِ الْبُلَغَاءَ مُشَاكَلَتُهُ، فَلَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. جَعَلَ أَمْثَالَهُ عِبَرًا لِمَنْ تَدَبَّرَهَا، أوامره هُدًى لِمَنِ اسْتَبْصَرَهَا، وَشَرَحَ فِيهِ وَاجِبَاتِ الْأَحْكَامِ، وَفَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَكَرَّرَ فِيهِ الْمَوَاعِظَ وَالْقِصَصَ لِلْأَفْهَامِ، وَضَرَبَ فِيهِ الْأَمْثَالَ، وَقَصَّ فِيهِ غَيْبَ الْأَخْبَارِ، فَقَالَ تَعَالَى" مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «٢» ". وخاطب بِهِ أَوْلِيَاءَهُ فَفَهِمُوا، وَبَيَّنَ لَهُمْ فِيهِ مُرَادَهُ فَعَلِمُوا. فَقَرَأَةُ الْقُرْآنِ حَمَلَةُ سِرِّ اللَّهِ الْمَكْنُونِ، وَحَفَظَةُ عِلْمِهِ الْمَخْزُونِ، وَخُلَفَاءُ أَنْبِيَائِهِ وَأُمَنَاؤُهُ، وَهُمْ أَهْلُهُ وَخَاصَّتُهُ وَخِيرَتُهُ وَأَصْفِيَاؤُهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَّا «٣» " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ:" هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ. فَمَا أَحَقَّ مَنْ عَلِمَ كِتَابَ اللَّهِ أن يزدجر بنواهيه، ويتذكر
(١). الملوان: الليل والنهار.
(٢). آيه ٣٨ سورة الأنعام.
(٣). في سنن ابن ماجة:" من الناس".
1
مَا شُرِحَ لَهُ فِيهِ، وَيَخْشَى اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ، ويراقبه ويستحييه. فانه حُمِّلَ أَعْبَاءَ الرُّسُلِ، وَصَارَ شَهِيدًا فِي الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ خَالَفَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «١» ". أَلَا وَإِنَّ الْحُجَّةَ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ فَأَغْفَلَهُ، أَوْكَدُ مِنْهَا عَلَى مَنْ قَصَّرَ عَنْهُ وَجَهِلَهُ. وَمَنْ أُوتِيَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ، وَزَجَرَتْهُ نَوَاهِيهِ فَلَمْ يَرْتَدِعْ، وَارْتَكَبَ مِنَ الْمَآثِمِ قَبِيحًا، وَمِنَ الْجَرَائِمِ فَضُوحًا، كَانَ الْقُرْآنُ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَخَصْمًا لَدَيْهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِحِفْظِ كِتَابِهِ أَنْ يَتْلُوَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَيَتَدَبَّرَ حَقَائِقَ عِبَارَتِهِ، وَيَتَفَهَّمَ عَجَائِبَهُ، وَيَتَبَيَّنَ غَرَائِبَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ «٢» ". وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «٣» ". جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ يَرْعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَيَتَدَبَّرُهُ حق تدبره، ويقوم بقسطه، ويفي بِشَرْطِهِ، وَلَا يَلْتَمِسُ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ، وَهَدَانَا لِأَعْلَامِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَحْكَامِهِ الْقَاطِعَةِ الْبَاهِرَةِ، وَجَمَعَ لَنَا بِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ. ثُمَّ جَعَلَ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَ مَا كَانَ مِنْهُ مُجْمَلًا، وَتَفْسِيرَ مَا كَانَ مِنْهُ مُشْكِلًا، وَتَحْقِيقَ مَا كَانَ مِنْهُ مُحْتَمَلًا، لِيَكُونَ لَهُ مَعَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ ظُهُورُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ، وَمَنْزِلَةِ التَّفْوِيضِ إليه، قال الله تَعَالَى:" وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «٤» ". ثُمَّ جَعَلَ إِلَى الْعُلَمَاءِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِنْبَاطَ مَا نَبَّهَ على معانيه، وأشار إلى أصوله ليتوصلوا باجتهاد فِيهِ إِلَى عِلْمِ الْمُرَادِ، فَيَمْتَازُوا بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَيَخْتَصُّوا بِثَوَابِ اجْتِهَادِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «٥» ". فَصَارَ الْكِتَابُ أَصْلًا وَالسَّنَةُ لَهُ بَيَانًا، وَاسْتِنْبَاطُ الْعُلَمَاءِ لَهُ إِيضَاحًا وَتِبْيَانًا. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ صُدُورَنَا أَوْعِيَةَ كِتَابِهِ، وَآذَانَنَا مَوَارِدَ سُنَنِ نَبِيِّهِ، وَهِمَمَنَا مَصْرُوفَةً إِلَى تَعَلُّمِهِمَا وَالْبَحْثِ عَنْ مَعَانِيهِمَا وَغَرَائِبِهِمَا، طَالِبِينَ بِذَلِكَ رِضَا رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمُتَدَرِّجِينَ بِهِ إِلَى عِلْمِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ. (وَبَعْدُ فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجمع عُلُومِ الشَّرْعِ، الَّذِي اسْتَقَلَّ بِالْسُّنَّةِ وَالْفَرْضِ، وَنَزَلَ بِهِ أَمِينُ السَّمَاءِ إِلَى أَمِينِ الْأَرْضِ، رَأَيْتُ أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ
(١). آية ١٤٣ سورة البقرة.
(٢). آية ٢٩ سورة ص. [..... ]
(٣). آية ٢٤ سورة القتال.
(٤). آية ٤٤ سورة النحل.
(٥). آية ١١ سورة المجادلة.
2
فيه منتي «١»، بأن أكتب تَعْلِيقًا وَجِيزًا، يَتَضَمَّنُ نُكَتًا مِنَ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَاتِ، وَالْإِعْرَابِ وَالْقِرَاءَاتِ، وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالَاتِ، وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةً شَاهِدَةً لِمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَنُزُولِ الْآيَاتِ، جَامِعًا بَيْنَ مَعَانِيهِمَا، وَمُبَيِّنًا مَا أَشْكَلَ مِنْهُمَا، بِأَقَاوِيلِ السَّلَفِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْخَلَفِ. وَعَمِلْتُهُ تَذْكِرَةً لِنَفْسِي، وَذَخِيرَةً لِيَوْمِ رَمْسِي، وَعَمَلًا صَالِحًا بَعْدَ مَوْتِي. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«٢» ". وَقَالَ تَعَالَى:" عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ «٣» ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ". وَشَرْطِي فِي هَذَا الْكِتَابِ: إِضَافَةُ الْأَقْوَالِ إِلَى قَائِلِيهَا، وَالْأَحَادِيثِ إِلَى مُصَنِّفِيهَا، فَإِنَّهُ يُقَالُ: مِنْ بَرَكَةِ الْعِلْمِ أَنْ يُضَافَ الْقَوْلُ إِلَى قَائِلِهِ. وَكَثِيرًا مَا يجئ الْحَدِيثُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ مُبْهَمًا، لَا يَعْرِفُ مَنْ أَخْرَجَهُ إِلَّا مَنَ اطَّلَعَ عَلَى كتب الحديث، فيبقى من لأخبره لَهُ بِذَلِكَ حَائِرًا، لَا يَعْرِفُ الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ عِلْمٌ جَسِيمٌ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَلَا الِاسْتِدْلَالُ حَتَّى يُضِيفَهُ إِلَى مَنْ خَرَّجَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ، وَالثِّقَاتِ الْمَشَاهِيرِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ. وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى جُمَلٍ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وَأَضْرِبُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ قَصَصِ المفسرين، وأخبار المؤرخين، إلا مالا بُدَّ مِنْهُ وَلَا غِنًى عَنْهُ لِلتَّبْيِينِ، وَاعْتَضْتُ من ذلك تبيين آي الأحكام، بمسائل تفسير عَنْ مَعْنَاهَا، وَتُرْشِدُ الطَّالِبَ إِلَى مُقْتَضَاهَا، فَضَمَّنْتُ كل آية لتضمن حُكْمًا أَوْ حُكْمَيْنِ فَمَا زَادَ، مَسَائِلَ نُبَيِّنُ فِيهَا مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ وَالتَّفْسِيرِ الْغَرِيبِ وَالْحُكْمِ، فَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْ حُكْمًا ذَكَرْتُ مَا فِيهَا مِنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ، هَكَذَا إِلَى آخَرِ الْكِتَابِ. وَسَمَّيْتُهُ بِ (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ) جَعَلَهُ اللَّهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، وَأَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ وَوَالِدَيَّ وَمَنْ أَرَادَهُ بِمَنِّهِ، إِنَّهُ سَمِيعُ الدعاء، قريب مجيب، آمين.
(١). المنة (بالضم): القوة.
(٢). آية ١٣ سورة القيامة.
(٣). آية ٥ سورة الانفطار.
3

باب ذكر جمل من فضائل القرآن، والترغيب فيه، وفضل طالبه وقارئه ومستمعه والعامل به


اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ وَاسِعٌ كَبِيرٌ، أَلَّفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ كُتُبًا كَثِيرَةً، نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ نكتا تدل على فضله، وما أعده اللَّهُ لِأَهْلِهِ، إِذَا أَخْلَصُوا الطَّلَبَ لِوَجْهِهِ. وَعَمِلُوا بِهِ. فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَشْعِرَ الْمُؤْمِنُ مِنْ فَضْلِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، غَيْرُ مخلوق، كلام من ليس كمثله شي، وَصِفَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَبِيهٌ وَلَا نِدٌّ، فَهُوَ مِنْ نُورِ ذَاتِهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ أَصْوَاتُ الْقُرَّاءِ وَنَغَمَاتُهُمْ، وَهِيَ أَكَسَابُهُمُ الَّتِي يُؤْمَرُونَ بِهَا فِي حَالٍ إِيجَابًا فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ، وَنَدْبًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَيُزْجَرُونَ «١» عَنْهَا إِذَا أَجْنَبُوا، وَيُثَابُونَ عَلَيْهَا وَيُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهَا. وَهَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَنَطَقَتْ بِهِ الْآثَارُ، وَدَلَّ عَلَيْهَا الْمُسْتَفِيضُ من الأخبار، ويتعلق الثواب والعقاب إلا بما هو من اكتساب الْعِبَادِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَلَوْلَا أَنَّهُ- سُبْحَانَهُ- جَعَلَ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى حَمْلِهِ مَا جَعَلَهُ، لِيَتَدَّبَّرُوهُ وَلِيَعْتَبِرُوا بِهِ، وليتذكروا ما فيه من طاعته وعبادته، يَقُولُ- تَعَالَى جَدُّهُ- وَقَوْلُهُ الْحَقُّ:" لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «٢» ". فأين قوت الْقُلُوبِ مِنْ قُوَّةِ الْجِبَالِ! وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَزَقَ عِبَادَهُ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى حَمْلِهِ مَا شَاءَ أَنْ يَرْزُقَهُمْ، فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً. وَأَمَّا مَا جَاءَ مِنَ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ- فَأَوَّلُ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَنْ شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ- قَالَ:- وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ". قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: السَّبْعُ الطُّوَلُ مِثْلُ التَّوْرَاةِ، وَالْمِئُونَ مِثْلُ الْإِنْجِيلِ، وَالْمَثَانِي مِثْلُ الزَّبُورِ، وَسَائِرُ الْقُرْآنِ بعد فضل. وأسند عن الحارث
(١). في نسخة: ويؤجرون عنها إذا أجيبوا.
(٢). آية ٢١ سورة الحشر.
4
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ «١» رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" سَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنَ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غيره أصله اللَّهُ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَنُورُهُ الْمُبِينُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَلَا تَتَشَعَّبُ مَعَهُ الْآرَاءُ وَلَا يَشْبَعُ من الْعُلَمَاءُ وَلَا يَمَلُّهُ الْأَتْقِيَاءُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا مَنْ عَلِمَ عِلْمَهُ سَبَقَ وَمَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَرُ «٢» "." الْحَارِثُ" رَمَاهُ الشَّعْبِيُّ بِالْكَذِبِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَمْ يَبِنْ مِنَ الْحَارِثِ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا نُقِمْ عَلَيْهِ إِفْرَاطُهُ فِي حُبِّ عَلِيٍّ وَتَفْضِيلِهِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَمِنْ هَاهُنَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- كَذَّبَهُ الشَّعْبِيُّ، لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ يَذْهَبُ إِلَى تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ، وَإِلَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أسلم. قال أبو عمر عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَظُنُّ الشَّعْبِيَّ عُوقِبَ لِقَوْلِهِ فِي الحارث الهمداني: حدثني الحارث وكان أحد الْكَذَّابِينَ. وَأَسْنَدَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ بَشَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْبَارِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ فِي كِتَابِ" الرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ: رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ عِصْمَةُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَنَجَاةُ مَنِ اتَّبَعَهُ لَا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعيب وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ فَاتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ بكل حرف عشرة حَسَنَاتٍ أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ يَدَعُ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَإِنَّ أَصْفَرَ الْبُيُوتِ مِنَ الْخَيْرِ الْبَيْتُ الصَّفِرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ". وَقَالَ أَبُو عَبِيدٍ فِي غَرِيبِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ هَذَا القرآن مأدبة
(١). ورد هذا الحديث في صحيح الترمذي (ج ٢ ص ١٤٩ طبع بولاق) مع اختلاف في بعض كلماته. زيادة ونقص.
(٢). قوله: يا أعور: لقب الحارث بن عبد اله المذكور ف يسند هذا الحديث
5
اللَّهِ فَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَهُوَ آمِنٌ. قَالَ: وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَثَلٌ، شَبَّهَ الْقُرْآنَ بِصَنِيعٍ صَنَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلنَّاسِ، لَهُمْ فِيهِ الخير وَمَنَافِعٌ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. يُقَالُ: مَأْدُبَةٌ وَمَأْدَبَةٌ، فَمَنْ قَالَ: مَأْدُبَةٌ، أَرَادَ الصَّنِيعَ يَصْنَعُهُ الْإِنْسَانُ فَيَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسَ. وَمَنْ قَالَ: مَأْدَبَةٌ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى الْأَدَبِ، يَجْعَلُهُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْأَدَبِ، وَيَحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ الْآخَرِ:" إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدَبَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَعْلَّمُوا مِنْ مَأْدَبَتِهِ". وكان الأحمر يجعلها لُغَتَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا غَيْرَهُ. [قَالَ:] وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَعْجَبُ إِلَيَّ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ". وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طِيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا مُرٌّ". وَفِي رِوَايَةٍ:" مَثَلُ الْفَاجِرِ" بَدَلُ الْمُنَافِقِ". وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:" مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ... " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحَلْوَانِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَدَّثْنَا هُشَيْمٌ «١»، ح. وَأَنْبَأَنَا إِدْرِيسُ حَدَّثَنَا خَلَفٌ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ
(١). جرت العادة بالاقتصار على الرمز في حدثنا وأخبرنا، واستمر الاصطلاح عليه من قديم الأعصار الى زماننا، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى، فيكتبون من حدثنا" ثنا" وهي الثاء والنون والألف، وربما حذفوا الثاء. ويكتبون من أخبرنا" أنا" ولا تحسن زيادة الباء قبل" نا"، وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد الى إسناد" ح" وهي حاء مهملة، والمختار أنها. مأخوذة من التحول، لتحوله من إسناد الى إسناد، وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها:" ح" ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حال بين الشيئين إذا حجز، لكونها حالت بين الإسنادين وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء، بل وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز الى قوله:" الحديث". وأن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث. ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرا، وهي كثيرة في صحيح مسلم، قليلة في صحيح البخاري. (عن مقدمة النووي على صحيح مسلم).
6
السُّلَمِيَّ كَانَ إِذَا خَتَمَ عَلَيْهِ الْخَاتِمُ الْقُرْآنَ أَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَوَضَعَ يَدُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّهَ! فَمَا أَعْرِفُ أَحَدًا خَيْرًا مِنْكَ إِنْ عَمِلْتَ بِالَّذِي عَلِمْتَ. وَرَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ وَهْبٍ الذِّمَارِيِّ قَالَ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ وَمَاتَ على طاعة، بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ السَّفَرَةِ وَالْأَحْكَامِ. قَالَ سَعِيدٌ «١»: السَّفَرَةُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْأَحْكَامُ «٢» الْأَنْبِيَاءُ. وَرَوَى مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتعتع فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ". التَّتَعْتُعُ: التَّرَدُّدُ فِي الْكَلَامِ عِيًّا وَصُعُوبَةً، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ مِنْ حَيْثُ التِّلَاوَةِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَشَقَّةِ، وَدَرَجَاتُ الْمَاهِرِ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الْقُرْآنُ مُتَعْتَعًا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَرَقَّى عَنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ شُبِّهَ بِالْمَلَائِكَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلْفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ". قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ:" أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ فَيَأْتِي مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ «٣» فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ" فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ:" أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ «٤» أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يسر الله عليه
(١). سعيد هذا، هو سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي، أحد رجال سند هذا الحديث. وفي الأصول:" سعد" وهو تحريف.
(٢). هكذا في نسخ الأصل وسنن الدارمي. ولعل الغرض وذوو الأحكام، أو هو جمع حكيم كشريف وأشرف أو حكم كبطل وأبطال.
(٣)." كوماوين" تثنية كوماء، أي مشرفة السنام عاليته. [..... ]
(٤). قوله: فيعلم. ضبط بنصب الفعل ورفعه وبتشديد اللام من التعلم، وبتخفيفها من العلم
7
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ الله له شريقا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ أبطأ به علمه لم يسره بِهِ نَسَبُهُ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَمِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" يجئ القرآن «١» يوم القيامة فيقول يا رَبِّ حُلَّةً فَيَلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ فَيَلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ فَيَرْضَى عَنْهُ فَيُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَارْقَ وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةٌ". قَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارَتْقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخَرَ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا". وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فَيَقْرَأُ وَيَصْعَدُ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةً حَتَّى يَقْرَأَ آخَرَ شي مَعَهُ". وَأَسْنَدَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْحِمْصِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ أُعْطِيَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُعْطِيَ ثُلُثَ النُّبُوَّةِ وَمَنْ أُعْطِيَ ثُلُثَيِ الْقُرْآنِ أُعْطِي ثُلُثَيِ النُّبُوَّةِ وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَقَدْ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ وَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اقْرَأْ وَارْقَ فَيَقْرَأُ آيَةً وَيَصْعَدُ دَرَجَةً حَتَّى يُنْجِزَ مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْبِضْ فَيَقْبِضُ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ أَتَدْرِي مَا فِي يَدَيْكَ فَإِذَا فِي يَدِهِ الْيُمْنَى الْخُلْدُ وَفِي الْيُسْرَى النَّعِيمُ". حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ خَلَفٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ تَمَّامٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ أَخَذَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَعَمِلَ به فقد أخذ ثلث النبوة ومن أخذ
(١). الذي في نسخ الأصل:" يجئ صاحب القرآن". والتصويب عن سنن الترمذي.
8
نصف القرآن وعمل به فقد أخذ نِصْفِ النُّبُوَّةِ وَمَنْ أَخَذَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَقَدْ أَخَذَ النُّبُوَّةَ كُلَّهَا. قَالَ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدٌ وَهُوَ ابْنُ سَعْدَانَ حدثنا الحسن بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ حَفْصٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زياد عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَلَاهُ وَحَفِظَهُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَشَفَّعَهُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلٌّ قَدْ وَجَبَتْ لَهُ النار". وقالت أو الدرداء: دخلت على عائشة رضى الله عنه فَقُلْتُ لَهَا: مَا فَضْلُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْرَأْهُ مِمَّنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ؟ فقالت عائشة رضى الله عنه: إِنْ عَدَدَ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى عَدَدِ دَرَجِ الْجَنَّةِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَفْضَلَ مِمَّنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ. ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَوَقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُوءَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ" فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى «١» ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَضَمِنَ اللَّهُ لِمَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ أَلَّا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الآخرة وذكره مَكِّيٌّ أَيْضًا. وَقَالَ اللَّيْثُ يُقَالُ مَا الرَّحْمَةُ إِلَى أَحَدٍ بِأَسْرَعَ مِنْهَا إِلَى مُسْتَمِعِ الْقُرْآنِ، لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:" وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «٢» ". وَ" لَعَلَّ" مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ. وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَهُوَ أَوَّلُ مُسْنَدٍ «٣» أُلِّفَ فِي الْإِسْلَامِ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ المقنطرين" والآثار في معنى هذ الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ للهداية.
(١). آية ١٢٣ سورة طه.
(٢). آية ٢٠٤ سورة الأعراف.
(٣). قوله:" وهو أول مسند" إلخ. قال صاحب الظنون:" والذي حمل قائل هذا القول تقدم عصره على أعصار من صنف المسانيد، وظن أنه هو الذي صنفه وليس كذلك، فانه ليس من تصنيف أبي داود، وإنما بعض الحفاظ الخراسانيين جمع فيه ما رواه يوسف بن حبيب خاصة عن أبي داود. ولأبي داود من الأحاديث التي لم تدخل هذا المسند قدره أو أكثر، كما ذكره البقاعي في حاشية الألفية". وقد توفي الطيالسي سنة ٢٠٤ هـ.
9

باب كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى، وما يكره منها وما يحرم، واختلاف الناس في ذلك


