تفسير سورة الإسراء

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
( سورة بني إسرائيل مكية ). ١
١ من م، في الاصل : ذكر أن سورة بني إسرئيل وهي مكية..

سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
مكية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا).
(سُبْحَانَ): كلمة إجلال اللَّه عن الأكفاء، وتنزيهه عن الشركاء، وتبريئه عما قالت المعطّلة فيه وظنت الملاحدة به: من الولد، والحاجات، والآفات، وجميع معاني الخلق.
وروي في بعض الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن تفسير: (سُبْحَانَ اللَّهِ)؛ قال: هو تنزيه اللَّه عن كل سوء.
ومعنى قوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا) هو - واللَّه أعلم - كأنه ذكر أن من قدر على أن يسري بعبده ليلًا مسيرة شهر يقدر على إحياء الموتى بعد الموت، ويملك: حفظ رسوله والنصر له وإظهار آيات نبوته ورسالته، وقطع جميع حيل المكذبين له والمخالفين.
وقوله: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا).
سماه أقصى، وهو الأبعد، من قصا يقصو قصوّا؛ فهو قاصي، كأنه لم يكن يومئذ إلا المسجد الحرام - ومسجده بالمدينة ومسجد بيت المقدس؛ فسماه لذلك - واللَّه أعلم - المسجد الأقصى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)
سميّ: مباركًا؛ لكثرة أنزاله وخيراته وسعته.
وقيل: سميّ: مباركًا؛ لأنه مكان الأنبياء ومقامهم؛ فبورك فيه ببركتهم منافع، والله أعلم.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا).
أي: لنريه من آياتنا الحسية بعد ما أراه الآيات العقليَّة؛ لأن الآيات الحسية أكبر في قطع الشبه ودفع الوساوس من العقلية؛ إذ لا يشك أحد فيما كان سبيل معرفته الحسق والعيان. وقد يعترض ربما الشبه والوساوس في العقليات؛ لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو؛ فأَحبَّ - عَزَّ وَجَلَّ - أن يري رسوله آيات حسية تضطر المنصفين على قبولها، والإيمان بها، والإقرار له أنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لما يعلمون أن ما كان يخبرهم من أخبار - حيث قال: إنه رأى عِيرَ فلان، وأمورًا - يعلمون أنه لا يقول إلا عن مشاهدة وعيان؛ لأنه كان ما أتى من الآيات العقليات قالوا: إنه سحر، وما ذكر من الأشياء التي كانت في كتبهم المتقدمة - قالوا: (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، و (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ).
ليس ذلك عمل سحر ولا إفكًا ولا افتراء ولا أساطير الأولين؛ على ما نسبوه إلى السحر مرة وإلى الإفك والافتراء ثانيًا، ونحوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
أي: من قدر على ما ذكر لا يحتمل أن يخفى عليه شيء من قول أو عمل، ثم ما روي من الأخبار أنه عُرِج به إلى السماء حتى رأى إخوانه الأنبياء الماضين قبله، وما ذكر فيها - فنحن نقول ما قال الصديق - رضوان اللَّه عليه -: " إن كان قال ذلك فأنا أشهد على ذلك "، وإلا نَقُلْ على مقدار، ما في الآية: إنه أسرى به إلى بيت المقدس المسجد الأقصى، ولا نزيد عليه؛ لأته من أخبار الآحاد فلا تسع الشهادة له.
* * *
قوله تعالى: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (٣) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ).
يعني: التوراة.
(وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ).
كل كتب اللَّه: هدى لمن استهدى، ورشد لمن استرشد، وبيان لمن استوضح؛ لأنها دعت إلى ثلاث خصال: دعت إلى معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، وصالح الأعمال.
ونهت عن ثلاث: عن مساوي الأعمال، وعن سفاسف الأمور، ودناءة الأخلاق ورداءتها.
ذكر أنه جعل الكتاب هدى لبنى إسرائيل؛ لأن منفعة الكتاب حصلت لهم: أنهم هم الذين استهدوا به؛ فعلى ذلك هو هدى لمن استهدى، واللَّه أعلم.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا).
أي: معتمدًا، أي: قلنا لهم فيه، أو ذكرنا لهم فيه، أو أمرناهم فيه: ألا تتخذوا من دوني وكيلًا، أي: معتمدًا موكولًا، الوكيل: هو موكول الأمر إليه، معتمد في الأحوال عليه، قائم في جميع ما وكل إليه بالتبرع والتفضل.
وقوله - عَزَّ وجل -: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (٣)
قَالَ بَعْضُهُمْ: يعني بالذرية الأنبياء الذين كانوا من قبل، أي: كانوا من ذرية نوح ومن حمل معه، وهم بشر؛ قال: ذكر هذا لإنكارهم، بعث الرسل من البمثمر؛ حيث قالوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا).
والثاني: يحتمل غيره، أي: من ذرية من حملنا مع نوح، أي: هَؤُلَاءِ من ذرية من حملنا مع نوح؛ فكيف خالفوا آباءهم الذين كانوا على الهدى، وتابعوا غيرهم؟! أو يذكر أن هَؤُلَاءِ الرسل من ذرية من حملنا مع نوح، وهم بشر، فكيف أنكروا الرسول من بشر؟!
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على النداء والدعاء: يا ذرية من حملنا مع نوح، في السفينة - في أصلاب الرجال وأرحام النساء زمان الطوفان - لا تتخذوا من دوني وكيلًا، قيل: رئا وإلهًا، وقيل: شريكا. وأصله ما ذكرنا أن الوكيل: هو المعتمد.
(إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا).
يعني: نوحًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: سماه شكورًا؛ لأنه كان يذكر ربه في كل أحواله، وقال بعضهم: الشكور هو الذي يبتغِي مرضات منعمِهِ، ويجتنب مساخطه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشكور هو المطيع لله.
وقد ذكرنا معنى الشكر: أنه اسم المكافأة، أو يقال: كانت عبادته لله عبادة شكر لا عبادة استغفار، أي: كان شكورًا في عبادته لا مستغفرًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤)
اختلف في قوله: (وَقَضَيْنَا):
قال الحسن وغيره: أوحينا إليهم وأخبرناهم وأعلمناهم في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قضينا عليهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كتبنا عليهم فكيفما كان، ففيه نقض قول المعتزلة؛ لأنه أخبر: أنه أخبرهم وأعلمهم؛ على تأويل من زعم أن القضاء - هاهنا - هو الإعلام والإخبار لهم؛ فيقال لهم: كان أخبرهم وأعلمهم؛ ليصدق في خبره أوْ لا: فإن كان أخبرهم ليصدق في خبره - فذلك منه حكم أنهم: ليفسدن في الأرض مرتين؛ فإن كان تأويل القضاء: الكتاب والحكم، فهو ظاهر، وهو ما نقول: إن كل فاعلٍ فعلًا طاعة كانت أو معصية - كان بحكمه.
ثم من سأل آخر عن المعصية أنها كانت بقضاء اللَّه؛ فلا يجب أن يجاب له على الإطلاق: بـ (نعم) أو ب (لا)، إلا أن يبين أنه ما يريد بالقضاء وما يفهم منه؛ لأن القضاء يتوجه إلى وجوه:
يرجع إلى الخلق؛ كقوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)، أي: خلقهن.
والقضاء: الأمر؛ كقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، أي: أمر ربك.
والقضاء: الحكم؛ كقوله: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: احكم ما أنت حاكم.
ولم يعرف القضاء: الحمل والدفع؛ على ما يقوله المعتزلة، ونحوه، فلا يجاب على الإطلاق إلا أن يبيِّن أنه ما أراد بالقضاء؟ فإن أراد بالقضاء: الحكم: فعند ذلك يقال: نعم، كان بقضائه وحكمه، وليس فيما قضى وحكم دفعه في المعصية.
ثم اختلف في قوله: مرتين:
قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: إن بني إسرائيل عصو ربهم؛ فسلط اللَّه عليهم
جالوت؛ فقتلهم، وسبى ذراريهم وأموالهم، فكانوا كذلك زمانًا، ثم تابوا ورجعوا عن ذلك، ثم بعث اللَّه داود؛ فقتل جالوت، واستنقذهم من يديه، وردهم إلى مكانهم، ثم عادوا إلى ما كانوا من قبل؛ ثم سلط عليهم بختنصر؛ ففعل بهم ما فعل جالوت، ثم تابوا، فبُعِث مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: بعث - أولًا - بختنصر، ثم فلانا وفلانًا، وهو ما قال: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ) إلى قوله: (وَإِن عُدتُم عُدْنَا) أي: عدتم إلى العصيان عدنا إلى العقوبة، ولكن ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما فيه من وجوه الحكمة والدلالة:
أحدها: فيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر عما كان في كتبهم من غير أن علم ما في كتبهم، ولا اختلف إلى أحد منهم؛ فكان - على ما أخبر - دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه بما أخبره في كتابه.
وفيه أنه لم يُهْلَك قوم بنفس الكفر إهلاك استئصال، حتى كان منهم مع الكفر السَّعْيُ في الأرض بالفساد، والعناد للآيات.
وفيه أن ليس على اللَّه حفظ الأصلح لهم وإعطاؤه في الدِّين؛ حيث لم يُمِتهُمْ على الإيمان، ولكن تركهم حتى عصوا ربهم، ثم سلط عليهم من قتلهم على تلك الحال، ودعاهم إلى دينه وهو كفر؛ فلو كان عليه إعطاء الأصلح لأماتهم على الإسلام؛ فذلك أصلح لهم في الدِّين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا).
قيل: لتجترئون جراءة عظيمة، وقيل: لتقهرُن ولتعلن غلبة؛ كقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) أي: قهر وغلب، ألا ترى أنه قال: (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ)، ثبت أنه على الغلبة والقهر.
وقيل: العلو هو العتو والجراءة والتكبر، وهو ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥)
أي: جاء وعد هلاك من عصى منهم أولًا، وخالف أمر اللَّه وكفر به.
(بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ).
قال الحسن: قوله: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ) ليس على بعث الوحي إليهم؛ ولكن على التخلية، أي: خلينا بينهم وبين عباد أولي بأس شديد، أي: أولي بطش شديد وقوة؛
كقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: أخلينا بينهم وبين الشياطين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ) أي: أسلطنا عليكم.
وقوله: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) رد على المعتزلة؛ لأنه ذكر أنه بعث عليهم عبادا أولي بأس شديد، وإنما بعثهم لجزاء إساءتهم ولسوء صنيعهم، وذلك شريفعل بهم؛ دل أن لله صنعًا في جميع فعل العباد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: جاسوا - من التجشس)، أي: يتجسَّسون أخبارهم ويسمعون أحاديثهم، وهم جنود جاءوا من فارس.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَجَاسُوا) أي: قتلوا الناس في الأزِقَّة، وقيل: في الطرق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا).
أي: الذين قالوا: (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) وعدًا كائنًا مفعولًا، أي: كان وعدًا موعودًا مفعولًا كائنًا، وإلا الوعد لا يأتي، وكذلك قوله: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي: موعودًا مأتيا، وكذلك ما أشبه هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦)
أي: الغلبة والهلاك عليهم.
(وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا).
أي: أكثر رجالًا منكم - قبل ذلك - وعددًا، ثم إذا عصوا ثانيًا، وكفروا بربهم سلط اللَّه عليهم قومًا آخرين! فدمروا عليهم، فذلك قوله:
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ).
الهلاك والتدمير، أي: موعود الآخرة.
(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ).
ثم وعد لهم الرحمة إن تابوا ورجعوا عن ذلك بقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ). ثم أوعدهم العود إليهم بالعقوبة بقوله: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا)، أي: وإن عدتم إلى المعاصي عدنا
8
عليكم بالعقوبة.
ثم قول أهل التأويل: إنه سلط عليهم بختنصر وجالوت ثم فلانا وفلانًا - فذلك لا يعلم إلا بالخبر عن رسول اللَّه، وليس في الآية سوى أنه بعث عليهم (عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)؛ فلا يزاد على ذلك إلا بالخبر، سوى أنه ذكر هذا لنا، وفيه وجوه من الحكمة:
أحدها: ما ذكرنا من إثبات نبوة مُحَمَّد ومن صدق رسولهم؛ حيث حذرهم العقوبة بعصيانهم، فكان كما قال.
وفيه تحذيرنا عن مثل صنيعهم؛ لأنهم ليسوا بذلك أَوْلى من غيرهم.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ)، أي: عاثوا بين الديار، وأفسدوا. ويقال: جاسوا، وحاسوا.
(ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ).
أي: الدولة.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (أَكْثَرَ نَفِيرًا).
أي: عددًا، وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَكْثَرَ نَفِيرًا): هو من الخروج والنفر، ومعناه: أكثر عددًا، وقال أبو عبيدة: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ): معناه، أي: فقتلوا في ديارهم.
وقال قتادة: النفير: الْمُقاتِلَة الذين يستنفرون للقتال، أي: لو استنفرتم أنتم، واستنفر أُولَئِكَ كنتم أكثر منهم. ثم جاء قوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا) إلى قوله: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ)، معلوم أنه لم يكن في كتابهم هذا اللفظ: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ)؛ (فَجَاسُوا) - على الابتداء، ولكن كان - واللَّه أعلم -: إذا جاء وعد أولاهما لنبعثن عبادًا أولي بأس شديد يتجسسون أو يجوسون، لكنه خاطب بهذا - واللَّه أعلم - الذين كانوا بحضرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن كانوا هم لم يفعلوا ما ذكر؛ لكن لما فعل أوائلهم خاطب هَؤُلَاءِ؛ لما كانوا يفتخرون بأوائلهم ويقولون: هم أبناء اللَّه وأحباؤه، فيذكر هَؤُلَاءِ نعمه التي أنعم على أُولَئِكَ، ويحذرهمْ صنيعهم، وهو ما خاطبهم بقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ...) وقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ)، ونحوه: خاطب هَؤُلَاءِ الذين كانوا بحضرة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعاتبهم على صنيع أُولَئِكَ وفعلهم؛ وإن كان هَؤُلَاءِ لم يقولوا ذلك لما رضوا بصنيع أُولَئِكَ وفعلهم؛ استئداء منهم
9
الشكر؛ لما أنعم على أُولَئِكَ، وتحذيرًا لهم عن مثل صنيعهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧)
لا لله؛ إذ إليكم يرجع منفعة ذلك، وأنتم تجزون على ذلك:
(وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).
أي: فعليها؛ كقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ...) الآية، أي: عليها ضرر ذلك، وعلى ذلك جميع ما أمر اللَّه عباده من الأعمال أو نهاهم عنها إنما أمر ونهى؛ لمنفعة أنفسهم ولحاجتهم؛ لا لمنفعة له أو لحاجة له.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، أي: إليها، أي: إلى أنفسكم تسيئون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ).
أي: إذا جاء وعد موعود الآخرة، وهو العقوبة بعصيانهم وتكذيبهم رسل اللَّه، وقوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ)؛ بالتغيير وتبديل الدِّين.
(لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ).
بواوين: على الجماعة، وبواو واحدة: على الواحد: (لنسوء وجوهكم)، ولم يبين من يسوء وجوههم؛ فيشبه أن يكون يبعث قومًا يسوءون وجوههم، كما ذكر في الوعد الأول: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)؛ فهم يسوءون وجوهكم.
ومن قرأ بالنون: (لنسوء وجوهكم): أضاف إلى نفسه؛ لما بأمره ما كان يفعل وبتسليطه إياهم عليهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر الوجه - هاهنا - كناية عن الحزن والهم والإهانة لهم؛ كما يقال في السرور: أكرم وجهه، أي: أدخل فيه سرورًا، أو ذكر الوجه؛ لما بالوجه يظهر ذلك التغير والقبح، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّ).
في ظاهر الآية أن يدخل الأولون المسجد في المرة الثانية كما دخلوا في المرة الأولى؛ لأنه قال: (كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّ)، لكن يحتمل ليدخل عباد آخرون المسجد في المرة الثانية كما دخل الأولون في المرة الأولى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المسجد - هاهنا - الكنيسة أو البِيعة.
وقوله: (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).
أي: ليهلكوا ما علوا به، أي: ما غلبوا به وقهروا، أي: الأسباب التي بها عصوا.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا عَلَوْا)، أي: ليفسدوا ما أهلكوا، والتَّبَار: الفساد، يقال: علوت الشيء، أي: ملكت:
وقوله - عزّ وجل -: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (٨)
يحتمل: أن يكون ذلك لأُولَئِكَ الذين تقدم ذكرهم، وفيهم نزل ما نزل، يرحمهم إن تابوا، ويشبه أن يكون على الابتداء: عسى ربكم أن يرحمكم بمُحَمَّد.
(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا).
أي: وإن عدتم إلى التكذيب والعصيان عدنا إلى العقوبة والقتال إلى يوم القيامة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا).
قيل: سجنًا لا يخرجون منها، وقيل: محبسًا، وحصيرًا يحصرون فيها، والله أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (١٢) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
معنى: التأنيث في قوله (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) قيل بوجوه:
قيل: إن هذا القرآن يهدي للملة التي هي أقوم الملل وأعدلها، والملة هي الدِّين، دين الله
الآية٩ : وقوله تعالى :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾ على معنى التأنيث في قوله :﴿ للتي هي أقوم ﴾ قيل بوجوه : قيل ﴿ إن هدى القرآن يهدي للتي للملة التي{ هي أقوم ﴾ الملل وأعدلها. الملة هي الدين دين الله.
وقال بعضهم : يهدي إلى الأمور التي هي أعدل الأمور وأصوبها. وقيل : يهدي إلى السبيل التي هي أقوم السبل وأعدلها. يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.
وجائز أن يكون قوله :﴿ يهدي للتي هي أقوم ﴾أي للأعمال الصالحات وللخيرات لأن الأعمال الصالحات، قوامها به. ثم قوله :﴿ يهدي ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما١ : يبين. والثاني يدعو. فهو يهدي الكل لو استهدوا، لكن خص هؤلاء لما ( أن المنفعة )٢ تكون لمن ذكر. وقد ذكرنا أن هذا القرآن وغيره من كتب الله هدى ورحمة، يدعو إلى ثلاث خصال : إلى معالي الأمور ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ومصالحها، وينهى عن مساوئ الأعمال وداني الأمور وسوء الأخلاق ودناءتها. فهو هدى ورحمة على ما أخبر لمن استهدى به، ورشد لمن استرشد.
وقوله تعالى :﴿ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ﴾ البشارة المطلقة إنما جعل للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، لم يذكر للمؤمنين خاصة على غير العمل الصالح، فالمسألة فيهم غير المسألة في٣هؤلاء.
وفيه دلالة أن اسم الإيمان قد يستحق بدون العمل الصالح حين يشترط فيه العمل الصالح.
وقوله تعالى :﴿ أن لهم أجرا كبيرا ﴾ سماه كبيرا لكبير خطره عند الله كما سمى النار عظيما لعظم خطره عنده، أو سماه كبيرا لأنه أكبر ما يقصد إليه، ويرغب فيه، وهو ثواب الجنة. والنار أعظم ما يحذر بها، ويرهب منها.
١ في الأصل و. م : يحتمل..
٢ في الأصل و. : منفعة..
٣ في الأصل و. م: و..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يهدي إلى الأمور التي هي أعدل الأمور وأصوبها.
وقيل: يهدي إلى السبيل التي هي أقوم السبل وأعدلها.
يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.
وجائز أن يكون قوله: (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، أي: للأعمال الصالحات وللخيرات، لأن الأعمال الصالحات قوامها به.
ثم قوله: (يَهدِي): يحتمل وجهين: يحتمل: يبين، والثاني: يدعو؛ فهو يهدي الكل لو استهدوا، لكن خص هَؤُلَاءِ لما منفعة تكون لمن ذكر، وقد ذكرنا أن هذا القرآن وغيره من كتب اللَّه هدى ورحمة يدعو إلى ثلاث خصال: إلى معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال ومصالحها. وينهى عن مساوي الأعمال، وداني الأمور، وسوء الأخلاق ودناءتها؛ فهو هدى ورحمة على ما أخبر لمن استهدى به، ورشد لمن استرشد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ).
البشارة المطلقة إنما جعلت للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، لم يذكر للمؤمنين خاصة على غير العمل الصالح؛ فالمسألة فيهم غير المسألة في هَؤُلَاءِ.
وفيه دلالة أنه يقع اسم المومنين بدون العمل الصالح؛ لأنه قال: (الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ)؛ دل أن ذلك الاسم يقع بدون ذلك الاسم.
وفيه دلالة أن اسم الإيمان قد يستحق بدون العمل الصالح؛ حيث يشرط فيه العمل الصالح.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا).
سماه كبيرًا؛ لكبير خطره عند اللَّه، كما سمى عذاب النار عظيمًا؛ لعظم خطره عنده، أو سماه كبيرًا؛ لأنه أكبر ما يقصد إليه ويرغب فيه، وهو ثواب الجنة، والنار أعظم ما يحذر بها ويرهب عنها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٠)
إنكارهم البعث، وكفرهم به - هو الذي حملهم على تكذيبهم الرسل وكفرهم باللَّه، ليسلم لهم شهواتهم في الدنيا؛ لأن الرسل جميعًا دعوهم إلى ترك شهواتهم في الدنيا، ورغبوهم بما يوجب لهم الثواب في الآخرة وحذروهم عما يوجب العقاب، فأنكروا
الآخرة والبعث رأسًا ليسلم لهم الدنيا فذلك الذي حملهم على إنكار الرسل وتكذيبهم إياهم؛ ألا ترى أف قال: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، أي: بالقرآن أو بمحمدٍ، إيمانهم بالبعث حملهم على الإيمان بالقرآن والرسول، وتكذيبهم الآخرة حملهم على تكذيب الرسل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (١١)
قَالَ بَعْضُهُمْ: إذا غضب الإنسان يدعو على نفسه وولده وأهله، ويلعن، كدعائه عليهم بالخير؛ لذلك انتصب قوله: (دُعَآءَهُ).
وقال الحسن: إن الإنسان يتضايق صدره وقلبه بأدنى شيء يكره؛ فيلعن على نفسه وأهله؛ فلا يجيبه اللَّه، ثم يدعو بالخير؛ فيعطيه، أو نحوه من الكلام.
وقوله: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: ويدعو الإنسان بالشر على العلم منه بذلك كدعائه بالخير على العلم منه بذلك.
والثاني: يدعو الإنسان بالشر لو أجيب فيه على الجهل منه والغفلة، كدعائه بالخير لو أجيب في ذلك. ثم إن كان ذلك الإنسان هو الكافر فهو يدعو على الاستهزاء؛ كقوله: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) الآية، وكذلك قوله: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)، ونحوه. وإن كان مسلمًا فهو يدعو بالشر على نفسه وأهله عند الغضب على علم منه به، ويدعو أيضًا بالشر على السهو والغفلة منه، نحو ما يسأل الأموال والنكاح، ولعل ذلك شر له.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا لازم؛ لأنه لما خلقه اللَّه فنفخ الروح في بعض جسده - هم أن يقوم؛ فسماه عجولًا، لكن كل الإنسان خلق في الطبع من الأصل عجولًا؛ ألا ترى أنه لا يصبر على أمر واحد ولا على شيء واحد، وإن كان نعمة لم يصبر عليها؛ ولكن يمل عنها؟! وكذلك في أدنى شدة وبلاء إذا بلي به لم يصبر عليه، فأبدًا يريد الانتقال من حال إلى حال؛ ألا ترى أن قوم موسى قد أكرمهم اللَّه بكرامات: من إنزال المن والسلوى
عليهم من غير كد ولا جهد ولا مؤنة، وكذلك اللباس؛ ثم لم يصبروا على ذلك حتى قالوا: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ)، فسألوا ربهم - الفوم، والبصل، ونحوه؟! على هذا طبِع الإنسان ملولًا عجولًا؛ ألا ترى أن اللَّه مكن في باطنه، وجعل في سعة رياضة نفسه، وصرفها إلى أحد الوجهين اللَّذين يجهد عليه ولا يذم، وهو أن يروضها ويعودها على الصبر والحكم والوقار، ويصرف تلك العجلة إلى الخيرات والطاعات التي يحمد عليها المرء بالعجلة، وإلا: ففي ظاهر الخلقة والطبع منشأ على العجلة وما ذكر؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١). إلا كذا، وهو ما ذكرنا - واللَّه أعلم - لكن بما امتحنه من الأمر والنهي والترغيب في الموعود والترهيب صيره بحيث يملك إخراجه عما طبع وأنشئ إلى حال أخرى بالرياضة التي ذكرنا؛ ألا ترى أنه ذكر الهلع والجزع، ثم استثنى إلا كذا؟! وعلى ذلك خلق اللَّه الخلق على همم مختلفة وأطوار متشتتة، لم يخلقهم جميعًا على همة واحدة، بحيث يرغبون جميعًا في معالي الأمور ومعاظم الحِرَف وأرفع الأسماء؛ بل طبعهم على أطباع مختلفة: فمنهم من يرغب في معالي الأمور ومعاظم الأمور والحرف، ومنهم من كانت همته الرغبة في الدون من الأمور والحرف في الحجامة والدباغة والحياكة ونحوها، وكذلك في الأسماء، ومنهم بخلاف ذلك، ولو كانت همتهم همة واحدة - لذهب المنافع والمعارف جميعًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (١٢)
اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: المراد بالليل والنهار: الشمس والقمر، أي: جعلنا في الشمس والقمر؛ ألا ترى أنه أضاف الآية إلى الليل والنهار حيث قال: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)، وحيث قال -أيضًا-: (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) وإنما يعلم ذلك بالقمر؛ ألا ترى أنه قال -أيضًا-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا...) الآية، إنما أضاف معرفة عدد السنين والحساب إلى القمر، دل أنه بالقمر يعلم ذلك، وهو قول علي وابن عبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهم - وغيرهم من أهل التأويل؛ ويكون تأويل المحو الذي ذكر في قوله: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ)
14
ما قالوا في محوه، وهو السواد الذي يرى فيه والنقصان الذي يكون فيه في آخره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: محى منه تسعة وستون جزءًا من سبعين جزءًا، إلى هذا يذهب هَؤُلَاءِ.
وأما الحسن وأبو بكر وهَؤُلَاءِ، فهم يقولون: ليس في الآية ذكر الشَّمس والقمر، إنما ذكر الليل والنهار وأخبر أنه جعل آيتين؛ فهما كذلك آيتان، وبهما يعلم عدد السنين والحساب؛ لأنه بالأيام يعرف ذلك، فأمّا الشهور فإنه إنما تعرف بالقمر لا تعرف بالأيام؛ ويكون قوله تأويل: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)، أي: جعلنا آية الليل في الابتداء ممحوة مظلمة، وجعلنا آية النهار مبصرة مضيئة في الابتداء ليس أن كانا جميعًا مبصرتين مضيئتين ثم مُحِي آية الليل وأبقيت آية النهار مضيئة؛ ولكن إنشاء آية الليل في الابتداء مظلمة، وإنشاء آية النهار في الابتداء مبصرة، وهو كقوله: (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩)، أي: إنشاؤها في الابتداء كذلك، لا أن السماء كانت موضوعة فرفعها، ولا كذلك الجبال كانت مبسوطة ثم نصبها؛ ولكن إنشاءهما في الابتداء كذلك؛ فعلى ذلك قوله: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)، أي: جعلهما في الابتداء: هذا مظلمًا ممحوًّا، وهذا مبصرًا مضيئًا.
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ): هما آيتان مختلفتان، بل متضادتان تضاد كل واحدة منهما صاحبتها؛ إذ كل واحدة تنسخ الأخرى حتى لا يبقى لها أثر، وهما آيتان دالتان على وحدانية اللَّه تعالى؛ لأنه لو كانا فِعْلَ عدد - لكان إذا أتى هذا على هذا وغلب عليه - منع من أن يكون للآخر سلطان أو أمر؛ فإذ لم يكن دل أنه صنعُ واحدٍ، وفيهما دلالة تدبيره؛ حيث جريا على سَنَنٍ واحد ومقدار واحد، على غير تفاوت يكون فيهما وتفاضل، أو تغير على ما كان ومضى؛ دل أنه عن تدبير خرجا وكانا كذلك.
وفيه دلالة علمه وحكمته لما جعل فيهما من المنافع ما لو كان الليل سرمدًا ذهب منفعة الليل نفسه، ولو كان النهار سرمدًا لذهب منفعة النهار رأسًا.
وفيه دلالة البعث؛ لأنه يتلف أحدهما إذا جاء الآخر حتى لا يبقى له أثر بتة، ثم يعيده على ما كان من غير أن يعلم أنه غير الأول.
15
ثم قول (آيَتَيْنِ)، والآية علامة، وعلامتهما لا تعرف إلا بالتأمل والنظر فيهما؛ فعلى ذلك ألا يفهم، مراد ما في القرآن والمعنى المودع فيه - إلا بالتأمّل والنظر فيه.
وفيهما دلالة نقض قول أصحاب الطبائع وأصحاب النجوم والدهرية وجميع الملاحدة:
أما نقض قول أصحاب الطبائع: لما ذكرنا من اتساق مجراها على سنن واحد وأمر واحد، دل أنه بالتدبير صار كذلك لا بالطبع. وأمَّا نقض قول أصحاب النجوم لما جعل النجوم مسخرة لمنافع الخلق ومغلوبة يغلبها ضوء الشمس ونور القمر حتى لا ترى؛ دل أنه لا تدبير لها وأن التدبير لغيرها. وعلى غيرهم من الملاحدة ما ذكرنا من اتصال منافع هذا بهذا ومنافع هذا بهذا، دل أنه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ).
يحتمل الفضل الذي ذكر: الرزق والمعاش الذي ذكر في آية أخرى: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)، ويحتمل أنواع فضل تكون في الذين.
(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ).
هو ما ذكرنا أنه بهما يعرف عدد السنين والحساب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا).
يحتمل التفصيل تفصيل آية من أخرى، أي: لم يجعلهما آية واحدة؛ على ما ذكر.
وقال الحسن: أي فصل بين ما أمر عباده ونهاهم، أي: بين وفصل ما يؤتى مما يتقَى، و (فَصَّلْنَاهُ): أي: فصله تفصيلًا لم يتركه مبهمًا؛ بل بين غاية البيان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣)
اختلف في قوله: (طَائِرَهُ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: (طَائِرَهُ): شقاوته وسعادته، ورزقه وعيشه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: عمله الذي عمل من خير أو شر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: حظه ونصيبه من عمله، وهو جزاؤه ونحو ذلك، فذلك كله يرجع إلى
16
معنى واحد؛ لأنه إنما يسعد ويشقى بعمله الذي يعمله، وكذلك جزاء عمله؛ ولذلك قال الحسن في تأويل قوله: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا)، أي: بأعمالنا التي عملناها، ثم يخرج تسمية العمل وما ذكروا طائرًا؛ لوجهين:
أحدهما: على وجه التفاؤل والطيرة؛ كانوا يتفاءلون ويتطيرون بأشياء: بالطائر وغيره، ويقولون جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له بكذا من الشر؛ على طريق الفأل والطيرة؛ فخاطبهم على ما يستعملون، وأخبر أن ذلك يلزم أعناقهم، وهو ما قال اللَّه - تعالى -: (يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)، وكقوله: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ)، وقوله -أيضًا-: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ...) الآية، ونحوه.
والثاني: سمى الأعمال التي عملوها طائرًا؛ لما أن الذي يتولد منه تلك الأعمال كالطائر، وهو الهمة، أو لا يخطر بباله شيء؛ ففي الأخطار لا صنع له فيه، ثم يهمُّ، ثم تبعث الهمَّة على الإرادة، ثم الإرادة تبعث على الطلب والعمل، فالهمة التي في النفس التي يتولد منها الأعمال كالطائر؛ فسماه لذلك باسمه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي عُنُقِهِ).
يحتمل أن يكون العنق كناية عن النفس، أي: ألزمناه نفسه، وذلك جائز؛ يقال: هذا لك عليَّ وفي عنقي.
والثاني: ذكر العنق؛ كما يقول الرجل لآخر إذا أراد التخلص من عمل: قلَّدتك هذا العمل وجعلته في عنقك، أي: تكون أنت المأخوذ به إثمًا إن كان في ذلك شر، وأنت المأجور به المثاب إن كان فيه خير.
والمعنى في قوله: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)، أي: لا يؤخذ غيره بعمله وشقائه؛ ولكن هو المأخوذ به، وهو ما قال: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ)، وقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)؛ هذه الآيات الثلاثة معناها واحد، وهو ما ذكرنا ألا يؤخذ غيره بعمل آخر، ولا تحمل نفس خطيئة أخرى ولا وزرها، ولكن كل نفس هي تحمل خطيئة نفسها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا).
هذا يحتمل وجهين:
17
أحدهما: أي: يجعل ما لزم عنقه كتابًا يلقاه منشورًا.
والثاني: أي: يجعل بما ألزم عنقه كتابًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤)
قيل: شهيدًا، وقيل: كافيًا وحاسبًا، وهو واحد: أن المؤمن بما سبق من صالحاته يقف فيها لا يقطع القول لرجائه في رحمته ولخوفه عن مساويه؛ فلا يشهد على نفسه بالعقوبة.
وأما الكافر فإنه يشهد على نفسه بالنار؛ لما لم يكن له ما يطمع رحمته.
وقوله: (اقْرَأْ كِتَابَكَ)، أي: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)؛ فيقال له: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).
وفي ذلك لطف عظيم بقراءة كتابه بأي لسان كان؛ لأنه لم يبين بأي لسان يكتب، ثم يتذكر جميع ما عمل في عمره، وقد ينسى الرجل عملًا يعمل في أدنى مدة، لكن هذا يتذكر في ساعة ووهلة ما كان عاملًا منه.
* * *
قوله تعالى: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (١٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ).
أي: من اهتدى إلى ما جعل اللَّه عليه من أنواع النعم، وقام بأداء شكرها فإنما فعل ذلك لنفسه؛ لأنه هو المنتفع به.
أو يقول: من اختار الهدى وأجابه إلى ما دعاه مولاه فإنّما يهتدي لنفسه، أي: فإنما اختار ذلك لنفسه؛ لأنه هو المنتفع به وهو الساعي في فكاك رقبته.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ - (وَمَنْ ضَلَّ).
أي: من ضل، أي: من اختار الضلال (فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)، أي: فإنما يرجع عليها ضرره، وهو ما ذكر: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا).
وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).
وقوله: (وَمَنْ ضَلَّ) عن ذلك (فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا).
أي: إلى نفسه يرجع ضرر ضلاله على نفسه؛ كقوله: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
18
هو ما ذكرنا، أي: لا تحمل نفسق خطيئةَ أخرى، ولا تأثم بوزر أخرى، واللَّه أعلم؛ ذكر هذا ليعلم أن أمر الآخرة خلاف أمر الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يؤخذ نفس مكان أخرى، ويحتمل نفس مؤمنة أخرى، وفي الآخرة لا تؤخذ نفس بدل أخرى.
والثاني: قد يتبرع بعض عن بعض بتحمل المؤُنات والقيام في فكاكها، وأمَّا في الآخرة فلا يتبرع بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
يحتمل: ما كنا معذبين تعذيب استئصال في الدنيا إلا بعد دفع الشبه - ودفعها عن الحجج - من كل وجه، وبعد تمامها، وإن كانت الحجة قد لزمتهم بدون بعث الرسل؛ ليدفع عنهم عذرهم من كل وجه، أو أن يكون قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) إفضالًا منه ورحمة، وإن كان العذاب قد يلزمهم، والحجة قد قامت عليهم، والعذاب الذي كانوا يعذبونهم في الدنيا ليس هو عذاب الكفر؛ لأن عذاب الكفر دائم أبدًا لا انقطاع له، وهذا مما ينقطع وينفصل، لكن يعذبون بأشياء كانت منهم من العناد ودفع الآيات، وأما عذاب الكفر فهو في الآخرة أبدًا لا ينقطع.
وفي الآية دلالة أن حجة التوحيد قد لزمتهم وقامت عليهم بالعمل، حيث قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)؛ فلو لم تلزمهم لكان الرسل إذا دعوهم إلى ذلك يقولون: من أنتم ومن بعثكم إلينا؛ فإذا لم يكن لهم هذا الاحتجاج دل أن الحجة قد قامت عليهم، لكن اللَّه بفضله أراد أن يدفع الشبه عنهم ويقطع عنهم عذرهم برسول يبعث إليهم؛ لما أن أسباب العلم بالأمور ثلاثة:
فمنها ما يعلم بظاهر الحواس بالبديهة، ومنها ما يفهم ويعلم بالتأمل والنظر، ومنها ما لا يعلم إلا بالتعليم والتنبيه.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) وهو ما ذكرنا، أي: نخرج بذلك العمل كتابًا.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: أي نكتب ما عمل ثم نقلده في عنقه فيجيء به يوم القيامة.
19
الآية١٥ : وقوله تعالى :﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ﴾ أي من اهتدى إلى ما جعل الله عليه من أنواع النعم، وقام بأداء شكرها، فإنما فعل ذلك لنفسه، لأنه هو المُنتفِع ١ به، أو يقول : من اختار الهدى، وأجابه إلى ما دعاه مولاه ﴿ فإنما يهتدي لنفسه ﴾ أي فإنما اختار ذلك لنفسه، لأنه هو المنتفع ٢ به، وهو الساعي في فكاك رقبته.
وقوله تعالى :﴿ ومن ضل ﴾ أي من ضل، أي اختار الضلال ﴿ فإنما يضل عليها ﴾أي فإنما يرجع عليها ضرره، وهو ما ذكر :﴿ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ﴾( فصلت : ٤٦ )وقوله :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ﴾( الإسراء : ٧ ).
وقوله تعالى ﴿ ومن ضل ﴾عن ذلك ﴿ فإنما يضل عليها ﴾ أي إلى نفسه يرجع ضرر ضلاله على نفسه كقوله :﴿ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ﴾( النمل : ٤٠ ).
وقوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ هو ما ذكرنا، أي لا تحمل نفس خطيئة أخرى، ولا تأثم بوزر أخرى ( ذكر هذا والله أعلم، لوجهين :
أحدهما )٣ : أن أمر الآخرة خلاف أمر الدنيا لأن في الدنيا قد تؤخذ نفس مكان أخرى، وتحمل٤ نفس مؤنة أخرى، وفي الآخرة لا تؤخذ نفس بدل أخرى.
والثاني : قد يتبرع بعض عن بعض بتحمل المؤنات والقيام في فكاكها ( في الدنيا )٥ وأما في الآخرة فلا يتبرع بذلك.
وقوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ يحتمل : ما كنا معذبين تعذيب استئصال في الدنيا إلا بعد دفع الشبه ورفعها عن الحجج من كل وجه وبعد تمامها، وإن كانت الحجة قد لزمتهم بدون بعث ٦ الرسل ليدفع عنهم عذرهم من كل وجه.
ويحتمل٧ أن يكون قوله :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ إفضالا منه ورحمة، وإن كان العذاب قد يلزمهم والحجة قد قامت عليهم. والعذاب الذي كانوا يعذبونه ٨ في الدنيا ليس، هو عذاب الكفر، لأن عذاب الكفر دائم أبدا.
لا انقطاع له، وهذا مما ينقطع، وينفصل. لكن يعذبون بأشياء كانت منهم من العناد ودفع الآيات. وأما عذاب الكفر فهو في الآخرة أبدا، لا ينقطع.
وفي الآية دلالة أن حجة التوحيد قد لزمتهم، وقامت عليهم بالعقل حين٩قال :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ فلو لم تلزمهم لكان الرسل إذا دعوهم إلى ذلك يقولون١٠ : من أنتم ؟ ومن بعثكم إلينا ؟ فإذا لم يكن لهم الاحتجاج دل أن الحجة قامت عليهم.
لكن الله بفضله أراد أن يدفع الشبهة عنهم، ويقطع عنهم عذرهم برسول يبعث إليهم لما أن أسباب العلم بالأمور ثلاثة : فمنها ما يعلم بظاهر الحواس بالبديهة، ومنها ما يفهم بالتأمل والنظر، ومنها ما لا يعلم إلا بالتعليم والتنبيه.
وقال القتبي :﴿ ويخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ﴾( الإسراء : ١٣ ) وهو ما ذكرنا أي١١ نخرج بذلك العمل كتابا. وقال أبو عوسجة : أي نكتب ما عمل، ثم نقلده١٢ في عنقه، فنجيء به يوم القيامة.
وقال أبو عبيدة : طائره حظه. وقال غيره من المفسرين : ما عمل من خير أو شر ألزمناه في عنقه.
وقال القتبي : وهذان المعنيان يحتاجان إلى بيان، والمعنى في ما أرى، والله أعلم : أن لكل امرئ حظا من الخير والشر، وقد قضاه الله، فهو لازم عنقه، والعرب تقول : إن كل ما لزم الإنسان قد لزم عنقه، وهو لازم، طائر ( في )١٣عنقه، وهذا لك علي، وفي عنقي، حتى أخرج منه. وإنما قيل للحظ من الخير والشر : طائر لقول العرب ما ذكرنا : جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له الطائر على وجه الفأل والطيرة على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سببا، وهو ما ذكر.
وقوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسلا ﴾ التعذيب يكون على وجوه ثلاثة :
أحدها١٤ : يعذبهم في الدنيا ابتداءا بتعذيب امتحانا وابتلاء بجريمة كانت منهم كقوله :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾( الأنبياء : ٣٥ ) وقوله :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات ﴾( الأعراف : ١٦٨ ) ونحوه، فيكون تنبيها وتذكيرا لهم لا تكفيرا.
والثاني : يعذب تعذيب العناد والمكابرة، وهو تعذيب إهلاك واستئصال ؛ فهو عقوبة لهم موعظة للمتقين وعبرة لغيرهم، وهم الذي يأتي على إثر وعيد.
والثالث : عذاب الموعود في الآخرة يقول :﴿ وما كنا معذبين ﴾ في الآخرة ﴿ حتى نبعث رسولا ﴾ في الدنيا.
والأشبه أن يكون ما ذكر من التعذيب، وهو تعذيب استئصال، والله أعلم.
١ من م،: في الأصل المشفع..
٢ من م،: في الأصل: المشفع..
٣ في الأصل و. م : والله أعلم ذكر هذا..
٤ في الأصل و. م: ويحتمل..
٥ ساقطة من الأصل و. م..
٦ من م، في الأصل: البعث..
٧ في الأصل و. م: و..
٨ في الأصل و. م: يعذبونهم..
٩ في الأصل و. م: حيث..
١٠ في الأصل و. م: يقول..
١١ من م، في الأصل: إن..
١٢ في الأصل و. م: نقلد..
١٣ ساقطة من الأصل و. م..
١٤ من م، في الأصل: أحدهم..
وقال أبو عبيدة: طائره حظه.
وقال غيره من المفسرين: ما عمل من خير وشر ألزمناه عنقه.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: وهذان المعنيان يحتاجان إلى بيان.
والمعنى فيما أرى - واللَّه أعلم - أن لكل امرئ حظًّا من الخير والشر قد قضاه اللَّه؛ فهو لازم عنقه، والعرب تقول: إن كل ما لزم الإنسان قد لزم عنقه، وهو لازم طائر في عنقه، وهذا لك عليَّ وفي عنقي حتى أخرج منه؛ وإنما قيل للحظ من الخير والشر: طائر؛ لقول العرب ما ذكرنا: جرى له الطائر بكذا من الخير، وجرى له الطائر بكذا من الشر؛ على وجه الفأل والطيرة على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سببًا، وهو ما ذكر.
وقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
التعذيب يكون على وجوه ثلاثة:
أحدها: يعذبهم في الدنيا ابتداء بتعذيب؛ امتحانًا وابتلاء بلا جريمة كانت منهم؛ كقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، وقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، ونحوه؛ فيكون تنبيهًا وتذكيرًا لهم لا تكفيرًا.
والثاني: يعذب تعذيب العناد والمكابرة، وهو تعذيب إهلاكِ استئصالٍ؛ فهو عقوبة لهم، وموعظة للمتقين، وعبرة لغيره، وهو الذي يأتي على أثر وعيد.
