تفسير سورة الشورى

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

حم
سُورَة الشُّورَى مَكِّيَّة فِي قَوْل الْحَسَن وَعِكْرِمَة وَعَطَاء وَجَابِر.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : إِلَّا أَرْبَع آيَات مِنْهَا أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ :" قُلْ لَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى " [ الشُّورَى : ٢٣ ] إِلَى آخِرهَا.
وَهِيَ ثَلَاث وَخَمْسُونَ آيَة.
اِخْتَلَفَ فِي مَعْنَاهُ ; فَقَالَ عِكْرِمَة : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( " حم " اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى وَهِيَ مَفَاتِيح خَزَائِن رَبّك ) قَالَ اِبْن عَبَّاس :" حم " اِسْم اللَّه الْأَعْظَم.
وَعَنْهُ :" الر " و " حم " و " ن " حُرُوف الرَّحْمَن مُقَطَّعَة.
وَعَنْهُ أَيْضًا : اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ.
وَقَالَ قَتَادَة : إِنَّهُ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن.
مُجَاهِد : فَوَاتِح السُّوَر.
وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ : الْحَاء اِفْتِتَاح اِسْمه حَمِيد وَحَنَّان وَحَلِيم وَحَكِيم، وَالْمِيم اِفْتِتَاح اِسْمه مَلِك وَمَجِيد وَمَنَّان وَمُتَكَبِّر وَمُصَوِّر ; يَدُلّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَنَس أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا " حم " فَإِنَّا لَا نَعْرِفهَا فِي لِسَاننَا ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( بَدْء أَسْمَاء وَفَوَاتِح سُوَر ) وَقَالَ الضَّحَّاك وَالْكِسَائِيّ : مَعْنَاهُ قُضِيَ مَا هُوَ كَائِن.
كَأَنَّهُ أَرَادَ الْإِشَارَة إِلَى تَهَجِّي " حم " ; لِأَنَّهَا تَصِير حُمّ بِضَمِّ الْحَاء وَتَشْدِيد الْمِيم ; أَيْ قُضِيَ وَوَقَعَ.
وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك :
فَلَمَّا تَلَاقَيْنَاهُمْ وَدَارَتْ بِنَا الرَّحَى وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّه مَدْفَعُ
وَعَنْهُ أَيْضًا : إِنَّ الْمَعْنَى حم أَمْر اللَّه أَيْ قَرُبَ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
قَدْ حُمَّ يَوْمِي فَسُرَّ قَوْم قَوْم بِهِمْ غَفْلَة وَنَوْمُ
وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْحُمَّى ; لِأَنَّهَا تُقَرِّب مِنْ الْمَنِيَّة.
وَالْمَعْنَى الْمُرَاد قَرُبَ نَصْره لِأَوْلِيَائِهِ، وَانْتِقَامه مِنْ أَعْدَائِهِ كَيَوْمِ بَدْر.
وَقِيلَ : حُرُوف هِجَاء ; قَالَ الْجَرْمِيّ : وَلِهَذَا تُقْرَأ سَاكِنَة الْحُرُوف فَخَرَجَتْ مَخْرَج التَّهَجِّي وَإِذَا سُمِّيَتْ سُورَة بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف أُعْرِبَتْ ; فَتَقُول : قَرَأْت " حم " فَتُنْصَب ; قَالَ الشَّاعِر :
يُذَكِّرنِي حَامِيم وَالرُّمْح شَاجِر فَهَلَّا تَلَا حَامِيم قَبْل التَّقَدُّم
وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر الثَّقَفِيّ :" حم " بِفَتْحِ الْمِيم عَلَى مَعْنَى اِقْرَأْ حم أَوْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
اِبْن أَبِي إِسْحَاق وَأَبُو السَّمَّال بِكَسْرِهَا.
وَالْإِمَالَة وَالْكَسْر لِلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، أَوْ عَلَى وَجْه الْقَسَم.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بِقَطْعِ الْحَاء مِنْ الْمِيم.
الْبَاقُونَ بِالْوَصْلِ.
وَكَذَلِكَ فِي " حم.
عسق ".
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف وَابْن ذَكْوَان بِالْإِمَالَةِ فِي الْحَاء.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو بَيْن اللَّفْظَيْنِ وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَأَبِي جَعْفَر وَشَيْبَة.
الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ مُشَبِّعًا.
عسق
قَالَ عَبْد الْمُؤْمِن : سَأَلْت الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : لِمَ قَطَعَ "حم " مِنْ " عسق " وَلَمْ تُقْطَع " كهيعص " و "المر " و " المص " ؟ فَقَالَ : لِأَنَّ " حم.
عسق " بَيْن سُوَر أَوَّلهَا " حم " فَجَرَتْ مَجْرَى نَظَائِرهَا قَبْلهَا وَبَعْدهَا ; فَكَأَنَّ " حم " مُبْتَدَأ و " عسق " خَبَره.
وَلِأَنَّهَا عُدَّتْ آيَتَيْنِ، وَعُدَّتْ أَخَوَاتهَا اللَّوَاتِي كُتِبَتْ جُمْلَة آيَة وَاحِدَة.
وَقِيلَ : إِنَّ الْحُرُوف الْمُعْجَمَة كُلّهَا فِي مَعْنًى وَاحِد، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أُسّ الْبَيَان وَقَاعِدَة الْكَلَام ; ذَكَرَهُ الْجُرْجَانِيّ.
وَكَتَبْت " حم.
عسق " مُنْفَصِلًا و " كهيعص " مُتَّصِلًا لِأَنَّهُ قِيلَ : حم ; أَيْ حم مَا هُوَ كَائِن، فَفَصَلُوا بَيْن مَا يُقَدَّر فِيهِ فِعْل وَبَيْن مَا لَا يُقَدَّر.
ثُمَّ لَوْ فُصِلَ هَذَا وَوُصِلَ ذَا لَجَازَ ; حَكَاهُ الْقُشَيْرِيّ.
وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس " حم.
سق " قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَكَانَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَعْرِف الْفِتَن بِهَا.
وَقَالَ أَرْطَاة بْن الْمُنْذِر، قَالَ رَجُل لِابْنِ عَبَّاس وَعِنْده حُذَيْفَة بْن الْيَمَان : أَخْبَرَنِي عَنْ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى :" حم.
عسق " ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى أَعَادَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ.
فَقَالَ حُذَيْفَة بْن الْيَمَانِ : أَنَا أُنَبِّئك بِهَا، قَدْ عَرَفْت لِمَ تَرَكَهَا ; نَزَلَتْ فِي رَجُل مِنْ أَهْل بَيْته يُقَال لَهُ عَبْد الْإِلَه أَوْ عَبْد اللَّه ; يَنْزِل عَلَى نَهَر مِنْ أَنْهَار الْمَشْرِق، يَبْنِي عَلَيْهِ مَدِينَتَيْنِ يَشُقّ النَّهَر بَيْنهمَا شَقًّا، فَإِذَا أَرَادَ اللَّه زَوَال مُلْكهمْ وَانْقِطَاع دَوْلَتهمْ، بَعَثَ عَلَى إِحْدَاهُمَا نَارًا لَيْلًا فَتُصْبِح سَوْدَاء مُظْلِمَة، فَتُحْرَق كُلّهَا كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَكَانهَا ; فَتُصْبِح صَاحِبَتهَا مُتَعَجِّبَة، كَيْف قُلِبَتْ ! فَمَا هُوَ إِلَّا بَيَاض يَوْمهَا حَتَّى يَجْتَمِع فِيهَا كُلّ جَبَّار عَنِيد، ثُمَّ يَخْسِف اللَّه بِهَا وَبِهِمْ جَمِيعًا ; فَذَلِكَ قَوْله :" حم.
عسق " أَيْ عَزْمَة مِنْ عَزَمَات اللَّه، وَفِتْنَة وَقَضَاء حم : حم.
"ع " : عَدْلًا مِنْهُ، " س " : سَيَكُونُ، " ق ": وَاقِع فِي هَاتَيْنِ الْمَدِينَتَيْنِ.
وَنَظِير هَذَا التَّفْسِير مَا رَوَى جَرِير بْن عَبْد اللَّه الْبَجَلِيّ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( تُبْنَى مَدِينَة بَيْن دِجْلَة وَدُجَيْل وَقُطْرَبُلّ وَالصَّرَاة، يَجْتَمِع فِيهَا جَبَابِرَة الْأَرْض تُجْبَى إِلَيْهَا الْخَزَائِن يُخْسَف بِهَا - وَفِي رِوَايَة بِأَهْلِهَا - فَلَهِيَ أَسْرَع ذَهَابًا فِي الْأَرْض مِنْ الْوَتَد الْجَيِّد فِي الْأَرْض الرَّخْوَة ).
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس :" حم.
سق " بِغَيْرِ عَيْن.
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود ; حَكَاهُ الطَّبَرِيّ.
وَرَوَى نَافِع عَنْ اِبْن عَبَّاس :" الْحَاء " حِلْمه، و " الْمِيم " مَجْده، و " الْعَيْن " عِلْمه، و " السِّين " سَنَاهُ، و " الْقَاف " قُدْرَته ; أَقْسَمَ اللَّه بِهَا.
وَعَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب : أَقْسَمَ اللَّه بِحِلْمِهِ وَمَجْده وَعُلُوّهُ وَسَنَاهُ وَقُدْرَته أَلَّا يُعَذِّب مَنْ عَاذَ بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه مُخْلِصًا مِنْ قَلْبه.
وَقَالَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد وَسَعِيد بْن جُبَيْر :" الْحَاء " مِنْ الرَّحْمَن، و " الْمِيم " مِنْ الْمَجِيد، و " الْعَيْن " مِنْ الْعَلِيم، و " السِّين " مِنْ الْقُدُّوس، و " الْقَاف " مِنْ الْقَاهِر.
وَقَالَ مُجَاهِد : فَوَاتِح السُّوَر.
وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَة : إِنَّهُ اِسْم الْجَبَل الْمُحِيط بِالدُّنْيَا.
وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ، وَاللَّفْظ لِلثَّعْلَبِيّ : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة عُرِفَتْ الْكَآبَة فِي وَجْه ; فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُول اللَّه، مَا أَحْزَنَك ؟ قَالَ :( أُخْبِرْت بِبَلَايَا تَنْزِل بِأُمَّتِي مِنْ خَسْف وَقَذْف وَنَار تَحْشُرهُمْ وَرِيح تَقْذِفهُمْ فِي الْبَحْر وَآيَات مُتَتَابِعَات مُتَّصِلَات بِنُزُولِ عِيسَى وَخُرُوج الدَّجَّال ).
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقِيلَ : هَذَا فِي شَأْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ف " الْحَاء " حَوْضه الْمَوْرُود، و " الْمِيم " مُلْكه الْمَمْدُود، و " الْعَيْن " عِزّه الْمَوْجُود، و " السِّين " سَنَاهُ الْمَشْهُود، و " الْقَاف ' قِيَامه فِي الْمَقَام الْمَحْمُود، وَقُرْبه فِي الْكَرَامَة مِنْ الْمَلِك الْمَعْبُود.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَيْسَ مِنْ نَبِيّ صَاحِب كِتَاب إِلَّا وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ :" حم.
عسق " ; فَلِذَلِكَ قَالَ :
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
الْمَهْدَوِيّ : وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَر أَنَّ ( " حم.
عسق " مَعْنَاهُ أَوْحَيْت إِلَى الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمِينَ ).
وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَابْن كَثِير وَمُجَاهِد " يُوحَى " ( بِفَتْحِ الْحَاء ) عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر.
