ﰡ
وزاد في " الأعراف " صاداً ﴿ المص ﴾ [ الأعراف : ١ ] لقوله بعده ﴿ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ... ﴾ [ الأعراف : ٢ ] الآية.
وفي " الرعد " راءً ﴿ المر ﴾ [ الرعد : ١ ] لقوله بعده ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ... ﴾ [ الرعد : ٢ ] الآية.
واعلم أن حرف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهي سرّ القرآن.
وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها.
وقيل : هي معلومات المعاني، وعليه :
فقيل : كل حرف منها أول اسم من أسماء الله. فالألف من " الله " واللام من " اللطيف " والميم من " المجيد " والصّاد من " صادق " والراء من " رؤوف ".
وقيل : هي أقسام أقسم الله بها لشرفها.
وقيل : غير ذلك وأنّ تسميتها حروفا مجاز، وإنما هي أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة ( ٢ ).. وعليه فقيل : مُعْربة، وقيل : مبيّنة، وقيل : لا، ولا ( ٣ )، وقد بيّنت ذلك في غير هذا الكتاب.
٢ - الأرجح في الحروف المقطعة ما ذهب إليه المحققون من أئمة التفسير أن هذه الحروف الهجائية للتنبيه على "إعجاز القرآن" وهو اختيار ابن كثير وجمع من العلماء الأعلام، وقد وضحنا هذا الرأي في كتابنا الجديد "صفوة التفاسير" فارجع إليه في أول سورة البقرة ١/٢٥..
٣ - أي ليست معربة ولا مبنيّة..
فإن قلتَ : كيف نفى الرَّيْب، وكم ضالِّ ارتاب فيه ؟
قلتُ : المراد أنه ليس محلا للرّيب( ١ )، أو لا ريب فيه عند الله، ورسوله، والمؤمنين.
أو ذلك نفيٌ بمعنى النّهي، أي لا ترتابوا فيه لأنه من عند الله، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا... ﴾ [ الحج : ٧ ].
فإن قلت : كيف قال :﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ] وفيه تحصيل الحاصل، لأن المتقين مهتدون ؟
قلتُ : إنما صاروا متّقين باستفادتهم الهدى من الكتاب، أو المراد بالهدى الثبات والدوام عليه( ٢ ).
أو أراد الفريقين واقتصر على المتقين، لأنهم الفائزون بمنافع الكتاب، وللإيجاز كما في قوله تعالى :﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ... ﴾ ( ٣ ) [ النحل : ٨١ ].
٢ - تخصيص المتقين بالذكر للتشريف لهم والتكريم، لأنهم هم المنتفعون بهديه وضيائه..
٣ - أي والبرد فحذف الثاني للإيجاز ومعنى الآية: جعل لكم ثيابا تدفع عنكم ضرر الحرّ والبرد، فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر..
فإن قلتَ : لمَ ذكر ذلك مع قوله قبلُ «هدى للمتقين » ؟
قلتُ : لأنه ذكر هنا مع " هدى " فاعله، بخلاف ثمّ.
فإن قلتَ لم حُذف الواو هنا، وأُثبتت في " يس " ؟
قلتُ : لأن ما هنا جملة هي خبر عن اسم " إنّ " وما هناك جملة عُطفت على أخرى. ( ١ )
فإن قلتَ : ما فائدة بعثة الرسل بعد قوله ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ﴾ الآية ؟
قلتُ : لئلا يكون للناس حجة، أو لأن الآية نزلت في قوم «لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية » فبعثة الرسل انتفع بها آخرون فآمنوا.
إن قلتَ : كيف قاله، مع أن المخادعة إنما تتصوّر في حق من تخفى عليه الأمور، ليتمّ الخداع من حيث لا يعلم، ولا يخفى على الله شيء.
قلتُ : المراد يخادعون رسول الله، إذ معاملة اللهِ معاملةُ رسوله، كعكسه لقوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ [ الفتح : ١٠ ]، وقوله :﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [ النساء : ٨٠ ] أو سمّى نفاقهم خداعا لشَبهِهِ( ١ ) بفعل المخادع.
إن قلتَ : كيف خصّ الفساد بالمنافقين، مع أن غيرهم مفسد ؟
قلتُ : المراد بالفساد الفسادُ بالنفاق، وهم كانوا مختصّين به.
إن قلتَ : الاستهزاء من باب العَبَث والسخرية، وذلك قبيح على الله تعالى ومنزّه عنه ؟
قلتُ : سمّى جزاء الاستهزاء استهزاءً مشاكلة( ١ ) كقوله ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] والمعنى أن الله يجازيهم جزاء استهزائهم.
إن قلتَ : ما فائدة قوله : " من السماء " مع أن الصيّب لا يكون إلا منها ؟
قلتُ : فائدته أنه عرّف السماء، وأضاف الصيّب إليها، ليدلّ على أنه من جميع آفاق السّماء، لا من أفق واحد، إذ كلّ أفق يسمى سماء، ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ﴾( ١ ) [ الأنعام : ٣٨ ].
قوله تعالى :﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ... ﴾ [ البقرة : ١٩ ].
عبّر بالأصابع عن أناملها( ٢ )، والمراد بعضها لأنهم إنما جعلوا بعض أناملها.
٢ - هذا من المجاز المرسل، وهو من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء..
فإن قلتَ : المشركون لم يكونوا عالمين بذلك، بل كانوا يعتقدون أن له أندادا ؟
قلتُ : المراد وأنتم تعلمون أن الأنداد لا تقدر على شيء مما مرّ قبل ذلك، أو أنتم تعلمون أنه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد.
إن قلتَ : لم ذكرت " مِن " هنا وحذفت في سورتي " يونس " و " هود " ؟
قلتُ : لأن " مِنْ " هنا للتبعيض، أو للتّبْيين، أو زائدة على قول الأخفش، بتقدير رجوع الضمير في " مثله " إلى " ما " في قوله :«ممّا نزّلنا » وهو الأوجه.
والمعنى على الأخير : فأتوا بسورة مماثلة للقرآن، في البلاغة وحسن النّظم، وعلى الأوّلَيْن : فأتوا بسورة مما هو على صفته في البلاغة، وحسن النظم، وحينئذ فكأنه منه، فحسن الإتيان ب " مِنْ " الدالة على ما ذكر.
بخلاف ذاك، فإنه قد وصف السور بالافتراء، صريحا في " هود "، وإشارة في " يونس " فلم يحسن الإتيان ب " من " الدالة على ما ذكر، لأنها حينئذ تُشعر بأن ما بعدها من جنس ما قبلها، فيلزم أن يكون قرآنا وهو محال.
ويجوز جعل " مِنْ " للابتداء، بتقدير رجوع الضمير في " مثله " إلى عبدنا أي " محمد " والمعنى : فأتوا بسورة مبتدأة من شخص مثل محمد( ١ ).
قوله تعالى :﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣ ].