والثالث: عذاب الموعود في الآخرة؛ يقول: وما كنا معذبين في الآخرة حتى نبعث رسولًا في الدنيا.
والأشبه أن يكون ما ذكر من التعذيب هو تعذيب استئصال، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٦)
بالتخفيف، والتثقيل: (أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا)، ثم من قال (أَمَّرْنَا) بالتثقيل يحتمل وجهين:
أحدهما: (أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا) من الإمارة والتسليط عليهم، أي: أمرنا عليهم وسلطنا
20
مترفيها، أي: أكثرنا عددهم وسلطنا مترفيها فُسَّاقَهَا ومستكبريها.
والثاني: (أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا)، أي: أكثرنا عددهم ومُنَعَّمِيهم؛ يذكر لهم هذا لقولهم: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ..) الآية. وقولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا...) الآية: كانوا يزعمون أنهم لا يعذبون؛ لأنهم قد أنعموا في هذه الدُّنيَا وأكثروا أموالهم وأولادهم؛ فأخبرهم - عَزَّ وَجَلَّ - أنه ما أهلك من الأمم الخالية إلا بعد ما كثر عددهم ووسع عليهم الدنيا؛ لم يهلكوا في حال القلة والضيق؛ كقوله: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا)، أي: كثروا؛ وقوله: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) لم يأخذ بالعذاب الأمم الخالية إلا في حال كثرتهم وأمنهم وغِرَّتهم بالسَّعَة؛ يحذر هَؤُلَاءِ؛ لئلا يغتروا بكثرة أموالهم وأولادهم وعددهم.
ومن قال: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) بالتخفيف هو من الأمر، أي: أمرنا عظماءهم وكبراءهم طاعة الرسل والإجابة إلى ما دعاهم إليه، حتى إذا عصوا رسله وتركوا إجابتهم - على العناد والمكابرة - فعند ذلك يهلكون؛ لما ذكرنا أنه لم يستأصل الأمم الخالية إلا بعد عنادهم في آيات اللَّه، ومكابرتهم في دفعها وتكذيبها، لا يهلكهم في أول ما كذبوا آيات اللَّه وخالفوا رسله.
وقوله: (مُتْرَفِيهَا)، قَالَ بَعْضُهُمْ: المترف: المنعَّم، وقَالَ بَعْضُهُمْ: المترف: المكرم والمستكبر، وكله واحد.
وفي قوله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) دلالة أن الإرادة غير المراد؛ لأنه أخبر بتقدم الإرادة عن وقت الإهلاك؛ دل أنها غيره؛ وفيه أنه أراد السبب الذي به يهلكون، وهو التكذيب والعناد؛ لما علم منهم أنهم يختارون ذلك؛ إذ لا يحتمل أن يريد هلاكهم، وهو يعلم منهم غير سبب الهلاك؛ فهذا يرد قول المعتزلة: إن الإرادة هي المراد، وأنه لم يرد ما كان منهم من سبب الهلاك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ).
بما أراد إهلاكهم وجب عليهم، أو يكون قوله: (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) بما أخبر عن الأمم الخالية، وهو قوله: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).
21
أي: أهلكناهم إهلاكًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (١٧)
يحتمل أن يكون الخبير والبصير واحدًا، ويشبه أن يكون بينهما فرق؛ الخبير: العالم بأعمالهم، والبصير بمصالحهم ومعاشهم وبجزائهم؛ يقال: فلان بصير في أمر كذا، وفلان أبصر من فلان.
ويحتمل أن يكون بذنوب عباده، وهو مكرهم الذي كانوا يمكرون برسول اللَّه؛ فقال: وكفى بمكرهم الذي يمكرون بك.
* * *
قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (٢٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أنهم كانوا يعملون بأعمالهم الحسنة في حال كفرهم من نحو الإنفاق والصدقات وبذل الأموال، وغير ذلك - يريدون بذلك العز والشرف والذكر في الدنيا؛ فأخبر أنه من أراد بما يفعل ذلك (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).
والثاني: يكون قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ)، أي: لا يريد بها إلا جمع الأموال وسعتها (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)، ثم أخبر أنه لا كل من أرادها يعجل له ذلك، ولا كل ما أراد يعجل له ذلك؛ ولكن إنما يعجل ما أراد اللَّه ولمن أراد شيئًا يعطي له ذلك، ثم أخبر عما يعطي في الآخرة من أراد العاجلة فقال:
(ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا).
أي: مذمومًا: يسمى بأسماء قبيحة دنية مذمومة عند الخلق، أو يذم ويلام في النار، (مَدْحُورًا): مطرودًا من الأسماء الحسنى ومن الخيرات، أو مبعدًا عن رحمته.
وقوله: (مَذْمُومًا): عند نفسه، أي: يذم نفسه يومئذ، أو مذمومًا عند الملائكة والخلق جميعًا.
وفي قوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) وجهان:
الآية١٨ : وقوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾ يحتمل هذا الوجهين :
أحدهما : أنهم كانوا يعملون بأعمالهم الحسنة في حال كفرهم من نحو الإنفاق والصدقات وبذل الأموال١ وغير ذلك، يريدون بذلك العز والشرف والذكر في الدنيا، فأخبر أنه من أراد بما يفعل ذلك ﴿ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾.
و الثاني : يكون قوله : من كان يريد العاجلة } أي لا يريد بها إلا جمع الأموال وسعتها ﴿ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾. ثم أخبره أنه لا كل من أرادها يعجل له ذلك، ولا ما أراد يعجل له ذلك. ولكن إنما يعجل( الله ما أراد )٢ولمن أراد ؛ إذ لا كل من أراد شيئا يعطى له ذلك.
ثم أخبر عما يعطى في الآخرة ﴿ ومن كان يريد العاجلة ﴾ فقال :﴿ ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ﴾ أي مذموما بما يسمى بأسماء قبيحة دنيئة مذمومة عند الخلق، أو يذم، ويلام في النار﴿ مدحورا ﴾ مطرودا من الأسماء الحسنى ومن الخيرات أو مبعدا عن رحمته.
وقوله تعالى :﴿ مذموما ﴾ عند نفسه يومئذ، أو مذموما عند الملائكة والخلق جميعا.
وفي قول تعالى :﴿ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ﴾ وجهان : أحدهما يحتمل أ يكون أراد بإهلاكه إياهم موتهم بآجالهم، يقول : هم كانوا عددا قليلا زمن نوح، ثم أكثروا حتى صاروا قرونا، ثم ماتوا حتى لم يبق منهم أحد.
والثاني : يحتمل أن يكون الإهلاك ههنا إهلاك استئصال فهو يخرج على وجهين :
أحدهما : أنهم٣ قد استووا في هذه الدنيا ؛ أعني ( الأولياء والأعداء )٤ وفي الحكمة التمييز بينهم٥ والتفريق، فلا بد من دار ( أخرى يفرق بينهم )٦ فيها، ويميز.
والثاني : قد أهلكوا جميعا. وفي العقل والحكمة إنشاء الخلق للإفناء خاصة بلا عاقبة تقصد عبث باطل، فدل أن هنالك دارا أخرى هي المقصودة حتى صار خلق هؤلاء حكمة، وفيه إلزام البعث.
١ من م، في الأصل: الأمور..
٢ في الأصل و. م: ما أراد الله..
٣ في الأصل و. م: أنه..
٤ في الأصل و. م: الولي والعدو..
٥ في الأصل و. م: بينهما..
٦ في الأصل و. م: تفريق بينهما..
أحدهما: يحتمل أن يكون أراد بإهلاكه إياهم موتهم بآجالهم. يقول: هم كانوا عددًا قليلًا زمن نوح، ثم كثروا حتى صاروا قرونًا، ثم ماتوا حتى لم يبق منهم أحد.
ويحتمل أن يكون الإهلاك - هاهنا - إهلاك استئصال: فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه قد استووا في هذه الدنيا - أعني العدو والولي - وفي الحكمة: التمييز بينهما والتفريق؛ فلا بد من دار يفَرَّق بينهما فيها ويميز.
والثاني: قد هلكوا جميعًا، وفي العقل والحكمة إنشاء الخلق للإفناء خاصة بلا عاقبةٍ تقصد - عبثٌ باطل؛ فدل أن هنالك دارًا أخرى هي المقصودة حتى صار خلق هولاء حكمة، وفيه إلزام البعث.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩)
تفسير قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)؛ كأنه قال: من كان يريد العاجلة، وهو كافر بربه مكذب بالآخرة (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)، ومن كان يريد الآخرة، وهو مؤمن بربه مصدق بالآخرة، (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، هذا يدل أنهم إنما أرادوا العاجلة بكفرهم بالآخرة، ثم أخبر أن من أراد بعمله في الدنيا الآخرة، ولها سعيها ما سعى، وهو مؤمن بها.
(فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا).
أي: مَجز، لا مقبولًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ... (٢٠)
أي: المؤمن والكافر يعطى هذا وهذا، أي: لا نحرم عن العاجلة من أراد الآخرة؛ يخبر أُولَئِكَ الكفرة بكفرهم بالآخرة أنه ليس يعطي الدنيا وسعتها لمن يكفر بالآخرة؛ ولكن يعطي من كفر بها ومن آمن بها؛ لئلا يحملهم ذلك على حبهم الدنيا وطلب العز والشرف فيها - على كفرهم بالآخرة؛ حيث قال: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ)، أي: يعطي المؤمن والكافر، والبَر والفاجر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا).
أي: ما كان رزق ربك وفضله محظورًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: محبوسًا ممنوعًا. وقال بعضهم: محظورًا: منقوصًا؛ فهو في الآخرة، أي: لا ينقصون في الآخرة من جزائهم، وروي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إنَّ اللَّه يُعْطِي الدُّنْيَا عَلَى نِيَّةِ الآخِرَةِ، وَلَا يُعْطِي
الآية٢٠ : وقوله تعالى :﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء ﴾ أي( المؤمنين والكافرين، نعطي هؤلاء وهؤلاء )١ أي لا نحرم من العاجلة من أراد الآخرة. يخبر أولئك الكفرة بكفرهم بالآخرة أنه ليس يعطي الدنيا وسعتها لمن يكفر بالآخرة، ولكن يعطي من كفر بها، ومن آمن بها لئلا يحملهم ذلك على حبهم الدنيا وطلب العز والشرف فيها على كفرهم بالآخرة حين٢ قال :﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء ﴾ أي يعطي المؤمن والكافر والبر والفاجر.
وقوله تعالى :﴿ وما كان عطاء ربك محظورا ﴾ أي رزقك ربك وفضله محظورا. قال بعضهم : محبوسا وممنوعا.
وقال بعضهم : محظورا أي منقوصا، فهو في الآخرة، أي لا ينقصون في الآخرة من جزائهم.
وروي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه٣ قال :( إن الله يعطي الدنيا على نية الآخرة، ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا )( كنز العمال ٦٠٥٦ )
وعن الحسن ( أنه )٤ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا كان العبد همه الآخرة، كفى الله له في صنعته وجعل غناه في قلبه. وإن كان همه الدنيا أفشى الله عليه صنعته، وجعل فقره بين عينيه، فلا يمسي إلا فقيرا، ولا يصبح إلا فقيرا ) ( بنحوه الترمذي٢٤٦٥ ).
وقوله تعالى :﴿ من كان يريد العجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾ وأما من كان يريد العاجلة للآخرة فهو ليس بمذموم، فهو ما ذكر في قوله :﴿ فأولئك كان سعيهم مشكورا ﴾ وهو ما قال :﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم ﴾ الآية( هود : ١٥ ) وقوله :﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو ﴾( الحديد : ٢٠ )( الحياة الدنيا لعب ولهو )٥. وأما من أرد الحياة الدنيا للآخرة، فهو ليس بلعب ولهو، لأن الدنيا لم تنشأ لنفسها وإنما أنشئت للآخرة. فمن رآها لها، وأرادها لنفسها، فهو لعب ولهو، ومن رآها للآخرة، فهو ليس بلعب ولا لهو.
١ في الأصل و. م: المؤمن والكافر، نعطي هذا وهذا..
٢ في الأصل و. م: حيث..
٣ ساقطة من الأصل و. م..
٤ ساقطة من الأصل و. م..
٥ ساقطة من م..
الآخِرَةَ عَلَى نِيَّةِ الدُّنْيَا ".
وعن الحسن قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا كَانَ الْعَبدُ هَمُّهُ الآخِرَةَ كَفَى اللَّه لَهُ مِنْ ضَيعَتِهِ، وَجَعَلَ غَنَاءَهُ فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا كانَ هَمُّهُ الدُّنْيَا أَفْشَى اللَّه عَلَيهِ ضَيعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيّنَ عَينَيهِ؛ فَلا يُمْسِي إِلا فَقِيرًا، ولا يُصْبحُ إِلا فَقِيرًا ".
وقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ)؛ للعاجلة - (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)، وأما من كان يريد العاجلة؛ للآخرة - فهو ليس بمذموم؛ فهو ما ذكر في قوله: (فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)، وهو ما قال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ...) الآية، وقوله: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ...).
وأمَّا من أراد الحياة الدنيا؛ لحياة الآخرة - فهو ليس بلعب ولا لهو؛ لأن الدنيا لم تُنْشَأ لنفسها؛ إنما أنشئت للآخرة؛ فمن رآها لها وأرادها لنفسها - فهو لعب ولهو، ومن رآها للآخرة وأرادها للآخرة فهو ليس بلعب ولا لهو.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١)
في الدنيا في الرزق وفي الخلقة: يكون بعضهم أعمى، وبعضهم بصيرًا، أو يكون أصم ويكون سميعًا، ونحوه؛ فعلى ما يكون في الدنيا على التفاوت والتفاضل يكونون في الآخرة كذلك في المنزلة والقدر عند اللَّه، لا في الضيق والسعة والأحوال التي يكونون في الدنيا؛ حيث قال: (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا).
ولم يقل: أكثر ولا أوسع، دل أنه على القدر والمنزلة عند اللَّه، لا على اختلاف الأحوال التي يكونون في الدنيا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (٢٢)]
قد ذكرنا فيما تقدم أن النهي في مثل هذا والخطاب - لرسوله، وإن كان غير موهوم ذلك منه؛ للعصمة التي عصمه؛ فإنه غير مستحيل في ذاته؛ لما ذكرنا أن العصمة إنما
24
ينتفع بها مع النهي والأمر؛ لأنه لولا الأمر والنهي ما احتيج إليها، أو خاطبه به على إرادة غيرٍ؛ على ما يخاطب به ملوك الأرض الأقرب إليهم والأعظم والخطر منهم دون خسائس الناس ورذالهم.
والثاني: أنه يخاطب كلًا في نفسه، ليس أنه يخص رسوله بذلك، ولكن كل موهوم ذلك منه.
ويحتمل أن لخاطب به كقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ)، و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)؛ ليس إنسان أحق بهذا الخطاب من إنسان؛ فعلى ذلك الأول، أو يقول: إنه يخاطب رسوله؛ ليعلم من دونه أن ليس لأحد وإن عظم قدره عند اللَّه وارتفع محله ومنزلته - محاباة في الدِّين؛ لأن الرسل هم المكرمون على اللَّه المعظمون عنده؛ فإذا لم يعف عنهم في هذا - لم يعف من دونهم؛ ألا ترى أنه قال للملائكة: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ)، وهم أكرم خلق اللَّه؛ حيث وصفهم اللَّه أنهم: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)؟!؛ فعلى ذلك الرسل؛ ألا ترى أنه قال على أثره: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إلى قوله: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا)، ومعلوم أن أبويه كانا ضالين؛ فلا يحتمل أن يخاطب رسوله في قوله: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا)؛ دل أنه خاطب به كل محتَمَل ذلك منه وموهوم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا).
عند الناس.
(مَخْذُولًا).
أي: ذليلًا مقهورًا؛ لأن الخذلان هو ضد النصر والعون؛ ألا ترى أنه قال: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ...) الآية. ذكر الخذلان مقابل النصر؛ فعلى ذلك قوله: (مَخْذُولًا)، أي: مقهورًا ذليلًا غير منصور، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ
25
الآية٢٢ : وقوله تعالى :﴿ لا تجعل مع الله إلها آخرا ﴾( يحتمل وجوها :
أحدهما )١ : قد ذكرنا في ما تقدم أن النفي في مثل هذا الخطاب لرسوله، وإن كان غير موهوم ذلك منه للعصمة التي عصمه، فإنه غير مستحيل في ذاته لما ذكرنا أن العصمة إنما ينتفع بها مع النهي والأمر ؛ لأنه لولا الأمر والنهي ما احتيج إليها، أو خاطبه به على إرادة على غير على ما يخاطب به ملوك الأرض الأقرب والأعظم والأخطر منهم دون خسائس الناس ورذالهم.
والثاني : أنه يخاطب كلا في نفسه، ليس أن يخص رسوله بذلك. ولكن كل موهوم ذلك منه.
والثالث٢ : يحتمل أن يخاطب به كل إنسان٣ كقوله :﴿ يا أيها الإنسان ﴾ ( الانفطار : ٦و. . ) وقوله٤ :﴿ يا أيها الناس ﴾( البقرة : ٢١و. . )ليس إنسان أحق بهذا الخطاب من إنسان. فعلى ذلك الأول.
والرابع : يحتمل ( أن )٥يخاطب رسوله/٢٩٨-ب/ليعلم من دونه أن ليس لأحد، وإن عظم قدره عند الله، وارتفع محله ومنزلته محاباة في الدين، لأن الرسل هم المكرمون على الله المعظمون عنده. فإذا لم ( يعف عنهم )٦ في هذا لم يعف عمن٧ دونهم.
ألا ترى أنه قال للملائكة :﴿ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ﴾( الأنبياء/٢٩ )وهم أكرم خلق الله حين٨وصفهم أنه ﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾( التحريم/٦ ) فعلى ذلك الرسل. ألا ترى أنه قال على إثره :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ إلى قوله :﴿ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ﴾( الإسراء : ٢٣ )ومعلوم أن أبويه كانا ضالين، فلا يحتمل أن يخاطب رسوله في قوله :﴿ وقل رب ارحمهما ﴾( الإسراء : ٢٤ ) دل أنه خاطب به كل محتمل ذلك وموهوم.
وقوله تعالى :﴿ فتقعد مذموما ﴾ أي ذليلا مقهورا ؛ لأن الخذلان هو ضد النصر والعون. ألا ترى أنه قال :﴿ إن ينصركم ﴾( آل عمران : ١٦٠ )ذكر الخذلان مقابل النصر ؟ فعلى ذلك قوله( ﴿ مخذولا ﴾ أي مقهورا ذليلا غير منصور، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و. م..
٢ في الأصل و. م: و..
٣ ساقطة من الأصل و. م..
٤ في الأصل و. م: و..
٥ في الأصل و. م: أو يقول..
٦ في الأصل و. م: يعفوهم..
٧ في الأصل و. م: من..
٨ في الأصل و. م: حيث..
تَبْذِيرًا (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (٢٨) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٣٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (٢٣)
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَقَضَى): حكم، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَقَضَى) - هاهنا -: أمر، أي: أمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَقَضَى رَبُّكَ)، أي: وصّى ربّك، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبئ - رضي اللَّه عنهما - أنهما كانا يقرآن: (ووصى ربك)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وعهد ربك).
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَقَضَى رَبُّكَ)، أي: حتم ربك، وهو من الفرض والإلزام، أي: فرض ربك وألزم ألا تعبدوا إلا إياه، وكذلك " حكم " ربك وهو أشبه؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ثم قال: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ): دل قوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أن قوله: (إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ) - معناه، أي: فرض الله ورسوله وحكما أمرًا.
ثم قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ): فرض وحتم وحكم وأمر ألا تعبدوا إلا إياه، إلا الإله المعبود الحق المستحق للعبادة والربوبية، لا تعبدوا دونه أحدًا، وقد أبان لنا أنه هو الإله والرب المستحق للعبادة والألوهية والربوبية، لا الذين تعبدون من دونه من الأوثان والأصنام بوجوه ثلاثة:
أحدها: عجز العقول وجهالتها عن درك كيفية العقول وما بينها؛ لأن العقول لا تعرف كيفية أنفسها ولا ماهيتها، وتعرف محاسن الأشياء ومقابحها؛ فقد عَرَفَتِ الألوهية لله، وحسن العبادة له، وقبحها لغيره.
26
والثاني: ما يوجد في جميع الخلائق من آثار ألوهيّته وربوبيته، وجعل العبادة له شكرًا له؛ وعلى ذلك جعل في كل جارحة من جوارح الإنسان عبادة؛ شكرًا له لما فيها من آثار ألوهيته.
والثالث: السمع، أنبأنا أن لا معبود إلا اللَّه، ولا ألوهيّة لسواه دونه؛ فذلك معنى ما فرض على خلقه وأمرهم ألا يعبدوا إلا إياه، وتأويل حكم ربّك ألا تعبدوا إلا إياه؛ لما أنشأ في خلقة كل أحد آثار وحدانيته، وشهادة ربوبيته استحقاق العبادة له، فذلك تأويل من قال: قضى، أي: حكم. وأما تأويل من قال: قضى، أي: أمر ربك وكلف ألا تعبدوا إلا إياه - يكون فيه أمر بالعبادة له، والنهي عن عبادة غيره؛ كأنه قال: أمر ربك أن اعبدوه، ونهاكم أن تعبدوا غيره، ثم الفرق بين الطاعة والعبادة: يجوز أن يطاع غيره، ولا يجوز أن يعبد غيره؛ لأن الطاعة هي الائتمار؛ كقوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أي: ائتمروا، وأما العبادة هي الاستسلام والخضوع له والشكر له، ولا يجوز ذلك لغيره سوى اللَّه، أو أن يكون في العبادة معنى لا يدرك، كمعنى الرحمن؛ لا يدرك، حيث لم يجوّز تسمية غيره به؛ فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: وبالوالدين إحسانًا.
كأنه قال: وفرض عليكم -أيضًا- وحكم إحسان الوالدين، أو أمركم بإحسان الوالدين، ثم الإحسان في عرف الناس هو الفعل الذي ليس عليه: إنما هو فضل ومعروف يصنعه إلى غيره، هذا هو الإحسان في العرف واللغة، لكن المراد بالإحسان إلى الوالدين هو الشكر، لا ما ذكرنا من الإحسان المعروف عند الناس، وهو ما ذكر في آية أخرى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)، لأن الشكر هو المكافأة والجزاء لما أنعم وصنع من المعروف؛ فهو، واللَّه أعلم.
وإن ذكر الإحسان في هذا وفي غيره من الآيات، وهو قوله: (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، وقال في آية أخرى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، وغيرها من الآيات - فالمراد منه، واللَّه أعلم: الشكر لهما؛ لما ذكر في آية أخرى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) والشكر هو المكافأة: أمره أن يكافئ لهما ويجازي بعض ما كان منهما إليه من التربية، والبر، والعطف عليه، والوقاية من كل سوء ومكروه: في البطن، وبعد ما خرج من البطن حتى
27
كانا يؤثرانه على أنفسهما في السرور، ويجعلان أنفسهما وقاية له من كل سوء ومحذور، فأمر الولد أن يشكر لوالديه؛ جزاء ومكافأة لما كان منهما مما ذكر.
وهذا ذكر في الحال التي عجزا هما عن القيام لأمر أنفسهما، والحوائج لهما، وذلك - واللَّه أعلم - لأنهما إذا كانا قويين، قادرين لحوائج أنفسهما ومنافعهما يبران ولدهما، ويحسنان إليه؛ فيحمل برهما وإحسانهما إليه على الطاعة لهما في البر، والإحسان إليهما على المجازاة، وهكذا المعروف عند الناس أنه إذا بر بعضهم بعضًا يبعث ذلك على المكافأة؛ ليدوم ذلك عليهم وألا ينقطع؛ لذلك ذكر - واللَّه أعلم - الإحسان إلى الوالدين في الحال التي هي حال ضعف وعجز؛ حيث قال: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا).
ثم أمره أن يذكر الحال التي هو عليها، وهو حال طفوليته وصغره: أن كيف ربَّياه، وبراه، وعطفا عليه، ولانا له - قولًا وفعلا - حتى لم يستقذرا منه شيئًا مما يستقذر الناس بعضهم من بعض، ولم يبعدهما عنه ما يبعد الخلق بعضهم من بعض من أنواع الأذى والخبث؟! فأمره أن يعاملهما إذا بلغا الحال التي كان هو عليها: من الجهل والضعف، والعجز عن القيام بالحوائج على ما كان هو، وبلغا المبلغ الذي يستقذر منهما ويبعد عنهما، أي: لا يستقذر هو منهما، ولا يبعد عنهما؛ كما لم يستقذرا هما منه، ولا ينهرهما عند السؤال والحاجة إليه؛ كما لم يفعلا هما له؛ بل يلين لهما ويذل كما لانا هما له وخضعا، وهو ما قال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ...) الآية، وقال في آية أخرى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)، أخبر أنه يرد من بعد القوة والعلم إلى الحال التي كانوا عليها. وهو حال الضعف والجهل؛ حيث قال: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ...) الآية، وقال: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ...) الآية.
فقال: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ): هو كناية عن إظهار الكراهة لهما في الوجه، (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، أي: لا تُعنفْهما في القول والكلام على ما لم يفعلا هما بك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أُفٍّ) المراد به: هو (أُفٍّ) لا غير، (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، أي: لا تعنفهما،
28
ولا تخشن، لكنه ذكر أول حال الاستثقال والكراهة منه وأَخرها، أي: لا تقل لهما (أُفٍّ) على ما يستثقل الناس شيئًا ويكرهون في أول حال يرون شيئًا مستثقلًا مكروهًا - يقولون: أُفٍّ، أي: لا تقل أُفٍّ؛ لئلا يحمل ذلك على العنف والخشونة والنهر؛ وعلى هذا المعنى قالوا في قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ...) الآية قَالَ بَعْضُهُمْ: يغضوا من أبصارهم وليحفظوا فروجهم؛ لأن النظر بالبصر يحمله على الزنى في الفرج؛ ومنه يكون بدء الفجور.
وقَالَ بَعْضُهُمْ قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ): ذكر أول حال وآخرها؛ ليمتنعوا عن كل ذلك؛ فعلى ذلك قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا): ذكر أول الحال وآخرها.
والثاني، أي: لا تظهر في وجهك من الكراهة وإلاستئقال ليحمل ذلك على العنف وإلاثتهار - فإن كان تأويل قوله: (أُفٍّ) - (أُفٍّ) لا غير، ففيه حجة لأبي حنيفة - رحمه اللَّه - في قوله: إذا نفخ المصلي في موضع سجوده، فهو كلام يقطع صلاته؛ حيث قال (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ)، أي: لا تتكلم به، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمً).
حيث نهاه أن يقول لهما: أُفٍّ، ونهاه أن ينهرهما؛ فإذا امتنع عن الأفّ والنهر كان بعد ذلك قولا لينا لطيفًا.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: نهرته وانتهرته، وهو الخشن من الكلام شبه الوعيد.
وقال أبو بكر الكَيساني: الكريم: هو الذي يُولِي على آخَرَ نعمه، ويهنيه بترك الأذى والمن؛ كقوله: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)، وقال غيره: في وصف السخي، فقال: الذي يبذل ما احتوى عليه لمن احتاج إليه، وقطع طمعه عما احتوى عليه غيره عند حاجته إليه. ويشبه أن يكون الكريم قريبًا منه.
فَإِنْ قِيلَ: إن الوالدين كالمجبولين المطبوعين على البر لأولادهما، والشفقة عليهم، ولا كذلك الأولاد؛ فكيف يشبه بر من كان مجبولًا به مطبوعًا عليه - برَّ من لم يكن ذلك بطبعه.
قيل: لذلك ذكر هذا في الولد دون الوالدين، وأمرهم بذلك؛ لأن ما يفعل الوالدان من البر والإحسان إلى الولد يفعلان بطبع، والولد لا؛ لذلك كان ما ذكر واللَّه أعلم. ولهذا ما لم يجعل ولم يشرع قتل الوالد بولده؛ إذ ليس القصاص حياة بينهم، وشرع قتل الولد بوالديه؛ إذ في الوالدين من الشفقة والرحمة ما يمنع قتل الولد، وليس في الولد ذلك؛
29
فجعل في قتل الولد والديه القصاص، ولم يجعل في قتل الوالدين ولدهما؛ فعلى ذلك هذا في البرّ والإحسان.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة فيما قرن اللَّه من شكر والديه شكره في غير آية من القرآن: (اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ).
قيل: لأنه بهما كان نماؤه من أول حاله إلى آخر ما انتهى إليه من التغذية والتربية والوقاية من كل سوء والحفظ من كل آفة وشر.
وفي الآية دليل لقول أبي حنيفة؛ حيث قال في المكاتب: إذا اشترى والده أو أمَّه صار مكاتبًا، وإذا اشترى أخاه أو ذا رحم محرم منه - لم يصر مكاتبًا؛ لأن الأب والأم يصيران كذلك بحق الجزاء والشكر؛ فعليه ذلك، وأمَّا الأخ وغيره من المحارم بحق المعروف؛ فملكه لا يحتمل ذلك.
والخطاب من اللَّه - وإن كان مع رسوله - فالمراد منه غيره؛ لأن رسول اللَّه معلوم أنه لم يدرك والديه في الوقت الذي أرسل إليه وخاطبه بما خاطب؛ دلّ أنه أراد بالخطاب غيره - كل محتملٍ منه، ذلك وموهوم منه - وأمره أن يعاملهما بالمعاملة التي ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤)
يحتمل أن يكون الجناح كناية عن اليدين؛ لأن اليدين في الإنسان بموضع الجناح للطائر، وجناح الطائر يداه؛ فكأنه قال: اخفض واخضع لهما بيديك كما أمره أن يخضع لهما بلسانه بقوله: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، أي: اخضع لهما قولًا وفعلًا.
ويحتمل أن يكون الجناح كناية عن النفس، أي: اخضع لهما بجميع النفس والجوارح، وقوله: (الذُّلِّ): يحتمل أن يكون المراد من الذل: الذل نفسه، أي: كن لهما كالمستعين المحتاج إليهما لا كالمعين لهما قاضي الحاجة، ولكن ذليلًا كالمستعين من الآخر رافع الحاجة إليه. ويحتمل أن يكون الذلّ كناية عن الرحمة التي تكون في القلب، أي: اخضع لهما برحمة القلب والجوارح جميعًا؛ ألا ترى أنه قال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: رحماء على المؤمنين أشداء على الكافرين؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ). وذكر مقابل الذل في تلك الآية - الرحمة في هذا، ومقابل العزة - الشدة؟! فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله: جناح الذل كناية عن الرحمة؛ فيكون معناه: أن اخضع لهما
بالظاهر والباطن جميعًا على ما ذكرنا في قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، ويحتمل أن يكون على الإضمار؛ فيكون - واللَّه أعلم - كأنه قال: رب ارحمهما كما رحماني وربياني صغيرًا.
وقول أهل التأويل: إن هذا منسوخ نسخه قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ...) الآية - بعيد؛ وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين والكافرين؛ فالرحمة التي ذكر: تكون في الكافرين سؤال الهداية لهم وجعلهم أهلًا للرحمة والمغفرة؛ وذلك جائز كقول نوح لقومه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) أي: استهدوا ربكم؛ فيهديكم فيغفر لكم ما كان منكم؛ إنه كان لم يزل غفارًا؛ إذ لا يحتمل أن يأمرهم بالاستغفار ويعدهم بالمغفرة على الحال التي هم عليها، وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه.
أو أن تكون من الرحمة التي يتراحم بعضهم أعضًا، والشفقة التي تكون بين الناس كما يتراحم الصغار والضعفاء، ثم مثل هذه المعاملة التي أمر الولد أن يعامل أبويه يلزم المؤمنين من جهة الدِّين ومكارم الأخلاق أن يعاملهم الناس بعضهم بعضا، غير أن هذا فيما بين الناس ليس بفرض لازم، وذلك فرض لازم؛ لأنها بحق الشكر والجزاء لهما لما كان منهما إليه من البرّ والإحسان، وحق التربية والتعظيم حقهما وجليل قدرهما وخصوصيتهما، وهو كما يقال لرسوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وإلا فقد وصف المؤمنين بتراحم بعضهم على بعض؛ على ما ذكر: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وأمرهم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ (٢٥)
قال بعضسهم: قوله: (أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) من أسرار المحبة لهما والبر والكرامة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ)، أي: أعلم ما تفعله نفوسكم، وهو كما
31
قال عيسى - عليه السلام -: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، أي: تعلم ما تفعله نفسي، ولا أعلم ما في نفسك من التدبير والتقدير؛ فعلى ذلك هذا.
وجائز أن يكون قوله: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) - صلةَ قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ...) الآية، أي: ربكم أعلم بما في ضميركم: من الاستقذار إياهما، والاستثقال، والكراهة إذا بلغا المبلغ الذي ذكر، ولكن لا تظهر ذلك لهما ولا يوافق ظاهرك باطنك. أو أن يقول: ربكم أعلم بما في نفوسكم أولا يعلم غيره ما في نفوسكم؛ فلا تراءون الناس بما في قلوبكم؛ ولا تصرفوا ما في ضميركم إلى من لا يعلم ذلك؛ يخاطب الكل على الابتداء ألا يجعل ما في قلبه لغيره؛ بل يخلص له، أو أن يكون قوله: أي: ما تفعله أنفسكم وتدبّرها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ).
أي: تصيروا صالحين؛ لأن قوله: (تَكُونُوا) إنما هو في حادث الوقت.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا).
يشبه أن يكون قوله: (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ) صلة قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، و (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) أي: لم يزل غفورًا للأوابين ولمن يشاء.
ثم اختلف في الأواب:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الأواب: الرجَّاع التواب، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: الأواب: التائب مرة بعد مرة، وهو من: آب يئوب، أي: رجع، وهما واحد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأواب: المطيع، وقيل: المسبح ونحوه.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ في قوله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، أي: لِنْ لهما وارفق بهما؛ ذكر بر اللسان للوالدين ولطفه إياهما قولًا وفعلًا، وليس في ظاهر الآية ذكر البر بالمال والإنفاق عليهما؛ فيشبه أن يكون ذلك داخلًا في قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، أو
32
لم يذكر ذلك؛ لما أن المال للولد مال لهما؛ ألا ترى إلى ما روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ومعه أبوه فقال: يا رسول اللَّه، إن لي مالًا، وإن لي أبًا وله مال، وإن أبي يريد أن يأخذ مالي؛ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ " أَوَلَا ترى - أيضًا - أنه أضاف بيوت الولد إليهما؛ حيث قال: (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ)؛ قوله: (مِنْ بُيُوتِكُمْ) - معناه: بيوت أبنائكم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا): إنه صلاة الضحى، ويروى في ذلك خبر: روى زيد بن أرقم قال: خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على قوم وهم يصلون الضحى؛ فقال: " صَلَاةُ الأَوابِينَ، إِذَا رَمَضَتِ الفِصَالُ "، وفي خبر آخر عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بثلاث: " أمرني أن أصوم ثلاثًا في كل شهر، وألا أنام إلا على وتر، وأن أصلي ركعتي الضحى، فإنها صلاة الأوابين "، وقد يروى أحاديث كثيرة في الحث على صلاة الضحى وفعلها، وأنه صلى هو: ركعتين، وأربعًا، وستا، وثمانيًا - ما يكثر ذكرها ويطول، ومن صلاها فإنما صلاها على سبيل التطوع، ليس على سبيل اللزوم الواجب والسنة المؤكدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلاها مرة وتركها مرة؛ فكان كصلاة الليل يدرك فاعلها الفضل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (٢٦)
كان الآية هي صلة قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، أي: وقضى -أيضًا- أن تؤتي ذا القربى حقه ومن ذكر، أي: فرض، وحتم، وحكم؛ على اختلاف ما قالوا، وهو كقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...) الآية. أمر - عزّ وجلَّ - ببر الوالدين، والشكر لهما، وصلة ذي القربى، فريضة، ومن ذكر.
ثم اختلفوا في قوله: (حَقَّهُ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك الحق فريضة، وهو الزكاة؛ حيث جعل تلك صلة ما هو فرض،
وهو الشكر لله، وجعل العبادة له وشكر الوالدين؛ جزاء لما كان منهما إليه، وقد ذكرنا أن ذلك فرض لازم؛ فعلى ذلك صلة هَؤُلَاءِ؛ إذ صلتهم فريضة؛ لما جاء من المواعيد الشديدة في قطع الرحم، والترغيب في صلتهم.
ومنهم من قال: ذلك الحق نفل؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)، (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)، وقال: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) فلا يحتمل ما ذكر من الإعراض عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها في الفرض، دل ائه في النفل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: التبذير والإسراف: واحد، وهو المجاوزة عن الحد الذي جعل في الإنفاق والحقوق، والمجاوزة: عن المحق، إلى غير المحق.
روي عن ابن مسعود أنه سئل عن التبذير؛ فقال: إنفاق المال في غير حقه. وكذلك قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: التبذير هو الإنفاق فيما لا ينتفع به. ويحتمل ما ذكرنا أنه يترك الإنفاق على المحق وهم ذوو القربى، وينفق على الأجنبيين.
وقوْله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (٢٧)
أي: كانوا أولياء الشياطين.
(وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا).
أي: كفورًا لنعم ربه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (٢٨)
عن الحسن قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يُسأل فيقول: " مَا لآل مُحمدٍ - وَإنَّهُم لَتِسعَةُ أَهْلِ أَبْيَاتٍ - إِلا صَاع مِنْ طَعَام " فأنزل اللَّه تعالى: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا)، أي: عِدْهم أن
34
سوف يأتي بالرزق.
عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في قوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ): إذا سألوك، وليس عندك شيء انتظرت من اللَّه رزقًا يأتيك، (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا): يكون - إن شاء اللَّه - شبه العِدَة. وأمثال هذا قالوه.
ويحتمل قوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ): إعراض الوجه، ويحتمل إعراض الإجابة؛ فذلك يكون بالاستثقال والاستخفاف، ولما ليس عنده شيء يعطيهم ثانيًا، لكن لا نعرف أن الإعراض كان للاستثقال والاستخفاف، أو لما ليس عنده ما يعطيهم؛ فأمر أن يبين لهم أن الإعراض عنهم ليس للاستثقال والاستخفاف، وكذلك ترك الإجابة لهم، ولكن لما ليس عنده شيء؛ ليعلموا أن الإعراض عنهم ليس للاستخفاف ولا للاستثقال؛ ولكن لما ليس عنده ما يعطيهم، أو يطلب ما يعطيهم، وهو ما قال: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا).
أجمع أهل التأويل أن هذا الإعراض هو السؤال؛ لأنه كان يعرض عنهم لابتغاء ما يعطيهم، فذلك الإعراض يرجع منفعته إلى السؤال.
ثم اختلفوا في قوله: (مَيْسُورًا):
قَالَ بَعْضُهُمْ: عِدْهم عِدَةً حسنة: إذا كان ذلك أعطيناك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: عدهم خيرًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قل لهم قولًا لينًا وسهلًا.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَيْسُورًا)، أي: حسنًا، وهو من التيسير، ونحو ذلك قالوا، أي:
35
الآية٢٨ : وقوله تعالى :﴿ وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ﴾( روي عن الحسن أنه )١ قال :( كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فيقول : ما لآل محمد، وإنهم لتسعة أبيات، إلا صاع من طعام، فأنزل الله تعالى :﴿ فقل لهم قولا ميسورا ﴾ )( بنحوه البخاري٢٥٠٨ ) أي عدهم أنه سوف يأتي الرزق.
وعن٢ ابن عباس رضي الله عنه ( أنه )٣ قال في قوله :﴿ وإما تعرضن عنهم ﴾إذا سألوك، وليس عندك شيء، انتظرت رزقا من الله يأتيك ﴿ فقل لهم قولا ميسورا ﴾ يكون، إن شاء الله، شبه العدة. وأمثال هذا، قالوه.
ويحتمل قوله ﴿ وإما تعرضن عنهم ﴾ إعراض الإجابة فذلك يكون بالاستثقال والاستخفاف مرة، أو لما ليس عنده شيء يعطيهم ثانيا. لكن لا يعرف أن الإعراض، كان للاستثقال أو الاستخفاف أو لما ليس عنده ما يعطيهم، ( فأمره الله )٤ أن يبين لهم أن الإعراض عنهم ليس للاستثقال والاستخفاف، وكذلك ترك الإجابة لهم، ولكن لما ليس عنده شيء ليعلموا أن الإعراض عنهم ليس للاستخفاف وللاستثقال، ولكن لما ليس عند ما يعطيهم، وهو ما قال :﴿ فقل لهم قولا ميسورا ﴾.
أجمع أهل التأويل أن هذا الإعراض، هو السؤال، لأنه كان يعرض عنهم لابتغاء ما يعطيهم ؛ فذلك الإعراض يرجع منفعة إلى السؤال. ثم اختلفوا في قوله :﴿ ميسورا ﴾ قال بعضهم : عِدهُمْ عِدَةً حسنة إذا كان ذلك أعطيناك.
وقال بعضهم : أي عدهم خيرا. وقال بعضهم : قل لهم قولا لينا وسهلا. و قال أبو عوسجة ﴿ ميسورا ﴾ أي حسنا، وهو من التيسير٥ ونحوه. ذلك قالوا، أي اردد عليهم ردا حسنا ليقع عندهم أن الإعراض لما ليس عندك٦ شيء، لا لوجه آخر.
١ في الأصل و. م: عن الحسن..
٢ الواو ساقطة من الأصل و. م..
٣ ساقطة من الأصل و. م..
٤ في الأصل و. م: فأمر..
٥ في الأصل و. م : التفسير..
٦ في الأصل و. م : عنده..
اردد عليهم ردًّا حسنًا؛ ليقع عندهم أن الإعراض لما ليس عنده شيء لا لوجه آخر واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (٢٩)
في الإنفاق إذا كان عندك.
(وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ).
فيلومك من رجاك؛ ولكن كما قال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا...) الآية، أمر اللَّه أن ينفقوا نفقة ليس فيها سرف ولا إقتار، وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تمسك عن النفقة فيما أمرك ربك به من الحق، ولا تبسطها كل البسط فيما نهاك عنه؛ فتقعد كذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا نهي عن البخل والسرف، فلئن كان هذا نهيًا عن البخل كان قوله: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) نهيًا عن الجود، ولا يحتمل أن ينهى أحد عن البخل والجود؛ لأنهما غريزتان طبعيتان، ولا ينهى أحد عما كان سبيله الطبع والغريزة، ولكن ما ذكرنا - واللَّه أعلم - من كف اليد وقبضها عن الإنفاق في الحق وذي الحق، وبسطها في غير الحق وذي الحق.
وقال أبو بكر الأصم: دل قوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) أن قول اليهود: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ): أنهم لم يريدوا حقيقة اليد، ولكن التضييق والتقتير، وكذلك لم يرد بقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) - حقيقة بسط اليد، ولكن أراد التوسيع في الرزق والتكثير؛ ألا ترى أنه قال: (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ).
ثم يحتمل الخطاب في هذه الآيات الوجوه الثلاثة التي ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: أحدها: أنه خاطب رسوله بذلك كله، وشارك فيه قومه، وفي القرآن كثير أنه خاطب رسوله بأشياء فيشرك قومه في ذلك.
والثاني: خاطب كلا في نفسه نحو ما ذكرنا في قوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ)، و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، وقوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، أو (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، ونحوه من الخطابات، خاطب كل أحد في نفسه؛ إذ لا يحتمل أن يخاطب في: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) رسول اللَّه خاصة، ولا يخاطب غيره؛ بل الخطاب به كل الناس وكل إنسان.