فَيَكُون الْجَارّ وَالْمَجْرُور فِي مَوْضِع رَفْع لِقِيَامِهِ مَقَام الْفَاعِل، وَيَجُوز أَنْ يَكُون اِسْم مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله مُضْمَرًا ; أَيْ يُوحَى إِلَيْك الْقُرْآن الَّذِي تَضَمَّنَهُ هَذِهِ السُّورَة، وَيَكُون اِسْم اللَّه مَرْفُوعًا بِإِضْمَارِ فِعْل، التَّقْدِير : يُوحِيه اللَّه إِلَيْك ; كَقِرَاءَةِ اِبْن عَامِر وَأَبِي بَكْر " يُسَبِّح لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال رِجَال " [ النُّور :
٣٦ - ٣٧ ] أَيْ يُسَبِّحهُ رِجَال.
وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ :
لِيُبْكَ يَزِيد ضَارِعًا بِخُصُومَةٍ وَأَشْعَث مِمَّنْ طَوَّحَتْهُ الطَّوَائِح
فَقَالَ : لِيُبْكَ يَزِيد، ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَبْكِيه، فَالْمَعْنَى يُبْكِيه ضَارِع.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُبْتَدَأ وَالْخَبَر مَحْذُوف ; كَأَنَّهُ قَالَ : اللَّه يُوحِيه.
أَوْ عَلَى تَقْدِير إِضْمَار مُبْتَدَأ أَيْ الْمُوحِي اللَّه.
أَوْ يَكُون مُبْتَدَأ وَالْخَبَر " الْعَزِيز الْحَكِيم ".
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " يُوحِي إِلَيْك " بِكَسْرِ الْحَاء، وَرُفِعَ الِاسْم عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِل.
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
أَيْ بِالْمُلْكِ فَهُوَ مَالِك الْجَمِيع وَرَبّه
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ
قِرَاءَة الْعَامَّة بِالتَّاءِ.
وَقَرَأَ نَافِع وَابْن وَثَّاب وَالْكِسَائِيّ بِالْيَاءِ.
" يَنْفَطِرْنَ " قَرَأَ نَافِع وَغَيْره بِالْيَاءِ وَالتَّاء وَالتَّشْدِيد فِي الطَّاء، وَهِيَ قِرَاءَة الْعَامَّة.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْر وَالْمُفَضَّل وَأَبُو عُبَيْد " يَنْفَطِرْنَ " مِنْ الِانْفِطَار ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِذَا السَّمَاء اِنْفَطَرَتْ " [ الِانْفِطَار : ١ ] وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " مَرْيَم " بَيَان هَذَا.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس :" تَكَاد السَّمَاوَات يَتَفَطَّرْنَ " أَيْ تَكَاد كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا تَنْفَطِر فَوْق الَّتِي تَلِيهَا ; مِنْ قَوْل الْمُشْرِكِينَ :" اِتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا " [ الْبَقَرَة : ١١٦ ].
وَقَالَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ :" يَتَفَطَّرْنَ " أَيْ يَتَشَقَّقْنَ مِنْ عَظَمَة اللَّه وَجَلَاله فَوْقهنَّ.
وَقِيلَ :" فَوْقهنَّ " : فَوْق الْأَرَضِينَ مِنْ خَشْيَة اللَّه لَوْ كُنَّ مِمَّا يَعْقِل.
وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَمَّا لَا يَجُوز فِي وَصْفه، وَمَا لَا يَلِيق بِجَلَالِهِ.
وَقِيلَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ جُرْأَة الْمُشْرِكِينَ ; فَيُذْكَر التَّسْبِيح فِي مَوْضِع التَّعَجُّب.
وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَنَّ تَسْبِيحهمْ تَعَجُّب مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ تَعَرُّضهمْ لِسَخَطِ اللَّه.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : تَسْبِيحهمْ خُضُوع لِمَا يَرَوْنَ مِنْ عَظَمَة اللَّه.
وَمَعْنَى " بِحَمْدِ رَبّه " : بِأَمْرِ رَبّهمْ ; قَالَهُ السُّدِّيّ.
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ
قَالَ الضَّحَّاك : لِمَنْ فِي الْأَرْض مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ; وَقَالَهُ السُّدِّيّ.
بَيَانه فِي سُورَة غَافِر :" وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا " [ غَافِر : ٧ ].
وَعَلَى هَذَا تَكُون الْمَلَائِكَة هُنَا حَمَلَة الْعَرْش.
وَقِيلَ : جَمِيع مَلَائِكَة السَّمَاء ; وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ قَوْل الْكَلْبِيّ.
وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : هُوَ مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ :" وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ".
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَالصَّحِيح أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ ; لِأَنَّهُ خَبَر، وَهُوَ خَاصّ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الْمَاوَرْدِيّ عَنْ الْكَلْبِيّ : إِنَّ الْمَلَائِكَة لَمَّا رَأَتْ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ اُخْتِيرَا وَبُعِثَا إِلَى الْأَرْض لِيَحْكُمَا بَيْنهمْ، فَافْتُتِنَا بِالزُّهَرَةِ وَهَرَبَا إِلَى إِدْرِيس - وَهُوَ جَدّ أَبِي نُوح عَلَيْهِمَا السَّلَام - وَسَأَلَاهُ أَنْ يَدْعُو لَهُمَا، سَبَّحَتْ الْمَلَائِكَة بِحَمْدِ رَبّهمْ وَاسْتَغْفَرَتْ لِبَنِي آدَم.
قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن الْحَصَّار : وَقَدْ ظَنَّ بَعْض مَنْ جَهِلَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بِسَبَبِ هَارُوت وَمَارُوت، وَأَنَّهَا مَنْسُوخَة بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْمُؤْمِن، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ حَمَلَة الْعَرْش مَخْصُوصُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّة، وَلِلَّهِ مَلَائِكَة أُخَر يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْض.
الْمَاوَرْدِيّ : وَفِي اِسْتِغْفَارهمْ لَهُمْ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : مِنْ الذُّنُوب وَالْخَطَايَا ; وَهُوَ ظَاهِر قَوْل مُقَاتِل.
الثَّانِي : أَنَّهُ طَلَبَ الرِّزْق لَهُمْ وَالسَّعَة عَلَيْهِمْ ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ.
قُلْت : وَهُوَ أَظْهَر، لِأَنَّ الْأَرْض تَعُمّ الْكَافِر وَغَيْره، وَعَلَى قَوْل مُقَاتِل لَا يَدْخُل فِيهِ الْكَافِر.
وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب خَبَر رَوَاهُ عَاصِم الْأَحْوَل عَنْ أَبِي عُثْمَان عَنْ سَلْمَان قَالَ : إِنَّ الْعَبْد إِذَا كَانَ يَذْكُر اللَّه فِي السَّرَّاء فَنَزَلَتْ بِهِ الضَّرَّاء قَالَتْ الْمَلَائِكَة : صَوْت مَعْرُوف مِنْ آدَمِيّ ضَعِيف، كَانَ يَذْكُر اللَّه تَعَالَى فِي السَّرَّاء فَنَزَلَتْ بِهِ الضَّرَّاء ; فَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ.
فَإِذَا كَانَ لَا يَذْكُر اللَّه فِي السَّرَّاء فَنَزَلَتْ بِهِ الضَّرَّاء قَالَتْ الْمَلَائِكَة : صَوْت مُنْكَر مِنْ آدَمِيّ كَانَ لَا يَذْكُر اللَّه فِي السَّرَّاء فَنَزَلَتْ بِهِ الضَّرَّاء فَلَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّه لَهُ.
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْآيَة فِي الذَّاكِر لِلَّهِ تَعَالَى فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء، فَهِيَ خَاصَّة بِبَعْضِ مَنْ فِي الْأَرْض مِنْ الْمُؤْمِنِينَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
يَحْتَمِل أَنْ يَقْصِدُوا بِالِاسْتِغْفَارِ طَلَب الْحِلْم وَالْغُفْرَان فِي قَوْله تَعَالَى :" إِنَّ اللَّه يُمْسِك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنْ تَزُولَا " [ فَاطِر : ٤١ ] - إِلَى أَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا "، وَقَوْله تَعَالَى :" وَإِنَّ رَبّك لَذُو مَغْفِرَة لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمهمْ " [ الرَّعْد : ٦ ].
وَالْمُرَاد الْحِلْم عَنْهُمْ وَأَلَّا يُعَالِجهُمْ بِالِانْتِقَامِ ; فَيَكُون عَامًّا ; قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيّ.
وَقَالَ مُطَرِّف : وَجَدْنَا أَنْصَح عِبَاد اللَّه لِعِبَادِ اللَّه الْمَلَائِكَة، وَوَجَدْنَا أَغْشَى عِبَاد اللَّه لِعِبَادِ اللَّه الشَّيَاطِين.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : هَيَّبَ وَعَظَّمَ جَلَّ وَعَزَّ فِي الِابْتِدَاء، وَأَلْطَفَ وَبَشَّرَ فِي الِانْتِهَاء.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
يَعْنِي أَصْنَامًا يَعْبُدُونَهَا.
اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ
أَيْ يَحْفَظ أَعْمَالهمْ لِيُجَازِيَهُمْ بِهَا.
وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
وَهَذِهِ مَنْسُوخَة بِآيَةِ السَّيْف.
وَفِي الْخَبَر :( أَطَّتْ السَّمَاء وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطّ ) أَيْ صَوَّتَتْ مِنْ ثِقَل سُكَّانهَا لِكَثْرَتِهِمْ، فَهُمْ مَعَ كَثْرَتهمْ لَا يَفْتَرُونَ عَنْ عِبَادَة اللَّه ; وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّار يُشْرِكُونَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
أَيْ وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْك وَإِلَى مَنْ قَبْلك هَذِهِ الْمَعَانِي فَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْك قُرْآنًا عَرَبِيًّا بَيَّنَّاهُ بِلُغَةِ الْعَرَب.
قِيلَ : أَيْ أَنْزَلْنَا عَلَيْك قُرْآنًا عَرَبِيًّا بِلِسَانِ قَوْمك ; كَمَا أَرْسَلْنَا كُلّ رَسُول بِلِسَانِ قَوْمه.
وَالْمَعْنَى وَاحِد.
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى
يَعْنِي مَكَّة.
قِيلَ لِمَكَّة أُمّ الْقُرَى لِأَنَّ الْأَرْض دُحِيَتْ مِنْ تَحْتهَا.
وَمَنْ حَوْلَهَا
مِنْ سَائِر الْخَلْق.
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ
أَيْ بِيَوْمِ الْجَمْع، وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة.
لَا رَيْبَ فِيهِ
لَا شَكَّ فِيهِ.
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ
اِبْتِدَاء وَخَبَر.
وَأَجَازَ الْكِسَائِيّ النَّصْب عَلَى تَقْدِير : لِتُنْذِر فَرِيقًا فِي الْجَنَّة وَفَرِيقًا فِي السَّعِير.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
قَالَ الضَّحَّاك : أَهْل دِين وَاحِد ; أَوْ أَهْل ضَلَالَة أَوْ أَهْل هُدًى.
وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ
قَالَ أَنَس بْن مَالِك : فِي الْإِسْلَام.
وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
" وَالظَّالِمُونَ " رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاء، وَالْخَبَر " مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِير " عُطِفَ عَلَى اللَّفْظ.
وَيَجُوز " وَلَا نَصِير " بِالرَّفْعِ عَلَى الْمَوْضِع و " مِنْ " زَائِدَة
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
" أَمْ اِتَّخَذُوا " أَيْ بَلْ اِتَّخَذُوا.
" مِنْ دُونه أَوْلِيَاء " يَعْنِي أَصْنَامًا.
" فَاَللَّه هُوَ الْوَلِيّ " أَيْ وَلِيّك يَا مُحَمَّد وَوَلِيّ مَنْ اِتَّبَعَك، لَا وَلِيّ سِوَاهُ.
" وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى " يُرِيد عِنْد الْبَعْث.
" وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " وَغَيْره مِنْ الْأَوْلِيَاء لَا يَقْدِر عَلَى شَيْء.
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ
حِكَايَة قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤْمِنِينَ ; أَيْ وَمَا خَالَفَكُمْ فِيهِ الْكُفَّار مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ أَمْر الدِّين، فَقُولُوا لَهُمْ حُكْمه إِلَى اللَّه لَا إِلَيْكُمْ، وَقَدْ حَكَمَ أَنَّ الدِّين هُوَ الْإِسْلَام لَا غَيْره.
وَأُمُور الشَّرَائِع إِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ بَيَان اللَّه.
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي
أَيْ الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الصِّفَات هُوَ رَبِّي وَحْده ; وَفِيهِ إِضْمَار : أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد ذَلِكُمْ اللَّه الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى وَيَحْكُم بَيْن الْمُخْتَلِفِينَ هُوَ رَبِّي.
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
اِعْتَمَدْت.
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
أَرْجِع.
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
بِالرَّفْعِ عَلَى النَّعْت لِاسْمِ اللَّه، أَوْ عَلَى تَقْدِير هُوَ فَاطِر.
وَيَجُوز النَّصْب عَلَى النِّدَاء، وَالْجَرّ عَلَى الْبَدَل مِنْ الْهَاء فِي " عَلَيْهِ ".
وَالْفَاطِر : الْمُبْدِع وَالْخَالِق.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
قِيلَ مَعْنَاهُ إِنَاثًا.
وَإِنَّمَا قَالَ :" مِنْ أَنْفُسكُمْ " لِأَنَّهُ خَلَقَ حَوَّاء مِنْ ضِلْع آدَم.
وَقَالَ مُجَاهِد : نَسْلًا بَعْد نَسْل.
وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا
يَعْنِي الثَّمَانِيَة الَّتِي ذَكَرَهَا فِي " الْأَنْعَام " ذُكُور الْإِبِل وَالْبَقَر وَالضَّأْن وَالْمَعْز وَإِنَاثهَا.
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ
أَيْ يَخْلُقكُمْ وَيُنْشِئكُمْ " فِيهِ " أَيْ فِي الرَّحِم.
وَقِيلَ : فِي الْبَطْن.
وَقَالَ الْفَرَّاء وَابْن كَيْسَان :" فِيهِ " بِمَعْنَى بِهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاج : مَعْنَى " يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يُكَثِّركُمْ بِهِ ; أَيْ يُكَثِّركُمْ يَجْعَلكُمْ أَزْوَاجًا، أَيْ حَلَائِل ; لِأَنَّهُنَّ سَبَب النَّسْل.
وَقِيلَ : إِنَّ الْهَاء فِي " فِيهِ " لِلْجَعْلِ ; وَدَلَّ عَلَيْهِ " جَعَلَ " ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : يَخْلُقكُمْ وَيُكَثِّركُمْ فِي الْجَعْل.
اِبْن قُتَيْبَة :" يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ " أَيْ فِي الزَّوْج ; أَيْ يَخْلُقكُمْ فِي بُطُون الْإِنَاث.
وَقَالَ : وَيَكُون " فِيهِ " فِي الرَّحِم، وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ الرَّحِم مُؤَنَّثَة وَلَمْ يَتَقَدَّم لَهَا ذِكْر.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
قِيلَ : إِنَّ الْكَافّ زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ ; أَيْ لَيْسَ مِثْله شَيْء.
قَالَ :
وَصَالِيَات كَكُمَا يُؤْثَفَيْن
فَأَدْخَلَ عَلَى الْكَاف كَافًا تَأْكِيدًا لِلتَّشْبِيهِ.
وَقِيلَ : الْمِثْل زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ ; وَهُوَ قَوْل ثَعْلَب : لَيْسَ كَهُوَ شَيْء ; نَحْو قَوْله تَعَالَى :" فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدْ اِهْتَدَوْا ".
[ الْبَقَرَة : ١٣٧ ].
وَفِي حَرْف اِبْن مَسْعُود " فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدْ اِهْتَدَوْا " قَالَ أَوْس بْن حُجْر :
وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوع النَّ خِيل يَغْشَاهُمْ مَطَر مُنْهَمِر
أَيْ كَجُذُوعٍ.
وَاَلَّذِي يَعْتَقِد فِي هَذَا الْبَاب أَنَّ اللَّه جَلَّ اِسْمه فِي عَظَمَته وَكِبْرِيَائِهِ وَمَلَكُوته وَحُسْنَى أَسْمَائِهِ وَعَلِيّ صِفَاته، لَا يُشْبِه شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاته وَلَا يُشْبِه بِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ مِمَّا أَطْلَقَهُ الشَّرْع عَلَى الْخَالِق وَالْمَخْلُوق، فَلَا تَشَابُه بَيْنهمَا فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيّ ; إِذْ صِفَات الْقَدِيم جَلَّ وَعَزَّ بِخِلَافِ صِفَات الْمَخْلُوق ; إِذْ صِفَاتهمْ لَا تَنْفَكّ عَنْ الْأَغْرَاض وَالْأَعْرَاض، وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّه عَنْ ذَلِكَ ; بَلْ لَمْ يَزَلْ بِأَسْمَائِهِ وَبِصِفَاتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي ( الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى )، وَكَفَى فِي هَذَا قَوْله الْحَقّ :" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ".
وَقَدْ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الْمُحَقِّقِينَ : التَّوْحِيد إِثْبَات ذَات غَيْر مُشَبَّهَة لِلذَّوَاتِ وَلَا مُعَطَّلَة مِنْ الصِّفَات.
وَزَادَ الْوَاسِطِيّ رَحِمَهُ اللَّه بَيَانًا فَقَالَ : لَيْسَ كَذَاتِهِ ذَات، وَلَا كَاسْمِهِ اِسْم، وَلَا كَفِعْلِهِ فِعْل، وَلَا كَصِفَتِهِ صِفَة إِلَّا مِنْ جِهَة مُوَافَقَة اللَّفْظ ; وَجَلَّتْ الذَّات الْقَدِيمَة أَنْ يَكُون لَهَا صِفَة حَدِيثَة ; كَمَا اِسْتَحَالَ أَنْ يَكُون لِلذَّاتِ الْمُحْدَثَة صِفَة قَدِيمَة.
وَهَذَا كُلّه مَذْهَب أَهْل الْحَقّ وَالسُّنَّة وَالْجَمَاعَة.
رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ !
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
تَقَدَّمَ فِي " الزُّمَر " بَيَانه.
النَّحَّاس : وَاَلَّذِي يَمْلِك الْمَفَاتِيح يَمْلِك الْخَزَائِن ; يُقَال لِلْمَفَاتِيحِ : إِقْلِيد، وَجَمْعه عَلَى غَيْر قِيَاس ; كَمَحَاسِن وَالْوَاحِد حَسَن.
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى الَّذِي يَبْسُط الرِّزْق وَيَقْدِر فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهَا دَار اِمْتِحَان ; " وَيَقْدِر " أَيْ يُضَيِّق ; وَمِنْهُ " وَمِنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقه " [ الطَّلَاق : ٧ ] أَيْ ضُيِّقَ.
وَقِيلَ :" يَقْدِر " يُعْطَى بِقَدْرِ الْكِفَايَة.
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
ع فِيهِ مَسْأَلَتَانِ ع الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين " أَيْ الَّذِي لَهُ مَقَالِيد السَّمَاوَات وَالْأَرْض شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا شَرَعَ لِقَوْمِ نُوح وَإِبْرَاهِيم وَمُوسَى وَعِيسَى ; ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" أَنْ أَقِيمُوا الدِّين " وَهُوَ تَوْحِيد اللَّه وَطَاعَته، وَالْإِيمَان بِرُسُلِهِ وَكُتُبه وَبِيَوْمِ الْجَزَاء، وَبِسَائِرِ مَا يَكُون الرَّجُل بِإِقَامَتِهِ مُسْلِمًا.
وَلَمْ يُرِدْ الشَّرَائِع الَّتِي هِيَ مَصَالِح الْأُمَم عَلَى حُسْن أَحْوَالهَا، فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَة مُتَفَاوِتَة ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَة وَمِنْهَاجًا " [ الْمَائِدَة : ٤٨ ] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ.
وَمَعْنَى " شَرَعَ " أَيْ نَهَجَ وَأَوْضَحَ وَبَيَّنَ الْمَسَالِك.
وَقَدْ شَرَعَ لَهُمْ يَشْرَع شَرْعًا أَيْ سَنَّ.
وَالشَّارِع : الطَّرِيق الْأَعْظَم.
وَقَدْ شُرِعَ الْمَنْزِل إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيق نَافِذ.
وَشَرَعْت الْإِبِل إِذَا أَمْكَنْتهَا مِنْ الشَّرِيعَة.
وَشَرَعْت الْأَدِيم إِذَا سَلَخْته.
وَقَالَ يَعْقُوب : إِذَا شَقَقْت مَا بَيْن الرَّجُلَيْنِ، قَالَ : وَسَمِعْته مِنْ أُمّ الْحَمَارِس الْبَكْرِيَّة.
وَشَرَعْت فِي هَذَا الْأَمْر شُرُوعًا أَيْ خُضْت.
" أَنْ أَقِيمُوا الدِّين " " أَنْ " فِي مَحَلّ رَفْع، عَلَى تَقْدِير وَاَلَّذِي وَصَّى بِهِ نُوحًا أَنْ أَقِيمُوا الدِّين، وَيُوقَف عَلَى هَذَا الْوَجْه عَلَى " عِيسَى ".
وَقِيلَ : هُوَ نَصْب، أَيْ شَرَعَ لَكُمْ إِقَامَة الدِّين.
وَقِيلَ : هُوَ جَرّ بَدَلًا مِنْ الْهَاء فِي " بِهِ " ; كَأَنَّهُ قَالَ : بِهِ أَقِيمُوا الدِّين.
وَلَا يُوقَف عَلَى " عِيسَى " عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
وَيَجُوز أَنْ تَكُون " أَنْ " مُفَسِّرَة ; مِثْل : أَنْ اِمْشُوا، فَلَا يَكُون لَهَا مَحَلّ مِنْ الْإِعْرَاب.
الثَّانِيَة : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : ثَبَتَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة الْكَبِير الْمَشْهُور :( وَلَكِنْ اِئْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّل رَسُول بَعَثَهُ اللَّه إِلَى أَهْل الْأَرْض فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ أَوَّل رَسُول بَعَثَهُ اللَّه إِلَى أَهْل الْأَرْض.