أي من غيره، وهو بهذا المعنى في جميع ما جاء منه في القرآن. وقد يستعمل بمعنى " قبل " كقولهم : المدينة دون مكة، ولا أقوم من مجلسي دون أن تجيء، ولا أفارقك دون أن تعطيني حقّي.
إن قلتَ : كيف عرّف النار هنا، ونكّرها في التحريم( ١ ) ؟
قلتُ : لأن الخطاب في هذه مع المنافقين، وهم في أسفل النّار المحيطة بهم، فعُرِّفت بلام الاستغراق، أو العهد الذهني، وفي تلك مع المؤمنين، والذي يعذَّب من عصاتهم بالنار، يكون في جزء من أعلاها، فناسب تنكيرها لتقليلها.
وقيل : لأن تلك الآية نزلت قبل هذه بمكة، فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة معروفة فنكّرها ثم، وهذه نزلت بالمدينة فعُرّفت، إشارة إلى ما عرفوه أولا. ورُدّ هذا بآن " آية التحريم " نزلت بالمدينة بعد الآية هنا.
إن قلتَ : كيف شرط في دخول المؤمن الجنة العمل الصالح، مع أن مجرّد الإيمان كاف في دخولها ! ؟
قلتُ : المراد بالعمل الصالح : الإخلاص في الإيمان، أو الثبات عليه إلى الموت( ١ ).
أو المراد بدخول الجنة دخولها مع الفائزين.
أي قوما يخلف بعضهم بعضا.
أو " آدم " بمعنى خليفة عني بأمري.
أو خليفة عن ملائكتي أو عن الجن.
إن قلتَ : لم قال هنا " وَكُلاَ " بالواو، وفي الأعراف " فَكُلاَ " بالفاء ؟
قلتُ : لأنّ " اسكن " هنا معناه استقرّ، لكون " آدم " و " حواء " كانا في الجنة، والأكل يُجامع الاستقرار غالبا، فلهذا عطف بالواو( ١ ) الدالة على الجمع.
والمعنى : اجمعا بين الاستقرار والأكل.
وفي الأعراف : معناه أدخل لكونهما كانا خارجين عنها، والأكل لا يكون مع الدخول عادة بل عقبه، فلهذا عطف بالفاء الدالة على التعقيب... وقد بسطت الكلام على ذلك في الفتاوى.
كرّر الأمر بالهبوط للتوكيد.
أو لأن الهبوط الأول من الجنة، والثاني من السماء.
أو لأن الأول إلى دار الدنيا، يتعادون فيها ولا يخلدون، والثاني إليها للتكليف، فمن اهتدى نجا، ومن ضلّ هلك.
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ... ﴾ [ البقرة : ٣٨ ].
وفي " طه " ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ ﴾ [ طه : ١٢٣ ].
إن قلتَ : لمَ عبّر هنا ب " تبع " وثَمَّ ب " اتَّبَع " مع أنهما بمعنى ؟
قلتُ : جريا على الأصل هنا، وموافقة لقوله :«يومئذ يَتَّبِعون الدّاعي » ثَمَّ( ١ ).
ولأن القضية لما بُنيت من أول الأمر على التأكيد بقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [ طه : ١١٥ ] ناسب اختصاصها بالزيادة المفيدة للتأكيد.
إن قلتَ : لا تَغَاير بينهما، فكيف عطف أحدهما على الآخر ؟
قلتُ : بل هما متغايران لفظا كما في قوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾( ١ ) [ البقرة : ١٥٧ ].
أو لفظا ومعنى، لأن المراد بلبسهم الحقّ بالباطل، كتابتهم في التوراة ما ليس فيها، وبكتمانهم الحقّ قولهم : لا نجد في التوراة صفة محمد.
إن قلتَ : ما فائدة ذكر الثاني، مع أنّ ما قبله يُغني عنه ؟
قلتُ : لا يغني عنه، لأنّ المراد بالأول : أنهم ملاقوا ثواب ربهم، على الصبر والصلاة.
وبالثاني : أنهم موقنون بالبعث، وبحصول الثواب على ما ذُكر.
فإن قلتَ : ما الحكمة في تقديم الشّفاعة هنا، وعكسه فيما يأتي( ١ ) ؟
قلتُ : للإشارة هنا إلى من ميله إلى حبّ نفسه أشدّ منه إلى حبّ المال، وثَمَّ إلى من هو بعكس ذلك.
فإن قلتَ : ما الحكمة في ترك العاطف هنا، وذكره في سورة إبراهيم( ١ ) ؟
قلتُ : لأن ما هنا من كلام الله تعالى، فوقع تفسيرا لما قبله.
وما هناك من كلام موسى وكان مأمورا بتعداد المحن في قوله :﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾ [ إبراهيم : ٥ ] فعدّد المحن عليهم، فناسب ذكر العاطف( ٢ ).
٢ - السرّ في ترك العاطف في البقرة، أن اللفظ جاء تفسيرا لما سبق من قوله: ﴿سوء العذاب﴾ فكان ذلك كالتوضيح والبيان له، أما في إبراهيم فهو غير تفسير ولا بيان، لأن المعنى أنهم يعذبونهم بأنواع العذاب وبالذبح أيضا فهو نوع آخر من العذاب..
إن قلت : ما الحكمة في ذكر " كانوا " هنا وفي الأعراف، وفي حذفها في آل عمران ؟
قلتُ : لأن ما في السورتين، إخبار عن قوم ماتوا وانقرضوا، فناسب ذكرها، وما في " آل عمران " مثل ضربه تعالى لأعمالهم بقوله :﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ ﴾( ١ ) [ آل عمران : ١١٧ ] إلى آخره.
فإن قلتَ : ما الحكمة في العطف بالفاء هنا، وفي الأعراف بالواو ؟
قلتُ : لأنه عبّر هنا بالدخول، وهو سريع الانقضاء، فلا يناسبه مجامعة الأكل له، وإنما يناسبه تعقيبه له، فعطف بالفاء. وعبّر بالأعراف بالسكون( ١ )، أي الاستقرار وهو ممتدّ يجامعه الأكل، فعطف بالواو.
قوله تعالى :﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا... ﴾ ( ٢ ) [ البقرة : ٥٨ ].
إن قلتَ : لم قدّمه على قوله :﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ [ البقرة : ٥٨ ] وعكس في الأعراف.
قلتُ : لأنه هنا وقع بيانا لكيفية الدخول المذكور قبله، بقوله :﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ... ﴾ بخلافه ثَمّ.
قوله تعالى :﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ البقرة : ٥٨ ].
إن قلتَ : لما ذكر هنا بالواو، وفي الأعراف بدونها ؟
قلتُ : لأنّ اتصاله هنا أشدّ، لإسناد القول فيه إلى الله تعالى في قوله :﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا ﴾. بخلافه ثَمَّ، فالأليق به حذف الواو ليكون استئنافا.