والثالث: خاطب رسوله على إرادة غيره على سبيل الخصوصية له، نحو ما يخاطب ملوك الأرض خواصهم وأعقلهم من رعيتهم؛ على إرادة ذلك الخطاب غير المخاطبين؛ فعلى ذلك يحتمل هذا، أو أن يكون خاطب بقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) غيره ممن يمسك، ويخاطب بقوله: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) رسول اللَّه؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يحتمل أن يكون ما ذكر، وقد يحتمل البسط؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا).
يحتمل قوله: (مَلُومًا): عند نفسك وعند الناس، تلوم نفسك بأنك: لم أنفقت؟! وعند الناس: لما لَم تجد ما تنفق عليهم، وعند اللَّه -أيضًا- إذا أنفقت في غير حق.
(مَحْسُورًا): قَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: تحسرك العطية وتقطعك، كما يحسر السفرُ البعيرَ فيبقى منقطعًا:
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من الحسرة، وهي الندامة، يقال: حسر الرجل فهو محسور، وقال: التبذير: الفساد، و (مَلُومًا)، أي: ملومًا محزونًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٣٠)
أي: هو يوسع الرزق على من يوسع، وهو يقتر ويضيق على من يضيق ويقتر، أي: ذلك إلى اللَّه لا إلى الخلق؛ ليقطعوا الرجاء من الخلق، ويروا ذلك من اللَّه لا يرون من غيره.
والثاني: ذكر هذا؛ ليدوم الفضل لمن ذكر الفضل، ويتبين لهم حيث قال: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا).
ومن الناس من قال بأن قوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) صلة قوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)، يقول - واللَّه أعلم - إنك إن منعته وحرمته، وكان في تقدير اللَّه التوسيع عليه والبسط - لم يضره منعك ولا حرمانك، ولو وسعت عليه وبسطت، وكان في تقديره التضييق والتقتير لم ينفعه بسطك ولا توسيعك؛ ليعلموا أن التوسيع والبسط، والتضييق والمنع من اللَّه، أو ذكر ليقطعوا الرجاء من الخلق
ويطمعوا في رحمته وفضله، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا).
أي: عالما بأعمالهم، بصيرًا بمصالحهم وما لهم وما عليهم، أو أن يكون الخبير والبصير واحدًا، أو ذكر هذا؛ ليعلم أنه على علم بما يكون - منهم أنشأهم -: من الخلاف لأمره والرد والتكذيب لرسله، ولم يخرج فعله وإنشاؤه إياهم على علم بما يكون منهم عن الحكمة؛ لأنه لا منفعة له في طاعتهم إياه وائتمارهم، ولا مضرة ولا منفعة في خلافهم إياه؛ بل المضرة والمنفعة في ذلك راجعة إليهم، لذلك كان إنشاؤه إياهم على علم بما يكون منهم حكمة، ومن ملوك الأرض سفهاء وجهلاء؛ لأن ما يرسلون من الرسل، ويعملون من الأعمال، ويسعون لمنافع أنفسهم، ولدفع مضارّهم؛ فإذا فعلوا شيئًا يضرهم - على علم منهم بالضرر - كان ذلك سفها، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (٣١) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (٣٢) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (٣٣) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٣٥) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (٣٧) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (٣٨) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (٣٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ).
قال أبو بكر الأصم: إن من عادة العرب أنهم كانوا يقتلون البنات ويقتلون البنين؛ إذا صاروا بحيث لا ينتفعون بهم، ويقتلون الآباء والأمهات؛ إذا بلغوا أرذل العمر؛ فنهى الله أهل الإسلام عن الاستنان بسنتهم، وأمر أن يبزوا الآباء والأفهات إذا بلغوا ذلك المبلغ، وهو ما لمحال: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا...) إلى آخر ما ذكر.
وفي قتل ما كانوا يقتلون من البنات قطع التناسل والتوالد الذي كان المقصود من إنشاء هذا العالم؛ ذلك إذ المقصود من إنشاء العالم هذا الذي ذكرنا، وفي قتل البنات قطع ذلك وذهاب المقصود من إنشائه، ثم قال:
(نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).
أي: هم لا يأكلون من أرزاقكم؛ بل لكل منكم رزق على حدة، ليس في بقائهم نقصان في رزقكم ولا في فنائهم زيادة؛ بل كل يأكل رزقه، أو لا ترون أنه قد أنشأ لهم رزقًا لا شركة لكم فيه، وهو ما أنشأ لهم من اللبن في الضرع، ولا تنتفعون أنتم به؟! فظهر أن كلَّا يأكل رزقه، لا يُدْخِل بعضٌ في رزق بعضٍ نقصانًا. ثم قال:
(إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) أي: إن قتلهم في العقول كان خطأ كبيرًا، لما ذكرنا أن في قتلهم قطع ما به قصد في إنشاء هذا العالم وفنائه، أو يقول: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا): في الأمم الخالية. ويشبه أن يكون خطاب ما خاطب هَؤُلَاءِ الآيات: من قتل الأولاد، والزنى، وقتل النفس بغير حق، وغير ذلك ما تقدم وما تأخر؛ لوجهين:
أحدهما: ما كان للعرب أفعال وعادات السوء مما يخرج على السفه والقبح في العقل، خارجة عن الحكمة تنهاهم عن ذلك.
والثاني: ذكر هذا ونهى؛ لما علم أنه قد يكون في خلقه من يفعل ذلك خشية ما ذكر، ويحملهم ذلك على ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (٣٢)
أي: في العقل كان وقت ما كان فاحشة؛ لأن في إباحة الزنى ذهاب المعارف التي بها يوصل إلى الحكمة والعلم، أو كان فاحشة في الحكمة؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ): دل قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) - على أن هنالك فحشاء قبل الأمر في الحكمة أو في العقل، حتى قال: (لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)؛ إذ لو لم يكن - لكان قال: لا يأمر، حسب، وفي إباحة قتل الأنفس ذهاب ما به قصد من إنشاء العالم.
أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: في قتل الأولاد أنه، (كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)، وهو ما يعظم في العقل، وذكر في الزنى فاحشة، وهو ما يفحش في العقل والحكمة، وذكر في قتل النفس الإسراف، وقال: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)، والإسراف هو المجاوزة عن الحد الذي جعل له.
ويحتمل قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا)، أي: لا تزنوا؛ فإنه كان فاحشة، ويحتمل: لا تقربوا الأسباب التي بها يوصل إلى الزنى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (٣٣)
والحق ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئ مُسْلِمٍ إِلا فِي ثَلاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أوْ قَتْلِ نَفْسٍ بغَيرِ حَقٍّ ".
حرم اللَّه قتل النفس بغير حق؛ إذ في إباحته ذهاب ما قصد من إنشاء هذا العالم، وفي التحريم حياة الأنفس، وفي إباحة الزنى ذهاب المعارف وجهالتها، وفي تحريمه: حياة المعارف وإبقاؤها. والوصول إلى الحكمة والعلوم التي يطلب بعضهم من بعض؛ إذ لا يعرف أهل الحكمة من غيرهم؛ ففي ذلك ذهاب العلوم والحكمة.
وفي القتل على الذين - إذا استبدله - حياة الذين؛ لأن من تفكر قتل نفسه إذا ترك الذين - أعني دين الإسلام - ورجع عنه، لم يترك دينه الإسلام، ومن تفكر رجمه بالزنى - امتنع عن الزنى وتركه، ومن تفكر أنه يُقْتَل إذا قَتَلَ غيرَهُ - امتنع عن قتله؛ ولذلك قال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ).
فَإِنْ قِيلَ - في المرأة إذا ارتدت عن الإسلام -: إنها لا تقتل.
قيل: لأنه ليس في قتلها حياة الذين؛ لأن النساء أتباع للرجال في الدِّين؛ لأنهن يسلمن
40
بإسلام أزواجهن ويصرن ذمة بذمة الأزواج؛ فإذا كان كذلك - فليس في قتلهن حياة؛ ألا ترى أنه روي أنه فلانًا أسلم وأسلم معه كذا وكذا نسوة؟! واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ): والحق ما ذكرنا، وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ) يحتمل بالإسلام، أو بالذمّة بإعطاء الجزية، وإلا بالحق: ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا).
قيل: سلطانًا، أي: تسلطًا وقهرًا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: سلطانًا، أي: حجة على القتل فيما يستوجب به القصاص.
ثم ذكر أنه جعل لولى القتيل سلطانًا، ولم يذكر أي ولي؛ فيشبه أن يكون المراد من الولي الذي يخلف الميت في التركة، وهم الورثة؛ إذ هو حق كغيره من الحقوق؛ فذلك إلى الورثة، فعلى ذلك حق الدم، فكأنه قال: ومن قتل مظلومًا قد جعلنا لورثته سلطانًا، أي: حجة فيما يستوجب. وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن للواحد من الورثة القيام باستيفاء الدم؛ إذ لو كان للكل الاستيفاء لدخل في ذلك الإسراف الذي ذكر: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)؛ إذ لو ضر به كل الورثة لصار في ذلك مثله، وقد منعوا عن ذلك، فإذا كان ما ذكرنا كان في ذلك دلالة لقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه، حيث قال -: إن الورثة إذا كان بعضهم صغارًا وبعضهم كبارًا كان للكبار أن يقوموا بالاستيفاء دون أن ينتظروا بلوغ الصغار، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يقتل غير قاتل؛ وذلك إذ كان من عادة العرب قتل غير القاتل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) أي: لا يجاوز الحد الذي جعل له في القصاص من المثلة والقطع والجراحات.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)، أي: في القتل الأول؛ حيث قتل نفسًا بغير حق، فذلك إسراف؛ كما قال: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا).
41
وقوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) هذا يحتمل أن يكون خاطب به ولي القتيل فقال: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)، أي: لا يُجاوز الحد الذي جعل له؛ على ما روي: " إذَا قَتَلْتَ فَأَحْسِنِ القَتْلَ "، والثاني خاطب به القاتل: يقول له لا تقتل؛ فإنه إسراف، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن المقتول كان منصورًا بالولي ينصره الولي؛ بقوله: (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا). ويحتمل منصورًا بالمسلمين، أي: على المسلمين وغيرهم دفع ذلك الؤشل عنه؛ هذا على تأويل من يتاول في قوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) - قَتْلَ غير قاتل وليه، أو يزيد في جراحاته، ويمثل مثلًا بقول: احذروا ذلك؛ فإن على المسلمين دفع ذلك عنه، أو كان منصورًا في الآخرة.
وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن القصاص واجب بين الأحرار والعبيد، وبين أهل الإسلام وأهل الذمة؛ لأن اللَّه - تعالى - قال: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)؛ فكانت أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في هذه الآية؛ لأنها محرمة وفيه ما ذكرنا أن للكبير من الورثة قتله، وإن كان فيهم صغار.
وروي أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل قاتل أبيه فلانًا، وفي الورثة صغار لم يدركوا يومئذ.
ويحتمل أن يكون (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) في ظاهر هذا: أن القاتل هو كان منصورًا، ثم
42
إنه قال: (كَانَ مَنْصُورًا): هو منصور، فجائز أن يقول: (كَانَ مَنْصُورًا)، قيل: قتل هذا إذا كان على المسلمين مضرة، فلما قتل كان غير منصور، إلا أن يقال: إن الولي صار منصورًا، وذلك جأئز وفي قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا): يحتمل النهي عن نفس الزنى، ويحتمل أسباب الزنى: من نحو القُبْلة، والمس، وغيره؛ على ما ذكر: " العَينَانِ تَزْنِيَانِ، واليدانِ تَزْنِيانِ، والْفَرجُ يُصَدِّقُ ذلكَ كُلَّه أو يُكَذِّبُ ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (٣٤)
قوله: (أَحسَنُ): هو أفعل، فإن كان في الأشكال فهو على غاية الحسن، وإن كان في الجوهرين فهو على طلب الحسن؛ كقوله: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: اتبعوا ما هو طاعة؛ كأنه قال: ولا تقربوا مال اليتيم إلا ما هو خير له وحسن، وهو ما قال: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا)، يقول: لا تأكلوا إسرافًا وبدارًا، ولكن اقربوا ما هو خير له. وإن كان على طلب الغاية من الحسن، فهو ما قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: اذا قرب مال اليتيم لمنفعة نفسه فلا يقربه إلا لمنفعة حاضرة لليتيم، لا يقرب ماله لمنفعة جوة، وإذا قرب مال اليتيم لليتيم فإنه يجوز أن يقربه لمنفعة مرجوة له، وإن لم يكن فيه منفعة حاضرة، وقد ذكرنا تأويله وما فيه من الدلالة بقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه - فيما تقدم في سورة الأنعام.
ثم من الناس من احتج بهذا الآية لقول أبي حنيفة حيث قال: إن للوصي أنْ يبيع مال اليتيم من نفسه إذا كان خيرًا له لأن له أن يبيع من غيره بمثل قيمته؛ فدلّ أن ذكر الخير له إذا كان يبيع من نفسه.
وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ): كأنه على الإضمار، أي: لا تقربوا مال اليتيم إلا بالوجوه التي هي أحسن له وأنفع، وهو الحفظ له وطلب الربح والنماء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)
أي حتى يستحكم عقله ويستتم تدبيره في ماله وأمره؛ فعند ذلك يكون الأمر
إليه، وليس فيه أنه لا يكون بعد ذلك الأمر إلى الوصي إن كان؛ ولكن بإذنه يبيع ويشترى.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا).
يحتمل أن يكون قوله: (بِالْعَهْدِ) - العهود والمواثيق التي بين الناس أمروا بوفاء ذلك، ويحتمل الأمر بوفاء العهد ما ذكر في هذه الآيات من الأمر والنهي: من نحو ما قال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، إلى هذا الموضع، أي: وأوفوا بذلك كله؛ فإن ذلك كله كان مسئولا يُسأل عنه: وفاء كان ذلك أو نقضًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، أي: ناقض العهد كان مسئولا، ثم إن العهد على وجوه:
أحدها: عهد خِلْقة، أو العهد الذي أخذ عليهم على ألسن الرسل أو العهد الذي يجري بين الناس؛ واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٣٥)
أمر بتوفير الكيل إذا كالوا والوزن إذا وزنوا لهم، وإيفاء حقوقهم، وهو ما قال: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)، إن من عادتهم إذا كالوا أو وزنوا يبخسون الناس أشياءهم، ولم يوفروا حقوقهم؛ فنهاهم عن ذلك، وأوعدهم بالوعيد الشديد، وهو قوله: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣). ذِكْرُ تخصيص للكيلي والوزني من بين سائر الأشياء يحتمل وجهين:
أحدهما: لما بهما يجري عافة معاملة الناس؛ فأمرهم بإيفاء ذلك.
والثاني: لخوف الربا؛ لأن الكيلي والوزني هما اللذان يكونان دَيْنا في الذمة؛ فإذا أخذ شيء منهما أخذ عما كان دينا في الذمة، فإن نقص أو زاد فيكون ربا؛ لذلك خص، وإن كان غيره من الأشياء يؤمر بالإيفاء واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: القسطاس: حرف أخذ من الكتب السالفة ليس بمعرفة، وقال بعضهم: هو العدل، أي: زنو ابالعدل، وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الميزان؛ كقوله: (وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِالْقِسْطَاسِ): القبان؛ فكيفما كان ففيه ما ذكرنا: من الأمر بتوفير الكيل والوزن، والإيفاء لحقوقهم، والنهي عن البخس والنقصان.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
يحتمل قوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ) - ما ذكر من توفير الكيل والوزن وإيفاء الحقوق - خير في الدنيا؛ لما فيه أمن لهم من النا.
(وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، أي: أحسن عاقبة في الآخرة، ويحتمل قوله ذلك - ما ذكر في هذه
الآيات من أولها إلى آخرها: إذا عملوا بها خير لهم في الدنيا وأحسن تأويلًا، أي: عاقبة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦)
قيل: لا تقف، أي: لا -، وقيل: لا تَرْمِ، وقيل: لا تتبع؛ فكيفما كان - ففيه النهي عن القول والرميْ لا علم له به، ولا ترم ما ليس لك به علم، ولا تقل ما ليس لك به علم.
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلُّ أُولَئِكَ) يعني: الشمع والبصر والفؤاد - يُسأل عما عمل صاحبه؛ كقوله: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ...) الآية، وقوْله: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ)، تُسأل هَؤُلَاءِ عما عمل صاحبها؛ فيشهدون عليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو عن كل أُولَئِكَ كان مسئولاً، أي: يسأل المرء عما استعمل هذه الجوارح؛ وأنه: فيم استعملها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ، قوله: (أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ): يعني الخلائق جميعًا، (عَنْهُ): يعني عما ذكر من السمع والبصر والفواد (مَسْئُولًا).
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، يقول: لا تقل: رأيتُ،
45
ولم تر، وسمعتُ، ولم تسمع، وعلمتُ، ولم تعلم.
ومنهم من قال: في شهادة الزور؛ فإن احتج محتج بهذا في إبطال القياس والاجتهاد؛ فيقول: إذا قاس الرجل فقد قال ما ليس له به علم، لكن ليس كذا؛ لأن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد تكلموا في الحوادث بآرائهم، وشاوروا في أمورهم، وولى أبو بكر عمر - رضوان اللَّه عليهما - الخلافة بغير نصٍّ من الرسول عليها، وجعلها عمر شورى بينهم، ولم يُروَ ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا نقول: إنهم فعلوا ذلك بغير علم، ولا: قالوا ما لم يعلموا؛ فدل ما ذكرنا أن معنى قول اللَّه - تعالى -: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) - ليس يدخل فيه الاجتهاد في الأحكام، وتشبيهه الفرع الحادث بالأصل المنصوص عليه، واللَّه أعلم.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)، أي: يتناهى في الثبات إلى حال الرجال، ويقال: ثماني عشرة سنة، وقال: أَشُدُّ اليتيمِ غير أشدِّ الرجل في قوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)، والأشد ما ذكرنا من استحكام عقله وتدبيره إلى ألا يؤخذ بالنقصان، وهو إذا جاوز أربعين يأخذ في النقصان، وإلى أربعين يكون على الزيادة والنماء.
ويحتمل قوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ)، أي: لا تقف ما ليس لك به علم بأسباب العلم، وهو ما ذكر من السمع والبصر، وجائز أن يكون: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا): يسأل عن شكر هذه الأشياء، أو يسأل عما امتحن بهذه الأشياء.
وفي قوله: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) - دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه أمر بإيفاء الكيل والوزن، ولا يقدر على ذلك إلا باجتهاد الكائل والوازن؛ لأن كيل الرجل يزيد على كيل غيره وينقص، وربما كال الرجل الشيء ثم يعيد كيله هو بنفسه فيزيد أو ينقص، ولا يكاد يستوي الكيلان وإن كانا من رجل واحد، وإنما يكلف الاجتهاد في كيله وترك التعمد للزيادة أو النقصان فيه؛ فإذا فعل ذلك فقد وفر الكيل وأدى الواجب،
46
وهذا عندنا أصل الاجتهاد والاستحسان؛ لأن الكائل إنما يجتهد في توفيته الحق، ولا يعلم يقينًا أنه وفي ما كان عليه من الكيل الذي سمياه في العقد؛ فعلى ذلك الاستحسان إنما هو اجتهاد العالم في اختيار أحسن ما يقدر عليه إذا لم يكن للحادثة أصل يردها عليه ويشبهها به، واللَّه أعلم.
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (٣٧)
ليس النهي عن المشي نفسه؛ إنما النهي للمشي المرح، ثم النهي عن الشيء يوجب ضده، وكذلك الأمر، ثم إن النهي عن الشيء يوجب الأمر بضده؛ والأمر بالشيء يوجب النهي بضده، وهاهنا نهي عن المرح؛ فيكون أمرًا بما ذكر؛ كقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)، وقَالَ بَعْضُهُمْ: مرحًا: بطرًا وأَشَرًا، وقيل: متعظمًا متكبرًا بالخُيَلاء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر خرق الأرض وبلوغ الجبال طولًا؛ لأن من الخلائق من يخرق الأرض ويدخلها، ويبلغ طول الجبال، وهم الملائكة، ثم لم يتكبروا على اللَّه ولا تعظموا عليه ولا على رسوله؛ بل خضعوا له؛ فمن لم يبلغ في القوة والشدّة ذلك - أحرى أن يخضع له ويتواضع ولا يتكبر.
ويحتمل أن يكون ذكر هذا؛ لما أنهم كانوا يسعون في إطفاء هذا الدِّين، وقهر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فيقول: كما لم يتهيأ لكم خرق الأرض وبلوغ الجبال طولًا - لم يتهيأ لكم إطفاء دين اللَّه، وقهر رسوله، وهو ما ذكر: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ)، أو يذكر هذا يقول: إنك لن تبلغ بكبرك وعظمتك مرتبة الرؤساء والقادة ومنزلتهم، على هذا التمثيل يحتمل أن يخرج، واللَّه أعلم.
أو يقول: إنك لن تخرق الأرض، أي: لا تقدر أن تخرق الأرض؛ فتستخرج ما فيها من الكنوز والمنافع؛ فتنتفع بها، ولا تقدر أن تبلغ الجبال طولًا؛ فتنتفع بما في رءوس الجبال من المنافع، وكيف تتكبر وتمرح على غيرك، وهو مثلك في القوّة والشدّة. وأصل الكبر أن من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج - لم يتكبَّر على مثله، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (٣٨)
أي: كل ما أمر اللَّه به ونهى عنه في هَؤُلَاءِ الآيات.
(كَانَ سَيِّئُهُ).
بالعقل.
(كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا):
مسخوطًا، وفيه دلالة أن الأمر الَّذِي أمر في هذه الآيات ونهاهم عنه - لم يكن أمر أدب ولا نهي أدب، ولكن أمر حتم وحكم؛ حيث ذكر أن ذلك عند ربك: (مَكْرُوهًا)؛ إذ لو كان أدبًا لم يكره أي شيء ما ذكر في مكروه عند ربك، وهو كقوله: (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي: يسمعون الكل؛ فيتبعون أحسنه، ويتركون غيره؛ فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (٣٩)
أي: ذلك الذي أمر اللَّه به ونهى عنه في هَؤُلَاءِ الآيات من الحكمة - ليس من السفه، أي: ما أمر فيها هو حكمة وما نهى عنه إنما نهى عنه؛ لأنه سفه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة - هاهنا - القرآن، قوله: (ذَلِكَ)، أي ذلك الذي أوحى إليك هو حكمة، وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة: الإصابة، أي: ذلك الذي أوحى إليك صواب.
وقوْله: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)، أي: ما ذكر في هذه الآيات وأمر به ونهى عنه - هو من الحكمة، والحكمة: هي وضع الشيء موضعه، يقول: حكمه: وضَع الشيء موضعه لا وضَع الشيء غير موضعه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا).
معلوم أن رسول اللَّه لا يجعل معه إلهًا آخر؛ إذ عصمه واختاره لرسالته، لكنه ذكر هذا ليعلم أنه لو كان منه ذلك فيفعل به ما ذكر؛ فمن هو دونه أحق أن يفعل به ما ذكر، وهو ما قال في الملائكة: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ...) الآية. أنه عصمهم حتى أخبر أنهم: (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)؛ فمن لم يكن معصومًا - لم يوصف أنه لا يسبق بالقول؛ فعلى ذلك قوله: (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا): عند اللَّه، أو عند نفسك، أو عند الخلق.
الآية٣٩ : وقوله تعالى :﴿ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ﴾ أي ذلك الذي أمر الله به، ونهى عنه في هؤلاء الآيات من الحكمة، ليس من السفه، أي ما أمر فيها هو حكمة، وما نهى عنه.
وقال بعضهم : الحكمة ههنا القرآن لقوله١ :﴿ ذلك ﴾ أي ذلك الذي أوحى إليك، هو الحكمة. وقال بعضهم : الحكمة الإصابة، أي ذلك الذي ﴿ أوحى إليك ربك من الحكمة ﴾ صواب، وقوله :﴿ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ﴾ أي ما ذكر في هذه الآيات، وأمر به، ونهى عنه، من الحكمة، والحكمة هي وضع الشيء موضعه ؛ يقول : حكمه وضع كل شيء موضعه، لا وضع الشيء غير موضعه.
وقوله تعالى :﴿ ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ﴾ معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل مع الله إلها آخر، إذ عصمه، واختار لرسالته، لكنه ذكر ذلك ليعلم أنه لو كان منه ذلك لفُعِلَ٢ به ما ذكر. فمن هو دونه أحق أن يفعل به ما ذكر وهو ما قال في الملائكة :﴿ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ﴾الآية( الأنبياء : ٢٩ )إنه عصمهم حتى أخبر أنهم﴿ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ﴾( الأنبياء : ٢٧ )فمن لم يكن معصوما ما لم يوصف أنه لا يسبق بالقول. فعلى ذلك قوله :﴿ ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى ملوما ﴾عند الله أو عند نفسك أو عند الخلق﴿ مدحورا ﴾ مبعدا مطرودا من رحمته في النار. أو خاطب به رسوله، وأراد به غيره على ما ذكرنا في غير موضع، والله أعلم.
١ في الأصل و. م: قوله..
٢ في الأصل و. م: فيفعل..
(مَدْحُورًا):
مبعدًا مطرودًا من رحمته في النار، أو: خاطب به رسوله، وأراد به غيره؛ على ما ذكرنا في غير موضع، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤١) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (٤٢) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا).
يخبر من سفه مشركي العرب أنهم نسبوا إلى اللَّه البنات، والبنين إلى أنفسهم - بقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)، والذي حملهم على ذلك قول أهل الكتاب؛ حيث وصفوا اللَّه بالولد؛ فرأوا أن ما يكون له الولد يكون له البنات؛ فقال: (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا).
لم يزد على هذا العظيم ما قالوا في اللَّه؛ فلم يضرب لقولهم ذلك مثلًا؛ لما ليس وراء ذلك مثل يضرب؛ لأنه ضرب مثل ما قالوا بالولد له بانفطار السماء، وانشقاق الأرض، وخرور الجبال؛ حيث قال: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا...) الآية: أخبر أن السماوات وما ذكر كادت أن تنقلب عن وجهها؛ لعظيم ما قالوا في اللَّه من الولد. وقال في الشريك: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ...) الآية، فهذا غاية ما ذكر من الأمثال لمن قال له بالولد والشريك؛ فليس وراء هذا يذكر لمن قال له البنات، ولكن قال: (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) لم يزد على ذلك؛ لأن الذي قالوا له ونسبوا إليه نهاية في السفه والسرف في القول، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوا كبيرًا.
أو يقول: (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا): في عقولكم، لو تفكرتم وتدبرتم لعلمتم أن ما قلتم في اللَّه - سبحانه وتعالى - عظيم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ)، أي: أعطاكم ربكم؛ يقال: أصفيته: أي: أعطيته، وأصفاكم، أي: اختاركم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤١)
قال الحسن: قوله: (صَرَّفْنَا) - يقول: بيّنا في هذا القرآن ما نزل بمكذبي الرسل من الأمم الخالية؛ بتكذيبهم الرسل أفة قائمة؛ (لِيَذَّكَّرُوا): ما نزل بهم؛ فينتهوا عن تكذيبهم الرسل، (وَمَا يَزِيدُهُمْ): ما بين لهم. (إِلَّا نُفُورًا) أي: تكذيبًا للرسل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ولقد صرفنا في هذا القرآن، أي: بيَّنَّا في هذا القرآن والآيات التي تقدم ذكرها - جميع ما يؤتى ويتقى، وما لهم وما عليهم؛ ليعتبروا به، فيؤمنوا، وما يزيدهم القرآن إلا تباعدًا من الإيمان به، وهو ما ذكر: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: صرفنا في هذا القرآن من المواعيد الشديدة أنه ما ينزل بهم في الآخرة من العذاب والعقوبة؛ بصنيعهم وتكذيبهم الرسل، لكن إذ لم يؤمنوا بالآخرة، لم يزدهم ذلك الوعيد إلا نفورًا وبعدًا؛ فإن اللَّه قد ذكر في القرآن المواعظ الكثيرة: ما لو نظروا فيه وتأملوا لكانت تمنعهم وتزجرهم عن مثل صنيعهم، لكن لم ينظروا إليه بالتعظيم؛ ولكن نظروا إليه بالاستهزاء والاستخفاف به؛ لذلك أضيف زيادة النفور إليه، أو أضاف ذلك إليه؛ لما أحدثوا بنزوله الكفر والتكذيب له؛ فأضاف ذلك إليه لما ازداد لهم التكذيب، وحدث لهم الكفر به إذا نزل، كما كان لأهل الإسلام يزداد لهم الإيمان واليقين إذا نزل.
وجائز أن يكون قوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا)، أي: يَشْرُفوا؛ كقوله: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ)، أي: شرفكم، أو ليذكروا ما نسوا وتركوا وغفلوا عنه. ثم قوله: (صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا)، معناه - واللَّه أعلم -: أنزله؛ ليلزمهم الذكر، أو ليكون عليهم، أو ليأمرهم بالذكر، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي: ليلزمهم العبادة والطاعة، أو ليأمرهم بالعبادة والطاعة، أو أرسل وخلق لمن علم منه العبادة والطاعة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَذَّكَّرُوا)، أي ليكون لهم الذكرى بذلك؛ لأنه لا يحتمل أن يبيِّن لهم ويجعل لهم بيانًا؛ لِيَذَّكَّرُوا، ثم لا يكون؛ ولكن ما ذكرنا ليكون لهم الذكرى، وقد كانت لكن لم تنفعهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا):
ليس القرآن بالذي يزيدهم نفورًا، ولكن لما نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء زاد لهم بذلك نفورًا عندهم وتكذيبًا، وإلّا: القرآن لا يزيد إلا هدى ورشدًا؛ على ما وصفه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (٤٢)
قال عامة أهل التأويل: في الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها، أي: لو كانت هي آلهة معه كما تقولون إذًا لابتغوا التقرب والزُّلْفَى إلى ذي العرش سبيلًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو كانت لهم عقول لابتغت، وأمكن لها من الطاعة والعبادة إذًا لابتغت إلى ذي العرش سبيلًا بالطاعة له والعبادة، وهو ما قال في الملائكة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الآية، لكن الأشبه أن يكون اللَّه - تعالى - ألا يقول في الأصنام مثل هذا: لو كان معه آلهة، إنما هي خشب، لكن قال فيها ما قال: لا تسمع ولا تعقل ولا تبصر، وما ذكر في آية أخرى: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)، وما قال: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا...) الآية: مثل هذا أن يقال في الأصنام، وأمّا ما ذكر: (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ...) الآية، معلوم أنها ليست من أهل الابتغاء، إلا أن يقال ما ذكر بعضهم، أي: لو كانت الأصنام التي تعبدونها آلهة؛ على ما تزعمون، إذًا لابتغوا إلى الله سبيلًا، بالطاعة لو لم يكن لهم ذلك، وكانوا من أهلها، لكن الأشبه - إن كان - فهو في الذين يعبدون الملائكة، ويتخذونهم معبودًا أو في الذين يقولون بالعدد الذين لهم تدبير، أو الذين يقولون بقدم العالم وأصوله؛ فهو يخرج على وجوه، فنقول - والله أعلم -: (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا)، أي: إذًا لأظهروا دلالة ربوبيتهم وألوهيتهم بإنشاء الخلائق، كما أظهر اللَّه - سبحانه - ألوهيته وربوبيته بما أنشأ الخلائق، ولم يظهر ممن يدعون لهم ألوهيته إنشاء شيء من ذلك فدل أنه ليس هنالك إله غيره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا)، أي: صاروا كهَؤُلَاءِ: يعني اللَّه، أي: في الإنشاء والإفناء والتدبير، ومنعوه عن إنفاذ الأمر له: في خلقه، والمشيئة له فيهم، واتساق التدبير؛ فإذ لم يكن ذلك منهم دل أنه لا إله معه سواه؛ ولكون كقوله: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو كان معه آلهة كما يزعمون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا،
في القهر والغلبة؛ على ما عرف من عادة الملوك بالأرض: أنه يسعى كل منهم في غلبة غيره وقهر آخر ويناصبه؛ كقوله: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، أي: غلب وقهر وناصب.
ويحتمل غير هذا، وهو أن يمنع كل منهم أن يكون لله الواحد بالخلق دلالة ألوهية وربوبية، وجهة الاستدلال له بذلك؛ فإذا لم يمنعوا ذلك دلّ أنه لا ألوهية لسواه، وهو الأول بعينه.
وقال بعض أهل التأويل: لعرفوا فضله ومرتبته عليهم، ولابتغوا ما يقربهم إليه، وقيل: ولابتغت الحوائج إليه، وهذا هو الذي ذكرناه بدءًا من طلب الطاعة له.
وقوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤٣)
نزه نفسه وبرأها عما يقول الملحدة فيه ووصفوه بالشركاء والأشباه والولد وما لا يليق به؛ فقال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا).
ثم قال: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)
ثم يحتمل تسبيح ما ذكر وجهين:
أحدهما: جعل اللَّه - تعالى - في خلقه السماوات والأرض وما ذكر دلالة على وحدانية اللَّه وألوهيته، وشاهدة له أنه واحد لا شريك له ولا شبيه؛ فإن كان على هذا فيدخل فيه كل شيء: ذو الروح وغيره؛ فيكون قوله: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ): الكفرة خاصة، وأمَّا أهل الإسلام يفقهون ذلك.
والثاني: أنه جعل اللَّه في سرية هذه الأشياء ما ذكر من التسبيح والتنزيه، لكن لا نفقه نحن ذلك ولا نفهمه؛ عليّ ما أخبر: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). وهي لا تعرف - أيضًا - أن ذلك تسبيح على ما جعل في الجوارح والأعضاء تسبيحًا وعبادة له، وإن كانت هي لا تعرف ذلك أنه تسبيح.
والئاك: أنه جعل صوت هذه الأشياء تسبيحًا له حقيقة على معرفة هذه الأشياء أنه تسبيح، وإن كان لا يعرف ذلك إلا خواص من الناس، وهم الأنبياء، واللَّه أعلم.
وقوْله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).
الحليم: هو ضد السفيه، والثاني: يقال حليم: ليس بعجول، أي: لا يعجل بالعقوبة.
52
(غَفُورًا) إذا تابوا، أو (غَفُورًا) حيث ستر عليهم فضائحهم، الحلم ما ذكرنا: ضد السفه والعجلة. ذكر هاهنا على أثر ما ذكر منهم من القول الوخش فيه والعظيم أنه حليم؛ ليعلموا أنه عن علم لم يأخذهم بالعقوبة عاجلًا، و (غَفُورًا)؛ ليعلموا أنهم، وإن أعظموا القول فيه؛ يغفر لهم ويتجاوز عنهم إن رجعوا وتابوا.
فإن قال لنا ملحد: إنكم تصفون ربكم بالحلم والرحمة، ثم تقولون: إنه يعذب أبد الآبدين في النار بكفر كان منه؛ فأنى يكون فيه رحمة أو حلم؟!
قيل: إنكم لا تعرفون ما الحلم وما الرحمة، ولو عرفتم - ما قلتم ذلك، ولو لم يعذب على الكفر أبد الآبدين لم يكن حليمًا ولكن سفيهًا، وكذلك الرحمة، وليس خروج الشيء على غير موافقة الطبع بالذي يخرج صاحبه عن حد الحكمة والرحمة، فأنتم إنما تصورتم الحكمة والرحمة على موافقة طباعكم، وليس كذا.
وكذلك يقال للمعتزلة؛ حيث قالوا: إنه لا يعقل إلا ما هو أصلح لنا في الدِّين؛ لأنه جواد؛ فلو منع الأصلح والأخْيَر لم يكن جوادًا موصوفا بالجود، وإنما قدرتم وقلتم على ما وافق طباعكم وأنفسكم، ولو عرفتم حقيقة الجود ما قلتم ذا ولا خطر على بالكم شيء من ذلك، وإنما على اللَّه أن يختار لكل ما علم منه أنه يختار ويؤثر؛ لأنه لا يجوز أن يختار الولاية لمن علم منه أنه يختار عداوته، وكذلك لا يجوز أن يختار العداوة لمن علم منه أنه يختار ولايته، وليس على اللَّه - تعالى - حفظ الأصلح لأحد في الذين؛ بل عليه حفظ ما يوجبه الحكمة والربوبية.
وفي ذكر تسبيح ما ذكر من جميع الموات على أثر ما ذكر من قول أُولَئِكَ الكفرة من وصف اللَّه - تعالى - بالولد والشركاء، ونحوه يخرج على وجوه:
أحدها: يذكر سفههم؛ أنهم مع ادعائهم العقل والعلم والتمييز والسؤدد - وصفوا الله بالذي لا يليق به، وما يسقط الألوهية والربوبية عنه، على زعمهم، فالذين ليس لهم شيء من ذلك التمييز والفهم والعقل نزهوه عن ذلك كله وبرءوه عن جميع ذلك.
والثاني: ذكر تسبيحهم على أثر ذلك؛ ليعلم أنه لا حاجة إلى تسبيحهم، ولا منفعة له في ذلك أن سبح له جميع الخلائق سواهم؛ بل منفعة تسبيحهم ترجع إليهم.
والثالث: ذكره لإثبات الرسالة للرسل؛ لأنهم ذكروا تسبيح الموات، ولا يفهم ذلك ولا يعقل إلا بوحي من السماء؛ فذلك يدل على الرسالة.
فعلى هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا يجوز ذكر تسبيح ما ذكر على أثر ما ذكر، وكذلك ذكر سجود الموات يخرج على هذه الوجوه التي ذكرناها، واللَّه أعلم.
53
الآية ٤٤ : ثم قال :﴿ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ﴾ثم يحتمل ما ذكر( وجوها :
أحدهما )١ : جعل الله تعالى في خلقه السماوات ولأرض وما ذكره دلالة على وحدانيته وألوهيته وشهادة٢ له أنه واحد، لا شريك له، ولا شبيه. فإن كان على هذا يدخل٣ فيه كل شيء ذو الروح وغيره، فيكون قوله :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ للكفرة٤ خاصة. وأما أهل الإسلام ( فإنهم )٥يفقهون ذلك.
والثاني : جعل٦ الله في سرية هذه الأشياء ما ذكر من التسبيح والتنزيه، لكن لا نفقه نحن ذلك، ونعيه على ما أخبر﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ وهي لا تعرف أيضا أن ذلك تسبيح علة ما جعل في الجوارح والأعضاء تسبيحا وعبادة له، وإن كانت هي، لا تعرف ذلك أنها تسبح.
والثالث :( جعل الله )٧ صوت هذه الأشياء تسبيحا له حقيقة على معرفة هذه الأشياء أنه تسبيح، وإن كان لا يعرف ذلك إلا خوص من الناس، وهم الأنبياء، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إنه كان حليما غفورا ﴾ الحلم هو ضد السفه، وهو الحليم، ليس بعجول، أي لا يعجل بالعقوبة﴿ غفورا ﴾ إذا تابوا، أو﴿ غفورا ﴾ حين٨ ستر عليهم فضائحهم. الحلم ما ذكرنا ضد السفه والعجلة : ذكر ههنا على إثر ما ذكر منهم من القول الوحش فيه والعظيم : أنه حليم ليعلموا أنه عن حلم، لم يأخذهم بالعقوبة عاجلا، ﴿ غفورا ﴾ ليعلموا أنهم، وإن أعظموا القول فيه، يغفر لهم، ويتجاوز عنهم، إن رجعوا، وتابوا.
فإن قال لنا ملحد : إنكم تصفون ربكم بالحلم والرحمة ثم يقولون : إنه يعذب أبد الآبدين في النار بكفر كان ( من كافر )٩ فأني تكون فيه رحمة أو حلم ؟
قيل : إنكم لا تعرفون ما الحلم ؟ وما الرحمة ؟ ولو عرفتم ما قلتم ذلك، ولو يعذب على الكفر أبد الآبدين لم يكن حليما، ولكن ( يكون )١٠ سفيها. وكذلك الرحمة. وليس خروج الشيء على غير موافقة الطبع بالذي يخرج صاحبه عن حد الحكمة والرحمة. فأنتم إنما تصورتم الحكمة والرحمة على موافقة طباعكم وليس كذا.
وكذلك يقال للمعتزلة حين١١ قالوا : إنه لا يفعل إلا ما هو أصلح لنا في الدين لأنه جواد، فلو منع الأصلح والأخير لم يكن/٣٠٢-أ/جوادا موصوفا بالجود، وإنما قدرتم، وقلتم، على ما وافق طباعكم وأنفسكم، ولو١٢ عرفتم حقيقة الجود ما قلتم ذا، ولا خطر على بالكم شيء من ذلك١٣. وإنما على الله أن يختار لكل ما علم منه أن يختار، ويؤثر لأنه لا يجوز أن يختار الولاية لمن علم منه أنه يختار ( عداوته، وكذلك لا يجوز أن يختار )١٤ العداوة لمن علم منه أنه يختار ولايته.
وليس على الله تعالى حفظ الأصلح لأحد في الدين بل عليه حفظ ما توجبه الحكمة والربوبية.
وفي ذكر تسبيح١٥ من ذكر من جميع الموات على إثر ما ذكر من قول أولئك الكفرة من وصف الله تعالى بالولد والشركاء ( ونحوهما وجوه )١٦.
أحدها : ذكر سفههم أنهم مع ادعائهم العقل والعلم والتمييز والسؤدد، وصفوا الله بالذي لا يليق به وما يسقط الألوهية والربوبية عنه على زعمهم. فالذين ليس لهم شيء من ذلك التمييز والفهم والعقل نزهوه عن ذلك كله، وبرؤوه عن جميع ذلك.
الثاني : ذكر تسبيحهم ( على إثر ذلك ليعلم أن لا حاجة إلى تسبيحهم )١٧ولا منفعة في ذلك، إذ يسبح له جميع الخلائق سواهم. بل منفعة تسبيحهم ترجع إليهم.
والثالث : ذكر ( تسبيحهم )١٨ لإثبات الرسالة للرسل، لأنهم ذكروا تسبيح الموات ولا يفهم ذلك، ولا يعقل إلا بوحي من السماء، فذلك يدل على الرسالة.
فعلى هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا يجوز تسبيح ما ذكر على إثر ذكر ما ذكر.
وكذلك ذكر سجود الموات يخرج على هذه الوجوه التي ذكرنا، والله أعلم.
١ في الأصل و. م : وجهين أحدهما..
٢ في الأصل و. م : وشاهدة..
٣ في الأصل و. م: فيدخل..
٤ في الأصل و. م : الكفرة..
٥ ساقطة من الأصل و. م..
٦ أدرج قبلها في الأصل و. م: أنه..
٧ في الأصل و. م : أنه جعل..
٨ في الأصل و. م : حيث..
٩ في الأصل و. م: فيه..
١٠ ساقطة من الأصل و. م..
١١ في الأصل و. م : حيث..
١٢ من م، في الأصل و. م: وقوله..
١٣ من م، في الأصل : شيء..
١٤ من م، ساقطة من الأصل..
١٥ أدرج قبلها في الأصل: من..
١٦ في الأصل و. يخرج على..
١٧ من م، ساقطة من الأصل..
١٨ ساقطة من الأصل و. م..
قوله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (٤٥) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٤٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الكفرة كانوا يمنعون رسول اللَّه عن تبليغ الرسالة إلى الناس وقراءة ما أنزل إليه من القرآن عليهم، وقد أمر بتبليغ الرسالة، فأنزل اللَّه عليه هذه الآية، فأخبر أنه جعل بينه وبين أُولَئِكَ حجابًا مستورًا، ومكن له التبليغ إليهم بالحجاب الذي ذكر، ثم اختلف في ذلك الحجاب:
قَالَ بَعْضُهُمْ: شغلهم في أنفسهم بأمور وأشغال حتى بلغ إليهم.
ومنهم من يقول: ألقى في قلوبهم الرعب والخوف حتى لم يقدروا على منع ذلك.
ومنهم من يقول: صيرهم بحيث كانوا لا يرونه، ويستمعون قراءته وتلاوته، ولم يقدروا على أذاهم به والضرر عليه؛ فبلغهم.