) وَهَذَا صَحِيح لَا إِشْكَال فِيهِ، كَمَا أَنَّ آدَم أَوَّل نَبِيّ بِغَيْرِ إِشْكَال ; لِأَنَّ آدَم لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا نُبُوَّة، وَلَمْ تُفْرَض لَهُ الْفَرَائِض وَلَا شُرِعَتْ لَهُ الْمَحَارِم، وَإِنَّمَا كَانَ تَنْبِيهًا عَلَى بَعْض الْأُمُور وَاقْتِصَارًا عَلَى ضَرُورَات الْمَعَاش، وَأَخْذًا بِوَظَائِف الْحَيَاة وَالْبَقَاء ; وَاسْتَقَرَّ الْمَدَى إِلَى نُوح فَبَعَثَهُ اللَّه بِتَحْرِيمِ الْأُمَّهَات وَالْبَنَات وَالْأَخَوَات، وَوَظَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبَات وَأَوْضَحَ لَهُ الْآدَاب فِي الدِّيَانَات، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَأَكَّد بِالرُّسُلِ و يَتَنَاصَر بِالْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ - وَاحِدًا بَعْد وَاحِد وَشَرِيعَة إِثْر شَرِيعَة، حَتَّى خَتَمَهَا اللَّه بِخَيْرِ الْمِلَل مِلَّتنَا عَلَى لِسَان أَكْرَم الرُّسُل نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَكَانَ الْمَعْنَى أَوْصَيْنَاك يَا مُحَمَّد وَنُوحًا دِينًا وَاحِدًا ; يَعْنِي فِي الْأُصُول الَّتِي لَا تَخْتَلِف فِيهَا الشَّرِيعَة، وَهِيَ التَّوْحِيد وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحَجّ، وَالتَّقَرُّب إِلَى اللَّه بِصَالِحِ الْأَعْمَال، وَالزُّلَف إِلَيْهِ بِمَا يَرُدّ الْقَلْب وَالْجَارِحَة إِلَيْهِ، وَالصِّدْق وَالْوَفَاء بِالْعَهْدِ، وَأَدَاء الْأَمَانَة وَصِلَة الرَّحِم، وَتَحْرِيم الْكُفْر وَالْقَتْل وَالزِّنَى وَالْأَذِيَّة لِلْخَلْقِ كَيْفَمَا تَصَرَّفْت، وَالِاعْتِدَاء عَلَى الْحَيَوَان كَيْفَمَا دَارَ، وَاقْتِحَام الدَّنَاءَات وَمَا يَعُود بِخَرْمِ الْمُرُوآت ; فَهَذَا كُلّه مَشْرُوع دِينًا وَاحِدًا وَمِلَّة مُتَّحِدَة، لَمْ تَخْتَلِف عَلَى أَلْسِنَة الْأَنْبِيَاء وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ أَعْدَادهمْ ; وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" أَنْ أَقِيمُوا الدِّين وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ " أَيْ اِجْعَلُوهُ قَائِمًا ; يُرِيد دَائِمًا مُسْتَمِرًّا مَحْفُوظًا مُسْتَقَرًّا مِنْ غَيْر خِلَاف فِيهِ وَلَا اِضْطِرَاب ; فَمِنْ الْخَلْق مَنْ وَفَّى بِذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ نَكَثَ ; " فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُث عَلَى نَفْسه " [ الْفَتْح : ١٠ ].
وَاخْتَلَفَتْ الشَّرَائِع وَرَاء هَذَا فِي مَعَانٍ حَسْبَمَا أَرَادَهُ اللَّه مِمَّا اِقْتَضَتْ الْمَصْلَحَة وَأَوْجَبَتْ الْحِكْمَة وَضْعَهُ فِي الْأَزْمِنَة عَلَى الْأُمَم.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ مُجَاهِد : لَمْ يَبْعَث اللَّه نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَصَّاهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة وَالْإِقْرَار لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، فَذَلِكَ دِينه الَّذِي شَرَعَ لَهُمْ ; وَقَالَهُ الْوَالِبِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَهُوَ قَوْل الْكَلْبِيّ.
وَقَالَ قَتَادَة : يَعْنِي تَحْلِيل الْحَلَال وَتَحْرِيم الْحَرَام.
وَقَالَ الْحَكَم : تَحْرِيم الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات وَالْبَنَات.
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي يَجْمَع هَذِهِ الْأَقْوَال وَيَزِيد عَلَيْهَا.
وَخَصَّ نُوحًا وَإِبْرَاهِيم وَمُوسَى وَعِيسَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ أَرْبَاب الشَّرَائِع.
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
" كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ " أَيْ عَظُمَ عَلَيْهِمْ.
مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ
" مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ " مِنْ التَّوْحِيد وَرَفْض الْأَوْثَان.
قَالَ قَتَادَة : كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَضَاقَ بِهَا إِبْلِيس وَجُنُوده، فَأَبَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَنْ يَنْصُرهَا وَيُعْلِيهَا وَيُظْهِرهَا عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا.
اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ
" اللَّه يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاء " أَيْ يَخْتَار.
وَالِاجْتِبَاء الِاخْتِيَار ; أَيْ يَخْتَار لِلتَّوْحِيدِ مَنْ يَشَاء.
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيب " أَيْ يَسْتَخْلِص لِدِينِهِ مَنْ رَجَعَ إِلَيْهِ.
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ
" وَمَا تَفَرَّقُوا " قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَعْنِي قُرَيْشًا.
" إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْعِلْم " مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُبْعَث إِلَيْهِمْ نَبِيّ ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة فَاطِر :" وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْد أَيْمَانهمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِير " [ فَاطِر : ٤٢ ] يُرِيد نَبِيًّا.
وَقَالَ فِي سُورَة الْبَقَرَة :" فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ " [ الْبَقَرَة : ٨٩ ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه هُنَاكَ.
وَقِيلَ : أُمَم الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمِينَ ; فَإِنَّهُمْ فِيمَا بَيْنهمْ اِخْتَلَفُوا لَمَّا طَالَ بِهِمْ الْمَدَى، فَآمَنَ قَوْم وَكَفَرَ قَوْم.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : يَعْنِي أَهْل الْكِتَاب ; دَلِيله فِي سُورَة الْمُنْفَكِّينَ :" وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَة " [ الْبَيِّنَة : ٤ ].
فَالْمُشْرِكُونَ قَالُوا : لِمَ خُصَّ بِالنُّبُوَّةِ ! وَالْيَهُود حَسَدُوهُ لَمَّا بُعِثَ ; وَكَذَا النَّصَارَى.
" بَغْيهمْ بَيْنهمْ " أَيْ بَغْيًا مِنْ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ، فَلَيْسَ تَفَرُّقهمْ لِقُصُورٍ فِي الْبَيَان وَالْحُجَج، وَلَكِنْ لِلْبَغْيِ وَالظُّلْم وَالِاشْتِغَال بِالدُّنْيَا.
" وَلَوْلَا كَلِمَة سَبَقَتْ مِنْ رَبّك " فِي تَأْخِير الْعِقَاب عَنْ هَؤُلَاءِ.
" إِلَى أَجَل مُسَمًّى " قِيلَ : الْقِيَامَة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" بَلْ السَّاعَة مَوْعِدهمْ " [ الْقَمَر : ٤٦ ].
وَقِيلَ : إِلَى الْأَجَل الَّذِي قُضِيَ فِيهِ بِعَذَابِهِمْ.
" لَقُضِيَ بَيْنهمْ " أَيْ بَيَّنَ مَنْ آمَنَ وَبَيَّنَ مَنْ كَفَرَ بِنُزُولِ الْعَذَاب.
" وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَاب " يُرِيد الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
" مِنْ بَعْدهمْ " أَيْ مِنْ بَعْد الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقّ.
" لَفِي شَكّ مِنْهُ مُرِيب " مَنْ الَّذِي أَوْصَى بِهِ الْأَنْبِيَاء.
وَالْكِتَاب هُنَا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقِيلَ :" إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَاب " قُرَيْش.
" مِنْ بَعْدهمْ " مِنْ بَعْد الْيَهُود النَّصَارَى.
" لَفِي شَكّ " مِنْ الْقُرْآن أَوْ مِنْ مُحَمَّد.
وَقَالَ مُجَاهِد : مَعْنَى " مِنْ بَعْدهمْ " مِنْ قَبْلهمْ ; يَعْنِي مِنْ قَبْل مُشْرِكِي مَكَّة، وَهُمْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
لَمَّا أَجَازَ أَنْ يَكُون الشَّكّ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ لِقُرَيْشٍ قِيلَ لَهُ :" فَلِذَلِكَ فَادْعُ " أَيْ فَتَبَيَّنْت شَكَّهُمْ فَادْعُ إِلَى اللَّه ; أَيْ إِلَى ذَلِكَ الدِّين الَّذِي شَرَعَهُ اللَّه لِلْأَنْبِيَاءِ وَوَصَّاهُمْ بِهِ.
فَاللَّام بِمَعْنَى إِلَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" بِأَنَّ رَبّك أَوْحَى لَهَا " [ الزَّلْزَلَة : ٥ ] أَيْ إِلَيْهَا.
و " ذَلِكَ " بِمَعْنَى هَذَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّل " الْبَقَرَة ".
وَالْمَعْنَى فَلِهَذَا الْقُرْآن فَادْعُ.
وَقِيلَ : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير ; وَالْمَعْنَى كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَلِذَلِكَ فَادْعُ.
وَقِيلَ : إِنَّ اللَّام عَلَى بَابهَا ; وَالْمَعْنَى : فَمِنْ أَجْل ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْره فَادْعُ وَاسْتَقِمْ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ إِلَى الْقُرْآن فَادْعُ الْخَلْق.
" وَاسْتَقِمْ " خِطَاب لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالَ قَتَادَة : أَيْ اِسْتَقِمْ عَلَى أَمْر اللَّه.
وَقَالَ سُفْيَان : أَيْ اِسْتَقِمْ عَلَى الْقُرْآن.
وَقَالَ الضَّحَّاك : اِسْتَقِمْ عَلَى تَبْلِيغ الرِّسَالَة.
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
أَيْ لَا تَنْظُر إِلَى خِلَاف مَنْ خَالَفَك.
وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ
أَيْ أَنْ أَعْدِل ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَأُمِرْت أَنْ أُسْلِم لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [ غَافِر : ٦٦ ].
وَقِيلَ : هِيَ لَام كَيْ، أَيْ لِكَيْ أَعْدِل.
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو الْعَالِيَة : لِأُسَوِّيَ بَيْنكُمْ فِي الدِّين فَأُؤْمِن بِكُلِّ كِتَاب وَبِكُلِّ رَسُول.
وَقَالَ غَيْرهمَا : لِأَعْدِل فِي جَمِيع الْأَحْوَال.
وَقِيلَ : هَذَا الْعَدْل هُوَ الْعَدْل فِي الْأَحْكَام.
وَقِيلَ فِي التَّبْلِيغ.
اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد : الْخِطَاب لِلْيَهُودِ ; أَيْ لَنَا دِيننَا وَلَكُمْ دِينكُمْ.
قَالَ : نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ :" قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " [ التَّوْبَة : ٢٩ ] الْآيَة.
قَالَ مُجَاهِد : وَمَعْنَى " لَا حُجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُمْ " لَا خُصُومَة بَيْننَا وَبَيْنكُمْ.
وَقِيلَ : لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، لِأَنَّ الْبَرَاهِين قَدْ ظَهَرَتْ، وَالْحُجَج قَدْ قَامَتْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعِنَاد، وَبَعْد الْعِنَاد لَا حُجَّة وَلَا جِدَال.
قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَى " لَا حُجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُمْ " عَلَى ذَلِكَ الْقَوْل : لَمْ يُؤْمَر أَنْ يَحْتَجّ عَلَيْكُمْ و يُقَاتِلكُمْ ; ثُمَّ نُسِخَ هَذَا.
كَمَا أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ مِنْ قَبْل أَنْ تُحَوَّل الْقِبْلَة : لَا تُصَلِّ إِلَى الْكَعْبَة، ثُمَّ.
حُوِّلَ النَّاس بَعْد ; لَجَازَ أَنْ يُقَال نُسِخَ ذَلِكَ.
اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
يُرِيد يَوْم الْقِيَامَة.
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
أَيْ فَهُوَ يَحْكُم بَيْننَا إِذَا صِرْنَا إِلَيْهِ، وَيُجَازِي كُلًّا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة وَشَيْبَة بْن رَبِيعَة، وَقَدْ سَأَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِع عَنْ دَعْوَته وَدِينه إِلَى دِين قُرَيْش، عَلَى أَنْ يُعْطِيه الْوَلِيد نِصْف مَاله وَيُزَوِّجهُ شَيْبَة بِابْنَتِهِ.
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
" وَاَلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّه " رَجَعَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.
" مِنْ بَعْد مَا اُسْتُجِيبَ لَهُ " قَالَ مُجَاهِد : مِنْ بَعْد مَا أَسْلَمَ النَّاس.