٢ - في البقرة قال تعالى: ﴿وادخلوا الباب سجّدا وقولوا حِطّة﴾ وفي الأعراف قال: ﴿وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا﴾ فقدّم وأخّر، وقد بيّن الشيخ السّر في ذلك، وهو أنه في البقرة جاء الخطاب من الله ﴿وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية﴾ بينما في الأعراف جاء بصيغة الغائب ﴿وإذ قيل﴾ ولذلك عطف بالواو في البقرة ﴿وسنزيد المحسنين﴾ فتدبّره فإنه دقيق..
إن قلتَ : هم لم يبدّلوا غير الذي قيل لهم، وإنما بدّلوه نفسه، لأنهم قيل لهم قولوا :﴿ حِطَّةٌ ﴾ فقالوا : حنطة.
قلتُ : بل بدّلوا غير الذي قيل لهم، لأن معناه : فبدّل الذين ظلموا قولا قيل لهم، فقالوا قولا غير الذي قيل لهم.
وزاد في الأعراف( ١ ) ﴿ مِّنْهُمُ ﴾ موافقة لقوله قبله ﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ] ولقوله بعده :﴿ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ].
قوله تعالى :﴿ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا... ﴾ [ البقرة : ٥٩ ].
عبّر بدله في الأعراف بقوله :﴿ فَأَرْسَلْنَا ﴾ [ الأعراف : ١٣٣ ] لأن لفظ " الرسول " و " الرسالة " كثُر ثَمَّ، فناسب التعبير بأرسلنا.
قوله تعالى :﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [ البقرة : ٦٠ ].
إن قلتَ : العُثوّ : الفساد، فيصير المعنى : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين.
قلتُ : لا محذور فيه، غايته أن ﴿ مُفْسِدِينَ ﴾ حال من فاعل ﴿ تَعْثَوا ﴾ فهي حال مؤكدة كما في قوله :﴿ ثُمَّ ولَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾ [ التوبة : ٢٥ ] أو حال مؤسسة إذ " العُثوّ " لكونه التمادي في الفساد، أخصّ من الفساد. فالمعنى – كما قال الزمخشري- لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم.
إن قلتَ : كيف قالوا :﴿ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ وطعامهم كان طعامين " المَنُّ " و " السَّلوى " ؟.
قلتُ : المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل( ١ )، أو بالطعامين أنهما ضرب واحد، لأنهما من طعام أهل التلذّذ والتّرف، أو أنهما كانا يؤكلان مختلطين.
قوله تعالى :﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ البقرة : ٦١ ]. عرّف الحق هنا، ونكّره في " آل عمران " ( ٢ ) و " النساء " ! لأن ما هنا لكونه وقع أولا إشارة إلى " الحق " الذي أذن الله أن يقتل النفس به، وهو قوله :﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [ الإسراء : ٣٣ ] فكان التعريف أولى، وهناك أُريد به " بغير الحق " ( ٣ ) في معتقدهم ودينهم، فكان بالتنكير أولى.
فإن قلتَ : قتل النبيين لا يكون إلا بغير الحقّ، فما فائدة ذلك ؟
قلتُ : فائدته التصريح بصفة فعلهم القبيح، لأنه أبلغ في الشناعة. ( ٤ )
فإن قلتَ : لِمَ مكّن الكافرين من قتل الأنبياء ؟
قلتُ : كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمن يقتل في الجهاد من المؤمنين. ( ٥ )
٢ - في قوله تعالى: ﴿إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق.. ﴾ آل عمران: ٢١..
٣ - في قوله تعالى: ﴿وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق﴾ النساء: ١٥٥..
٤ - أقول: لو قتل اليهود أحد المؤمنين لكان في منتهى الإجرام والشناعة، فكيف بقتلهم الأنبياء والمرسلين ؟ ولذلك شنّع عليهم القرآن الكريم..
٥ - ليس في قتل الأنبياء ما يعارض وعد الله لهم بالنصر في قوله: ﴿إنا للنصر رسلنا﴾ وقوله: ﴿إنهم لهم المنصورون﴾ فالقتل كرامة من الله لهم لينالوا ثواب الشهداء، والنصر إنما هو بغلبة الحجة، وانتشار دينهم، وانتصار مبادئهم، وقهر عدوهم..
فإن قلتَ : لم قدَّم النّصارى على الصّابئين هنا، وعكس في المائدة والحج ؟
قلتُ : لأن النصارى مقدّمون على الصابئين في الرتبة، لأنهم أهل كتاب، فقُدِّموا في " البقرة " لكونها أولا. والصّابئون مقدّمون على النصارى في الزمن، فقُدّموا في " الحج "، ورُوعي في " المائدة " المعنيان، فقُدّموا في اللفظ وأخّروا في المعنى، إذِ التقدير : والصابئون كذلك كما في قول الشاعر :
فمنْ يَكُ أمْسَى في المدينة رَحْلُه فإنّي وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ
إذِ التقدير : فإني لغريب بها وقيّار كذلك.
فإن قلتَ : كيف أُمروا بذلك مع أنه ليس في وسعهم ؟
قلتُ : هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب، كقوله :﴿ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ البقرة : ١١٧ ].
إن قلتَ : " بَيْنَ " تقتضي شيئين فأكثر، فكيف دخلت على " ذلك " وهو مفرد ؟
قلتُ : " ذلك " يُشار به إلى المفرد، والمثنّى، والمجموع، ومنه قوله تعالى :﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾ [ يونس : ٥٨ ].
وقوله :﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [ آل عمران : ١٨٦ ].
وقوله :﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ... ﴾ [ آل عمران : ١٤ ].
ثم قال :﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [ آل عمران : ١٤ ].
فالمعنى : عوان بين الفارض والبكر. ( ١ )
فإن قلتَ : ما فائدة ذكر اليد، مع أن الكتابة لا تكون إلا بها ؟
قلتُ : فائدته تحقيق مباشرتهم ما حرّفوه بأنفسهم، زيادة في تقبيح فعلهم.
إن قلتَ : لم قال هنا " معدودة " وفي آل عمران " معدودات " ( ١ ) ؟
قلتُ : إشارة إلى الجمع بين الأصل والفرع، إذِ الأصل في الجمع بالألف والتّاء إذا كان واحده مذكّرا، أن يُقتصر في الوصف على تأنيثه مفردا كقوله تعالى :﴿ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴾ [ الغاشية : ١٣ ] وقد يأتي " سرر مرفوعات " على الجمع، فهو فرع عن الأول، فذكر في " البقرة " على الأصل، لكونها أول، وفي " آل عمران " على الفرع.
فإن قلتَ : التولّي والإعراض واحد، فلم جُمع بينهما ؟
قلتُ : لا محذور فيه لأن قوله :﴿ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾( ١ ) حال من فاعل توليتم، فهي حال مؤكدة كما في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مُّدْبِرِينَ ﴾. أو مؤسسة إذِ المعنى : ثم وليتم عن الوفاء بالعهد، وأنتم معرضون عن النظر والفكر في عاقبة ذلك.