وجائز أن يكون ما ذكر من الحجاب هو حجاب الفهم؛ وذلك أنهم كانوا ينظرون إليه بالاستخفاف والاستهزاء به، فحجبوا عن فهم ما فيه، وهو كقوله (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ...) الآية، يدل على ذلك قوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ...) الآية.
ثم قال الحسن في قوله: (جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا)، أي: طبع على قلوبهم حتى لا يؤمنوا ومذهبه في هذا أنه يقول: إن للكفر حدًّا إذا بلغ الكافر ذلك الحد طبع على قلبه فلا يؤمن أبدًا، واستوجب بذلك العقوبة والإهلاك بالذي كان منهم، إلا أن اللَّه بفضله أبقاهم؛ لما علم أنه يولد منهم من يؤمن، أو يبقيهم لمنافع غيره، وإلا قد استوجب الهلاك، فيقول الحسن: أضاف ذلك إلى نفسه لما استوجبوا هم بفعلهم.
وقال أبو بكر الأصم: أضاف ذلك إليه؛ لأنهم أنفوا عن اتباع الرسل وتكبروا عليهم فاستكبروا، لكن نقول له: الاستكبار الذي ذكرت فعلهم، لا فعل اللَّه؛ فما معنى إضافة ذلك إليه؟! فهو خيال وفرار عما يلزمهم في مذهبهم.
وقال جعفر بن حرب: في الآية إضمار؛ لما هم أضافوا ذلك إليه أنه هو جعل كذلك،
وهو ما قالوا: (قُلُوبنُا في أَكِنَّةٍ)، و (قُلُوبُنَا غُلْفٌ)، ونحوه من الخيال؛ فلو جاز صرف هذه الآيات إلى ما ذكروا من الخيال لجاز لغيرهم صرف الكل إلى مثله؛ فهذا بعيد، ولكن عندنا أن إضافة ذلك إلى نفسه تدل على أن له فيه صنعًا وفعلًا، وهو أن يخذلهم باختيار ما اختاروا هم، أو أضاف ذلك إليه؛ لما خلق ظلمة الكفر في قلوبهم، وهذا معروف في الناس: أن من اعتقد الكفر يضيق صدره ويَحْرج قلبه؛ حتى لا يبصر غيره، وهو ليس يعتقد الكفر لئلا يبصر غيره ولا يهتدي إلى غيره، لكن لا يبصر غيره، فيدل هذا أنه يصير كذلك؛ لصنع له فيه. وكذلك من اعتقد الإيمان يبصر بنوره أشياء، وهو ليس يعتقد الإيمان ليبصر بنوره أشياء غابت عنه؛ دل أنه بغيره أدرك ذلك، وكذلك المعروف في الخلق أن من اعتقد عداوة آخر، يضيق صدره بذلك، وكذلك من اعتقد ولاية آخر ينشرح صدره له بأشياء.
فهذا كله يدلّ أن لغيره في ذلك فعلًا، وهو ما ذكرنا من الخذلان والتوفيق، أو خلق ذلك منهم - واللَّه أعلم - فيدخل فيما ذكرنا في قوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً...) الآية. وأصله أن ما ذكر من الحجاب والغلاف والأكنة إنما هو على العقوبة لهم لعنادهم ومكابرتهم الحق؛ لأنهم كلما ازدادوا عنادًا وتمردًا ازدادت قلوبهم ظلمة وعمى، وهو ما ذكر في غير آية؛ حيث قال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...) الآية. وقال: (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وقال: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): أخبر أن ما ران على قلوبهم بكسبهم الذي كسبوا، وأزاغ قلوبهم باختيارهم الزيغ، وصرف قلوبهم باختيارهم الانصراف؛ فعلى ذلك ما ذكر من جعل الحجاب والأكنة عليها بما كان منهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (٤٦)
قَالَ بَعْضُهُمْ: الشيطان إذا ذُكِرَ اللَّه ولى عنه أوأعرض، وفرَّ منه، وهو ما ذكر: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ...) الآية، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا): الإنس، أي: ولوا عما دعوهم إليه، وأقبلوا نحو أصنامهم التي عبدوها.
وقوله: (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) يحتمل: وإذا ذكرت دلالة وحدانية ربك
وألوهيته وربوبتته، أو ذكرت دلالة رسالاتك أو دلالة البعث، يحتمل ذكر دلالة هذه الأشياء الثلاثة؛ لأنهم كانوا منكرين لهذه الأشياء؛ فعند ذلك ذكرها.
يولون على أدبارهم نفورًا: يحتمل الهرب والإعراض، ويحتمل الكناية عن الإنكار والتكذيب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٤٧)
كأنهم يستمعون إلى القرآن: إما لما يستحلون نظمه ورصفه، أو يستمعون إليه؛ لما فيه من الأنباء العجيبة، أو يستمعون إليه؛ ليجدوا موضع الطعن فيه، فإن كان استماعهم للوجهين الأولين فإذا جاء موضع الخلاف والتنازع، وهو ما يذكر فيه من دلالة الوحدانية ودلالة الرسالة ودلالة البعث، عند ذلك كانوا يولون الأدبار نافرين؛ لإنكارهم، وإن كان الاستماع لطلب الطعن - فهو محتمل أيضًا.
واختلف في قوله: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ).
قيل: كانوا يستمعون إليه ليكذبوا عليه؛ كقوله: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ)، كانوا يسرعون إلى استماع ما يقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليكذبوا عليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا يستمعون إليه؛ ليجدوا موضع الطعن فيه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: استمعوا إليه ليروا الضعفة والأتباع أنهم إنما يطعنون فيه بعدما استمعوا إليه وعرفوه؛ فيقع عندهم أن الطعن كان في موضع الطعن، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإذْ هُمْ نَجْوَى).
قيل: أي: يتناجون فيما بينهم أنه مسحور وأنه مجنون وأنه كاهن، ثم أخبر اللَّه نبيه ما أسروا فيه وتناجوا بينهم؛ ليدلهم على رسالته وأنه إنما عرف باللَّه، وسماهم ظالمين؛ لما علموا أنه ليس بمجنون ولا مسحور ولكن قالوا ذلك له ونسبوه إلى ما نسبوه من السحر والجنون، على علم منهم أنه ليس كذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٤٨)
بالمجانين والسحرة والكهنة؛ (فَضَلُّوا)، أو ضربوا لك الأسباب التي تزجر الناس وتمنعهم عن الاقتداء بك مما وصفوا له ونسبوه إليه من السحر والجنون والكهانة؛ فذلك
الآية ٤٨ : وقوله تعالى :﴿ انظر كيف ضربوا لك الأمثال ﴾ بالمجانين والسحرة والكهنة﴿ فضلوا ﴾ وضربوا لك الأسباب التي تزجر الناس، وتمنعهم عن الاقتداء بك مما وصفوا له، ونسبوا إليه من السحر والجنون والكهانة. فذلك كان يمنعهم عن إجابة ما أراد إجابته والاقتداء به.
وقوله تعالى :﴿ فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ﴾ اختلف فيه : قال بعضهم : لا يستطيعون إلى ما قصدوا من منع الناس عنك وصدهم سبيلا. وقال بعضهم : يستطيعون إلى المكر به والكيد له سبيلا لأنهم قصدوا به ذلك. وقال بعضهم :( لا يستطيعون )١ ما أراد ما نسبوه إليه سبيلا.
وقال الحسن : لا تجدون إلى الهدى والإيمان سبيلا لما طبع على قلوبهم، وجعلها في أكنة وغلف.
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ فلا يستطيعون ﴾ إلى الاحتجاج على الحجج والدلالات التي أقامها رسول اله صلى الله عليه وسلم على التوحيد والرسالة والبعث﴿ سبيلا ﴾ والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و. م..
كان يمنعهم عن إجابة من أراد إجابته والاقتداء به.
وقوله - عزّ وجلَّ -: (فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا).
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يستطيعون إلى ما قصدوا من منع الناس عنك وصدهم سبيلًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يستطيعون إلى المكر به والكيد له سبيلًا؛ لأنهم قصدوا به ذلك،
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يستطيعون إلى ما نسبوه إليه سبيلًا.
وقال الحسن: لا يجدون إلى الهدى والإيمان سبيلًا؛ لما طبع على قلوبهم وجعلها في أكنة وغلف.
ويحتمل أن يكون قوله: فلا يستطيعون إلى الاحتجاج على الحجج والدلالات التي أقامها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على التوحيد والرسالة والبعث سبيلًا، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (٥٢)
وقوله - عزّ وجلّ -: (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا)
أي: أئذا كنا عظامًا بالية ناخرة (وَرُفَاتًا)، قيل: ترابا، وقيل: غبارًا، وقيل (وَرُفَاتًا): أي: بالية؛ حتى إذا فتتت - تكسرت وذهبت، كقوله: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (١١) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ)، أي: غير كائنة، قالوا ذلك كله: إنكارًا للبعث واستهزاءً به أنهم يبعثون ويجزون بأعمالهم، وهذا كأنهم قالوا ذلك على التعجب، والاستبعاد عن كون ذلك، والاستهزاء بذلك، والجهل به هو الذي حملهم على التعجب والاستهزاء بما ذكر.
أنكر هَؤُلَاءِ الكفرة قدرة اللَّه على البعث كما أنكر المعتزلة قدرته على خلق أفعال العباد، وليس لهم الاحتجاج على أُولَئِكَ الكفرة بإنشاء الأوّل؛ لأن لهم أن يقولوا: إنكم تقرون بالقدرة على خلق الأول، وتنكرون خلق أفعالهم، وليس لكم الاحتجاج.
وقوله - عزّ وجلّ -: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ).
الآيتان٥٠و٥١ : وقوله تعالى :﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا ﴾﴿ أو خلقا مما يكبر في صدوركم ﴾ قال بعض أهل التأويل : أي كنتم حجارة أو حديدا يميتكم١. لمن هذا بعيد، لأنهم لم يكونوا ينكرون الموت ؛ إذ كانوا يشاهدون الموت، فلا يحتمل الإنكار. ولو كانوا ينكرون البعث بعد الموت وبعد ما صاروا ترابا ورفاتا، إلا أن يقال : إنكم لو كنتم بحيث لا تبعثون، ولا تجزون بأعمالكم لكنتم حجارة أو حديدا لم تكونوا بشرا، لأن الحجارة والحديد ونحو ذلك غير ممتحن ولا مأمور بشيء ولا منهي عن شيء.
وأما البشر فإنهم لم ينشئوا إلا للامتحان بأنواع المحن والأمر والنهي والحل والحرمة. فلا بد من الامتحان فإذا امتحنوا بأشياء لابد من البعث للجزاء والعقاب. فإذا لم تكونوا ولكن كنتم، فاعلموا أنكم تبعثون، وتجزؤون بأعمالكم.
على هذا يحتمل أن يصرف تأويلهم لا إلى ما قالوا. وإلا ظاهر ما قالوا، وتأولوا لا يحتمل لما لا أحد أنكر الموت. ويحتمل قوله ﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا ﴾﴿ أو خلقا مما يكبر في صدوركم ﴾أي لو كنتم ما ذكر حجارة أو حديدا أو أشد ما يكون من الخلق لقدر أن ينشئكم بشرا من ذلك. فكيف إذا كنتم بشرا في الابتداء ؟ ( إنه قادر )٢ أن يعيدكم بشرا على ما كنتم كما أنشأكم في الابتداء من ماء وتراب، وليس في ذلك الماء والتراب من آثار البشر من العظام واللحوم والعصب والجلد وغيرها.
فمن قدر على إنشاء هذا قدر على إنشاء البشر بعد الموت وبعد ما صار ترابا ورفاتا. على هذا يجوز أن يُتَأَوَّلَ.
ووجه آخر ( هو )٣ أن يقال : ظننتم٤ أن لو كنتم حجارة أو حديدا أو ما ذكر لبعثكم فكيف تظنون أنه لا يبعثكم إذا كنتم تربا ورفاتا أو كلاما٥ نحوه ؟
وقوله تعالى :﴿ أو خلقا مما يكبر في صدوركم ﴾ ذكروا هذا وكل ما يكبر في صدورهم٦ على ما ذكر﴿ فسيقولون من يعيدنا ﴾استهزاء منهم به ﴿ قل الذي فطركم أول مرة ﴾ إنهم قالوا ما قالوا استهزاءا به وسخرية ؛ فقد أمر الله تعالى أولياءه والمؤمنين أن يحاجوهم محاجة العقلاء والحكماء مع الحجج والبراهين، وإن كانوا قالوا ما قالوا سفها واستهزاءا.
وعلى ذلك عاملهم الله، وإن كانوا سفهاء في قولهم مستهزئين، وكذلك أمر رسله أن يعاملوا قومهم أحسن المعاملة لهؤلاء حين٧ قال :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾( النحل : ١٢٥ )وقال :﴿ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ﴾( الإسراء : ٥٣ ). وإنما ذكر الله هذه الآيات لنحاج بما هؤلاء ( حاج )٨ ونعلم أن كيف المعاملة لهؤلاء ؟ إذ قد أقام الله تعالى من الآيات والحجج على بعثهم وإحيائهم حججا كافية ما لم يحتج إلى مثل هذا. لكنه ذكر هذا لما ذكرنا، والله أعلم.
وكان الذي حملهم على إنكار ذلك وجهين٩ من الاعتبار :
أحدهما١٠ : أنهم لم يروا من الحكمة إماتتهم ثم الإحياء على مثل ذلك ؛ إذ لو كان١١ يحييهم ثانيا لكان لا يميتهم كنقض البناء على قصد بناء مثله.
والثاني : لما رأوا أقواما قد ماتوا منذ ( أمد )١٢ طويل، ثم لم يبعثوا.
فيقال لهم : إنه قد تأخر كونكم وإنشاؤكم، ثم لم يدل تأخركم على أنكم لا تكونون. فعلى ذلك لا يدل تأخر البعث على أنه لا يكون.
وأما جواب الأول فإنه يقال لهم : إنكم تقرون أنه أنشأكم أول مرة وأنه يميتكم، فليس من الحكمة الإنشاء١٣ ثم الإماتة لأنه يكون كمن بنى بناءا للنقض والإفناء. فإذا كان حكمة كان الثاني : أيضا حكمة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ﴾أي يعيدكم الذي خلقكم أول مرة، ولم يكونوا ولم تكونوا شيئا على ما ذكرنا. وإعادة الشيء ( بمعرفة ابتدائه )١٤ إنما يتكلفون تعلم ابتداء الصناعات ومعرفتها، ثم يعرفون ( الإعادة بمعرفة الابتداء. فدل أنها )١٥ أهون وأيسر، وهي١٦ما قال :﴿ وهو أهون عليه ﴾( الروم : ٢٧ )أي في عقولكم ذلك أهون وأيسر.
وقوله تعالى﴿ فسينغضون إليك رءوسهم ﴾ أي يحركون رؤوسهم استهزاء به وهُزْوًا﴿ ويقولون متى هو ﴾على الاستهزاء أيضا، أي لا يكون.
وقوله تعالى :﴿ متى هو ﴾ قال : قالوا ذلك جهلا به وإنكارا، وإلا لو علموا أنه كائن، لا محالة، لكانوا لا يقولون ذلك، بل يخافون كما خاف الذين آمنوا به.
وقوله تعالى :﴿ قل عسى أن يكون قريبا ﴾ وعسى من الله واجب، أي يكون، لا محالة.
وقوله :﴿ قريبا ﴾ أي كائنا. القريب يقال على الكون أي كائنا، ويقال على القريب والبعيد. كذلك يقال على الإنكار رأسا، ويقال على الاستبعاد كقوله :﴿ إنهم يرونه بعيدا ﴾﴿ ونراه قريبا ﴾( المعارج : ٦و٧ )أي هم لا يرونه كائنا، ونراه نحن كائنا كقوله :﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ﴾( الشورى : ١٨ )كانوا يستعجلون بها لما لم يكونوا يرونه كائنا، والمؤمنون يرونه كائنا، والله أعلم.
١ في الأصل و. م: فيميتكم..
٢ ساقطة من الأصل و. م..
٣ ساقطة من الأصل و. م..
٤ في الأصل و. م: ظنوا..
٥ في الأصل و. م : كلام..
٦ من م، في الأصل : صدوركم..
٧ في الأصل و. م : حيث..
٨ ساقطة من الأصل و. م..
٩ في الأصل و. م : وجوه..
١٠ في الأصل و. م: أحدهما..
١١ في الأصل و. م: كانوا..
١٢ ساقطة من الأصل و. م..
١٣ في الأصل و. م : إنشاء..
١٤ في الأصل و. م : ومعرفته..
١٥ في الأصل و. م: إعادة بمعرفة ابتدائه فدل أنه..
١٦ في الأصل و. م : وهو..
قال بعض أهل التأويل: أي: لو كنتم حجارة أو حديدًا فيميتكم، لكن هذا بعيد؛ لأنهم لم يكونوا ينكرون الموت؛ إذ كانوا يشاهدون الموت؛ فلا يحتمل الإنكار، ولكن كانوا ينكرون البعث بعد الموت وبعدما صاروا ترابًا ورفاتًا، إلا أن يقال: إنكم لو كنتم بحيث لا تبعثون ولا تجزون بأعمالكم لكنتم حجارة أو حديدًا، لم تكونوا بشرًا؛ لأن الحجارة والحديد ونحو ذلك يخر ممتحن، ولا مأمور بشيء، ولا منهي عن شيء، وأما البشر فإنهم لم ينشئوا إلا للامتحان بأنواع المحن والأمر والنهي والحل والحرمة، فلا بد من الامتحان؛ فإذا امتحنوا بأشياء لا بد من البعث للجزاء والعقاب، فإذا لم تكونوا ما ذكر ولكن كنتم بشرًا فاعلموا أنكم تبعثون وتجزون بأعمالكم على هذا يحتمل أن يصرف تأويلهم، لا إلى ما قالوا؛ وإلا ظاهر ما قالوا وتأولوا لا يحتمل؛ لما لا أحد أنكر الموت.
ويحتمل قوله: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ)، أي: لو كنتم ما ذكر حجارة أو حديدًا أو أشد ما يكون من الخلق لقدر أن ينشئكم بشرًا من ذلك؛ فكيف إذا كنتم بشرًا في الابتداء؟! أي: يعيدكم بشرًا على ما كنتم كما أنشأكم في الابتداء من ماء وتراب، وليس في ذلك الماء والتراب من آثار بشر شيء من العظام واللحوم والعصب والجلد وغيرها؛ فمن قدر على إنشاء هذا قدر على إنشاء البشر بعد الموت وبعد ما صار ترابًا ورفاتًا، على هذا يجوز أن يتأول.
ووجه آخر أن يقال: ظنوا أن لو كنتم حجارة أو حديدًا أو ما ذكر لبعثكم؛ فكيف تظنون أنه لا يبعثكم إذا كنتم ترابًا ورفاتًا أو كلام نحوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ... (٥١)
ذكروا هذا وكل ما يكبر في صدورهم على ما ذكر.
(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا).
استهزاء منهم به.
(قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
إنهم، وإن قالوا ما قالوا استهزاء به وسخرية، فقد أمر اللَّه - تعالى - أولياءه المؤمنين أن يحاجوهم محاجة العقلاء والحكماء مع الحجج والبراهين، وإن كانوا قالوا سفهًا واستهزاء، وعلى ذلك عاملهم اللَّه، وإن كانوا سفهاء في قولهم مستهزئين، وكذلك أمر رسله أن يعاملوا قومهم أحسن المعاملة؛ حيث قال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقال: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وإنما ذكر الله
58
هذه الآيات؛ ليحاجّ بها هَؤُلَاءِ، ويعلم أن كيف المعاملة مع هَؤُلَاءِ؛ إذ قد أقام اللَّه - تعالى - من الآيات والحجج على بعثهم وإحيائهم حججًا كافية ما لم يحتج إلى مثل هذا، لكنه ذكر هذا؛ لما ذكرنا - واللَّه أعلم -: كأن الذي حملهم على إنكار ذلك وجوه من الاعتبار:
أحدها: أنهم لم يروا من الحكمة إماتتهم ثم الإحياء على مثل ذلك إذ لو كان يحييهم ثانيًا - لكان لا يميتهم؛ كنقض البناء على قصد بناء مثله.
والثاني: لما رأوا أقوامًا قد ماتوا منذ زمن طويل ثم لم يبعثوا؛ فيقال لهم: إنه قد تأخر كونكم وإنشاؤكم، ثم لم يدلّ تأخركم على أنكم لا تكونون؛ فعلى ذلك لا يدلّ تأخر البعث على أنه لا يكون.
وأما جواب الأول فإنه يقال لهم: إنكم تقرون أنه أنشأكم أول مرة وأنه يميتكم، فليس من الحكمة إنشاء ثم الإماتة؛ لأنه يكون كمن بني بناء للنقض والإفناء؛ فإذا كان الأول، حكمة كان الثاني -أيضًا- حكمة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
أي: يعيدكم الذي خلقكم أول مرة ولم تكونوا شيئًا على ما ذكرنا وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من ابتدائه؛ إذ لا أحد في الشاهد يتكلف تعلم إعادة الشيء، ومعرفته، وإنما يتكلفون تعلم ابتداء الصناعات ومعرفتها، ثم يعرفون إعادة ذلك بمعرفة ابتدائية؛ فدل ذلك أنه أهون وأيسر، وهو ما قال: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي: في عقولكم ذلك أهون وأيسر.
وقوله - عزّ وجلّ -: (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ).
أي: يحركون رءوسهم؛ استهزاء به وهزوًا.
(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ).
على الاستهزاء أيضًا، أي: لا يكون.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ): قالوا ذلك جهلاً به وإنكارًا، وإلّا لو علموا أنه كائن لا محالة لكانوا لا يقولون ذلك؛ بل يخافون كما خاف الذين آمنوا به.
وقوله - عزّ وجلّ -: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا).
59
و (عسى) من اللَّه واجب، أي: يكون لا محالة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَرِيبًا)، أي: كائنا، القريب يقال على الكون، أي: كائنًا، ويقال على القريب والبعيد كذلك يقال على الإنكار رأسًا، ويقال على الاستبعاد؛ كقوله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧)، أي: هم لا يرونه كائنًا، ونراه نحن كائنًا؛ كقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا): كانوا يستعجلون بها؛ لما لم يكونوا يرونه كائنًا والمؤمنون يرونه كائنًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (٥٢)
يحتمل هذا الدعاء، والإجابة: دعاء الخلقة، وإجابة الخلقة؛ لما كانت خلقتهم تعظم ربهم، وتحمده في كل وقت، وتنبئ على ما ذكرنا في غير آية من القرآن.
ويحتمل دعاء القول وإجابة القول والدمل؛ لما كانوا عاينوا قدرته وعظمته أجابوا له بحمده وثنائه؛ كقوله: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ)، ونحوه أو أن يكون قوله: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ): يوم القيامة - كقوله: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ...).
وقوله: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ...) الآية: أخبر أنهم يجيبون داعيهم يومئذ ويثنون على اللَّه؛ لما رأوا من الأهوال من ترك الإجابة له في الدُّنيَا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ)، أي: تجيبون داعيه بثنائه وبحمده، أي: تثنون على اللَّه وتخمدونه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا).
قال الحسن: قوله: (وَتَظُنُّونَ) أي: تعلمون وتيقنون أنكم ما لبثتم في الدُّنيَا إلا قليلًا، وكذلك قال قتادة، أي: يستحقرون الدنيا ويصغرونها؛ لما عاينوا القيامة وأهوالها.
وجائز أن يكون قوله: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) في القبر وجائز أن يكون في الدنيا يستقصرون المقام فيها لطول مقام الآخرة وأهوالها، ثم من أنكر عذاب القبر احتج بظاهر هذه الآية؛ حيث قال: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا)، وقوله: (لَبِثْنَا يَوْمًا)، ومثله قالوا في العذاب والشدة: لم يكونوا يستقصرون ويستصغرون المقام فيه؛ إذ كل من كان في عذاب وبلاء وشدة - يستعظم ذلك ويستكثر ولا ينساه أبدًا، هذا المعروف عند الناس فإذا هم استقلوا ذلك واستصغروه حتى قالوا: (يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وقالوا:
60
(قَلِيلًا)، ويسيرا، دل ذلك أنهم لم يكونوا في عذاب وبلاء.
ويتأولون قوله: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، على التقديم والتأخير، يقولون تأويله: ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غُدُوًّا وَعَشِيًّا - ليس على ألا يكون لهم عذاب فيما بين ذلك؛ ولكن على ما ذكر في الجنة: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).
ومن يقول بالعذاب في القبر يقول: قوله: (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) في الدنيا، أو يقولون ذلك في وقت وهو ما بين النفختين.
كذلك يقولون: إنه يرفع عنهم العذاب ما بين النفخة الأولى والثانية، وهذا احتيال.
ويقال -أيضًا-: ليس في استقلالهم المقام والاستقصار ما يدل على أن لم يكن لهم عذاب في القبر؛ لأن العرف في الناس أنهم إذا كانوا في بلاء وشدة ونوع من المرض، ثم نزل بهم ما هو أشد من ذلك وأعظم؛ استصغروا ما كانوا هم فيه ونسوا ذلك؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ إذا عاينوا عذاب القيامة وأهوالها وأفزاعها استصغروا ما كان بهم من العذاب في القبر، ونسوا ذلك؛ ألا ترى أنهم إذا عاينوا الجنة ونعيمها نسوا ما كان لهم من النعم في الدنيا، ولا شك أنه قد كان لهم نعيم في الدنيا فعلى ذلك العذاب.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَرُفَاتًا)، قال: رفاتًا منكسرة، وفتته، أي: كسرته.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَكِنَّةً): جمع كنان، مثل غطاء وأغطية.
(وَإِذْ هُمْ نَجْوَى)، أي: يتناجون، يسار بعضهم بعضًا أنه مجنون، وأنه ساحر كاهن وأساطير الأولين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان نجواهم ما ذكر في سورة الأنبياء حين قالوا: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ...) الآية؛ فذلك قوله: (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ)، أي: ما تتبعون (إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا). قال أبو عبيدة: (مَسْحُورًا)؛ أي: قد سحر به، وهو يناقض قولهم، وقد ذكرنا وجه تناقض قوله فيما تقدم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (٥٣)
61
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (٥٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... (٥٣)
يحتمل قوله: (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الوجوه الثلاثة:
أحدها: الدعوة؛ كقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) أمره أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فالتأنيث للدعوة، كأنه قال: ادع لهم الدعوة التي هي أحسن الدعوة، على إضمار الدعوة.
وجائز على إضمار الحسنة، أي: قل لهم أن يقولوا لهم الحسنة التي هي أحسن.
أو على إضمار الأقوال؛ كأنه قال: يقولوا لهم الأقوال التي هي أحسن الأقوال، وإلا ظاهره أن يقول: " يقولوا الذي هو أحسن ".
والثاني: على إضمار المجادلة - المناظرة - معهم؛ كقوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ): أمر رسوله أن يجادلهم أحسن المجادلة والمحاجة معهم.
والثالث: في حسن المعاملة معهم والعفو والصفح عما كان منهم إلى المسلمين من أنواع الأذى فأمرهم أن يحسنوا معاملتهم ويصفحوا عنهم، كقوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وكقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) الآية وقوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ...) الآية، ونحوه من الآيات: أمرهم أن يعاملوا أُولَئِكَ أحسن المعاملة، وهو أن اللَّه يتركهم، ولا يكافئهم بسوء صنيعهم، ولكن يعفون عنهم، ويصفحون لما لعلهم يكونون أولياء وحميمًا على ما أخبر، ويصيرون إخوانًا لهم من بعد هذا في حق هذه الآية.
وأمَّا من جهة الحكمة، وهو أن اللَّه - تعالى - أنشأ هذا اللسان وجعله ترجمانًا بين الخلق: به يفهم بعضهم من بعض، وبه يقضي الحوائج بعضهم من بعض، وبه قوام معاشهم ومعادهم، وبه بعث الرسل والكتب جميعًا، فإذا كان كذلك فالواجب ألا يستعمل إلا في الخير والحكمة، ولا ينطق به إلا ما هو أحسن وأصوب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ).
أي: يفسد بينهم ويوسوس إليهم ويغري بعضهم على بعض؛ ليفسد بينهم، وذلك كقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا).
أي: كان الشيطان منذ كان للإنسان عدوّا ظاهرًا عداوته بئنًا. جعل اللَّه - تعالى -
الشيطان بحيث يوسوس إليهم ويدعوهم إلى أشياء يظنون أن ذلك خير لهم، وأبدًا يلقي إليهم ما يقع عندهم أن ذلك أنفع لهم ويحبب إلى كل مذهبًا يقع عنده هو الحق؛ فيقع بذلك الإفساد وإبقاء العداوة بينهم أبدًا هذا دأبه وشأنه يجبر كلا إلى جهة، ويري كل أحد جهة غير الجهة التي أرى الآخر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (٥٤)
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: (أَعْلَمُ بِكُمْ): بمصالحكم، وما لا يصلح لكم في الدُّنيَا والآخرة.
والثاني: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ): بما تسرون وما تعلنون، وما تعلمون وتفعلون، وإلا: لا شك أنه أعلم بنا منا.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أذى هَؤُلَاءِ، أو إن يشأ يعذبكم فيسقطهم عليكم.
والثاني: إن يشا يرحمكم، فيهديكم إلى دينه، ويوفقكم لسبيله، أو إن يشأ، يترككم ويخذلكم، ولا يهديكم إلى سبيله، ولا يوفقكم لدينه.
وقوله: (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ): يحتمل الرحمة في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: هو أن يوفقهم على الطاعة، ويعينهم على ذلك وفي الآخرة: ينجيهم ويدخلهم الجنة. وأما التعذيب في الدنيا: أن يخذلهم ويتركهم على ما يختارون، وفي الآخرة يعذبهم في النار بالذي اختاروا في الدُّنيَا.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لم نجعلك حفيطا على ردهم وإجابتهم وعلى صنيعهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وكيلا، أي: ثقيلا بأعمالهم، أي: لا تؤخذ أنت بصنيعهم؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، وكقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)، أي: مسلطًا عليهم وقاهرًا لهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (٥٥)
63
يحتمل ما ذكرنا: أنه أعلم بمصالحهم ومفاسدهم، وما يسرون وما يعلنون، ويحتمل غير هذا؛ جوابًا لقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، وقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
يقول - واللَّه أعلم - (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أي: أعلم بمن يصلح للنبوة والرسالة، وبمن لا يصلح، ومن هو أهل لها أومن ليس بأهل لها.
أو يقول: أعلم بمن في السماوات والأرض، أي: عن علم بما يكون منهم أنشأهم لا عن جهل، أو أعلم بهم من أنفسهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ - (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ).
مثل هذا لا يكون إلا في نازلة، لكنه لم يذكر النازلة التي عندها نزلت، ثم اختلف فيما ذكر من تفضيل بعض على بعض:
قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه أعطى كلًا شيئًا لم يعط غيره؛ من نحو ما ذكر أنه كلَّم موسى، واتخذ إبراهيم خليلًا، وأعطى عيسى إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وهو روح منه وكلمته، وأعطى سليمان ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وأعطى داود زبورًا، وأعطى سيدنا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومثله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فضل بعضًا على بعض في الدرجة والمنزلة والقدر عنده.
فالأول: يكون التفضيل في الآيات والحجج، والثاني: في أنفسهم: في المنزلة والقدر.
ويحتمل ما ذكر من تفضيل بعض على بعض في الآيات والحجج.
ويحتمل في كثرة الأتباع: يفضل بعضهم على بعض بكثرة الأتباع.
والثالث: يفضل بعضهم على بعض في القيام بشكر ما أنعم عليه وصبره على ما ابتلاه به. والرابع: [..... ]
وعلى قول المعتزلة: لا يكون لأحد فضيلة عند اللَّه إلا باستحقاق منه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّّ -: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا).
جميع كتب اللَّه: زبور؛ لأن الزبور هو الكتاب. وقد ذكرنا أنا لا ندري لأية نازلة ذكر هذا، ولا يحتمل ذكر مثله على الابتداء والاستئناف، لكن فيه أن التفضيل والمنزلة إنما يكون من عند اللَّه، ومن عنده يستفاد لا بتدبير من أنفسهم واستحقاق؛ حيث قال: (انْظُرْ
64
الآية٥٥ : وقوله عز و جل :﴿ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ﴾ يحتمل ما ذكرنا أنه أعلم بمصالحهم ومفاسدهم وما يسرون وما يعلنون ) )١.
ويحتمل غير هذا جوابا لقوله٢ :﴿ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ﴾ وقوله :﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾( الأنعام : ١٢٤ ).
يقول : والله أعلم ؛ ﴿ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ﴾أي أعلم بمن يصلح للنبوة والرسالة وبمن لا يصلح، ومن هو أهل لها، أو يقول :﴿ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ﴾ أي على علم بما يكون منهم، أنشأهم لا عن جهل، أو ﴿ أعلم ﴾ بهم أنفسهم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ﴾ مثل هذا لا يكون في نازلة. لكنه يذكر النازلة التي عندها نزلت. ثم اختلف في ما ذكر من تفصيل بعضهم على بعض.
قال بعضهم :﴿ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ﴾إنه أعطى كلا٣ شيئا، لم يعط غيره من نحو ما ذكر أنه كلم موسى، واتخذ إبراهيم خليلا، وأعطى عيسى إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وهو روح منه، وكلمته، وأعطى سليمان ملكا، لا ينبغي لأحد من بعده، وأعطى داوود زبورا، وأعطى سيدنا محمدا أن بعثة إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومََثَّلُه.
وقال بعضهم : فضل بعضا على بعض في الدرجة والمنزلة والقدر عنده.
فالأول : يكون التفضيل في الآيات والحجج، والثاني : في أنفسهم في المنزلة والقدر ؛ ويحتمل ما ذكر من تفصيل بعض على بعض في الآيات والحجج، ويحتمل في كثرة الأتباع يفضل بعضهم على بعض بكثرة الأتباع.
والثالث : يفضل بعضهم على بعض في القيام بشكر ما أنعم عليه وبصبر ما ابتلاه به.
وعلى قول المعتزلة لا يكون لأحد فضيلة عند الله إلا باستحقاق منه.
وقوله تعالى :﴿ وآتينا داوود زبورا ﴾جميع كتب الله زبور، لأن الزبور هو الكتاب. وقد ذكرنا أنا لا ندري لأية نازلة ذكر هذا، ولا يحتمل ذكر مثله على الابتداء و الائتناف، لكن فيه أن التفصيل والمنزلة إنما يكون من عند الله، ومن عنده يستفاد، لا بتدبير من أنفسهم واستحقاق حين٤ قال :﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾( الإسراء : ٢١ )لئلا يرى أحد الفضل والمنزلة لنفسه بأسباب منه، ولكن من عند الله.
وقال الأصم في قوله :﴿ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ﴾يقول٥ : يخاطب به أهل الكتاب : أن أوائلكم كانوا يرون لبعض على بعض فضلا في الدنيوية، ثم إن أولئك المفضلين كانوا يتبعون لما رأوا لهم من الفضل والخصوصية، فما بالكم يا أهل مكة لا تتبعون محمدا ( وأنتم ترون له )٦ فضائل وخصوصية ما لا ترون ذلك لأنفسكم ولا لأحد سواه، أو كلاما٧ نحو هذا، والله أعلم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل و. م : لقولهم..
٣ من م، في الأصل: كل..
٤ في الأصل و. م : حيث..
٥ في الأصل و. م : بقوله..
٦ في الأصل و. م: وقد ترون..
٧ في الأصل و. م : وكلام..
كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) لئلا يرى أحد الفضل والمنزلة لنفسه بأسباب منه؛ ولكن من عند اللَّه.
وقال الأصم في قوله: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) يقول: يخاطب به أهل الكتاب: أن أوائلكم كانوا يرون لبعض على بعض فضلًا في الدنياوية.
ثم إن أُولَئِكَ المفضلين كانوا يتبعون الرسل؛ لما رأوا لهم من الفضل والخصوصية؛ فما بالكم يا أهل مكة لا تتبعون محمدًا، وقد ترون له فضائل وخصوصية ما لا ترون ذلك لأنفسكم ولا لأحد سواه، وكلام نحو هذا، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (٥٦) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٥٨) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (٥٩) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (٦٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا).
وفي سورة سبأ: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ...) فيشبه أن يكون الآية عندما نزل بهم البلايا والشدائد على ما قاله أهل التأويل، فأمروا عند ذلك أن يطلبوا كشف ذلك عنهم من الذين يعبدون من دون اللَّه، فيقول لهم: ادعوا الذين زعمتم أنها آلهة دونه يكشفوا عنكم ما نزل بكم.
ويشبه أن يكون لا على نازلة؛ ولكن على تبيين سفه أُولَئِكَ، حيث قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقالوا: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ): أخبر أن ليس لهَؤُلَاءِ شفاعة عند اللَّه، وأن عبادتهم إياها لا تقربهم إلى اللَّه زلفى، كقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ) أخبر أنهم لا يملكون ما يطعمون بعبادتهم إياها.
أو أن يذكر هذا؛ لقطع ما يرجون من دون اللَّه من كشف ضر عنهم ودفعه، أو جر نفع إليهم وسوق خير، على ما أخبر أنه لا يملك ذلك أحد سواه كقوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ...) الآية، وقوله: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ...) الآية: أخبر أنه لو فتح هو رحمة لا يملك أحد دونه إمساكها، ولو أمسك هو لا يملك أحد إرسالها دونه، ولو من ضر لا يملك أحد كشفه، وإن أراد خيرًا لا يملك أحد دفعه ورده.
هذا يذكر - واللَّه أعلم - للمسلمين؛ لئلا يرجوا أحدًا من الخلائق دون اللَّه ولا يخافوا أحدًا سواه.
ثم صرف أهل التأويل تأويل الآية إلى الملائكة، لكن الآية تحتمل كل معبود دون اللَّه: الملائكة والجن والأصنام التي عبدوها.
وأمَّا الآية الثانية التي تتلوها ظاهرها في الملائكة والجن، وهو قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ... (٥٧)
أي: أُولَئِكَ الذين يعبدون من دون اللَّه يبتغون هم إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ...) الآية: اختلف فيه: منهم من صرفها إلى الملائكة.
ومنهم من صرفها إلى الجن، وهو قول عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: إن قومًا من العرب كانوا يعبدون الجن، ثم أسلم الجن، فبقِي أُولَئِكَ كما كانوا يعبدونهم بعد إسلامهم؛ فيقول: أُولَئِكَ الذين يعبدون من دون اللَّه يبتغون إلى ربهم الوسيلة؛ فكيف تعبدونهم؟!
ومن قال: إنها في الملائكة - اختلفوا في قوله: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ): قال الحسن: يرجون محبته ورضاه، (وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)، أي: خوف الهيبة والجلال والعظمة لا خوف عذاب النار ونقمته؛ لأن اللَّه - تعالى - عصمهم من أن يرتكبوا ما يوجب لهم النقمة والعذاب؛ حيث قال: (لا يعصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُم)، وقال: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)، وقال في قوله: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ): هذا إخبار أنهم لو قالوا ذلك لفعل بهم ما ذكر ليس
66
على أن يقول أحد منهم ذلك.
وقال أبو بكر: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ): ثوابه، (وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ): نقمته؛ حيث قال: فهم من الوعيد ما قال: (وَمَن يَقُل مِنهُم...) الآية؛ فقد أثبت لهم الوعيد فيه، لكن ثوابه ما يتلذذ به وعذابه ما يتألم به ويتوجع.
ومنهم من يقول من أهل التأويل (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ)، أي: جنته، لكن هذا يشبه أن يكونوا يرجون صحبة أهل الجنة؛ كقوله: (يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ...) الآية.
وجائز عندنا صرف قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) إلى الأصنام التي عبدوها من دونه أيضًا، ويكون تأويل: (يَدْعُونَ): يبتغون، أي: لو لم يكن لهم من العبادة والطاعة، وركب فيهم من أسبابها لكانوا كما ذكر، وهو كقوله: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ) أي: لو مكن له وركب فيه ما ركب في البشر ومكن لهم (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) على ما ذكر من سفه أُولَئِكَ الذين عبدوا من دون اللَّه؛ يقول: كيف تعبدون من لو مكن من العبادة والطاعة لكانوا يبتغون بذلك الوسيلة إلى ربهم؟! أو كيف تعبدون من هو بطاعة ربه يبتغي الوسيلة إليه؟!؛ إن كانت الآية في الملائكة؛ كأنه يذكر سفه أهل مكة؛ حيث سألوا العذاب بقوله: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً...) الآية، ونحوه، وأهل السماء والأوض جميعًا يحذرون عذابه.
وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ) ما ذكر: ليس هو بأمر في الحقيقة، وإن كان ظاهره أمرًا؛ ولكن إخبار عن عجز ما يدعون من دونه، وتعجيز ما ذكر من كشف الضر ودفعه والتحويل، وكذلك قوله: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً...) الآية. ليس هو بأمر؛ إنما هو إخبار عن قدرته أنه لا يعجزه شيء، وإن بدلتم أصلب الأشياء وأعظمها.
وقوله - عزّ وجلّ -: (فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ)، أي: دفعه وردّه، وَلَا تَحْوِيلًا): يحتمل وجهين:
أحدهما: فلا يملكون تحويل ذلك الضرّ إلى غيركم ولا صرفه.
والثاني: (وَلَا تَحْوِيلًا) من الأشد والأثقل إلى الأخف والأيسر والأهون.
67
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا).
أي: يحذره أهل السماء وأهل الأرض.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٥٨)
قال أبو بكر الأصم: وإن من قرية إلا نحن مميتوها، وقد يستعمل الهلاك في موضع الموت؛ كقوله: (امْرُؤٌ هَلَكَ)، أي: مات، ويقال -أيضًا-: هلك فلان، أي: مات، فعلى ذلك يكون قوله: (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا) أي: مميتوها (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)؛ كقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، وكقوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ).
(أَو مُعَذبُوهَا)، أي: منتقموها (عَذَابًا شَدِيدًا)؛ فعلى تأويله يصح على جميع القرى والمدن، ليس قرية دون قرية، ولا مدينة دون مدينة؛ ولكن على الكل على ما أخبر من إهلاك الكل بقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، و (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ).
ويحتمل ما ذكر من إهلاك القرية: إهلاك الأهل؛ من إهلاك القرية بعد إهلاكهم؛ على ما فعل بكثير من القرى.
وجائز أن يكون يهلك الأهل ويبقى القرية على حالها، ثم تهلك بنفسها قبل يوم القيامة، واللَّه أعلم.
وعلى تأويل أبي بكر يفص ذا أو ذا: إمَّا يميتهم أموتا، بآجالهم، أو يعذبهم عذاب إهلاك.
وقال الحسن: قوله: (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا)، أي: مميتوها؛ على ما قال أبو بكر؛ (أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا): يقول: إذا قامت الساعة قبل يوم القيامة؛ كقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ...) الآية، وقوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ...) الآية. فذلك كله قبل يوم القيامة، وهو يقول: إن الساعة تقوم على شرار الناس؛ فيكون ما ذكر من التعذيب لأُولَئِكَ الذين تقوم بهم الساعة على قوله.
وقال قتادة: هذا قضاء من اللَّه كما تسمعه ليس منه بد: إمَّا أن يهلكها بموت؛
68
كقوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، وإما أن يهلكها بعذاب مستأصل إذا تركوا أمره وكذبوا رسله، وهو ما ذكرنا من الانتقام.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يميت أهل القرية الصالحة بآجالهم، وأمَّا القرية الظالمة فيأخذها بالعذاب الذي ذكر؛ فهو في القرون الماضية إن احتمل ذلك.