قَالَ : وَهَؤُلَاءِ قَدْ تَوَهَّمُوا أَنَّ الْجَاهِلِيَّة تَعُود.
وَقَالَ قَتَادَة : الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّه الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَمُحَاجَّتهمْ قَوْلهمْ نَبِيّنَا قَبْل نَبِيّكُمْ وَكِتَابنَا قَبْل كِتَابكُمْ ; وَكَانُوا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ الْفَضِيلَة بِأَنَّهُمْ أَهْل الْكِتَاب وَأَنَّهُمْ أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء.
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ :" أَيّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْر مَقَامًا وَأَحْسَن نَدِيًّا " [ مَرْيَم : ٧٣ ] فَقَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَاَلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّه مِنْ بَعْد مَا اُسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتهمْ دَاحِضَة عِنْد رَبّهمْ " أَيْ لَا ثَبَات لَهَا كَالشَّيْءِ الَّذِي يَزِلّ عَنْ مَوْضِعه.
وَالْهَاء فِي " لَهُ " يَجُوز أَنْ يَكُون لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; أَيْ مِنْ بَعْد مَا وَحَّدُوا اللَّه وَشَهِدُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ مِنْ بَعْد مَا اُسْتُجِيبَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَته مِنْ أَهْل بَدْر وَنَصَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ.
يُقَال : دَحَضْت حُجَّته دُحُوضًا بَطَلَتْ.
وَأَدْحَضَهَا اللَّه.
وَالْإِدْحَاض : الْإِزْلَاق.
وَمَكَان دَحْض وَدَحَض أَيْضًا ( بِالتَّحْرِيكِ ) أَيْ زَلِق.
وَدَحَضَتْ رِجْله تَدْحَض دَحْضًا زَلَقَتْ.
وَدَحَضَتْ الشَّمْس عَنْ كَبِد السَّمَاء زَالَتْ.
وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ
يُرِيد فِي الدُّنْيَا.
وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
يُرِيد فِي الْآخِرَة عَذَاب دَائِم.
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ
يَعْنِي الْقُرْآن وَسَائِر الْكُتُب الْمُنَزَّلَة.
" بِالْحَقِّ " أَيْ بِالصِّدْقِ.
" وَالْمِيزَان " أَيْ الْعَدْل ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَأَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ.
وَالْعَدْل يُسَمَّى مِيزَانًا ; لِأَنَّ الْمِيزَان آلَة الْإِنْصَاف وَالْعَدْل.
وَقِيلَ : الْمِيزَان مَا بَيْن فِي الْكُتُب مِمَّا يَجِب عَلَى الْإِنْسَان أَنْ يَعْمَل بِهِ.
وَقَالَ قَتَادَة : الْمِيزَان الْعَدْل فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِبَة الْمَعْنَى.
وَقِيلَ : هُوَ الْجَزَاء عَلَى الطَّاعَة بِالثَّوَابِ وَعَلَى الْمَعْصِيَة بِالْعِقَابِ.
وَقِيلَ : إِنَّهُ الْمِيزَان نَفْسه الَّذِي يُوزَن بِهِ، أَنْزَلَهُ مِنْ السَّمَاء وَعَلَّمَ الْعِبَاد الْوَزْن بِهِ ; لِئَلَّا يَكُون بَيْنهمْ تَظَالَمَ وَتَبَاخَسَ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَاب وَالْمِيزَان لِيَقُومَ النَّاس بِالْقِسْطِ " [ الْحَدِيد : ٢٥ ].
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ الَّذِي يُوزَن بِهِ.
وَمَعْنَى أَنْزَلَ الْمِيزَان.
هُوَ إِلْهَامه لِلْخَلْقِ أَنْ يَعْمَلُوهُ وَيَعْمَلُوا بِهِ.
وَقِيلَ : الْمِيزَان مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي بَيْنكُمْ بِكِتَابِ اللَّه.
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ
فَلَمْ يُخْبِرهُ بِهَا.
يَحُضّهُ عَلَى الْعَمَل بِالْكِتَابِ وَالْعَدْل وَالسَّوِيَّة، وَالْعَمَل بِالشَّرَائِعِ قَبْل أَنْ يُفَاجِئ الْيَوْم الَّذِي يَكُون فِيهِ الْمُحَاسَبَة وَوَزْن الْأَعْمَال، فَيُوَفِّي لِمَنْ أَوْفَى وَيُطَفِّف لِمَنْ طَفَّفَ.
ف " لَعَلَّ السَّاعَة قَرِيب " أَيْ مِنْك وَأَنْتَ لَا تَدْرِي.
وَقَالَ :" قَرِيب " وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَة ; لِأَنَّ تَأْنِيثهَا غَيْر حَقِيقِيّ لِأَنَّهَا كَالْوَقْتِ ; قَالَهُ الزَّجَّاج.
وَالْمَعْنَى : لَعَلَّ الْبَعْث أَوْ لَعَلَّ مَجِيء السَّاعَة قَرِيب.
وَقَالَ الْكِسَائِيّ :" قَرِيب " نَعْت يُنْعَت بِهِ الْمُذَكَّر وَالْمُؤَنَّث وَالْجَمْع بِمَعْنًى وَلَفْظ وَاحِد ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِنَّ رَحْمَة اللَّه قَرِيب مِنْ الْمُحْسِنِينَ " [ الْأَعْرَاف : ٥٦ ] قَالَ الشَّاعِر :
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا
يَعْنِي عَلَى طَرِيق الِاسْتِهْزَاء، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا غَيْر آتِيَة، أَوْ إِيهَامًا لِلضَّعَفَةِ أَنَّهَا لَا تَكُون.
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا
أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ لِاسْتِقْصَارِهِمْ أَنْفُسهمْ مَعَ الْجَهْد فِي الطَّاعَة ; كَمَا قَالَ :" وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبهمْ وَجِلَة أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهمْ رَاجِعُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : ٦٠ ].
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ
أَيْ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا.
أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ
أَيْ يَشُكُّونَ وَيُخَاصِمُونَ فِي قِيَام السَّاعَة.
لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ
أَيْ عَنْ الْحَقّ وَطَرِيق الِاعْتِبَار ; إِذْ لَوْ تَذَكَّرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الَّذِي أَنْشَأَهُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة إِلَى أَنْ بَلَغُوا مَا بَلَغُوا، قَادِر عَلَى أَنْ يَبْعَثهُمْ.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : حَفِيّ بِهِمْ.
وَقَالَ عِكْرِمَة : بَارّ بِهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّيّ : رَفِيق بِهِمْ.
وَقَالَ مُقَاتِل : لَطِيف بِالْبَرِّ وَالْفَاجِر ; حَيْثُ لَمْ يَقْتُلهُمْ جُوعًا بِمَعَاصِيهِمْ.
وَقَالَ الْقُرَظِيّ : لَطِيف، بِهِمْ فِي الْعَرْض وَالْمُحَاسَبَة.
قَالَ :
وَكُنَّا قَرِيبًا وَالدِّيَار بَعِيدَة فَلَمَّا وَصَّلْنَا نُصْب أَعْيُنهمْ غِبْنَا
غَدًا عِنْد مَوْلَى الْخَلْق لِلْخَلْقِ مَوْقِف يُسَائِلهُمْ فِيهِ الْجَلِيل وَيَلْطُف
وَقَالَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن : يَلْطُف بِهِمْ فِي الرِّزْق مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ جَعَلَ رِزْقك مِنْ الطَّيِّبَات.
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعهُ إِلَيْك مَرَّة وَاحِدَة فَتُبَذِّرهُ.
وَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : لَطِيف بِهِمْ فِي الْقُرْآن وَتَفْصِيله وَتَفْسِيره.
وَقَالَ الْجُنَيْد : لَطِيف بِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى عَرَفُوهُ، وَلَوْ لَطَفَ بِأَعْدَائِهِ لَمَا جَحَدُوهُ.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ الْكَتَّانِيّ : اللَّطِيف بِمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَاده إِذَا يَئِسَ مِنْ الْخَلْق تَوَكَّلَ وَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يَقْبَلهُ وَيَقْبَل عَلَيْهِ.
وَجَاءَ فِي حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَطَّلِع عَلَى الْقُبُور الدَّوَارِس فَيَقُول جَلَّ وَعَزَّ اِمَّحَتْ آثَارهمْ وَاضْمَحَلَّتْ صُوَرهمْ وَبَقِيَ عَلَيْهِمْ الْعَذَاب وَأَنَا اللَّطِيف وَأَنَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ خَفَّفُوا عَنْهُمْ الْعَذَاب فَيُخَفِّف عَنْهُمْ الْعَذَاب ).
قَالَ أَبُو عَلِيّ الثَّقَفِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ :
أَمُرّ بِأَفْنَاءِ الْقُبُور كَأَنَّنِي أَخُو فِطْنَة وَالثَّوَاب فِيهِ نَحِيف
وَمَنْ شَقَّ فَاهُ اللَّه قَدَّرَ رِزْقه وَرَبِّي بِمَنْ يَلْجَأ إِلَيْهِ لَطِيف
وَقِيلَ : اللَّطِيف الَّذِي يَنْشُر مِنْ عِبَاده الْمَنَاقِب وَيَسْتُر عَلَيْهِمْ الْمَثَالِب ; وَعَلَى هَذَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَا مَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيل وَسَتَرَ الْقَبِيح ).
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي يَقْبَل الْقَلِيل وَيَبْذُل الْجَزِيل.
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي يَجْبُر الْكَسِير وَيُيَسِّر الْعَسِير.
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي لَا يَخَاف إِلَّا عَدْله وَلَا يُرْجَى إِلَّا فَضْله.
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي يَبْذُل لِعَبْدِهِ النِّعْمَة فَوْق الْهِمَّة وَيُكَلِّفهُ الطَّاعَة فَوْق الطَّاقَة ; قَالَ تَعَالَى :" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَة اللَّه لَا تُحْصُوهَا " [ النَّحْل : ١٨ ] " وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمه ظَاهِرَة وَبَاطِنَة " [ لُقْمَان : ٢٠ ]، وَقَالَ :" وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج " [ الْحَجّ : ٧٨ ]، " يُرِيد اللَّه أَنْ يُخَفِّف عَنْكُمْ " [ النِّسَاء : ٢٨ ].
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي يُعِين عَلَى الْخِدْمَة وَيُكْثِر الْمِدْحَة.
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي لَا يُعَاجِل مَنْ عَصَاهُ وَلَا يُخَيِّب مَنْ رَجَاهُ.
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي لَا يَرُدّ سَائِله وَلَا يُوئِس آمِله.
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي يَعْفُو عَمَّنْ يَهْفُو.
وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي يَرْحَم مَنْ لَا يَرْحَم نَفْسه.
وَقِيلَ.
هُوَ الَّذِي أَوْقَدَ فِي أَسْرَار الْعَارِفِينَ مِنْ الْمُشَاهَدَة سِرَاجًا، وَجَعَلَ الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم لَهُمْ مِنْهَاجًا، وَأَجْزَلَ لَهُمْ مِنْ سَحَائِب بِرّه مَاء ثَجَّاجًا.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَام " قَوْل أَبِي الْعَالِيَة وَالْجُنَيْد أَيْضًا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا جَمِيع هَذَا فِي ( الْكِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى ) عِنْد اِسْمه اللَّطِيف، وَالْحَمْد لِلَّهِ.
" يَرْزُق مَنْ يَشَاء " وَيَحْرُم مَنْ يَشَاء.
وَفِي تَفْضِيل قَوْم بِالْمَالِ حِكْمَة ; لِيَحْتَاجَ الْبَعْض إِلَى الْبَعْض ; كَمَا قَالَ :" لِيَتَّخِذ بَعْضهمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا " [ الزُّخْرُف : ٣٢ ]، فَكَانَ هَذَا لُطْفًا بِالْعِبَادِ.