فإن قلتَ : لم قال هنا " لَنْ " وفي الجمعة " لا " ( ١ ) ؟
قلتُ : لأن " لن " أبلغ في النفي من " لا " حتى قيل : إنها لتأبد النفي، ودعواهم في البقرة بالغة قاطعة، وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص( ٢ )، فناسب ذكر " لن " فيها.
ودعواهم في " الجمعة " قاصرة مردودة، وهي زعمهم أنهم أولياء الله، فناسب ذكر " لا " فيها.
٢ - أشار الشيخ إلى قوله تعالى: ﴿قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين﴾.
فإن قلتَ : لمَ خُصّوا بالذكر، مع دخولهم في الناس في قوله تعالى :﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ [ البقرة : ٩٦ ] ؟
قلتُ : لشدة حرصهم على الحياة، لإنكارهم البعث.
إن قلتَ : لم قال هنا " لا يؤمنون " وفي غيره " لا يعقلون "، " لا يعلمون " ؟
قلتُ : لأن الآية هنا نزلت في كفار نقض بعضهم العهد، وجحد بعضهم الحقّ، ولم يجتمع هذان الأمران في غير هذه السورة.
فإن قلتَ : هذا يدلّ على جواز تعليم السحر، فلا يكون حراما ! ؟
قلتُ : الحرام تعليمه ليُعمل به، لا ليُجتنب فإنه جائز، كما لو سُئل إنسان عن الزّنا، لزمه بيانه للسائل ليعرفه فيجتنبه( ٢ ).
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ إلى :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ].
إن قلتَ : كيف أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم، ونفاه عنهم آخرا ؟
قلتُ : المثبت لهم علمهم بأن من اختار السِّحر، ماله في الآخرة من نصيب، والمنفيّ عنهم علمهم بحقيقة ما يصيرون إليه فيها.
أو المثبت لهم العلم مطلقا، والمنفيّ عنهم العقل، لأنه أصل العلم، فإذا انتفى انتفى( ٣ ).
٢ - هذا كما قال الشاعر:
عرفت الشـرَّ لا للشـرِّ لـكـن لـتـوقّـيـه
ومن لا يعرفِ الشرَّ من الـنـاس يقـعُ فـيـهِ.
٣ - أي إذا انتفى عنهم العقل انتفى عنهم العلم، والآية جارية على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة، من أن العالم بالشيء إذا لم يعمل به، ينزّل منزلة الجاهل به..
أي من السِّحر، وهو خبر لمثوبة.
فإن قلتَ : " خير " أفعل تفضيل، ولا خير في السِّحر ؟
قلتُ : ليس " خير " هنا أفعل تفضيل، بل هو لبيان أنّ المثوبة فاضلة كما في قوله تعالى ﴿ أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ ﴾( ١ ) [ فصلت : ٤٠ ] ؟ كما يقال : الرجوع إلى الحق خير من التّمادي في الباطل. أو هو أفعل تفضيل، وخاطبهم الله على اعتقادهم أن تعلّم السّحر خير، نظرا منهم إلى حصول مقصودهم الدنيوي به.
ومعناه ثَمَّ " الدِّينُ " لقوله تعالى قَبلُ :﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ [ آل عمران : ٧٣ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [ آل عمران : ١٩ ].
قوله تعالى :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ [ البقرة : ١٢٠ ].
إن قلتَ : ما الحكمة في ذكر " الذي " هنا، وذكر " ما " في قوله بعد :«من بعد ما جاءك من العلم » وفي الرعد :﴿ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ ﴾ [ الرعد : ٣٧ ] ؟
قلتُ : المراد بالعلم في الآية الأولى " العلم الكامل " وهو العلم بالله وصفاته، وبأنّ الهدى هدى الله، فكان الأنسب ذكر " الذي " لكونه في التعريف أبلغ من " ما ".
والمراد بالعلم في الثانية( ٢ ) والثالثة( ٣ ) " العلم بنوع " وهو في الثانية العلم بأن قبلة الله هي الكعبة، وفي الثانية الحكم العربي، فكان الأنسب ذكر " ما ".
ولقلّة النوع في الثانية، بالنسبة إليه في الثالثة، زيد قبل " ما " في الثانية " من " الدالة على التّبْعيض. ( ٤ )
٢ - الآية الثانية هي قوله تعالى: ﴿ولئن اتّبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين﴾ البقرة: ١٤٥..
٣ - الآية الثالثة هي قوله تعالى: ﴿وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق﴾ الرعد: ٣٧..
٤ - لقوله تعالى: ﴿ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم﴾ فزاد هنا في البقرة "من" المفيدة للتبعيض، بخلاف آية الرعد فلم تُذكر فيها "من"..
فإن قلتَ : لم نكّر البلد هنا وعرّفه في إبراهيم ؟
قلتُ : لأن الدعوة هنا : كانت قبل جعل المكان بلداً دائم الأمن في الأول، وبلداً آمنا في الثاني.
ذكره هنا وفي " الجمعة " بترك الأنفس إيجازا، وذكرها في " آل عمران " في قوله ﴿ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [ آل عمران : ١٦٤ ] لأن الله تعالى منّ على المؤمنين فيها، فجعله من أنفسهم ليكون موجب الجنة أظهر.
ونظيره ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] لمّا وصفه بقوله :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] الآية، جعله من أنفسهم، ليكون موجب الإجابة والإيمان به أظهر.
إن قلتَ : إنّ الموت ليس في قدرة الإنسان حتى ينهى عنه ؟
قلتُ : النهي في الحقيقة، إنما هو عن عدم إسلامهم حال موتهم، كقولك : لا تُصلّ إلا وأنت خاشع، إذ النهي فيه إنما هو عن ترك الخشوع حال صلاته، لا عن الصلاة.
والنكتة في التعبير بذلك، إظهار أن موتهم لا على الإسلام، موت لا خير فيه، وأن الصلاة التي لا خشوع فيها ك " لا صلاة " !
إن قلتَ : لم قال هنا " قولوا " و " إلينا " وفي آل عمران :﴿ قُل ﴾ و " علينا " ( ١ ).
قلتُ : لأن " إلى " للانتهاء، وهو لا يختص بجهة، والكتب منتهية إلى المؤمنين بعد نزولها على الأنبياء، والخطاب هنا للمؤمنين لقوله :﴿ قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ و " على " للاستعلاء وهو مختص بالأنبياء، وأفضلهم نبيّنا وهو المخاطب ثَمَّ بقوله :﴿ قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ [ آل عمران : ١٨٤ ] فكان الأنسب هنا وثَمَّ ما ذُكر. وكرّر " وما أنزل " لاختلاف المنزّل إلينا، والمنزّل على إبراهيم وما عُطف عليه.
قوله تعالى :﴿ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ].