روى البخاري عن قتادة قال: سألت رسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَ يَمُدُّ مَدًّا [إِذَا] قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ يَقُولُ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" ثُمَّ يَقِفُ" الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" ثم يقف، وكان يقرؤها" ملك يوم الدين". قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِنَحْوِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا مَنْ إِذَا قَرَأَ رَأَيْتَهُ «١» يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى". وَرُوِيَ عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ أَنَّهُ جَاءَ مَعَ الْقُرَّاءِ إِلَى أنس بن مالك فقيل له: اقرأ. فرقع صَوْتَهُ وَطَرَّبَ، وَكَانَ رَفِيعَ الصَّوْتِ، فَكَشَفَ أَنَسٌ عَنْ وَجْهِهِ، وَكَانَ عَلَى وَجْهِهِ خِرْقَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَ: يَا هَذَا، مَا هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ! وَكَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا يُنْكِرُهُ كَشَفَ الْخِرْقَةَ عن وجهه. وروى عن قيس بن عبادة أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الذِّكْرِ. وَمِمَّنْ رُوِىَ عَنْهُ كَرَاهَةُ رَفْعِ الصَّوْتِ عند قراءة القرآن سعيد ين الْمُسَيَّبِ وَسَعِيد بْنُ جُبَيْرٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَرِهَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، كُلُّهُمْ كَرِهَ رَفْعَ الصَّوْتِ. بِالْقُرْآنِ وَالتَّطْرِيبَ فِيهِ. رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَؤُمُّ النَّاسَ فَطَرَّبَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سَعِيدٌ يَقُولُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! إِنَّ الْأَئِمَّةَ لَا تَقْرَأُ هَكَذَا. فَتَرَكَ عُمَرُ التَّطْرِيبَ بَعْدُ. وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَرَّبَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْقَاسِمُ وَقَالَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «٢» " الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ النَّبْرِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، فَأَنْكَرَ وَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَأَنْكَرَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الألحان في الصلاة
(١). رأي هنا بمعنى علم، وفي بعض النسخ:" رأيته" بالبناء للمجهول، ومعناه الظن.
(٢). آية ٤١، ٤٢ سورة فصلت
10
فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ غِنَاءٌ يَتَغَنَّوْنَ بِهِ لِيَأْخُذُوا عَلَيْهِ الدَّرَاهِمَ. وَأَجَازَتْ طَائِفَةٌ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّطْرِيبَ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا حَسُنَ الصَّوْتُ بِهِ كَانَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَسْمَعَ فِي الْقُلُوبِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" زَيَّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ" رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السالم:" لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَبِقَوْلِ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِي لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا. وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي مَسِيرٍ لَهُ سُورَةَ" الْفَتْحِ" عَلَى رَاحِلَتِهِ فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وأصحابه والشافعي وابن المبارك والنظر بْنُ شُمَيْلٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ بَطَّالٍ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَيَأْتِي. وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ، أَيْ زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَكَذَا فَسَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ، وَقَالُوا هُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ، كَمَا قَالُوا: عَرَضْتُ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ. قَالَ: وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ، فَقَدَّمَ الْأَصْوَاتَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَهُوَ صحيح. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَرَوَاهُ طَلْحَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" زَيَّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ" أَيِ الْهَجُوا بِقِرَاءَتِهِ وَاشْغَلُوا بِهِ أَصْوَاتَكُمْ. اتخذوه شِعَارًا وَزِينَةً، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْحَضُّ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالدُّءُوبُ عَلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ". وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ:" حَسِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ". قُلْتُ: وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يرجع قوله عيلة السلام:" وليس مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ" أَيْ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُحَسِّنْ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، كَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِ مُلَيْكَةَ. قَالَ عبد الجبار ابن الْوَرْدِ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ: مَرَّ بِنَا أَبُو لُبَابَةَ فَاتَّبَعْنَاهُ
11
حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ،" لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ". قَالَ فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَرَأَيْتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ؟ قَالَ: يُحَسِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ. ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِي لَحَسَّنْتُ صَوْتِيَّ بالقرآن، وزينته ورتلته. وهذا يدل [على] أَنَّهُ كَانَ يَهُذُّ «١» فِي قِرَاءَتِهِ مَعَ حُسْنِ الصَّوْتِ الَّذِي جُبِلَ عَلَيْهِ. وَالتَّحْبِيرُ: التَّزْيِينُ وَالتَّحْسِينُ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْمَعُهُ لَمَدَّ فِي قِرَاءَتِهِ وَرَتَّلَهَا، كَمَا كَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي حُسْنِ صَوْتِهِ بِالْقِرَاءَةِ. وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن يَقُولَ: إِنَّ الْقُرْآنَ يُزَيَّنُ بِالْأَصْوَاتِ أَوْ بِغَيْرِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ هَذَا فَقَدْ وَاقَعَ أَمْرًا عَظِيمًا أَنْ يُحْوِجَ الْقُرْآنَ إِلَى مَنْ يُزَيِّنُهُ، وَهُوَ النُّورُ وَالضِّيَاءُ وَالزَّيْنُ الْأَعْلَى لِمَنْ أُلْبِسَ بَهْجَتَهُ وَاسْتَنَارَ بِضِيَائِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّزْيِينِ اكْتِسَابُ الْقِرَاءَاتِ وَتَزْيِينُهَا بِأَصْوَاتِنَا وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ، أَيْ زينو الْقِرَاءَةَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، كَمَا قال تعال" وَقُرْآنَ الْفَجْرِ «٢» " أَيْ قِرَاءَةَ الْفَجْرِ، وَقَوْلِهِ:" فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
«٣» " أَيْ قِرَاءَتَهُ. وَكَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً أَوْثَقَهَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ فَتَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ قُرْآنًا، أَيْ قِرَاءَةً. وَقَالَ الشَّاعِرُ «٤» فِي عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ) آية ٢٩ سورة الأحقاف.
ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ «٥» عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا
أَيْ قِرَاءَةً فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ صَحِيحًا إِلَّا أَنْ يُخْرِجَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي هِيَ التِّلَاوَةُ عَنْ حَدِّهَا- عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ- فَيُمْتَنَعُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى يَتَغَنَّى بِهِ، يَسْتَغْنِي بِهِ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الِافْتِقَارِ، لَا مِنَ الغناء، يقال: تغنيت وتغانيت بنعنى استغنيت. وفي الصحاح: تغنى
(١). الهذ والهذذ: سزعة القطع وسرعة القراءة.
(٢). آية ٧٨ سورة الإسراء.
(٣). آية ١٨ سورة القيامة.
(٤). هو حسان بن ثابت رضى الله عنه.
(٥). الشمط بالتحريك: بياض شعر الرأس يخالطه سواده. وقيل: الشمط في الرجل شيب اللحية.
12
الرَّجُلُ بِمَعْنَى اسْتَغْنَى، وَأَغْنَاهُ اللَّهُ. وَتَغَانَوْا أَيِ اسْتَغْنَى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ حبناء التميمي:
كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ وَنَحْنُ إِذَا مُتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيَا
وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَيْضًا وَجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، أَيْ يُسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ لِإِتْبَاعِهِ التَّرْجَمَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى" أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ «١» ". والمراد الاسستغناء بِالْقُرْآنِ عَنْ عِلْمِ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى يَتَغَنَّى بِهِ، يَتَحَزَّنُ بِهِ، أَيْ يَظْهَرُ عَلَى قَارِئِهِ الْحُزْنُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ السُّرُورِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ وَتِلَاوَتِهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْغَنِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الْغَنِيَّةِ لَقَالَ: يَتَغَانَى بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ يَتَغَنَّى بِهِ ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: مِنْهُمُ الإمام أبو محمد ابن حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ. الْأَزِيزُ (بِزَايَيْنِ): صَوْتُ الرَّعْدِ وَغَلَيَانِ الْقِدْرِ. قَالُوا: فَفِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ التَّحَزُّنُ، وَعَضَّدُوا هَذَا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اقْرَأْ عَلِيَّ" فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ" النِّسَاءِ" حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ" فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً" «٢» فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ. فَهَذِهِ أَرْبَعُ تَأْوِيلَاتٍ، لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّرْجِيعِ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ" قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تُولَعُ بِالْغِنَاءِ وَالنَّشِيدِ فِي أَكْثَرِ أَقْوَالِهَا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَحَبُّوا أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ هِجِّيرَاهُمْ «٣» مَكَانَ الْغِنَاءِ، فَقَالَ:" لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ". التَّأْوِيلُ الْخَامِسُ- مَا تَأَوَّلَهُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى التَّرْجِيعِ وَالتَّطْرِيبِ، فَذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ قَالَ: ذَكَرْتُ لِأَبِي عاصم النبيل تأول ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ:" يَتَغَنَّ" يَسْتَغْنِى، فَقَالَ:
(١). آية ٥١ سورة العنكبوت.
(٢). آية ٤١ سورة النساء. [..... ]
(٣). هجيراهم: دأبهم وعادتهم.
13
لم يضع ابن عيينة شيئا. وسيل الشَّافِعِيُّ عَنْ تَأْوِيلِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: نَحْنُ أعلم بهذا، ولو أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِغْنَاءَ لقال: من لم يستغن، ولكن قَالَ" يَتَغَنَّ" عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ التَّغَنِّي. قَالَ الطَّبَرَيُّ: الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ التَّغَنِّي إِنَّمَا هُوَ الْغِنَاءُ الَّذِي هُوَ حُسْنُ الصَّوْتِ بِالتَّرْجِيعِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَغَنَّ بِالشِّعْرِ مَهْمَا كُنْتَ قَائِلَهُ إِنَّ الْغِنَاءَ بِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ
قَالَ: وَأَمَّا ادِّعَاءُ الزَّاعِمِ أَنَّ تَغَنَّيْتُ بِمَعْنَى اسْتَغْنَيْتُ فَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا، وَلَا نعلم أحد مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَهُ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ الأعشى:
وكنت امرأ زَمِنًا بِالْعِرَاقِ عَفِيفَ الْمُنَاخِ طَوِيلَ التَّغَنْ
وَزَعْمَ أَنَّهُ أَرَادَ الِاسْتِغْنَاءَ فَإِنَّهُ غَلَطٌ مِنْهُ، وَإِنَّمَا عَنَى الْأَعْشَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِقَامَةَ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: غَنِيَ فَلَانٌ بِمَكَانِ كَذَا أَيْ أَقَامَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا «١» " وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِقَوْلِهِ:
وَنَحْنُ إِذَا مُتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيَا
فَإِنَّهُ إِغْفَالٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّغَانِيَ تَفَاعُلٌ مِنْ نَفْسَيْنِ إِذَا اسْتَغْنَى كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، كَمَا يُقَالُ: تَضَارَبَ الرَّجُلَانِ، إِذَا ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. وَمَنْ قَالَ هَذَا فِي فِعْلِ الِاثْنَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ مَثْلَهُ فِي الْوَاحِدِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: تَغَانَى زَيْدٌ وَتَضَارَبَ عَمْرٌو، وَكَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: تَغَنَّى بِمَعْنَى اسْتَغْنَى. قُلْتُ: مَا ادَّعَاهُ الطَّبَرَيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَغَنَّى بِمَعْنَى اسْتَغْنَى، فَقَدْ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنَّ صِيغَةَ فَاعَلَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ اثْنَيْنِ فَقَدْ جَاءَتْ مِنْ وَاحِدٍ في ما ضيع كَثِيرَةٍ، مِنْهَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: طَارَقْتُ النَّعْلَ وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ وَدَاوَيْتُ الْعَلِيلَ، وَهُوَ كَثِيرٌ، فَيَكُونُ تَغَانَى مِنْهَا. وَإِذَا احْتَمَلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:" يَتَغَنَّ" الْغِنَاءَ وَالِاسْتِغْنَاءَ فَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأُولَى مِنَ الْآخَرِ، بَلْ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ أَوْلَى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَنَا تَأْوِيلٌ غيره، لأنه مروي عن
(١). آية ٩٢ سورة الأعراف.
14
صَحَابِيٍّ كَبِيرٍ كَمَا ذَكَرَ سُفْيَانُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ فِي حَقِّ سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ بِتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ مِنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ وَعَاصَرَهُ. وَتَأْوِيلٌ سَادِسٌ- وَهُوَ مَا جَاءَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" مَا أَذِنَ اللَّهُ «١» لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ". قَالَ الطَّبَرَيُّ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ حَسَنِ الصَّوْتِ وَالْجَهْرِ بِهِ مَعْنًى. قُلْنَا قَوْلَهُ:" يَجْهَرُ بِهِ" لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَفِيهِ بُعْدٌ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّطْرِيبِ وَالتَّرْجِيعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: يُطَرِّبُ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَجْهَرُ بِهِ: أَيْ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلَّذِي سَمِعَهُ وَقَدْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّهْلِيلِ:" أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا «٢» عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا.... " الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي. وكذلك إِنْ كَانَ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَا رَامُوهُ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا التَّأْوِيلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فَقَالَ: وَهَذَا أَشْبَهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ رَفْعَ صَوْتَهُ وَوَالَى بِهِ غَانِيًا، وَفِعْلَهُ ذَلِكَ غِنَاءً وَإِنْ لَمْ يُلَحِّنْهُ بِتَلْحِينِ الْغِنَاءِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فسره الصحابي، وهو أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد احتج أبو الحسن لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: وَقَدْ رَفَعَ الْإِشْكَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وغنوا به واكتبوه فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا «٣» مِنَ الْمَخَاضِ من العقل". قال علمائنا: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهُ فَيَرُدُّهُ مَا يعلم على القطع والبتات من قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بَلَغَتْنَا مُتَوَاتِرَةً عَنْ كَافَّةِ الْمَشَايِخِ، جِيلًا فَجِيلًا إِلَى الْعَصْرِ الْكَرِيمِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِيهَا تلحين
(١). قوله: ما أذن.... إلخ قال المناوي: يعني ما رضى الله من المسموعات شيئا هو أرضى عنده ولا أحب إليه من قول نبي يتغنى بالقرآن، أي يجهر به ويحسن صوته بالقراءة بخشوع وتحزن، وأراد بالقران ما يقرأ من الكتب المنزلة.
(٢). قوله:" اربعوا" أي كفوا وارفقوا.
(٣). التفصي: التقلب والخروج.
15
وَلَا تَطْرِيبٌ، مَعَ كَثْرَةِ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَفِي الْمَدِّ وَالْإِدْغَامِ وَالْإِظْهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْقِرَاءَاتِ. ثُمَّ إِنَّ فِي التَّرْجِيعِ وَالتَّطْرِيبِ هَمْزُ مَا لَيْسَ بِمَهْمُوزٍ وَمَدُّ مَا ليس بممدود، فترجيع الألف الواحدة ألفات والواو الواحدة واوات والشبه «١» الْوَاحِدَةُ شُبَهَاتٍ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ مَوْضِعَ نَبْرٍ وَهَمْزٍ صَيَّرُوهَا نَبْرَاتٍ وَهَمْزَاتٍ، وَالنَّبْرَةُ حَيْثُمَا وَقَعَتْ مِنَ الْحُرُوفِ فَإِنَّمَا هِيَ هَمْزَةٌ وَاحِدَةٌ لأغير، إِمَّا مَمْدُودَةٌ وَإِمَّا مَقْصُورَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مَسِيرٍ لَهُ سُورَةَ" الْفَتْحِ" عَلَى رَاحِلَتِهِ فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ فِي صِفَةِ التَّرْجِيعِ: آء آء آء، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قُلْنَا: ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى إِشْبَاعِ الْمَدِّ فِي مَوْضِعِهِ، ويحتمل أن يكون صَوْتِهِ عِنْدَ هَزِّ الرَّاحِلَةِ، كَمَا يَعْتَرِي رَافِعَ صوته إذا كان راكبا من اضغاط صَوْتِهِ وَتَقْطِيعِهِ لِأَجْلِ هَزِّ الْمَرْكُوبِ، وَإِذَا احْتَمَلَ هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ مِنْ حديث قتادة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدَّ لَيْسَ فِيهَا تَرْجِيعٌ وَرَوَى ابن جريح عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَذِّنٌ يُطَرِّبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ فَإِذَا كَانَ أَذَانُكَ سَمْحًا سَهْلًا وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ". أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي الْأَذَانِ فَأَحْرَى أَلَّا يُجَوِّزَهُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي حَفِظَهُ الرَّحْمَنُ، فَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ:" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «٢» ". وَقَالَ تَعَالَى:" لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «٣» ". قُلْتُ: وَهَذَا الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ مَا لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَى الْقُرْآنِ بِتَرْدِيدِ الْأَصْوَاتِ وَكَثْرَةِ التَّرْجِيعَاتِ، فإن زاد الأمر على ذلك لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ، كَمَا يَفْعَلُ الْقُرَّاءُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ أَمَامَ الْمُلُوكِ وَالْجَنَائِزِ، وَيَأْخُذُونَ عَلَى ذَلِكَ الْأُجُورَ وَالْجَوَائِزَ، ضل سعيهم، وخاب
(١). سيذكر المؤلف في باب (ذكر معنى الصورة والآية) إلخ: أن الشبهات هي الحروف، ولم أر هذا التعبير لغيره.
(٢). آية ٩ سورة الحجر.
(٣). آية ٤٢ سورة فصلت.
16
عملهم، فسيحتلون بِذَلِكَ تَغْيِيرَ كِتَابِ اللَّهِ، وَيُهَوِّنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِاجْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي تَنْزِيلِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، جَهْلًا بِدِينِهِمْ، وَمُرُوقًا عَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ، وَرَفْضًا لِسَيْرِ الصَّالِحِينَ فِيهِ مِنْ سَلَفِهِمْ، وَنُزُوعًا إِلَى مَا يُزَيِّنُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، فَهُمْ فِي غَيِّهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَبِكِتَابِ اللَّهِ يَتَلَاعَبُونَ، فإنا لله وإنا إليه راجعون! لكن أَخْبَرَ الصَّادِقُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ، فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْحُسَيْنِ رَزِينٌ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي" نَوَادِرِ الْأُصُولِ" مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا وَإِيَّاكُمْ وَلَحَوْنَ أَهْلِ الْعِشْقِ وَلَحَوْنَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَسَيَجِيءُ بَعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ والنوح لا يجاوز جناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ". اللُّحُونُ: جَمْعُ لَحْنٍ، وَهُوَ التَّطْرِيبُ وَتَرْجِيعُ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُهُ بِالْقِرَاءَةِ وَالشِّعْرِ وَالْغِنَاءِ. قَالَ علمائنا: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ قُرَّاءُ زَمَانِنَا بَيْنَ يَدَيِّ الْوُعَّاظِ وَفِي الْمَجَالِسِ مِنَ اللُّحُونِ الْأَعْجَمِيَّةِ الَّتِي يَقْرَءُونَ بِهَا، مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والترجيع في القراءة: ترديد الحرف كَقِرَاءَةِ النَّصَارَى. وَالتَّرْتِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ هُوَ التَّأَنِّي فِيهَا وَالتَّمَهُّلُ وَتَبْيِينُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ تَشْبِيهًا بِالثَّغْرِ الْمُرَتَّلِ، وَهُوَ الْمُشَبَّهُ بِنُورِ الْأُقْحُوَانِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «١» ". وَسُئِلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلاته، فقالت: مالكم وصلاته! [كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح «٢»]، ثُمَّ نَعَتَتْ قِرَاءَتَهُ، فَإِذَا هِيَ تَنْعِتُ قِرَاءَةً مفسرة حرفا حرفا. أخرجه النسائي وأبو دائد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

باب تحذير أهل القرآن والعلم من الرياء وغيره


قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً" «٣». وقال تعالى:" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً" «٤». روى مسلم عن أبي هريرة
(١). آية ٤ سورة المزمل.
(٢). الزيادة عن سنن الترمذي وأبي داود.
(٣). آية ٣٦ سورة النساء.
(٤). آية ١١٠ سورة الكهف.
17
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" إِنْ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرِفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرِفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العلم ليقال علام وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأعطاه من أنصاف الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرِفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النار". يقال التِّرْمِذِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ:" يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أَبُو هُرَيْرَةَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَقَالَ: كُنِّيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ لِأَنِّي حَمَلْتُ هِرَّةً فِي كُمِّي، فَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:" مَا هَذِهِ"؟ قُلْتُ: هِرَّةٌ، فَقَالَ:" يَا أَبَا هُرَيْرَةَ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيمَنْ لَمْ يُرِدْ بِعَمَلِهِ وَعِلْمِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" مَنْ طَلَبِ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي رَقَائِقِهِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَظْهَرُ هَذَا الدِّينُ حَتَّى يُجَاوِزَ الْبِحَارَ وَحَتَّى تُخَاضَ الْبِحَارُ بِالْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ يَأْتِي أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ فَإِذَا قَرَءُوهُ قَالُوا مَنْ أَقْرَأُ مِنَّا مَنْ أَعْلَمُ مِنَّا" ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ:" هَلْ تَرَوْنَ فِي أُولَئِكُمْ مِنْ خَيْرٍ" قَالُوا: لَا. قَالَ:" أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولَئِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى به وجه لله لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". يَعْنِي رِيحَهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ
18
حَسَنٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ؟ قَالَ:" وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَتَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يدخله؟ قال:" القراء المراءون بأعملهم" قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي كِتَابِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ فِي جَهَنَّمَ لَوَادِيًا إِنَّ جهنم لتتعوذ من ذَلِكَ الْوَادِي كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْوَادِي لَجُبًّا إِنَّ جَهَنَّمَ وَذَلِكَ الوادي ليتعوذون بالله من شر ذلك الجب وإن فط الْجُبِّ لَحَيَّةً وَإِنَّ جَهَنَّمَ وَالْوَادِيَ وَالْجُبَّ لَيَتَعَوَّذُونَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ تِلْكَ الْحَيَّةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْأَشْقِيَاءِ مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يَعْصُونَ اللَّهَ". فَيَجِبُ عَلَى حَامِلِ الْقُرْآنِ وَطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ وَيُخْلِصَ العمل لله، فإن كان تقدم له شي مما يكره فليبادر التوبة التوبة والإنابة، وليبتدئ الإخلاص في الطلب. عمله. فالذي يلزم حامل القرآن من التحفظ أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ غَيْرُهُ، كَمَا أَنَّ لَهُ من الأجر ما ليس لغيره. وروى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أنزل اله فِي بَعْضِ الْكُتُبِ- أَوْ أَوْحَى- إِلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ قُلْ لِلَّذِينِ يَتَفَقَّهُونَ لِغَيْرِ الدِّينِ وَيَتَعَلَّمُونَ لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخر يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ مُسُوكَ «١» الْكِبَاشِ وَقُلُوبُهُمْ كَقُلُوبِ الذِّئَابِ أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ وَبِي يَسْتَهْزِئُونَ لِأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَذَرُ الْحَلِيمَ فِيهِمْ حَيْرَانَ". وَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ آدَابِ النُّفُوسِ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْبَجَلِيِّ عَنِ ابْنِ صَدَقَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مَنْ حَدَّثَهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تُخَادِعِ الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله وَنَفْسَهُ يَخْدَعُ لَوْ يَشْعُرُ". قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُخَادِعُ
اللَّهَ؟ قَالَ:" تَعْمَلُ بِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ وَتَطْلُبُ بِهِ غَيْرَهُ وَاتَّقُوا الرِّيَاءَ فَإِنَّهُ الشِّرْكُ وَإِنَّ الْمُرَائِيَ يُدْعَى يَوْمَ القيامة على رءوس الْأَشْهَادِ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ يُنْسَبُ إِلَيْهَا يَا كَافِرُ يَا خَاسِرُ يَا غَادِرُ يَا فَاجِرُ ضَلَّ عملك وبطل
(١). المسوك (جمع مسك، بفتح ثم سكون): الجلد.
19
أَجْرُكَ فَلَا خَلَاقَ لَكَ الْيَوْمَ فَالْتَمِسْ أَجْرَكَ مِمَّنْ كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ يَا مُخَادِعُ. وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كيف أنتم! لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ الْكَبِيرُ، وَتُتَّخَذُ سُنَّةً مُبْتَدَعَةً يَجْرِي عَلَيْهَا النَّاسُ فَإِذَا غير منها شي قيل: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ. قِيلَ: مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثر قراؤكم. قل فقهائكم، وَكَثُرَ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقُلْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ أَخَذُوهُ بِحَقِّهِ وَمَا ينبغي لأحبهم الله، ولكن ي لبوا بِهِ الدُّنْيَا فَأَبْغَضَهُمُ اللَّهُ، وَهَانُوا عَلَى النَّاسِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" فَكُبْكِبُوا «١» فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ" قَالَ: قَوْمٌ وَصَفُوا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَخَالَفُوهُ إلى غيره.. سيأتي لِهَذَا الْبَابِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ إن شاء الله تعالى.

باب ما ينبغي لصاحب القرآن أن يأخذ نفسه به ولا يغفل عنه


فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ يُخْلِصَ فِي طَلَبِهِ لِلَّهِ عز وجل كما ذكرنا، وَأَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لئلا ينساه. وروى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ وَإِذَا قام صاحب القرآن فقرأه بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ حَامِدًا، وَلِنِعَمِهِ شَاكِرًا، وَلَهُ ذَاكِرًا، وَعَلَيْهِ مُتَوَكِّلًا، وَبِهِ مستعينا وإليه راغبا، وبه معتصما، وللموت مُسْتَعِدًّا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنْ ذَنْبِهِ، رَاجِيًا عَفْوَ رَبِّهِ، وَيَكُونَ الْخَوْفُ فِي صحته أغلب عليه، إذا لَا يَعْلَمُ بِمَا يُخْتَمُ لَهُ، وَيَكُونَ الرَّجَاءُ عِنْدَ حُضُورِ أَجْلِهِ أَقْوَى فِي نَفْسِهِ، لِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ". أَيْ أَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَغْفِرُ لَهُ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَهْلِ زَمَانِهِ، مُتَحَفِّظًا مِنْ سُلْطَانِهِ، سَاعِيًا فِي خَلَاصِ نَفْسِهِ، وَنَجَاةِ مُهْجَتِهِ، مُقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ عَرَضِ دُنْيَاهُ، مُجَاهِدًا لِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ مَا اسْتَطَاعَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يكون أهم أموره عنده الْوَرَعِ فِي دِينِهِ، وَاسْتِعْمَالُ تَقْوَى اللَّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ فيما أمره به ونهاه عنه.
(١). آية ٩٤ سورة الشعراء. [..... ]
20
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَنْبَغِي لِقَارِئِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إِذَا النَّاسُ نَائِمُونَ، وَبِنَهَارِهِ إِذَا الناس مستيقضون، وببكائه إذ النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِصَمْتِهِ إِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ، وَبِخُضُوعِهِ إِذَا النَّاسُ يَخْتَالُونَ، وَبِحُزْنِهِ إِذَا النَّاسُ يَفْرَحُونَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَخُوضَ مَعَ مَنْ يَخُوضُ، وَلَا يَجْهَلُ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ لِحَقِّ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ فِي جَوْفِهِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالتَّصَاوُنِ عَنْ طُرُقِ الشُّبُهَاتِ، وَيُقِلَّ الضَّحِكَ وَالْكَلَامَ فِي مَجَالِسِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلْفُقَرَاءِ، وَيَتَجَنَّبَ التَّكَبُّرَ وَالْإِعْجَابَ، وَيَتَجَافَى عَنِ الدُّنْيَا وَأَبْنَائِهَا إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ، وَيَتْرُكَ الْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ، وَيَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالرِّفْقِ والأدب. وينبغي له أن يكون ممن يؤن شَرُّهُ، وَيُرْجَى خَيْرُهُ وَيُسْلَمُ مِنْ ضَرِّهِ، وَأَلَّا يَسْمَعَ مِمَّنْ نَمَّ عِنْدَهُ، وَيُصَاحِبَ مَنْ يُعَاوِنُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَيَدُلُّهُ عَلَى الصِّدْقِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيُزَيِّنُهُ وَلَا يَشِينُهُ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ، فَيَفْهَمَ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ وَمَا فَرَضَ عَلَيْهِ، فَيَنْتَفِعَ بِمَا يَقْرَأُ وَيَعْمَلَ بِمَا يَتْلُو، فَكَيْفَ يَعْمَلُ بِمَا لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَمَا أَقْبَحَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ فِقْهِ مَا يَتْلُوهُ وَلَا يَدْرِيهِ، فَمَا مَثَلُ مَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ إِلَّا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ الْمَكِّيَّ مِنَ الْمَدَنِيِّ لِيُفَرِّقَ بِذَلِكَ بَيْنَ مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَمَا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ، وَمَا افْتَرَضَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ فِي آخِرِهِ. فَالْمَدَنِيُّ هُوَ النَّاسِخُ لِلْمَكِّيِّ فِي أَكْثَرِ الْقُرْآنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْسَخَ الْمَكِّيُّ الْمَدَنِيَّ، لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي النُّزُولِ قَبْلَ النَّاسِخِ لَهُ. وَمِنْ كَمَالِهِ أَنْ يَعْرِفَ الْإِعْرَابَ وَالْغَرِيبَ، فَذَلِكَ مِمَّا يُسَهِّلُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةَ مَا يَقْرَأُ، وَيُزِيلُ عَنْهُ الشَّكَّ فِيمَا يَتْلُو. وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ سَمِعْتُ الْجَرْمِيَّ يَقُولُ: أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أُفْتِي النَّاسَ فِي الْفِقْهِ مِنْ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا عُمَرَ الْجَرْمِيَّ كَانَ صَاحِبَ حَدِيثٍ، فَلَمَّا عَلِمَ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ تَفَقَّهَ فِي الْحَدِيثِ، إِذْ كَانَ كِتَابُ سِيبَوَيْهِ يُتَعَلَّمُ منه النظر والتفسير. ثم فِي السُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
21
فيما يصل إِلَى مُرَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ وَهِيَ تَفْتَحُ لَهُ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ فَتْحًا، وَقَدْ قَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ «١» ". قَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ أن يكون فقيها. وذكر ابن أبي الجوزي قَالَ: أَتَيْنَا فُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ، فَوَقَفْنَا عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَنَا بِالدُّخُولِ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: إِنْ كَانَ خَارِجًا لِشَيْءٍ فَسَيَخْرُجُ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَأَمَرْنَا قَارِئًا فَقَرَأَ فَاطَّلَعَ عَلَيْنَا مِنْ كُوَّةٍ، فَقُلْنَا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، فَقُلْنَا: كَيْفَ أَنَتَ يَا أَبَا عَلِيٍّ، وَكَيْفَ حَالُكَ؟ فَقَالَ: أَنَا مِنَ اللَّهِ فِي عَافِيَةٍ وَمِنْكُمْ فِي أَذًى، وَإِنَّ مَا أَنْتُمْ فيه حديث فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! مَا هَكَذَا كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ، وَلَكِنَّا كُنَّا نَأْتِي الْمَشْيَخَةَ فَلَا نَرَى أَنْفُسَنَا أَهْلًا لِلْجُلُوسِ مَعَهُمْ، فَنَجْلِسُ دُونَهُمْ وَنَسْتَرِقُ السَّمْعَ، فَإِذَا مَرَّ الْحَدِيثُ سَأَلْنَاهُمْ إِعَادَتَهُ وَقَيَّدْنَاهُ، وَأَنْتُمْ تَطْلُبُونَ الْعِلْمَ بِالْجَهْلِ، وَقَدْ ضَيَّعْتُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَلَوْ طَلَبْتُمْ كِتَابَ اللَّهِ لَوَجَدْتُمْ فِيهِ شِفَاءً لِمَا تُرِيدُونَ، قَالَ: قُلْنَا قَدْ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، قَالَ: إِنَّ فِي تَعَلُّمِكُمُ الْقُرْآنَ شُغْلًا لِأَعْمَارِكُمْ وَأَعْمَارِ أَوْلَادِكُمْ، قُلْنَا: كَيْفَ يَا أَبَا عَلِيٍّ؟ قَالَ: لَنْ تعلموا القرآن حتى تعرف. اإعرابه، ومحكمه من متشابهه، وناسخه من منسوخه، إذا عَرَفْتُمْ ذَلِكَ اسْتَغْنَيْتُمْ عَنْ كَلَامِ فُضَيْلٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ، ، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «٢» ". قُلْتُ: فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ كَانَ مَاهِرًا بِالْقُرْآنِ، وَعَالِمًا بِالْفُرْقَانِ، وَهُوَ قَرِيبٌ عَلَى مَنْ قَرَّبَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا حَتَّى يُخْلِصَ النِّيَّةَ فِيهِ لِلَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ أَوْ بَعْدَ طَلَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَقَدْ يَبْتَدِئُ الطَّالِبُ لِلْعِلْمِ يُرِيدُ بِهِ الْمُبَاهَاةَ وَالشَّرَفَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَزَالُ بِهِ فَهْمُ الْعِلْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى خَطَأٍ فِي اعْتِقَادِهِ فَيَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ وَيُخْلِصَ النِّيَّةَ
لِلَّهِ تَعَالَى فَيَنْتَفِعَ بِذَلِكَ وَيَحْسُنَ حَالُهُ. قَالَ الْحَسَنُ: كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إلى الآخرة. وقاله سفيان الثوري. وقال بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: طَلَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ وَلَيْسَ لَنَا فِيهِ نِيَّةٌ ثُمَّ جَاءَتِ النِّيَّةُ بَعْدُ.
(١). آية ٧٩ سورة آل عمران.
(٢). ايتا ٥٧، ٥٨ سورة يونس.
22

باب ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه، وثواب من قرأ القرآن معربا


قال أبو بكر الْأَنْبَارِيِّ: جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَتَابِعِيهِمْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ من تفضيل إعراب القرآن، والحصن عَلَى تَعْلِيمِهِ، وَذَمِّ اللَّحْنِ وَكَرَاهِيَتِهِ مَا وَجَبَ بِهِ عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ أَنْ يَأْخُذُوا أَنْفُسَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ فِي تَعَلُّمِهِ. مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الضَّبِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يعني ابن سعيد قال حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ وَالْتَمِسُوا غَرَائِبَهُ". حَدَّثَنِي أبي قال حدثنا إبراهيم ابن الهيثم قال حدثنا آدم يعني ابن إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَمْ يُعْرِبْهُ وُكِّلَ بِهِ مَلَكٌ يَكْتُبُ لَهُ كَمَا أُنْزِلَ بِكُلِّ حِرَفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ فَإِنْ أَعْرَبَ بَعْضَهُ وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَكْتُبَانِ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عِشْرِينَ حَسَنَةً فَإِنْ أَعْرَبَهُ وُكَّلَ بِهِ أَرْبَعَةُ أَمْلَاكٍ يَكْتُبُونَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ سَبْعِينَ حَسَنَةً". وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ قال قال عبد الله ابن مَسْعُودٍ: جَوِّدُوا الْقُرْآنَ وَزَيَّنُوهُ بِأَحْسَنِ الْأَصْوَاتِ، وَأَعْرِبُوهُ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْرَبَ بِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَعْرِبُوا القرآن. وعن محمد بن عبد الرحمن ابن زَيْدٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَبَعْضُ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ حِفْظِ حُرُوفِهِ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَجْرُ شَهِيدٍ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: بَلَغَنِي أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِإِعْرَابٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ ضِعْفَانِ مِمَّنْ قَرَأَ بِغَيْرِ إعراب. وروى ابن جريح عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلَاثٍ لِأَنِّي عَرَبِيٌّ وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ وَكَلَامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ". وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حمزة قال قيل للحسين في قوم يتعلمون العربية قال: أحسنوا، يتعلموا لُغَةَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ لَنَا إِمَامًا يُلْحِنُ، قَالَ: أَخِّرُوهُ.
23
وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَنْ يُقْرِئُنِي مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فَأَقْرَأَهُ رجل" براءة"، فقال:" أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ". بِالْجَرِّ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: أَوَقَدْ بَرِئَ اللَّهُ مِنْ رَسُولِهِ؟ فَإِنْ يَكُنِ اللَّهُ برئ من رس. له فَأَنَا أَبْرَأُ مِنْهُ، فَبَلَغَ عُمَرَ مَقَالَةُ الْأَعْرَابِيِّ: فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا أَعْرَابِيُّ أَتَبْرَأُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ يَا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة ولأعلم لِي بِالْقُرْآنِ، فَسَأَلْتُ مَنْ يُقْرِئُنِي، فَأَقْرَأَنِي هَذَا سورة" براءة" فقال:" أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ورسوله"، فقلت أو قد بَرِئَ اللَّهُ مِنْ رَسُولِهِ، إِنْ يَكُنِ اللَّهُ بَرِئَ مِنْ رَسُولِهِ فَأَنَا أَبْرَأُ مِنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَيْسَ هَكَذَا يَا أَعْرَابِيُّ، قَالَ: فَكَيْفَ هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ" أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ" فقال الأعرابي: وأنا أَبْرَأُ مِمَّا بَرِئَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ، فَأَمَرَ عمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلَّا يُقْرِئَ النَّاسَ إِلَّا عَالَمٌ بِاللُّغَةِ، وَأَمَرَ أَبَا الْأَسْوَدِ «١» فَوَضَعَ النَّحْوَ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ قَالَ سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: مَثَلُ صَاحِبِ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ مَثَلُ الْحِمَارِ عَلَيْهِ مِخْلَاةٌ لَا عَلَفَ فِيهَا. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: مَنْ طلب الحديث ولم يعلم النَّحْوَ أَوْ قَالَ الْعَرَبِيَّةَ فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ تُعَلَّقُ عَلَيْهِ مِخْلَاةٌ لَيْسَ فِيهَا شَعِيرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِعْرَابُ الْقُرْآنِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ بِذَلِكَ تُقَوِّمُ مَعَانِيهِ الَّتِي هِيَ الشَّرْعُ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَجَاءَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَابِعِيهِمْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى غَرِيبِ الْقُرْآنِ وَمُشْكِلِهِ بِاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ مَا بَيَّنَ صِحَّةَ مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ فِي ذَلِكَ، وَأَوْضَحَ فَسَادَ مَذْهَبِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بن عبد الْوَاحِدِ بْنِ شَرِيكٍ الْبَزَّازُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ فَرُّوخٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَأَلْتُمُونِي عَنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ فَالْتَمِسُوهُ فِي الشِّعْرِ، فَإِنَّ الشِّعْرَ دِيوَانُ الْعَرَبِ. وَحَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ حَدَّثَنَا خَلْفٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ وَيُوسُفَ بْنَ مِهْرَانَ يَقُولَانِ: سَمِعْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ يُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ بِالْقُرْآنِ، فَيَقُولُ فِيهِ هَكَذَا وَهَكَذَا، أَمَا سَمِعْتُمُ الشَّاعِرَ يقول كذا وكذا. وعن عكرمة
(١). يجوز أن يكون أمر أبي الأسود بوضع النحو تكرر من عمر ومن علي.
24
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ الله عز وجل:" وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ «١» " قَالَ: لَا تَلْبَسُ ثِيَابَكَ عَلَى غَدْرٍ، وَتَمَثَّلَ بِقَوْلِ غَيْلَانَ الثَّقَفِيِّ:
فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ غَادِرٍ لَبِسْتُ وَلَا مِنْ سَوْءَةٍ أَتَقَنَّعُ «٢»
وَسَأَلَ رَجُلٌ عِكْرِمَةَ عَنِ الزَّنِيمِ قَالَ: هُوَ وَلَدُ الزِّنَى، وَتَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ:
زَنِيمٌ لَيْسَ يُعْرَفُ مَنْ أَبَوْهُ بَغِيِّ الْأُمِّ ذُو حَسَبٍ لئيم
وعنه أيضا الزنيم: الداعي الْفَاحِشُ اللَّئِيمُ، ثُمَّ قَالَ:
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ الْأَكَارِعُ «٣».
وَعَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" ذَواتا أَفْنانٍ «٤» " قَالَ: ذَوَاتَا ظِلٍّ وَأَغْصَانٍ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا هَاجَ شَوْقُكَ مِنْ هَدِيلِ حَمَامَةٍ تَدْعُو عَلَى فَنَنِ الْغُصُونِ حَمَامًا
تَدْعُو أَبَا فَرْخَيْنِ صَادَفَ طَائِرًا ذَا مِخْلَبَيْنِ مِنَ الصُّقُورِ قَطَامًا
وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ «٥» " قَالَ: الْأَرْضُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ،" عِنْدَهُمْ «٦» لَحْمُ بَحْرٍ وَلَحْمُ سَاهِرَةٍ". قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالرُّوَاةُ يَرْوُونَ هَذَا الْبَيْتَ:
وَفِيهَا لَحْمُ سَاهِرَةٍ وَبَحْرٍ وَمَا فَاهُوا بِهِ لَهُمُ مُقِيمُ
وَقَالَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أخبرني عن قول الله عز وجل:" لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ" مَا السِّنَةُ؟ قَالَ: النُّعَاسُ، قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
لا سنة في طول اللَّيْلِ تَأْخُذُهُ وَلَا يَنَامُ وَلَا فِي أَمْرِهِ فند «٧»
(١). آية ٤ سورة المدثر.
(٢). أورد المؤلف في تفسير سورة المدثر ج ١٩ ص ٦٢ هذا البيت برواية أخرى هكذا: فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ لَبِسْتُ ولا من غدرة أتقنع.
(٣). كذا في اللسان والكامل للمبرد. وفي الأصول: أكارعه".
(٤). آية ٤٨ سورة الرحمن.
(٥). آية ١٤ سورة النازعات.
(٦). كذا في الأصول، ولعل ابن عباس يريد ما تضمنه البيت الذي قاله أمية والذي ذكره ابن الأنباري فيما يلي، وسيأتي للمصنف في تفسير سورة النازعات ج ١٩ ص ١٩٧ هذا البيت.
(٧). الفند (بالتحريك): ضعف الرأي من الكبر، وقد يستعمل في غير الكبر.
25

باب ما جاء في فضل تفسير القرآن وأهله


قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي فَضْلِ التَّفْسِيرِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ، فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَوَصْفَهُ بِالْعِلْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جُعِلْتُ فداءك! تصف جابر بِالْعِلْمِ وَأَنْتَ أَنْتَ! فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى" إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «١» ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَمُهُمْ بِمَا أُنْزِلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إِلَّا أَحَبَّ أَنْ يُعْلَمَ فيما أنزلت وما يعني بها. وقال الشهبي: رَحَلَ مَسْرُوقٌ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَ الَّذِي يُفَسِّرُهَا رَحَلَ إِلَى الشَّأْمِ: فَتَجَهَّزَ وَرَحَلَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى عَلِمَ تَفْسِيرِهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ «٢» " طلبت اسم هذا الرجل [الذي خرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله «٣»] أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى وَجَدْتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَسَيَأْتِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَكَثْتُ سَنَتَيْنِ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رسول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا يَمْنَعُنِي إِلَّا مَهَابَتُهُ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: هِيَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَثَلُ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَهُ، كَمَثَلِ قَوْمٍ جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ مَلِكِهِمْ لَيْلًا وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِصْبَاحٌ، فَتَدَاخَلَتْهُمْ رَوْعَةٌ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِي الْكِتَابِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَعْرِفُ التَّفْسِيرَ كَمَثَلِ رَجُلٍ جَاءَهُمْ بِمِصْبَاحٍ فَقَرَءُوا ما في الكتاب.