ويشبه أن يكون قوله: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، وهو أن يهلك رؤساء الكفرة وقادتهم؛ فيصير الذين كله دينًا واحدًا، وهو الإسلام؛ على ما قال بعض أهل التأويل في قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) قالوا: هو أن يهلك أهل الكفر؛ فيجعل ملك أهل الكفر لأهل الإسلام؛ فذلك نقصانها من أطرافها: لا يزال ينقص أهل الكفر قرية فقرية وبلدة فبلدة؛ حتى تصير الأرض كلها لأهل الإسلام، وهو ما روي عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " زُوِيتْ لِيَ الأرضُ فَأرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبهَا، وَسَيَبلُغُ مُلْكُ أُمَّتي ما زُوي لِي مِنْهَا "، فذلك - واللَّه أعلم - تأويل قوله: قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا)، أي: نهلك أهل الكفر.
وبشبه أن يكون قوله: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا): على ما أخبر أنه كان يفني جميع من كان على وجه الأرض، ويجعل الأرض مستوية لا بناء فيها ولا ارتفاع، حيث قال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) وقال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ...) الآية، وقال: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا...) الآية. أخبر أنه لا يبقي عليها أحد ولا بناء، فتصير كلها (قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧)؛ فذلك إهلاكها وتعذيبها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك في الكتاب الذي عند اللَّه - وهو اللوح المحفوظ - مكتوبًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان ذلك في جميع كتب اللَّه التي أنزلها على رسله مكتوبًا، أي: ما من كتاب أنزله اللَّه على رسله إلا وكان فيه (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)، و (كُلُّ نَفْسٍ
69
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) مسطورًا، واللَّه أعلم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (٥٩)
أخبر أنه ليس يمنعه من إنزال الآيات إلا تكذيب الأولين بها.
فَإِنْ قِيلَ: فأي شيء فيما يكذب الأولون بالآيات؛ ما يمنع إنزالها على هَؤُلَاءِ؟
قيل: كأنه على الإضمار، أي: ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا علمنا بأن الآخرين يكذبون بها كما كذب بها الأولون.
فَإِنْ قِيلَ: عن هذا يسأل: أن علمه بتكذيب الآخرين كعلمه بتكذيب الأولين، ثم لم يمنع علمه بتكذيب الأولين إياها إنزالها كيف منع علمه بتكذيب الآخرين ذلك؟! أو ليس قد أرسل الرسول، وأنزل الكتاب على علم منه أنهم يكذبون الرسول والكتاب، ثم لم يمنع علمه بذلك إنزاله الكتاب وإرساله الرسول؟! فكيف منع علمه بتكذيب الآيات منهم عن إرسال الآيات، ولم يمنع علمه بتكذيب الرسول والكتاب على بعث الرسول وإنزال الكتاب؟!
قيل: إنه قد مضى من سنته أنه إذا أنزل الآيات على أثر السؤال - أعني: سؤال الآيات - فكذبوها أهلكهم؛ هكذا مضت سنته في القرون الماضية، ثم قد سبق من وعده ألا يهلك هذه الأمة إهلاك تعذيب واستئصال في الدّنيا؛ رحمة منه وفضلًا على ما أخبر رسوله؛ حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فرحمته أن منَّ عليهم بإبقائهم وإزالة العذاب عنهم في الدنيا واستئصالهم؛ فكأنه قال - واللَّه أعلم -: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا ما سبق من وعدنا ورحمتنا: ألا نهلك هذه الأمّة إهلاك استئصال وتعذيب، فذلك الوعد والرحمة الّذي ذكرنا منعنا عن إرسال الآيات على علم منا أنهم يكذبونها إذا أرسلناها إليهم، وقد مضت السنة منا على الإهلاك إذا أنزلنا الآيات على أثر سؤالهم إياها ثم التكذيب من بعد، ثم قد سبق الوعد لهَؤُلَاءِ ألا يهلكوا في الدنيا إهلاك تعذيب؛ رحمة منه لهم على ما أخبر أنه لم يرسل إلا رحمة للعالمين.
وأصله: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّّ - قد أنزل الآيات والحجج على إثبات رسالة الرسل آيات كافية، وحججًا تامة ما لم يقع لهم الحاجة إلى غيرها من الآيات والحجج، فما سألوا من الآيات والحجج من بعد إنما سألوا سؤال تعنت وتمرد، لا سؤال استرشاد واستهداء،
70
فإذا كان سؤالهم الآيات سؤال عناد وتعنت - أهلكوا إذا كذبوها، ولم ينظروا؛ كقوله: (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ)، وقوله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ)، ونحوه؛ ألا ترى أن عيسى - عليه السلام - سألوه أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء؛ لتكون لهم آية منه؛ فسأله، فأخبر أنه ينزلها عليكم، ثم أخبر ما يفعل بهم إذا كفروا بعد ذلك، وهم كانوا يسألونه سؤال تعنت وتمرد؛ نقال: (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) الآية.
هكذا كانت سننه فيمن سأل الآيات سؤال تعنت وعناد.
وجائز أن يكون الذي منع عن إرسال الآيات على أثر السؤال وإهلاك هذه الأمة: ما يكون من الإسلام من نسل هذه الأمة بعد نبيهم، وإبقاء التناسل إلى يوم القيامة، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً).
قيل: آية لرسالة صالح.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُبْصِرَةً)، أي: معاينة يعاينونها أنها آية من اللَّه لهم؛ حيث رأوها مخالفة لنوقهم، وهو ما قال: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً).
(فَظَلَمُوا بِهَا)، أي: كذبوا بها وجحدوها ثم عقروها بعد علمهم أنها آية من اللَّه لهم؛ حيث رأوها وعاينوها خلافا لنوقهم، خارجة عن نوق البشر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا).
قال ابن عَبَّاسٍ والحسن وغيرهما: الموت الذريع، أي: السريع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) للناس؛ فإن لم يؤمنوا بها عذبوا في الدنيا.
أو يقول: وما نزل بالآيات مقرونة بالسؤال سؤال التعنت فكذبوها - (إِلَّا تَخْوِيفًا) للهلاك، على ما ذكرنا من الآيات التي سألوها. أو أن يكون قوله: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ): على أثر السؤال بها ثم التكذيب لها، (إِلَّا تَخْوِيفًا) لمن تأخر ممن سأل مثلها فكذب
71
بها، أو كلام نحوه.
ويحتمل الآيات التي ذكر: كسوف الشمس والقمر وغيره، وما نرسل ذلك إلا تخويفًا للناس، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (٦٠)
أي: وقد قلنا لك: إن ربك أحاط بالناس، الإحاطة بالشيء تكون بالوجوه الثلاثة: أحدها: بالغلبة والقدرة والسلطان؛ كقوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي: أخذهم الهلاك والغلبة وقدر عليهم.
والثاني: الإحاطة: العلم به؛ كقوله: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) أي: عالمًا، وقوله: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ)، أي: لا يعلمون.
والثالث: الإحاطة المعروفة بين الخلق، من إحاطة بعضهم بعضًا، فذلك لا يحتمل في اللَّه سبحانه وتعالى - فهو على الوجهين الأولين: على إحاطة العلم بهم، أو القدرة عليهم والغلبة.
ثم قوله: (أَحَاطَ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَحَاطَ) بأعمالهم بما لهم، وما عليهم، وبما لا يصلح لهم وما يصلح، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كانوا يمكرون برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ يريدون إطفاء نوره، ويمنعونه عن تبليغ الرسالة؛ كقوله: (وَإِذ يَمْكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا...) الآية؛ فيقول (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ)، أي: قد علم بمكرهم بك، على علم منه بمكرهم بك بعثك رسولًا إليهم، وكلفك على تبليغ الرسالة إليهم، لكنه وعد أن يعصمك منهم ويمنعك عنهم حتى تبلغ الرسالة؛ بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وقوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا...) الآية. كان - عزَّ وجلَّ - يبعث الرسل ويكلفهم تبليغ الرسالة إليهم على علم منه بما يكون من قومهم من المنع والمكر
72
برسله، لكنه عصمهم، ومكن لهم؛ حتى بلغوا الرسالة إليهم؛ فعلى ذلك قوله: (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) بالعلم والقدرة والغلبة عليهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ):
قال عامة أهل التأويل: إن الرؤيا التي أراها إياه لم تكن رؤيا المنام؛ ولكن رؤية يقظة ورؤيا عين، معاينة بالتي تنام، لا بالذي لا ينام منه لأنه رُويَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " تَنَامُ عَينَاي، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي "، فإنما أراه من الرؤيا بالعين التي كانت تنام لا رؤيا قلب وعلم.
قال سعيد بن المسيب: هي رؤيا منام: روي أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى قومًا على منابر، فساءه ذلك، فذكر أنهم كانوا يعطون مالًا؛ فذلك فتنة لهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه أري رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في المنام كأنه يدخل المسجد الحرام آمنًا، فأخبر بذلك أصحابه أنه رأى ذلك، فلما كان عام الحديبية، وصرف عن البيت ارتاب بعض الناس في رؤياه، فذلك فتنة للناس على ما أخبر، لكنّه لم يبين له متى يدخل فيه، وقد وعد أنه يدخل فيه آمنًا، وهو ما قال: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)، والفتنة: المحنة الشديدة، فإن كان ذلك في الرؤيا التي رآها في مسير بيت المقدس، وما أخبر من الآيات - لا يتوهم مثل ذلك بتعليم بشر ولا بسحر؛ فذلك الذي أخبرهم أنه رأى فتنة لهم ومحنة في التصديق والتكذيب في الخبر الذي أخبر أمن الآيات، لا يتوهم، مثل ذلك بتعليم بشر، فإن كان على رؤيا منام فهو فتنة لما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ).
73
أي: كانت الشجرة الملعونة التي ذكرت في القرآن -أيضًا- فتنة لهم؛ كقوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ...) الآية.
ووجه فتنتها لهم: ما ذكر في القصة: أنهم قالوا: إن محمدًا يقول: إن في النار شجرة، والنار من طبعها أن تأكل الشجرة؛ فكيف يكون في النار الشجرة، وهي تأكلها؟ ولكن لم يعرفوا أن شجر النار يكون من النار، وشرابهم من النار، وكذلك طعامهم من النار؛ فإذا كان من النار لم تأكلها النار.
ومنهم من قال: الزقوم: هو الزبد والتمر؛ فكيف يكون فيها ذلك؟! فيدعون بذلك الكذب عليه فيما يخبرهم: أن في النار شجرة؛ فتلك الشجرة -أيضًا- كانت فتنة لهم ومحنة في تصديق رسول اللَّه وتكذيبه.
وسماها (الْمَلْعُونَةَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن العرب سمت كل ضارّ مؤذ ملعونًا؛ فلذلك سميت شجرة الزقوم ملعونة؛ إذ كانت ضارة لأهلها مؤذية.
قال الحسن: سميت: ملعونة؛ لما لعن أهلها بها؛ فسميت باسم أهلها، وهو ما سمي النهار مبصرًا، والنهار لا يبصر؛ ولكن يبصر به؛ فسمي باسمه؛ فعلى ذلك هذا.
وأصل اللعن: الطرد؛ فطرد منها كل خير ونفع؛ فهي ملعونة، وكقوله: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ): أضاف الإضلال إلى الأصنام والأصنام لا صنع لها في ذلك؛ لكن كثيرًا من الناس ضلوا بها؛ فكأنها أضلتهم، وكقوله: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، أي: اغتروا بها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي الْقُرْآنِ)، أي: ذكرت في القرآن، وإلا: الشجرة لا تكون في القرآن، وهو ما ذكر من المصائب وغيرها، كقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ...) الآية، والمصائب لا تكون في الكتاب؛ لكن ذكرت فيه ويخوفهم بما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) هو ما ذكرنا في قوله: (مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا) وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) فرادهم ما ذكر.
74
لأنهم نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء فزادهم ما ذكر، وأما أهل الإسلام فزاد لهم إيمانًا وهدى؛ لأنهم نظروا إليه بعين التعظيم والتبجيل.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (٦١) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (٦٢) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (٦٤) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (٦٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا).
قوله: (أَأَسْجُدُ)، أي: لا أسجد؛ كقوله: (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ) فدل هذا أن قوله: (أَأَسْجُدُ) معناه، أي: لا أسجد. ذكر في قصة إبليس ألفاظًا مختلفة:
مرة قال: (يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)، وقال في موضع آخر: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ)، وفي موضع آخر: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) ونحوه؛ فجائز أن يكون ذكر هذا على اختلاف الأحوال لا في حال واحدة.
هذا على ما ذكر في قصة آدم من اختلاف الأحوال حيث قال مرة: (مِن تُرَابٍ)، وقال مرة: (مِن طِينٍ)، ومرة: (مِنْ صَلْصَالٍ)، ونحوه، وذلك إخبار عن أحوال تغيرت فيها.
وجائز أن يكون ذلك بغير هذا اللسان؛ فذكر هاهنا بألفاظ مختلفة؛ والزيادة والنقصان؛ لأن اختلاف الألفاظ لا يغير المعنى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (٦٢)
قد أقر إبليس - لعنه اللَّه - بالفضيلة لآدم والإكرام له إما من جهة الطاعة له والنبوة التي أعطاها اللَّه له، وإن ادعى لنفسه الفضيلة عليه من جهة الخلقة؛ بأنه ناري وهو طيني، حيث: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ): أقر بالفضل له عليه، والإكرام: إما لطاعتهم له، أو لما جعله رسولًا إلى خلقه.
75
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا):
لا يحتمل أن يخاطب ربه ويقول: لئن أخرتني إلى كذا لأحتنكن؛ لأنه لما طلب التأخير والبقاء إلى يوم القيامة كان طالب نعمة منه ومنة؛ فيقول مقابل ما يطلب من النعمة: لئن أعطيتني ذلك لأعصينك؟! إنما يذكر مقابل طلب النعمة الطاعة له والشكر؛ على ما قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ): إنما يقابل بطلب النعمة الطاعة له، وأما مقابلة المعصية - فلا تعرف.
ثم يخرج قوله: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) على وجهين:
أحدهما: على التأكيد، يقول: أي إنك، وإن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته.
أو على التمني منه الأمرين جميعًا: التأخير، واحتناك ذريته، وسؤاله إياهما.
ثم اختلف في قوله: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: لأحتوينهم ولأحيطن بهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لأضلنهم؛ على ما ذكر في آية أخرى: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَأَحْتَنِكَنَّ): لأستزلن.
وقيل: لأ ستو لين.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَأَحْتَنِكَنَّ)، أي: لأستأصلنهم.
ويقال: هو من حنك الدابة، حنك دابته: يحنكها، حنكًا، إذا شد في حنكها الأسفل حبلًا يقودها به.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: لأقودنهم كيف شئت.
ثم قوله: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) كأنه سأل ربه التأخير، على ما ذكر في آية أخرى؛ حيث قال: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)؛ كأن اللعين لما سمع قوله: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)، أعلم، أنه لا تناله الرحمة في الإيمان به؛ حيث ذكر اللعنة عليه إلى يوم الدِّين، واللعين هو المطرود عن رحمته،
76
الآية ٦٢ : وقوله تعالى :﴿ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ﴾قد أقر إبليس. لعنه الله. بالفضيلة لآدم والإكرام له : إما من الطاعة والنبوة التي أعطاها الله، وإن ادعى لنفسه الفضيلة عليه من جهة الخلقة بأنه ناري، وهو طيني، حين١ ﴿ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ﴾ قد أقر إبليس. لعنه الله. بالفضل عليه والإكرام إما لطاعتهم له، أو لما جعله رسولا إلى خلقه.
وقوله تعالى :﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ﴾ ( لا يحتمل أن يخاطب ربه، ويقول :
﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ﴾ )٢ لأنه لما يطلب التأخير والبقاء إلى يوم القيامة طالب نعمة منه ومنة، فيقول مقابل ما يطلب من النعمة : لئن أعطيتني ذلك لأعطينك، إنما يذكر مقابل طلب النعمة الطاعة له والشكر على ما قال :﴿ ومنهم من عهد الله لئن آتانا من فضله لتصدقن ﴾( التوبة : ٧٥ )إنما يقابل بطلب النعمة الطاعة له. وأما مقابلة المعصية فلا تعرف.
ثم يخرج قوله :﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة ﴾ على وجهين.
أحدهما : على التأكيد : يقول : أي إنك ﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ﴾
( والثاني )٣ على التمني منه الأمرين جميعا : التأخير واحتناك ذريته وسؤاله إياهما.
ثم اختلف في قوله :﴿ لأحتنكن ذريته ﴾ : قال بعضهم : لأحتوينهم، ولأحيطن بهم، وقال بعضهم٤ لأضلنهم على ما ذكر في آية أخرى :﴿ ولأضلنهم ولأمنينهم ﴾( النساء : ١١٩ ) وقال بعضهم :﴿ لأحتنكن ﴾ لأسْتَنْزَلَنَّ وقيل : لأسْتَوليَنَّ.
وقال القتبي﴿ لأحتنكن ﴾ أي لأستأصلنَّهم، ويقال : هو من حنك الدابة، حنك دابته، يحنكها حنكا، إذا شد في حنكها الأسفل حبلا، يقودها به. وقال القتبي : أي لأقودَنَّهُمْ كيف شِئْتُ.
ثم قوله :﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته ﴾كأنه سأل ربه التأخير على ما ذكر في آية أخرى حين٥ ﴿ قال أنظرني إلى يوم يبعثون ﴾( الأعراف : ١٤و. . ) كأن اللعين لما سمع قوله :﴿ وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ﴾( الحجر : ٣٥ ) إنه لا يناله الرحمة في الإيمان به حين٦ ذكر اللعنة عليه إلى يوم الدين. واللعينُ هو المطرود عن رحمته. فعند ذلك سأل ربه النظرة إلى يوم الدين ليُغْوِيَنَّ َعباده، وقد علم اللعين أن طاعة خلقه له، لا تزيد في ملكه شيئا، وعصيانهم، لا ينقص في ملكه شيئا. لذلك قال :﴿ لأحتنكن ذريته ﴾( وقال )٧
﴿ ولأغوينهم أجمعين ﴾( الحجر : ٣٩ ) ( وقال :)٨﴿ ولأضلنهم ﴾( النساء : ١١٩ )ما ذكر.
١ في الأصل و. م : حيث..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل و. م: أو..
٤ من م، في الأصل: بعض..
٥ في الأصل و. م : حيث..
٦ في الأصل و. م : حيث..
٧ ساقطة من الأصل و. م..
٨ ساقطة من الأصل و. م..
فعند ذلك سأل ربه النظرة إلى يوم القيامة؛ ليغوين عباده، وعلم اللعين: أن طاعة خلقه له لا تزيد في ملكه شيئًا، وعصيانهم لا ينقص في ملكه شيئًا. لذلك قال: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ)، (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ)، (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ)، وما ذكر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (٦٣)
مع إحساني إليهم وإنعامي عليهم.
(فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا).
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (٦٤)
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على التمكين له ذلك والإقدار على ما ذكر، أي: مكن له ذلك، وأقدر عليه؛ لخذلانه إياه لما عصى ربه وترك أمره؛ لما رأى أمره بالسجود لآدم جورًا منه، حيث قال له: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ). مكن له ذلك، لتتم له اللعنة والخذلان.
والثاني: قال ذلك له على التوعد والتهدد؛ ألا ترى أنه ذكر هذا على أثر وعيد، وهو قوله: (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا)، فيخرج على إثر ذلك مخرج الوعيد له ولمن تبعه وأجابه، كقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، لهذا وإن كان ظاهره أمرًا فهو وعيد؛ فعلى هذا قوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) فإن لك ولمن تبعك كذا.
أو لما ذكرنا من التمكين له ذلك والإقدار على ذلك ليتم له اللعنة والخذلان.
والثاني: قال ذلك الذي لعنه، وإلا لا يجوز أن يكون اللَّه يأمره بما ذكر أن يخرج الأمر بما ذكر مخرج سفه والأمر بالفحشاء، وقد أخبر أنه: لا يأمر بالفحشاء والمنكر، وإنما يأمر بالعدل؛ كقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)؛ فلو حمل هذا على الأمر لكان أمرًا بالفحشاء والمنكر فدل أنه يخرج على أحد الوجهين اللذين ذكرناهما، أو على الاستبعاد والإياس عن أن يملك أو يقدر عليهم بما ذكر إلا من اختار منهم اتباعه، وهو ما ذكر: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ...) الآية. واللَّه أعلم.
77
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَفْزِزْ): قَالَ الْقُتَبِيُّ، أي: استخف، والرجل: الرجالة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (وَاسْتَفْزِزْ)، أي: استخف، أي: دعاه فأجابه وأمره فأطاعه؛ وعلى هذا يخرج قوله: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)، أي: أمرهم فأطاعوه، أو دعاهم فأجابوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِصَوْتِكَ).
يحتمل وجوهًا ثلاثة:
أحدها: على حقيقة الصوت، يكون له صوت يدعو الناس به، فيسمع ذلك الصوت النفس الخفية التي تكون في هذه النفس الظاهرة الكثيفة، ولا تسمعه النفس الظاهرة، على ما يخطر أشياء بالقلب من غير أن يعلم به الإنسان أنه من أين جاء؟ ومن أين هيجانه؟ وعلى ما يقذف ويوسوس أشياء في القلوب من غير أن يعلم ذلك ويطلع عليه؛ فعلى ذلك يجوز أن يكون له صوت يدعو الناس به، وإن كنا لا نسمعه؛ لكنه يسمع النفس الخفية بما يسمع النفس الظاهرة، وبها نبصر - أعني: بالنفس الخفية - ألا ترى أن النائم يرى أشياء ويكون في أقصى الدنيا، ونفسه الظاهرة ملقاة هاهنا؛ فذلك كله بالنفس الخفية.
والثاني: على التمثيل، ليس على تحقيق الصوت، لكن ذكر الصوت؛ لما بالصوت يوصل إلى إعلام بعضهم بعضًا، وبه يدعو بعضهم بعضًا عند البعد؛ فذكر الصوت له مكان الوسوسة التي يوسوس الناس أشياء من بعد، ويدعوهم به إلى معاصي اللَّه - تعالى - وكذلك قال الحسن في قوله: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ): من بعد من غير أن كان هنالك تقرب منه.
والثالث: على إضافة عمل كل عاص من نحو الغناء والمزامير وغيره، أو ما يضاف عمل كل طاغ وكل ضال إليه؛ أضيف ذلك إليه كما أضاف إليه موسى حيث قال: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، وقوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ)، ولم يكن ذلك عمل الشيطان حقيقة، ولكن قال ذلك وأضافه إليه؛ لما بأمره ودعائه يعمل ذلك.
78
وقال عامة أهل التأويل: (بِصَوْتِكَ)، أي: بدعائك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَجْلِبْ)، أي: اجمعهم، ويقال: وأجلبتهم، أي: أعنتهم -أيضًا- وهو قول أبي عَوْسَجَةَ.
وقوله: (بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ).
يخرج على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا:
أحدها: أن يكون له خيل ورجالة من جنسه وجوهره يجلبهم بهم، وإن كنا لا نراهم؛ كما قال: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ...) الآية؛ فجائز أن يكون له خيل ورجالة وجنود لا نراهم نحن، وهم يروننا.
والثاني: على ما ذكرنا: أنه على التمثيل، لكنه ذكر الخيل والرجل؛ لما بالخيل والمشي يصل بعض إلى بعض عند الحاجة إليه في البعد والقرب؛ فذكر ذلك له على ما ذكرنا في الصوت.
والثالث: أنه أضاف كل خيل راكب في معصية اللَّه، أو كل ماش مشى في معصية اللَّه إليه؛ على ما ذكرنا في الصوت: أنه أضاف كل صوت في معصية اللَّه إليه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا):
قَالَ الْقُتَبِيُّ: (مَوْفُورًا)، أي: موفرًا.
وقال غيره: وافرًا.
وفي قوله: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأن إبليس سأل ربه التأخير والإبقاء له إلى يوم القيامة، وقد علم أنه إذا أعطاه ذلك له يفي ما وعد، وأبقاه إلى ذلك الوقت، وهم لم يعرفوا ذلك؛ بل قالوا: إنه يجيء عبد فيقتله؛ فيمنعه عن وفاء ما وعد، والإبقاء إلى الوقت الذي وقت له؛ فهو أعرف بربه منهم، وكذلك قال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)، وهم يقولون لم يغوه؛ فهو أعرف به منهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ).
79
قال بعض أهل التأويل: مشاركته في الأموال: هي أن يجعلوا له البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي؛ على ما كانوا يفعلونه.
وأمَّا الأولاد: فإنهم هودوهم ونصروهم، ومجَّسوهم، وهو قول قتادة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: مشاركته في الأموال: هي أن يكتسبوها من خبيث وحرام، وينفقونها في مثله وفيما لا يحل.
وأمَّا الأولاد: ما ولدوا من الزنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأموال: ما كانوا يذبحون لآلهتهم، ويجعلون لها من الحرث والأنعام.
والأولاد: ما ولدوا من الزنا.
وجائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ...)، إلى آخر ما ذكر؛ حتى تشاركهم في الأموال والأولاد.
ثم معنى المشاركة له - فيما ذكر، واللَّه أعلم - هو أن هذه الأموال والأولاد لله - تعالى - حقيقة؛ لما هو أنشأها وخلقها؛ فحقيقة الملك له بما ذكرنا، وظاهر الانتفاع لعبيده؛ إذ هذا كله لله بحق المحنة يمتحنهم وحق الانتفاع لهم؛ إذ لا يجوز أن يخلق اللَّه شيئًا لمنفعة نفسه، ولكن يخلق لمنافع أنفسهم؛ ليمتحنهم بها. وقد شرع اللَّه لهم شرائع، وشرع لهم إبليس شرائع، وهو ما ذكر: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، فإذا صرفوا ذلك إلى ما شرع لهم إبليس دون ما شرع اللَّه - فقد أشركوه فيها، وكل ما أطيع فيها مما سنَّ لهم إبليس وشرع لهم - فذلك شركته فيها؛ وذلك أن الأولاد في الشاهد إنما تطلب لأحد الوجوه الثلاثة:
إما للاستئناس بهم في حال الوحشة.
وإما للاستنصار بهم والعون على أعدائهم.
80
الآية٦٤ : وقوله تعالى :﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك ﴾ هذا يخرج على وجهين :
أحدهما : على التمكن من ذلك والإقدار على ما ذكر ؛ أي مكن له ذلك، وأقدر عليه لخذلانه إياه لما عصى ربه، وترك أمره بالسجود جورا منه حين١ قال :﴿ وإن عليك اللعنة إلى يوم اليدين ﴾ ( الحجر : ٣٥ ) مكن له ذلك ليتم له اللعنة والخذلان.
والثاني : قال ذلك له على التوعد والتهدد. ألا ترى أنه ذكر ( له هذا )٢ على أمر وعيد، وهو قوله :﴿ فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ﴾ ؟ فيخرج قوله :﴿ واستفزز ﴾على إثر ذلك مخرج الوعيد له لمن تبعه، وأجابه، كقوله﴿ اعملوا ما شئتم إنه بما تعلمون بصير ﴾ ( فصلت : ٤٠ )لهذا، وإن كان ظاهره أمرا فهو وعيد. فعلى قوله :﴿ واستفزز من استطعت منهم ﴾ فإن ذلك ولمن اتبعك كذا. أو لما ذكرنا من التمكين له من ذلك و الإقدار على ذلك ليُتِمَ له الخذلان واللعن الذي لعنه.
وإلا لا يجوز أن يكون الله يأمره بما ذكر إذ يخرج الأمر بما ذكر مخرج السفه والأمر بالفحشاء، وقد أخبر لأنه لا يأمر بالفحشاء والمنكر، وإنما بالعدل كقوله :﴿ إن الله لا يأمر بالفحشاء ﴾( الأعراف : ٢٨ } وقوله :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ﴾( النحل : ٩٠ ) فلو حُمِلَ هذا على الأمر لكان أمرا بالفحشاء والمنكر.
فدل أنه يُخَرََّج على أحد الوجهين اللذين ذكرناهما/٣٠٥-أ/أي٣ على الاستبعاد والإياس عن أن يملك أو يقدر عليهم بما ذكر إلا من اختار منهم إتباعه، وهو ما ذكر :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ الآية ( الحجر : ٤٢ والإسراء : ٦٥ )والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ واستفزز ﴾ قال القتبي : أي استخف، ( واستخف )٤ الرَّجْلَ والرَّجَاَلة. وقال أبو عوسجة :﴿ واستفزز ﴾أي استخف أي دعاه، فأجابه فأطاعه، وعلى هذا يخرج قوله﴿ فاستخف قومه فأطاعوه ﴾ )٥ ( الزخرف : ٥٤ )فأطاعوه، أي أمرهم، فأطاعوه، أي دعاهم، فأجابوه.
وقوله تعالى :﴿ بصوتك ﴾يحتمل وجوها ثلاثة :
أحدهما : على الصوت، يكون له صوت، يدعو٦ الناس به، فتسمع ذلك الصوت النفس الخفية التي تكون في هذه النفس الظاهرة الكثيفة، ولا تسمعه النفس الظاهرة، على ما تخطر أشياء بالقلب من غير أن يعلم به الإنسان أنه من أين ( جاء ؟ ومن أين )٧ هيجانه ؟ وعلام يقذف ؟ ويوسوس أشياء في القلوب من غير أن يعلم ذلك، ويطلع عليه.
فعلى ذلك يجوز أن يكون له صوت يدعوا الناس به، وإن كنا، لا نسمعه، لكنه يسمع النفس الخفية بما يسمع النفس الظاهرة، وبها تبصر ؛ أعني بالنفس الخفية. ألا ترى أن النائم يرى أشياء، ويكون في أقصى الدنيا، ونفسه الظاهرة ملقاة ههنا، فذلك كله بالنفس الخفية.
والثاني : على التمثيل، ليس على تحقيق الصوت ( لكن ذكر الصوت )٨ لما بالصوت يرسل الإعلام إلى بعضهم بعضا، وبه يدعو بعضهم بعضا عند البعد، فذكر الصوت له مكان الوسوسة التي توسوس للناس أشياء من بعد، وتدعوهم به إلى معاصي الله، وكذلك قال الحسن في قوله ﴿ فوسوس إليه الشيطان ﴾( طه : ١٢٠ )من بعد من غير أن كان هنالك تقرب منه.
والثالث : على إضافة عمل كل عاص من نحو الغناء والمزامير وغيره، أو يضاف عمل كل طائع وكال ضال إليه ؛
أضيف ذلك إليه كما أضاف موسى حين٩ قال :﴿ قال هذا من عمل الشيطان ﴾ ( القصص : ١٥ ) وقال١٠ :﴿ وما أنسيناه إلا الشيطان ﴾ ( الكهف : ٦٣ )ولم يكن ذلك عمل الشيطان حقيقة، وأضافه إليه لما بأمره ودعائه يعمل ذلك.
وقال عامة أهل التأويل :﴿ بصوتك ﴾ أي بدعائك.
وقوله تعالى :﴿ وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ﴾ قال بعضهم : أجلب أي اجمعهم، ويقال : أجْلَبَتْهُمْ أي أَعَنْتُهُمْ أيضا وهو قول لأبي عوسجة.
وقوله تعالى :﴿ بخيلك ورجلك ﴾ يخرج على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا :
أحدها : أن يكون له خيل ورَجَّاَلة وجنود من جنسه وجوهره، يجلبهم بهم، وإن كنا، لا نراهم كما قال :﴿ إنه يراكم هو وقبيله ﴾ الآية( الأعراف : ٢٧ ) فجائز أن يكون له خيل ورجالة وجنود، لا نراهم نحن، وهو يروننا.
والثاني : على ما ذكرنا أنه من التمثيل، لكنه ذكر الخيل والرجل لما بالخيل والمشي يصل بعض إلى بعض عند الحاجة إليه في البعد والقرب، فذكر ذلك له على ما ذكرنا في الصوت.
والثالث : أنه أضاف كل خيل راكب في معصية الله أو كل ماش في معصية الله على ما ذكرنا في الصوت في معصية الله، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ﴾ قال القتبي :﴿ موفورا ﴾أي موفرا. وقال غيره : وافرا.
وفي قوله :﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة ﴾ دلالة نقض قول المعتزلة لأن إبليس سأل ربه التأخير والإبقاء له إلى يوم القيامة، وقد علم أنه إذا أعطاه ذلك له وفى١١ له ما وعد، وأبقاه إلى ذلك الوقت، وهم لم يعرفوا ذلك، بل قالوا : إنه يجيء عبد، فيقتله، فيمنعه عن وفاء ما وعد والإبقاء إلى الوقت الذي وقت له، فهو أعرف بربه منهم، وكذلك ﴿ قال رب بما أغويتني ﴾ ( الحجر : ٣٩ ) وهم يقولون : لم يغوه. فهو أعرف بهم منهم وقوله تعالى :﴿ وشاركهم في الأموال والأولاد ﴾قال بعض أهل التأويل : مشاركته في الأموال هي أن ( يجعلوا له )١٢ البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي على ما كانوا يفعلونه. وأما الأولاد فإنهم هودوهم ونصروهم، ومجَّسُوهُم، وهو قول قتادة.
وقال بعضهم : مشاركته في الأموال هي أن يكتسبوها من خبيث وحرام، وينفقوها في مثله وفي ما لا يحل، وأما الأولاد فهم١٣ ما ولدوا من الزنى. وقال بعضهم : الأموال ما كانوا يذبحون لآلهتهم، ويجعلونها١٤ ﴿ من الحرث والأنعام ﴾( الأنعام : ١٣٦ )والأولاد ما ولدوا من الزنى.
وجائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله :﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ﴾إلى آخر ما ذكر حتى تشاركهم في الأموال والأولاد.
ثم معنى المشاركة له في ما ذكر، والله أعلم، هو أن هذه الأموال والأولاد لله تعالى حقيقة لما هو أنشأها، وخلقها. فحقيقة الملك له بما ذكرنا. وظاهر الانتفاع لعبده، إذ هذا كله لله بحق المحنة يمتحنهم، وحق الانتفاع لهم، إذ لا يجوز أن يخلق الله شيئا لمنفعة نفسه، ولكن يخلق لمنافع أنفسهم ليمتحنهم بها.
وقد شرع الله لهم ( شرائع، وشرع إبليس لهم )١٥ شرائع، وهو ما ذكر :﴿ أم لهم شركاؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾( الشورى : ٢١ ) فإذا صرفوا ذلك إلى ما شرع ( لهم إبليس دون ما شرع )١٦ الله فقد أشركوه فيها، وكل ما أطيع فيها مما سن١٧، لهم إبليس، وشرع لهم، فذلك شركته فيها.
وذلك لأن الأولاد في الشاهد إنما تطلب لأحد الوجوه الثلاثة : إما للاستئناس بهم في حال الوحشة، وإما للاستنصار بهم والعون على أعدائهم، وإما للذكر بعد الوفاة. عدائهم وإما للذكر بعد الوفاة.
وكذلك الأموال يطلب منها ما ذكرنا : الانتفاع بها في حال الحياة، وإما للمعونة على الأعداء والذكر بعد الموت لخيرات يتركونها. فإذا صرفوها إلى ما أمرهم إبليس أشركوه فيها، ومشاركتهم إياهم١٨ في الأموال متى يأمرهم، ويدعوهم إليه، فيطيعونه، ويجيبونه. في ذلك والله أعلم مشاركته.
وقوله تعالى :﴿ وعدهم ﴾ قال عامة أهل التأويل : أي وعدهم أن لا جنة : ولا نار، ولا بعث، أي١٩ يعدهم بخلاف ما وعدهم الله، وخوفهم على ضد ما خوفهم الله : ما كان من الله وعد رجاء، وهو ما قال :﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ﴾( إبراهيم : ٢٢ ) أخبر أن ما وعد هو، قد أخلف. فذلك تأويل قوله :﴿ وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ﴾ أي كذبا وباطلا لأنه يخرج كله على خلاف ما وعد.
١ في الأصل و. م : حيث..
٢ في الأصل و. م : لهذا..
٣ في الأصل و. م: و.
٤ في الأصل و. م: أو..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
٦ في الأصل و. م: يدعوه..
٧ من م، ساقطة من الأصل..
٨ من م، ساقطة من الأصل..
٩ في الأصل و. م : حيث..
١٠ في الأصل و. م: قوله..
١١ في الأصل و. م : يفي..
١٢ في الأصل و. م : يجعلوه..
١٣ في الأصل و. م : هم..
١٤ في الأصل و. م: يجعلون لها.
١٥ من م، ساقطة من الأصل.
١٦ من، م ساقطة من الأصل..
١٧ ساقطة من م..
١٨ في الأصل و. م : إياه..
١٩ في الأصل و. م: لكن..
وإما للذكر بعد الوفاة.
وكذلك الأموال يطلب منها ما ذكرنا:
الانتفاع بها في حال الحياة.
وإما للمعونة على الأعداء.
أو الذكر بعد الموت؛ لخيرات يتركونها، فإذا صرفوها إلى ما أمرهم إبليس أشركوه فيها، ومشاركته إياهم في الأموال هي أن يأمرهم ويدعوهم إلى اكتساب ما يحرم، والإنفاق فيما لا يحل وفي الأولاد، وكذلك يأمرهم بالمعصية، ويدعوهم إليه فيطيعونه ويجيبونه في ذلك، فذلك - واللَّه أعلم - مشاركته.
وقوله - عَزَّ وَجَلََّّ -: (وَعِدْهُمْ).
قال عامة أهل التأويل: أي: وعدهم أن لا جنة، ولا نار، ولا بعث، لكن يعدهم بخلاف ما وعد اللَّه، وخوفهم على ضد ما خوفهم اللَّه: ما كان من اللَّه لهم وعد رجاء يكون منه وعد خوف، وما كان من اللَّه وعد خوف، لكون منه وعد رجاء؛ وهو ما قال: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ): أخبر أن ما وعد هو قد أخلف، فذلك تأويل قوله:
(وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)، أي: كذبًا وباطلًا؛ لأنه يخرج كله على خلاف ما وعد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (٦٥)
يحتمل قوله: (سُلْطَانٌ) وجوهًا ثلاثة:
أحدها: القدرة والقهر.
والثاني: في الحجة والبرهان.
والثالث: الولاية.
فأما القدرة والقهر: فليس له عليهم ذلك؛ لأنه لم يجعل له قدرة القهر عليهم شاءوا أو أبوا، وكذلك ليس له عليهم الحجة فيما يدعوهم إليه ويأمرهم به، كقوله يوم القيامة حيت يقول: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ...) الآية.
وأمَّا سلطان الولاية فإن له ذلك على من اختار اتباعه وتوليه؛ كقوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ)، وقوله: (إِنَّ عِبَادِي) المخلصين الذين أخلصوا
إليَّ، (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) يحتمل قوله: (سُلْطَانٌ)، أي: حجة؛ لأنهم إنما يتبعون أمر اللَّه بحججه؛ فلا يتبعون الشيطان بأمانيه التي يمنيهم، وشبهاته التي يشبه عليهم.
أو أن يكون قوله: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، أي: سلطان القهر والغلبة؛ إنما له عليهم الدعاء والتزيين لا غير.
أو أن يكون قوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ): من الحجة والملك على ما ذكرنا؛ إنما سلطانه عليهم سلطان الولاية على الذين يتولونه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا).
يحتمل: (وَكِيلًا): عاصفا يعصمك عن تمويهاته وتسويلاته، وناصرًا ينصرك على مكائده، أو مفزعًا تفزع إليه، أو معتمدًا تعتمد عليه في جميع أمورك، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٦٦) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (٧٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ).
(يُزْجِي) يجري وشمير ويسوق الفلك في البحر.
قال الحسن: أي: سخر الفلك والسفن لنا في البحر، والدواب في البر؛ لنقطع بها البحار والمفاوز والبراري؛ لنصل بذلك إلى حوائجنا التي جعلت لنا في البلدان النائية والأمكنة البعيدة.
وكذلك قال في قوله - تعالى -: (يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)، أي: سخر لنا ذلك.
ونحن نقول كذلك: سخر لنا ما ذكر، إلا أن إضافة ذلك إليه على قولنا: إن أفعالنا مخلوقة له. ثم يذكر فيه قدرته وسلطانه وعلمه حيث خلق الخشب، وجعل فيه معنى: يقر على وجه الماء مع ثقله، ومن طبع الشيء الثقيل التسرب في الماء والتسفل فيه، ولا
82
نفهم المعنى الذي به تقر على وجه الماء، وإن كان دون ذلك في الثقل يتسفل فيه ويتسرب.
أو جعل ذلك بطبعه بحيث يقر على وجه الماء ولا يتسرب فيه؛ لطفًا منه؛ فمن قدر على إنشاء ما يقر على وجه الماء لمعنى جعل فيه لا نعقله نحن، أو بلطفه - لقادر على إنشاء هذا الخلق وإعادته بعد فنائه وذهابه، وإن كانت عقول الخلائق لا تدرك ذلك، وأفهام البشر تعجز عن دركه؛ فكما قدر على إنشاء ما هو طبعه التسرب في الماء والتسفل فيه، بحيث يقرّ ويركد على الماء يقدر على ما ذكرنا، وحيث قدر على تسكين الأمواج في البحر؛ ليعبر فيها، وخلق رياحًا فيها لتجري السفن كما تجري بالماء الجاري؛ فمن قدر على هذا يقدر على ما ذكرنا من الإحياء بعد الفناء.
وفيه ما ذكرنا من تذكير نعمه لنا؛ لنشكره، وتذكيره قدرته وسلطانه؛ لنهاب منه، ولا ننكر قدرته وسلطانه في شيء من الأشياء على ما أنكر قدرته بعض خلقه؛ لقصور عقولهم عن درك ذلك. وفيه وجوه من الدلالة:
أحدها: تعليم الأسباب التي بها يوصل إلى قطع البحار والبراري من اتخاذ السفن والحمل عليها وغير ذلك.
والثاني: تسخير البحار والبراري لنا ما لولا ذلك ما تهيأ لنا استعمال ذلك.
والثالث: دلالة الرسالة؛ إذ لولا خبر السماء، وإلا: ما يعرف أن ما يحتاج إليه هو في تلك البلدان النائية والأمكنة البعيدة، وما يعلم أن ذلك الطريق يفضي إلى تلك الأمكنة إلا بخبر الرسول عن اللَّه، تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: من رحمته أن جعل لكم الفلك والدواب؛ لتصلوا بها إلى أرزاقكم التي في البلاد النائية البعيدة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه لم يزل بكم رحيمًا إذا تبتم ورجعتم عن ذلك.
أو كانت الآية في المؤمنين؛ فهو لم يزل بهم رحيمًا، وإن كانت في الأرزاق فيهم جميعًا.
فإن قالت الثنوية: إنكم تصفون ربكم بالرحمة والرأفة، وهو يميتكم، ويقتلكم، ويحمل عليكم الشدائد والمؤن العظام؛ فذلك ليس من صفة الرحيم.
83
قيل: إنا قد ذكرنا لكم في غير موضع جواب السؤال: إن المرء رحيم على نفسه، وله الرحمة والشفقة عليها، ثم مع ذلك يحمل على نفسه الشدائد والمؤن العظام؛ لما يأمل من النفع في العاقبة: من نحو الحجامة، والافتصاد، وشرب الأدوية الكريهة، ما لولا ما يأمل من النفع في العاقبة - ما تحمل ذلك.
وكذلك الوالدان فيهما من الرحمة والرأفة لولدهما ما لا يخفى ذلك على أحد، ثم يحملان على ولدهما ما ذكرنا من الشدائد والمؤن العظام؛ لما يأملون من النفع لهم في العاقبة، ثم لا يمنع ذلك من الوصف بالرحمة والرأفة؛ فعلى ذلك اللَّه - سبحانه وتعالى - لا يمنع ما يحمل علينا من الشدائد عن أن يوصف بالرحمة، ولا يخرجه ذلك عن الحكمة؛ بل هو على ما قال: (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (٦٧)
أي: بطل ما كانوا يأملون من عبادتهم الأصنام إلا العبادة التي كانت لله؛ فإنه لم يبطل ما يؤمل من عبادتهم إياه؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، ويقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، و (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى): فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم؛ لعبادتهم الأصنام، وعجزهم عما ياملون منها في الآخرة، حيث لم يملكوا دفع شيء مما مسهم، وكشف ما أصابهم في الدنيا؛ فكيف يأملون ذلك في الآخرة.