ذكر " ما أوتي " هنا، وحذفه في " آل عمران " ( ٢ ) اختصار، كما هو الأنسب بالآخر، أو لأن الخطاب هنا عام، وثَم خاص كما مر فكان الأنسب ذكره في الأول، وحذفه في الثاني.
فإن قلتَ : لم قال هنا ﴿ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ]، ولم يقل :«وما أنزل إلى موسى » كما قال قبل :﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ] ؟
قلتُ : للاحتراز عن كثرة التكرار.
فإن قلتَ : لم كرّر «وما أوتي » هنا، وحذفه في آل عمران ؟
قلتُ : إنما حذفه ثَم للاغتناء عنه بقوله قبله :﴿ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ﴾ [ آل عمران : ٨١ ].
٢ - في قوله تعالى ﴿وما أوتي موسى وعيسى والنبيّون من ربهم... ﴾ آية رقم (٨٤)..
فإن قلتَ : إن أريد ب ﴿ مَا آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ الله تعالى، فالله لا مثل له، أو دين الإسلام فكذلك ؟
قلتُ : القصد بالآية إنما هو التعجيز كما في قوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣ ] أو كلمة " مثْلِ " زائدة للتوكيد كما في قوله :﴿ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ﴾ [ يونس : ٢٧ ] أو الباء زائدة كما في قوله ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ [ مريم : ٢٥ ] و " ما " مصدريّة والمعنى بمثل إيمان من آمنتم به وهو الله، أو دين الإسلام.
إن قلتَ : كيف قال :﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] وهو لم يزل عالما بذلك ؟
قلتُ : هذا ونحوه باعتبار التعلّق، والمعنى : ليتعلّق علمنا به موجودا، أو المعنى : ليعلم رسولنا والمؤمنون، لأنهم أخصّاؤه، أو لتميّز الثابت عن المتزلزل، كقوله ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [ الأنفال : ٣٧ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ... ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ].
" كان " للماضي وهو هنا للحال، وتأتي في القرآن لخمسة معان :
أ- للحال ومنه ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] و ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [ الأحزاب : ٩ ].
ب- وللماضي المنقطع ومنه ﴿ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾ [ النمل : ٤٨ ] وهو الأصل في معانيها.
ج- وللاستقبال ومنه ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [ الإنسان : ٧ ].
د- وللدوام ومنه ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [ الفتح : ٤ ].
ه- وبمعنى صار ومنه ﴿ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾( ١ ) [ البقرة : ٣٤ ].
فإن قلتَ : هذا يقتضي عدم رضا النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى بيت المقدس، مع أن التوجه إليه كان بأمر الله ؟
قلتُ : المراد بالرضا هنا رضا المحبة بالطبع، لا رضا التسليم والانقياد لأمر الله.
قوله تعالى ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] كُرّر ثلاث مرات، لأن الأول في المسجد الحرام، والثاني خارجه، والثالث خارج البلد( ١ )، وعليها ينزّل قوله قبل كلّ منها ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ﴾ [ البقرة : ١٤٩ ].
وفي الأنعام :﴿ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ] فناسب التوكيد فيهما بالنون.
إن قلتَ : كيف يكون للظالمين من اليهود حجّة على المؤمنين ؟
قلتُ : حجّتهم قولهم : ما تحوّل محمد عن الكعبة، إلا أنه بدا له الرجوع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم( ١ ) ! !
وهذا باطل، وإنما سمي حجّة كقوله :﴿ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ ﴾ [ الشورى : ١٦ ] لشبهه لها صورة، فالمعنى إلا أن يقولوا ظلما وباطلا، كقولك لرجل : ما لك عندي حقّ إلا أن تظلم أي إلا أن تقول الباطل.
قوله تعالى :﴿ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٥٠ ] عطف على قوله :﴿ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾.
إن قلتَ : ما فائدة ذكر الثاني مع أن الأول يقتضيه ؟
قلتُ : لا نسلّم أنه يقتضيه، لأن المراد بالكفر ستر النّعمة( ١ )، والشّكر لا يقتضي عدمه.
إن قلتَ : كيف قال :﴿ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ وأهل دين من مات كافرا لا يلعنونه ؟
قلتُ : المراد بالناس المؤمنون، أو هم وغيرهم. وأهل دينه يلعنونه في الآخرة، قال تعالى :﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] وقال :﴿ دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ].
إن قلتَ : ما فائدة ذكر ﴿ إِلَهٌ ﴾ مع أن ﴿ وَاحِدٌ ﴾ يغني عنه ؟
قلتُ : فائدته التصريح بالإلهية المقصودة، وإن تضمّنه قوله :﴿ وَاحِدٌ ﴾ كما تضمن انفراده بالقدم، وبصفات ذاته، وبعدم التركيب.
قوله تعالى :﴿ أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٠ ].
إن قلتَ : لم قال هنا " لا يعقلون " وفي المائدة :﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾( ٣ ) [ المائدة : ١٠٤ ] ؟
قلتُ : لأن العلم أبلغ درجة من العقل، بدليل وصف الله به دون العقل، ودعواهم ثَمَّ أبلغ من ههنا، لقولهم ثَمَّ ﴿ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا ﴾ [ المائدة : ١٠٤ ] وههنا ﴿ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا ﴾ فكان الأنسب نفيَ كلٍّ بما يناسبه.
٢ - في لقمان ﴿وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا.. ﴾ آية (٢١)..
٣ - قال تعالى: ﴿قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أو لم كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون﴾ المائدة: ١٠٤..
فإن قلتَ : فما المواجهة ؟
قلتُ : فيه إضمار تقديره : ومثل واعظ الذين كفروا كمثل الراعي( ١ ).
أو للأنعام : أو ومثل الذين كفروا كمثل بهائم الراعي. أو ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الراعي.
قوله تعالى :﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ... ﴾ [ البقرة : ١٧٣ ] ذكره هنا، وترَكه في المواضع الثلاثة المذكورة آنفا اقتصاراً، كما هو الأنسب بالآخر.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ... ﴾ [ البقرة : ١٧٣ ] قاله هنا، وقال في الأنعام ﴿ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] لأن لفظ الربّ تكرّر ثمََّ مرات، مع ذكر ما يحتاج إلى التربية، من الثمار، والحبوب، والحيوان، من " الضأن والمعز والإبل والبقر " في قوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ] الخ، فكان ذكر الربِّ ثَمّ أنسب.
إن قلتَ : كيف نفى عنهم الكلام هنا، وأثبته لهم في قوله :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الحجر : ٩٢ ].
قلتُ : المنفيّ هنا الكلام بلطف وإكرام، والمثبت ثَمَّ سؤال توبيخ وإهانة، أو في القيامة مواقف، ففي موقف لا يكلمهم، وفي موقف يكلمهم. ومن ذلك آية النفي المذكورة( ١ )، مع قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٢ ].