باب ما جاء في حامل القرآن ومن هو، وفي من عاداه


قَالَ أَبُو عُمَرَ: رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ فِيهَا لِينٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" مِنْ تَعْظِيمِ جَلَالِ اللَّهِ إِكْرَامُ ثلاثة: الإمام المقسط وذي الشيبة وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ". وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَحَمَلَةُ الْقُرْآنِ هُمُ الْعَالِمُونَ بِأَحْكَامِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَالْعَامِلُونَ بِمَا فِيهِ. وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" القرآن أفضل من كل شي فَمَنْ وَقَّرَ الْقُرْآنَ فَقَدْ وَقَّرَ اللَّهَ وَمَنَ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ اسْتَخَفَّ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَمَلَةُ الْقُرْآنِ هُمُ الْمَحْفُوفُونَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ الْمُعَظِّمُونَ كَلَامَ الله الملبسون نور الله فمن والهم فَقَدْ وَالَى اللَّهَ وَمَنْ عَادَاهُمْ فَقَدِ اسْتَخَفَّ بحق الله تعالى".
(١). آية ٨٥ سورة القصص.
(٢). آية ١٠٠ سورة النساء.
(٣). الزيادة من تفسير قطب الدين الشيرازي.
26

باب ما يلزم قارئ القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته


قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ:" فَمِنْ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَلَّا يَمَسَّهُ إلا طاهرا. ومن حرمته أن يقرأه على طهارة. ومن حرمته أن يستاك ويتحلل فَيُطَيِّبَ فَاهُ، إِذْ هُوَ طَرِيقُهُ. قَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ: إِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ مِنْ طُرُقِ الْقُرْآنِ، فَطَهِّرُوهَا وَنَظِّفُوهَا مَا اسْتَطَعْتُمْ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يَتَلَبَّسَ «١» كَمَا يَتَلَبَّسُ لِلدُّخُولِ عَلَى الْأَمِيرِ لِأَنَّهُ مُنَاجٍ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِقِرَاءَتِهِ. وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ إِذَا قَرَأَ اعْتَمَّ وَلَبِسَ وَارْتَدَى وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يَتَمَضْمَضَ كُلَّمَا تَنَخَّعَ «٢». رَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ تَوْرٌ «٣» إِذَا تَنَخَّعَ مَضْمَضَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الذِّكْرِ، وَكَانَ كُلَّمَا تَنَخَّعَ مضمض. ومن حرمته إذا تثائب أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ إِذَا قَرَأَ فَهُوَ مُخَاطِبٌ رَبَّهُ وَمُنَاجٍ، وَالتَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا تَثَاءَبْتَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَأَمْسِكْ عَنِ الْقُرْآنِ تَعْظِيمًا حَتَّى يَذْهَبَ تَثَاؤُبُكَ. وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ. يُرِيدُ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ إِجْلَالًا لِلْقُرْآنِ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ لِلْقِرَاءَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَيَقْرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إن كان ابتدأ قِرَاءَتِهِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ أَوْ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ إِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ لَمْ يَقْطَعْهَا سَاعَةً فَسَاعَةً بِكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يَخْلُوَ بِقِرَاءَتِهِ حَتَّى لَا يَقْطَعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ بِكَلَامٍ فَيَخْلِطُهُ بِجَوَابِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ زَالَ عَنْهُ سُلْطَانُ الِاسْتِعَاذَةِ الَّذِي اسْتَعَاذَ فِي الْبِدْءِ. وَمِنْ حرمته أن يراه عَلَى تُؤَدَةٍ وَتَرْسِيلٍ وَتَرْتِيلٍ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ ذِهْنَهُ وَفَهْمَهُ حَتَّى يَعْقِلَ مَا يُخَاطَبُ بِهِ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يَقِفَ عَلَى آيَةِ الْوَعْدِ فَيَرْغَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَنْ يَقِفَ عَلَى آيَةِ الْوَعِيدِ فَيَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ مِنْهُ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يَقِفَ على أمثاله فيتمثلها. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يَلْتَمِسَ غَرَائِبَهُ «٤». وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ لِكُلِّ حَرْفِ حَقَّهُ مِنَ الْأَدَاءِ حتى يبرز الكلام باللفظ تماما، فإن بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ إِذَا انْتَهَتْ قِرَاءَتُهُ أَنْ يُصَدِّقَ رَبَّهُ، وَيَشْهَدَ بِالْبَلَاغِ
(١). يقال: تلبس بالثوب بمعنى لبسه. [..... ]
(٢). تنخع كتنخم وزنا ومعنى.
(٣). التور، إناء يشرب فيه.
(٤). في نوادر الأصول:" إعرابه". وكلاهما مروي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد روى أبو هريرة عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه" رواه الحاكم والبيهقي.
27
لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَشْهَدَ عَلَى ذلك أنه حق، فيقول: صدقت رب وَبَلَّغْتَ رُسُلُكَ، وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ شُهَدَاءِ الْحَقِّ، الْقَائِمِينَ بِالْقِسْطِ، ثُمَّ يَدْعُو بِدَعَوَاتٍ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ إِذَا قَرَأَهُ أَلَّا يَلْتَقِطَ الْآيَ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ فَيَقْرَأَهَا، فَإِنَّهُ رُوِيَ لَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ مَرَّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يقرأ من كل سورة شيئا، فأمره أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ إِذَا وَضَعَ الْمُصْحَفَ أَلَّا يَتْرُكَهُ مَنْشُورًا، وَأَلَّا يَضَعَ فَوْقَهُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ حَتَّى يَكُونَ أَبَدًا عَالِيًا لِسَائِرِ الْكُتُبِ، عِلْمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ إِذَا قَرَأَهُ أَوْ على شي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يَضَعَهُ بِالْأَرْضِ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يَمْحُوَهُ مِنَ اللَّوْحِ بِالْبُصَاقِ وَلَكِنْ يَغْسِلُهُ بالماء. ومن حرمته إذا غسل بالماء أن يتوقى النجاسات من المواضع، والماقع الَّتِي تُوطَأُ، فَإِنَّ لِتِلْكَ الْغُسَالَةِ حُرْمَةً، وَكَانَ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَشْفِي بِغُسَالَتِهِ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يَتَّخِذَ الصَّحِيفَةَ إِذَا بَلِيَتْ وَدَرَسَتْ وِقَايَةً لِلْكُتُبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَفَاءٌ عَظِيمٌ، وَلَكِنْ يَمْحُوهَا بِالْمَاءِ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُخَلِّيَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِهِ مِنَ النَّظَرِ فِي الْمُصْحَفِ مَرَّةً، وَكَانَ أَبُو مُوسَى يَقُولُ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَلَّا أَنْظُرَ كُلَّ يَوْمٍ فِي عَهْدِ رَبِّي مَرَّةً. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يُعْطِيَ عَيْنَيْهِ حظهما من، فإن العين نؤدي إِلَى النَّفْسِ، وَبَيْنَ النَّفْسِ وَالصَّدْرِ حِجَابٌ، وَالْقُرْآنُ فِي الصَّدْرِ، فَإِذَا قَرَأَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فَإِنَّمَا يُسْمِعُ أُذُنَهُ فَتُؤَدِّي إِلَى النَّفْسِ، فَإِذَا نَظَرَ فِي الْخَطِّ كَانَتِ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ قَدِ اشْتَرَكَتَا فِي الْأَدَاءِ وَذَلِكَ أَوْفَرُ لِلْأَدَاءِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَتِ الْعَيْنُ حَظَّهَا كَالْأُذُنِ. رَوَى زَيْدُ ابن أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَعْطُوا أَعْيُنَكُمْ حَظَّهَا مِنَ الْعِبَادَةِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَظُّهَا مِنَ الْعِبَادَةِ؟ قَالَ:" النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ وَالِاعْتِبَارُ عِنْدَ عَجَائِبِهِ". وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ نَظَرًا". وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يَتَأَوَّلَهُ عند ما يعرض له شي من أمر أدنيا. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زِيَادٍ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قال: كان يكره أن يتأول شي من القرآن عند ما يعرض له شي مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَالتَّأْوِيلُ مِثْلُ قَوْلِكَ لِلرَّجُلِ إذا جاءك: جِئْتَ عَلى قَدَرٍ
28
يا مُوسى
، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ «١» " هَذَا عِنْدَ حُضُورِ الطعام وأشباه هذا. وو من حُرْمَتِهِ أَلَّا يُقَالَ: سُورَةُ كَذَا، كَقَوْلِكَ: سُورَةُ النحل وسورة البقرة والنساء، وَلَكِنْ يُقَالُ: السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا. قُلْتُ: هَذَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْآيَتَانِ مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ" خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. و. من حُرْمَتِهِ أَلَّا يُتْلَى مَنْكُوسًا كَفِعْلِ مُعَلِّمِي الصِّبْيَانِ، يَلْتَمِسُ أَحَدُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يُرِىَ الْحِذْقَ مِنْ نَفْسِهِ وَالْمَهَارَةَ، فَإِنَّ تِلْكَ مُخَالَفَةٌ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُقَعِّرَ فِي قِرَاءَتِهِ كَفِعْلِ هَؤُلَاءِ الْهَمْزِيِّينَ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُتَنَطِّعِينَ فِي إِبْرَازِ الْكَلَامِ مِنْ تِلْكَ الْأَفْوَاهِ الْمُنْتِنَةِ تَكَلُّفًا، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ أَلْقَاهُ إِلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَقَبِلُوهُ عَنْهُ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يقرأه بألحان الغناء لحون أَهْلِ الْفِسْقِ، وَلَا بِتَرْجِيعِ النَّصَارَى وَلَا نَوْحِ الرَّهْبَانِيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ زَيْغٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنْ يُجِلَّلَ تَخْطِيطَهُ إِذَا خَطَّهُ. وَعَنْ أَبِي حُكَيْمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ بِالْكُوفَةِ، فَمَرَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَظَرَ إِلَى كِتَابَتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَجِلَّ قَلَمَكَ، فَأَخَذْتُ الْقَلَمَ فَقَطَطْتُهُ مِنْ طَرَفِهِ قَطًّا، ثُمَّ كَتَبْتُ وعلي رضى الله قَائِمٌ يَنْظُرُ إِلَى كِتَابَتِي، فَقَالَ: هَكَذَا، نَوِّرْهُ كَمَا نَوَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يَجْهَرَ بَعْضٌ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ فَيُفْسِدَ عَلَيْهِ حَتَّى يُبَغِّضَ إِلَيْهِ مَا يَسْمَعُ وَيَكُونَ كَهَيْئَةِ الْمُغَالَبَةِ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُمَارِيَ وَلَا يُجَادِلَ فِيهِ فِي الْقِرَاءَاتِ، وَلَا يَقُولَ لِصَاحِبِهِ: لَيْسَ هَكَذَا هُوَ، وَلَعَلَّهُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقِرَاءَةُ صَحِيحَةً جَائِزَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَيَكُونَ قَدْ جَحَدَ كِتَابَ اللَّهِ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يَقْرَأَ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا فِي مَوَاطِنِ اللَّغَطِ وَاللَّغْوِ وَمَجْمَعِ السُّفَهَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ عِبَادَ الرَّحْمَنِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً، هَذَا لِمُرُورِهِ بِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ إِذَا مَرَّ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تِلَاوَةً بَيْنَ ظَهْرَانِيِّ أَهْلِ اللَّغْوِ وَمَجْمَعِ السُّفَهَاءِ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يَتَوَسَّدَ الْمُصْحَفَ وَلَا
يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْمِي بِهِ إِلَى صَاحِبِهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُنَاوِلَهُ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُصَغِّرَ الْمُصْحَفَ، رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا يُصَغَّرُ الْمُصْحَفُ. قُلْتُ: وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه رأى مصحفا فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ: مَنْ كَتَبَهُ؟ قَالَ: أَنَا، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: عَظِّمُوا الْقُرْآنَ. وَرُوِيَ عن رسول
(١). آية ٢٤ سورة الحاقة.
29
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَالَ: مُسَيْجِدٌ أَوْ مُصَيْحِفٌ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ ألا يخلي فيه مليس مِنْهُ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُحَلَّى بِالذَّهَبِ وَلَا يكتب بالذهب فتخلط به زينة الدنية: وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُحَلَّى الْمُصْحَفُ أَوْ يُكْتَبَ بِالذَّهَبِ أَوْ يعلم عند رءوس الْآيِ أَوْ يُصَغَّرَ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِذَا زَخْرَفْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ وَحَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ فَالدَّبَارُ «١» عَلَيْكُمْ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ رَأَى مُصْحَفًا زُيِّنَ بِفِضَّةٍ: تُغْرُونَ بِهِ السَّارِقَ وَزِينَتُهُ فِي جَوْفِهِ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُكْتَبَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا عَلَى حَائِطٍ كَمَا يُفْعَلُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ الْمُحْدَثَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّقِيقِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُحَدِّثُ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ في أرض، فقال لشاب من أهل هُذَيْلٍ:" مَا هَذَا: قَالَ: مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَتَبَهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ:" لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا لَا تَضَعُوا كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا مَوْضِعَهُ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ: رَأَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنًا لَهُ يَكْتُبُ الْقُرْآنَ عَلَى حَائِطٍ فَضَرَبَهُ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَنَّهُ إِذَا اغْتَسَلَ بِكِتَابَتِهِ مُسْتَشْفِيًا مِنْ سَقَمٍ أَلَّا يَصُبَّهُ عَلَى كُنَاسَةٍ، وَلَا فِي مَوْضِعِ نَجَاسَةٍ، وَلَا عَلَى مَوْضِعٍ يُوطَأُ، وَلَكِنْ نَاحِيَةً مِنَ الْأَرْضِ فِي بُقْعَةٍ لَا يَطَؤُهُ النَّاسُ، أَوْ يَحْفُرُ حُفَيْرَةً فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ حَتَّى يَنْصَبَّ مِنْ جَسَدِهِ فِي تِلْكَ الْحُفَيْرَةِ ثُمَّ يَكْبِسُهَا، أَوْ فِي نهر كبير يختلط بمائه فيجري. ومن حزمته أَنْ يَفْتَتِحَهُ كُلَّمَا خَتَمَهُ حَتَّى لَا يَكُونَ كَهَيْئَةِ الْمَهْجُورِ، وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَتَمَ يَقْرَأُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ قَدْرَ خَمْسِ آيَاتٍ، لِئَلَّا يَكُونَ فِي هَيْئَةِ الْمَهْجُورِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:" عَلَيْكَ بِالْحَالِّ الْمُرْتَحِلِ" قَالَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ:" صَاحِبُ الْقُرْآنِ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِهِ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَهُ ثُمَّ يَضْرِبُ في أوله كلما حل ار تحل". قُلْتُ: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ أَنْ يجمع أهله. وذكر أبو بكر لأنباري أنبأنا إدريس حدثنا حلف حدثنا وكع عم معسر عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ إذا ختم القرآن جمع.
(١). الدبار: الهلاك. وفي نوادر الأصول:" فالدمار" بالميم بدل الباء الموحد.
30
اهله ودعا. وأخبرنا إدريس حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَكَمِ قَالَ: كان مجاهد وعبدة بن لُبَابَةَ وَقَوْمٌ يَعْرِضُونَ الْمَصَاحِفَ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِمُوا وَجَّهُوا إِلَيْنَا: احْضُرُونَا، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ. وَأَخْبَرَنَا إِدْرِيسُ حَدَّثَنَا خَلَفٌ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنِ الْعَوَّامِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ أَوَّلَ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ وَمَنْ خَتَمَ أَوَّلَ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، قَالَ: فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَخْتِمُوا أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَوَّلَ النَّهَارِ. وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يَكْتُبَ التَّعَاوِيذَ مِنْهُ ثُمَّ يَدْخُلَ بِهِ فِي الْخَلَاءِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غُلَافٍ مِنْ أَدَمٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ فِي صَدْرِكَ وَمِنْ حُرْمَتِهِ إِذَا كَتَبَهُ وَشَرِبَهُ سَمَّى اللَّهَ عَلَى كُلِّ نَفَسٍ وَعَظَّمَ النِّيَّةَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُؤْتِيهِ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ. رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَكْتُبَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَسْقِيهِ الْمَرِيضَ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَنْ وَجَدَ فِي قَلْبِهِ قَسَاوَةً فَلْيَكْتُبْ" يس" فِي جَامٍ بِزَعْفَرَانٍ ثُمَّ يَشْرَبُهُ. قُلْتُ: وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُقَالَ: سُورَةٌ صَغِيرَةٌ وَكَرِهَ أَبُو الْعَالِيَةِ أَنْ يُقَالَ: سُورَةٌ صَغِيرَةٌ أَوْ كَبِيرَةٌ وَقَالَ لِمَنْ سَمِعَهُ قَالَهَا: أَنْتَ أَصْغَرُ مِنْهَا، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَكُلُّهُ عَظِيمٌ، ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مَا يعارض هذا من حديث عمر بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قال: مأمن الْمُفَصَّلِ سُورَةٌ صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ إِلَّا قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤم بها الناس في الصلاة.

باب ما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأى، والجرأة على ذلك، ومراتب المفسرين


رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا آيًا بِعَدَدٍ: عَلَّمَهُ إِيَّاهُنَّ جِبْرِيلُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُغَيَّبَاتِ الْقُرْآنِ، وَتَفْسِيرِ مجمله ونحوا هَذَا، مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ جُمْلَةِ مُغَيَّبَاتِهِ مَا لَمْ يُعْلِمِ اللَّهُ بِهِ، كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَسْتَقْرَى مِنْ أَلْفَاظِهِ، كَعَدَدِ
31
النفخات في الصور، وكربته خلق خلق السموات وَالْأَرْضِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتَّقَوْا الْحَدِيثَ عَلِيَّ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَتَكَلَّمَ فِي أَحَدِ رُوَاتِهِ «١». وَزَادَ رَزِينٌ: وَمَنْ قَالَ بِرَأْيِهِ فَأَخْطَأَ فَقَدْ كَفَرَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ بَشَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْبَارِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ: فُسِّرَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَنْ قَالَ فِي مُشْكِلِ الْقُرْآنِ بِمَا لَا يَعْرِفُ مِنْ مَذْهَبِ الْأَوَائِلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِسَخَطِ اللَّهِ. وَالْجَوَابُ الْآخَرُ وَهُوَ أَثْبَتُ القولين وأصحهما معنى: من قال الْقُرْآنِ قَوْلًا يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُهُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. وَمَعْنَى يَتَبَوَّأُ: يَنْزِلُ وَيَحِلُّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَبُوِّئَتْ فِي صَمِيمِ مَعْشَرِهَا فَتَمَّ فِي قَوْمِهَا مُبَوَّؤُهَا «٢»
وَقَالَ فِي حَدِيثِ جُنْدُبٍ: فَحَمَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الرَّأْيَ مَعْنِيٌّ بِهِ الْهَوَى، مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلًا يُوَافِقُ هَوَاهُ، لَمْ يَأْخُذْهُ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ، لِحُكْمِهِ عَلَى الْقُرْآنِ بِمَا لَا يَعْرِفُ أَصْلَهُ، وَلَا يقف على مذهب أَهْلِ الْأَثَرِ وَالنَّقْلِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" وَمَعْنَى هَذَا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ عَنْ مَعْنًى فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَتَسَوَّرُ «٣» عَلَيْهِ بِرَأْيِهِ دُونَ نَظَرٍ فِيمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ، وَاقْتَضَتْهُ قَوَانِينُ الْعِلْمِ كَالنَّحْوِ وَالْأُصُولِ، وَلَيْسَ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُفَسِّرَ اللُّغَوِيُّونَ لُغَتَهُ وَالنَّحْوِيُّونَ نَحْوَهُ وَالْفُقَهَاءَ مَعَانِيَهُ، وَيَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ بِاجْتِهَادِهِ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَوَانِينِ عِلْمٍ وَنَظَرٍ، فَإِنَّ الْقَائِلَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَيْسَ قَائِلًا بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ".
(١). قوله: احد رواته. هو سهيل بن أبي حزم واسمه مهران ويقال: عبد الله.
(٢). جاء في لسان العرب مادة بوأ تفسيرا لهذا البيت:" اي نزلت من الكرم في صميم النسب".
(٣). قوله: فيتسور عليه. تسور الحائط. هجم مثل اللص. ويغنى به هنا التهجم والاقدام بغير بصيرة ولا تدبر.
32
قُلْتُ: هَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ فِيهِ بِمَا سَنَحَ فِي وَهْمِهِ وَخَطَرَ عَلَى بَالِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَإِنَّ مَنِ اسْتَنْبَطَ مَعْنَاهُ بِحَمْلِهِ عَلَى الْأُصُولِ الْمُحْكَمَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى مَعْنَاهَا فَهُوَ مَمْدُوحٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ التَّفْسِيرَ مَوْقُوفٌ عَلَى السَّمَاعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ" «١» وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى النَّقْلِ وَالْمَسْمُوعِ وَتَرْكَ الِاسْتِنْبَاطِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَمْرًا آخَرَ. وَبَاطِلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَلَّا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِمَا سَمِعَهُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى وُجُوهٍ، وَلَيْسَ كُلَّ مَا قَالُوهُ سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ كَانَ التَّأْوِيلُ مَسْمُوعًا كَالتَّنْزِيلِ فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ! وَهَذَا بَيِّنٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا النَّهْيُ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الشَّيْءِ رَأْيٌ، وَإِلَيْهِ مَيْلٌ مِنْ طَبْعِهِ وَهَوَاهُ، فَيَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى وَفْقِ رَأْيِهِ وَهَوَاهُ، لِيَحْتَجَّ عَلَى تَصْحِيحِ غَرَضِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ الرَّأْيُ وَالْهَوَى لَكَانَ لَا يَلُوحُ لَهُ مِنَ الْقُرْآنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَهَذَا النَّوْعُ يَكُونُ تَارَةً مَعَ الْعِلْمِ كَالَّذِي يَحْتَجُّ بِبَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى تَصْحِيحِ بِدَعَتِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ يُلَبِّسَ عَلَى خَصْمِهِ، وَتَارَةً يَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ مُحْتَمَلَةً فَيَمِيلُ فَهْمُهُ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوَافِقُ غَرَضَهُ، وَيُرَجِّحُ ذَلِكَ الْجَانِبَ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ، فَيَكُونُ قَدْ فَسَّرَ بِرَأْيِهِ أَيْ رَأْيُهُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ، وَلَوْلَا رَأْيُهُ لَمَا كَانَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْوَجْهُ. وَتَارَةً يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَيَطْلُبُ لَهُ دَلِيلًا مِنَ الْقُرْآنِ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ، كَمَنْ يَدْعُو إِلَى مُجَاهَدَةِ الْقَلْبِ الْقَاسِي فَيَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى " «٢» وَيُشِيرُ إِلَى قلبه، ويومئ الى انه المراد بفرعون، هذا الْجِنْسُ قَدْ يَسْتَعْمِلُهُ بَعْضُ الْوُعَّاظِ فِي الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ تَحْسِينًا لِلْكَلَامِ وَتَرْغِيبًا لِلْمُسْتَمِعِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وقد تستعمله
(١). آية ٥٩ سورة النساء.
(٢). آية ٢٤ سورة طه.
33
الْبَاطِنِيَّةُ فِي الْمَقَاصِدِ الْفَاسِدَةِ لِتَغْرِيرِ النَّاسِ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى مَذَاهِبِهِمُ الْبَاطِلَةِ، فَيُنَزِّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى وَفْقِ رَأْيِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ عَلَى أُمُورٍ يَعْلَمُونَ قَطْعًا أَنَّهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ. فَهَذِهِ الْفُنُونُ أَحَدُ وَجْهَيِ الْمَنْعِ مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَتَسَارَعَ إِلَى تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِظَاهِرِ الْعَرَبِيَّةِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِظْهَارٍ بِالسَّمَاعِ وَالنَّقْلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَرَائِبِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُبْهَمَةِ وَالْمُبْدَّلَةِ «١»، وَمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِصَارِ وَالْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، فَمَنْ لَمْ يُحْكِمْ ظَاهِرَ التَّفْسِيرِ وَبَادَرَ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْمَعَانِي بِمُجَرَّدِ فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ كَثُرَ غَلَطُهُ، وَدَخَلَ فِي زُمْرَةِ مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِالرَّأْيِ، والنقل والسماع لا بدله مِنْهُ فِي ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ أَوَّلًا لِيَتَّقِيَ بِهِ مَوَاضِعَ الْغَلَطِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَّسِعُ الْفَهْمُ وَالِاسْتِنْبَاطُ. وَالْغَرَائِبُ الَّتِي لَا تُفْهَمُ إِلَّا بِالسَّمَاعِ كثيرة، ولا مطمع في الوصل إِلَى الْبَاطِنِ قَبْلَ إِحْكَامِ الظَّاهِرِ، أَلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها" «٢» مَعْنَاهُ آيَةً مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَتْلِهَا، فَالنَّاظِرُ إِلَى ظَاهِرِ الْعَرَبِيَّةِ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ان الناقة كانت مبصرة، ولا يدري بماذا ظَلَمُوا، وَأَنَّهُمْ ظَلَمُوا غَيْرَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ، فَهَذَا مِنَ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ، وَأَمْثَالُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَتَطَرَّقُ النَّهْيُ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" وَكَانَ جِلَّةٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا يُعَظِّمُونَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ وَيَتَوَقَّفُونَ عَنْهُ تَوَرُّعًا وَاحْتِيَاطًا لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ إِدْرَاكِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَقَدْ كَانَ الْأَئِمَّةُ مِنَ السَّلَفِ الْمَاضِي يَتَوَرَّعُونَ عَنْ تَفْسِيرِ الْمُشْكِلِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَبَعْضٌ يُقَدِّرُ أَنَّ الَّذِي يُفَسِّرُهُ لَا يُوَافِقُ مُرَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُحْجِمُ عَنِ الْقَوْلِ. وَبَعْضٌ يُشْفِقُ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ فِي التَّفْسِيرِ إِمَامًا يُبْنَى عَلَى مَذْهَبِهِ وَيُقْتَفَى طَرِيقُهُ. فَلَعَلَّ مُتَأَخِّرًا أَنْ يُفَسِّرَ حَرْفًا بِرَأْيِهِ وَيُخْطِئَ فِيهِ وَيَقُولَ: إِمَامِي فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ تَفْسِيرِ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي! وأين أذهب! كيف أَصْنَعُ! إِذَا قُلْتُ فِي حَرْفٍ مِنْ كِتَابِ الله بغير ما أراد تبارك وتعالى.
(١). هكذا في كل النسخ التي بأيدينا.
(٢). آية ٥٩ سورة الاسراء.
34
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ" وَكَانَ جِلَّةٌ مِنَ السَّلَفِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ وَهُمْ أَبَقُوا «١» عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَأَمَّا صَدْرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَيَّدُ فِيهِمْ فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَتْلُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ تَجَرَّدَ لِلْأَمْرِ وَكَمَّلَهُ، وَتَبِعَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ كَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَالْمَحْفُوظُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَحْفُوظِ على عَلِيٍّ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أَخَذْتُ مِنْ تفسير القران لعن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُثْنِي عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ ويحض على الأخذ عنه، وكان ابن عباس يَقُولُ: نَعِمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَنْهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْغَيْبِ مِنْ ستر رقيق. ويتلوه عبد الله ابن مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَكُلُّ مَا أُخِذَ عَنِ الصَّحَابَةِ فَحَسَنٌ مُقَدَّمٌ لِشُهُودِهِمُ التَّنْزِيلَ وَنُزُولِهِ بِلُغَتِهِمْ. وَعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شي يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا حَدَّثَتْكُمْ بِهِ، سَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا مِنْ آية الا انا اعلم أبليل نزلت اما بِنَهَارٍ، أَمْ فِي سَهْلٍ نَزَلَتْ أَمْ فِي جَبَلٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ ابْنُ الْكَوَّاءِ «٢» فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا الذَّارِيَاتُ ذَرْوًا؟ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَعَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ عَبْدُ الله ابن مَسْعُودٍ: لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ منى تبلغه المطي لأتيته، فقال له الرجل: أَمَا لَقِيتَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ؟ فَقَالَ: بَلَى، قَدْ لَقِيتُهُ. وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: وَجَدْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الْإِخَاذِ يُرْوِي الْوَاحِدُ وَالْإِخَاذِ يُرْوِي الِاثْنَيْنِ، وَالْإِخَاذِ لَوْ وَرَدَ عَلَيْهِ النَّاسُ أَجْمَعُونَ لَأَصْدَرَهُمْ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ مِنْ تِلْكَ الْإِخَاذِ «٣». ذَكَرَ هَذِهِ الْمَنَاقِبَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ، وَقَالَ: الْإِخَاذُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يَحْبِسُ الْمَاءَ كَالْغَدِيرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ حَدَّثَنَا سلام عن
(١). من قولهم: أبقيت على فلان إذا أشفقت عليه روحمته.
(٢). اسمه عبد الله بن أبي أو في اليشكري كما في تاريخ الطبري في عدة مواضع. [..... ]
(٣). قوله: من تلك الإخاذ. يعني ان فيهم والكبير، والعالم والأعلم.
35
زَيْدٍ الْعَمِّيِّ «١» عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَرْحَمُ أُمَّتِي بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَقْوَاهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانٌ وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدٌ واقرءوهم لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جَبَلٍ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجرح وَأَبُو هُرَيْرَةَ وِعَاءٌ مِنَ الْعِلْمِ وَسَلْمَانُ بَحْرٌ مِنْ عِلْمٍ لَا يُدْرَكُ وَمَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَوْ قَالَ الْبَطْحَاءُ مِنْ ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" وَمِنَ الْمُبَرِّزِينَ فِي التَّابِعِينِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَلْقَمَةُ. قَرَأَ مُجَاهِدٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قِرَاءَةَ تَفَهُّمٍ وَوُقُوفٍ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ، وَيَتْلُوهُمْ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَلْقَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا أَخَذَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَأَمَّا السُّدِّيُّ فَكَانَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ يَطْعَنُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي صَالِحٍ، لِأَنَّهُ يَرَاهُمَا مُقَصِّرَيْنَ فِي النَّظَرِ". قُلْتُ: وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: الْكَلْبِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ قَالَ الْكَلْبِيُّ قَالَ أَبُو صَالِحٍ: كُلُّ مَا حَدَّثْتُكَ كَذِبٌ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: كُنَّا نُسَمِّيهِ الدَّرْوَغْ زَنْ «٢» يَعْنِي أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى أَمِّ هَانِئٍ وَالدَّرْوَغْ زَنْ: هُوَ الْكَذَّابُ بِلُغَةِ الْفُرْسِ. ثُمَّ حَمَلَ تَفْسِيرَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عُدُولُ كُلِّ خَلَفٍ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ". خَرَّجَهُ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ: وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لِحِفْظِهِمُ الشَّرِيعَةَ مِنَ التَّحْرِيفِ، وَالِانْتِحَالِ لِلْبَاطِلِ، وَرَدِّ تَأْوِيلِ الْأَبْلَهِ الْجَاهِلِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِمْ، وَالْمُعَوَّلُ فِي أَمْرِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ، رَضِيَ الله عنهم.
(١). جاء في حاشية بهامش الأصل: انه سمى زيدا العمى لأنه كان ينادى من رآه بيا عم. وجاء في تهذيب التهذيب عند الكلام على اسم زيد المذكور: انه زيد بن الحوارى أبو الحوارى العمى، وهو مولى زياد بن أبيه ولقب بذلك لأنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: حتى اسأل عمي.
(٢). اسمه باذام، وقيل: باذان، بمعجمة بين ألفين. يروي عن علي وابن عباس ومولاته ام هاني، كما في تهذيب التهذيب.
36
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" وَأَلَّفَ النَّاسُ فِيهِ كَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَالْمُفَضَّلِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَمَعَ عَلَى النَّاسِ أَشْتَاتَ التَّفْسِيرِ، وَقَرَّبَ الْبَعِيدَ مِنْهَا وَشَفَى فِي الْإِسْنَادِ وَمِنَ الْمُبَرِّزِينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ وَأَبُو جَعْفَرٍ النحاس فكثير مَا اسْتَدْرَكَ النَّاسُ عَلَيْهِمَا. وَعَلَى سَنَنِهِمَا مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْمَهْدَوِيُّ مُتْقِنُ التَّأْلِيفِ، وَكُلُّهُمْ مُجْتَهِدٌ مَأْجُورٌ رحمهم الله، ونضر وجوههم". باب تبيين الكتاب بالسنة، وما جاء في ذلك قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" «١». وَقَالَ تَعَالَى:" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ" «٢». وَقَالَ تَعَالَى:" وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" «٣» وَفَرَضَ طَاعَتَهُ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ وَقَرَنَهَا بِطَاعَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ تَعَالَى:" وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" «٤» ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ له عن عبد الرحمن بن زيد: أَنَّهُ رَأَى مُحْرِمًا عَلَيْهِ ثِيَابُهُ فَنَهَى الْمُحْرِمَ، فَقَالَ: إِيْتِنِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَنْزِعُ ثِيَابِي، قَالَ: فَقَرَأَ عَلَيْهِ" وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا". وَعَنْ هِشَامِ بن حجير قَالَ: كَانَ طَاوُسُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اتْرُكْهُمَا، فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْهُمَا أَنْ تُتَّخَذَا سُنَّةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَا أَدْرِي أَتُعَذَّبُ عَلَيْهِمَا أَمْ تُؤْجَرُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" «٥». وروى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" أَلَّا وَإِنِّي قَدْ أُوتِيتُ الْكِتَابَ ومثله معه الا يوشك رجل شعبان عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فيه من حرام فحرموه
(١). آية ٤٤ سورة النحل.
(٢). آية ٦٣ سورة النور.
(٣). آية ٥٢ سورة الشورى.
(٤). آية ٧ سورة الحشر.
(٥). آية ٣٦ سورة الأحزاب.
37
الا يَحِلُّ لَكُمُ الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فعليهم ان يقرؤه فإن لم يقرؤه فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ". قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهُ" أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمَثْلَهُ مَعَهُ" يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُوتِيَ مِنَ الْوَحْيِ الْبَاطِنَ غَيْرَ الْمَتْلُوِّ، مِثْلَ مَا أُعْطِيَ مِنَ الظَّاهِرِ الْمَتْلُوِّ. وَالثَّانِي أَنَّهُ أُوتِيَ الْكِتَابَ وَحَيًا يُتْلَى، وَأُوتِيَ مِنَ الْبَيَانِ مِثْلَهُ، أَيْ أُذِنَ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا فِي الكتاب فيعم ويخص ويزيد عليه ويشرع مَا فِي الْكِتَابِ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَلُزُومِ قَبُولِهِ كَالظَّاهِرِ الْمَتْلُوِّ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَوْلُهُ:" يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ" الْحَدِيثَ. يُحَذِّرُ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا مِمَّا لَيْسَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ عَلَى مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْخَوَارِجُ وَالرَّوَافِضُ، فَإِنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَتَرَكُوا السُّنَنَ الَّتِي قَدْ ضَمِنَتْ بَيَانَ الْكِتَابِ، قَالَ: فَتَحَيَّرُوا وَضَلُّوا، قَالَ وَالْأَرِيكَةُ: السَّرِيرُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا يُسَمَّى أَرِيكَةً حَتَّى يَكُونَ فِي حَجَلَةٍ «١»، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْأَرِيكَةِ أَصْحَابَ التَّرَفُّهِ وَالدَّعَةِ الَّذِينَ لَزِمُوا الْبُيُوتَ لَمْ يَطْلُبُوا الْعِلْمَ مِنْ مَظَانِّهِ. وَقَوْلُهُ:" إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا" مَعْنَاهُ أَنْ يَتْرُكَهَا صَاحِبُهَا لِمَنْ أَخَذَهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا، كَقَوْلِهِ:" فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ «٢» مَعْنَاهُ تَرَكَهُمُ اللَّهُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُمْ. وَقَوْلُهُ:" فَلَهُ أَنَّ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ هَذَا فِي حَالِ الْمُضْطَرِّ الَّذِي لَا يَجِدُ طَعَامًا وَيَخَافُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مالهم بقدر قراه عوض ما حرموه من قراه." ويعقبهم" يُرْوَى مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا مِنَ الْمُعَاقَبَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ عاقَبْتُمْ" «٣» أَيْ فَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لَكُمْ فغنتم مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ لِهَذَا أَنْ يَغْنَمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ قِرَاهُ. قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِالْحَدِيثِ إِلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ مَهْمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حُجَّةً بِنَفْسِهِ، قَالَ: فَأَمَّا مَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ:" إِذَا جَاءَكُمُ الْحَدِيثُ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَهُ فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ فردوه" فانه حديث لَا أَصْلَ لَهُ. ثُمَّ الْبَيَانُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: بَيَانٌ لِمُجْمَلٍ فِي الْكِتَابِ، كَبَيَانِهِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا وَسُجُودِهَا وَرُكُوعِهَا وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا، وَكَبَيَانِهِ لِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ ووقتها وما الذي
(١). الحجلة: مثل القبة.
(٢). آية ٦ سورة التغابن.
(٣). آية ١٢٦ سورة النحل.
38
تُؤْخَذُ مِنْهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَبَيَانِهِ لِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ حَجَّ بِالنَّاسِ:" خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ". وَقَالَ:" صَلَّوْا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أحمق، أتجد الظهر في الكتاب اللَّهِ أَرْبَعًا لَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ! ثُمَّ عدد عليه الصلاة الزكاة وَنَحْوَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُفَسَّرًا! إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى أَبْهَمَ هَذَا، وَإِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ هَذَا. وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْضُرُهُ جِبْرِيلُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي تُفَسِّرُ ذَلِكَ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا عِيسَى ابن يُونُسَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: الْقُرْآنُ أَحْوَجُ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ. وَبِهِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبَى كَثِيرٍ: السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَيْسَ الْكِتَابُ بِقَاضٍ عَلَى السُّنَّةِ. قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بن حنبل وسيل عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ أَنَّ السُّنَّةَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ فَقَالَ: مَا أَجْسُرُ عَلَى هَذَا أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: إِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ. وَبَيَانٌ آخَرُ وَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَالْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
باب كيفية التعلم والفقه لكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما جاء أنه سهل على من تقدم العمل به دون حفظه
ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقْرِئُهُمُ الْعَشْرَ فَلَا يُجَاوِزُونَهَا إِلَى عَشْرٍ أُخْرَى حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ، فَيُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عن معمر عن عطاء ابن السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: كُنَّا إِذَا تَعَلَّمْنَا عَشْرَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ نَتَعَلَّمِ الْعَشْرَ الَّتِي بَعْدَهَا حَتَّى نَعْرِفَ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ: انه بلغه ان عبد الله
39
ابن عُمَرَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِي سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْحَافِظُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى «١» " أَسْمَاءُ مَنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ": عَنْ مِرْدَاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبِي بِلَالٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تَعَلَّمَ عُمَرُ الْبَقَرَةَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمَّا خَتَمَهَا نَحَرَ جَزُورًا. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ شَهْرَيَارَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ أَبِي عَمْرٍو عَنْ زِيَادِ بْنِ مِخْرَاقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّا صَعُبَ عَلَيْنَا حِفْظُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَسَهُلَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنَّ مَنْ بَعْدَنَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ حِفْظُ الْقُرْآنِ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِهِ. حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ حدثنا إسماعيل ابن إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عن ابن عمر قال: كان الفضل مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا السُّورَةَ أَوْ نَحْوَهَا، وَرُزِقُوا العمل بالقران، وان أخر هذه الامة يقرءون الْقُرْآنَ مِنْهُمُ الصَّبِيُّ وَالْأَعْمَى وَلَا يُرْزَقُونَ الْعَمَلَ بِهِ. حَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي الْعَنْبَرِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بن حماد المقرئ قَالَ: سَمِعْتُ خَلَفَ بْنَ هِشَامٍ الْبَزَّارَ يَقُولُ: مَا أَظُنُّ الْقُرْآنَ إِلَّا عَارِيَةً فِي أَيْدِينَا، وَذَلِكَ إِنَّا رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حفظ البقرة في بضع عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمَّا حَفِظَهَا نَحَرَ جَزُورًا شُكْرًا لِلَّهِ، وَإِنَّ الْغُلَامَ فِي دَهْرِنَا هَذَا يَجْلِسُ بَيْنَ يَدِي فَيَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لَا يُسْقِطُ مِنْهُ حَرْفًا، فَمَا أَحْسَبُ الْقُرْآنَ إِلَّا عَارِيَةً فِي أَيْدِينَا. وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ: لَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِهِ، دُونَ مَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ، فَيَكُونُ قَدْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْفَرَ بِطَائِلٍ، ولكن تَحَفُّظُهُ لِلْحَدِيثِ عَلَى التَّدْرِيجِ قَلِيلًا قَلِيلًا مَعَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ. وَمِمَّنْ وَرَدَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ شُعْبَةُ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَمَعْمَرٌ، قَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ جُمْلَةً فَاتَهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا يُدْرَكُ الْعِلْمُ حَدِيثًا وَحَدِيثِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: اعْلَمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ بعلمه حتى تعلموا. وقال ابن عبد البر: وروى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(١). في الأصول:" المسمي في ذكر اسماء... إلخ".
40
مِثْلُ قَوْلِ مُعَاذٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ هَمَّتْهُمُ الدِّرَايَةُ، وَأَنَّ السُّفَهَاءَ هَمَّتْهُمُ الرِّوَايَةُ. وَرُوِيَ مَوْقُوفًا وَهُوَ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ مَرْفُوعًا، وَعَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ لَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِي نَظْمِهِ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ وَشَرَفِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْغَرَّاءِ:
ان العلوم وإن جلت محاسنها فتاجها مَا بِهِ الْإِيمَانُ قَدْ وَجَبَا
هُوَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ اللَّهُ يَحْفَظُهُ وَبَعْدَ ذَلِكَ عِلْمٌ فَرَّجَ الكربا
فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه نُورُ النُّبُوَّةِ سَنَّ الشَّرْعَ وَالْأَدَبَا
وَبَعْدَ هَذَا عُلُومٌ لَا انْتِهَاءَ لَهَا فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا مَنْ آثَرَ الطَّلَبَا
وَالْعِلْمُ كَنَزٌ تَجِدُهُ فِي مَعَادِنِهِ يَا أَيُّهَا الطَّالِبُ ابْحَثْ وَانْظُرِ الْكُتُبَا
وَاتْلُ بِفَهْمٍ كِتَابَ اللَّهِ فِيهِ أَتَتْ كُلُّ الْعُلُومِ تُدَبِّرُهُ تَرَ الْعَجَبَا
وَاقْرَأْ هُدِيتَ حَدِيثَ الْمُصْطَفَى وَسَلَنْ مَوْلَاكَ مَا تَشْتَهِي يَقْضِي لَكَ الْأَرَبَا
مَنْ ذَاقَ طَعْمًا لِعَلَمِ الدِّينِ سُرَّ به إذا تزيّد منه قال وا طربا
باب مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ"
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ «١» بَنِي غِفَارٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ:" أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ". ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: إِنَ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقَالَ:" أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ". ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: إِنَ اللَّهَ يأمرك ان تقرأ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ:" أَسْأَلُ اللَّهَ معفاته وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ". ثُمَّ جاءه الرابعة فقال: ان الله يأمرك
(١). الاضاء (كحضاة): غدير صغير وقيل: هو مسيل الماء الغدير وهو موضع قريب من مكة فوق سرف. وغفار: قبيلة من كنانة.
41
أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا. وروى الترمذي عنه فقال: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فقال:" يا جبريل بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ والكبير وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ كِتَابًا قط فقال لي يا محمد ان الْقُرْآنُ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". قَالَ هَذَا: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَثَبَتَ فِي الْأُمَّهَاتِ: الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالْمُوَطَّأِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ وَالْمُسْنَدَاتِ قِصَّةُ عُمَرَ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ، وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ مُبَيَّنًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا ذَكَرَهَا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانِ الْبَسْتِيُّ، نَذْكُرُ مِنْهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ وَالطَّبَرَيِّ وَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَقَارِبَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، نَحْوَ أَقْبِلْ وَتَعَالَ وَهَلُمَّ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَأَبْيَنُ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اقرأ على حرف، فقال ميكائيل: استرده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استرده، حَتَّى بَلَغَ إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: اقْرَأْ فَكُلٌّ شَافٍ كَافٍ إِلَّا أَنْ تَخْلِطَ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ، أَوْ آيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ، عَلَى نَحْوِ هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ وَاذْهَبْ وَأَسْرِعْ وَعَجِّلْ. وَرَوَى وَرْقَاءٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ان كان يقرأ" لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا" «١»: لِلَّذِينِ آمَنُوا أَمْهِلُونَا، لِلَّذِينِ آمَنُوا أَخِّرُونَا، لِلَّذِينِ آمَنُوا ارْقُبُونَا. وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ" كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ" «٢»: مَرُّوا فِيهِ، سَعَوْا فِيهِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّمَا هَذِهِ الْأَحْرُفُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ لَيْسَ يَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّمَا كَانَتِ السَّعَةُ لِلنَّاسِ فِي الْحُرُوفِ لِعَجْزِهِمْ عَنْ أَخْذِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ لُغَاتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أُمِّيِّينَ لَا يَكْتُبُ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا كَانَ يَشُقُّ عَلَى كُلِّ ذِي لُغَةٍ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ، وَلَوْ رَامَ ذَلِكَ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ الا بمشقة عظيمة، فوسع لهم
(١). آية ١٣ سورة الحديد. [..... ]
(٢). آية ٢٠ سورة البقرة.
42
فِي اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ إِذْ كَانَ الْمَعْنَى مُتَّفَقًا، فكانوا كَذَلِكَ حَتَّى كَثُرَ مِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُ وَعَادَتْ لُغَاتُهُمْ إِلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِرُوا بِذَلِكَ عَلَى تَحَفُّظِ أَلْفَاظِهِ، فَلَمْ يَسَعْهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْرَءُوا بِخِلَافِهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا كَانَ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ لِضَرُورَةٍ دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الضَّرُورَةُ فَارْتَفَعَ حُكْمُ هَذِهِ السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ، وَعَادَ مَا يُقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَا أُبَيُّ إِنِّي أَقُرِئْتُ الْقُرْآنَ فَقِيلَ لِي عَلَى حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي قُلْ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقِيلَ لِي عَلَى حَرْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعِي قُلْ عَلَى ثَلَاثَةٍ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ ثُمَّ قَالَ لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ سَمِيعًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا مَا لَمْ تَخْلِطْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ". وَأَسْنَدَ ثَابِتُ بْنُ قَاسِمٍ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ «١»: وإذا ثبت هَذِهِ الرِّوَايَةُ يُرِيدُ حَدِيثَ أُبَيٍّ حُمِلَ عَلَى ان هذه كَانَ مُطْلَقًا ثُمَّ نُسِخَ، فَلَا يَجُوزُ لِلنَّاسِ ان يبدلوا اسما الله تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُوَافِقُ مَعْنَاهُ أَوْ يُخَالِفُ. الْقَوْلُ الثَّانِي قَالَ قَوْمٌ: هِيَ سبع لغات في القران على لُغَاتِ الْعَرَبِ كُلِّهَا، يَمَنَهَا وَنِزَارَهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْهَلْ شَيْئًا مِنْهَا، وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ سَبْعَةَ أَوْجُهٍ، وَلَكِنَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ السَّبْعَ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْقُرْآنِ، فَبَعْضُهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هَوَازِنَ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا قَدْ قُرِئَ بِسَبْعَةِ أَوْجُهٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ:" وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ" «٢». وقوله:" أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ" «٣» وذكر وُجُوهًا، كَأَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ لَا كُلَّهُ. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ أَبُو عبيد: وبعض الأحياء
(١). هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاضي أبو بكر الباقلاني.
(٢). آية ٦٠ سورة المائدة.
(٣). آية ١٢ سورة يوسف.
43
اسعد وَأَكْثَرُ حَظًّا فِيهَا مِنْ بَعْضٍ، وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لَهُمْ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا الْمَصَاحِفَ: مَا اختلفتم وَزَيْدٌ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْكَعْبَيْنِ، كَعْبِ قُرَيْشٍ وَكَعْبِ خُزَاعَةَ. قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ الدَّارَ وَاحِدَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَ: يَعْنِي أَنَّ خُزَاعَةَ جِيرَانُ قُرَيْشٍ فَأَخَذُوا بِلُغَتِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَعْنَى قَوْلِ عُثْمَانَ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، يُرِيدُ مُعْظَمَهُ وَأَكْثَرَهُ، وَلَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ بِأَسْرِهِ مُنَزَّلٌ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ فَقَطْ، إِذْ فِيهِ كَلِمَاتٌ وَحُرُوفٌ هِيَ خِلَافُ لُغَةِ قُرَيْشٍ، وَقَدْ قَالَ الله تعالى:" إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا" «١» ولم يقل قرشيا، هذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ بِجَمِيعِ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَّهُ أَرَادَ قُرَيْشًا مِنَ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ: أَرَادَ لُغَةَ عَدْنَانَ دُونَ قَحْطَانَ، أَوْ رَبِيعَةَ دُونَ مُضَرَ، لِأَنَّ اسْمَ الْعَرَبِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْقَبَائِلِ تَنَاوُلًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ مَعْنَاهُ عِنْدِي فِي الْأَغْلَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَنَّ غَيْرَ لُغَةِ قُرَيْشٍ مَوْجُودَةٌ فِي صَحِيحِ الْقِرَاءَاتِ مِنْ تَحْقِيقِ الْهَمَزَاتِ وَنَحْوِهَا، وَقُرَيْشٌ لَا تَهْمِزُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" أَيْ فِيهِ عِبَارَةُ سَبْعِ قَبَائِلَ بِلُغَةِ جُمْلَتِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَيُعَبِّرُ عَنِ الْمَعْنَى فِيهِ مَرَّةً بِعِبَارَةِ قُرَيْشٍ، وَمَرَّةً بِعِبَارَةِ هُذَيْلٍ، وَمَرَّةً بِغَيْرِ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْأَفْصَحِ وَالْأَوْجَزِ فِي اللَّفْظِ، أَلَّا تَرَى ان" فطر" معناه عند غير قريش: ابتدأ (خلق الشيء وعمله) «٢» فَجَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ فَلَمْ تَتَّجِهْ لِابْنِ عَبَّاسٍ، حَتَّى اخْتَصَمَ إِلَيْهِ أَعْرَابِيَّانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَفَهِمْتُ حِينَئِذٍ مَوْضِعَ قَوْلِهِ تَعَالَى" فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ". وقال ايضا: ما كنت ادري معنى حينئذ موضع قوله تعالى" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «٣» حَتَّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزِنَ تَقُولُ لِزَوْجِهَا:" تَعَالَ أُفَاتِحْكَ، أَيْ أُحَاكِمْكَ. وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَكَانَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ تعالى" أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ" «٤» أَيْ عَلَى تَنَقُّصٍ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ لِقُطْبَةَ بن مالك إذ
(١). آية ٣ سورة الزخرف.
(٢). زيادة عن ابن عطية.
(٣). آية ٨٩ سورة الأعراف.
(٤). آية ٤٧ سورة النحل.
44
سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ في الصلاة:" وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ" «١» ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي بَابِ (الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ اللُّغَاتِ السَّبْعَ إِنَّمَا تَكُونُ في مضر، قاله قوم، واحتجوا بِقَوْلِ عُثْمَانَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ مُضَرَ، وَقَالُوا: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا لِقُرَيْشٍ، وَمِنْهَا لِكِنَانَةَ، وَمِنْهَا لِأَسَدٍ، وَمِنْهَا لِهُذَيْلٍ، وَمِنْهَا لِتَيْمٍ، وَمِنْهَا لضبة، ومنها لقيس، قالوا: هذه قبائل مصر تَسْتَوْعِبُ سَبْعَ لُغَاتٍ عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْمَصَاحِفَ مِنْ مُضَرَ. وَأَنْكَرَ آخَرُونَ أَنْ تَكُونَ كُلَّهَا مِنْ مُضَرَ، وَقَالُوا: فِي مُضَرَ شَوَاذٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ بِهَا، مِثْلَ كَشْكَشَةِ قَيْسٍ وَتَمْتَمَةِ تَمِيمٍ، فَأَمَّا كَشْكَشَةُ قَيْسٍ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ كَافَ الْمُؤَنَّثِ شِينًا فَيَقُولُونَ في" جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا" «٢»: جَعَلَ رَبُّشِ تَحْتَشِ سَرِيًّا، وَأَمَّا تَمْتَمَةُ تَمِيمٍ فيقولون في الناس: النات، وفي أكياس. قالوا: هذه لُغَاتٌ يَرْغَبُ عَنِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَلَا يُحْفَظُ عن السلف فيها شي. وَقَالَ آخَرُونَ: أَمَّا إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ عَيْنًا وَإِبْدَالُ حُرُوفِ الْحَلْقِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَمَشْهُورٌ عَنِ الْفُصَحَاءِ، وَقَدْ قَرَأَ بِهِ الْجِلَّةُ، وَاحْتَجُّوا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَيَسْجُنُنَّهُ عَتَّى حِينٍ، ذَكَرَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَبِقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: يُرِيدُ إِلَّا أَنَّهَا. الْقَوْلُ الرَّابِعُ: مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الدَّلَائِلِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَى نَحْوَهُ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ قَالَ: تَدَبَّرْتُ وُجُوهَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقِرَاءَةِ فَوَجَدْتُهَا سَبْعًا: مِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ حَرَكَتُهُ، وَلَا يَزُولُ مَعْنَاهُ وَلَا صُورَتُهُ، مَثْلَ:" هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ"... وَأَطْهَرَ،... " وَيَضِيقُ صَدْرِي" وَيَضِيقَ. وَمِنْهَا مالا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ وَيَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ بِالْإِعْرَابِ، مِثْلَ:" رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا" وَبَاعَدَ. وَمِنْهَا مَا تَبْقَى صُورَتُهُ وَيَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ بِاخْتِلَافِ الْحُرُوفِ، مِثْلَ قَوْلِهِ:" نُنْشِزُها" وَنَنْشُرُهَا. وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ وَيَبْقَى مَعْنَاهُ:" كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ" وكالصوف المنفوش.
فَعَيْنَاكِ عَيْنَاهَا وَجِيدُكِ جِيدُهَا وَلَوْنُكِ إِلَّا عَنَّهَا غَيْرُ طَائِلِ
(١). آية ١٠ سورة ق.
(٢). آية ٢٤ سورة مريم.
45
وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ وَمَعْنَاهُ، مِثْلَ:" وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ" وَطَلُعٍ مَنْضُودٍ. وَمِنْهَا بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَقَوْلِهِ:" وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ" وَجَاءَتْ (سَكْرَةُ الْحَقِّ) الْحَقِّ بِالْمَوْتِ. وَمِنْهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى، وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ. الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَقَصَصٌ وَمُجَادَلَةٌ وَأَمْثَالٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى أَحْرُفًا، وَأَيْضًا فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّوْسِعَةَ لَمْ تَقَعْ في تحليل حلال ولا في تغير شي مِنَ الْمَعَانِي. وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ هِيَ الَّتِي أَجَازَ لَهُمُ الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَإِنَّمَا الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، منه قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ" «١» فَكَذَلِكَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى سَبْعِ طَرَائِقَ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ" أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الَّتِي قَرَأَ بِهَا الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ، لِأَنَّهَا كُلَّهَا صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِظُهُورِ بُطْلَانِهِ عَلَى مَا يَأْتِي.
(فصل) [قول كثير من العلماء أن الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الَّتِي تُنْسَبُ لِهَؤُلَاءِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، ليست هي الأحرف السبعة]
قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا كَالدَّاوُدِيِّ وَابْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَغَيْرِهِمَا: هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الَّتِي تُنْسَبُ لِهَؤُلَاءِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، لَيْسَتْ هِيَ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي اتَّسَعَتِ الصَّحَابَةُ فِي الْقِرَاءَةِ بِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ السَّبْعَةِ، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ الْمُصْحَفَ، ذَكَرَهُ ابْنُ النَّحَّاسِ وَغَيْرُهُ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ هِيَ اخْتِيَارَاتُ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اخْتَارَ فِيمَا رَوَى وَعَلِمَ وَجْهَهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ مَا هُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدَهُ وَالْأَوْلَى، فَالْتَزَمَهُ طَرِيقَةً وَرَوَاهُ وَأَقْرَأَ بِهِ وَاشْتُهِرَ عَنْهُ، وَعُرِفَ بِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ، فَقِيلَ: حَرْفُ نَافِعٍ، وَحَرْفُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَلَمْ يَمْنَعْ وَاحِدٌ منهم اختار الْآخَرِ وَلَا أَنْكَرَهُ بَلْ سَوَّغَهُ وَجَوَّزَهُ، وَكُلُّ واحد من هؤلاء السبعة روى عنه اختار ان أَوْ أَكْثَرُ، وَكُلٌّ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا صح عن هؤلاء الأئمة مما رووه وراؤه من القراءات وكتبوا
(١). آية ١١ سورة الحج.
46
فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ، فَاسْتَمَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى الصَّوَابِ، وَحَصَلَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حِفْظِ الكتاب، وعلى هذا الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْفُضَلَاءُ الْمُحَقِّقُونَ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَالطَّبَرَيِّ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَضَتِ الْأَعْصَارُ وَالْأَمْصَارُ عَلَى قِرَاءَةِ السَّبْعَةِ وَبِهَا يُصَلَّى لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا شَاذُّ الْقِرَاءَاتِ فلا يصلى له لِأَنَّهُ لَمْ يُجْمِعِ النَّاسُ عَلَيْهِ، أَمَّا أَنَّ الْمَرْوِيَّ مِنْهُ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ فَلَا يُعْتَقَدُ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُمْ رَوَوْهُ، وَأَمَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ أَبِي السَّمَّالِ «١» وَمَنْ قَارَنَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوثَقُ بِهِ. قَالَ غَيْرُهُ: أَمَّا شَاذُّ الْقِرَاءَةِ عَنِ الْمَصَاحِفِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَلَيْسَتْ بِقُرْآنٍ، وَلَا يُعْمَلُ بِهَا عَلَى أَنَّهَا مِنْهُ، وَأَحْسَنُ مَحَامِلِهَا أَنْ تَكُونَ بَيَانَ تَأْوِيلِ مَذْهَبِ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ. فَأَمَّا لَوْ صَرَّحَ الرَّاوِي بِسَمَاعِهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، وَجْهُ النَّفْيِ أَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَرْوِهِ فِي مَعْرِضِ الْخَبَرِ بَلْ فِي مَعْرِضِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فَلَا يُثْبَتُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا فَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ سُنَّةً، وَذَلِكَ يوجب العمل كسائر اخبار الآحاد.