وَأَيْضًا لِيَمْتَحِن الْغَنِيّ بِالْفَقِيرِ وَالْفَقِير بِالْغَنِيِّ ; كَمَا قَالَ :" وَجَعَلْنَا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة أَتَصْبِرُونَ " [ الْفُرْقَان : ٢٠ ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه.
" وَهُوَ الْقَوِيّ الْعَزِيز "
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ
قَوْله تَعَالَى :" مَنْ كَانَ يُرِيد حَرْث الْأَخِرَة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثه " الْحَرْث الْعَمَل وَالْكَسْب.
وَمِنْهُ قَوْل عَبْد اللَّه بْن عُمَر : وَاحْرُثْ لِدُنْيَاك كَأَنَّك تَعِيش أَبَدًا وَاعْمَلْ لِآخِرَتِك كَأَنَّك تَمُوت غَدًا.
وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّجُل حَارِثًا.
وَالْمَعْنَى أَيْ مَنْ طَلَبَ بِمَا رَزَقْنَاهُ حَرْثًا لِآخِرَتِهِ، فَأَدَّى حُقُوق اللَّه وَأَنْفَقَ فِي إِعْزَاز الدِّين ; فَإِنَّمَا نُعْطِيه ثَوَاب ذَلِكَ لِلْوَاحِدِ عَشْرًا إِلَى سَبْعمِائَةِ فَأَكْثَر.
" وَمَنْ كَانَ يُرِيد حَرْث الدُّنْيَا " أَيْ طَلَبَ بِالْمَالِ الَّذِي آتَاهُ اللَّه رِيَاسَة الدُّنْيَا وَالتَّوَصُّل إِلَى الْمَحْظُورَات، فَإِنَّا لَا نَحْرُمهُ الرِّزْق أَصْلًا، وَلَكِنْ لَا حَظَّ بِهِ فِي الْآخِرَة مِنْ مَاله ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" مَنْ كَانَ يُرِيد الْعَاجِلَة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَنْ نُرِيد ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّم يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَة وَسَعَى لَهَا سَعْيهَا وَهُوَ مُؤْمِن فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيهمْ مَشْكُورًا " [ الْإِسْرَاء :
١٨ - ١٩ ].
وَقِيلَ :" نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثه " نُوَفِّقهُ لِلْعِبَادَةِ وَنُسَهِّلهَا عَلَيْهِ.
وَقِيلَ : حَرْث الْآخِرَة الطَّاعَة ; أَيْ مَنْ أَطَاعَ فَلَهُ الثَّوَاب.
قِيلَ :" نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثه " أَيْ نُعْطِهِ الدُّنْيَا مَعَ الْآخِرَة.
وَقِيلَ : الْآيَة فِي الْغَزْو ; أَيْ مَنْ أَرَادَ بِغَزْوِهِ الْآخِرَة أُوتِيَ الثَّوَاب، وَمَنْ أَرَادَ بِغَزْوِهِ الْغَنِيمَة أُوتِيَ مِنْهَا.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالظَّاهِر أَنَّ الْآيَة فِي الْكَافِر ; يُوَسِّع لَهُ فِي الدُّنْيَا ; أَيْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرّ بِذَلِكَ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَا تَبْقَى.
وَقَالَ قَتَادَة : إِنَّ اللَّه يُعْطِي عَلَى نِيَّة الْآخِرَة مَا شَاءَ مِنْ أَمْر الدُّنْيَا، وَلَا يُعْطِي عَلَى نِيَّة الدُّنْيَا إِلَّا الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَيْضًا : يَقُول اللَّه تَعَالَى :( مَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ زِدْنَاهُ فِي عَمَله وَأَعْطَيْنَاهُ مِنْ الدُّنْيَا مَا كَتَبْنَا لَهُ وَمَنْ آثَرَ دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَته لَمْ نَجْعَل لَهُ نَصِيبًا فِي الْآخِرَة إِلَّا النَّار وَلَمْ يُصِبْ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا رِزْقًا قَدْ قَسَمْنَاهُ لَهُ لَا بُدّ أَنْ كَانَ يُؤْتَاهُ مَعَ إِيثَار أَوْ غَيْر إِيثَار ).
وَرَوَى جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" مَنْ كَانَ يُرِيد حَرْث الْآخِرَة " مَنْ كَانَ مِنْ الْأَبْرَار يُرِيد بِعَمَلِهِ الصَّالِح ثَوَاب الْآخِرَة " نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثه " أَيْ فِي حَسَنَاته.
وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ
" وَمَنْ كَانَ يُرِيد حَرْث الدُّنْيَا " أَيْ مَنْ كَانَ مِنْ الْفُجَّار يُرِيد بِعَمَلِهِ الْحَسَن الدُّنْيَا " نُؤْتِهِ مِنْهَا " ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي الْإِسْرَاء :" مَنْ كَانَ يُرِيد الْعَاجِلَة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَنْ نُرِيد " [ الْإِسْرَاء.
١٨ ].
وَالصَّوَاب أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ هَذَا خَبَر وَالْأَشْيَاء كُلّهَا بِإِرَادَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( لَا يَقُلْ أَحَدكُمْ اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي إِنْ شِئْت اللَّهُمَّ اِرْحَمْنِي إِنْ شِئْت ).
وَقَدْ قَالَ قَتَادَة مَا تَقَدَّمَ ذِكْره، وَهُوَ يُبَيِّن لَك أَنْ لَا نَسْخ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " هُود " أَنَّ هَذَا مِنْ بَاب الْمُطْلَق وَالْمُقَيَّد، وَأَنَّ النَّسْخ لَا يَدْخُل فِي الْأَخْبَار.
وَاَللَّه الْمُسْتَعَان.
مَسْأَلَة : هَذِهِ الْآيَة تُبْطِل مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة فِي قَوْله : إِنَّهُ مَنْ تَوَضَّأَ تَبَرُّدًا أَنَّهُ يُجْزِيه عَنْ فَرِيضَة الْوُضُوء الْمُوَظَّف عَلَيْهِ ; فَإِنَّ فَرِيضَة الْوُضُوء مِنْ حَرْث الْآخِرَة وَالتَّبَرُّد مِنْ حَرْث الدُّنْيَا، فَلَا يَدْخُل أَحَدهمَا عَلَى الْآخَر، وَلَا تُجْزِي نِيَّته عَنْهُ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَة ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ
قَوْله تَعَالَى :" أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء " أَيْ أَلَهُمْ ! وَالْمِيم صِلَة وَالْهَمْزَة لِلتَّقْرِيعِ.
وَهَذَا مُتَّصِل بِقَوْلِهِ :" شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا " [ الشُّورَى : ١٣ ]، وَقَوْله تَعَالَى :" اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان " [ الشُّورَى : ١٧ ] كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، فَهَلْ لَهُمْ آلِهَة شَرَعُوا لَهُمْ الشِّرْك الَّذِي لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه ! وَإِذَا اِسْتَحَالَ هَذَا فَاَللَّه لَمْ يَشْرَع الشِّرْك، فَمِنْ أَيْنَ يَدِينُونَ بِهِ.
وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ
الْقِيَامَة حَيْثُ قَالَ :" بَلْ السَّاعَة مَوْعِدهمْ " [ الْقَمَر : ٤٦ ].
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
فِي الدُّنْيَا، فَعَاجَلَ الظَّالِم بِالْعُقُوبَةِ وَأَثَابَ الطَّائِع.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ
أَيْ الْمُشْرِكِينَ.
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
فِي الدُّنْيَا الْقَتْل وَالْأَسْر وَالْقَهْر، وَفِي الْآخِرَة عَذَاب النَّار.
وَقَرَأَ اِبْن هُرْمُز " وَأَنَّ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة عَلَى الْعَطْف " وَلَوْلَا كَلِمَة " وَالْفَصْل بَيْن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بِجَوَابِ " لَوْلَا " جَائِز.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَوْضِع " أَنَّ " رَفْعًا عَلَى تَقْدِير : وَجَبَ أَنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَاب أَلِيم، فَيَكُون مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْله كَقِرَاءَةِ الْكَسْر ; فَاعْلَمْهُ.
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ
أَيْ خَائِفِينَ
مِمَّا كَسَبُوا
أَيْ مِنْ جَزَاء مَا كَسَبُوا.
وَالظَّالِمُونَ هَاهُنَا الْكَافِرُونَ ; بِدَلِيلِ التَّقْسِيم بَيْن الْمُؤْمِن وَالْكَافِر.
وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ
أَيْ نَازِل بِهِمْ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ
الرَّوْضَة : الْمَوْضِع النَّزِه الْكَثِير الْخُضْرَة.
وَقَدْ مَضَى فِي " الرُّوم ".
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
أَيْ مِنْ النَّعِيم وَالثَّوَاب الْجَزِيل.
ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ
أَيْ لَا يُوصَف وَلَا تَهْتَدِي الْعُقُول إِلَى كُنْه صِفَته ; لِأَنَّ الْحَقّ إِذَا قَالَ كَبِير فَمَنْ ذَا الَّذِي يُقَدِّر قَدْره.
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
قُرِئَ " يُبَشِّر " مِنْ بَشَّرَهُ، " وَيُبْشِر " مِنْ أَبْشَرَهُ، " وَيَبْشُر " مِنْ بَشَرَهُ، وَفِيهِ حَذْف ; أَيْ يُبَشِّر اللَّه بِهِ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ لِيَتَعَجَّلُوا السُّرُور وَيَزْدَادُوا مِنْهُ وَجْدًا فِي الطَّاعَة.
قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى
الْأَوَّل : قَوْله تَعَالَى :" قُلْ لَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ عَلَيْهِ أَجْرًا " أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد لَا أَسْأَلكُمْ عَلَى تَبْلِيغ الرِّسَالَة جُعْلًا.
" إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى " قَالَ الزَّجَّاج :" إِلَّا الْمَوَدَّة " اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل ; أَيْ إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي فَتَحْفَظُونِي.
وَالْخِطَاب لِقُرَيْشٍ خَاصَّة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَأَبُو مَالِك وَالشَّعْبِيّ وَغَيْرهمْ.
قَالَ الشَّعْبِيّ : أَكْثَرَ النَّاس عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْآيَة فَكَتَبْنَا إِلَى اِبْن عَبَّاس نَسْأَلهُ عَنْهَا ; فَكَتَبَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوْسَط النَّاس فِي قُرَيْش، فَلَيْسَ بَطْن مِنْ بُطُونهمْ إِلَّا وَقَدْ وَلَدَهُ ; فَقَالَ اللَّه لَهُ :" قُلْ لَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى " إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي فِي قَرَابَتِي مِنْكُمْ ; أَيْ تُرَاعُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنكُمْ فَتَصْدُقُونِي.
ف " الْقُرْبَى " هَاهُنَا قَرَابَة الرَّحِم ; كَأَنَّهُ قَالَ : اِتَّبِعُونِي لِلْقَرَابَةِ إِنْ لَمْ تَتَّبِعُونِي لِلنُّبُوَّةِ.
قَالَ عِكْرِمَة : وَكَانَتْ قُرَيْش تَصِل أَرْحَامهَا فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَتْهُ ; فَقَالَ :( صِلُونِي كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ ).
فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا : قُلْ لَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا لَكِنْ أُذَكِّركُمْ قَرَابَتِي ; عَلَى اِسْتِئْنَاء لَيْسَ مِنْ أَوَّل ; ذَكَرَهُ النَّحَّاس.
وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ طَاوُس عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى :" إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى " فَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قُرْبَى آل مُحَمَّد ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : عَجِلْت ! إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْن مِنْ قُرَيْش إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَة، فَقَالَ : إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنكُمْ مِنْ الْقَرَابَة.