فإن قلتَ : لم خصّ السّميع بالذّكر هنا، والغفران( ١ ) فيما بعده ؟
قلتُ : لقوله هنا، " بعد ما سمعه " وثَمّ ﴿ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾.
فإن قلتَ : ما فائدة ذكر إعادة المريض والمسافر بعد ؟
قلتُ : رفع توهّم نسخ التخيير بين الصوم والفدية بعموم قوله :﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾.
أو أن آيتها الأول نزلت في تخييرهما بين الصوم والفدية، والثانية في تخييرهما بين الصوم والإفطار والقضاء.
إن قلتَ : نجد كثيرا من الدّاعين لا يستجاب لهم ؟
قلتُ : إنما لم يستجب لهم لانتفاء شرط الإجابة، إذ شرطها طاعة الله، وأكل الحلال، وحضور القلب.
أو لأنّ الدّاعي قد يعتقد مصلحته في إجابة دعوته، والله يعلم أن المصلحة في تأخيرها.
أو يعطيه بدلها، فقد روى الحاكم خبر ( ما من مسلم يدعو الله تعالى بدعوة، إلا أتاه الله إيّاها، أو صرف عنه من السّوء مثلها، أو ادّخر له من الأجر مثلها، ما لم يدع بإثم ).
إن قلتَ : لم قال هنا ﴿ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ وقال في التي بعدها ﴿ فَلَا تعْتَدُوهَا ﴾( ١ ) [ البقرة : ٢٢٩ ] ؟
قلتُ : لأن الحدّ هنا نهي وهو قوله :﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ] وما كان من الحدود نهيا، نُهي فيه عن المقاربة.
والحدّ فيما بعد أمر، وهو بيان عدد الطلاق بقوله :﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] الآية، وما كان أمرا نُهي عنه عن الاعتداء وهو مجاوزة الحدّ.
كلّ ما جاء من السؤال في القرآن، أُجيب عنه ب ﴿ قُلْ ﴾ بلا فاء، إلا في قوله في " طه " ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ... ﴾ [ طه : ١٠٥ ] الآية، فبالفاء، لأن الجواب في الجميع، كان بعد وقوع السؤال. وفي " طه " قبله إذ تقديره : إن سئلت عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا( ١ ).
تُرك " كلُّه " هنا، وذكره في الأنفال( ١ )، لأن القتال هنا مع أهل ملّة فقط، وثَمَّ مع جميع الكفار، فناسب ذكره ثَمَّ.
إن قلتَ : ما فائدة ذكره بعد الثلاثة والسبعة، وذكر " كاملة " بعد قوله :﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ ﴾ ؟
قلتُ : فائدة الأول دفع تصحيف سبعة ب " تسعة "، وتأكيد العلم بالعدد تفصيلاً وإجمالا.
وفائدة الثاني التأكيد كما في " حولين كاملين ".
أو معناه كاملة في الثواب مع كونها متفرقة.
أو واقعة بدلا عن الهدي.
إن قلتَ : ما فائدة تكرار الذكر ؟
قلتُ : فائدته التنبيه على إرادة الذّكر، وزيادة فائدة أخرى في الثاني وهي " كما هداكم " بمعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته.
أو الإشارة بالأول إلى الذكر باللفظ، وبالثاني إلى الذكر بالقلب.
إن قلتَ : كيف عطف الإفاضة، مع أنها الإفاضة من عرفات ؟
قلتُ : ثُمّ للترتيب الإخباري لا الزماني.
أو المراد بالإفاضة الثانية، الإفاضة من مزدلفة إلى منى، لا من عرفات.
إن قلتَ : ما فائدة قوله فيها :﴿ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ] مع أنه معلوم بالأولى مما قبله ؟
قلتُ : فائدته رفع ما كان عليه الجاهلية من أن بعضهم قائل بإثم المتعجل، وبعضهم بإثم المتأخر.
أو المعنى : لا إثم على المتأخر في ترك الأخذ بالرخصة، مع أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
فإن قلتَ : التعجيل في اليوم الثاني، لا فيه وفي اليوم الأول، فكيف قال : " في يومين " ( ١ ) ؟
قلتُ : المعنى في مجموع اليومين الصادق بأحدهما وهو الثاني، كما في قوله تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ] وهما لا يخرجان إلا من الملح من العذب.
قال ذلك هنا، وقال في آل عمران :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ﴾ [ آل عمران : ١٤٢ ] الآية.
وفي التوبة :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٦ ] الآية.
غاير بما ذُكر في الثالثة، لأن الخطاب في الأولى للنبي والمؤمنين، وفي الثانية للمجاهدين، وفي الثالثة للمؤمنين.
إن قلت : كيف طابق الجواب السؤال، لأنهم سألوا عن المُنْفَق، فأُجيبوا ببيان المَصْرف ؟
قلتُ : بل طابقه بقوله :﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ [ البقرة : ٢١٥ ] وزاد عليه بيان المصرف بما بعده، فالجواب أعمّ، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الوضوء بماء البحر :( هو الطّهور ماؤه، الحِلّ ميتَتُه ).
ذكر ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ﴾ هنا، وتركه في آخر السورة، وفي الأنعام اختصاراً، للعلم به ممّا هنا.
بفتح التّاء هنا، وبضمها في قوله :﴿ تنكحوا المشركين ﴾.
لأن الأول من " نَكَحَ " وهو يتعدى إلى مفعول واحد، والثاني من " أَنْكَحَ " وهو يتعدى إلى اثنين، الأول في الآية " المشركين "، والثاني محذوف وهو " المؤمنات " ( ١ ).
فإن قلتَ : عزمهم الطلاق مما يُعلم لا مما يُسمع، فكيف قال :«إن الله سميع » ؟
قلتُ : العازم على الشيء يحدّث به نفسه، وحديث النفس مما يسمعه الله ووسوسة الشيطان، مع أن الغالب في عزم الطلاق المقاولة مع الزوجة.
أفعل ههنا بمعنى فاعل( ١ ).
هو هنا بالتخفيف، من " أمسك " وفي الممتحنة بالتخفيف والتشديد( ١ )، لمناسبة تخفيف لما هنا ما قبله من قوله :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] وقوله :﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٣١ ].
ومناسبة تخفيف وتشديد ما هناك ما قبله من قوله :﴿ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ٨ ] وقوله :﴿ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ﴾ [ الممتحنة : ٨ ] وخُفّف في الطلاق قوله :﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [ الطلاق : ٢ ] لمناسبة تخفيفه ما قبله من قوله :﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾ [ الطلاق : ١ ].
قال :﴿ ذَلِكَ ﴾ هنا، وقال في الطلاق :﴿ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ ﴾ [ الطلاق : ٢ ] لما كانت كاف " ذلك " لمجرد الخطاب، لا محلّ لها من الإعراب، جاز الاقتصار على الواحد كما هنا، وكما في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ [ البقرة : ٥٢ ] وجاز الجمع نظرا للمخاطبين كما في الطلاق.