فصل في ذكر معنى حديث عمر وهشام [في أن القرآن نزل على سبعة أحرف]


قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ، وَعَارَضَهُ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَرْضَاتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فِيهِ الْإِعْجَازُ وَجَوْدَةُ الرَّصْفِ، وَلَمْ تَقَعِ الإباحة في قوله عليه السلام:" فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَدِّلَ اللَّفْظَةَ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ اللُّغَاتِ جَعَلَهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا لَذَهَبَ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ، وَكَانَ مُعَرَّضًا أَنْ يُبَدِّلَ هَذَا وَهَذَا حَتَّى يَكُونَ غَيْرَ الَّذِي نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْإِبَاحَةُ فِي الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُوَسِّعَ بِهَا عَلَى أُمَّتِهِ، فَأَقْرَأَ مَرَّةً لِأُبَيٍّ بِمَا عَارَضَهُ بِهِ جِبْرِيلُ، وَمَرَّةً لِابْنِ مَسْعُودٍ بِمَا عَارَضَهُ بِهِ ايضا، وعلى هذا تجئ قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِسُورَةِ" الْفُرْقَانِ" وَقِرَاءَةُ
(١). أبو السمال (بفتح السين وتشديد الميم وباللام): هو قعنب بن أبي قعنب العدوى البصري، له اختيار في القراءات شاذ عن العامة. وقد ذكر في الطبعة الاولى في هذا الموضع وفي ص ٣٦٨ محرفا، والتصويب عن طبقات القراء.
47
هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ لَهَا، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ قِرَاءَةٍ مِنْهُمَا وَقَدِ اخْتَلَفَا:" هَكَذَا أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ" هَلْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ أَقْرَأَهُ مَرَّةً بِهَذِهِ وَمَرَّةً بِهَذِهِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ أَنَسٍ حِينَ قَرَأَ:" إِنْ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَصْوَبُ قِيلًا" فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا نَقْرَأُ" وَأَقْوَمُ قِيلًا". فَقَالَ أَنَسٌ: وَأَصْوَبُ قِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا وَأَهْيَأُ، وَاحِدٌ، فَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّهَا مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ هَذَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَضَعَهُ لَبَطَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ" «١». رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: قَالَ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سورة" الفرقان" على غير ما أقرؤها، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ «٢» بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ" الْفُرْقَانِ" عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَرْسِلْهُ اقْرَأْ" «٣» فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" هَكَذَا أُنْزِلَتْ" ثُمَّ قَالَ لِي:" اقْرَأْ" فَقَرَأْتُ فَقَالَ:" هَكَذَا أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سبعة أحرف فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ". قُلْتُ: وَفِي مَعْنَى حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا، مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رجل يصلى، قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنَهُمَا، فَسُقِطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدْ غَشِيَنِي، ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْتُ عَرَقًا، وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَرَقًا، فَقَالَ لِي:" يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَدْتُ إليه ان هون على أمتي
(١). آية ٩ سورة الحجر.
(٢). قوله: لببته بردائه. اي جمعت ثيابه عند صدره ونحره ثم جررته. [..... ]
(٣). أرسل الشيء: أطلقه.
48
فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فلك بكل ردة رددتكها مسألة فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي وَأَخَّرَتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ فِيهِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ". قَوْلُ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" فَسُقِطَ فِي نَفْسِي" مَعْنَاهُ اعترتني حيرة ودهشة، اي اصابته نزعة مِنَ الشَّيْطَانِ لِيُشَوِّشَ عَلَيْهِ حَالَهُ، وَيُكَدِّرَ عَلَيْهِ وَقْتَهُ، فَإِنَّهُ عَظَّمَ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ مَا لَيْسَ عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ، وَإِلَّا فَأَيُّ شي يَلْزَمُ مِنَ الْمُحَالِ وَالتَّكْذِيبِ مِنَ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَلَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِي النَّسْخِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ، فَكَيْفَ بِالْقِرَاءَةِ! وَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ الْخَاطِرِ نَبَّهَهُ بِأَنْ ضَرَبَهُ فِي صدره، فأعقب ذلك بأن نشرح صَدْرُهُ وَتَنَوَّرَ بَاطِنُهُ، حَتَّى آلَ بِهِ الْكَشْفُ وَالشَّرْحُ إِلَى حَالَةِ الْمُعَايَنَةِ، وَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ قبح ذلك الخاطر مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفَاضَ بِالْعَرَقِ اسْتِحْيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ هَذَا الْخَاطِرُ مِنْ قَبِيلِ مَا قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ:" وقد وجدتموه"؟: نَعَمْ، قَالَ:" ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ" الْأَعْرَافِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
بَابُ ذِكْرِ جَمْعِ الْقُرْآنِ، وَسَبَبِ كَتْبِ عُثْمَانَ الْمَصَاحِفَ وَإِحْرَاقِهِ مَا سِوَاهَا، وَذِكْرِ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ الْقُرْآنُ فِي مُدَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَفَرِّقًا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَقَدْ كَتَبَ النَّاسُ مِنْهُ فِي صُحُفٍ وَفِي جَرِيدٍ وَفِي لحاف وَظُرَرٍ وَفِي خَزَفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: اللخاف: حجارة بيض رقاق، واحدتها. وَالظُّرَرُ: حَجَرٌ لَهُ حَدٌّ كَحَدِّ السِّكِّينِ، وَالْجَمْعُ ظِرَارٌ، مِثْلَ رُطَبٍ وَرِطَابٍ، وَرُبَعٍ وَرِبَاعٍ، وَظِرَّانَ أَيْضًا مِثْلَ صُرَدٍ وَصِرْدَانٍ فَلَمَّا اسْتَحَرَّ «١» الْقَتْلُ
(١). قوله: استحر، اي اشتد وكثر.
49
بالقراءة يَوْمَ الْيَمَامَةِ فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِيمَا قِيلَ سَبْعُمِائَةٍ، أَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِجَمْعِ الْقُرْآنِ مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ أَشْيَاخُ الْقُرَّاءِ، كَأُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ، فَنَدَبَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ إِلَى ذَلِكَ، فَجَمَعَهُ غَيْرَ مُرَتَّبِ السُّوَرِ، بَعْدَ تَعَبٍ شَدِيدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ، وَإِنِّي لِأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقُلْتُ لِعُمْرَ كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعْنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قَالَ زَيْدٌ: وَعِنْدَهُ عُمَرُ جَالِسٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتتبع القران، فاجمعه، فو الله لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلِيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر: هو الله خَيْرٌ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ «١» وَالْعُسُبِ «٢» وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ" التَّوْبَةِ" آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ غَيْرِهِ" لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ" إِلَى آخِرِهَا. فَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جَمَعَ فِيهَا الْقُرْآنَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عند حفصة بن عمر. وقال الليث حدثني عبد الرحمن ابن غَالِبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَقَالَ: مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ. وَقَالَ أَبُو ثَابِتٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: مَعَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ" فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ".
(١). الأكتاف: جمع كتف وهو عظم عريض يكون في اصل كتف الحيوان كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم.
(٢). العسب: جمع عسيب وهو جريد النخل إذا نزع منه خوصة.
50
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنْهُ: فَوَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةٌ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ" لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ". قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ" الْأَحْزَابِ" كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ «١» الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ" رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ: فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ" الْأَحْزَابِ" كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ" فَالْتَمَسْتُهَا فَوَجَدْتُهَا عِنْدَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ، فَأَلْحَقْتُهَا فِي سُورَتِهَا. قُلْتُ: فَسَقَطَتِ الْآيَةُ الْأُولَى مِنْ آخِرِ" بَرَاءَةٌ" فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ، عَلَى مَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي الْجَمْعِ الثَّانِي فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ" الْأَحْزَابِ". وَحَكَى الطَّبَرَيُّ: أَنَّ آيَةَ" بَرَاءَةٌ" سَقَطَتْ فِي الْجَمْعِ الْأَخِيرِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ جَمْعِ عُثْمَانَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفِهِ، وَقَدْ سَبَقَهُ أَبُو بَكْرٍ إِلَى ذَلِكَ وَفَرَغَ مِنْهُ، قِيلَ لَهُ: إِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقْصِدْ بِمَا صَنَعَ جَمْعَ النَّاسِ عَلَى تَأْلِيفِ الْمُصْحَفِ، أَلَّا تَرَى كَيْفَ أَرْسَلَ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ لِأَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَاتِ بِسَبَبِ تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي الْبُلْدَانِ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَعَظُمَ اخْتِلَافُهُمْ وَتَشَبُّثُهُمْ، وَوَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ مَا ذَكَرَهُ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي غَزْوَةِ أَرْمِينِيَّةِ فَقَرَأَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ بِمَا رُوِيَ لَهَا، فَاخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا وَأَظْهَرَ بَعْضُهُمْ إِكْفَارَ بَعْضٍ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ وَتَلَاعَنُوا، فَأَشْفَقَ حُذَيْفَةُ مِمَّا رَأَى مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَةُ الْمَدِينَةَ فِيمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ دَخَلَ إِلَى عُثْمَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ تَهْلِكَ! قَالَ: فيما ذا؟ قال: في كتاب الله، اني حضرت
(١). خزيمة ذو الشهادتين غير أبي خزيمة بالكنية (القسطلاني).
51
هَذِهِ الْغَزْوَةَ، وَجَمَعْتُ نَاسًا مِنَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَالْحِجَازِ، فَوَصَفَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ: إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي كِتَابِهِمْ كَمَا اخْتَلَفَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قُلْتُ: وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ على بطلان من قال: أمن الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ قِرَاءَاتُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ، وَقَدْ رَوَى سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي الْمَصَاحِفِ؟ فان الناس قد اختلفوا في القراء حتى ان الرجل ليقول: قرءاتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتي. وَهَذَا شَبِيهٌ بِالْكُفْرِ، قُلْنَا: مَا الرَّأْيُ عِنْدَكَ يا امير المؤمنين؟ قال: الرأي رأيك يا ما أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكَ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إِلَيْهِ فَأَمَرَ زَيْدَ ابن ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ العاصي وعبد الرحمن بن الحارث به هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ. وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ في شي مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا. حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ. وَكَانَ هَذَا مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ جَمَعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَجِلَّةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَشَاوَرَهُمْ وَاطِّرَاحِ مَا سِوَاهَا، وَاسْتَصْوَبُوا رَأْيَهُ وَكَانَ رَأْيًا سديدا موقفا، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ الطَّبَرَيُّ فِيمَا رُوِيَ: أَنَّ عُثْمَانَ قَرَنَ بِزَيْدٍ أَبَانَ بن سعيد بن العاصي وَحْدَهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصَحُّ. وَقَالَ الطَّبَرَيُّ أَيْضًا: إِنَّ الصُّحُفَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ جُعِلَتْ إِمَامًا فِي هَذَا الْجَمْعِ الْأَخِيرِ، وَهَذَا صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ الْمَصَاحِفِ وَيَتَوَلَّاهُ رَجُلٌ،
52
وَاللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ! يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَلِذَلِكَ قَالَ عبد الله ابن مسعود: يأهل الْعِرَاقِ، اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:" وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَالْقُوا اللَّهَ بِالْمَصَاحِفِ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي سُورَةِ" آلِ عِمْرَانَ" «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَلَمْ يَكُنِ الِاخْتِيَارُ لِزَيْدٍ مِنْ جِهَةِ أَبِي بكر وعمر وعثمان على عبد الله ابن مَسْعُودٍ فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ زَيْدٍ، وَأَقْدَمُ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَكْثَرُ سَوَابِقَ، وَأَعْظَمُ فَضَائِلَ، إِلَّا لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ أَحْفَظَ لِلْقُرْآنِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ إِذْ وَعَاهُ كُلَّهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ، وَالَّذِي حَفِظَ مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نيف وسبعون سُورَةً، ثُمَّ تَعَلَّمَ الْبَاقِيَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالَّذِي خَتَمَ الْقُرْآنَ وَحَفِظَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ اولى بجمع المصاحف وأحق بالإيثار ولاختيار. وَلَا يَنْبَغِي أَنَّ يَظُنَّ جَاهِلٌ أَنَّ فِي هَذَا طَعْنًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، لِأَنَّ زَيْدًا إِذَا كَانَ أَحْفَظُ لِلْقُرْآنِ مِنْهُ فليس ذلك موجبا لتقدمه عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ زَيْدٌ أَحْفَظَ مِنْهُمَا لِلْقُرْآنِ، وَلَيْسَ هُوَ خَيْرًا مِنْهُمَا وَلَا مُسَاوِيًا لَهُمَا فِي الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا بَدَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ نَكِيرِ ذَلِكَ فَشَيْءٌ نَتَجَهُ الْغَضَبُ، وَلَا يُعْمَلُ بِهِ ولا يؤخذ به، ولا يشك في ان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ عَرَفَ بَعْدَ زَوَالِ الْغَضَبِ عَنْهُ حُسْنَ اخْتِيَارِ عُثْمَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَقِيَ عَلَى مُوَافَقَتِهِمْ وَتَرَكَ الْخِلَافَ لَهُمْ. فَالشَّائِعُ الذَّائِعُ الْمُتَعَالَمُ عِنْدَ أَهْلِ الرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ تَعَلَّمَ بَقِيَّةَ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَبْلَ أَنْ يَخْتِمَ القران. قال يزيد بن هارونه الْمُعَوِّذَتَانِ بِمَنْزِلَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، فَقِيلَ لَهُ: فَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِيهِمَا؟ فَقَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ مَاتَ وَهُوَ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ. قُلْتُ: هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَسَيَأْتِي. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ
قَالَ حَمَّادٌ أَظُنُّهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الْآيَةِ فَيَقُولُونَ أَقْرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(١). في آية ١٦١ راجع ج ٤ ص ٢٥٦.
53
فَلَانَ بْنَ فُلَانٍ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثِ لَيَالٍ فَيُرْسَلُ إِلَيْهِ فَيُجَاءُ بِهِ، فَيُقَالُ: كَيْفَ أَقْرَأَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَكْتُبُونَ كَمَا قَالَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَاخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ فِي التَّابُوتِ، فَقَالَ زَيْدٌ: التَّابُوهُ. وَقَالَ ابْنُ الزبير وسعيد بن العاصي: التَّابُوتُ، فَرُفِعَ اخْتِلَافُهُمْ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: اكْتُبُوهُ بِالتَّاءِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأَهُ زَيْدٌ بِالْهَاءِ وَالْقُرَشِيُّونَ بِالتَّاءِ، فَأَثْبَتُوهُ بِالتَّاءِ، وَكُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ غَابِرَ الدَّهْرِ، وَنَسَخَ مِنْهَا عُثْمَانُ نُسَخًا. قَالَ غَيْرُهُ: قِيلَ سَبْعَةٌ، وَقِيلَ أَرْبَعَةٌ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَوَجَّهَ بِهَا إِلَى الْآفَاقِ، فَوَجَّهَ لِلْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ بِأُمَّهَاتٍ، فَاِتَّخَذَهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ مُعْتَمَدَ اخْتِيَارَاتِهِمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُصْحَفَهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَلَغَهُ، وَمَا وُجِدَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي حُرُوفٍ يُزِيدُهَا بَعْضُهُمْ وَيُنْقِصُهَا بَعْضُهُمْ فَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمُ اعْتَمَدَ عَلَى مَا بَلَغَهُ فِي مُصْحَفِهِ وَرَوَاهُ، إِذْ قَدْ كَانَ عُثْمَانُ كَتَبَ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَمْ يَكْتُبْهَا فِي بَعْضٍ إِشْعَارًا بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، وان القراء بِكُلٍّ مِنْهَا جَائِزَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ بِمَا سِوَاهَا مِنَ الْمَصَاحِفِ أَنْ تُحَرَّقَ أَوْ تُخَرَّقَ، تُرْوَى بِالْحَاءِ غَيْرِ مَنْقُوطَةٍ وَتُرْوَى بِالْخَاءِ عَلَى مَعْنَى ثُمَّ تُدْفَنُ، وَرِوَايَةُ الْحَاءِ غَيْرِ مَنْقُوطَةٍ أَحْسَنُ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَنْ سُوِيدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالب كرم الله وجه يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ، اتَّقَوْا اللَّهَ! وَإِيَّاكُمْ والغلو في عثمان، وقولكم: حراق المصاحف، فو الله مَا حَرَّقَهَا إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ كُنْتُ الْوَالِيَ وَقْتَ عُثْمَانَ لَفَعَلْتُ فِي الْمَصَاحِفِ مِثْلَ الَّذِي فَعَلَ عُثْمَانُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: وفي امر عثمان بتحريق المصحف وَالْمَصَاحِفِ حِينَ جَمَعَ الْقُرْآنَ جَوَازُ تَحْرِيقِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ ذَلِكَ إِكْرَامٌ لَهَا وَصِيَانَةٌ عَنِ الْوَطْءِ بِالْأَقْدَامِ، وَطَرْحِهَا فِي ضَيَاعٍ مِنَ الْأَرْضِ. رَوَى مُعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَحْرِقُ الصُّحُفَ إِذَا اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ الرَّسَائِلُ فِيهَا بِسْمِ الله الرحمن الرحيم. وحرق عروة ابن الزبير وكتب فقه عِنْدَهُ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَكَرِهَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ تُحْرَقَ الصُّحُفُ إِذَا كَانَ فِيهَا
54
ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُ مَنْ حَرَقَهَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَقَدْ فَعَلَهُ عُثْمَانُ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِسَانُ الْأُمَّةِ: جَائِزٌ لِلْإِمَامِ تَحْرِيقُ الصُّحُفِ الَّتِي فِيهَا الْقُرْآنُ، إِذَا أَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ الى ذلك.

فصل [في الرد على الحيلولة والحشوية القائلين بقدم الحروف والأصوات]


قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: وَفِي فِعْلِ عثمان رضي الله عنه رد على الحيلولة «١» وَالْحَشْوِيَّةِ الْقَائِلَيْنِ بِقِدَمِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ والتلاوة القديمة، وان الايمان قديم، الروح قَدِيمٌ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ وَكُلُّ أُمَّةٍ مِنَ النصارى واليهود والبراهمة يل كُلُّ مُلْحِدٍ وَمُوَحَّدٍ أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يُفْعَلُ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ قَادِرٍ بِوَجْهٍ وَلَا بِسَبَبِ، وَلَا يَجُوزُ الْعَدْمُ عَلَى الْقَدِيمِ وَأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَصِيرُ مُحْدَثًا، وَالْمُحْدَثُ لَا يَصِيرُ قَدِيمًا، وَأَنَّ الْقَدِيمَ مَا لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ، وَأَنَّ الْمُحْدَثَ هُوَ مَا كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ خَرَقَتْ إِجْمَاعَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الْمُحْدَثُ قَدِيمًا، وَأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَرَأَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَ كَلَامًا لِلَّهِ قَدِيمًا، وَكَذَلِكَ إِذَا نَحَتَ حُرُوفًا مِنَ الْآجُرِّ وَالْخَشَبِ، أَوْ صَاغَ أَحْرُفًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَوْ نَسَجَ ثَوْبًا فَنَقَشَ عَلَيْهِ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ فَعَلَ هَؤُلَاءِ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمًا، وَصَارَ كَلَامُهُ مَنْسُوجًا قَدِيمًا وَمَنْحُوتًا قَدِيمًا وَمَصُوغًا قَدِيمًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيَجُوزُ أَنْ يُذَابَ وَيُمْحَى وَيُحْرَقَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، فَارَقُوا الدِّينَ، وَإِنْ قَالُوا: لَا، قِيلَ لَهُمْ: فَمَا قَوْلُكُمْ فِي حُرُوفٍ مُصَوِّرَةٍ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ شَمْعٍ، أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ كَاغِدٍ فَوَقَعَتْ فِي النَّارِ فَذَابَتْ وَاحْتَرَقَتْ، فَهَلْ تَقُولُونَ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ احْتَرَقَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، تَرَكُوا قَوْلَهُمْ، وَإِنْ قَالُوا: لَا، قِيلَ لَهُمْ أَلَيْسَ قُلْتُمْ، إِنَّ هَذِهِ الْكِتَابَةَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدِ احْتَرَقَتْ! وَقُلْتُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ كَلَامُهُ وَقَدْ ذَابَتْ، فَإِنْ قَالُوا: احْتَرَقَتِ الْحُرُوفُ وَكَلَامُهُ تَعَالَى بَاقٍ، رَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَدَانُوا بِالْجَوَابِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منها عَلَى مَا يَقُولُ أَهْلُ الْحَقِّ: وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ ثُمَّ وَقَعَ فِي النَّارِ ما احترق. وقال عَزَّ وَجَلَّ:" أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ" الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَثَبَتَ بهذا
(١). الحلولية: فرقة من المتصوفة تقول: ان الله حال في كل شي وفي كل جزء منه متحد بن حتى جوزوا ان يطلق على كل شي انه الله. والحشوية: طائفة من المبتدعة تمسكوا بالظواهر وذهبوا الى التجسيم وغيره.
55
أَنَّ كَلَامَهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا يُشْبِهُ الْحُرُوفَ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَطُولُ، وَتَتْمِيمُهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي (الْكِتَابِ الْأَسْنَى، فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى).
فَصْلٌ [في طعن الرافضة في القرآن]
وَقَدْ طَعَنَ الرَّافِضَةُ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: إِنَ الْوَاحِدَ يَكْفِي فِي نَقْلِ الْآيَةِ وَالْحَرْفِ كَمَا فَعَلْتُمْ فَإِنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ بِقَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَحْدَهُ آخِرَ سُورَةِ" بَرَاءَةٌ" وَقَوْلُهُ:" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ". فالجواب ان خزيمة رضى الله عنه لم جَاءَ بِهِمَا تَذَكَّرَهُمَا كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَانَ زَيْدٌ يَعْرِفُهُمَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَقَدْتُ آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ" التَّوْبَةِ". وَلَوْ لَمْ يُعْرِفْهُمَا لم يدر هل فقد شيئا أولا، فَالْآيَةُ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِخُزَيْمَةَ وَحْدَهُ. جَوَابٌ ثَانٍ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ وَحْدَهُ لقيام الدليل على صحتها في النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَهِيَ قَرِينَةٌ تُغْنِي عَنْ طَلَبِ شَاهِدٍ آخَرَ بِخِلَافِ آيَةِ" الْأَحْزَابِ" فَإِنَّ تِلْكَ ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ زَيْدٍ وَأَبِي خُزَيْمَةَ لِسَمَاعِهِمَا إِيَّاهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ مَعْنَاهُ الْمُهَلَّبُ، وَذَكَرَ أَنَّ خُزَيْمَةَ غَيْرُ أَبِي خُزَيْمَةَ، وَأَنَّ أَبَا خُزَيْمَةَ الَّذِي وُجِدَتْ مَعَهُ آيَةُ التَّوْبَةِ مَعْرُوفٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ عَرَفَهُ أَنَسٌ وَقَالَ: نَحْنُ وَرِثْنَاهُ، وَالَّتِي فِي الْأَحْزَابِ وُجِدَتْ مع خزيمة بن ثابت فلا تعارض، والقضية غير القضية لَا إِشْكَالَ فِيهَا وَلَا الْتِبَاسَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ" أَبُو خُزَيْمَةَ لَا يُوقَفُ عَلَى صِحَّةِ اسْمِهِ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وَهُوَ أَبُو خُزَيْمَةَ بْنُ أَوْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَهُوَ أَخُو مَسْعُودِ بْنِ أَوْسٍ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: وَجَدْتُ آخِرَ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ هَذَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَارِثِ بْنِ خُزَيْمَةَ أَبِي خُزَيْمَةَ نَسَبٌ إِلَّا اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْأَنْصَارِ، أَحَدُهُمَا أَوْسِيٌ وَالْآخَرُ خَزْرَجَيٌّ". وَفِي مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثابت، وأبو زيد وقلت لِأَنَسٍ: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جبل،
56
وَزَيْدٌ، وَأَبُو زَيْدٍ، [قَالَ «١»]: وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ. وَفِي أُخْرَى قَالَ: مَاتَ أَبُو زَيْدٍ وَلَمْ يَتْرُكْ عَقِبًا، وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَاسْمُ أَبِي زَيْدٍ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ. قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَحْفَظْهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْمَعْهُ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَمَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَقَدْ ثَبَتَ بِالطُّرُقِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنُ الْعَاصِ. فَقَوْلُ أَنَسٍ لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ وَأَخَذَهُ تَلْقِينًا مِنْ رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ أَخَذَ بَعْضُهُ عَنْهُ وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الرِّوَايَاتُ بِأَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ سَبْقِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِعْظَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ. قُلْتُ: لَمْ يَذْكُرِ الْقَاضِي، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وسالما مولى أبي حذيفة رضى الله عنهم فِيمَا رَأَيْتُ، وَهُمَا مِمَّنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ. رَوَى جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الصَّهْبَانِيِّ عَنْ كُمَيْلٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَمَرَرْنَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ هَذَا الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ". فَقِيلَ لَهُ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَمِّ عَبْدٍ، فَقَالَ:" إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ" الْحَدِيثَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ:" غَضَّا كَمَا أُنْزِلَ" أَيْ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْحَرْفَ الْأَوَّلَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دُونَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي رُخِّصَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَتِهِ عَلَيْهَا بَعْدَ مُعَارَضَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقُرْآنَ إِيَّاهُ فِي كل رمضان. وقد روى وكيع وجماعة مع عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ قَالَ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ الْقِرَاءَتَيْنِ تَقْرَأُ؟ قُلْتُ: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى قِرَاءَةُ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، فَقَالَ لِي: بَلْ هِيَ الْآخِرَةُ، إِنَّ رسول الله صلى الله عليهم وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَحَضَرَ ذَلِكَ عَبْدُ الله فعلم ما
نسخ من
(١). زيادة عن البخاري. وقوله: ونحن ورثناه. أي أبا زيد.
57
ذَلِكَ وَمَا بُدِّلَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ فَبَدَأَ بِهِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ". قُلْتُ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَهْرَيَارَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَرَأْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سُورَةً أَوْ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سُورَةً وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَقَرَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى" إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «١»
". قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَتَعَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بَقِيَّةَ القرآن من مجمع بن حارثة الأنصاري. قلت: فإن صح هذا، الْإِجْمَاعُ الَّذِي ذَكَرَهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، فَلِذَلِكَ لم يذكره القاضي أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى «٢» الْخُوزِيُّ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَأَلْتُ الْأَسْوَدَ مَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَصْنَعُ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ يَعْلَمُهَا حَتَّى قَدِمَ الْكُوفَةَ، قَالَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أهلم العلم: مات عبد الله بم مسعود رحمة الله قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ تُوجِدَا فِي مُصْحَفِهِ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ آخِرَ الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ" الْمُعَوِّذَتَيْنِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَبُو بكر: والحديث الذي حدثناه إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَانَ مِمَّنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، حَدِيثٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ هند أَهْلِ الْعِلْمِ، إِنَّمَا هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، فَهُوَ مَقْطُوعٌ لَا يُؤْخَذُ بِهِ ولا يعول عليه.
(١). آية ٢٢٢ من السورة المذكورة.
(٢). كذا في الأصول. والذي في التهذيب وغيره: ابن زيد.
58
قُلْتُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ" خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ" يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ القراءات من أهل الحجاز والشام والعراق كا مِنْهُمْ عَزَا قِرَاءَتَهُ الَّتِي اخْتَارَهَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَرَأَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ شَيْئًا، فَأَسْنَدَ عَاصِمٌ قِرَاءَتَهُ إِلَى عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَسْنَدَ ابْنُ كَثِيرٍ قِرَاءَتَهُ إِلَى أُبَيٍّ، وَكَذَلِكَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ أَسْنَدَ قِرَاءَتَهُ إِلَى أُبَيٍّ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ فَإِنَّهُ أَسْنَدَ قِرَاءَتَهُ إِلَى عُثْمَانَ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: قَرَأْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ مُتَّصِلَةً ورجالها ثقات. قاله الخطابي.
باب ما جاء في ترتيب سور القرآن وآياته، وشكله ونقطة، وتحزيبه وتعشيره، وعدد حروفه وأجزائه وكلماته وآيه
قَالَ ابْنُ الطَّيِّبِ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَرْتِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ فِي مُصْحَفِهِ السُّورُ عَلَى تَارِيخِ نُزُولِهَا، وَقَدَّمَ الْمَكِّيَّ عَلَى الْمَدَنِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِي أَوَّلِ مُصْحَفِهِ الْحَمْدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ جعل في أوله:" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" وَهَذَا أَوَّلُ مُصْحَفِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَمَّا مُصْحَفُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّ أَوَّلَهُ" مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" ثُمَّ الْبَقَرَةِ ثُمَّ النِّسَاءِ، عَلَى تَرْتِيبٍ مُخْتَلِفٍ. وَمُصْحَفِ أُبَيٍّ كَانَ أَوَّلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ النِّسَاءُ ثُمَّ آلُ عِمْرَانَ ثُمَّ الْأَنْعَامُ ثُمَّ الْأَعْرَافُ ثُمَّ الْمَائِدَةُ، ثُمَّ كَذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافٍ شَدِيدٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمُ فِي الْمُصْحَفِ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَذَكَرَ ذَلِكَ مَكِّيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ" بَرَاءَةٌ" وَذَكَرَ أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ فِي السُّورِ وَوَضْعِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْأَوَائِلِ هُوَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ" بَرَاءَةٌ" تُرِكَتْ بِلَا بَسْمَلَةٍ، هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي «١». وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ بِلَالٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَبِيعَةَ يَسْأَلُ: لِمَ قَدَّمْتَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَقَدْ نَزَلَ قَبْلَهُمَا بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سُورَةً وَإِنَّمَا نَزَلَتَا بالمدينة؟ فقال
(١). راجع ج ٨ ص ٦١.
59
ربيعة: قال قُدِّمَتَا وَأُلِّفَ الْقُرْآنُ عَلَى عِلْمٍ مِمَّنْ أَلَّفَهُ، وقد اجتمعوا على علم بِذَلِكَ، فَهَذَا مِمَّا نَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَا نَسْأَلُ عنه. وقد ذكر سنيد قال حدثنا معتمر عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حَالًا، اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ تَأْلِيفَ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ في مصاحفنا كَانَ عَنْ تَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنَ اخْتِلَافِ مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْعَرْضِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ لَهُمْ تَأْلِيفَ السُّوَرِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَ ذَلِكَ. رَوَى يُونُسُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكًا يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يَسْمَعُونَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ فَرَّقَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتِ السُّورَةُ تَنْزِلُ فِي أَمْرٍ يَحْدُثُ، وَالْآيَةُ جَوَابًا لِمُسْتَخْبِرٍ يَسْأَلُ، وَيُوقِفُ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى موضع السُّورَةِ وَالْآيَةِ، فَاتِّسَاقُ السُّوَرِ كَاتِّسَاقِ الْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ، فَكُلُّهُ عَنْ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَمَنْ أَخَّرَ سُورَةً مُقَدَّمَةً أَوْ قَدَّمَ أُخْرَى مُؤَخَّرَةً فَهُوَ كَمَنْ أَفْسَدَ نَظْمَ الْآيَاتِ، وَغَيَّرَ الْحُرُوفَ وَالْكَلِمَاتِ، وَلَا حُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ فِي تَقْدِيمِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْأَنْعَامِ، وَالْأَنْعَامُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخِذَ عَنْهُ هَذَا التَّرْتِيبُ، وَهُوَ كَانَ يَقُولُ:" ضَعُوا هَذِهِ السُّورَةَ مَوْضِعَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْقُرْآنِ". وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقِفُ عَلَى مَكَانِ الْآيَاتِ. حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ حدثنا أبو بكر عَيَّاشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: آخَرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ:" يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «١» ". عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ:" وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ".
(١). آخر سورة" النساء".
60
فقال جبرئيل لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: يَا مُحَمَّدُ ضَعْهَا فِي رَأْسِ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْبَقَرَةِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَا يَقُولُ إِنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَالدَّرْسِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُرَتَّبَةً عَلَى حَسَبِ الترتيب الموقف عَلَيْهِ فِي الْمُصْحَفِ، بَلْ إِنَّمَا يَجِبُ تَأْلِيفُ سُوَرِهِ فِي الرَّسْمِ وَالْخَطِّ خَاصَّةً، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَ: إِنَّ تَرْتِيبَ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَفِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَدَرْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَقَّنَ الْكَهْفَ قَبْلَ الْبَقَرَةِ وَلَا الْحَجَّ قَبْلَ الْكَهْفِ، أَلَا تَرَى قَوْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلَّذِي سَأَلَهَا: لَا يَضُرُّكَ أَيَّةَ قَرَأْتَ قَبْلُ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ السُّورَةَ فِي رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقْرَأُ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى بِغَيْرِ السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عمر أنهما كرها أن يقرأ في الْقُرْآنُ مَنْكُوسًا، وَقَالَا: ذَلِكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ، فَإِنَّمَا عَنَيَا بِذَلِكَ مَنْ يَقْرَأُ السُّورَةَ مَنْكُوسَةً، وَيَبْتَدِئُ مِنْ آخِرِهَا إِلَى أَوَّلِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ مَحْظُورٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَعَاطَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ لِيُذَلِّلَ لِسَانَهُ بِذَلِكَ وَيَقْدِرَ عَلَى الْحِفْظِ، وَهَذَا حَظَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنَعَهُ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ إِفْسَادٌ لِسُورِهِ وَمُخَالَفَةٌ لِمَا قُصِدَ بِهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إثباته فِي الْمَصَاحِفِ عَلَى تَارِيخِ نُزُولِهِ مَا صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّ الْآيَاتِ كَانَتْ تَنْزِلُ بِالْمَدِينَةِ فَتُوضَعُ فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ، أَلَا تَرَى قَوْلَ عَائِشَةَ رضى الله عنه: وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ تَعْنِي بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ قُدِّمَتَا فِي الْمُصْحَفِ عَلَى مَا نَزَلَ قَبْلَهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ، وَلَوْ أَلَّفُوهُ عَلَى تَارِيخِ النُّزُولِ لَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ تَرْتِيبُ آيَاتِ السُّوَرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْأَنْفَالُ، وَبِرَاءَةٌ، وَالرَّعْدُ، وَالنَّحْلُ، وَالْحَجُّ، وَالنُّورُ، وَالْأَحْزَابُ، وَمُحَمَّدٌ، وَالْفَتْحُ، وَالْحُجُرَاتُ، وَالرَّحْمَنُ، وَالْحَدِيدُ، وَالْمُجَادَلَةُ، وَالْحَشْرُ، وَالْمُمْتَحِنَةُ، وَالصَّفُّ، وَالْجُمْعَةُ، وَالْمُنَافِقُونُ، والتغابن، والطلاق،
61
وَيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ إِلَى رَأْسِ الْعَشْرِ، وَإِذَا زُلْزِلَتْ، وَإِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، هؤلاء السور نزلن بالمدينة، وسائر القرآن بِمَكَّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنْ عَمِلَ عَلَى تَرْكِ الْأَثَرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَنَظَمَ السُّوَرَ عَلَى مَنَازِلِهَا بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، لَمْ يَدْرِ أَيْنَ تَقَعُ الْفَاتِحَةُ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي مَوْضِعِ نُزُولِهَا، وَيَضْطَرُّ إِلَى تَأْخِيرِ الْآيَةِ الَّتِي فِي رَأْسِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْبَقَرَةِ إِلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ، وَمَنْ أَفْسَدَ نَظَمَ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ، وَرَدَّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَكَاهُ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عِلَّةَ تَقْدِيمُ الْمَدَنِيِّ عَلَى الْمَكِّيِّ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْعَرَبَ بِلُغَتِهَا، وَمَا تَعْرِفُ مِنْ أَفَانِينَ خِطَابِهَا وَمُحَاوَرَتِهَا، فَلَمَّا كَانَ فَنٌّ مِنْ كَلَامِهِمْ مَبْنِيًّا عَلَى تَقْدِيمِ الْمُؤَخَّرِ وَتَأْخِيرِ الْمُقَدَّمِ خُوطِبُوا بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَوْ فَقَدُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ لَقَالُوا: مَا بَالُهُ عَرِيَ مِنْ هَذَا الباب الموجود في كلاكنا الْمُسْتَحْلَى مِنْ نِظَامِنَا. قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
أَنْ بُدِّلَتْ مِنْهُمُ وُحُوشًا وَغَيَّرَتْ حَالَهَا الْخُطُوبُ
عَيْنَاكَ دَمْعُهُمَا سَرُوبُ كَأَنَّ شَأْنَيْهِمَا شَعِيبُ
أَرَادَ عَيْنَاكَ دَمْعُهُمَا سَرُوبٌ لِأَنْ تَبَدَّلَتْ مِنْ أَهْلِهَا وُحُوشًا، فَقَدَّمَ الْمُؤَخَّرَ وَأَخَّرَ الْمُقَدَّمَ، وَمَعْنَى سَرُوبٍ: منصب على وجه الأرض. ومنه للذاهب على وجهه في الأر، قَالَ الشَّاعِرُ «١»:
أَنَّى سَرَبْتِ وَكُنْتِ غَيْرَ سَرُوبِ
وقوله: شأنيهما، الشأن واحد الشئون، وهي مواصل الرأس وملتقاها، ومنها يجئ الدمع. شعيب: متفرق.
(١). هو قيس بن الخطيم. وتمام البيت: وتقرب الأحلام غير قريب وفي اللسان مادة" سرب":" قال ابن برى: ابن دريد" سربت" بباء موحدة لقوله: وكنت غير سروب ومن رواه" سريت" بالياء باثنتين فمعناه: كيف سربت ليلا، وأنت لا تسربين نهارا".
62
(فَصْلٌ) وَأَمَّا شَكْلُ الْمُصْحَفِ وَنَقْطُهُ فَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَمَرَ بِهِ وَعَمِلَهُ، فَتَجَرَّدَ لِذَلِكَ الْحَجَّاجُ بِوَاسِطٍ وَجَدَّ فِيهِ وَزَادَ تحزينه، وَأَمَرَ وَهُوَ وَالِي الْعِرَاقِ الْحَسَنَ وَيَحْيَى بْنَ يَعْمُرَ بِذَلِكَ، وَأَلَّفَ إِثْرَ ذَلِكَ بِوَاسِطٍ كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ جَمَعَ فِيهِ مَا رُوِيَ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا وَافَقَ الْخَطَّ، وَمَشَى النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا طَوِيلًا، إِلَى أَنْ أَلَّفَ ابْنُ مُجَاهِدٍ كِتَابَهُ فِي الْقِرَاءَاتِ. وَأَسْنَدَ الزُّبَيْدِيُّ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ إِلَى الْمُبَرِّدِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَقَطَ الْمُصْحَفَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ لَهُ مُصْحَفٌ نقطة له يحيى بن يعمر. (فصل) وَأَمَّا وَضْعُ الْأَعْشَارِ فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَرَّ بِي فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ أَنَّ الْمَأْمُونَ الْعَبَّاسِيَّ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ فَعَلَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ لَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ فِي الْمُصْحَفِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَحُكَّهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّعْشِيرَ وَالطِّيبَ فِي المصحف. وقال أشهب: سمعت مالكا وسيل عن العشور التي تكون في المصحف بِالْحُمْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْوَانِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: تعشير المصحف بالحبر لا بأس به، وسيل عَنِ الْمَصَاحِفِ يَكْتُبُ فِيهَا خَوَاتِمَ السُّوَرِ فِي كُلِّ سُورَةٍ مَا فِيهَا مِنْ آيَةٍ، قَالَ: إني أكره ذلك في أمهات المصاحف ن يكتب فيها شي أَوْ يُشَكَّلَ، فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّمُ بِهِ الْغِلْمَانُ مِنَ الْمَصَاحِفِ فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. قَالَ أَشْهَبُ: ثُمَّ أَخْرَجَ إِلَيْنَا مُصْحَفًا لِجَدِّهِ، كَتَبَهُ إِذْ كَتَبَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ، فَرَأَيْنَا خَوَاتِمَهُ مِنْ حِبْرٍ عَلَى عَمَلِ السِّلْسِلَةِ فِي طُولِ السَّطْرِ، ورأيته معجوم الآي بالحبر. وقال قتادة: بدءوا فَنَقَطُوا ثُمَّ خَمَّسُوا ثُمَّ عَشَّرُوا. وَقَالَ يَحْيَى بن أبي كثير كان القرآن مردا فِي الْمَصَاحِفِ، فَأَوَّلُ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ النَّقْطُ عَلَى الْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ، وَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِهِ، هُوَ نُورٌ لَهُ، ثُمَّ أَحْدَثُوا نَقْطًا عِنْدَ مُنْتَهَى الْآيِ، ثُمَّ أَحْدَثُوا الْفَوَاتِحَ وَالْخَوَاتِيمَ. وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: رَأَى إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فِي مُصْحَفِي فَاتِحَةَ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لِي: امْحُهُ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قال: لا تخلطوا في كتبا اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهِ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ السَّرَّاجِ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي رَزِينٍ: أَأَكْتُبُ فِي مُصْحَفِي سُورَةَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَنْشَأَ قَوْمٌ لَا يَعْرِفُونَهُ فَيَظُنُّونَهُ مِنَ القرآن.
63
قَالَ الدَّانِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُؤْذِنُ بِأَنَّ التَّعْشِيرَ وَالتَّخْمِيسَ وَفَوَاتِحَ السُّوَرِ ورءوس الْآيِ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَادَهُمْ إِلَى عَمَلِهِ الِاجْتِهَادُ، وَأَرَى أَنَّ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ إِنَّمَا كَرِهَ أن يعمل بالألوان كالحمرة والصفرة وغيرها، والحراج وَالْخَطَأُ مُرْتَفِعَانِ عَنْهُمْ فِيمَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا عَدَدُ حُرُوفِهِ وَأَجْزَائِهِ فَرَوَى سَلَامٌ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحِمَّانِيُّ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ جَمَعَ الْقُرَّاءَ وَالْحُفَّاظَ وَالْكُتَّابَ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ كَمْ مِنْ حَرْفٍ هُوَ؟. قَالَ: وَكُنْتُ فِيهِمْ، فَحَسَبْنَا فَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ حَرْفٍ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ حرف وسبعمائة حرف وأربعون حرفا وقال: فَأَخْبِرُونِي إِلَى أَيِّ حَرْفٍ يَنْتَهِي نِصْفُ الْقُرْآنِ؟ فإذا هو الْكَهْفِ" وَلْيَتَلَطَّفْ" فِي الْفَاءِ. قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِأَثْلَاثِهِ، فَإِذَا الثُّلْثُ الْأَوَّلُ رَأْسُ مِائَةٍ مِنْ بَرَاءَةٌ، وَالثُّلْثُ الثَّانِي رَأْسُ مِائَةٍ أَوْ إِحْدَى وَمِائَةٍ مِنْ طسم الشُّعَرَاءِ، وَالثُّلْثُ الثَّالِثُ مَا بَقِيَ من القرآن. قال فأخبروني بأسباعه على الحرف، فَإِذَا أَوَّلُ سُبُعٍ فِي النِّسَاءِ" فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ" في الدال، والسبع الثاني في الأعراف" حَبِطَتْ" فِي التَّاءِ، وَالسُّبْعُ الثَّالِثُ فِي الرَّعْدِ" أُكُلُها دائِمٌ" فِي الْأَلْفِ مِنْ آخِرِ أُكُلُهَا، وَالسُّبُعُ الرَّابِعُ في الحج" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً" فِي الْأَلْفِ، وَالسُّبُعُ الْخَامِسُ فِي الْأَحْزَابِ" وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ" فِي الْهَاءِ، وَالسُّبُعُ السَّادِسُ فِي الْفَتْحِ" الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ" فِي الْوَاوِ، وَالسُّبُعُ السَّابِعُ مَا بَقِيَ مِنَ القرآن. قال سلام أبو محمد: علمناه في أربعة أشبر، وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقْرَأُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رُبْعًا، فَأَوَّلُ رُبْعِهِ خَاتِمَةُ الْأَنْعَامِ. وَالرُّبْعُ الثَّانِي فِي الْكَهْفِ" وَلْيَتَلَطَّفْ"، وَالرُّبْعُ الثَّالِثُ خَاتِمَةُ الزُّمَرِ، وَالرُّبْعُ الرَّابِعُ مَا بَقِيَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ لِأَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ، مَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ هناك. (فصل) وأما عدد الْقُرْآنِ فِي الْمَدَنِيِّ الْأَوَّلِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عيسى: جمع عدد آي القرآن في المدني ستة آلاف آية. قال عَمْرٍو: وَهُوَ الْعَدَدُ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُسَمُّوا فِي ذَلِكَ أحد بِعَيْنِهِ يُسْنِدُونَهُ
إِلَيْهِ.
64
وأما المدني الأخير فهو قَوْلِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ: سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ ومائتان آيَةٍ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً. وَقَالَ الْفَضْلُ: عَدَدُ آيِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ الْمَكِّيِّينَ سِتَّةُ آلَافِ وَمِائَتَا آيَةٍ وَتِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى: وَجَمِيعُ عَدَدِ آيِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ وَمِائَتَا آيَةٍ وَثَلَاثُونَ وَسِتُّ آيَاتٍ، وَهُوَ الْعَدَدُ الَّذِي رَوَاهُ سُلَيْمٌ «١» وَالْكِسَائِيُّ عَنْ حَمْزَةَ، وَأَسْنَدَهُ الْكِسَائِيُّ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَجَمِيعُ عَدَدِ آيِ الْقُرْآنِ فِي عَدَدِ الْبَصْرِيِّينَ سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ، وَهُوَ الْعَدَدُ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ حَتَّى الْآنَ. وَأَمَّا عَدَدُ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ: سِتَّةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَسِتٌّ وَعِشْرُونَ. فِي رِوَايَةٍ ستة آلاف ومائتان وَمِائَتَانِ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ، نَقَصَ آيَةً. قَالَ ابْنُ ذكوان: فظنت أَنَّ يَحْيَى لَمْ يَعُدَّ" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ". قَالَ أَبُو عَمْرٍو: فَهَذِهِ الْأَعْدَادُ الَّتِي يَتَدَاوَلُهَا النَّاسُ تَأْلِيفًا، وَيَعُدُّونَ بِهَا فِي سَائِرِ الْآفَاقِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَأَمَّا كَلِمَاتُهُ فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ: جَمِيعُ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَتِسْعٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً، وَحُرُوفُهُ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفًا. قُلْتُ: هَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْحِمَّانِيِّ قَبْلَ هَذَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هَذَا مَا أَحْصَيْنَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ حَرْفٍ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَرْفٍ وَمِائَةٌ وَثَمَانُونَ حَرْفًا، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ قبل هذا الحماني من عد حروفه.

باب ذكر معنى السورة والآية والكلمة والحرف


مَعْنَى السُّورَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْإِبَانَةُ لَهَا مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى وَانْفِصَالِهَا عَنْهَا، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأنه يرتفع فيها من مَنْزِلَةٍ. قَالَ النَّابِغَةُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
أي منزلة شرف ارتفعت إليها عن منزل الملوك. وقيل سميت لِشَرَفِهَا وَارْتِفَاعِهَا كَمَا يُقَالُ لِمَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ سُورٌ. وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ قَارِئَهَا يشرف على ما لم يكن
(١). في الأصول:" مسلم" والراوي عن حمزة هو سليم بن عيسى الكوفي وهو أخص أصحاب حمزة به (طبقات القراء). [..... ]
65
عنده كسور البناء بغير همزة. وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا قُطِعَتْ مِنَ الْقُرْآنِ على حد، من قول العرب للبقية: سؤر، وجاء أَسَآرِ النَّاسِ أَيْ بَقَايَاهُمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَصْلُ سُؤْرَةً بِالْهَمْزَةِ ثُمَّ خُفِّفَتْ فَأُبْدِلَتْ وَاوًا لانظمام مَا قَبْلَهَا. وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَمَامِهَا وَكَمَالِهَا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ لِلنَّاقَةِ التَّامَّةِ: سُورَةٌ، وَجَمْعُ سُورَةٍ سُوَرٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ «١»:
سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى سُورَاتٍ وَسُوَرَاتٍ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ الْعَلَامَةُ: بمعنى أنها علامة لانقطاع الكلام قَبِلَهَا مِنَ الَّذِي بَعْدَهَا وَانْفِصَالِهِ، أَيْ هِيَ بَائِنَةٌ مِنْ أُخْتِهَا وَمُنْفَرِدَةٌ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ آيَةٌ، أَيْ عَلَامَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى" إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ «٢» ". وَقَالَ النَّابِغَةُ:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ آيَةٌ لِأَنَّهَا جَمَاعَةُ حُرُوفٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ الْقَوْمُ بِآيَاتِهِمْ أَيْ بِجَمَاعَتِهِمْ. قَالَ بُرْجُ بْنُ مُسْهِرٍ الطَّائِيُّ:
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلُنَا بِآيَاتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ آيَةً لِأَنَّهَا عَجَبٌ يَعْجَزُ الْبَشَرُ عَنِ التَّكَلُّمِ بِمِثْلِهَا. وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَصْلِ آيَةٍ، فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: أَيَيَةٌ عَلَى فَعَلَةٍ مِثْلَ أَكَمَةٍ وَشَجَرَةٍ، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا انْقَلَبَتْ أَلِفًا فَصَارَتْ آيَةً بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا مَدَّةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَصْلُهَا آيِيَةٌ عَلَى وَزْنِ فَاعِلَةٍ مِثْلَ آمِنَةٍ فَقُلِبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، ثُمَّ حُذِفَتْ لِالْتِبَاسِهَا بِالْجَمْعِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَصْلُهَا أَيَّيْةٌ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْأُولَى فَقُلِبَتْ ألفا كراهة التشديد فَصَارَتْ آيَةً وَجَمْعُهَا آيٌ وَآيَاتٌ وَآيَاءٌ «٣». وَأَنْشَدَ أبو زيد: لم يبق الدهر من آيائه غير أثافيه وأرمدائه
(١). هو الراعي. وصدر البيت: هن الحرائر ربات أخمرة
(٢). آية ٢٤٨ سورة" البقرة".
(٣). قال في اللسان مادة (أيا) جمع الجمع نادر.
66
وَأَمَّا الْكَلِمَةُ فَهِيَ الصُّورَةُ الْقَائِمَةُ بِجَمِيعِ مَا يَخْتَلِطُ بِهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ «١» أَيِ الْحُرُوفِ، وَأَطْوَلُ الْكَلِمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا بَلَغَ عَشَرَةَ أَحْرُفٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ «٢» ". و" أَنُلْزِمُكُمُوها «٣» " وشبههما، فأما قوله" فَأَسْقَيْناكُمُوهُ «٤» " فَهُوَ عَشَرَةُ أَحْرُفٍ «٥» فِي الرَّسْمِ وَأَحَدَ عَشَرَ فِي اللَّفْظِ. وَأَقْصَرُهُنَّ مَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ نحو ما ولا وَلَهُ، وَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ. وَمِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي مَا هُوَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، مِثْلُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَوَاوِ الْعَطْفِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِهِ مُفْرَدًا. وَقَدْ تَكُونُ الْكَلِمَةُ وَحْدَهَا آيَةً تَامَّةً نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالْفَجْرِ"." وَالضُّحى "." وَالْعَصْرِ". وكذلك" الم". و" المص". وَ" طَهَ". وَ" يس". وَ" حم" فِي قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ، وَذَلِكَ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، فأما ما في حشوهن فال. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ وَحْدَهَا آيَةٌ إِلَّا قَوْلَهُ فِي الرَّحْمَنِ" مُدْهامَّتانِ «٦» " لأغير. وَقَدْ أَتَتْ كَلِمَتَانِ مُتَّصِلَتَانِ وَهُمَا آيَتَانِ، وَذَلِكَ في قوله تعالى" حم عسق" على قول الكوفيين لأغير. وَقَدْ تَكُونُ الْكَلِمَةُ فِي غَيْرِ هَذَا: الْآيَةَ التَّامَّةَ، وَالْكَلَامُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَتَمَّتْ «٧» كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا" قِيلَ: إِنَّمَا يَعْنِي بِالْكَلِمَةِ هَاهُنَا قَوْلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:" وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا «٨» فِي الْأَرْضِ" إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ" وَأَلْزَمَهُمْ «٩» كَلِمَةَ التَّقْوى ". قال مجاهد لا إله إلا اللَّهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ". وَقَدْ تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَصِيدَةَ بِأَسْرِهَا، وَالْقِصَّةَ كُلَّهَا، كَلِمَةً فَيَقُولُونَ: قَالَ قُسٌّ فِي كَلِمَتِهِ كَذَا، أَيْ فِي خُطْبَتِهِ، وَقَالَ زُهَيْرٌ فِي كَلِمَتِهِ كَذَا، أَيْ فِي قَصِيدَتِهِ، وَقَالَ فَلَانٌ فِي كَلِمَتِهِ يَعْنِي فِي رِسَالَتِهِ، فَتُسَمَّى جُمْلَةَ الْكَلَامِ كَلِمَةً إِذْ كَانَتِ الْكَلِمَةُ مِنْهَا، على عادتهم في تسميتهم الشَّيْءُ بِاسْمِ مَا هُوَ مِنْهُ وَمَا قَارَبَهُ وجاوره، وكان بسبب منه، مجازا أو اتساعا. وَأَمَّا الْحَرْفُ فَهُوَ الشُّبْهَةُ الْقَائِمَةُ وَحْدَهَا مِنَ الْكَلِمَةِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْحَرْفُ كَلِمَةَ وَالْكَلِمَةُ حَرْفًا عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَالْمَجَازِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يُسَمِّى ما جاء من
(١). لم نر هذا التعبير لغير المؤلف، وقد سبق التعبير به في ص ١٦ من هذا الجزء.
(٢). سورة النور آية ٥٥.
(٣). سورة هود آية ٢٨.
(٤). سورة الحجر آية ٢٢.
(٥). كأنه اعتبر هاء الضمير كلمة أخرى في الرسم فقط.
(٦). سورة الرحمن آية ٦٤.
(٧). سورة الأعراف آية ١٣٧.
(٨). سورة القصص آية ٥.
(٩). سورة الفتح آية ٢٦.
67
حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي الْفَوَاتِحِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ نحو" ص" وَ" ن" حَرْفًا أَوْ كَلِمَةً؟ قُلْتُ: كَلِمَةٌ لا حرفا، ولذلك مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَرْفَ لَا يُسْكَتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْفَرِدُ وَحْدَهُ فِي الصُّورَةِ وَلَا يَنْفَصِلُ مِمَّا يَخْتَلِطُ بِهِ، وَهَذِهِ الْحُرُوفُ مَسْكُوتٌ عَلَيْهَا مُنْفَرِدَةٌ مُنْفَصِلَةٌ كَانْفِرَادِ الْكَلِمِ وَانْفِصَالِهَا، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ كَلِمَاتٌ لَا حُرُوفًا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَقَدْ يَكُونُ الْحَرْفُ فِي غَيْرِ هَذَا: الْمَذْهَبَ وَالْوَجْهَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ" أَيْ عَلَى وَجْهٍ وَمَذْهَبٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" أَيْ سَبْعَةِ أَوْجَهٍ مِنَ اللغات، والله أعلم.

باب هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب أو لا


لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَلَامٌ مُرَكَّبٌ عَلَى أَسَالِيبَ غَيْرِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ فِيهِ أَسْمَاءٌ أَعْلَامًا لِمَنْ لِسَانُهُ غَيْرُ الْعَرَبِ، كَإِسْرَائِيلَ وَجِبْرِيلَ وَعِمْرَانَ وَنُوحٍ وَلُوطٍ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ وَقَعَ فِيهِ أَلْفَاظٌ غَيْرُ أَعْلَامٍ مُفْرَدَةٍ من كلام غير الْعَرَبِ، فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَالطَّبَرَيُّ وَغَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِيهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ صَرِيحٌ، وَمَا وُجِدَ فِيهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى سَائِرِ اللُّغَاتِ إِنَّمَا اتُّفِقَ فِيهَا أَنْ تَوَارَدَتِ اللُّغَاتُ عَلَيْهَا فَتَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ وَالْفُرْسُ وَالْحَبَشَةُ وَغَيْرُهُمْ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُودِهَا فِيهِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ لِقِلَّتِهَا لَا تُخْرِجُ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا مُبَيِنًا، وَلَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ كَوْنِهِ متكلما بلسان قومه، فالمشكاة: الكوة وو نشأ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، وَمِنْهُ" إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ" و" يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ" أي ضعفين. و" فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ" أَيِ الْأَسَدِ، كُلُّهُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَالْغَسَّاقُ: الْبَارِدُ الْمُنْتِنُ بِلِسَانِ التُّرْكِ. وَالْقِسْطَاسُ: الْمِيزَانُ، بِلُغَةِ الرُّومِ. وَالسِّجِّيلُ: الْحِجَارَةُ وَالطِّينُ بِلِسَانِ الْفُرْسِ. وَالطُّورُ الْجَبَلُ. وَالْيَمُّ الْبَحْرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَالتَّنُّورُ: وَجْهُ الْأَرْضِ بِالْعَجَمِيَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" فَحَقِيقَةُ الْعِبَارَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ أَعْجَمِيَّةٌ لَكِنِ اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ وَعَرَّبَتْهَا فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ بِهَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ كان العرب الْعَارِبَةِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهَا بَعْضُ مُخَالَطَةٍ لسائر الألسنة تحارت، وَبِرِحْلَتِي قُرَيْشٍ، وَكَسَفَرِ مُسَافِرِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو إلى الشام،
68
وكفر عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكَسَفَرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعِمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَسَفَرِ الْأَعْشَى إِلَى الْحِيرَةِ وَصُحْبَتِهِ لِنَصَارَاهَا مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ فَعَلِقَتِ الْعَرَبُ بِهَذَا كُلِّهِ أَلْفَاظًا أَعْجَمِيَّةً غَيَّرَتْ بَعْضَهَا بِالنَّقْصِ مِنْ حُرُوفِهَا، وَجَرَّتْ إِلَى تَخْفِيفِ ثِقَلِ الْعُجْمَةِ، وَاسْتَعْمَلَتْهَا فِي أَشْعَارِهَا وَمُحَاوَرَاتِهَا، حَتَّى جَرَتْ مَجْرَى الْعَرَبِيِّ الصَّحِيحِ، وَوَقَعَ بِهَا الْبَيَانُ، وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ. فَإِنَّ جَهِلَهَا عَرَبِيٌّ مَا فَكَجَهْلِهِ الصَّرِيحَ بِمَا فِي لُغَةِ غَيْرِهِ، كَمَا لَمْ يَعْرِفِ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَى" فَاطِرَ" إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرَيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ اللُّغَتَيْنِ اتَّفَقَتَا في لَفْظَةٍ فَذَلِكَ بَعِيدٌ، بَلْ إِحْدَاهُمَا أَصِلٌ وَالْأُخْرَى فرع في الأكثر «١»، لأنا لاندفع أَيْضًا جَوَازَ الِاتِّفَاقِ قَلِيلًا شَاذًّا". قَالَ غَيْرُهُ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقَوْلُهُ: هِيَ أَصْلٌ فِي كَلَامِ غَيْرِهِمْ دَخِيلَةٌ فِي كَلَامِهِمْ، لَيْسَ بِأُولَى مِنَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ تخاطب بها أولا، فإن كان الأول فهي من كلامهم، إذا لَا مَعْنَى لِلُغَتِهِمْ وَكَلَامِهِمْ إِلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ قَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى بَعْضِ كَلِمَاتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو عُبَيْدَةَ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ عَلَى أَوْزَانِ كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَا تَكُونُ مِنْهُ. قُلْنَا: وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّكُمْ حَصَرْتُمْ أَوْزَانَهُمْ حَتَّى تُخْرِجُوا هَذِهِ مِنْهَا، فَقَدْ بَحَثَ الْقَاضِي عَنْ أُصُولِ أَوْزَانِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَرَدَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إِلَيْهَا عَلَى الطَّرِيقَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَخَاطَبَتْ بِهَا وَلَا عَرِفَتْهَا اسْتَحَالَ أَنْ يُخَاطِبَهُمُ اللَّهُ بِمَا لَا يَعْرِفُونَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْقُرْآنُ عربيا نبينا، وَلَا يَكُونُ الرَّسُولُ مُخَاطِبًا لِقَوْمِهِ بِلِسَانِهِمْ، وَاللَّهُ أعلم.