أو أن يكون (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي: ضل الآلهة التي عبدوها دون اللَّه إلا إله الحق المستحق للعبادة؛ فإنه أعانكم ونجاكم من الهلاك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ):
هكذا كانت عادتهم أنهم إذا خافوا الهلاك على أنفسهم - أخلصوا الدعاء لله، كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، الآية، وكقوله: (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ...)، (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)، ونحوه.
ويحتمل قوله: (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن وفاء ما عهدتم، وإنجاز ما وعدتم؛ لأنهم قالوا: (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، فأعرضوا عن هذا الوعد، ولم يوفوا ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا).
لنعم ربه، يذكر سفههم من وجهين:
أحدهما: عبادتهم من يعلمون أنه لا ينعم عليهم في حال الرخاء، ولا يدفع عنهم البلاء في حال الشدة.
والثاني: أن في الشاهد من أنعم على آخر نعمة، وأحسن إليه - يشكر له ويثني عليه، وإذا حل به بلاء وشدة من أحد من الخلائق يدعو عليه ويلعنه، فمعاملة أُولَئِكَ الكفرة مع اللَّه على خلاف معاملة الخلق بعضهم بعضًا: يخلصون له الدعاء في حال الشدة والبلاء، ويكفرون نعمه في حال الرخاء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (٦٨)
على ما خسف قوفا في البر، (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا).
على ما أرسل على قوم من الحصباء، وهي الحصى؛ فأهلكهم، (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا): ناصرًا ينصركم، أو معتمدًا تعتمدون عليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (٦٩)
أي: يحوجكم إلى ركوب البحر مرة أخرى، (فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ).
أو يذكر هذا أن من قدر على إنشاء ما ذكر من الفلك وإجرائها في البحر، وتسكين أمواجه ودفع أهواله عنكم - لقادر على إهلاككم في البر، وإعادتكم في البحر ثانيًا، وإغراقكم فيه.
وفي قوله: (يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) وقوله: (يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) - دلالة أن لله في فعل العباد صنعًا؛ لأنهم هم الذين يسيرون في البحر، وهم الذين يجرون الفلك فيه.
ثم أضاف الإجراء إلى نفسه، وكذلك السير؛ ليعلم أن له فيه صنعًا وفعلًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا):
قَالَ بَعْضُهُمْ: (تَبِيعًا)، أي: من يتبعنا بدمائكم، ويطالبنا بها.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: التبيع: الكفيل، ويقال: المتقاضي في موضع.
وقال غيره: هو من التبعة، أي: لا تجدوا لكم علينا به تبعة، وهو ما ذكرنا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الحاصب: الريح؛ سميت بذلك، لأنها تحصب، أي: ترمي
الآية٦٩ : وقوله تعالى :﴿ أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى ﴾ أي يحوجكم إلى ركوب البحر مرة أخرى ﴿ فيغرقكم بما كفرتم ﴾أو يذكر هذا : أن من قدر على إنشاء ما ذكر من الفلك وإجرائها في البحر وتسكين أمواجه ودفع أهواله قادر على إهلاكهم في البر وإعادتكم في البحر ثانيا وإغراقكم فيه.
وفي وقوله :﴿ يزجى لكم الفلك في البحر ﴾( الإسراء : ٦٦ ) دلالة أن لله في فعل العباد صنعا، لأنهم هم الذين يسيرون في البحر، وهم الذين يجرون الفلك فيه. ثم أضاف الإجراء إلى نفسه، وكذلك السير ليعلم أن له صنعا وفعلا.
وقوله تعالى :﴿ لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ﴾ قال بعضهم :﴿ تبيعا ﴾ أي من يتبعنا بدمائكم ويطالبنا بها.
وقال أبو عوسجة : التبيع الكفيل، ويقال المتقاضي في موضع آخر. وقال غيره : هو من اتبعه، أن لا تجدوا لكم علينا به تبعة، وهو ما ذكرنا.
وقال القتبي : الحاصب الريح، سميت بذلك لأنها تَحْصِبُ أي ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصغار، والقاصف الريح الشديدة التي تقصف الشجر، أي تكسرها. وكذلك قال أبو عوسجة : القاصف الشديدة من الرياح.
بالحصباء، وهي الحصى الصغار، والقاصف: الريح الشديدة التي تقصف الشجر، أي: تكسرها. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: القاصف: الشديدة من الرياح.
وقوله - عزّ وجلَّ -: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (٧٠)
كرمهم بأن خلقهم في أحسن صوه: ؛ كقوله: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، وقومهم في أحسن تقويم وأحسن قامة؛ كقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، وكرمهم بأن ركب فيهم العقول التي بها يعرفون الكرامات من الهوان، ويعرفون بها المحاسن من المساوي، والحكمة من السفه، والخير من الشر، وكرمهم بأن جعل لهم لسانًا يتكلمون بها الحكمة وكل خير، وبها يتوصلون إلى درك الحكمة وجمعها، وكرمهم بأن جعل أرزاقهم أطيب الأرزاق وجعل لغيرهم ما خبث منها وما فضل منهم، وكرمهم بأن خلق جميع ما على وجه الأرض لهم؛ كقوله: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، وكرمهم بأن سخر لهم جميع الخلائق: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، وجعل بني آدم هم المقصودون بخلق جميع الخلائق ونحوه، وكرمهم حيث جعلهم بحيث يتهيأ لهم استعمال السماء والأرض، واستعمال الشمس والقمر، واستعمال البحار والبراري، وجميع الصعاب والشدائد في حوائجهم ومنافعهم ما لا يتهيأ لغيرهم من الخلائق ذلك؛ فذلك تفضيلهم.
وجائز أن يكون كرم بني آدم؛ لأنه كرم آدم، أوكرم آدم؛ لأنه أسجد ملائكته له، وبعثه رسولًا إليهم؛ حيث قال: (أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ)؛ فلما كرم آدم صار بنوه مكرمين -أيضًا- ولهذا نقول بأن الأب يصير مشتومًا بشتم ابنه.
وما قال أهل التأويل: إنه فضل بني آدم على غيرهم من الحيوان والدواب؛ حين أكلوا وشربوا هم بأيديهم وسائر الدواب يأكلون بأفواههم - هذا الذي ذكروا هو من التفضيل، إلا أن ذكره له خاصة ليس فيه كثير حكمة وفضل؛ لكن فضلهم وكرمهم بما ذكرنا من وجوه الكرامات، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
هذا تفسير ما ذكر من تكريم بني آدم وتفضيله إياهم، ثم يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أن جعل لهم البر والبحر مسخرين؛ حتى يصلوا إلى ما في باطن البحر وظاهره من أنواع المال والمنافع.
86
وكذلك البر سخر لهم؛ حتى يصلوا إلى ما في باطنه من الأموال والمنافع وظاهره.
والثاني: أن جعلهم بحيث يقضون حوائجهم التي كانت لهم من وراء البحر ووراء البر - ما لم يجعل ذلك لغيرهم من الخلائق - قضاء الحوائج من ورائهما، وذلك معنى تفضيلهم الذي ذكر، ثم ما ذكر على أثر قوله: (كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، هو تفسير تفضيله وإكرامه؛ حيث قال: (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ).
وجائز أن يكون ما ذكر من تكريم بني آدم وتفضيله إياهم - هو ما جعل فيهم من الأنبياء، والرسل، والأتقياء، والأخيار منهم - ما لم يجعل ذلك من غيرهم؛ ألا ترى أن موسى - عليه السلام - قال: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الآية.
وقوله: (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ).
هو ما ذكرنا: أن جعل أرزاقهم وغذاءهم ما بلغ في الطيب غايته، ولا كذلك غذاء غيرهم من الدواب ورزقهم؛ لأنهم لا يأكلون إلا بعد أن يستخرجوا منه ما فيه من أذى وخبث وخشونة: من النخالة وغيرها، وفي الطبخ والنضج حتى يبلغ في الطيب واللين غايته. وأمَّا غيرهم من الدواب فإنما يأكلون كما هو نيئًا غير مطبوخ ولا نضيج، وفيه من الخبث والأذى.
(وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
أما بعض أهل التأويل فإنه قال: فضلناهم على كثير ممن خلقنا: على الجن والشياطين، وأصحابهم غير الملائكة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: على كثير ممن خلقنا: من الحيوان والدواب، (تَفْضِيلًا): بالأكل بالأيدي، وجعل رزقهم من غير رزق الدواب.
ويحتمل (عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا): ممن على وجه الأرض من الجن وغيرهم؛ لما لم يرسل إلى الجن رسول منهم، ولا أنزل عليهم كتاب على حدة، وما جعل أرزاقهم مما يفضل من البشر من العظام والسرجين وغيره، على ما ذكر؛ فذلك وجه تفضيلهم عليهم.
وأمّا الكلام في تفضيل البشر على الملائكة والملائكة على البشر - فإنا لا نتكلم في شيء من ذلك؛ لما لا نعلم ذلك، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة؛ فالأمر فيه إلى اللَّه في تفضيل هَؤُلَاءِ على هَؤُلَاءِ، وهَؤُلَاءِ على هَؤُلَاءِ، ليس إلينا من ذلك شيء، ولا جائز أن يجمع بين أشر البشر وأفسقهم وبين الملائكة الذين لم يعصوا اللَّه طرفة عين، فيقال: هم أفضل من الملائكة؛ ولكن إن كان لا بد فإنما يجمع بين الأنبياء والرسل
87
وأتقى الخلائق وبين الملائكة، فيتكلم حينئذ بتفضيل بعض على بعض؛ فهو ما ذكرنا أن الأمر في ذلك إلى اللَّه، ليس إلينا من ذلك شيء، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧١) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ).
قال الحسن: هذا صلة قوله: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، فيقول: أي: يوم ندعو كل أناس بإمامهم.
ثم اختلف في قوله: (بِإِمَامِهِمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ندعو بإمامهم، أي: بدينهم الذي دانوا به وذبوا عنه، ويدعى كل بدينه الذي دان به وذبَّ عنه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِمَامِهِمْ)، أي: برؤسائهم وأئمتهم الذين أضلوهم، أي: يدعى الأتباع بأئمتهم ورؤسائهم الذين أضلوهم حتى يلوم بعضهم على بعض، ويلعن بعضهم على بعض، ويتبرأ بعضهم من بعض؛ كقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا...) الآية، وقوله: (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، وقوله: (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)، يدعى الأتباع بالمتبوعين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يدعى كل أناس بداعيهم الذي دعاهم: إن كان رسولًا فبالرسول، وإن كان شيطانًا فبالشيطان، وهو قريب مما ذكرنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِإِمَامِهِمْ): كتابهم الذي كتب الملائكة أعمالهم فيه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يدعى بكتابهم الذي أنزل عليهم، يدعى كل بما ذكر؛ ليعلموا أن الحجة قد قامت عليهم، ووجب لهم العذاب باتباعهم ما اتبعوا بلا حجة ولا برهان.
وحاصل أقاويل هَؤُلَاءِ ترجع إلى وجوه ثلاثة:
أحدها: يوم ندعو إمام كل أناس: كان إمامهم في خير أو شر فيجزى له جزاؤه، ثم يكلف هو دعاء أتباعه إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب.
والثاني: يدعى كل إمام ورئيس في خير أو شر بأتباعه الذين يتبعونه فيما يدعوهم إليه نحو كل رسول يدعى بقومه الذين اتبعوه، وكل رئيس وشيطان استتبعهم.
والثالث: (بِإِمَامِهِمْ): كتابهم الذي كتب لأعمالهم الذي كتبوا؛ كقوله: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)، ونحوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ):
كلهم قد يقرءون كتابهم، غير أن المؤمن إذا نظر في الكتاب - فرح به واستبشر بما فيه؛ فسهل عليه القراءة، وهانت لما كان يتبع حجج اللَّه.
وأمَّا الكافر إذا نظر في الكتاب، حزن واغتم به؛ فعسر عليه قراءة كتابه، وهو كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) الآية. ويقول الكافر: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ...) الآية؛ لأنه اتبع ما اتبع بلا حجة.
أو أن يكون المؤمن إذا نظر في كتابه، رأى سيئاته مغفورة، كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) - فرح بذلك، والكافر إذا رأى سيئاته باقية عليه، وحسناته قد بطلت - حزن بذلك واغتم؛ لذلك قال ما قال، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢)
قَالَ بَعْضُهُمْ: من كان في هذه الدنيا أعمى عن توحيد اللَّه والإيمان به مع كثرة آياته ودلالته على وحدانيته - فهو عن الإيمان بالآخرة والبعث بعد الموت - أعمى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من كان في هذه الدنيا أعمى عن الحق - فهو في الآخرة أعمى عن حججه؛ لأنه إذا عمي عن الحق نفسه فهو عن حججه أعمى؛ فتكون (في) بمعنى (عن)؛ إذ الآيات والدلالات على وحدانية اللَّه أكثر وأظهر من الدلالة على البعث والآخرة؛ إذ ليس شيء إلا وفيه أثر وحدانيته ودلالة ألوهيته، ولا كذلك الآخرة؛ فهو عن الإيمان بها أشد عمى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من عمي في هذه الدنيا عن الإيمان باللَّه - فهو في الآخرة أعمى عن الإيمان به؛ لأن الدنيا مما يقبل فيها الإيمان، وفي الآخرة لا يقبل؛ وهو ما قال: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)، أي: حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان به، (كَمَا
89
فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ)، أي: كما حيل بين أشياعهم وبين الإيمان به، عند معاينة بأس اللَّه وعذابه، وهو قول الحسن.
وقال أبو بكر قريبًا من هذا، وهو أن من عمي عن الرشد والحق في هذه الدنيا؛ لجهله به - فهو في الآخرة عند علمه بالرشد والحق أشد عمى، أو كلام نحو هذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من عمي قلبه في الدنيا عن الإيمان باللَّه والتوحيد له - فهو في الآخرة يكون أعمى الوجه والحواس؛ كقوله: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا)، وكقوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا...) الآية: ما ذكر ذاهبة حواسهم لما تركوا الانتفاع بها في الدنيا لما جعلت لهم الحواس.
ويشبه أن يكون قوله: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى): بالافتراء على اللَّه (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى)، أي: مفتر على اللَّه -أيضًا- كقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، ونحوه: يفترون في الآخرة ويكذبون كما كذبوا في الدنيا، وكقوله: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، ثم أخبر عنهم فقال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
وقال قتادة: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى): يقول: ومن كان في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم أعمى (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) الغائبة عنه التي لم يرها - (أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، وهو قريب مما ذكرنا.
وقال ابن عَبَّاسٍٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن كان في هذه النعم أعمى أن يعلم أنها من ألله - فهو في الآخرة أعمى عن حجته، ويقال: عن دين اللَّه، وأضل طريقا، ويقال: أضل عن حجته.
وقال غيره من أهل التأويل: من كان في هذه النعم أعمى - يعني: الكافر - عمي عنها، وهو يعاينها؛ فلا يعرف أنها من اللَّه فيشكر ربها؛ فهو في الآخرة أعمى، يقول: عما غاب عنه من أمر الآخرة من البعث والجزاء - أعمى وأضل سَبِيلًا وأخطأ طريقًا، وبعضه قريب من بعض، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (٧٣) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (٧٤) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (٧٥) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا
90
وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (٧٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (٧٣)
دل هذا على أنه قد كان من الكفرة شيء من الدعاء إلى شيء: يصير به مفتونًا لو أجابهم إلى ذلك، وكذلك كانت عادة الكفرة: كادوا أن يضلّوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويفتنوه عن الذي أوحي إليه، ويصرفوه عنه، كقولهم: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ)، هكذا كانت عادتهم: كانوا يطلبون منه الافتراء على اللَّه والضلال على وجه المكر به، لا ضلال تصريح وكفر تصريح؛ ولكن معنى؛ يؤدي ذلك إلى الضلال والكفر، يريدون منه المساعدة لهم في بعض ما هم فيه بما كانوا يرونه من الموافقة له والمساعدة، لكن اللَّه عصم رسوله عن جميع ما كانوا يطلبون منه؛ بالآيات والحجج التي ذكر في كتابه، وبالعقول؛ كقوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ...) الآية: أخبر أنهم لا يؤمنون حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضى. ومن لم يكن معصومًا يجوز أن يوجد منه حرج مما قضى به، وكقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، ومن لم يكن معصومًا يجوز أن يؤذي ولا يلحقه اللعنة، وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ...) الآية، فمن لم يكن معصومًا يجوز أن يكون الخيرة من أمره، وقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وأمثاله من الآيات مما يكثر عدها.
وكذلك العقول تشهد أنه كان معصومًا؛ فمن أراد أن يصرف ويزيل عنه العصمة بتأويل يتأوله في بعض الآيات، أو بحديث يرويه - فإنا لا نقبل تأويله، ولا خبره الذي روى، ونشهد أنه كذب.
ويجوز أن يكون في خبره الذي روى معنى آخر سواه؛ فليس له أن يروي إلا بالمعنى الذي كان فيه؛ فتأويل أهل التأويل أنه ألقى الشيطان ولقنه عند تلاوته: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) - تلك الغرانيق العلا، وشفاعتهن ترتجى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا ندعك تستلم الحجر إلا أن تستلم آلهتنا، ونحوه.
إن ذلك كله فاسد خيال؛ أنه كان لا يحوم حول أصنامهم في حال صغره، ولا رأوه دنا منها؛ حتى لم يطمعوا ذلك منه ما دام صغيرًا؛ فكيف طمعوا ذلك الاستسلام لها بعد ما أوحي إليه وصار رسولًا؟!
وكذلك ما ذكروا أنهم طلبوا منه أن يطرد بعض الذين اتبعوه - عنه؛ ليكونوا هم أتباعه؛ فهم أن يفعل ذلك فنزل: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، لكن ذلك كله فاسد خيال، لا يحتمل ما توهموا فيه؛ لأنهم لم يعرفوه حق معرفته، وإلا لو عرفوه حقيقة المعرفة ما توهموا فيه شيئا من ذلك، وباللَّه التوفيق والمعونة.
ثم قوله: (لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ).
قد ذكرنا أن عادتهم ذلك إلا أن اللَّه عصمه عن ذلك.
ثم قوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (٧٤)
فظاهر الآية يرد جميع ما قال أهل التأويل في هذه الآية؛ لأنه يقول: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ): أخبر أنه قد ثبته؛ فلم يركن؛ لأنه أخبر أنه قد ثبته؛ فلم يكد أن يركن إليهم. وقال: (شَيْئًا قَلِيلًا): سمي ذلك: شيئًا يسيرًا، ولو كان ما قال أُولَئِكَ لكان شيئًا كبيرًا عظيمًا، بل يبلغ الكفر؛ دل أنه لم يكن ما ذكروا، وقال: (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ)، و (كاد): هو حرف بمعنى: قارب، أي: قارب أن يركن؛ كقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ)، أي: قارب أن يتفطرن، وليس فيه أنه ركن إليهم؛ فقولهم فاسد للوجوه التي ذكرنا أحدها: أنه ذكر، (شَيْئًا قَلِيلًا): وما قالوا: كبير عظيم يخاف أن يبلغ الكفر.
والثاني: قال (كِدْتَ)، وهو حرف تقارب.
والثالث: ذكر على الشرط: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)؛ فلم يركن لما ثبته، وهو ما قال إبراهيم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، وما ذكرنا في قصة يوسف: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ): ليس فيه أنه همَّ، ولا فيه أنه ركن؛ لأنه خرج على الشرط.
وقال الحسن في قوله: (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ)، أي: هممت، لكنه هم به هم خطر خطره إبليس. وكذلك قال في قصة يوسف: همت به همّ عزم، وهم بها هم خطر.
وقال غيره: أرادوا منه أن يجعل لهم مجلسًا على حدة؛ ليسلموا، فهم به أن يفعل ذلك؛ لحرصه على إسلامهم، وإشفاقًا عليهم، فمثل هذا يجوز الفعل إلا أن الرسل لا يجوز لهم أن يفعلوا شيئًا، وإن صغر، إلا بإذن من اللَّه - تعالى - ألا ترى أن يونس - عليه السلام - لما خرج من عند قومه مغاضبًا عليهم بغير إذن منه - عاتبه ربه بذلك معاتبة عظيمة؛ حيث قال: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤). ومثل هذا لو فعله غيره من دونهم كان ممدوحًا محمودًا في ذلك؛ فهذا يدل أن الأنبياء لم يكن لهم صنع شيء وإن قل إلا بإذن من اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (٧٥)
أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ضِعْفَ الْحَيَاةِ)، أي: مثل الحياة.
وغيره قال: (ضِعْفَ الْحَيَاةِ): عذاب الدنيا، (وَضِعْفَ الْمَمَاتِ): عذاب الآخرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)، قيل: مانعًا.
وقيل: ناصرًا ينصرك، وشافعًا يشفعك إلينا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (٧٦)
قال الحسن: قوله: (لَيَسْتَفِزُّونَكَ)، أي: كادوا ليقتلونك، وليخرجوك منها بالقتل، وقد كانوا هموا قتله، لكن اللَّه عصمه عن ذلك؛ بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا):
هكذا كان سنة اللَّه في الأمم الخالية أنهم إذا قتلوا نبيهم: لم يلبثوا بعده إلا قليلًا حتى أهلكوا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على الإخراج نفسه، إلا أن اللَّه أخرجه إخراج هجرة إلى المدينة لما سبق من رحمته وفضله ألا يهلك هذه الأمة إهلاك استئصال؛ فلو كانوا هم أخرجوه - لاستوجبوا به الإهلاك؛ لما كان من سنته في الأولين إهلاكهم إذا أخرجوا رسولهم من بينهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: على حقيقة الإخراج منهم: أخرجوا رسول اللَّه من بينهم، وفعلوا
الآية ٧٦ : وقوله تعالى :﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ﴾ قال الحسن : قوله :﴿ ليستفزونك ﴾ أي ليقتلونك، أو ليخرجونك منها بالقتل. وقد كانوا هموا قتله، لكن عصمه الله عن ذلك بقوله :﴿ والله/٣٠٧-أ/يعصمك من الناس ﴾ ( المائدة : ٦٧ ).
وقوله تعالى :﴿ وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ﴾ هكذا سنة الله في الأمم الخالية ؛ إنهم إذا قتلوا نبيهم لم يلبثوا بعده إلا قليلا حتى أهلكوا.
وقال بعضهم : هو على الإخراج نفسه، إلا أن الله عز و جل أخرجه هجرة إلى المدينة لما سبق من رحمته وفضله، أي لا يهلك هذه الأمة إهلاك استئصال. فلو كانوا هم أخرجوه لاستوجبوا به الإهلاك لما كان من سنته في الأولين إهلاكهم إذا أخرجوا رسولهم من بينهم.
وقال بعضهم : هو على حقيقة الإخراج منهم ؛ أخرجوا رسول الله من بينهم، وفعلوا ذلك، فلم يلبثوا بعده إلا قليلا حتى أهلكهم الله بالقتل يوم بدر وغيره، وهو ما قال :﴿ وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ﴾ ( محمد : ١٣ ) ففيه دلالة أنهم أخرجوه، وأنهم أهلكوا بذلك. وكذلك كانت سنة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.
وقال أهل التأويل في قوله :﴿ وإن كادوا ليستفزونك ﴾أي يستنزلونك من أرض المدينة حيث نزل بالمدينة.
قالت اليهود : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء والرسل، إنما أرض الأنبياء والرسل أرض الشام، فإن كنت نبيا رسولا فاخرج إليها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى الشام، فَعَسْكَرَ على رأس أميال لينساب إليه أصحابه، فنزل به جبريل بهذه الآية.
لكن ذكرنا أن هذا وأمثاله، لا يَحتَمِلُ، لأنه لا يجوز أن يخرج رسول الله من أرض المدينة على أرض الشام بقول أولئك اليهود من غير أن كان من الله إذن له في ذلك. هذا، لا يُحْتَمَلُ، ولا يُتَوَهَّمُ منه ذلك. والوجه فيه ما ذكرنا، والله أعلم.
ويشبه أن يكون قوله :﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ﴾ ( الإسراء : ٧٣ ) أي كادوا يفتنونك بالمكر والخديعة لك ﴿ ليستفزونك من الأرض ﴾لا لأنهم١ كانوا يطمعون يفتنونك، ويضلوه عن الذي أوحي على التصريح والإفصاح، ولكن على جهة المكر والخديعة، والله أعلم.
١ في الأصل و. م : أنهم..
ذلك؛ فلم يلبثوا بعده إلا قليلًا، حتى أهلكهم اللَّه بالقتل يوم بدر وغيره، وهو ما قال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ): ففيه دلالة أنهم أخرجوه، وأنهم أهلكوا بذلك، وكذلك كانت سنة اللَّه في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.
وقال أهل التأويل في قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ)، أي: ليستنزلونك من أرض المدينة؛ حيث نزل بالمدينة؛ قالت له اليهود: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء والرسل إنما أرض الأنبياء والرسل أرض الشام؛ فإن كنت نبيًّا رسولًا فاخرج إليها فخرج الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - متوجهًا إلى الشام، فعسكر على رأس أميال؛ لينتاب إليه أصحابه؛ فنزل به جبريل بهذه الآية، لكن ذكرنا أن هذا وأمثاله لا يحتمل؛ لأنه لا يجوز أن يخرج رسول اللَّه من أرض المدينة إلى أرض الشام بقول أُولَئِكَ اليهود، من غير أن كان من اللَّه إذن له في ذلك، هذا لا يحتمل ولا يتوهم منه ذلك، والوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
ويشبه أن يكون قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أي: كادوا أن يفتنونك بالمكر والكيد والخديعة لك؛ ليستفزونك من الأرض، لا أنهم كانوا يطمعون أن يفتنوه ويضلوه عن الذي أوحي إليه على التصريح والإفصاح؛ ولكن على جهة المكر به والخديعة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (٧٧)
على قول الحسن: السنة في الأمم الذين قبله: أنهم إذا قتلوا الرسول أهلكوا أو عذبوا.
وعلى قول بعضهم: السنة فيهم: أنهم إذا أخرجوا الرسول من بينهم؛ على علم منه: أنهم لا يؤمنون، بعده الإهلاك. وعلى قول بعضهم: على الإخراج نفسه، وهَؤُلَاءِ قد أخرجوا رسولهم من بيهم بقوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ...) الآية.
وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ)، لكنهم عذبوا تعذيب رحمة وإهلاك رحمة، لا إهلاك استئصال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا). أي: لعذابنا تحويلًا.
قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (٨٠) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (٨٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَقِمِ الصَّلَاةَ).
يحتمل الأمر بإقامة الصلاة: الأمر بالدوام عليها واللزوم بها، أي: الزم بها وأدها.
أو اسم التمام والكمال، أي: أتممها وأكملها بالشرائط التي أمرت بها.
ويحتمل قوله: (أَقِمِ): فعلها، ولم يفهم من قوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ) الانتصاب على ما ينصب الشيء ويقام به؛ فدل أنه لا يفهم من الخطاب ظاهره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ).
اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) زوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، أي: إلى ظلمة الليل (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)، أي: صلاة الفجر، فيقول بعض الناس: في هذه الآية بيان أوقات الصلوات الخمس جميعًا؛ لأنه ذكر أول ما يجب من الصلاة وهي الظهر إلى ما ينتهي وهي الفجر؛ فعلى هذا التأويل (إلى) لا تكون غاية، ولكن تكون كأنه قال: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِدُلُوكِ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: دلوك الشمس: زوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، أي: إلى ظلمة الليل.
ومنهم من يقول: فيه ذكر صلوات النهار؛ لأنه ذكر دلوك الشمس، وهو زوالها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، وغسق الليل هو بدؤ ظلمة الليل.
فيدخل زيه الظهر والعصر؛ فعلى تأويل هذا يكون حرف (إِلَى) غاية لا تدخل صلاة
95
الليل فيه.
ثم تخصيص الخطاب لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والأمر له بإقامة الصلاة يكون كأنه قال: (أقم لهم الصلاة)، فإن كان هذا، ففيه دلالة صحة صلاة القوم بصلاة الإمام، وتعلق صلاتهم بصلاة الإمام حيث قال: (أقم لهم الصلاة)، ولو كان كل أحد يقيم صلاة نفسه، لكان لا يقول: (أقم لهم الصلاة)، ولكن يقول (صل الصلاة)؛ فدل أنه على ما ذكرنا.
ثم قوله: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ): يحتمل وجهين:
أحدهما: أقم الصلاة للذي تدلك له الشمس أي: تسجد، كقوله: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ...) الآية.
والثاني: أقم الصلاة للوقت الذي يتلو دلوك الشمس الصلاة وأقم قراءة الصلاة.
ثم تخصيص الفجر لما ذكر حيث قال: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، التخصيص لقرآن الفجر لأنه مشهود، والفرضية بها بقوله: أقم قرآن الصلاة على ما ذكرنا.
ثم قوله: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) أي: لم يزل في علم اللَّه كان مشهودًا، أو صار مشمهوذا، ثم قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ): وهي صلاة الفجر، وإنَّمَا ذكر صلوات النهار فدخل صلوات الليل بقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ)، لكنهم يقولون: إن التهجد بعد النوم، وقد يكره النوم قبل فعل المغرب والعشاء فلا يصح هذا.
ومنهم من يقول: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) غروبها، وهو قول عبد اللَّه بن مسعود وغيره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فيه ذكر صلوات الليل؛ لأنه ذكر بدوّ ظلمة الليل، وذلك بالغروب، وقرآن الفجر وهو آخر ما ينتهي ظلمة الليل؛ لأنه يبقى ظلمة الليل إلى وقت الفراغ من الفجر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ).
96
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: القرآن يكون كناية عن صلاة الفجر، كأنه قال: أقم الصلاة لدلوك الشمس، وأقم -أيضًا- صلاة الفجر؛ لأنه نسق على الأول، ويحتمل قوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)، أي: قراءة الفجر، أي: أقم قراءة الفجر.
ويجوز أن يقال: (القرآن) مكان (القراءة)، كقوله: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي: قراءته.
ثم من الناس من احتج بفرضية القراءة في الصلاة بهذا؛ لأنه نسق على الأول على ما ذكرنا كأنه قال (أقم القراءة).
ومنهم من يقول: إنما حث على قراءة الفجر دون غيرها من الصلوات لما طول القراءة فيها لتقصيره عن الأربع؛ لأنه لم يجعل غيرها من الصلوات ركعتين فحث على قراءتها لهذا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا).
قال عامة أهل التأويل: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، أي: حرس الليل وحرس النهار، وعلى ذلك رويت الآثار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن الصحابة.
وقوله: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا): أي: قراءة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، على هذا حمله أهل التأويل، وعلى ذلك رويت الأخبار، وإلَّا جاز أن يقال فيه بوجه آخر: وهو أن تشهده القلوب والسمع والعقول؛ لأن ذلك الوقت هو وقت الفراغ عن جميع الأشغال والموانع التي تشغل عن الاستماع والفهم عنه ما لا يكون
97
ذلك الفراغ لغيرها من الصلوات من صلاة المغرب والعشاء؛ لأنها بقرب من الأشغال والحوائج، ألا ترى أن الجهر بالقراءة إنما جعل في الأوقات التي هي أوقات الفراغ عن الاشتغال: وهي المغرب والعشاء، ثم وقت الفجر هو أخلى وقت عن غيره؛ لأنه بعد فراغ النوم، وقبل هجوم وقت التقلب، فالقراءة فيها والقلوب أشهد لها، لكن أهل التأويل صرفوا ذلك إلى ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (٧٩)
قَالَ بَعْضُهُمْ: النافلة: الغنيمة، كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) أي: الغنائم، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نَافِلَةً لَكَ)، أي: غنيمة لك تغنم بها غنائم أو كلام نحو هذا.
وقال الحسن: قوله: (نَافِلَةً لَكَ): أي: خالصة لك، وخلوصها له وهو ألا يغفل هو عن شيء منها في حال من الأحوال، وغيره من الناس يغفلون فيها عن أشياء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذكر أنه نافلة له؛ لأنه كان مغفورًا له فما يعمل يكون له نافلة، وأما غيره فإن ما يعمل من الخيرات يكون كفارة لذنوبهم فلا يكون لهم نافلة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا).
قال: (يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)، تحمد عاقبته بالتهجد، أي: يبعثك ربك مقامًا تحمد أنت تلك العاقبة جزاء بتهجدك في الدنيا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَقَامًا مَحْمُودًا) ما يحمده كل الخلائق الأولون والآخرون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَقَامًا مَحْمُودًا) هو مقام الشفاعة، واللَّه أعلم، أي: تشفع لأمتك وأهل العصيان منهم.
وجائز أن يكون هو صلة قوله - ما تقدم من قوله: (فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)، وقوله: (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)، وقوله: (فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا)، وما ذكر من المواعيد لما سمع هذا وقرع سمعه أخافه ذلك وأفزعه؛ فنزل قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) إن عبدت اللَّه وأطعته في جميع أموره ونواهيه، وأقمت له الصلاة والصيام.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (٨٠)
98
ظاهر هذا الخطاب يكون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث أمره أن يدعو بما ذكر، وقد عرف هو ما أمره من الدعاء بقوله: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)، فلا حاجة تقع لنا إلى أن نطلب المراد من ذلك، إلا أن يكون لغير في ذلك اشتراك، فعند ذلك يتكلف فيه ويطلب المراد منه.
وق ل تكلم أهل التأويل في ذلك.
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ)، كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمكة ثم أمر بالهجرة منها إلى المدينة وأمر أن يدعو بهذا الدعاء: (رب أدخلني في المدينة مدخل صدق آمنا على زعم اليهود، وأخرجني من المدينة إلى مكة مخرج صدق على زعم كفار مكة ظاهرًا عليهم)؛ ألا ترى أنه قال: (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) عليهم ففعل اللَّه ذلك له وأجابه، وقد ذكرنا في غير موضع أن حرف (السلطان) يتوجه إلى وجوه ثلاثة:
يكون مرة عبارة عن حجة قاهرة غالبة.
ويكون عبارة عن ولاية نافذة غالبة.
ويكون عبارة عن اليد الغالبة الظاهرة أيضًا، وقد كان - بحمد اللَّه ومنته - لرسول الله على الكفرة ذلك كله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) في مكة؛ ليعلم أهل مكة أني قد بلغت الرسالة (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)؛ ليعلم يهود المدينة أني نصرت وبلغت ما أمرت به.
وقال الحسن: أخرجني من مكة مخرج صدق. وأدخلني في الجنة مدخل صدق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) فيما حملتني من الرسالة والنبوة، وما أمرتني به لأؤديها على ما أمرتني، وأبلغ الرسالة إلى الخلق على ما كلفتني، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)، أي: أخرجني مما كلفتني سالمًا لا تبعة علي، أو كلام نحوه.
وأصله: كأنه أمره أن يسأل ربه الصدق في جميع أفعاله وأقواله؛ وفي جميع ما يعبده به من الدخول في أمر أو الخروج منه؛ إذ لا يخلو العبد من هذين: من الدخول في أمر والخروج منه، سأله الصدق في كل حال وكل دخول وكل خروج.
99
الآية : ٨٠ : وقوله تعالى :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ﴾ ظاهر هذا الخطاب يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين١ أمره أن يدعو مما ذكر، وقد عرف هو ما أمره من الدعاء بقوله :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ﴾فلا حاجة، تقع لنا إلى أن نطلب المراد من ذلك إلا أن يكون لغير في ذلك اشتراك، فعند ذلك نتكلف فيه، ونطلب المراد منه.
وقد تكلم أهل التأويل في ذلك ؛ قال بعضهم : قوله :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق ﴾ كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة منها إلى المدينة، وأمر أن يدعو بهذا الدعاء ﴿ رب أدخلني ﴾ في المدينة ﴿ مدخل صدق ﴾ آمنا على زعم اليهود ﴿ وأخرجني ﴾ من المدينة إلى مكة ﴿ مخرج صدق ﴾ آمنا على زعم كفار مكة ظاهرا عليهم. ألا ترى أنه قال :﴿ واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ﴾ عليهم، ففعل الله ذلك له، وأجابه ؟
وقد ذكرنا في غير موضع أن حرف السلطان، يتوجه إلى وجوه ثلاثة : يكون مرة عبارة عن حجة قاهرة غالبة، ويكون ( مرة )٢عبارة عن ولاية نافذة غالبة، ويكون ( مرة ) ٣ عبارة عن اليد الظاهرة الغلبة أيضا. وقد كان بحمد الله ومنته لرسول الله على الكفرة ذلك كله.
وقال بعضهم :﴿ رب أدخلني مدخل صدق ﴾ في مكة ليعلم أهل مكة أني قد بلغت الرسالة ﴿ وأخرجني ﴾ منها ﴿ مخرج صدق ﴾ ليعلم يهود المدينة أني نُصُرِتُ، وبََلّغْتُ ما أمرت به.
وقال الحسن : أخرجني من مكة ﴿ مخرج صدق ﴾ وأدخلني في الجنة ﴿ مدخل صدق ﴾ في ما حَمَّلْتَني من الرسالة والنبوة وما أمرتني بها لأؤديها على ما أمرتني وأُبَلِّغ الرسالة إلى الخلق على ما كلفتني، ﴿ وأخرجني مخرج صدق ﴾ أي أخرجني مما كلفتني سالما، لا تَبِعَة علي، أو كلاما٤ نحوه.
وأصله كأنه أمره أن يسأل ربه في جميع أفعاله وأقواله وفي جميع ما يتعبده به من الدخول في أمر أو الخروج منه ؛ إذ لا يخلو العبد من هذين من الدخول في أمر والخروج منه. سأله الصدق في كل حال وكل دخول وكل خروج.
وقال مجاهد :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ﴾ في الرسالة والنبوة، وهو ما ذكرنا.
وقوله تعالى :﴿ واجعل من لدنك سلطانا نصيرا ﴾قال بعضهم : حجة منه، وقد أقامها على الكفرة. وقال بعضهم :﴿ سلطانا نصيرا ﴾أي اجعل في قلوب الناس هيبة ليهابوني، وقد كان في الهيبة بحيث هابوه من مسيرة شهرين. وقال بعضهم : هو السلطان الذي ينصرون به الدين، ويقيمون الحدود والأحكام نحوه.
وقيل السلطان هو إقامة الحدود والأحكام والشرائع، وهو تفسير الولاية، لأنه بالولاية ما يقيمها، وهو ما ذكرنا من الولاية وإقامة الأحكام.
ثم قيل في الصدق والإخلاص : قال بعضهم : الإخلاص هو ألا يجعل ( المرء لشيء )٥ بقلبه نصيبا لأحد سواه، والصدق ( إن جعل فلا )٦ يجد لذلك لذة.
الصدق عندنا أن يجعل الفضل في جميع أفعاله لله تعالى، لا يجعل لنفسه شيئا من الفضل. وعلى ذلك يلزمه الشكر لربه في جميع خيراته.
وعن الحسن ( أنه )٧ قال : لما مكر كفار ( مكة )٨ برسول الله صلى الله عليه سلم ليثبتوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، أراد٩ الله تعالى بقاء أهل مكة، فأمر نبيه أن يخرج منها مهاجرا إلى المدينة، وعلمه ما يقول، فأنزل الله :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ﴾ وعده الله ( بأن ينزع )١٠ ملك فارس والروم، ويجعله لأمته.
١ في الأصل و. م : حيث..
٢ ساقطة من الأصل و. م..
٣ في الأصل و م : كلام..
٤ في الأصل و م : كلام..
٥ في الأصل و. م : الشيء..
٦ في الأصل و. م: وإن جعل لا..
٧ ساقطة من الأصل و. م..
٨ من م، ساقطة من الأصل..
٩ في الأصل و. م: فأراد..
١٠ في الأصل و. م: لينزعن..
وقال مجاهد: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) في الرسالة والنبوة، وهو ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: حجة منه، وقد أقامها على الكفرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (سُلْطَانًا نَصِيرًا)، أي: اجعل في قلوب الناس هيبة، ليهابوني، وقد كان من الهيبة بحيث هابوه من مسيرة شهرين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو السلطان الذي ينصرون به الدِّين، ويقيمون الحدود والأحكام ونحوه.
وقيل: السلطان: هو إقامة الحدود والأحكام والشرائع، وهو تفسير الولاية؛ لأنه بالولاية ما يقيمها، وهو ما ذكرنا: أن الولاية إقامة الأحكام.
ثم قيل في الصدق والإخلاص:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الإخلاص: هو ألا يجعل الشخص بقلبه نصيبًا لأحد سواه، والصدق وإن جعل لا يجد لذلك لذة، الصدق عندنا أن يجعل الفضل في جميع أفعاله لله لا يجعل لنفسه شيئا من الفضل، وعلى ذلك يلزمه الشكر لرته في جميع خيراته.
وعن الحسن قال: لما مكر كفار مكة برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، فأراد اللَّه بقاء أهل مكة، فأمر نبيه أن يخرج منها مهاجرًا إلى المدينة، وعلمه ما يقول، فأنزل اللَّه: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)؛ وعده اللَّه لينزعن ملك فارس والروم ويجعله لأمته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (٨١)
قَالَ بَعْضُهُمْ: (جَاءَ الْحَقُّ) وهو الإسلام.
وقيل: (جَاءَ الْحَقُّ): القرآن.
وقيل: (جَآءَ ألحَق) أي: مُحَمَّد.
أو يقول: جاءت آثار الحق فذهب الباطل وآثاره.
أو جاءت حجج الحق وبراهينه وذهبت شبه الباطل وتمويهاته، والحق: يحتمل ما ذكرنا من الإسلام ورسول اللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، أي: ذهب وبطل غيره من الأديان، وغيره من المذاهب، وعبادة الأصنام ونحو ذلك.
قالوا: وأصله: أن الناس كانوا في حيرة وتيه قبل بعث الرسول؛ لما كانوا فقدوا دين اللَّه وسبيله منذ كان رفع عيسى من الأرض إلى السماء لا يجدون سبيل اللَّه، ولا يهتدون إلى شيء، حيارى، حزانى حتى بعث اللَّه محمدًا، ليدعوهم إلى دين اللَّه، ويبين لهم سبيله الذي كان يتمسك به الأنبياء من قبله، ويخرجهم من تلك الحيرة التي كانوا فيها، ففعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فذلك الذي قال اللَّه تعالى: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، أي: (جَاءَ الْحَقُّ) الذي كانوا فقدوه فَسُرُّوا بذلك، (وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، أي: ذهب واضمحل، (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)، أي: ذاهبًا مضمحلًا، لا يجدي خيرًا، ولا يعقب لأهله نفعًا، والحق هو الذي يعقب ويجدي نفعًا لأهله.
ثم قوله: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) لم يفهم أهل الخطاب بمجيء الحق: الانتقال من مكان إلى مكان، ولا بذهاب الباطل على ما يفهم من مجيء فلان وذهاب فلان، بل فهموا من مجيء الحق ظهوره وعلوه، وفهموا من زهوق الباطل وذهابه: فناه واضمحلاله وتلاشيه، وعلى ذلك لم يفهموا من مجيء الأعراض ما فهموا من مجيء الأجسام والأجساد؛ فعلى ذلك لا يجب أن يفهموا من قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ): الانتقال من مكان إلى مكان؛ وكذلك لا يفهم من قوله: (ثُمَ اسْتَوَى عَلَى العرشِ) استواء الخلق، ولا من نزوله: نزول الخلق؛ على ما لم يفهم مما أضيف إلى الأعراض من الأفعال ما فهموا من الأجساد والأجسام، بل فهموا من اللَّه غير الذي فهموا من الآخر؛ فعلى ذلك لا يفهم مما أضيف إلى اللَّه تعالى ما يفهم مما أضيف إلى الخلق، بل يتعالى عن أن يشبه الخلق أو يشبهه الخلق في معنى من المعاني، أو في وجه من الوجوه، بل هو كما وصف نفسه؛ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، وقوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ)، وتعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (٨٢) كأن الآية نزلت في ابتداء الأمر، حيث قال: (وَنُنَزِّلُ) ولم يقل: (ونزلنا من القرآن ما هو شفاء).