فَهَذَا قَوْل.
وَقِيلَ : الْقُرْبَى قَرَابَة الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا أَسْأَلكُمْ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا قَرَابَتِي وَأَهْل بَيْتِي، كَمَا أَمَرَ بِإِعْظَامِهِمْ ذَوِي الْقُرْبَى.
وَهَذَا قَوْل عَلِيّ بْن حُسَيْن وَعَمْرو بْن شُعَيْب وَالسُّدِّيّ.
وَفِي رِوَايَة سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" قُلْ لَا أَسَالّكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى " قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَوَدّهُمْ ؟ قَالَ :( عَلِيّ وَفَاطِمَة وَأَبْنَاؤُهُمَا ).
وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : شَكَوْت إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدَ النَّاس لِي.
فَقَالَ :( أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُون رَابِع أَرْبَعَة أَوَّل مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة أَنَا وَأَنْتَ وَالْحَسَن وَالْحُسَيْن وَأَزْوَاجنَا عَنْ أَيْمَاننَا وَشَمَائِلنَا وَذُرِّيَّتنَا خَلْف أَزْوَاجنَا ).
وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( حُرِّمَتْ الْجَنَّة عَلَى مَنْ ظَلَمَ أَهْل بَيْتِي وَآذَانِي فِي عِتْرَتِي وَمَنْ اِصْطَنَعَ صَنِيعَة إِلَى أَحَد مِنْ وَلَد عَبْد الْمُطَّلِب وَلَمْ يُجَازِهِ عَلَيْهَا فَأَنَا أُجَازِيه عَلَيْهَا غَدًا إِذَا لَقِيَنِي يَوْم الْقِيَامَة ).
وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : الْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَتَوَدَّدُوا إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ.
ف " الْقُرْبَى " عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْقُرْبَة.
يُقَال : قُرْبَة وَقُرْبَى بِمَعْنًى، ; كَالزُّلْفَةِ وَالزُّلْفَى.
وَرَوَى قَزَعَة بْن سُوَيْد عَنْ اِبْن أَبِي، نَجِيح عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( قُلْ لَا أَسْأَلكُمْ عَلَى مَا آتَيْتُكُمْ بِهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَادُّوا وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ ).
وَرَوَى مَنْصُور وَعَوْف عَنْ الْحَسَن " قُلْ لَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى " قَالَ : يَتَوَدَّدُونَ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَيَتَقَرَّبُونَ مِنْهُ بِطَاعَتِهِ.
وَقَالَ قَوْم : الْآيَة مَنْسُوخَة وَإِنَّمَا نَزَلَتْ بِمَكَّة ; وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة، وَأَمَرَهُمْ اللَّه بِمَوَدَّةِ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِلَة رَحِمه، فَلَمَّا هَاجَرَ آوَتْهُ الْأَنْصَار وَنَصَرُوهُ، وَأَرَادَ اللَّه أَنْ يُلْحِقهُ بِإِخْوَانِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاء حَيْثُ قَالُوا :" وَمَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ " [ الشُّعَرَاء : ١٠٩ ] فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّه " [ سَبَأ : ٤٧ ] فَنُسِخَتْ بِهَذِهِ الْآيَة وَبِقَوْلِهِ :" قُلْ مَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ " [ ص : ٨٦ ]، وَقَوْله.
" أَمْ تَسْأَلهُمْ خَرْجًا فَخَرَاج رَبّك خَيْر " [ الْمُؤْمِنُونَ : ٧٢ ]، وَقَوْله :" أَمْ تَسْأَلهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَم مُثْقَلُونَ " [ الطُّور : ٤٠ ] قَالَهُ الضَّحَّاك وَالْحُسَيْن بْن الْفَضْل.
وَرَوَاهُ جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس.
قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَكَفَى قُبْحًا بِقَوْلِ مَنْ يَقُول : إِنَّ التَّقَرُّب إِلَى اللَّه بِطَاعَتِهِ وَمَوَدَّة نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْل بَيْته مَنْسُوخ ; وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد مَاتَ شَهِيدًا.
وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد جَعَلَ اللَّه زُوَّار قَبْره الْمَلَائِكَة وَالرَّحْمَة.
وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْض آل مُحَمَّد جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَيْن عَيْنَيْهِ أَيِس الْيَوْم مِنْ رَحْمَة اللَّه.
وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْض آل مُحَمَّد لَمْ يَرَحْ رَائِحَة الْجَنَّة.
وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْض آل بَيْتِي فَلَا نَصِيب لَهُ فِي شَفَاعَتِي ).
قُلْت : وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَر الزَّمَخْشَرِيّ فِي تَفْسِيره بِأَطْوَل مِنْ هَذَا فَقَالَ : وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد مَاتَ شَهِيدًا أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد مَاتَ مُؤْمِنًا مُسْتَكْمِل الْإِيمَان.
أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد بَشَّرَهُ مَلَك، الْمَوْت بِالْجَنَّةِ ثُمَّ مُنْكَر وَنَكِير.
أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد يُزَفّ إِلَى الْجَنَّة كَمَا تُزَفّ الْعَرُوس إِلَى بَيْت زَوْجهَا أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد فُتِحَ لَهُ فِي قَبْره بَابَانِ إِلَى الْجَنَّة.
أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد جَعَلَ اللَّه قَبْره مَزَار مَلَائِكَة الرَّحْمَة.
أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى حُبّ آل مُحَمَّد مَاتَ عَلَى السُّنَّة وَالْجَمَاعَة.
أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْض آل مُحَمَّد جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَيْن عَيْنَيْهِ آيِس مِنْ رَحْمَة اللَّه.
أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْض آل مُحَمَّد مَاتَ كَافِرًا.
أَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلَى بُغْض آل مُحَمَّد لَمْ يَشَمّ رَائِحَة الْجَنَّة ).
قَالَ النَّحَّاس : وَمَذْهَب عِكْرِمَة لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ ; قَالَ : كَانُوا يَصِلُونَ أَرْحَامهمْ فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعُوهُ فَقَالَ :( قُلْ لَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي وَتَحْفَظُونِي لِقَرَابَتِي وَلَا تُكَذِّبُونِي ).
قُلْت : وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس فِي الْبُخَارِيّ وَالشَّعْبِيّ عَنْهُ بِعَيْنِهِ ; وَعَلَيْهِ لَا نَسْخ.
قَالَ النَّحَّاس : وَقَوْل الْحَسَن حَسَن، وَيَدُلّ عَلَى صِحَّته الْحَدِيث الْمُسْنَد عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ قَالَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيع بْن سُلَيْمَان الْمُرَادِيّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَسَد بْن مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا قَزَعَة - وَهُوَ بْن يَزِيد الْبَصْرِيّ - قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي نَجِيع عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَا أَسْأَلكُمْ عَلَى مَا أُنَبِّئكُمْ بِهِ مِنْ الْبَيِّنَات وَالْهُدَى أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَوَادُّوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ تَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ ).
فَهَذَا الْمُبَيَّن عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَالَ هَذَا، وَكَذَا قَالَتْ الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْله :" إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّه " [ سَبَأ : ٤٧ ].
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَب نُزُولهَا ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا قَدِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة كَانَتْ تَنُوبهُ نَوَائِب وَحُقُوق لَا يَسَعهَا مَا فِي يَدَيْهِ ; فَقَالَتْ الْأَنْصَار : إِنَّ هَذَا الرَّجُل هَدَاكُمْ اللَّه بِهِ وَهُوَ اِبْن أَخِيكُمْ، وَتَنُوبهُ نَوَائِب وَحُقُوق لَا يَسَعهَا مَا فِي يَدَيْهِ فَنَجْمَع لَهُ ; فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَتَوْهُ بِهِ فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ الْحَسَن : نَزَلَتْ حِين تَفَاخَرَتْ الْأَنْصَار وَالْمُهَاجِرُونَ، فَقَالَتْ الْأَنْصَار نَحْنُ فَعَلْنَا، وَفَخَرَتْ الْمُهَاجِرُونَ بِقَرَابَتِهِمْ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَى مِقْسَم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَخَطَبَ فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ :( أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّاء فَأَعَزَّكُمْ اللَّه بِي.
أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّه بِي.
أَلَمْ تَكُونُوا خَائِفِينَ فَأَمَّنَكُمْ اللَّه بِي أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيَّ ) ؟ فَقَالُوا : بِهِ نُجِيبك ؟ قَالَ.
( تَقُولُونَ أَلَمْ يَطْرُدك قَوْمك فَآوَيْنَاك.
أَلَمْ يُكَذِّبك قَوْمك فَصَدَّقْنَاك.
) فَعَدَّدَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ فَجَثَوْا عَلَى رُكَبهمْ فَقَالُوا : أَنْفُسنَا وَأَمْوَالنَا لَك ; فَنَزَلَتْ :" قُلْ لَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى " وَقَالَ قَتَادَة : قَالَ الْمُشْرِكُونَ لَعَلَّ مُحَمَّدًا فِيمَا يَتَعَاطَاهُ يَطْلُب أَجْرًا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة ; لِيَحُثّهُمْ عَلَى مَوَدَّته وَمَوَدَّة أَقْرِبَائِهِ.
قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَهَذَا أَشْبَه بِالْآيَةِ، لِأَنَّ السُّورَة مَكِّيَّة.
وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً
أَيْ يَكْتَسِب.
وَأَصْل الْقَرْف الْكَسْب، يُقَال : فُلَان يَقْرِف لِعِيَالِهِ، أَيْ يَكْسِب.
وَالِاقْتِرَاف الِاكْتِسَاب ; وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ رَجُل قِرْفَة، إِذَا كَانَ مُحْتَالًا.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَام " الْقَوْل فِيهِ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس :" وَمَنْ يَقْتَرِف حَسَنَة " قَالَ الْمَوَدَّة لِآلِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا
أَيْ نُضَاعِف لَهُ الْحَسَنَة بِعَشْرٍ فَصَاعِدًا.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
قَالَ قَتَادَة :" غَفُور " لِلذُّنُوبِ " شَكُور " لِلْحَسَنَاتِ.
وَقَالَ السُّدِّيّ :" غَفُور " لِذُنُوبِ آل مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام، " شَكُور " لِحَسَنَاتِهِمْ.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
الْمِيم صِلَة، وَالتَّقْدِير أَيَقُولُونَ اِفْتَرَى.
وَاتَّصَلَ الْكَلَام بِمَا قَبْل ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا قَالَ :" وَقُلْ آمَنْت بِمَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ كِتَاب " [ الشُّورَى : ١٥ ]، وَقَالَ :" اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَاب بِالْحَقِّ " [ الشُّورَى : ١٧ ] قَالَ إِتْمَامًا لِلْبَيَانِ :" أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا " يَعْنِي كُفَّار قُرَيْش قَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا اِخْتَلَقَ الْكَذِب عَلَى اللَّه.
فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ
شَرْط وَجَوَابه
يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ
قَالَ قَتَادَة : يَطْبَع عَلَى قَلْبك فَيُنْسِيك الْقُرْآن ; فَأَخْبَرَهُمْ اللَّه أَنَّهُ لَوْ اِفْتَرَى عَلَيْهِ لَفَعَلَ بِمُحَمَّدٍ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَة.
وَقَالَ مُجَاهِد وَمُقَاتِل :" إِنْ يَشَأْ اللَّه " يَرْبِط عَلَى قَلْبك بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ حَتَّى لَا يَدْخُل قَلْبك مَشَقَّة مِنْ قَوْلهمْ.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى إِنْ يَشَأْ يُزِلْ تَمْيِيزك.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَوْ حَدَّثْت نَفْسك أَنْ تَفْتَرِي عَلَى اللَّه كَذِبًا لَطُبِعَ عَلَى قَلْبك ; قَالَهُ اِبْن عِيسَى.