باب ذكر في إعجاز القرآن وشرائط المعجزة وحقيقتها


الْمُعْجِزَةُ وَاحِدَةُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَسُمِّيَتْ مُعْجِزَةً لِأَنَّ الْبَشَرَ يَعْجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، وَشَرَائِطُهَا خَمْسَةٌ فَإِنَ اختل منها شرط لا تكون معجزة.
(١). في الأصول:
69
فَالشَّرْطُ الْأَوَّلُ مِنْ شُرُوطِهَا أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا وجب حصول هذا الشرط للمعجزة لأنه أَتَى آتٍ فِي زَمَانٍ يَصِحُّ فِيهِ مَجِيءُ الرسل وادعى الرسالة وجعل معجزته أت يَتَحَرَّكَ وَيَسْكُنَ وَيَقُومَ وَيَقْعُدَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ مُعْجِزَةً لَهُ، وَلَا دَالًّا عَلَى صِدْقِهِ لِقُدْرَةِ الْخَلْقِ عَلَى مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمُعْجِزَاتُ كَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَمَا شَاكَلَهَا مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي هُوَ أَنْ تَخْرِقَ الْعَادَةَ. وَإِنَّمَا وَجَبَ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ: آيَتِي مَجِيءُ اللَّيْلِ بَعْدَ النَّهَارِ وَطُلُوعُ الشمس من مشرقها، لم يكن فيما ادعا مُعْجِزَةٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ، فَلَمْ تُفْعَلْ مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ دَعْوَاهُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي حِينِ دَعَوَاهُ، وَدَعَوَاهُ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ كَدَعْوَى غَيْرِهِ، فَبَانَ أَنَّهُ لأوجه لَهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَالَّذِي يَسْتَشْهِدُ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ وَجْهٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِي أَنْ يَخْرِقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ مِنْ أَجْلِ دَعْوَايَ عَلَيْهِ الرِّسَالَةَ، فَيَقْلِبُ هَذِهِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَيَشُقُّ الْحَجَرَ وَيُخْرِجُ مِنْ وَسَطِهِ نَاقَةٌ، أَوْ يَنْبُعُ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِي كَمَا يُنْبِعُهُ مِنَ الْعَيْنِ، أَوْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ، الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا جَبَّارُ الأرض والسموات، فَتَقُومُ لَهُ هَذِهِ الْعَلَامَاتُ مَقَامَ قَوْلِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، لَوْ أَسْمَعَنَا كَلَامَهُ الْعَزِيزَ وَقَالَ: صَدَقَ، أنا بعثته و. مثال هذا الْمَسْأَلَةِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى مَا لَوْ كَانَتْ جَمَاعَةٌ بِحَضْرَةِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَقَالَ أَحَدُ رِجَالِهِ وَهُوَ بِمَرْأًى مِنْهُ وَالْمَلِكُ يَسْمَعُهُ: الْمَلِكُ يَأْمُرُكُمْ أَيُّهَا الْجَمَاعَةُ بِكَذَا وَكَذَا، ودليل ذلك أن الملك يصدقني بفعل م أَفْعَالِهِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ خَاتَمَهُ مِنْ يَدِهِ قَاصِدًا بِذَلِكَ تَصْدِيقِي، فَإِذَا سَمِعَ الْمَلِكُ كَلَامَهُ لَهُمْ وَدَعْوَاهُ فِيهِمْ، ثُمَّ عَمِلَ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ عَلَى صِدْقِهِ، قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ: صَدَقَ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَيَّ. فَكَذَلِكَ إذا عمل عَمَلًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ، وَخَرَقَ بِهِ الْعَادَةَ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ، قَامَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَقَامَ كَلَامِهِ تَعَالَى لَوْ أُسْمِعْنَاهُ وَقَالَ: صدق عبدي في دعواي الرِّسَالَةِ، وَأَنَا أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا.
70
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ هُوَ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِهَا مُدَّعِي الرِّسَالَةِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: آيَتِي أَنْ يَقْلِبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَاءَ زَيْتًا أَوْ يُحَرِّكَ الْأَرْضَ عِنْدَ قَوْلِي لَهَا، تَزَلْزَلِي، فَإِذَا فَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ حَصَلَ الْمُتَحَدَّى بِهِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ هُوَ أَنْ تَقَعَ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى الْمُتَحَدِّي بِهَا الْمُسْتَشْهَدِ بِكَوْنِهَا مُعْجِزَةً لَهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ اشْتِرَاطُ هَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ: آيَةُ نُبُوَّتِي وَدَلِيلُ حُجَّتِي أَنْ تَنْطِقَ يَدِي أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ فَنَطَقَتْ يَدُهُ أَوِ الدَّابَّةُ بِأَنْ قَالَتْ: كَذَبَ وَلَيْسَ هُوَ نَبِيٌّ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي خلقه الله تعالى دال كذب الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ، لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَى وَفْقِ دَعْوَاهُ. وَكَذَلِكَ مَا يُرْوَى أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ لَعَنَهُ اللَّهُ تَفَلَ فِي بِئْرٍ لِيَكْثُرَ مَاؤُهَا فَغَارَتِ الْبِئْرُ وَذَهَبَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ، فَمَا فَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ هَذَا، كَانَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُكَذِّبَةِ لِمَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَهُ الْمُتَنَبِّئُ الْكَذَّابُ. وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ مِنْ شُرُوطِ الْمُعْجِزَةِ أَلَّا يَأْتِيَ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ الْمُتَحَدَّى عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ، فَإِنْ تَمَّ الْأَمْرُ الْمُتَحَدَّى بِهِ الْمُسْتَشْهَدُ بِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهِيَ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ، فَإِنْ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يُعَارِضُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ وَيَعْمَلَ مِثْلَ مَا عَمِلَ بَطَلَ كَوْنِهِ نَبِيًّا، وَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا وَلَمْ يَدُلْ عَلَى صِدْقِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ:" فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ" وَقَالَ:" أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ". كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ نَظْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَلِهِ فَاعْمَلُوا عَشْرَ سُورٍ مِنْ جِنْسِ نَظْمِهِ، فَإِذَا عَجَزْتُمْ بِأَسْرِكُمْ عَنْ ذَلِكَ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَظْمِهِ وَلَا مِنْ عَمَلِهِ. لَا يقال، إن المعجزات الْمُقَيَّدَةَ بِالشُّرُوطِ الْخَمْسَةِ لَا تَظْهَرُ إِلَّا عَلَى أيدي الصادقين، وهذا المسيخ الدَّجَّالُ فِيمَا رَوَيْتُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ، وَالْأُمُورِ الْجِسَامِ، مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ، فَإِنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ، وَهَذَا يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفُرْقَانِ مَا بَيْنَ الْبُصَرَاءِ وَالْعُمْيَانِ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى أَنَّ بِعْثَةَ بَعْضِ
الْخَلْقِ
71
إِلَى بَعْضٍ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ وَلَا مُسْتَحِيلَةٍ، فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقِيمَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَدِلَّةَ عَلَى صِدْقِ مَخْلُوقٍ أَتَى عَنْهُ بِالشَّرْعِ وَالْمِلَّةِ. وَدَلَّتِ الأدلة العقلية أيضا على أن المسيخ الدَّجَّالَ فِيهِ التَّصْوِيرُ وَالتَّغْيِيرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمُحْدَثَاتِ، تَعَالَى رَبُّ الْبَرِيَّاتِ عَنْ أَنْ يشبه شيئا أو يشبهه شي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

فصل [في أن المعجزات على ضربين]


إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: الْأَوَّلُ مَا اشْتَهَرَ نَقْلُهُ وَانْقَرَضَ عَصْرُهُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي مَا تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِصِحَّتِهِ وَحُصُولِهِ، وَاسْتَفَاضَتْ بِثُبُوتِهِ وَوُجُودِهِ، وَوَقَعَ لِسَامِعِهَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورَةً، وَمِنْ شروطه أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُونَ لَهُ: خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، وَأَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا نَقَلُوهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا، وَأَنْ يَسْتَوِيَ فِي النَّقْلِ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ وَوَسَطُهُمْ فِي كَثْرَةِ الْعَدَدِ، حَتَّى يَسْتَحِيلَ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ، وَهَذِهِ صِفَةُ نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَنَقْلِ وُجُودِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تَزَلْ تَنْقِلُ الْقُرْآنَ خَلَفًا عَنْ سَلَفِ وَالسَّلَفُ عَنْ سَلَفِهِ إِلَى أَنْ يَتَّصِلَ ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَعْلُومِ وَجُودُهُ بِالضَّرُورَةِ، وَصِدْقُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُعْجِزَاتِ، وَالرَّسُولُ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَنَقَلَ الْقُرْآنَ فِي الْأَصْلِ رَسُولَانِ مَعْصُومَانِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَنَقَلَهُ إِلَيْنَا بَعْدَهُمْ أَهْلُ التَّوَاتُرِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ وَيَسْمَعُونَهُ، لِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ وُجُودِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ ظُهُورِ الْقُرْآنِ عَلَى يَدَيْهِ وَتَحَدِّيهِ بِهِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الدُّنْيَا عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِمَا نُقِلَ إِلَيْهِ مِنْ وُجُودِ الْبُلْدَانِ، كَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَثِيرَةِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَالْقُرْآنُ مُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَاقِيَةُ بَعْدَهُ إِلَى يوم القيامة، ومعجزة كلى نبي انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل والتغير، كالتوراة والإنجيل.
72
ووجوه إعجاز القرآن عَشْرَةٌ: مِنْهَا النَّظْمُ الْبَدِيعُ الْمُخَالِفُ لِكُلِّ نَظْمٍ مَعْهُودٍ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَفِي غَيْرِهَا، لِأَنَّ نظمه ليس من نظم الشعر في شي، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبُّ الْعِزَّةِ الَّذِي تَوَلَّى نَظْمَهُ:" وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ أُنَيْسًا أَخَا أَبِي ذَرٍ قَالَ لِأَبِي ذَرٍ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، قُلْتُ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ يَقُولُونَ: شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، سَاحِرٌ، وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ، قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ «١» الشِّعْرِ فَلَمْ يَلْتَئِمْ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. وَكَذَلِكَ أَقَرَّ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِسَحَرٍ وَلَا بشعر لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" حم" فُصِّلَتْ، عَلَى مَا يَأْتِي بيانه هناك «٢»، فَإِذَا اعْتَرَفَ عُتْبَةُ عَلَى مَوْضِعِهِ مِنَ اللِّسَانِ وموشعه مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، بِأَنَّهُ مَا سَمِعَ مِثْلَ الْقُرْآنِ قَطُّ كَانَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مُقِرًّا بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ لَهُ وَلِضُرَبَائِهِ مِنَ الْمُتَحَقِّقِينَ بِالْفَصَاحَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّكَلُّمِ بِجَمِيعِ أَجْنَاسِ الْقَوْلِ وَأَنْوَاعِهِ. وَمِنْهَا: الْأُسْلُوبُ الْمُخَالِفُ لِجَمِيعِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ. وَمِنْهَا: الْجَزَالَةُ الَّتِي لَا تَصِحُّ مِنْ مَخْلُوقٍ بِحَالٍ، وَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ" ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «٣» " إِلَى آخِرِهَا، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:" وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ «٤» " إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:" وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ «٥» " إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: فَمَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْحَقُّ، عَلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَزَالَةِ لَا تَصِحُّ في خطاب غيره،. لا يَصْحُّ مِنْ أَعْظَمِ مُلُوكِ الدُّنْيَا أَنْ يَقُولَ:" لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «٦» " وَلَا أَنْ يَقُولَ:" وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ «٧» ". قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنَ النَّظْمِ، وَالْأُسْلُوبِ، وَالْجَزَالَةِ، لَازِمَةُ كُلِّ سُورَةٍ، بَلْ هِيَ لَازِمَةُ كُلِّ آيَةٍ، وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَتَمَيَّزُ مَسْمُوعُ كُلِّ آيَةٍ وَكُلِّ سُورَةٍ عَنْ سَائِرِ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَبِهَا وَقْعُ التَّحَدِّي وَالتَّعْجِيزُ، وَمَعَ هَذَا فَكُلُّ سُورَةٍ تَنْفَرِدُ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، مِنْ غير أن
(١). أقراء الشعر: أنواعه وطرقه وبحوره وأنحاؤه. [..... ]
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٣٧.
(٣). راجع ج ١٧ ص ١.
(٤). راجع ج ١٥ ص ٢٧٧.
(٥). راجع ج ٩ ص ٣٧٦.
(٦). راجع ج ١٥ ص ٣٠٠.
(٧). راجع ج ٩ ص ٢٩٦.
73
ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشر: فَهَذِهِ سُورَةُ" الْكَوْثَرِ" ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَهِيَ أَقْصَرُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ عَنْ مُغَيَّبَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْإِخْبَارُ عَنِ الْكَوْثَرِ وَعِظَمِهِ وَسِعَتِهِ وَكَثْرَةِ أَوَانِيهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَتْبَاعِ سَائِرِ الرُّسُلِ. وَالثَّانِي الْإِخْبَارُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ ذَا مَالٍ وَوَلَدٍ، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ الْحَقُّ:" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً «١» " ثُمَّ أهلك الله سبحان مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَانْقَطَعَ نَسْلُهُ. وَمِنْهَا التَّصَرُّفُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ عَرَبِيٌّ، حَتَّى يَقَعَ مِنْهُمُ الِاتِّفَاقُ مِنْ جَمِيعِهِمْ عَلَى إِصَابَتِهِ فِي وَضْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ وَحَرْفٍ مَوْضِعَهُ. وَمِنْهَا: الْإِخْبَارُ عَنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ في أول الدنيا إلى وقت تزوله مِنْ أُمِّيٍّ مَا كَانَ يَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا يَخُطُّهُ بِيَمِينِهِ، فَأَخْبَرَ بِمَا كَانَ مِنْ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أُمَمِهَا، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ فِي دَهْرِهَا، وَذَكَرَ مَا سَأَلَهُ أَهْلُ الكتاب عنه، وتحدوه به من قصص أَهْلِ الْكَهْفِ، وَشَأْنِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَحَالِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَجَاءَهُمْ وَهُوَ أُمِّيٌّ مِنْ أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ، لَيْسَ لَهَا بِذَلِكَ عِلْمٌ بِمَا عَرَفُوا مِنَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ صِحَّتَهُ، فَتَحَقَّقُوا صِدْقَهُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ: وَنَحْنُ نَعْلَمُ ضَرُورَةَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا عن تعلم، وإذا كَانَ مَعْرُوفًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُلَابِسًا لِأَهْلِ الآثار، وحملة، الأخبار، والا مترددا إلى المتعلم منهم، ولا كان منن يَقْرَأُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ إِلَيْهِ كِتَابٌ فَيَأْخُذُ منه، علم أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلَّا بِتَأْيِيدٍ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ. وَمِنْهَا: الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، المدرك بالحسن فِي الْعَيَانِ، فِي كُلِّ مَا وَعَدَ اللَّهُ سبحان، وَيَنْقَسِمُ: إِلَى أَخْبَارِهِ الْمُطْلَقَةِ، كَوَعْدِهِ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِخْرَاجِ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُ مَنْ وَطَنِهِ. وإلى مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ، كَقَوْلِهِ:" وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «٢» "... " وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ «٣» "... " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً «٤» " وَ" إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ «٥»، وَشِبْهُ ذَلِكَ وَمِنْهَا: الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ، فمن ذلك:
(١). راجع ج ١٩ ص ٧٠.
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٦١.
(٣). راجع ج ١٨ ص ١٣٩.
(٤). راجع ج ١٨ ص ١٥٧.
(٥). راجع ج ٨ ص ٤٤.
74
مَا وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ «١» " الْآيَةَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا أَغْزَى جُيُوشَهُ عَرَّفَهُمْ مَا وعدهم الله في إظهار دينه، ولثقوا بِالنَّصْرِ، وَلِيَسْتَيْقِنُوا بِالنُّجْحِ، وَكَانَ عُمَرُ يَفْعَلُ ذَلِكَ: فَلَمْ يَزَلِ الْفَتْحُ يَتَوَالَى شَرْقًا وَغَرْبًا، بَرًّا وَبَحْرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «٢» " وَقَالَ:" لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «٣» ". وَقَالَ" وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ «٤» " وَقَالَ:" الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ «٥» ". فَهَذِهِ كُلُّهَا أَخْبَارٌ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا يَقِفُ عَلَيْهَا إِلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ، أَوْ مَنْ أَوْقَفَهُ عَلَيْهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْقَفَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ لِتَكُونَ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ. وَمِنْهَا: مَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ جَمِيعِ الْأَنَامِ، فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَمِنْهَا الْحِكَمُ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ تَصْدُرَ فِي كَثْرَتِهَا وَشَرَفِهَا مِنْ آدَمِيٍّ. وَمِنْهَا: التَّنَاسُبُ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «٦» ". قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَوَجْهٌ حَادِي عَشْرَ قَالَهُ النَّظَّامُ وَبَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ: أَنَّ وَجْهَ الْإِعْجَازِ هو المنع من معارته، والصرفة عند التحدي بمثله. وأن المنة وَالصَّرْفَةَ هُوَ الْمُعْجِزَةُ دُونَ ذَاتِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أن الله تعال صَرَفَ هِمَمَهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ تَحَدِّيهِمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمُخَالِفِ أَنَّ الْقُرْآنَ هو المعجز، فلوا قُلْنَا إِنَّ الْمَنْعَ وَالصَّرْفَةَ هُوَ الْمُعْجِزُ لَخَرَجَ القرآن عن أن كونه معجزا، وذلك خلاف الإجماع، وإذ كَانَ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ هُوَ الْمُعْجِزُ، لِأَنَّ فَصَاحَتَهُ وَبَلَاغَتَهُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، إِذْ لَمْ يُوجَدُ قَطُّ كَلَامٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْكَلَامُ مَأْلُوفًا مُعْتَادًا مِنْهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ وَالصَّرْفَةَ لم يكن معجزا. واختلف من قال بهذا الصرفة
(١). راجع ج ٨ ص ١٢١.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٢٩٧.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٨٩. [..... ]
(٤). راجع ج ٧ ص ٣٦٩.
(٥). راجع ج ١٤ ص ١.
(٦). راجع ج ٥ ص ٢٩٠
75
على قولين: أحدهما: أنهم صرفوا على الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَعَرَّضُوا لَهُ لَعَجَزُوا عَنْهُ. الثَّانِي أَنَّهُمْ صُرِفُوا عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ مَعَ كَوْنِهِ فِي مَقْدُورِهِمْ، وَلَوْ تَعَرَّضُوا لَهُ لَجَازَ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" وَجْهُ التَّحَدِّي فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ بِنَظْمِهِ وَصِحَّةِ مَعَانِيهِ، وَتَوَالِي فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ. وَوَجْهُ إِعْجَازِهِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً، وَأَحَاطَ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ عِلْمًا، فَعَلِمَ بِإِحَاطَتِهِ أَيَّ لَفْظَةٍ تَصْلُحُ أَنْ تَلِيَ الْأُولَى، وَتُبَيِّنَ الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَعْنَى، ثُمَّ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ، وَالْبَشَرُ مَعَهُمُ الْجَهْلُ وَالنِّسْيَانُ وَالذُّهُولُ، وَمَعْلُومٌ ضَرُورَةً أَنَّ بَشَرًا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا قط، بهذا جَاءَ نَظْمُ الْقُرْآنِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الفصاحة. وبهذا النظر يبطل قوال مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانَ فِي قُدْرَتِهَا أَنْ تَأْتِيَ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ فِي الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْفَصَاحَةِ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُرِفُوا عَنْ ذَلِكَ، وَعَجَزُوا عَنْهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَيَظْهَرُ لَكَ قُصُورُ الْبَشَرِ فِي أَنَّ الْفَصِيحَ مِنْهُمْ يَضَعُ خُطْبَةً أَوْ قَصِيدَةً يَسْتَفْرِغُ فِيهَا جُهْدَهُ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يُنَقِّحُهَا حَوْلًا كَامِلًا، ثُمَّ تُعْطَى لِآخَرَ بَعْدَهُ فَيَأْخُذُهَا بِقَرِيحَةٍ جَامَّةٍ فَيُبَدِّلُ فِيهَا وَيُنَقِّحُ، ثُمَّ لَا تَزَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فيها مواضيع لِلنَّظَرِ وَالْبَدَلِ، وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ نُزِعَتْ مِنْهُ لَفْظَةٌ، ثُمَّ أُدِيرَ لِسَانُ الْعَرَبِ أَنْ يُوجَدَ أَحْسَنَ مِنْهَا لَمْ يُوجِدْ". وَمِنْ فَصَاحَةِ القرآن أن اله تَعَالَى جَلَّ ذِكْرِهِ، ذَكَرَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْرَيْنِ، وَنَهْيَيْنِ، وَخَبَرَيْنِ، وَبِشَارَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ «١» الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ فَاتِحَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: أَمْرٌ بِالْوَفَاءِ وَنَهْيٌ عَنِ النَّكْثِ، وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ حِكْمَتِهِ وَقَدْرَتِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنْبَأَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمَوْتِ، وَحَسْرَةِ الْفَوْتِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَثَوَابِهَا وَعِقَابِهَا، وَفَوْزِ الْفَائِزِينَ، وَتَرَدِّي الْمُجْرِمِينَ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا، وَوَصْفِهَا بِالْقِلَّةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «٢» " الْآيَةَ. وَأَنْبَأَ أَيْضًا عَنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَمَآلِ الْمُتْرَفِينَ، وَعَوَاقِبِ الْمُهْلِكِينَ، فِي شَطْرِ آيَةٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا
(١). آية ٧ سورة القصص.
(٢). آية ١٨٥ سورة آل عمران.
76
«١» ". وَأَنْبَأَ جَلَّ وَعَزَّ عَنْ أَمْرِ السَّفِينَةِ وَإِجْرَائِهَا وَإِهْلَاكِ الْكَفَرَةِ، وَاسْتِقْرَارِ السَّفِينَةِ وَاسْتِوَائِهَا، وَتَوْجِيهِ أَوَامِرِ التَّسْخِيرِ إِلَى الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ" وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها" الى قوله:" وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَلَمَّا عَجَزَتْ قُرَيْشٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَقَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقَوَّلَهُ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ «٢» ". ثُمَّ أَنْزَلَ تَعْجِيزًا أَبْلَغَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ:" أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ «٣» ". فَلَمَّا عَجَزُوا حَطَّهُمْ عَنْ هَذَا الْمِقْدَارِ، إِلَى مِثْلِ سُورَةٍ مِنَ السُّورِ الْقِصَارِ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:" وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «٤» ". فَأُفْحِمُوا عَنِ الْجَوَابِ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَعَدَلُوا إِلَى الْحُرُوبِ وَالْعِنَادِ، وَآثَرُوا سَبْيَ الْحَرِيمِ وَالْأَوْلَادِ، وَلَوْ قَدَرُوا عَلَى الْمُعَارَضَةِ لَكَانَ أَهْوَنَ كَثِيرًا، وَأَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ وَأَشَدَّ تَأْثِيرًا. هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ أَرْبَابَ الْبَلَاغَةِ وَاللَّحْنِ «٥»، وَعَنْهُمْ تُؤْخَذُ الْفَصَاحَةُ وَاللَّسَنُ «٦». فَبَلَاغَةُ الْقُرْآنِ فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ الْإِحْسَانِ، وَأَرْفَعِ دَرَجَاتِ الْإِيجَازِ وَالْبَيَانِ، بَلْ تَجَاوَزَتْ حَدَّ الْإِحْسَانِ وَالْإِجَادَةِ إِلَى حَيِّزِ الْإِرْبَاءِ وَالزِّيَادَةِ. هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا أُوتِيَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَاخْتُصَّ بِهِ مِنْ غَرَائِبِ الْحِكَمِ، إِذَا تَأَمَّلْتَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْجِنَانِ، وَإِنْ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْإِحْسَانِ، وَجَدْتَهُ مُنْحَطًّا عَنْ رُتْبَةِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" فيها مالا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَأَيْنَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ" وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ". وَقَوْلُهُ" فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ". هَذَا أَعْدَلُ وَزْنًا، وَأَحْسَنُ تَرْكِيبًا، وَأَعْذَبُ لَفَظًا، وَأَقَلُّ حُرُوفًا، عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إِلَّا فِي مِقْدَارِ سُورَةٍ أَوْ أَطْوَلِ آيَةٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّمَا طَالَ اتَّسَعَ فِيهِ مَجَالُ الْمُتَصَرِّفِ، وَضَاقَ الْمَقَالُ عَلَى الْقَاصِرِ الْمُتَكَلِّفِ، وَبِهَذَا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَرَبِ، إِذْ كَانُوا أَرْبَابَ الْفَصَاحَةِ، وَمَظِنَّةَ الْمُعَارَضَةِ، كَمَا قَامَتِ الْحُجَّةُ فِي مُعْجِزَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْأَطِبَّاءِ، وَمُعْجِزَةِ مُوسَى
(١). آية ٤٠ سورة العنكبوت.
(٢). آية ٣٣، ٣٤ سوره الطور.
(٣). آية ١٣ سورة هود.
(٤). آية ٢٣ سورة البقرة.
(٥). اللحن (بالتحريك): الفطنة واللغة.
(٦). اللسن (بالتحريك) الفصاحة.
77
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى السَّحَرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا جَعَلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِالْوَجْهِ الشَّهِيرِ أَبْرَعَ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ الذي أراد إظهاره، فكان السحرة فِي زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدِ انْتَهَى إِلَى غَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ الطِّبُّ فِي زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْفَصَاحَةُ فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

باب التنبيه على أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وغيره


لا التفات لما وضعه الواضعون، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، قَدِ ارْتَكَبَهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ اخْتَلَفَتْ أَغْرَاضُهُمْ وَمَقَاصِدُهُمْ فِي ارْتِكَابِهَا، فَمِنْ قَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ مِثْلِ: الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ الْكُوفِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الشَّامِيِّ الْمَصْلُوبِ فِي الزَّنْدَقَةِ، وَغَيْرِهِمَا، وَضَعُوا أَحَادِيثَ وَحَدَّثُوا بِهَا لِيُوقِعُوا بِذَلِكَ الشَّكَّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، فَمِمَّا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَنَا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نَبِيَّ بَعْدِي إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ" فَزَادَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لِمَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ. قُلْتُ: وقد ذكر ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ (التَّمْهِيدِ) وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ، بَلْ تَأَوَّلَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الرُّؤْيَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهُمْ قَوْمٌ وَضَعُوا الْحَدِيثَ لِهَوًى يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَيْهِ، قَالَ شَيْخٌ مِنْ شُيُوخِ الْخَوَارِجِ بَعْدَ أَنْ تَابَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ دِينٌ، فَانْظُرُوا مِمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ فَإِنَّا كُنَّا إِذَا هَوِينَا أَمْرًا صَيَّرْنَاهُ حَدِيثًا. وَمِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَضَعُوا الْحَدِيثَ حِسْبَةً كَمَا زَعَمُوا، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عِصْمَةَ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْمَرْوَزِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عُكَاشَةَ الْكِرْمَانِيِّ، وَأَحْمَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوَيْبَارِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. قِيلَ لِأَبِي عِصْمَةَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فَضْلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَاشْتَغَلُوا بِفِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَغَازِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَوَضَعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ حِسْبَةً. قَالَ أَبُو عَمْرٍو عثمان بن
78
الصَّلَاحِ فِي كِتَابِ (عِلُومِ الْحَدِيثِ) لَهُ: وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً، وَقَدْ بَحَثَ بَاحِثٌ عَنْ مُخْرِجِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَنَ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ وَجَمَاعَةٌ وَضَعُوهُ، وَأَنَّ أَثَرَ الْوَضْعِ عَلَيْهِ لَبَيِّنٌ. وَقَدْ أَخْطَأَ الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ وَمَنْ ذَكَرَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي إِيدَاعِهِ تَفَاسِيرَهُمْ. وَمِنْهُمْ قَوْمٌ مِنَ السُّؤَّالِ وَالْمُكْدِينَ يَقِفُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَسَاجِدِ، فَيَضَعُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ قَدْ حَفِظُوهَا، فَيَذْكُرُونَ الْمَوْضُوعَاتِ بِتِلْكَ الْأَسَانِيدِ، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّيَالِسِيُّ: صَلَّى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، فِي مَسْجِدِ الرُّصَافَةِ، فَقَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا قَاصٌّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ويحيى بن معين قلا أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُخْلَقُ مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهَا طَائِرٌ مِنْقَارُهُ مِنْ ذَهَبٍ وَرِيشُهُ مَرْجَانٌ. واخذ في قصته نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ وَرَقَةً، فَجَعَلَ أَحْمَدُ يَنْظُرُ إِلَى يَحْيَى وَيَحْيَى يَنْظُرُ إِلَى أَحْمَدَ، فَقَالَ: أَنْتَ حَدَّثْتَهُ بِهَذَا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِهِ إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ، قَالَ فَسَكَتَا جَمِيعًا حَتَّى فَرَغَ مِنْ قَصَصِهِ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، فَقَالَ أَنَا ابْنُ مَعِينٍ، وَهَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا قَطُّ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنَ الْكَذِبِ فَعَلَى غَيْرِنَا، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ أَحْمَقٌ، وَمَا عَلِمْتُهُ إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: وَكَيْفَ عَلِمْتَ أَنِّي أَحْمَقٌ؟ قَالَ: كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ غَيْرَكُمَا، كَتَبْتُ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ غَيْرِ هَذَا. قَالَ فَوَضَعَ أَحْمَدُ كُمَّهُ عَلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: دَعْهُ يَقُومُ، فَقَامَ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِهِمَا. فَهَؤُلَاءِ الطَّوَائِفُ كَذَبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن يَجْرِي مُجْرَاهُمْ. يُذْكَرُ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يُعْجِبُهُ الْحَمَامُ وَاللَّهْوُ بِهِ، فَأُهْدِيَ إِلَيْهِ حَمَامٌ وَعِنْدَهُ أبو البختري «١»
(١). أبو البختري: هو وهب بن وهب بن وهب بن كثير. انتقل من المدينة إلى بغداد في خلافة هارون الرشيد فولاه القضاء بعسكر المهدى (المحلة المعروفة بالرصافة بالجانب الشرقي من بغداد) ثم عزله وولاه القضاء بمدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد بكار الزبيري وجعل إليه ولاية حربها مع القضاء ثم عزله فقدم بغداد وأقام بها إلى أن توفى سنة مائتين
79
الْقَاضِي فَقَالَ: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ جَنَاحٍ" فَزَادَ: أَوْ جَنَاحٍ، وَهِيَ لَفْظَةٌ وَضَعَهَا لِلرَّشِيدِ، فَأَعْطَاهُ جَائِزَةً سَنِيَّةً، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ الرَّشِيدُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ كَذَّابٌ، وَأَمَرَ بِالْحَمَامِ أَنْ يُذْبَحَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا ذَنْبُ الْحَمَامِ؟ قَالَ: مِنْ أَجْلِهِ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَرَكَ الْعُلَمَاءُ حَدِيثَهُ لِذَلِكَ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ مَوْضُوعَاتِهِ، فَلَا يَكْتُبُ الْعُلَمَاءُ حَدِيثَهُ بِحَالٍ. قُلْتُ: فَلَوِ اقْتَصَرَ النَّاسُ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي تَدَاوَلَهَا الْعُلَمَاءُ، وَرَوَاهَا الْأَئِمَّةُ الْفُقَهَاءُ، لَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ غُنْيَةٌ، وَخَرَجُوا عَنْ تَحْذِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ:" اتَّقَوْا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ فممن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" الْحَدِيثَ. فَتَخْوِيفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ بِالنَّارِ عَلَى الْكَذِبِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُكْذَبُ عَلَيْهِ. فَحَذَارِ مِمَّا وَضَعَهُ أَعْدَاءُ الدِّينِ، وَزَنَادِقَةُ الْمُسْلِمِينَ، فِي بَابِ التَّرْغِيبِ والترهيب وغير ذلك، وأعظمهم ضررا أقوم مِنَ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى الزُّهْدِ، وَضَعُوا الْحَدِيثَ حِسْبَةً فِيمَا زَعَمُوا، فَتَقَبَّلَ النَّاسُ مَوْضُوعَاتِهِمْ، ثِقَةً مِنْهُمْ بهم، وركونا إليهم فضلوا وأضلوا.