وجائز أن يكون قوله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ): نفس القرآن، وهو ما ذكرنا.
ويحتمل المواعيد التي في القرآن من وقائع تكون عليهم، وكأن في ذلك شفاء للمؤمنين، كقوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ...) الآية.
أو نقول بأنه يجوز (نفعل) بمعنى (فعلنا)، وذلك كثير في القرآن.
ثم قوله: (مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، أي: شفاء للمستشفين في الدنيا، ورحمة لمن تمسك به في الآخرة، فيه شفاء لمن استشفاه في الدنيا، ورحمة في الآخرة لمن تمسك به، وعمى وخسار وظلمة لمن أعرض عنه، ونظر إليه بعين الاستخقاف والاستهزاء والاستثقال، وأما من نظر إليه بعين التعظيم والإجلال فهو له شفاء ورحمة وإن كان القرآن تفسه شفاء ونورًا، وهكذا في الشاهد أن من أبصر شيئًا إنما يبصر بنور البصر وبنور الهواء بارتفاع ما يستر النورين جميعًا؛ لأنه إذا كان عمى البصر لم يبصر شيئًا، وإن كان نور الهواء متجليًا وكذلك لا يبصر إذا كان نور البصر متجليًا، بعد أن سترت الظلمة نور الهواء.
فإن كان ما ذكرنا أنه لا يبصر في الشاهد شيئًا إلا بنورين: نور البصر، ونور الهواء، فالكافر لم يبصر نور القرآن وشفاءه؛ لما سترت الظلمة نور قلبه، والمؤمن أبصر نوره وشفاءه بنور إيمانه، وهكذا الأدوية؛ فإنها لا تجدي نفعًا وإن كانت نافعة شافية في أنفسها إلا بقبول الطبيعة؛ لأن الطبع إذا لم يقبلها وإن كانت نافعة شافية - لم تنفع صاحبها، ولم تكن له شفاء، وصارت كأنها في الأصل كانت ضارة غير شافية؛ فعلى ذلك القرآن - وإن كان في نفسه شفاء ونورًا - ضار للكافر عمى وخسارًا، كأن لا شفاء فيه ولا رحمة لما سترت ظلمة الكفر نوره فصار كالزائد رجسًا وطغيانًا ونفورًا، وهو ما قال: (وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (٨٤) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (٨٦) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٨٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ):
فيشبه أن يكون النعمة التي ذكر هو مُحَمَّد؛ لما ذكرنا أنهم كانوا في حيرة وعمى لا يجدون السبيل إلى دين اللَّه، (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا)، فذلك الإعراض الذي ذكروا، واللَّه أعلم، فبعث اللَّه محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليدعوهم إلى دين اللَّه ويبين سبيله، فذلك منه نعمة عظيمة أعرضوا عنها وتباعدوا عنها.
ويشبه أن يكون ما قاله أهل التأويل إنه إذا وسع عليه الرزق والعيش أعرض عن الدعاء له وتباعد بجانبه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا)، أي: يائسًا من الخير ألا يعود إليه أصلا، وهكذا كانت عادتهم أنهم كانوا يخلصون الدعاء له إذا مسّهم سوء وأصابتهم شدة، ويكفرون به إذا تجلى ذلك عنهم وانكشف، كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ...) الآية. (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ...) الآية. وأمثاله، وكان الناس كلهم فرقًا أربعة:
منهم من كان مذهبهم ما ذكرنا: أنهم كانوا يخلصون له الدعاء في حال الشدة ويكفرون في حال الرخاء.
ومنهم من كان يؤمن به في حال الرخاء والنعمة ويكفر به في حال الشدة، كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) الآية. وهم أهل النفاق.
ومنهم من يكفر به في الأحوال كلها كقوله: [... ].
والفرقة الرابعة هم أهل الإسلام يؤمنون به في حال الرخاء وحال الشدة في الأحوال كلها، على هذا كانوا في الأصل، وعلى هذا يجيء أن يكون قوله: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) من الأصنام، كقوله: (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، فيكون إياسهم من الأصنام التي عبدوها.
لكن أهل التأويل صرفوا إلى ما ذكرنا من الإياس عن الخير من أن يعود إليهم.
وقوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (٨٤) لسنا نعلم إزاء أي سبب كان هنالك حتى قال: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)؛ إذ إنه يجوز أن يقال هذا بلا سبب كان منهم، لكن يشبه أن يكون، قال هذا على الإياس من إيمانهم لما لم يزدهم دعاؤه إياهم وكثرة تلاوة
103
آياته عليهم وإقامة حججه عليهم - إلا عنادًا وإنكارًا، فقال عند ذلك: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)، أي: على دينه وطريقته، كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وكقوله: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) فهو كله على الإياس عن أن يؤمنوا به ويقبلوا دينه، ثم قال: (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا)، أي: ربكم أعلم بمن منا على الهدى، ومن ليس.
أو من منا أهدى سبيلًا نحن أو أنتم؟
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الشاكلة: الحاضرة أي: على ناحيته.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: شاكلته، أي: على خليقته وطبيعته.
وقال قطرب: على طريقته، وكأن هذا أشبه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: على نيته.
وقيل: على دينه ومذهبه.
وقيل: على جديلته ومنهاجه، وكله يرجع إلى واحد.
ويشبه أن يكون: أي: كل يعمل بما هو الشبيه به وما هو يشبهه؛ لأن الشكل هو ما يشبه الشيء، يقال: هذا شكل هذا، وقوله: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) على قول من يقول على خليقة خلق عليها؛ لأنه خلق على علم منه أنه يختارها ويؤثرها، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) قيل: ذاهبًا باطلًا، لا يجدي لأهله نفعًا؛ لأنه يتلاشى ولا يبقى، والحق يجدي لأهله نفعًا ويبقى، وعلى ذلك ضرب اللَّه مثل الحق بالشيء الذي يبقى، وضرب مثل الباطل بالشيء الذي لا يبقى ولا يثبت؛ فقال: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وقد ذكرناه في موضعه: ضرب مثل الباطل بالزبد وهو يتلاشى، لا ينتفع به؛ فعلى ذلك الباطل، وضرب مثل الحق بالماء، وهو يبقى في الأرض، وينفع الناس، وضرب مثل الباطل -أيضًا- بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار بقوله: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ...) الآية، وضرب مثل الحق
104
بالشجرة الطيبة الثابتة في الأرض ذات قرار وثبات بقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ).
فهو على ما وصفها: الحق ثابت باق وله قرار ينفع أهله، والباطل يرى ثم يتلاشى ولا بقاء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥) اختلف فيه:
قال أبو بكر الأصم: الروح: القرآن هاهنا، كقوله: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) وكذلك قوله: (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ...) الآية، (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، أي: من تدبير ربي، ما لو اجتمع الخلائق ما قدروا على مثله.
فَإِنْ قِيلَ: كيف سألوا عن القرآن، وهم لم يقروا بالقرآن؟ فقال: سموه: قرآنًا وروحًا على ما عنده - أعني: عند رسول اللَّه - كقوله: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) وهم لم يكونوا أقروا أنه رسول، ولكن سموه: رسولًا؛ لما أنه عند نفسه وزعمه رسول، أي: ما لهذا الذي يزعم أنه رسول يأكل الطعام؟ فعلى ذلك قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) وهو الذي به حياة الأبدان من هلاك الضلال، أي: من تمسك به نجا من هلاك الضلال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، أي: بأمر ربي ينزل.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، أي: من خلق ربي، وهما واحد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الروح: هو الملك وإنَّمَا سألوه عنه، كقوله: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا): يعني: الملك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما سألوا عن الروح المعروف الذي به حياة الأبدان، لكنه لم يجبهم، فوكل أمره إلى اللَّه لما لا يدركون ذلك لو بين لهم وأمثاله.
ورُويَ عن أبي يوسف - رحمه اللَّه - أنه كان ينهى عن الخوض في الكلام، ويحتج بظاهر هذه الآية؛ حيث سألوه عن الروح، فلم يجبهم، ولكن فوض أمره إلى اللَّه، وما سئل من الأحكام إلا وقد بين لهم كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ...) الآية. و (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ...) الآية، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى)
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ)، (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ)، مثل هذا ما سئل عن شيء من الأحكام إلا وقد أجابهم وبين لهم بيانًا شافيا، وقال هاهنا: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
وقال جعفر بن حرب: إن اللَّه قد أمر بالتكلم في الكلام بقوله: (وَجَادِلْهُمْ...) الآية، وقال: (فَلَا تُمَارِ فِيهِم...) الآية. ونحوه، فكيف نهى عن الخوض في الكلام؟
لكن أبا يوسف إنما نهى عن الخوض في الكلام الذي لا يدرك ولا يزيد الخوض فيه إلا حيرة وضلالًا نحو ما رُويَ عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " تفكروا في المخلوق ولا تتفكروا في الخالق " لأنه لا يدرك، فالتفكر فيما لا يدرك لا يزيد إلا عمى وحيرة وتيهًا، وأما الخوض في الذي يدرك ويعقل فإنه لم ينه عن مثله.
وأصله: ما ذكرنا من إباحة التكلم في الدِّين والخوض في الكلام في كثير من الآيات مق ذلك قوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) الآية. ونحوه.
قال الشيخ - رحمه اللَّه -: أو لا نفسر الروح ما هو؟ لما لا يعلم ما أرادوا بالروح وهم قد علموا ما أرادوا.
أو علم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما سألوا، وإنما سألوا ذلك عما في كتبهم؛ ليعلموا صدقه فيما يدعي من الرسالة؛ لما علموا أن غير الرسول لا يعلم ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما أوتيتم من العلم الذي به مصالحكم وما جاءكم إلا قليلًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ما أوتيتم من العلم الذي أنشأه والعلم الذي عنده إلا قليلًا، وهو هكذا: أنا لم نؤت من العلم إلا علم ظواهر الأشياء وباديها، لم نؤت علم بواطن الأشياء وحقائقها، وذلك أما نعلم أن البصر يبصر، والسمع يسمع، واللسان ينطق، واليد تقبض وتأخذ، والرجل تمشي، والعقل يدرك، لكن لا نعلم المعنى الذي جعل فيه به يسمع وبه يبصر وبه ينطق وبه يأخذ وبه يمشي وبه يدرك، وكذلك نعرف هذه الحيوانات التي نشاهدها ونعايشها بأن هذا حمار، وهذا ثور، وهذا كذا، ولكن لا نعرف المعنى الذي به صار هذا حمارًا، أو هذا ثورًا، وكذلك كل جواهر وأجناس، فلا نعرف من العلوم التي أنشأها اللَّه إلا القليل منها - ظواهرها - وأما الحقائق فلا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (٨٦) من يقول بأن الروح الذي سألوه عنه هو الوحي والقرآن الذي أنزل عليه يحتج بهذه الآية، وبقوله: (لَئِنِ
106
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) لما خرج ذكرها على أثر سؤال الروح، فدلّ أنه ما ذكرنا، وقد ضل بهذه الآية فريقان: الحشوية، والمعتزلة.
أمّا الحشوية فإنهم يقولون: إن القرآن والكلام هو صفة اللَّه الذي هو لم يزل به موصوفًا، وإنه لا يزايله، ثم إنهم يقولون: القرآن في المصاحف بعينه وهو في الأرض وفي القلوب، فقولهم مناقض؛ لأنه إذا كان صفته لا هو ولا غيره، لا يجوز أن يكون في المصاحف بعينه أو في الأرض أو في القلوب.
قال الشيخ أبو منصور - رحمه اللَّه -: أما الذي في المصاحف هذا ما يفهم به ذلك أو ما يوافق به ذاك - أعني: القرآن - ويقال: هذا حكاية عن ذلك.
وأما المعتزلة: فإنهم ينكرون خلق أفعال العباد، ثم يقولون: إن القرآن مخلوق؛ فعلى زعمهم يكون القرآن والكلام ما يكتب ويثبت ويمحى، وذلك فعل العباد، ثم يقولون: أفعالهم غير مخلوقة؛ فذلك تناقض في القول بيِّن.
وعلى قولنا: ما ذكر من الذهاب والمجيء كله على المجاز، أي: الموافقة لا على الحقيقة، كما يقال: سمعت كلام فلان وقول فلان، وكتبت حديث فلان ونحوه؛ فذلك كله على المجاز لا على التحقيق؛ لأنه لا يسمع قول فلان حقيقة ولا كلامه ولا حديثه، ولكن يسمع صوتًا يفهم به قوله وكلامه وحديثه، فعلى ذلك الأول يذهب بالذي يسمع ويكتب، فأما حقيقة ذلك فلا يوصف بشيء من ذلك.
وبعد: فإنه قد أضيف المجيء إلى الذي لا يعرف منه ذلك، ثم يحتمل قوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أن يكون صلة قوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) حتى لا يظفر به، وإلا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعلم أنه لو شاء لذهب بالذي أوحى إليه وقادر عليه وله رفعه، وكذلك يعرف هذا كل مؤمن.
وإن كانت الآية على الابتداء فهو يخرج على ذكر المنة والرحمة، أي: له أن يرفع هذا الذي أوحى إليه؛ ليعلموا أن إبقاء النبوة والوحي فضل منه ورحمة، وكذلك الوحي إليه في الابتداء وبعثه رسولًا إليهم فضلًا واختصاصًا لا استحقاقًا منه واستيجابًا، كقوله: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)، وقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) أخبر أن النبوة له وما أرسل إليه اختصاصًا منه وفضلًا، لا استحقاقًا منه؛ فعلى ذلك إبقاء النبوة والوحي رحمة وفضل منه.
107
وفيه دلالة نقض قول المعتزلة من وجوه:
أحدها: ما قالوا: إنه لا يختار اللَّه أحدًا لرسالته ونبوته إلا من كان مستحقًّا لها ومستوجبًا لذلك، وقد أخبر أنه بفضله واختصاصه أرسله رسولًا، وبفضله ورحمته أبقاها وتركها بعدما أوحى إليه وأرسله رسوله.
والثاني: فيه أن له أن يفعل ما ليس هو بأصلح لهم في الدِّين، حيث أوعد لهم برفع ما أوحى إليه وأرسله، وإذهابه إياه، ولا يوعد إلا بما له أن يفعل ما أوعد؛ إذ لا يوعد بما ليس له الفعل في الحكمة، ثم لا شك أن إبقاء النبوة وترك ما أوحى إليه أصلح لهم من رفعها وتركه إياهم خلوًّا عن ذلك، دل أنه قد يفعل ما ليس لهم بأصلح لهم في الدِّين.
وفيه أنه قد يكلف خلقه التوحيد والإيمان وإن لم يرسل رسولًا ولا أوحى إليه وحيًا؛ لأنه معلوم أنه لو لم يرسل الرسول، ولا كانوا مكلفين في أنفسهم، لكان خلقه إياهم عبثًا ليتركهم سدى؛ فدل أنهم مكلفون بتوحيده ومعرفته وإن لم يرسل ولا أوحى؛ حيث أخبر أن بعث الرسالة وإبقاءها فضل منه ورحمة بقوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (٨٧) وقوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
أي: إبقاء النبوة والوحي رحمة من ربك، وفضله -أيضًا- في إبقاء ذلك كبيرًا.
وفيه أن الحفظ والنسيان - وإن كانا من العبد - فلله فيهما صنع به يحفظ؛ حيث قال: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، أخبر أنه لو شاء، لذهب بالمحفوظ في القلب وينسيه؛ دل أن له قدرة في فعل العبد.
وفي قوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) وجه آخر من الحكمة؛ وهو أن يعلم المؤمنون: أن الفضل كله من اللَّه؛ لئلا يروا لأنفسهم في ذلك فضلًا ومعنى، وإليه يضيفون جميع ما يجري على أيديهم من أفعال الخير والطاعة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)
يشبه أن يكون هذا صلة قوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، ثم لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما قدروا عليه، وقوله: بمثله، أي: به، كقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي: ليس كهو شيء؛ إذ لا مثل له؛ فدل أن قوله: (لَا يَأتوُنَ بِمِثلِهِ)، أي: لا يقدرون أن يأتوا به بعد ما عرفوه وعاينوه؛ فلئلا يقدروا على
108
إتيانه ابتداء قبل أن نظروا فيه وعرفوا مثاله - أشد وأبعد؛ إذ نظم الشيء وتصوره بعدما عاينوا الأشياء والصور أهون وأيسر من تصويرها ونظمها قبل أن يعاينوها ويشاهدوها.
وجائز أن يستدل بهذه الآية على أنه كان مبعوثًا إلى الإنس والجن جميعًا حيث قال: (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ)؛ لأنه لو لم يكن مبعوثًا إلى الفريقين جميعًا لم يكن لذكرهما معنى وفائدة.
وفيه دلالة: أن في الجن من لسانه لسان العرب؛ إذ لو لم يكن كذلك لم يكن لذكر أُولَئِكَ معنى، ثم جائز أن يكون قوله: (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ)، أي: الإنس مع الجن، أو هَؤُلَاءِ مع هَؤُلَاءِ، (عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ).
وقال بعض أهل التأويل: إنما ذكر هذا لقولهم: إنه سحر وإنما يعلمه بشر، وقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى)، وقولهم: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، ومثله، يقول: إن الإفك والسحر وما ذكرتم لا يكون إلا من هذين، من الجن والإنس، فأخبر أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله ما قدروا عليه.
والدلالة على أنهم عجزوا عن ذلك، ولم يطمع أحد منهم ذلك إلا سفيه أظهر الله سفهه وكذبه في القرآن؛ حيث قال: (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، لم يسأل التوفيق إن كان هو حقا، ولكن سأل العذاب؛ دل أنه كان سفيهًا، فآية السفه: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، ثم ارتاب فيه وشك بقوله: (إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)، وإلا لم يطمع ولم يخطر ببال أحد من الخلائق التكلف لذلك، دل أنه آية معجزة من اللَّه تعالى.
ثم اختلف في قوله: (عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ)
قيل: مثل نظمه ورصفه.
وقيل: مثل حقه وصدقه.
ويحتمل مثل حججه وبراهينه.
ويحتمل مثل علمه وحكمته.
ويحتمل مثل إحكامه وإتقانه.
يحتمل قوله: (عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) هذه الوجوه الخمسة التي
109
الآية ٨٨ : وقوله تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ﴾ يشبه أن يكون هذا صلة قوله :﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ﴾.
ثم قال تعالى١ :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ﴾ ما قدروا عليه، وقوله تعالى :﴿ بمثله ﴾ أي به كقوله :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ( الشورى : ١١ ) أي ليس هو شيئا٢، إذ لا مثل له.
فدل أن قوله :﴿ لا يأتون بمثله ﴾ أي لا يقدرون أن يأتوا به بعد ما عرفوه، وعاينوه، فلأن لا يقدروا على إتيانه ابتداء قبل أن ينظروا فيه، ويعرفوا٣ أمثاله أشد وأبعد، إذ نَظْمُ شيء وتصويره٤ بعدما عاينوا الأشياء الصور أهونُ وأيسر من تصويرها٥ قبل أن يعاينوها، ويشاهدوها٦.
وجائز أن يُسْتَدَلَّ بهذه الآية على أنه كان مبعوثا إلى الإنس والجن جميعا حين٧ قال :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن ﴾ لأنه لو لم يكن ( مبعوثا إلى الفريقين جميعا لم يكن )٨ لذكرهما معنى وفائدة.
وفيه دلالة أن ( في )٩ الجن من لسانه لسان العرب، إذ لو لم يكن ( ذلك لم يكن )١٠ يذكر أولئك.
ثم جائز أن يكون قوله :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن ﴾ ( الإنس مع الإنس، والجن مع الجن، أو الإنس مع الجن، أي )١١ هؤلاء مع هؤلاء ﴿ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ﴾.
وقال بعض/٣٠٩-أ/أهل التأويل : إنما ذكر هذا لقولهم : إنه﴿ سحر ﴾ ( المائدة : ١١٠و. . ) وقولهم١٢ ﴿ إنما يعلمه بشر ﴾ ( النحل : ١٠٣ ) وقولهم :﴿ ما هذا إلا إفك مفترى ﴾ ( سبإ : ٤٣ ) وقولهم :﴿ إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا ﴾ ( المؤمنون : ٣٨ ) ومثله. يقولون١٣ : إن الإفك والسحر وما ذكرتم لا يكون إلا من هذين من الجن والإنس، فأخبر أنهم لو اجتمعوا ﴿ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ﴾ ما قدروا عليه.
والدلالة على أنهم عجزوا عن ذلك، ولم يطمع أحد منهم ( في )١٤ ذلك إلا سفيه، أظهر الله سفهه وكذبه في القرآن حيث قال :﴿ قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ ﴿ وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ ( الأنفال : ٣١و٣٢ ) لم يسأل التوفيق إن كان هو حقا، ولكن سال العذاب ﴿ أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ ( الأنفال : ٣٢ ).
دل أنه كان سفيها أية السفه بقوله١٥ :﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾ ثم ارتاب فيه، وشك بقوله :﴿ إن كان هذا هو الحق من عندك ﴾ وإلا لم يطمع، ولم يخطر ببال أحد من الخلائق التكلف لذلك. دل أنه آية معجزة من الله تعالى.
ثم اختلف في قوله :﴿ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ﴾ قيل : مثل نظمه ورصفه، وقيل : مثل حقه وصدقه.
ويحتمل : مثل حججه وبراهينه. ويحتمل : مثل إحكامه وإتقانه. يحتمل قوله :﴿ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ﴾ هذه الوجوه الخمسة التي ذكرنا.
ثم قوله :﴿ بمثله ﴾ يحتمل ما ذكرنا أي بالذي رفع، وذهب به على التأويل الذي جعلناه صلة قوله :﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ﴾ ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ﴾ بالذي ذهب به، ورفع ﴿ لا يأتون بمثله ﴾ أي لا يقدرون عل إتيانه.
وإن كان هذا الابتداء فهو على المثل، أي لا يقدروا عليه بعد ما قرع سمعهم هذا. فلو كان في وسعهم هذا لفعلوا ليخرج قولهم صدقا وقول الرسول كذبا. فإن لم يفعلوا ذلك، ولم يتكلفوا، دل أنهم عرفوا أن ذلك من الله وأنه آية معجزة خارجة عن وسعهم.
١ ساقطة من الأصل و. م..
٢ في الأصل و. م : شيء..
٣ في الأصل و. م: عرفوا..
٤ في الأصل و. م: وتصوره..
٥ من م، في الأصل : تصوير..
٦ في الأصل و. م: ويشاهدونها..
٧ في الأصل و. م : حيث..
٨ من م، ساقطة من الأصل..
٩ من م، ساقطة من الأصل..
١٠ في الأصل : مع الجن أو الإنس مع الجن أو، في م: أو الإنس مع الجن أو..
١١ في الأصل: مع الجن أو الإنس مع الجن أو، في م: أو الإنس مع الجن أو..
١٢ في الأصل و. م: و..
١٣ في الأصل و. م: يقول..
١٤ ساقطة من الأصل و. م..
١٥ في الأصل و. م: و..
ذكرنا.
ثم قوله: (بِمِثْلِهِ) يحتمل ما ذكرنا؛ أي: بالذي رفع وذهب به؛ على التأويل الذي جعلناه صلة قوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ) الذي ذهب به ورفع (لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)، أي: لا يقدرون على إتيانه.
وإن كان على الابتداء، فهو على المثل؛ أي: لا يقدرون على أن يأتوا بمثله، على ما لم يقدروا عليه بعدما قرع سمعهم هذا فلو كان في وسعهم هذا لفعلوا؛ ليخرج قولهم صدقًا وقول الرسول كذبًا، فإذ لم يفعلوا ذلك، ولم يتكلفوا؛ دل أنهم عرفوا أن ذلك من اللَّه وأنه آية معجزة خارجة عن وسعهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٨٩)
أي: بيّنا، وتحتمل ضربنا، وتحتمل فرقنا للناس:
(مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)، أي: ذكرنا للناس مثلًا على أثر مثل، ومثلًا بعد مثل ما لو تفكروا فيه، وتأمّلوا لعرفوا صدق رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكذب أنفسهم وسفههم، ولعرفوا الحق من الباطل والمحق من المبطل، ولكن لم يتفكروا فيه ولم يتأملوا وعاندوا.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).
لا يريد كل الأمثال، ولكن ما ذكرنا من كل مثل لو تأملوا فيه، وتفكروا، لكان لهم معتبرًا.
وفي قوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)، يكون ما ذكر من تصريف الأمثال وضربها للناس من وجوه ثلاثة:
أحدها: ضرب المثل لهذه الأمة من شهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وغيره من مكذبهم ومصدّقهم بالأمم الماضية ماذا حلَّ بهم بالمكذبين منهم رسل اللَّه من نقمته وعذابه، وقد أخبر أن تلك سنته في المكذبين منهم، وذكر أن سنته تلك لا تحول، ولا تبدل، وهو قوله: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)، و (تَحْوِيلًا)، فهي لا تبدل، ولا تحول فكانت لأُولَئِكَ معجلة ولهذه الأمة مؤخرة، وهي غير محوَّلة ولا مبدَّلة لواحدة من الأمم.
والثاني: يحتمل تصريف الأمثال هو ما بين لهم، وذكر ما به صلاح معاشهم ومعادهم، وصلاح دينهم ودنياهم ما لو تأملوا فيه وتفكروا، أدركوا ذلك.
والثالث: يكون تصريف الأمثال التي ذكر دعاءه إلى دين اللَّه وسبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، كقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).
إلى هذه الوجوه الثلاثة يصرف جميع ما ذكر من الأمثال في القرآن واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) يحتمل أَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا بالأمثال التي ضربها في القرآن، وصرفها لهم.
أو يقول: فأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا بنعم اللَّه في صرف الشكر إلى غيره، أو كفورًا في وحدانية اللَّه وألوهيته.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (٩٣)
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ...).
إلى آخر ما ذكر من الأسئلة، يشبه أن تكون هذه الأسئلة جميعًا من فريق واحد.
ويجوز أن يكون من كل فريق سؤال، لم يكن ذلك من غيره من الفرق؛ كقوله: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، كان من كل فريق غير ما كان من الآخر؛ كان من اليهود: كونوا هودًا تهتدوا، ومن النصارى: كونوا نصارى تهتدوا؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأول كذلك.
ثم إن الذي حملهم على هذه الأسئلة المحالة الفاسدة وجوه:
أحدها: سؤاله بما كان يعدهم رسول اللَّه الجنان، والأنهار الجارية، والبساتين المثمرة إن هم تابوا وأجابوا، وكان يعدهم العقوبات إن تركوا إجابته من إسقاط السماء كسفًا كقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ...) الآية، سألوه ذلك استعجالًا منهم؛ على الاستهزاء، كقوله: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا) أو أن يكون أهل الكتاب علموا مشركي العرب الذين لا كتاب لهم هذه الأسئلة الفاسدة المحالة التي عرفوا أنهم لا يجابون فيها ليسألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عنها، فإنه لا يجيبهم ليرى السفلة منهم والأتباع أن لو كان رسولًا لأجابهم؛ فيتمادون في طغيانهم وضلالتهم، ويبغون عليهم ثم عليه.
أو أن يكون الرؤساء منهم والقادة سألوه عن ذلك، على علم منهم أنه لا يجيبهم؛
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:الآيتان ٩٠و٩١ : وقوله تعالى :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ﴾ ﴿ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ﴾ إلى آخر ما ذكر من الأسئلة جميعا من فريق واحد. ويجوز أن يكون من كل فريق سؤال، لم يكن ذلك من غيره من الفرق كقوله :﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ﴾ ( البقرة : ١٣٥ )كان من كل ( فريق )١ غير ما كان من الآخر ؛ كان من اليهود : كونوا هودا تهتدوا، ومن النصارى : كونوا
نصارى تهتدوا. فعلى ذلك يشبه أن يكون الأول كذلك.
ثم إن الذي حملهم على هذه الأسئلة المحالة الفاسدة وجوه :
أحدها : سؤاله بما كان يعدهم رسول الله الجنان والأنهار الجارية والبساتين المثمرة، إن هم، تابوا، وأجابوا، وكان يُوعِدُهُم العقوبات، إن تركوا إجابتهم، من إسقاط الأسماء كسفا كقوله :﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ﴾ الآية ( البقرة : ٢١٠ ) سألوه ذلك استعجالا منهم على الاستهزاء كقوله :﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ﴾
( الشورى : ١٨ ).
( والثاني )٢ : أن يكون أهل الكتاب علموا مشركي العرب الذين، لا كتاب لهم، هذه الأسئلة الفاسدة المحالة التي عرفوا لأنهم لا يجابون فيها، ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فإنه لا يجيبهم ليرى ( السَّفَلَةُ منهم والأتباع أن لو كان رسول الله أجابهم لتمادوا٣ في طغيانهم وضلالاتهم، ولبقوا٤ على ما هم عليه.
( والثالث )٥ : أن يكون الرؤساء منهم والقادة سألوه عن ذلك على علم منهم أنه لا )٦ يجيبهم ليرى أتباعهم وسفلتهم أنهم قد حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترضوا لحُجَجِهِ وبَرَاهِينه لئلا ينظروا إلى حججه و براهينه لتبقى لهم الرئاسة والمنافع التي كانت لهم، ولا يذهب ذلك منهم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل و. م: أو..
٣ في الأصل: فيتمادون..
٤ في الأصل: ويبقون..
٥ في الأصل و. م: أو..
٦ ساقطة من م..

ليرى، أتباعهم وسفلتهم أنهم قد حاجوا رسول اللَّه، واعترضوا لحججه وبراهينه لئلا ينظروا إلى حججه وبراهينه؛ لتبقى لهم الرئاسة والمنافع التي كانت لهم، ولا يذهب ذلك عنهم.
ثم بين أن أسئلتهم التي سألوها سؤال تعنت عن عناد لا سؤال استرشاد، وحاجة - ما ذكر في قولهم: (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢)
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ (٩٣)
دل هذا كله أن سؤالهم إياه كله سؤال معاندة، لا سؤال استرشاد واستهداء؛ لأنه لو كانوا يسألون ما يسألون سؤال استرشاد واستهداء، لكانوا لا يسألون إسقاط السماء عليهم؛ إذ لا منفعة لهم في ذلك وإن في سؤالهم الجنة منفعة، يذكر سفه القوم وتعنتهم وسوء معاملتهم رسول اللَّه.
ثم الحكمة والفائدة في جعل سفههم قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة؛ ليعرف المتأخرون معاملة السفهاء إذا بلوا بهم أن كيف يعاملونهم بمثل معاملة رسول اللَّه؟!
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي) أمره أن ينزه ربه عن أن يكون لأحد الاحتكام عليه والحكم، والذي سألوه احتكام منهم على اللَّه.
وفي قوله: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا).
ينزه ربه عن أن يملك سواه ما سألوا من إتيان الجنة وغير ذلك مما ذكر في الآية، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا).
أي: هل كنت إلا بشرًا كغيره من الرسل الذين كانوا من قبل من البشر، فلم يسألوهم بمثل الذي تسألونني أنتم من الأسئلة.
أو إن سألوا ذلك فلم يجابوا، كقوله: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ)، أو أن يكون قوله: (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)، أي: ليس للرسول أن يعترض على المرسل بشيء، إنما على الرسول تبليغ ما أرسل وأمر بتبليغه.
أو يقول: إني لا أملك مما تسألونني سوى تسبيح ربي وتنزيهه.
وقوله: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي) أي: تعاظم ربي، وتعالى عن أن يكون لعباده عليه احتكام
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٢:الآيتان٩٢و٩٣ : ثم بين أن أسئلتهم التي سألوها سؤال تعنت وعناد، لا سؤال استرشاد وحاجة ما ذكر في قولهم :﴿ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ﴾ وقولهم ١ :﴿ أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا تقرؤوه ﴾.
دل هذا كله سؤالهم إياه كله سؤال معاندة، لا سؤال استرشاد واستهداء، لأنه لو كانوا يسألون ما يسألون سؤال استرشاد واستهداء لكانوا لا يسألون إسقاط السماء عليهم ؛ إذ لا منفعة لهم في ذلك، وإن في سؤالهم الجنة منفعة. يذكر سفه القوم وتعنتهم وسوء معاملتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم الحكمة والفائدة ( في سؤالهم )٢ قرآنا يتلى إلى يوم القيامة ليعرف المتأخرون معاملة السفهاء، إذ بلوا بهم، أن كيف ( يعاملونهم حتى يعاملوهم مثل )٣ معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ أمره أن يُنَزَّهَ ربه عن أن يكون لأحد الاحتكام عليه والحكم، والذي سألوه احتكام٤ منهم على الله.
وفي قوله :﴿ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ يُنَزَّهَ ربه عن أن يملك سواه ما سألوه من إتيان الجنة، وغير ذلك مما٥ ذكر في الآية، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ أي هل كنت إلا بشرا كغيري٦ من الرسل الذين كانوا من قبل من البشر، فلم يسألوا هم بمثل الذي تسألونني أنتم من الأسئلة.
أو إن تسألوا ذلك فلن تجابوا كقوله :﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ﴾( البقرة : ١٠٨ ).
أو يكون قوله :﴿ هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾ أي ليس للرسول أن يعترض على الرسل بشيء، إنما على الرسول تبليغ ما أرسل، وأمر بتبليغه. أو يقول : إني لا أملك عما تسألونني سوى تسبيح ربي وتنزيهه.
وقوله تعالى :﴿ قل سبحان ربي ﴾ أي تعاظم ربي، وتعالى، عن أن يكون لعباده عليه احتكام/٣٠٩-ب/واختيار.
وقال أبو عوسجة والقتبي : الينبوع العين، والينابيع جمع، والكِسْفَةُ القطعة، والكِسْفُ جمع. وقال غيرهما : الكِسْفُ بالجزم عذاب. و﴿ كسفا ﴾ مثل قطعا، والله أعلم.
١ في الأصل و. م: وقوله..
٢ في م: في جعل سفههم، ساقطة من الأصل..
٣ في الأصل: يعاملون، في م: يعاملونهم..
٤ في الأصل و. م : احتكامهم..
٥ في الأصل و. م: ما..
٦ في الأصل و. م : كغيره..

أو اختيار.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: الينبوع: العين، والينابيع: جمع؛ والكسفة: القطعة، والكسف: جمع.
وقال غيره: الكِسْف - بالجزم -: عذاب، وكسفًا مثل قطعًا، قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (قَبِيلًا)، أي: معاينة، وقال: هو من المقابلة.
(بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ)، أي: من زينة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: المزخرف: المزين، يقال: زخرفت البيت، أي: زينته.
(أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ)، أي: تصعد.
(وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ)، أي: لارتقائك، وهو من الارتفاع.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كِسْفًا) بالجزم، أي: جانبا، وكسفا: مثل: قطعا. واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (٩٤) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (٩٥) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (٩٧) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (١٠٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى) أي: إذ جاءهم الرسول بالهدى (إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، وقال في آية أخرى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)، لكن هذا على الإياس عن إيمانهم، إنهم لا يؤمنون إلا عند معاينتهم بأس اللَّه، والإيمان في ذلك الوقت لا يقبل ولا ينفعهم.
وأما قوله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، فيخرج هذا القول منهم مخرج الاحتجاج: لو شاء اللَّه أن نؤمن لأنزل ملائكة كقوله: (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً). ففيه يوضح الشبهة لهم أن يقولوا: هو بشر ونحن بشر، فليس هذا أولى بالرسالة إلينا من أن نكون نحن رسلًا إليه، فذلك موضع الشبهة، فأجابهم لذلك لما استنكروا واستبعدوا بعث الرسول إليهم من جوهرهم وجنسهم، فقال: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ... (٩٥) أي: مقيمين ساكنين فيها (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا)؛ ثم اختلف فيه.
قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ)، أي: لو كان سكان الأرض ملائكة، فبعث إليهم رسولًا منهم أكان لهم أن يقولوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا)، أي: أبعث الله إلينا من جوهرنا؟! أي: ليس لهم أن يقولوا ذلك؛ فعلى ذلك إذا كان سكانها البشر ليس لهم أن يقولوا: أبعث اللَّه إلينا من جوهرنا رسولًا.
والثاني: لو كانت الأرض مكان الملائكة، وهم سكانها، لكان لكم أن تقولوا: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا) من غير جوهرنا، فامّا إذا كانت الأرض مكان البشر، وهم سكانها، فليس لهم أن ينكروا بعث الرسول منهم ومن جوهرهم؛ لأنهم لا يعرفون الملائكة، ولا من كان من غير جوهرهم، ويعرفون من كان من جوهرهم، فبعث الرسول من جوهرهم أولى بهم من غير جوهرهم.
أو يقول: لو كان في الأرض ملائكة وبشر، فعرفوا الملائكة، لكان لهم أن يسألوا رسولًا من الملائكة لما عرفوهم، فأمَّا إذا كان سكان الأرض ليسوا إلا بشرًا فليس لهم أن يقولوا ذلك؛ لأنهم لم يعرفوا قوى الملائكة، ولا قوى الجن، وقد عرفوا قوى البشر فيعرفون الآيات والحجج من التمويهات إذ عرفوا قواهم ولم يعرفوا قوى الملائكة والجنّ؛ فلا يعرفون ما أقاموا أنها آيات وحجج، أو كان ذلك بقواهم، ويعرفون ذلك من البشر إذا خرجت من احتمال وسعهم وقواهم.
وبعد فإنهم قد أقروا برسالة البشر؛ لأنهم لا يعرفون الملائكة إلا بخبر من البشر أنه ملك؛ إذ لم يكن لهم خلطة معهم ليعرفوهم؛ وإنما يعرفونهم بخبر من البشر: أنه
ملك؛ فليس لهم أن ينكروا رسالة البشر.
وأصله ما قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)؛ لما ذكرنا أنهم لا يعرفون الملائكة، ومَن كان من غير جوهرهم؛ فلا بدّ من أن يكون رجلًا، فكان في ذلك تلبيس عليهم على ما أخبر، واللَّه أعلم.
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٩٦)
قَالَ بَعْضُهُمْ: كفى بما أقام اللَّه من الآيات والحجج على رسالتي وأني رسول إليكم؛ إذ كان ذلك في قول كان من أُولَئِكَ الكفرة من إنكار الرسالة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يحتمل أن يكون على الإياس من إيمانهم كقوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا...)، الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ.: (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا).
يذكر هذا. واللَّه أعلم. بأنه عن علمَ بإجابتهم وردّهم. بعثه إليهم رسولًا لا عن جهل بأحوالهم، وليس فيما يعلم أنهم يردون، ولا يجيبون رسله خروج عن الحكمة؛ لأنه ليس في إجابتهم منفعة للرسل، ولا في ردهم ضرر له، وإنما المنفعة في الإجابة لهم، وفي الرد الضرر عليهم؛ لذلك لم يكن في بعث الرسل على علم منه بالرد خروجًا عن الحكمة أوفي الشاهد كان خروجًا عن الحكمة؛ لأن في الشاهد إنما يبعث الرسول لمنفعة تتأمّل وتصل إليه أو دفع ضرر عنه، فإذا علم أنه يرد رسالته، ولا يجيب، كان في بعث الرسول إليه بعد علمه بالرد خروج من الحكمة.
أو يخرج قوله: (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) على الوعيد، وكذلك أمثاله.
وإن احتج علينا بعض المعتزلة بقوله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى)، يقولون له: منعنا القضاء والقدر؛ إذ من قولهم: إن ما يفعل الإنسان من فعل أو معصية أو طاعة، فإنما يفعل بقضائه وتقديره؛ فيكون لهم الاحتجاج عليه بأن يقولوا: منعنا قضاؤك وتقديرك.
لكن هذا فاسد؛ لأنهم لا يفعلون هم ما يفعلون عند وقت فعلهم لأن اللَّه. تعالى - قضى ذلك وقدر، ولو جاز لهم هذا الاحتجاج لأنه كذلك قضى وقدر، فإذا كانوا هم عند أنفسهم لا يفعلون ما يفعلون؛ لأنه كذلك قضى وقدر، لم يكن لهم الاحتجاج عليه
بذلك؛ لأن القضاء والقدر، لم يضطرهم إلى ذلك، ولا قهرهم عليه، بل كان غيره ممكنًا لهم؛ لذلك لم يكن لهم الاحتجاج عليه بذلك؛ لأن القضاء، بهذا أعني بالقضاء والقدر، لكان لهم الاحتجاج عليه. أيضا. بالعلم؛ إذ لا شك أنه علم ذلك منهم، فإذا لم يكن الاحتجاج عليه بما علم منهم ذلك؛ إذ لا يقدرون أن يفعلوا غير الذي علم منهم، فعلى ذلك لم يكن الاحتجاج عليه بالقضاء والقدر؛ لأن القضاء والقدر لما علم أنه يختار ذلك ويؤثره على ضده لجاز ذلك لهم بالعلم ونحوه، دل أن ذلك ليس بشيء لما قضى ذلك عليهم وقدر، وإذا كانوا هم عند أنفسهم لا يفعلون وقت فعلهم؛ لما كذلك قضى عليهم؛ فلم يكن الاحتجاج لهم عليه بذلك؛ إذ القضاء والقدر لم يمنعهم عن ذلك لما لا يضطرون على ذلك، وإنما قضى ذلك لما علم أنهم يفعلون ويختارون ذلك؛ لذلك كان ما ذكرنا، وكذلك كل من قضى في الشاهد على آخر إنما يقضي؛ لما سبق منه العلم به.
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (٩٧)
أي: من وفقه لقبول ما كان من الهدى وعصمه عما وسوس إليه الشيطان، فهو المهتدي عند اللَّه وعند من عقل الهدى، (وَمَنْ يُضْلِلْ)، أي: من خذله ولم يعصمه حتى يقبل من الشيطان ما جاء من وساوسه هو ضال.
(فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ).
يحتمل: لن تجد لهم أولياء من دونه يهدونهم لدينهم ويوفقونهم.
أو لن تجد لهم أولياء ينصرونهم من دونه، ويدفعون عنهم ما نزل بهم من العذاب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ.: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا).
قال الحسن: يحاسبون حتى يعلموا سوء صنيعهم الذي صنعوا في الدنيا، ثم يحشرون إلى جهنم ما ذكر عميًا وبكفا وصما، أو كلام نحو هذا.
ثم يحتمل قوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ما ذكر في آية أخرى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ)، وقوله: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ...) الآية، إنما يتقي بوجهه؛ لما تكون أيديهم مغلولة إلى أعناقهم، وقوله: (عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أسماهم: عميًا وبكمًا وصفا لذهاب منافع هذه الحواس ولذاتها في الآخرة، ليس على حقيقة ذهابها، لكن حال بينهم وبين الانتفاع بها ما ذكر لهم: (مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ...) الآية، فتلك الظلل تحول بينهم وبين رؤية الأشياء.
وسماهم في الدنيا: عميًا وبكمًا وصمًّا ليس على حقيقة ذهاب أعينها، ولكن لما لم ينتفعوا بهذه الحواس في الدنيا، ولم يستعملوها فيما أمروا باستعمالها - نفى ذلك عنهم، فعلى ذلك في الآخرة.
ويحتمل على حقيقة ذهاب أعين هذه الحواس؛ عقوبة لما لم يستعملوها في الدنيا لما له خلقت، كقوله: (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا).
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ)
أي: مقامهم جهنم، وإليها يأوون.