فإن قلتَ : لم ذكر " منكم " هنا، وترك ثَمَّ ؟
قلتُ : لترك ذكر المخاطبين هنا في قوله ذلك، واكتفى بذكرهم ثَمّ فيه.
قال في هذه الآية ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ وقال في الآية الأخرى( ١ ) ﴿ مِن مَّعْرُوفٍ ﴾ [ البقرة : ٢٤٠ ] لأن التقدير في هذه : فيما فعلن في أنفسهن، بأمر الله المعروف من الشرع.
وفي تلك : فيما فعلن في أنفسهن من فعل من أفعالهن معروف جوازه شرعا.
إن قلتَ : هذا يقتضي موتهم مرتين، وهو مناف للمعروف أن موت الخلق مرة واحدة ؟
قلت : لا منافاة إذ الموت هنا عقوبة مع بقاء الأجل، كما في قوله تعالى في قصة موسى :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ [ البقرة : ٥٦ ].
وثَمّ موت بانتهاء الأجل، ولأن الموت هنا خاص بقوم، وثم عام في الخلق كلهم، فيكون ما هنا مستثنى إظهارا للمعجزة.
قوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٤٣ ].
إنما ذكر لفظ الناس هنا وفي " يوسف " ( ١ ) و " المؤمن " ( ٢ ) وتركه في " يونس " ( ٣ ) و " النمل " ( ٤ ).
لأن ما في الثلاثة الأولى، لم يتقدمه كثرة تكرر لفظ " الناس "، فناسب الإظهار، وما في " يونس " تقدّمه ذلك فناسب الإضمار، لئلا تزيد كثرة التكرار، وما في " النمل " تقدّمه إضمار الموحى إليه ومخاطبته فناسب الإضمار، وبعضهم أجاب بما فيه نظر فتركته.
٢ - قال تعالى: ﴿إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون﴾ المؤمن: ٦١..
٣ - قال تعالى: ﴿إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون﴾ يونس: ٦٠..
٤ - قال تعالى: ﴿إن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون﴾ النمل: ٧٣..
كرّره بقوله :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ] تأكيدا، وتكذيبا لمن زعم أن ذلك لم يكن بمشيئة الله.
أي بغير إذن الله لقوله تعالى :﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [ البقرة : ٥٥٢ ] ؟
وقوله ﴿ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [ سبأ : ٢٣ ]
أو لا شفاعة من الأصنام والكواكب التي يعتقدها الكفار.
قوله تعالى :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ].
حصر الظلم في الكافرين( ١ )، لأن ظلمهم أشدّ، فهو حصر إضافيّ، كما في قوله تعالى :﴿ يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [ فاطر : ٢٨ ].
عبّر فيها بالمضارع لا بالماضي مع أن الإخراج قد وُجد.. لمناسبة التعبير به قبله في قوله :﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ] ولأن المضارع يدل على الاستمرار، فيدلّ هنا على استمرار ما ضمنه الإخراج من الله تعالى، في الزمن المستقبل في حق من ذكر.
فإن قلتَ : كيف يخرج الكفار من النور، مع أنهم لم يكونوا في نور ؟
قلتُ : لمقابلة ما ذُكر قبله في المؤمنين، ولأن الكفار هنا هم " اليهود " وقد كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم لما يجدونه من نعته في كتبهم، فلما بُعث كفروا به.
أي بقدرتي على الإحياء، قال له ذلك مع علمه بإيمانه بذلك، ليجيب بما أجاب به، فيعلم السامعون غرضه من طلبه لإحياء الموتى.
قوله تعالى :﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ].
قاله مع أن قلبه مطمئن بقدرة الله تعالى على الإحياء، ليطمئن قلبه بعلم ذلك عيانا، كما اطمأن به برهانا.
أو ليطمئن بأنه اتخذه خليلا، أو بأنه مستجاب الدعوة.
قوله تعالى :﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ].
خصّ الطير بالذكر من سائر الحيوان، لزيادته عليه بطيرانه.
قيل : وكانت الأربعة : ديكا، وطاووسا، ونسرا، وغرابا.
وفائدة : التقييد بالأربعة في الطير، وفي الأجبل( ٢ ) بعده، الجمع بين الطبائع الأربع في الطير، بين مهاب الرياح من الجهات الأربع في الأجبل.
٢ - الأجبُل: الجبال: جمع جَبَل يقال: جبال وأجبُل..
إن قلتَ : كيف مدح المنفقين بترك المنّ، وقد وصف نفسه بالمنّ، كما في قوله تعالى :﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٦٤ ] ؟
قلتُ : المنّ يقال للإعطاء، وللاعتداد بالنعمة واستعظامها، والمراد في الآية المعنى الثاني.
فإن قلت : من المعنى الثاني ﴿ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ [ الحجرات : ١٧ ].
قلتُ : ذلك اعتداد نعمة الإيمان، فلا يكون قبيحا، بخلاف نعمة المال.
على أنه يجوز أن يكون من صفات الله تعالى، ما هو مدح في حقّه، ذم في حقّ العبد، كالجبّار، والمتكبّر، والمنتقم.
فإن قلتَ : لم خصّ النخيل والأعناب بالذّكر، مع قوله بعد :﴿ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَات ﴾ [ البقرة : ٢٦٦ ] ؟
قلتُ : لأن النخيل والأعناب أكرم الشجر، وأكثرها منافع.
ذكر " مِنْ " هنا خاصة، موافقة لما بعدها في ثلاث آيات، ولأن الصّدقات لا تكفّر جميع السيئات.
فإن قلتَ : هذا يفهم أنهم كانوا يسألون برفق، مع أنه قال :﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ [ البقرة : ٢٧٣ ] ؟
قلتُ : المراد نفي المقيّد والقيد جميعا كما في قوله تعالى :﴿ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ﴾ [ البقرة : ٧١ ] وقوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ﴾ [ الرعد : ٢ ].
خصّ الأكل بالذّكر مع أنّ غيره كاللّبس، والادّخار، والهبة كذلك، لأنه أكثر وأهمّ انتفاعا بالمال، إذ لا بد منه.
أو أريد بالأكل الانتفاع، كما يقال : فلان أكل ماله، إذا انتفع به في الأكل وغيره.
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا... ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ].
فإن قلتَ : كيف قالوا ذلك، مع أن مقصودهم تشبيه الربا بالبيع المتفق على حِلِّه ؟
قلتُ : جاء ذلك على طريق المبالغة، لأنه أبلغ من اعتقادهم أن الربا حلال كالبيع، كالتشبيه في قولهم : القمر وجه زيد( ١ )، والبحر ككفّه، إذا أرادوا المبالغة.
أو أنّ مقصودهم أنّ البيع والربا يتماثلان من جميع الوجوه، فساغ قياس البيع على الربا كعكسه.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٧٥ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن مرتكب الكبيرة كآكل الربا لا يخلّد في النار ؟
قلتُ : الخلود يقال لطول البقاء، وإن لم يكن بصيغة التأبيد، كما يقال : خلّد الأمير فلانا في الحبس إذا أطال حبسه.