باب ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان


لا خلاف بين الأمة ولأبين الْأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةً لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ وَأَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، مَقْرُوءٌ بِالْأَلْسِنَةِ، مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ، مَعْلُومَةٌ عَلَى الِاضْطِرَارِ سوره وآياته، مبرأة من الزيادة عَلَيْهِ أَوْ نُقْصَانًا مِنْهُ، فَقَدْ أَبْطَلَ الْإِجْمَاعَ، وَبَهَتَ النَّاسَ، وَرَدَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَرَدَّ قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «١» " وأبطل آية رسوله
(١). راجع ج ١٠ ص ٣٢٦.
80
عليه السلام، لأنه إذ ذاك يصير مقدورا عليه ٧ حين شيب الباطل، وَلَمَّا قُدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً وَلَا آية، وخرج عن أن كون مُعْجِزًا. فَالْقَائِلُ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ رَادٌّ لِكِتَابِ اللَّهِ وَلِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَكَانَ كَمَنْ قَالَ: الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ خَمْسُونَ صَلَاةً، وتزويج تِسْعٍ مِنَ النِّسَاءِ حَلَالٌ، وَفَرَضَ اللَّهُ أَيَّامًا مع ظهر رَمَضَانَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ فِي الدِّينِ، فَإِذَا رُدَّ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ، كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْقُرْآنِ أَثْبَتَ وَآكَدَ وَأَلْزَمَ وَأَوْجَبَ. قال الإمام أبو بكر محمد بن إلقام بْنِ بَشَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْعَقْلِ يَعْرِفُونَ مِنْ شَرَفِ الْقُرْآنِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ، مَا يُوجِبُهُ الْحَقُّ وَالْإِنْصَافُ وَالدِّيَانَةُ، وَيَنْفُونَ عَنْهُ قَوْلَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَمْوِيهَ الْمُلْحِدِينَ وَتَحْرِيفَ الزَّائِغِينِ، حَتَّى نَبَعَ فِي زَمَانِنَا هَذَا زَائِغٌ زاغ عن الملة وهجم على الأئمة بِمَا يُحَاوِلُ بِهِ إِبْطَالَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا يزال الله يؤيدها، ويثبت أسها، وينمي فروعها، وَيَحْرُسُهَا مِنْ مَعَايِبِ أُولِي الْجَنَفِ وَالْجَوْرِ، وَمَكَايِدِ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ وَالْكُفْرِ. فَزَعَمَ أَنَّ الْمُصْحَفَ الَّذِي جمعة عثمان رضى اله عَنْهُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَصْوِيبِهِ فِيمَا فَعَلَ لَا يشتمل على جمع الْقُرْآنِ، إِذْ كَانَ قَدْ سَقَطَ مِنْهُ خَمْسُمِائَةِ حَرْفٍ، قَدْ قَرَأْتُ بِبَعْضِهَا وَسَأَقْرَأُ بِبَقِيَّتِهَا، فَمِنْهَا:" وَالْعَصْرِ وَنَوَائِبِ الدَّهْرِ" فَقَدْ سَقَطَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ" وَنَوَائِبِ الدَّهْرِ". وَمِنْهَا:" حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا". فَادَّعَى هَذَا الْإِنْسَانُ أَنَّهُ سَقَطَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْقُرْآنِ:" وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا"، وَذَكَرَ مِمَّا يَدَّعِي حُرُوفًا كَثِيرَةً. وَادَّعَى أَنَّ عُثْمَانَ وَالصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ زَادُوا فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ فِيهِ، فَقَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّاسُ يَسْمَعُونَ:" اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ" فَأَسْقَطَ مِنَ الْقُرْآنِ" قُلْ هُوَ" وغير لفظ
81
" أَحَدٌ" وادعى أن هذا هو الصواب عَلَيْهِ النَّاسُ هُوَ الْبَاطِلُ وَالْمُحَالُ، وَقَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ" قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" وَطَعَنَ فِي قِرَاءَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَادَّعَى أَنَّ الْمُصْحَفَ الَّذِي فِي أَيْدِينَا اشْتَمَلَ عَلَى تَصْحِيفِ حُرُوفٍ مُفْسِدَةٍ مُغَيَّرَةٍ، مِنْهَا:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «١» " فَادَّعَى أَنَّ الْحِكْمَةَ وَالْعِزَّةَ لَا يُشَاكِلَانِ الْمَغْفِرَةَ، وَأَنَّ الصَّوَابَ:" وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". وَتَرَامَى بِهِ الْغَيُّ فِي هَذَا وَأَشْكَالِهِ حَتَّى ادَّعَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُصَحِّفُونَ:" وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً" وَالصَّوَابُ الَّذِي لَمْ يُغَيَّرْ عِنْدَهُ:" وَكَانَ عَبْدًا لِلَّهِ وَجِيهًا"، وَحَتَّى قَرَأَ فِي صَلَاةٍ مُفْتَرَضَةٍ عَلَى مَا أَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ سَمِعُوهُ وَشَهِدُوهُ:" لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ إِنْ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقِرَاءَتَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قِرَاءَتَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا نَبَأً بِهِ". وَحَكَى لَنَا آخَرُونَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ يَقْرَأُ:" وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ بِسَيْفِ عَلِيٍّ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٍ". وَرَوَى هَؤُلَاءِ أَيْضًا لَنَا عَنْهُ قَالَ:" هَذَا صِرَاطُ عَلِيٍّ مُسْتَقِيمٌ". وَأَخْبَرُونَا أَنَّهُ أَدْخَلَ فِي آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَا يُضَاهِي فَصَاحَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَدْخُلُ فِي لِسَانِ قَوْمِهِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ:" وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ" فَقَرَأَ:" أَلَيْسَ قُلْتَ لِلْنَّاسِ" فِي مَوْضِعِ:" أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ" وَهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي نَحْوِ الْمُعْرِبِينَ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَذَاهِبِ النَّحْوِيِّينَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَقُلْ: لَيْسَ قُمْتَ، فَأَمَّا: لَسْتَ قمت، بالتاء فشاذ قبيح خبيث ردئ، لِأَنَّ لَيْسَ لَا تَجْحَدُ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلَ هَذَا إِلَّا فِي قَوْلِهِمْ: أَلَيْسَ قَدْ خَلَقَ اللَّهُ مِثْلَهُمْ، وَهُوَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ لَا يُحْمَلُ كِتَابُ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَادَّعَى أَنَّ عثمان رضى اله عَنْهُ لَمَّا أَسْنَدَ جَمْعَ الْقُرْآنِ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لَمْ يُصِبْ، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كَانَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ زَيْدٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَقْرَأُ أُمَّتِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ" وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ". وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: لِي أَنْ أُخَالِفَ مُصْحَفَ عُثْمَانَ كَمَا خَالَفَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، فَقَرَأَ:" إِنَّ هَذَيْنِ «٢» "،" فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ"، وَبَشِّرْ عِبَادِيَ الَّذِينَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ،" فَمَا أَتَانِيَ اللَّهُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَالَّذِي فِي المصحف:" إِنْ هذانِ «٣» " بالألف،
(١). آية ١١٨ سورة المائدة. [..... ]
(٢). بتشديد النون، قراءة نافع.
(٣). بتشديد النون، قراءة نافع.
82
" فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ" بِغَيْرِ وَاوٍ،" فَبَشِّرْ عِبادِ"،" فَمَا آتان الله" بغير ياءين في الموضعين.. كما خَالَفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ فَقَرَءُوا:" كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ" بِإِثْبَاتِ نُونَيْنِ، يَفْتَحُ الثَّانِيَةَ بَعْضُهُمْ وَيُسْكِنُهَا بَعْضُهُمْ، وَفِي الْمُصْحَفِ نُونٌ وَاحِدَةٌ «١»، وَكَمَا خَالَفَ حَمْزَةُ الْمُصْحَفَ فَقَرَأَ:" أَتَمُدُّونِ بِمَالٍ" بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَوَقَفَ عَلَى الْيَاءِ، وَفِي الْمُصْحَفِ نُونَانِ وَلَا يَاءَ بِعَدَهُمَا، وَكَمَا خَالَفَ حَمْزَةُ أَيْضًا الْمُصْحَفَ فَقَرَأَ:" أَلَا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ" بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَإِثْبَاتُ الْأَلْفِ يُوجِبُ التَّنْوِينَ، وَكُلُّ هَذَا الَّذِي شَنَّعَ بِهِ عَلَى الْقُرَّاءِ مَا يُلْزِمُهُمْ بِهِ خِلَافٌ لِلْمُصْحَفِ. قُلْتُ: قَدْ أَشَرْنَا إِلَى الْعَدِّ فيما تقدم مما اختلف فِيهِ الْمَصَاحِفُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَكَرَ هَذَا الْإِنْسَانُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ هُوَ الَّذِي قَرَأَ" كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا" وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَثِيرٍ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ، وَمُجَاهِدٌ قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ" حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ"، فِي رِوَايَةٍ وَقَرَأَ أُبَيٌّ الْقُرْآنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ مُتَّصِلٌ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَقَلَهُ أَهْلُ الْعَدَالَةِ وَالصِّيَانَةِ، وَإِذَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرٌ لَمْ يُؤْخَذْ بِحَدِيثٍ يُخَالِفُهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ الْمُبَارَكِ الْيَزِيدِيُّ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَقَرَأَ أبي عَمْرٍو عَلَى مُجَاهِدٍ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِيهَا" وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهَا إِلَّا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا" فَمَنْ جَحَدَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ وَلَا آثِمٍ. حَدَّثَنِي أبي نبأنا نصر بن الصَّاغَانِيُّ نَبَّأَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: مَا يُرْوَى مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي تُخَالِفُ الْمُصْحَفَ الَّذِي عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي يَعْرِفُ أَسَانِيدَهَا الْخَاصَّةُ دون العامة فيما نقلوا عَنْ أُبَيٍّ:" وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهَا إِلَّا بذنوب أهلها"، وعن ابن عباس
(١). يلاحظ أن الذي في المصحف نونان.
83
" لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحِجِّ". وَمِمَّا يَحْكُونَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَرَأَ:" غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّالِينَ" مَعَ نَظَائِرَ لِهَذِهِ الْحُرُوفِ كَثِيرَةٍ لَمْ يَنْقُلْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ بِهَا تَحِلُّ، وَلَا عَلَى أَنَّهَا مُعَارَضٌ بِهَا مُصْحَفُ عُثْمَانَ، لِأَنَّهَا حُرُوفٌ لَوْ جَحَدَهَا جَاحِدٌ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا، وَالْقُرْآنُ الَّذِي جَمَعَهُ عُثْمَانُ بِمُوَافَقَةِ الصَّحَابَةِ لَهُ لَوْ أَنْكَرَ بَعْضَهُ مُنْكِرٌ كَانَ كَافِرًا، حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَمْ يَزَلْ صَنِيعُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمْعِهِ الْقُرْآنَ يُعْتَدُّ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ مَنَاقِبِهِ الْعِظَامِ، وَقَدْ طَعَنَ عَلَيْهِ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الزَّيْغِ فَانْكَشَفَ عَوَارُهُ، وَوَضَحَتْ فَضَائِحُهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ حُدِّثْتُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: طَعَنَ قَوْمٌ عَلَى عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِحُمْقِهِمْ جَمْعَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَرَءُوا بِمَا نَسَخَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَذْهَبُ أَبُو مِجْلَزٍ إِلَى أَنَّ عُثْمَانَ أَسْقَطَ الَّذِي أَسْقَطَ بِعِلْمٍ كَمَا أَثْبَتَ الَّذِي أثبت بعلك. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ" دَلَالَةٌ عَلَى كُفْرِ هَذَا الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِذَا قَرَأَ قَارِئٌ:" تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَمُرَيَّتُهُ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ" فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَقَوَّلَهُ مَا لَمْ يَقُلْ، وَبَدَّلَ كِتَابَهُ وَحَرَّفَهُ، وَحَاوَلَ مَا قَدْ حَفِظَهُ مِنْهُ وَمَنَعَ مِنَ اخْتِلَاطِهِ بِهِ، وَفِي هَذَا الَّذِي أَتَاهُ تَوْطِئَةُ الطَّرِيقِ لِأَهْلِ الْإِلْحَادِ، لِيُدْخِلُوا فِي الْقُرْآنِ ما يحلون به عر الْإِسْلَامِ، وَيَنْسِبُونَهُ إِلَى قَوْمٍ كَهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَحَالُوا هَذَا بِالْأَبَاطِيلِ عَلَيْهِمْ. وَفِيهِ إِبْطَالُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي بِهِ يُحْرَسُ الْإِسْلَامُ، وَبِثَبَاتِهِ تُقَامُ الصَّلَوَاتُ، وَتُؤَدَّى الزَّكَوَاتُ وَتُتَحَرَّى الْمُتَعَبَّدَاتُ. وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تعالى:" الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ" دَلَالَةٌ عَلَى بِدْعَةِ هَذَا الْإِنْسَانِ وَخُرُوجِهِ إِلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ مَعْنَى" أُحْكِمَتْ آياتُهُ": مَنَعُ الْخَلْقَ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْ يَزِيدُوا فِيهَا، أَوْ يُنْقِصُوا مِنْهَا أَوْ يُعَارِضُوهَا بِمِثْلِهَا، وَقَدْ وَجَدْنَا هَذَا الْإِنْسَانَ زَادَ فِيهَا: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ بِعَلِيٍّ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا. فَقَالَ فِي الْقُرْآنِ هُجْرًا، وَذَكَرَ عَلِيًّا فِي مَكَانٍ لَوْ سَمِعَهُ يَذْكُرُهُ فِيهِ لَأَمْضَى عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ. وَأَسْقَطَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ
84
" قُلْ هُوَ" وَغَيَّرَ" أَحَدٌ" فَقَرَأَ: اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ. وَإِسْقَاطُ مَا أَسْقَطَهُ نَفْيٌ لَهُ وَكُفْرٌ، وَمَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ وَأَبْطَلَ مَعْنَى الْآيَةِ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ قَالُوا: نَزَلَتِ الْآيَةُ جَوَابًا لِأَهْلِ الشِّرْكِ لَمَّا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِفْ لَنَا رَبَّكَ، أَمِنْ ذَهَبٍ أَمْ مِنْ نُحَاسٍ أَمْ مِنْ صُفْرٍ؟ فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ رَدًّا عَلَيْهِمْ:" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" فَفِي" هُوَ" دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ الرَّدِّ وَمَكَانِ الْجَوَابِ، فَإِذَا سَقَطَ بَطُلَ مَعْنَى الْآيَةِ، وَوَضَحَ الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّكْذِيبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ لِهَذَا الْإِنْسَانِ وَمَنْ يَنْتَحِلُ نُصْرَتَهُ: أَخْبِرُونَا عَنِ القرآن الذي نقرؤه وَلَا نَعْرِفُ نَحْنُ وَلَا مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ أَسْلَافِنَا سِوَاهُ، هَلْ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، صَحِيحُ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي عَارٍ عَنِ الْفَسَادِ وَالْخَلَلِ؟ أَمْ هُوَ وَاقِعٌ عَلَى بَعْضِ الْقُرْآنِ وَالْبَعْضِ الْآخَرِ غَائِبٌ عَنَّا كَمَا غَابَ عَنْ أَسْلَافِنَا وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا؟ فَإِنْ أَجَابُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي مَعَنَا مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ الْقُرْآنِ لَا يسقط منه شي، صَحِيحُ اللَّفْظِ وَالْمَعَانِي، سَلِيمُهَا مِنْ كُلِّ زَلَلٍ وَخَلَلٍ، فَقَدْ قَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حِينَ زَادُوا فِيهِ" فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلَيْسَ لَهُ شَرَابٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ مِنْ عَيْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتٍ الْجَحِيمِ" فَأَيُّ زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْضَحُ مِنْ هَذِهِ، وَكَيْفَ تُخْلَطُ بِالْقُرْآنِ وَقَدْ حَرَسَهُ اللَّهُ مِنْهَا وَمَنَعَ كُلَّ مُفْتَرٍ وَمُبْطِلٍ مِنْ أَنْ يُلْحِقَ بِهِ مِثْلَهَا، وَإِذَا تُؤُمِّلَتْ وَبُحِثَ عَنْ مَعْنَاهَا وُجِدَتْ فَاسِدَةً غَيْرَ صَحِيحَةٍ، لَا تُشَاكِلُ كَلَامَ الْبَارِي تَعَالَى وَلَا تُخْلَطُ بِهِ، وَلَا تُوَافِقُ مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ أن بعدها" لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ" فَكَيْفَ يُؤْكَلُ الشَّرَابُ، وَالَّذِي أَتَى بِهِ قَبْلَهَا: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلَيْسَ لَهُ شَرَابٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ مِنْ عَيْنٍ تَجْرِي من تحت الجحيم لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ. فَهَذَا مُتَنَاقِضٌ يُفْسِدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لِأَنَّ الشَّرَابَ لَا يُؤْكَلُ، وَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَكَلْتُ الْمَاءَ، لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: شَرِبْتُهُ وَذُقْتُهُ وَطَعِمْتُهُ
، وَمَعْنَاهُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الصِّحَّةِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي مَنْ خَالَفَ حَرْفًا مِنْهُ كَفَرَ." وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ" لَا يَأْكُلُ الْغِسْلِينَ إِلَّا الْخَاطِئُونَ أَوْ لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ إِلَّا الْخَاطِئُونَ. وَالْغِسْلِينُ: مَا يَخْرُجُ من أجوافهم من شحم وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الصَّدِيدِ وَغَيْرِهِ، فَهَذَا طَعَامٌ يُؤْكَلُ عِنْدَ الْبَلِيَّةِ وَالنِّقْمَةِ، وَالشَّرَابُ مُحَالٌ أن
85
يؤكل. فإن ادعى هذا الإنسان أن الْبَاطِلَ الَّذِي زَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ" مِنْ عَيْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ الْجَحِيمِ" لَيْسَ بَعْدَهَا" لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ" وَنَفَى هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ لِتَصِحَّ لَهُ زِيَادَتَهُ، فَقَدْ كَفَرَ لَمَّا جَحَدَ آيَةً مِنَ القرآن. وحسبك بهذا لقوله رَدًّا لِقَوْلِهِ، وَخِزْيًا لِمَقَالِهِ. وَمَا يُؤْثَرُ عَنِ الصحابة والتابعين أنهم قرءوا بِكَذَا وَكَذَا إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ قُرْآنٌ يُتْلَى، وَكَذَلِكَ مَا نُسِخَ لَفَظُهُ وَحُكْمُهُ أَوْ لَفَظُهُ دُونَ حُكْمِهِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْقَوْلُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ
وَفِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ أَوَّلِ كُلِّ قِرَاءَةٍ فَقَالَ تَعَالَى:" فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ" أَيْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقْرَأَ، فَأَوْقَعَ الْمَاضِيَ مَوْقِعَ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
" والأخرى فرع، لا أنا ندفع إلخ". والزيادة والتصويب عن ابن عطية.
وَإِنِّي لَآتِيكُمْ لِذِكْرِي الَّذِي مَضَى مِنَ الْوُدِّ وَاسْتِئْنَافِ مَا كَانَ فِي غَدِ
أَرَادَ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَأَنَّ كُلَّ فِعْلَيْنِ تَقَارَبَا فِي الْمَعْنَى جَازَ تَقْدِيمُ أَيِّهِمَا شِئْتَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى" المعنى فتدلى ثم دنى، ومثله:" اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ" وَهُوَ كَثِيرٌ. الثَّانِيَةُ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى النَّدْبِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي كُلِّ قِرَاءَةٍ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الصَّلَاةِ. حَكَى النَّقَّاشُ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ وَاجِبَةٌ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَقَوْمٌ يَتَعَوَّذُونَ فِي الصَّلَاةِ كُلَّ رَكْعَةٍ، وَيَمْتَثِلُونَ أَمْرَ اللَّهِ فِي الِاسْتِعَاذَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ يَتَعَوَّذَانِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنَ الصَّلَاةِ وَيَرَيَانِ قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ كُلِّهَا كَقِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَالِكٌ لَا يَرَى التَّعَوُّذَ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَيَرَاهُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ. الثَّالِثَةُ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا آيَةً مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَارِئِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَهَذَا اللَّفْظُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ العلماء في التعوذ لأنه
(١). راجع ج ٢ ص ٦١.
86
لَفْظُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ هَكَذَا أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَنِ الْقَلَمِ". الرَّابِعَةُ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِمَا عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ رَأَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي صَلَاةً فَقَالَ عَمْرٌو «١»: لَا أَدْرِي أَيَّ صَلَاةِ هِيَ؟ فَقَالَ:" اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا ثَلَاثًا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ثَلَاثًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثَلَاثًا أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وهمزه". قال عمرو همزه الموتة، وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ، الموتة يَعْنِي الْجُنُونَ. وَالنَّفْثُ: نَفْخُ الرَّجُلِ مِنْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَ رِيقَهُ. وَالْكِبْرُ: التِّيهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل گبر ثُمَّ يَقُولُ:" سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثَلَاثًا ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا ثَلَاثًا أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ"، ثُمَّ يَقْرَأُ. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ «٢» رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّ الله هم السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ ابن عطية:" وأما المقرءون فَأَكْثَرُوا فِي هَذَا مِنْ تَبْدِيلِ الصِّفَةِ فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْجِهَةِ الْأُخْرَى، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ الْمَجِيدِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ، وَنَحْوِ هَذَا مِمَّا لَا أَقُولُ فِيهِ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ، وَلَا أَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ". الْخَامِسَةُ قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى إِظْهَارِ الِاسْتِعَاذَةِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةِ سُورَةِ" الْحَمْدُ" إِلَّا حَمْزَةَ فإنه أسرها.. روى السدي «٣» عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتحون الْقِرَاءَةَ بِالْبَسْمَلَةِ. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ التَّعَوُّذَ فَرْضٌ، فَإِذَا نَسِيَهُ
(١). لعله عمرو بن مرة المذكور في سند هذا الحديث (انظر سنن ابن ماجة ج ١ ص ١٣٩ وسنن أبي داود ج ١ ص ٧٧ طبع مصر).
(٢). في بعض النسخ:" أبي القاسم".
(٣). في بعض النسخ:" المسي".
87
الْقَارِئُ وَذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْحِزْبِ قَطَعَ وَتَعَوَّذَ، ثم ابتدأ من أوله. وبعضهم يقول: يستعسذ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَسَانِيدُ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ، وَبِالثَّانِي قَالَ أَسَانِيدُ الشَّامِ وَمِصْرَ. السَّادِسَةُ حَكَى الزَّهْرَاوِيُّ قَالَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الصَّلَاةِ وَنُدِبْنَا إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ. قَالَ غَيْرُهُ: كَانَتْ فَرْضًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، ثُمَّ تَأَسَّيْنَا بِهِ. السَّابِعَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ، وَقَالَهُ دَاوُدُ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ:" انْتَهَى الْعِيُّ بِقَوْمٍ إِلَى أَنْ قَالُوا: إِذَا فَرَغَ الْقَارِئُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَهَذَّا نص وفإن الْفَائِدَةُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقْتَ القراءة؟ قلنا: فائدتها امتثال الأمر، ليس لِلشَّرْعِيَّاتِ فَائِدَةٌ إِلَّا الْقِيَامُ بِحَقِّ الْوَفَاءِ لَهَا فِي امْتِثَالِهَا أَمْرًا أَوِ اجْتِنَابَهَا نَهْيًا، وَقَدْ قِيلَ: فَائِدَتُهَا امْتِثَالُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «١» ". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَجَدْنَاهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ:" فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «٢» " قَالَ: ذَلِكَ بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ لِمَنْ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ، وَلَا يَعَضِّدْهُ نَظَرٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الِاسْتِعَاذَةَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ كَانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ دَعْوَى عَرِيضَةً، وَلَا تُشْبِهُ أَصْلَ مَالِكٍ وَلَا فَهْمَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِسِرِّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ". الثَّامِنَةُ فِي فَضْلِ التَّعَوُّذِ. رَوَى مسلم عن سليمان بن صرد قال: استتب رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:" إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". فقام إلى الرجل مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلْ تدري ما قال
(١). آية ٥٢ سورة الحج.
(٢). آية ٩٨ سورة النحل.
88
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آنِفًا؟ قَالَ:" إِنِّي لِأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَمَجْنُونَا تَرَانِي! أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إن الشيطان قد حلا بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يُلْبِّسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ «١» فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فتعوذ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا" قَالَ: فَفَعَلْتُ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الليل قال:" يأرص رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ ومن شَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ وَمِنْ شَرِّ مَا يدب عليك ومن أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكني الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ. وَرَوَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خلق لم يضره شي حتى يرتحل". وأخرجه الْمُوَطَّأُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صحيح. وما يتعوذ منه كثيرا ثَابِتٌ فِي الْأَخْبَارِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. التَّاسِعَةُ مَعْنَى الاستعاذة في كلام العرب، الستجارة وَالتَّحَيُّزُ إِلَى الشَّيْءِ عَلَى، مَعْنَى الِامْتِنَاعِ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، يُقَالُ: عُذْتُ بِفُلَانٍ وَاسْتَعَذْتُ بِهِ، أي لجأت إليه. وهو عياذي، أي ملجئ. وَأَعَذْتُ غَيْرِي بِهِ وَعَوَّذْتُهُ بِمَعْنًى. وَيُقَالُ: عَوْذٌ بِاللَّهِ مِنْكَ، أَيْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، قَالَ الرَّاجِزُ:
قَالَتْ وَفِيهَا حَيْدَةٌ وَذُعْرُ عَوْذٌ بِرَبِّي مِنْكُمْ وَحُجْرُ
وَالْعَرَبُ تَقُولُ عِنْدَ الْأَمْرِ [تُنْكِرُهُ «٢»]: حُجْرًا لَهُ (بِالضَّمِّ) أَيْ دَفْعًا، وَهُوَ اسْتِعَاذَةٌ مِنَ الْأَمْرِ. وَالْعَوْذَةُ وَالْمُعَاذَةُ وَالتَّعْوِيذُ كُلُّهُ بِمَعْنًى. واصل أَعْوُذُ نُقِلَتِ الضَّمَّةُ إِلَى الْعَيْنِ لِاسْتِثْقَالِهَا عَلَى الواو فسكنت.
(١). قوله: يقال له خنزب. في نهاية ابن الأثير:" قال أبو عمرو: وهو لقب له، والخنزب (بالفتح): قطعة لحم منتنة ويروى بالكسر والضم".
(٢). الزيادة عن لسان العرب مادة (حجر).
89
العاشرة الشيطان واتحد الشَّيَاطِينِ، عَلَى التَّكْسِيرِ وَالنُّونُ أَصْلِيَّةٌ، لِأَنَّهُ مِنْ شَطَنَ إِذَا بَعُدَ عَنِ الْخَيْرِ. وَشَطَنَتْ دَارُهُ أي بعدت، قال الشاعر «١»:
نَأْتِ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوًى شَطُونُ فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا رَهِينُ
وَبِئْرٌ شَطُونٌ أَيْ بَعِيدَةُ الْقَعْرِ. وَالشَّطَنُ: الْحَبْلُ، سُمِّيَ بِهِ لِبُعْدِ طَرَفَيْهِ وَامْتِدَادِهِ. وَوَصْفَ أَعْرَابِيٌّ فَرَسًا [لَا يَحْفَى «٢»] فَقَالَ: كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ فِي أَشْطَانٍ. وَسُمِّيَ الشَّيْطَانُ شَيْطَانًا لِبُعْدِهِ عن الحق وتمره، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ شَيْطَانٌ، قَالَ جَرِيرٌ:
أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلٍ وَهُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا
وَقِيلَ: إِنَّ شَيْطَانًا مَأْخُوذٌ مِنْ شَاطَ يشيط إذا هلك «٣»، فلنون زَائِدَةٌ. وَشَاطَ إِذَا احْتَرَقَ. وَشَيَّطَتِ اللَّحْمَ إِذَا دخنته ولم تنصحه. وَاشْتَاطَ الرَّجُلُ إِذَا احْتَدَّ غَضَبًا. وَنَاقَةٌ مِشْيَاطٌ الَّتِي يَطِيرُ فِيهَا السِّمَنُ. وَاشْتَاطَ إِذَا هَلَكَ، قال الأعشى:
قد نضخب الْعِيرَ مِنْ مَكْنُونِ فَائِلِهُ «٤» وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ
أَيْ يَهْلَكُ. وَيَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ أَنَّ سِيبَوَيْهِ حَكَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: تَشَيْطَنَ فُلَانٌ إِذَا فَعَلَ أَفْعَالَ الشَّيَاطِينِ، فَهَذَا بين إنه تفعيل مِنْ شَطَنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ شَاطَ لَقَالُوا: تَشَيَّطَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بَيْتُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ «٥» وَرَمَاهُ فِي السِّجْنِ وَالْأَغْلَالِ
فَهَذَا شَاطِنٌ مِنْ شَطَنَ لا شك فيه. الحادية عشر الرَّجِيمُ أَيِ الْمُبْعَدُ مِنَ الْخَيْرِ الْمُهَانِ. وَأَصْلُ الرجم الرمي بأحجاره، وَقَدْ رَجَمْتُهُ أَرْجُمُهُ، فَهُوَ رَجِيمٌ وَمَرْجُومٌ. وَالرَّجْمُ: الْقَتْلُ وَاللَّعْنُ وَالطَّرْدُ وَالشَّتْمُ، وَقَدْ قِيلَ هَذَا كُلُّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ". وَقَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ:" لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ". وسيأتي «٦» إن شاء اله تعالى.
(١). هو النابغة الذبياني، كما في لسان العرب مادة (شطن).
(٢). الزيادة عن لسان العرب مادة (شطن).
(٣). في الأصول:" إذا بطل" والتصويب عن اللسان. [..... ]
(٤). الفائل: عرق في الفخذين يكون في خربة الورك ينحدر في الرجلين.
(٥). عكاه في الحديد والوثاق إذا أشده.
(٦). راجع ج ١ ص ١١١ وج ١٣ ص ١٢١.
90
Icon