وقوله: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) اختلف فيه:
قال الحسن: قوله: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ)، أي: كلما خبا لهبها، وسكن (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)، قال: يخمد لهبها من غير أن يذهب وجع ما أصابهم، ثم يزداد لهم سعيرًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلَّمَا خَبَتْ)، أي: نضجت جلودهم، وسكنت النار (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)، أي: نعود بنار على ما كانت، وجعلت تلتهب، وتستعر؛ كقوله: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وذلك أن النار إذا أكلتهم فلم يبق منهم غير العظام وصاروا فحمًا، سكنت النار؛ فهو الخبت، ثم بدلوا جلودًا غيرها، فتكون وقودًا لها، واللَّه أعلم، وكله واحد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كُلَّمَا خَبَتْ)، أي: كلما أحرقتهم النار، فصاروا رمادًا، خلقوا لها خلقًا جديدًا، فتعاودهم النار فتحرقهم، وذلك قوله: (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)، وهو قول اللَّه: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ)، لا تبقي منهم شيئًا إذا أخذت حتى تحرقهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ.: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٩٨)
أي: ذلك الذي ذكر جزاؤهم (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا)، ثم قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا... (٩٩)
أي: أو لم يعتبروا، ولم ينظروا أن اللَّه الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم.
الاية٩٩ : وقوله تعالى :﴿ أولم يروا ﴾أي أو لم يعتبروا، أو لم ينظروا ﴿ أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم ﴾ هذا الاعتبار يحتمل وجهين :
أحدهما : إنكم تُقرون أن الله هم خالق السماوات والأرض ( وخالقكم، فخلق السماوات والأرض )١ على الابتداء، وخلق سائر الخلائق على الابتداء بلا احتداء تقدم، وسبق، أعظم وأكبر ممن هو دونه. فمن قدر على إنشاء ذلك فهو على إنشاء أمثالكم وإعادتكم أقدر. وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من ابتدائه.
والثاني : تعلمون أنه خلق السماوات والأرض، وخلقكم أيضا، فلم يخلقهما للفناء خاصة ؛ إذ خلق الشيء للفناء خاصة لا لعاقبة عبث ولعب، فدل أنه خلقكم، وخلق السماوات والأرض لعاقبة، وهي العبث.
وعلى ذلك يخرج قوله :﴿ وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ﴾أنه كائن لا محالة.
وجائز أن يكون قوله :﴿ وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ﴾جوابا لما استعجلوا من العذاب فقال :﴿ وجعل لهم أجلا ﴾لا يتقدم عنه، ولا يتأخر، أو أن يكون قوله :﴿ وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ﴾ الموت الذي به تنقضي آجالهم. لكنه٢ لم يخلقهم للموت خاصة، ولكن للعاقبة كما ذكرنا.
وقال القتبي :﴿ خبت ﴾ أي سكنت ( يقال : خبت )٣ إذا سكن لهَبُهَا ( وتخبوا فإذا سكن لهبها )٤ ولم يُطْفَأ الجمر قلت : خمدت تخمد خمودا. فإذا طفئت، ولم يبق منها شيء، قيل : هَمَدَتْ تَهْمُدُ هُمُودًا، وقوله تعالى :﴿ زدناهم سعيرا ﴾أي نارا تتسعر، أي تتلهب.
وقال أبو عوسجة : السعير النار يقال : سعرت النار إذا أوقدتها، نار مسعورة أي موقودة.
وقوله تعالى :﴿ فأبى الظالمون إلا كفورا ﴾أي كفرا بالبعث. الظالمون ههنا، هم الكافرون( ولو قال : فأبى الكافرون )٥ إلا ظلما ٦ كان واحدا.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل و. م: لكنهم..
٣ ساقطة من. م..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ في الأصل و. م: ظلموا ما..
٦ في الأصل و. م: وقال..
هذا الاعتبار يحتمل وجهين:
أحدهما: أنكم تقرون: أن اللَّه هو خالق السماوات والأرض، وخالقكم، فخلق السماوات والأرض على الابتداء، وخلق سائر الخلائق على الابتداء بلا احتذاء، تقدم وسبق - أعظم وأكبر من خلق من دونه، فمن قدر على إنشاء ذلك، فهو على إنشاء أمثالكم وإعادتكم أقدر، وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من ابتدائه.
والثاني: تعلمون أنه خلق السماوات والأرض، وخلقكم أيضًا، فلم يخلقهما للفناء خاصة؛ إذ خلق الشيء للفناء خاصة لا لعاقبة عبث ولعب؛ فدل أنه خلقكم، وخلق السماوات والأرض؛ لعاقبة، وهي البعث.
وعلى ذلك يخرج قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ) أنه كائن لا محالة.
وجائز أن يكون قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ) جوابًا لما استعجلوا من العذاب، فقال: وجعل لهم أجلًا لا يتقدم عنه ولا يتأخر.
أو أن يكون قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ).
الموت الذي به تنقضي آجالهم، لكنه لم يخلقهم للموت خاصة ولكن للعاقبة، وهو ما ذكرنا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: " خبت " أي: سكنت: يقال: خبت، إذا سكن لهبها تخبو، فإذا سكن لهبها ولم يطفأ الجمر، قلت: خمدت تخمد خمودًا، فإذا طفئت، ولم يبق منها شيء، قيل: همدت تهمد همودًا.
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا).
أي: نارًا تتسعر، أي: تتلهب
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: " السعير ": النار، يقال: سعرت النار: إذا أوقدتها، ويقال: نار مسعورة، أي: موقدة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا).
أي: كفرًا بالبعث، و " الظالمون " هاهنا هم الكافرون، ولو قال: فأبى الكافرون إلا ظلموا، ما كان واحدًا.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ.: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (١٠٠)
تحتمل الآية وجوهًا:
118
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي صلة ما تقدم من أسئلتهم، وهو قوله: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ).
وقوله: (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا).
كانوا يسألون هذه الأشياء على التعنت والعناد والاستهزاء، فأخبر أنه وإن أعطاهم ما سألوا لا ينفقون، بل يمسكون عن الإنفاق، ومن سنته: أنه إذا أعطاهم ما سألوا على السؤال، فتركوا الإيمان به والوفاء -: أنهم يهلكون، فأخبر أنهم يسألون سؤال تعنت، لا سؤال ما يتوسعون بها.
وفي الآية إثبات الرسالة؛ وهو ما بين من بخلهم وإمساكهم عن الإنفاق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) في قوم خاص يعلم اللَّه أنهم لو أعطوا ما سألوا لفعلوا ما ذكر، لا في كل منهم، وهو كقوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ...) الآية، وكقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) الآية، كان في قوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون فعلى ذلك الأول.
ويحتمل أن تكون الآية في قوم ضمنوا آية الإنفاق والتوسيع، وعاهدوا اللَّه على ذلك إن وسع عليهم، فأخبر أنهم لا يوفون ما عاهدوه وضمنوا؛ كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ).
ويحتمل أن يكون هذا إخبارًا منه عن طبع الخلق وعادتهم: وذلك أنهم إذا استكثروا من الأموال وجمعوا يزداد لهم بذلك حرص على جمعها، وبخل على التوسيع والإنفاق ما لم يكن قبل الجمع والاستكثار، هذا هو المعروف في الناس، فأخبر أنهم يمسكون عن الإنفاق والتوسيع إذا ملكوا ما ذكر على ما طبع الإنسان بالبخل والتضييق عند الاستكثار ما لم يكن قبل ذلك.
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا).
يحتمل أن يكون هذا صفة كل كافر، وكذلك قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) و (مَنُوعًا)، يكون عادتهم البخل والجزع عند المصائب.
وجائز أن يكون هذا صفة كل إنسان في الابتداء هكذا يكون، ثم بالامتحان والتجربة، يكونون أسخياء صابرين.
أو يكون يخبر أنهم لو ملكوا وأعطوا جميع ما يرزقون في عمرهم على التفاريق بدفعة واحدة مجموعًا، لأمسكوا عن الإنفاق؛ خشية الفقر في آخر عمرهم؛ إذ لا يعلمون إلى ما
119
ينتهون من آجالهم؛ فيحملهم ذلك على البخل والإمساك.
أو يذكر لما أنه جبلهم، وأنشأهم على الإمساك والمنع في الابتداء، وإن لم تكن حاجة لهم إلى ذلك: ترى الصبيان والصغار من الأولاد يمنعون ما في أيديهم عن غيرهم وإن لم يكن لهم حاجة إلى ذلك، هذا معروف فيهم، وإنَّمَا جبلهم وأنشأهم هكذا؛ ليمتحنهم بالجود والتوسيع، والبخل والتضييق، وإلا كانوا في أصل خلقتهم وابتداء إنشائها على ما ذكرنا أشحة بخلاء وهو أما أخبر، (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا)، و (جَزُوعًا)، (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) أنشأهم جزوعين عن الألم والمصائب غير صابرين عليها، وكذلك أنشأهم عجولين لا يصبرون على أمر واحد، ولا حال واحد.
ثم امتحنهم على الصبر، وترك الجزع والعجلة؛ فعلى ذلك قوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) أي: طمغا بخيلًا ممسكًا مضيقًا، واللَّه أعلم.
ثم ترك ذلك بالامتحان واعتياد ذلك، وخلافه.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (١٠١) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (١٠٢) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (١٠٣) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (١٠٤)
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ).
هذا - واللَّه أعلم. فيما آتاه من الآيات وأمره أن يحاج بها فرعون، وإلا كانت آيات موسى - عليه السلام - أكثر من تسع، كأنها تبلغ عشرين، وتزداد عليها؛ إذ كان في عصاه أربع من الآيات:
إحداها: حيث ضرب بها البحر فانفلق.
والثانية: حيث كان يضرب بها الحجر فينفجر منه عيونًا.
وا الثالثة: حيث ألقاها فصارت ثعبانًا.
وا الرابعة: حيث كانت تلقف حبالهم وعصيهم، وأمثاله، كأنها تبلغ إلى ما ذكرنا، لكنه ذكر تسع آيات بينات التي أمره أن يحاج بها فرعون، وقومه.
120
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَيِّنَاتٍ).
أنها من عند اللَّه جاءت، وأنها ليست من البشر، وأنها سماوية.
و (بَيِّنَاتٍ)، أي: مبينات ما يبين صدق موسى في جميع ما يخبر، ويقول، ويبين عدله في حكمه وفعله؛ لأن في آيات الرسل يحتاج إلى هذا: أن تبين للناس صدقهم في قولهم، وعدلهم في حكمهم، وأنهم يدعون إلى عبادة اللَّه، والطاعة له، وذلك يجب على كل ذي عقل وطبع سليم، فالحاجة إلى الآيات ليست إلا لصدقهم وعدلهم في حكمهم.
ثم اختلف في الآيات:
قَالَ بَعْضُهُمْ: العصا، واليد، والحجر، والطمس، والخمس التي ذكر في سورة " المص "، وهو قوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ...).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الخمس التي ذكر في سورة " المص "، والعصا، والموت الذي أرسل عليهم، واليد البيضاء، وانفلاق البحر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنها الخمس التي ذكر في سورة " المص "، واليد، وحل العُقْدة التي بلسانه، وفي العصا آيتان.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - العصا، واليد، والسنون، ونقص من الثمرات.
ثم منهم من يجعل السنين ونقصًا من الثمرات آية واحدة، ومنهم من يجعلهما آيتين، وكذلك العصا، منهم من يجعلها آية واحدة، ومنهم من يجعلها آيتين، ومنهم من يعد الطمس، ومنهم من لا يعد.
ونحن نجعل العصا آية واحدة، والسنين، ونقصًا من الثمرات آية واحدة والطمس آية، والخمس التي ذكرت في سورة " المص "، فتكون ثمانيًا فتكون التاسعة قوله: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ)؛ لأنه قال: لقد علمت أنها آيات، ولم يكذبه فرعون، ولم يستقبله بشيء يكذبه في قوله، وهو ما قال: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)، أخبر أنهم جحدوا بها بعدما استيقنوا أنها آيات، وحجج ظلمًا وعلوًّا، وما روى صفوان بن عسال المرادي: أنه قال: إن يهوديين أتيا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فسألاه عن التسع آيات التي ذكر أنه آتاها موسى فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا تشركوا باللَّه شيئًا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يا يهوديان أَلَّا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ "، قال: فقبَّلا يديه،
121
ورجليه، وقالا: نشهد أنك نبي اللَّه، فقال - عليه السلام -: " فما يمنعكما أن تسلما؟ " قالا: إنا إن أسلمنا يقتلنا اليهود.
فإن ثبت هذا الخبر، فلا يجوز أن يتعدى إلى غيره من التأويل، واللَّه أعلم.
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ).
يعني: موسى، صلوات اللَّه عليه.
قَالَ بَعْضُهُمْ: أمر رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يسأل بني إسرائيل الآيات التسع التي كانت في كتبهم على التقرير عندهم أنه إنما عرف ذلك باللَّه، وأنه رسول؛ لما علموا أن تلك الآيات في كتبهم بغير لسانه، وكان لا يخط بيده، ولا كان اختلف إلى أحد منهم؛ ليعرف ذلك؛ فدل أنهم علموا أنه إنما عرف ذلك بوحي السماء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليس هو على الأمر أن يسألهم ذلك، ولكن لو سألتهم لأخبروك عنها كقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ...) الآية.
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ.: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا).
في عقلك، أي: سحرت، و " المسحور ": هو المغلوب في العقل.
وقولهم متناقض؛ لأنهم قالوا مرة: ساحر، ومرة: مسحور، فالساحر: هو الذي يبلغ بالبصيرة غايته، والمسحور: المغلوب.
وقوله. عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (١٠٢)
قوله: (عَلِمْتَ) بالنصب والرفع جميعًا قد قرئا، وأمكن أن يكون قال في ابتداء الأمر: قد علمت ما أنزل هذه الآيات إلا رب السماوات والأرض، وقال في آية أخرى لما أقامها عليه (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ).
ما يبصر بها الحق من الباطل من لم يعاند، ولم يكابر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ.: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا).
قال موسى. عليه السلام. لفرعون: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)، مقابل ما قال له فرعون، حيث قال: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: امثبورًا ": هالكًا.
وقيل: ملعونًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: مبدلًا.
ويحتمل قوله: (لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) أي: تدعو على نفسك بالثبور، وهو الهلاك كقوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا) أي: هلاكًا.
والظن يكون في موضع الظن، ويكون في موضع العلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ (فَأَرَادَ... (١٠٣)
يعني: فرعون.
أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ).
قال أهل التأويل: أراد أن يخرجهم، ويستخفهم (مِنَ الْأَرْضِ) أي: من أرض مصر، لكنهم قد كانوا خرجوا طائعين قبل أن يخرجهم من حيث أمر موسى بإحْراجهم، بقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)؛ فيكون تأويل قوله: فأراد أن يخرجهم من الأرض بالقتل والهلاك من الدنيا؛ ألا ترى أنه قال: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا)، أراد: من مشارق الأرض، وإلا قد كانوا هم قد خرجوا من أرضه على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا).
هو ما قال في آية أخرى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (١٠٤) أي: بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل (اسْكُنُوا الْأَرْضَ).
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله (اسْكُنُوا الْأَرْضَ): أرض مصر التي كان يسكن فرعون، وهو كقوله: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: اسكنوا الأرض: أرض الشام، والأرض المقدسة؛ كقوله: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ...).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (اسْكُنُوا الْأَرْضَ) ليس في أرض دون أرض، ولكن اسكنوا أي أرض شئتم، مشارقها ومغاربها، آمنين لا خوف عليكَم على ما أرادوا أن يخرجوكم من مشارق الأرض ومغاربها بالقتل كقوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا...) الآية، وهو قول ابن عباس، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وعلى هذا قال في قوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) بعث عيسى ابن مريم (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) أي: جَمِيعًا مجتمعين من مشارق الأرض ومغاربها على ما تفرقوا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) يعني: حياة عيسى، ونزوله من السماء (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) أي: جميعًا بانتزاع من القرى هاهنا، وهاهنا لفوا جميعًا، وهو مثل الأوّل.
وأمّا عامة أعل التأويل فإنهم قالوا: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ): يوم القيامة (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا) أي: جميعًا أنتم وفرعون وجنوده حتى يروا كراماتكم التي أكرمتم بها ويروا هوانهم.
الآية ١٠٤ : وقوله تعالى :﴿ وقلنا من بعده لبني إسرائيل ﴾ أي بعد هلاك فرعون ﴿ اسكنوا الأرض ﴾ اختلف فيه :
قال بعضهم : قوله ﴿ اسكنوا الأرض ﴾ أرض مصر التي١ كان يسكن فرعون، وهو كقوله :﴿ وأورثكم أرضهم ﴾( الأحزاب : ٢٧ ).
وقال بعضهم :﴿ اسكنوا الأرض ﴾ أرض الشام والأرض المقدسة كقوله :﴿ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ﴾ ( المائدة : ٢١ ).
وقال بعضهم :﴿ اسكنوا الأرض ﴾ ليس في أرض دون أرض، ولكن اسكنوا أي أرض شئتم مشارقها ومغاربها آمنين، لا خوف عليكم على ما أراد٢ أن يخرجكم من مشارق الأرض ومغاربها، بالقتل كقوله :﴿ وأورثناها ﴾ الآية( الشعراء : ٥٩والدخان : ٢٨ ) وهو قال ابن عباس رضي الله عنه. وعلى٣ هذا قال في قوله تعالى :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾ بعث عيسى ابن مرين :﴿ جئنا بكم لفيفا ﴾أي جميعا مجتمعين من مشارق الأرض ومغاربها على ما تفرقوا.
وقال بعضهم :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾ يعني حياة عيسى ونزوله من السماء﴿ جئنا بكم لفيفا ﴾ أي جميعا منتزعين٤ من القرى ههنا وههنا، ولُوُّا جميعا، وهو مثل الأول.
وأما عامة أهل التأويل فإنهم قالوا :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾ يوم القيامة﴿ جئنا بكم لفيفا ﴾ أي جميعا : أنتم وفرعن وجنوده حتى يروا كراماتكم التي أُكْرِمْتُمْ بها، ويروا هوانَهُم.
١ في الأصل و. م : الذي..
٢ في الأصل و م: أرادوا..
٣ في من م، في الأصل: وقال.
في الأصل و م : انتزاع.

٤ في الأصل و م : انتزاع.
قوله تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (١٠٥) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (١٠٩)
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ).
قال الحسن: إن في القرآن حكمًا وأنباء وحكمه عدل وأنباؤه صدق وحق، وهو كقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا): (صِدْقًا): ما فيه من الأنباء، (وَعَدْلًا) ما فيه من الحكم، فبذلك الحق الذي فيه من الحكم العدل والأنباء الصدق أنزله.
ويقال: الصدق في الأخبار والأنباء، والعدل في الأحكام والحق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ).
أي: بذلك الحق الذي به دام وقرَّ فيكم، أو كلام نحو هذا.
ويحتمل قوله: (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي: بالحق الذي لله على عباده أنزله، وبالحق، الذي لبعضهم على بعض.
(وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي: بذلك الحق الذي لله على خلقه دام واستقر وبالحق الذي لبعضهم على بعض ثبت واستقر.
وأصله أن قوله: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) الحق: اسم كل محبوب ومحمود، والباطل: اسم كل مكروه ومذموم، فمن اتبعه صار محبوبًا محمودًا، ومن خالفه، وترك اتباعه صار مذمومًا، أو أن يكون قوله: (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي: لم يأته التغيير والتبديل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا).
أخبر أنه لم يرسله إلا للبشارة والنذارة، لكن هذا في حق الرسالة لم يرسله إلا لهذين اللذين ذكروا؛ لأنه قد كان امتحنه في نفسه بمحن كثيرة فلم يكن في جميع الأوقات مشغولًا بهذين خاصة، لكنه في حق الرسالة لم يرسله إلا لبشارة ونذارة، أي: لم يرسلك حافظًا، ولا وكيلًا، ولا مسلطا عليهم، بل أرسلك لتبليغ الرسالة إليهم، ثم البشارة
والنذارة؛ وهما أمران يكونان في عواقب الأمور البشارة تكون عاقبة كل محبوب ومحمود، والنذارة عاقبة كل فعل مكروه ومذموم.
ثم لقائل أن يقول في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) البشارة: لمن أجابه فيما أمره به ودعاه إليه، والنذارة: لمن ارتكب ما نهي عنه، فكيف لا دل هذا على أن النهي يوجب الحظر والتحريم، حيث ألحقه النذارة بارتكاب ما نهي عنه؟
قيل: إن النذارة: عاقبة كل مكروه ومذموم، والبشارة: عاقبة كل محبوب ومحمود، فيكون ذلك في الآداب وغيرها، ولأن الرسل لم يبعثوا إلا لتغيير مناكير وفواحش ظهرت في الخلق وغيره من الفواحش والمناكير، لم يبعثوا لصغائر ظهرت فيهم، ثم دخل الصغائر والآداب فيما أرسل تبعًا، وإلا كان سبب إرسالهم الكبائر والفواحش، فإذا كان ما ذكرنا، كان في النهي نهي أدب، ونهي حتم وحكم.
وبعد فإن اللَّه - تعالى - قد أخبر أنه قد يعفو عن كثير من السيئات وما عفي عنه، لم يلحق فيه النذارة والوعيد، واللَّه أعلم.
وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ - (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (١٠٦) بالتخفيف والتثقيل (فَرَقْنَاهُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَرَقْنَاهُ) بالتخفيف، أي: أحكمناه، وثبتناه؛ حتى لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: فرقناه، وقطعناه في الإنزال سورة فسورة، وآية فآية على ما أنزل.
(لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ).
فهو. واللَّه أعلم. لوجوه:
أحدها: ما ذكر في قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ...)، أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه إنما أنزله بالتفاريق؛ ليثبت به فؤادك؛ لأن ذلك أثبت في القلب وأيسر في الحفظ.
والثاني: أنزله بالتفاريق على قدر النوازل؛ لتتجدد لهم البصيرة، وتزداد لهم الحجة بعد الحجة، ولو كان جملة لم يكن ليتجدد لهم ذلك، ولا تزداد لهم البصيرة.
أو أن يكون أنزله بالتفاريق للتنبيه؛ لينبههم في كل وقت، ويعظهم في كل حال؛ إذ ذلك أنبه لهم، وأوعظ من أن يكون منزلًا جملة واحدة، ألا ترى أن الآية إذا دامت تكون في التنبيه أقل، وإذا كانت متقطعة في الأوقات، كانت أخوف وأنبه، نحو كسوف الشمس بالليل، صار بالدوام غير مخوف، ولا منبه لهم للدوام، وكسوفها بالنهار، صار تنبيهًا؛
للانقطاع؛ على ذلك الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧) ظاهر هذا خرج على التخيير، لكن المراد منه يخرج على حتم المواعظ، وتأكيد الوعيد، وتغليظه، وكذلك قوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)، ظاهره على التخيير لكن الحكماء لم يفهموا منه على ما خرج ظاهره، لكن فهموا منه تأكيد الوعيد وحتم الوعظ، وهكذا المعروف في الشاهد أن إنسانا لو أمر آخر بأمره ووعظه مرارًا فلم ينجع فيه، يقول له: إن شئت فافعل، وإن شئت لم تفعل على ما لو فعلت، أو لم تفعل فإنما ضرر ذلك عليك إن تركته، ونفعه يرجع إليك لو فعلت؛ فعلى ذلك قوله: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا) فلا ضرر علينا في ترككم الإيمان به، ولا يرجع نفعه إلينا لو آمنتم به، إنما نفعه لكم وضرره عليكم إن شئتبم فعلتم وإن شئتم لم تفعلوا، فهو كقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، وكقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ...) الآية، ونحو ذلك مما يخبر؛ إذ كل من عمل خيرًا فلنفسه عمل، ومن عمل شرّا فعلى نفسه ضرر ذلك؛ فهذا ينقض على أصحاب الظواهر، حيث قالوا: يفهم من الخطاب ظاهره لا يتعدى عن ظاهره، حيث لم يجب أن يفهم من قوله: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا) التخيير، لكن فهموا الوعيد الوكيد الغليظ، وحتم المواعظ.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في لزوم الأمر وافتراضه، إذا كان ما يأمرنا وينهانا لمنافع أنفسنا ولضرر على أنفسنا، ومن لم يعمل في الشاهد لنفسه، ولا سعى لنفع نفسه، فلا لائمة عليه، ولا مؤاخذة.
قيل: في الحكمة أن يفرض علينا السعي في فكاك أنفسنا، ودفع الهلاك عن أنفسنا، وفي أمره إيانا أمر بالسعي في فكاك أنفسنا، ودفع الهلاك عنها، وحاصل أمره ونهيه يكون المنفعة لنا لا له، وكذلك الضرر، وعلى ذلك يخرج قوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُم...) والآية، وعلى ذلك يخرج دعاء آدم وغيره: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا...) الآية.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا).
وهذا أيضًا ينقض على أصحاب الظواهر؛ لأنه لا كل من أوتي العلم منهم يخرّ للأذقان على ما خرج ظاهره، فدل أن الاعتقاد ليس بالظاهر على ما قرع السمع، ولكن على ما توجبه الحكمة.
ثم قوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي: إن الذين أوتوا منفعة العلم يخرون للأذقان سجدًا.
ثم يحتمل قوله: (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) على التمثيل، ليس على حقيقة السجود، ولكن على الانقياد لما سمعوا، والخضوع له، والذلة؛ على ما ذكرنا من التمثيل في قوله: (انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، ليس على حقيقة الانقلاب على الأعقاب، ولكن على التمثيل للرجوع وترك العمل، فعلى ذلك الأول، وكقوله: (فَنَبَذُوُه وَرَآءَ ظُهُورِهِم)، على ترك العمل به.
ويحتمل: أن يكون السجود كناية عن الصلاة، أي: يصلون لله.
ويحتمل أن يكون على حقيقة السجود، خروا لله سجدًا إذا تتلى عليهم آيات الله وحججه، وهو كسجود سحرة فرعون حين عاينوا آيات اللَّه، وحججه، وهو كقوله: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)، فعلى ذلك يحتمل سجود هَؤُلَاءِ، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:
(وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا (١٠٨) عما قالت الملاحدة فيه.
(إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا) أي: قد كان موعود ربنا لمفعولًا وكذلك قوله: (أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)، (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) أي: كان ما يأمر اللَّه كائنًا ومفعولاً أي: قد كان ما يأمر ووعده مفعولاً وهو ما ذكرنا " كان وعد اللَّه مَفْعُولًا ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (١٠٩)
فإن كان التأويل من السجود: الصلاة، ففيه دليل لقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه -: إن المصلي إذا بكى في صلاته؛ خوفًا على نفسه، وإشفاقًا أو سرورًا على ما أنعم اللَّه عليه وأكرمه به، لم تفسد صلاته، وإذا كان البكاء للتسلي مما حل به من الشدائد والبلايا تفسد صلاته، وأصله: أن البكاء إذا كان لله فهو لا يفسد الصلاة، وإذا كان للدنيا أو لحاجة نفسه فهو يفسد.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا).
أي: يزيد ما يتلى عليهم من القرآن خشوعًا وخضوعًا لهم أو للآيات.
وقال الحسن: الخشوع: هو الخوف الدائم في القلب.
* * *
قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (١١١)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
127
ذكر هذا - واللَّه أعلم - لأن العرب كانت لا تعرف الرسل والكتب المنزلة من السماء ولا يؤمنون بهما، وكانت لا تعرف ذكر الرحمن ولا التسمية به وكذلك غيره من الأسماء، لما لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بألسن الرسل والأنبياء، وإما بالكتب المنزلة من السماء، فإذا لم يؤمنوا بالرسل، ولا عرفوا الكتب، حملهم ذلك على الإنكار والجحود لأسمائه، ولذلك قالوا: (وَمَا الرَّحْمَنُ)، وقوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) أي: يكفرون بذكر الرحمن واسمه؛ لما ذكرنا.
أو أن يكونوا أنكروا اسم الرحمن؛ لما لم يعرفوا أنه مأخوذ من الرحمة، ولو عرفوا: أنه من الرحمة ما أنكروا؛ على ما لم ينكروا " الرَّحِيم "؛ لأنهم عرفوا أن الرحيم مأخوذ من الرحمة، وأما اللَّه فهم يسمون كل معبود إلها، وعلى ذلك سموا الأصنام التي كانوا يعبدونها: آلهة، ويقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) و (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فيسمون اللَّه لما هو المعبود عندهم، ورجعت عبادتهم الأصنام إلى اللَّه؛ حيث زعموا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، كانوا يطلبون بعبادتهم الأصنام القربة إلى اللَّه؛ لذلك أنكروا غيره من الأسماء؛ على أن العرب لم ينكروا لشيء واحد اسمين وأكثر، وعرفوا أن اختلاف الأسماء، وكثرتها لا يوجب اختلاف المسمى بها، ولا يوجب عددا منه، وأن ما قالوا: إنه كان يدعو حتى الآن إلى عبادة واحد، فالساعة يدعو إلى عبادة اثنين وأكثر، إنما قالوا على التعنت والعناد، وإلا قد عرفوا لشيء واحد اسمين وأكثر، لكنهم أنكروا لله ذلك؛ لما ذكرنا؛ تعنتًا منهم، وعنادًا، على هذا يجوز أن - تتأول الآية - واللَّه أعلم.
ثم اختلف في تخصيص ذكره بهذين الاسمين:
قَالَ بَعْضُهُمْ: وجه تخصيصهما؛ لأنهما اسمان مخصوصان له، لا يجوز أن يسمى غيره بهذين الاسمين، وأما غيرهما من الأسماء فإنه يجوز أن يسمى غيره بها.
وقال الحسن: خُصَّ بذكرهما؛ لأنهما اسمان معظمان عند الخلق ما لم يجعل لغيرهما من الأسماء من التعظيم ما جعل لهذين.
وقال أبو بكر الأصم: خص بذكر هذين؛ لأن غيرهما من الأسماء أسماء أخذت عن صفاته، وأما هذان فهما ليسا أخذًا عن صفته.
128
وقال الزجاج: الرحمن: هو مأخوذ من الرحمة إلا أنه النهاية في الرحمة؛ لأنه " فعلان "، وهو ما يقال: غضبان، إذا انتهى غضبه غايته، وإلا قوله: " الرحيم " و " الرحمن " كلاهما من الرحمة إلا أن الرحمن " فعلان " والفعلان هو النهاية من وصف الرحمة؛ لما ذكرنا، وغيره من الخلائق لا يبلغون في الرحمة ذلك المبلغ؛ لذلك خص بذكر " الرحمن " دون " الرحيم ".
وهذا كله واحد ليس فيه خلاف، وأصله ما ذكرنا لا يشرك غيره في هذين، ويجوز في غيره.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) أي: أسماؤه التي يسمى بها كلها الحسنى، ليس شيء منها قبيحًا.
أو أن يكون قوله: (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) أي: كل أعمال صالحة، وأمور حسنة له، أي: تنسب إليه، وتضاف، ولا يجوز أن يضاف وينسب ما قبح منها، وسمج، وأصله: ما ذكرنا أنه ينسب إليه كل حسن، وكل صالح على الإشارة، ولا يجوز أن ينسب إليه كل قبيح سمج على الإشارة، والتسمية به، وهو ما يذكر: " التحيات لله، والصلوات والطيبات... " إلى آخره، ينسب إليه كل طيب، وكل حسن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: له أسماء حسنة يسمى بها.
والثاني: أن كل حسن يسمى به غيره فهو راجع إليه في الحقيقة، وهو مسمى به، وكل حسن منسوب إليه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)، اختلف أهل التأويل في ذلك:
قال: قوله: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) أي: لا تجعل صلاتك في مكان غيظًا للمشركين (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا)، أي: ولا تسر عن أصحابك فتخفى عنهم، لكن ابتغ بين ذلك سبيلًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تجعل كل صلواتك في جماعة، ولا تخافت بها، ولا كلها في غير
129
الآية١٠٩ : وقوله تعالى :﴿ ويخرون للأذقان يبكون ﴾ فإن كان التأويل من السجود الصلاة ففيه دليل لقول أبي حنيفة، رحمه الله، إن المصلي إذا بكى في صلاته خوفا على نفسه وإشفاقا أو سرورا على ما أنعم الله عليه، وأكرمه ( في )١ دينه لم تفسد صلاته. وإذا كان البكاء للتسلي مما حل به من الشدائد والبلايا تفسد صلاته.
وأصله أن البكاء إذا كان لله فلا يفسد الصلاة، وإذا كان لدنيا أو لحاجة نفسه فهو يفسد.
وقوله تعالى :﴿ ويزيدهم خشوعا ﴾ أي يزيد ما يتلى عليهم من القرآن٢ خشوعا وخضوعا لهم أو الآيات.
وقال الحسن : الخشوع هو الخوف الدائم في القلب.
١ ساقطة من الأصل و. م..
٢ من م، في الأصل: القرائن..
الآية١١٠ : وقوله تعالى :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ﴾ ذكر هذا، والله أعلم، أن العرب كانت لا تعرف الرسل والكتب المنزلة من السماء، ولا يؤمنون بها، وكانت لا تعرف ذكر الرحمان ولا التسمية به، وكذلك غيره من الأسماء لما لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا١ بألسن الرسل والأنبياء وبالكتب٢ المنزلة من السماء. فإذا لم يؤمنوا بالرسل، ولا عرفوا الكتب، حملهم ذلك على الإنكار والجحود لأسمائه، ولذلك ﴿ قالوا وما الرحمان ﴾ ( الفرقان : ٦٠ ) وقوله :﴿ وهم يكفرون بالرحمان ﴾ ( الرعد : ٣٠ ) واسمه لما ذكرنا وأن يكونوا أنكروا اسم الرحمان لما لم يعرفوا أنه مأخوذ من الرحمة.
وأما الله فهم يُسَمُّون كل معبود إلها. وعلى ذلك سموا الأصنام التي كانوا يعبدونها آلهة، ويقولون ﴿ وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ( الزمر : ٣ ) ﴿ ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ ( يونس : ١٨ ) فيسمون الله ( إلها )٣ لما هو المعبود/٣١١-ب/عندهم. ورجعت عبادتهم الأصنام إلى الله حين٤ زعموا ﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ( الزمر : ٣ ) كانوا يطلبون بعبادتهم الأصنام القربة إلى الله.
لذلك أنكروا غيره من الأسماء. على أن العرب لم ينكروا لشيء واحد اسمين وأكثر، وعرفوا أن اختلاف الأسماء وكثرتها لا يوجب اختلاف المسمى به، ولا يوجب٥ عددا منه، وأن ما قالوا : إنه كان يدعوا حتى الآن إلى عبادة واحد، فالساعة يدعو إلى عبادة اثنين وأكثر ؟ إنما قالوا على التعنت والعناد. وإلا قد عرفوا لشيء واحد اسمين، لكنهم أنكروا الله ذلك لما ذكرنا تَعَنُّتاً منهم وعنادا. على هذا يجوز أن تُتَأَوَلَ الآية، والله أعلم.
ثم اختلف في تخصيص ذكره بهذين الاسمين : قال بعضهم : وجه تخصيصهم لأنهما اسمان مخصوصان له، لا يجوز أن يسمى غيره بهذين الاسمين. وأما غيرُهما من الأسماء فإنه يجوز أن يسمي غيره بها.
وقال الحسن : خَصَّ بِذِكْرِهِمَا لأنهما اسمان مُعَظَّمَان عند الخلق ما لم يجعل لغيرهما من الأسماء من التعظيم ما جعل لهذين.
وقال أبو بكر الأصم : خص بالذكر هذين لأن غيرهما من الأسماء أسماء أُخِذَت عن صفاته، وأما هذان فهما ليسا أخذا عن صفاته٦.
وقال الزجاج : الرحمن هو مأخوذ من الرحمة، إلا أنه النهاية في الرحمة، لأنه فعلان، وهو كما٧ يقال : غضبان إذا انتهى غضبه غايته، وقوله٨ :﴿ الرحمان الرحيم ﴾ ( الفاتحة : ٢ ) كلاهما من الرحمة إلا أن الرحمة فعلان والفعلان هو النهاية من وصف الرحمة لما ذكرنا، وغيره من الخلائق لا يبلغون في الرحمة ذلك المبلغ. لذلك خص بالذكر الرحمن دون الرحيم.
وهذا كله واحد، ليس فيه خلاف. وأصله ما ذكرنا : لا يشترك غيره في هذين، ويجوز في غيرهما٩.
وقوله تعالى :﴿ فله الأسماء الحسنى ﴾ أي أسماؤه١٠ التي يسمى بها كلها الحسنى، ليس شيء منها قبيحا.
أو يكون قوله :﴿ فله الأسماء الحسنى ﴾ أي كل ( الأعمال الصالحة والأمور الحسنة )١١ له، أي تنسب إليه، وتضاف، ولا يجوز أن يضاف، وينسب إليه ما قَبُحَ منها، وسَمُجَ.
وأصله ما ذكرنا : إليه ينسب كل حسن وكل صالح على الإشارة والتسمية به، وهو ما نذكر : التحيات لله والصلوات الطيبات إلى آخره، وينسب إليه كل طيب وكل حسن. وقوله تعالى :﴿ فله الأسماء الحسنى ﴾ هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : له أسماء حسنة، يسمى بها. والثاني : أن كل حسن، يسمي به غيره، فهو راجع في الحقيقة، وهو مسمى به، وكل حسن منسوب إليه.
وقوله تعالى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ﴾ اختلف أهل التأويل في ذلك :
قال بعضهم :﴿ ولا تجهر بصلاتك ﴾ أي لا تجعل صلاتك في مكان غيظا للمشركين ﴿ ولا تخافت بها ﴾ أي ولا تسرعن أصحابك، فَتٌُخْفِيَ عليهم، لكن ابتغ ﴿ بين ذلك سبيلا ﴾.
وقال بعضهم : لا تجعل كل صلاتك في جماعة ﴿ ولا تخافت بها ﴾ ولا ( تجعلها )١٢ كلها في غير جماعة ﴿ وابتغ بين ذلك سبيلا ﴾ ولكن اجعل بعضها بالجماعة وبعضها لا بالجماعة.
وقال بعضهم :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ﴾ أي لا تجاوز الحد في الأمور والأعمال التي أمرتك بها، ولا تُقَصِّرها عن الحد الذي حَدَّدْتُ لك فيها، ولكن ابتغ ﴿ بين ذلك سبيلا ﴾.
وقال بعضهم :﴿ ولا تجهر بصلاتك ﴾ مُرآة للناس ﴿ ولا تخافت بها ﴾ أي لا ( تجعل بها الإخفاء ) ١٣.
وجائز أن يكون قوله :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ﴾ أي لا تجهر بجميع الأذكار التي في الصلاة أو بجميع القراءات التي فيها، ولا تخافت في الكل، ولكن ( اقرأ )١٤ بعضها بالجهر وبعضها بالمخافتة.
وقال بعضهم : إنه ( صلى الله عليه وسلم )١٥ كان يجهر في صلاته بحيث يسمعه المشركون فيؤذونه، فأمره ألا يجهرها لئلا ُيؤذوه ﴿ ولا تخافت بها ﴾ كل المخافتة ( فلا يسمع أصحابك، ولا يأخذوا )١٦ قراءتك.
وقال بعضهم : ذلك في الدعاء إلى الله وتوحيده في الحق والتبليغ والمسألة وأمثاله.
ولكن لا يجوز أن يقطع التأويل في هذا وأمثاله، فيقال : أنه كان كذا إلا بخبر منه ثابت، لأن الخطاب به خطاب له. فقطع التأويل فيه والقول على شيء واحد شهادة على الله وعلى رسوله، ولا تحل الشهادة على الله ولا على رسوله إلا بالإحالة أنه أراد ذلك، والله أعلم.
١ في الأصل و. م : إما..
٢ في الأصل و. م : وإما بالكتب..
٣ ساقطة من الأصل و. م..
٤ في الأصل و. م : حيث..
٥ في الأصل و. م : أوجب..
٦ في الأصل و. م: صفته..
٧ في الأصل و. م: ما..
٨ في الأصل و. م: و إلا قوله..
٩ في الأصل و. م: غيره..
١٠ من م، في الأصل: أسماء..
١١ في الأصل و. م: أعمال صالحة وأمور حسنة..
١٢ ساقطة من الأصل و. م..
١٣ في الأصل و. م : تعجب بها للإخفاء..
١٤ ساقطة من الأصل و. م..
١٥ ساقطة من الأصل و. م..
١٦ في الأصل و. م: فيسمع أصحابك فيأخذوا..
جماعة.
(وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)، ولكن اجعل بعضها بالجماعة، وبعضها لا بالجماعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا)، أي: لا تجاوز الحد في الأمور والأعمال التي أمرتك بها، ولا تقصرها عن الحد الذي حددت لك فيها، ولكن ابتغ بين ذلك سبيلًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ) مراءاةً للناس، (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) أي: ولا تعجب بها للإخفاء.
وجائز أن يكون قوله: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) أي: لا تجهر بجميع الأذكار التي في الصلاة أو بجميع القراءات التي فيها ولا تخافت بالكل، ولكن بعضها بالجهر وبعضها بالمخافتة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنه كان يجهر في صلاته بحيث يسمعه المشركون فيؤذونه، فأمره ألا يجهر بها لئلا يؤذوه، ولا يخافت كل المخافتة، فيسمع أصحابك فيأخذوا قراءتك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك في الدعاء إلى اللَّه وتوحيده في حق التبليغ، والمسألة وأمثاله، ولكن لا يجوز أن يقطع التأويل في هذا وأمثاله، فيقال: إنه كان كذا إلا بخبر منه ثابت؛ لأن الخطاب به خطاب له، فقطع التأويل فيه والقول على شيء واحد شهادة على الله وعلى رسوله، ولا تحل الشهادة على اللَّه، ولا على رسوله إلا بالإحاطة أنه أراد ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (١١١)
ذكر في هذه الآية جميع ما يقع به الحاجة إلى التوحيد؛ لأن من نفى التوحيد وأنكره إنما نفى لأحد الوجوه التي ذكر:
منهم من قال له بالولد، وهم اليهود والنصارى.
ومنهم من قال بالشريك، وهم مشركو العرب.
ومنهم من قال له بالولي والعون من الذل وهم الثنوية وغيرها حيث قالوا: أنشأ هذا النور؛ ليستعين به على التخلص من ويلات الظلمة فنزه نفسه، وبرَّأها عن جميع ما قالوا
130
فيه ونسبوا إليه؛ لأن الولد في الشاهد إنما يطلب، إمَّا للتسلي، وإمّا للاستئناس والله يتعالى عن أن يقع له الحاجة إلى ذلك، ويتعالى عن أن يكون له شريك لأن الشركاء في الشاهد؛ إنما تُتخذ للمعونة، والتقوي بهم على بعض ما لهم، وما هم فيه، والولي من الذل إنما يتخذ في الشاهد؛ للاستنصار والاستعانة على أعدائه، واللَّه يتعالى عن أن تقع له الحاجة إلى شيء من ذلك فنفى عنه جميع معاني الخلق وجميع ما ينسب إليهم ويضاف ويصفون به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا):
أي: صفه بما وصف نفسه، وانفِ عنه جميع معاني الخلق فيكون في ذلك تعظيمه وتكبيره.
أو يقول: اعرفه بما ذكر، فإذا عرف هكذا فقد عظمته وكبرته.
والولد في الشاهد إنما يتخذ، ويطلب لوجوه:
أحدها: للتسلي به والاستئناس عن وحشة.
أو لحاجة تمسه فيستعين به على قضائها.
أو لذل يخافه من عدو له فيستنصر به عليه، واللَّه يتعالى عن أن يصيبه شيء من ذلك.
وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ)
أي: لم يتخذ الأولياء؛ ليستعزز بهم من الذل، بل إنما اتخذ أولياء رحمة منه، وفضلًا؛ ليتعززوا هم بذلك ويكونوا عظماء، وذكر: (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) وقد خلق الأولاد للخلق؛ ليعلم أن ليس في خلق الشيء ما يصلح أن يتخذ لنفسه.
وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) ولو كان على ما تقوله المعتزلة، لكان له شريك في الملك على قولهم؛ لأنهم يقولون: إن اللَّه لم يرد لأحد من الكفرة الملك لهم وإنما أراد لأوليائه؛ فعلى قولهم صار الفراعنة شركاء له في الملك حيث لم يكن ما أراد هو وكان ما أرادوا هم، واللَّه أعلم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *
131
Icon