أو المراد بقوله :﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ العائد إلى استحلال أكل الربا، وهو بذلك كافر، والكافر مخلّد في النار على التأبيد.
﴿ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ أي من إنظار المعسر.
فإن قلتَ : إنظار المعسر واجب، والتصدّق عليه تطوّع، فكيف يكون خيرا من الواجب ؟
قلتُ : التطوّع المحصّل للواجب، لما اشتمل عليه من الزيادة كما هنا أفضل من الواجب، كما الزّهد في الحرام واجب، وفي الحلال تطوّع، والزهد في الحلال أفضل.
قال فيه وفي الجاثية ب ﴿ مَا كَسَبَتْ ﴾ ( ١ ) [ الجاثية : ٢٢ ] وقال في آخر النحل :﴿ وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ ﴾( ٢ ) [ النحل : ١١١ ] وفي آخر الزمر :﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ ﴾( ٣ ) [ الزمر : ٧٠ ]... موافقة لما قبل كلّ منها، أو بعده، أو قبله وبعده.
إذ ما هنا قبله ﴿ أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٦٧ ] وبعده :﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ].
وقبله في آخر النحل :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا.... وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل : ٩٧ ].
وبعده :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ ﴾ [ النحل : ١١٩ ].
وقبل ما في الجاثية :﴿ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا ﴾ [ الجاثية : ١٠ ].
وبعد ما في الزمر :﴿ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [ الزمر : ٧٤ ].
٢ - في قوله تعالى:﴿يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفّى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون﴾ النحل: ١١١..
٣ - في قوله تعالى: ﴿ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ﴾ الزمر: ٧٠..
فإن قلتَ : ما فائدة قوله :﴿ بِدَيْنٍ ﴾ مع أنه معلوم من ﴿ تَدَايَنْتُم ﴾ ؟
قلتُ : فائدته الاحتزاز عن " الدّين " بمعنى المجازاة، يقال : داينت فلانا بالمودّة، أي جازيته بها، وهو بهذا المعنى لا كتابة فيه ولا إشهاد.
وقيل : فائدته رجوع الضمير إليه في قوله :﴿ فَاكْتُبُوهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] إذ لو لم يذكره لقال : فاكتبوا الدّين، والأول أحسن نظما.
قوله تعالى :﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى... ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ].
قرئ " تَذْكُرُ " بالتخفيف والتشديد.
فإن قلتَ : كيف جعل " أن تضِلّ " علة لاستشهاد المرأتين بدل رجل، مع أن علّته إنما هو التذكير.
قلتُ : بل علّته " أن تضل " لأن الضلال من إحداهما يكثر وقوعه، فصَلُح أن يكون علّة لاستشهادهما، وبتقدير عدم صلوحه فالتعليل " بأن تضِلّ " في الحقيقة إنما هو للتذكير، ومن شأن العرب إذا كانت للعلّة علّة، قدّموا ذكر علّة العِلّة، وجعلوا العِلّة معطوفة عليها بالفاء، لتحصل الدلالتان معا بعبارة واحدة، كقولك : أعددت الخشبة أن يميل الجدار، فأدعمته بها، فالإدعام علّة في إعداد الخشبة، والميل علّة الإدعام.
فإن قلتَ : كيف شرط السفر في الارتهان مع أنه ليس بشرط فيه ؟
قلتُ : لم يذكره لتخصيص الحكم به، بل لكونه مظنة عوز الكاتب، والشاهد، الموثوق بهما.
قوله تعالى :﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ... ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ].
فإن قلتَ : ما فائدة ذكر القلب، مع أن الجملة موصوفة بالإثم ؟
قلتُ : لما كان كتمان الشهادة هو إضمارها في القلب، وإثمه مكتسبا بالقلب وبه، أسند الإثم إليه، لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، كما يقال : هذا مما أبصرته عيناي، وسمعته أذناي، وعلمه قلبي.
إن قلتَ : كيف قال في الإخفاء ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ مع أن حديث النفس لا إثم فيه، للحديث المشهور فيه، ولأنه لا يمكن الاحتراز منه ؟
قلتُ : ذلك منسوخ بقوله :﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ].
أو المراد بالإخفاء : العزم القاطع، والاعتقاد الجازم.
أو ذلك إخبار بالمحاسبة لا بالمعاقبة، فهو تعالى يخبر العباد بما أخفوا وأظهروا، ليعلموا إحاطة علمه، ثم يغفر أو يعذب فضلا وعدلا.
قوله تعالى :﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ... ﴾ [ البقرة : ٢٨٤ ].
قدّم المغفرة في هذه السورة وغيرها، إلا في " المائدة " فقدّم العذاب( ١ )، لأنها في المائدة نزلت في حق السارق والسارقة، وعذابهما يقع في الدنيا فقدّم العذاب، وفي غيرها قُدّمت المغفرة رحمة منه للعباد، وترغيبا لهم إلى المسارعة إلى موجباتها.
إن قلت : أيّ فائدة في هذا الإخبار مع أن الأنبياء في أعلى درجات الإيمان ؟
قلتُ : فائدته أن يبيّن للمؤمنين زيادة شرف الإيمان، حيث مدح به خواصه ورسله، ونظيره في " الصّافات " أنه ذكر في كل نبيّ ﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الصافات : ٨١ ].
قوله تعالى :﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ... ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ].
فإن قلتَ : كيف قال ذلك مع أن " بَيْنَ " لا تضاف إلا إلى اثنين فأكثر ؟
قلتُ : " أحد " هنا بمعنى الجمع الذي هو " آحاد " كما في قوله تعالى :﴿ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [ الحاقة : ٤٧ ] فكأنه قال : لا نفرّق بين آحاد من رسله( ١ ).
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ أي في الخير ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ أي في الشّر.
فإن قلتَ : ما الدليل على أن الأول في الخير، والثاني في الشرّ ؟
قلتُ : " اللام " في الأول و " على " في الثاني، لأنهما يستعملان في ذلك عند تقارنهما كما في هذه الآية، وكما في قوله :﴿ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [ فصلت : ٤٦ ].
وقولهم : الدّهر يومان : يوم لك، ويوم عليك.
وقول الشاعر :
على أنني راض بأن أحمل الهوى وأخلُص منه لا علَيَّ ولا لِيَا
فإن قلتَ : لم خصّ الكسب بالخير، والاكتساب بالشر ؟
قلتُ : لأن الاكتساب فيه أعمال، والشر تشتهيه النفس وتنجذب، فكانت أجدّ في تحصيله، بخلاف الخير، ولأن في ذلك إشارة إلى إكرامه تعالى وتفضّله على الخلق، حيث أثابهم على فعل الخير من غير جدّ واعتمال، ولم يؤاخذهم على فعل الشر إلا بالجد والاعتمال.