وَقِيلَ : فَإِنْ يَشَأْ اللَّه يَخْتِم عَلَى قُلُوب الْكُفَّار وَعَلَى أَلْسِنَتهمْ وَعَاجَلَهُمْ بِالْعِقَابِ.
فَالْخِطَاب لَهُ وَالْمُرَاد الْكُفَّار ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ.
ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَقَالَ :
وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ
قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ :" يَخْتِم عَلَى قَلْبك " تَامّ.
وَقَالَ الْكِسَائِيّ : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير ; مَجَازه : وَاَللَّه يَمْحُو الْبَاطِل ; فَحُذِفَ مِنْهُ الْوَاو فِي الْمُصْحَف، وَهُوَ فِي مَوْضِع رَفْع.
كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْله :" سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة "، [ الْعَلَق : ١٨ ]، " وَيَدْعُ الْإِنْسَان " [ الْإِسْرَاء : ١ ١ ] وَلِأَنَّهُ عَطْف عَلَى قَوْله :" يَخْتِم عَلَى قَلْبك ".
وَقَالَ الزَّجَّاج : قَوْله :" أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا " تَمَام ; وَقَوْله :" وَيَمْحُ اللَّه الْبَاطِل " اِحْتِجَاج عَلَى مَنْ أَنْكَرَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ لَوْ كَانَ مَا أَتَى بِهِ بَاطِلًا لَمَحَاهُ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَته فِي الْمُفْتَرِينَ.
وَيُحِقُّ الْحَقَّ
أَيْ الْإِسْلَام فَيُثْبِتهُ
بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
أَيْ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآن.
" إِنَّهُ عَلِيم بِذَاتِ الصُّدُور " عَامّ، أَيْ بِمَا فِي قُلُوب الْعِبَاد.
وَقِيلَ خَاصّ.
وَالْمَعْنَى أَنَّك لَوْ حَدَّثْت نَفْسك أَنْ تَفْتَرِي عَلَى اللَّه كَذِبًا لَعَلِمَهُ وَطَبَعَ عَلَى قَلْبك.
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى " قُلْ لَا أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى " قَالَ قَوْم فِي نُفُوسهمْ : مَا يُرِيد إِلَّا أَنْ يَحُثّنَا عَلَى أَقَارِبه مِنْ بَعْده ; فَأَخْبَرَ جِبْرِيل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُمْ قَدْ اِتَّهَمُوهُ فَأَنْزَلَ :" أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا " الْآيَة ; فَقَالَ الْقَوْم : يَا رَسُول اللَّه، فَإِنَّا نَشْهَد أَنَّك صَادِق وَنَتُوب.
فَنَزَلَتْ :" وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَة عَنْ عِبَاده ".
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَهْل طَاعَته.
وَالْآيَة عَامَّة.
وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي مَعْنَى التَّوْبَة وَأَحْكَامهَا ; وَمَضَى هَذَا اللَّفْظ فِي " التَّوْبَة "
وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ
أَيْ عَنْ الشِّرْك قَبْل الْإِسْلَام.
وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
أَيْ مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ.
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَحَفْص وَخَلَف بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب، وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود وَأَصْحَابه.
الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَر، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم ; لِأَنَّهُ بَيْن خَبَرَيْنِ : الْأَوَّل " وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَة عَنْ عِبَادِهِ " وَالثَّانِي " وَيَسْتَجِيب الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات ".
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
" الَّذِينَ " فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ وَيَسْتَجِيب اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ يَقْبَل عِبَادَة مَنْ أَخْلَصَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَأَطَاعَ بِبَدَنِهِ.
وَقِيلَ : يُعْطِيهِمْ مَسْأَلَتهمْ إِذَا دَعَوْهُ.
وَقِيلَ : وَيُجِيب دُعَاء الْمُؤْمِنِينَ بِعَضْمِهِمْ لِبَعْضٍ ; يُقَال : أَجَابَ وَاسْتَجَابَ بِمَعْنًى، وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة ".
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس :" وَيَسْتَجِيب الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات " يُشَفِّعهُمْ فِي إِخْوَانهمْ.
" وَيَزِيد مِنْ فَضْله " قَالَ : يُشَفِّعهُمْ فِي إِخْوَان إِخْوَانهمْ.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : مَعْنَى " يَسْتَجِيب الَّذِينَ آمَنُوا " وَلْيَسْتَدْعِ الَّذِينَ آمَنُوا الْإِجَابَة ; هَكَذَا حَقِيقَة مَعْنَى اِسْتَفْعَلَ.
ف " الَّذِينَ " فِي مَوْضِع رَفْع.
" وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَاب شَدِيد ".
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ
ع فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : ع الْأُولَى : فِي نُزُولهَا ; قِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ أَهْل الصُّفَّة تَمَنَّوْا سَعَة الرِّزْق.
وَقَالَ خَبَّاب بْن الْأَرَتّ : فِينَا نَزَلَتْ ; نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَال بَنِي النَّضِير وَقُرَيْظَة وَبَنِي قَيْنُقَاع فَتَمَنَّيْنَاهَا فَنَزَلَتْ.
" لَوْ بَسَطَ " مَعْنَاهُ وَسَّعَ.
وَبَسَطَ الشَّيْء نَشَرَهُ.
وَبِالصَّادِ أَيْضًا.
" لَبَغَوْا فِي الْأَرْض " طَغَوْا وَعَصَوْا.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : بَغْيهمْ طَلَبهمْ مَنْزِلَة بَعْد مَنْزِلَة وَدَابَّة بَعْد دَابَّة وَمَرْكَبًا بَعْد مَرْكَب وَمَلْبَسًا بَعْد مَلْبَس.
وَقِيلَ : أَرَادَ لَوْ أَعْطَاهُمْ الْكَثِير لَطَلَبُوا مَا هُوَ أَكْثَر مِنْهُ، لِقَوْلِهِ :( لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَم وَادِيَانِ مِنْ ذَهَب لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثًا ) وَهَذَا هُوَ الْبَغْي، وَهُوَ مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس.
وَقِيلَ : لَوْ جَعَلْنَاهُمْ سَوَاء فِي الْمَال لَمَا اِنْقَادَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ، وَلَتَعَطَّلَتْ الصَّنَائِع.
وَقِيلَ : أَرَادَ بِالرِّزْقِ الْمَطَر الَّذِي هُوَ سَبَب الرِّزْق ; أَيْ لَوْ أَدَامَ الْمَطَر لَتَشَاغَلُوا بِهِ عَنْ الدُّعَاء، فَيَقْبِض تَارَة لِيَتَضَرَّعُوا وَيَبْسُط أُخْرَى لِيَشْكُرُوا.
وَقِيلَ : كَانُوا إِذَا أَخْصَبُوا أَغَارَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض ; فَلَا يَبْعُد حَمْل الْبَغْي عَلَى هَذَا.
الزَّمَخْشَرِيّ :" لَبَغَوْا " مِنْ الْبَغْي وَهُوَ الظُّلْم ; أَيْ لَبَغَى هَذَا عَلَى ذَاكَ وَذَاكَ عَلَى هَذَا ; لِأَنَّ الْغِنَى مَبْطَرَة مَأْشَرَة، وَكَفَى بِقَارُون عِبْرَة.
وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( أَخْوَف مَا أَخَاف عَلَى أُمَّتِي زَهْرَة الدُّنْيَا وَكَثْرَتهَا ).
وَلِبَعْضِ الْعَرَب :
وَقَدْ جَعَلَ الْوَسْمِيّ يَنْبُت بَيْننَا وَبَيْن بَنِي دُودَان نَبْعًا وَشَوْحَطَا
يَعْنِي أَنَّهُمْ أَحْيَوْا فَحَدَّثُوا أَنْفُسهمْ بِالْبَغْيِ وَالتَّغَابُن.
أَوْ مِنْ الْبَغْي وَهُوَ الْبَذَخ وَالْكِبْر ; أَيْ لَتَكَبَّرُوا فِي الْأَرْض وَفَعَلُوا مَا يَتْبَع الْكِبْر مِنْ الْعُلُوّ فِيهَا وَالْفَسَاد.
" وَلَكِنْ يُنَزِّل بِقَدَرٍ مَا يَشَاء " أَيْ يُنَزِّل أَرْزَاقهمْ بِقَدَرٍ مَا يَشَاء لِكِفَايَتِهِمْ وَقَالَ مُقَاتِل :" يُنَزِّل بِقَدَرٍ مَا يَشَاء " يَجْعَل مَنْ يَشَاء غَنِيًّا وَمَنْ يَشَاء فَقِيرًا.
الثَّانِيَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَفْعَال الرَّبّ سُبْحَانه لَا تَخْلُو عَنْ مَصَالِح وَإِنْ لَمْ يَجِب عَلَى اللَّه الِاسْتِصْلَاح ; فَقَدْ يَعْلَم مِنْ حَال عَبْد أَنَّهُ لَوْ بَسَطَ عَلَيْهِ قَادَهُ ذَلِكَ إِلَى الْفَسَاد فَيَزْوِي عَنْهُ الدُّنْيَا ; مَصْلَحَة لَهُ.
فَلَيْسَ ضِيق الرِّزْق هَوَانًا وَلَا سَعَة الرِّزْق فَضِيلَة ; وَقَدْ أَعْطَى أَقْوَامًا مَعَ عِلْمه أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْفَسَاد، وَلَوْ فَعَلَ بِهِمْ خِلَاف مَا فَعَلَ لَكَانُوا أَقْرَب إِلَى الصَّلَاح.
وَالْأَمْر عَلَى الْجُمْلَة مُفَوَّض إِلَى مَشِيئَته، وَلَا يُمْكِن اِلْتِزَام مَذْهَب الِاسْتِصْلَاح فِي كُلّ فِعْل مِنْ أَفْعَال اللَّه تَعَالَى.
وَرَوَى أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيه عَنْ رَبّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ :( مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَإِنِّي لَأَسْرَع شَيْء إِلَى نُصْرَة أَوْلِيَائِي وَإِنِّي لَأَغْضَب لَهُمْ كَمَا يَغْضَب اللَّيْث الْحَرِد.
وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْء أَنَا فَاعِله تَرَدُّدِي فِي قَبْض رُوح عَبْدِي الْمُؤْمِن يَكْرَه الْمَوْت وَأَنَا أَكْرَه إِسَاءَته وَلَا بُدّ لَهُ مِنْهُ.
وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي الْمُؤْمِن بِمِثْلِ أَدَاء مَا اِفْتَرَضْت عَلَيْهِ.
وَمَا يَزَال عَبْدِي الْمُؤْمِن يَتَقَرَّب إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَلِسَانًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا فَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْته وَإِنْ دَعَانِي أَجَبْته.
وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَسْأَلنِي الْبَاب مِنْ الْعِبَادَة وَإِنِّي عَلِيم أَنْ لَوْ أَعْطَيْته إِيَّاهُ لَدَخَلَهُ الْعُجْب فَأَفْسَدَهُ.
وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْته لَأَفْسَدَهُ الْفَقْر.
وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحهُ إِلَّا الْفَقْر وَلَوْ أَغْنَيْته لَأَفْسَدَهُ الْغِنَى.
وَإِنِّي لِأُدَبِّر عِبَادِي لِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ فَإِنِّي عَلِيم خَبِير ).
ثُمَّ قَالَ أَنَس : اللَّهُمَّ إِنِّي مِنْ عِبَادك الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يُصْلِحهُمْ إِلَّا الْغِنَى، فَلَا تُفْقِرنِي بِرَحْمَتِك.
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ
قَرَأَ اِبْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن وَحُمَيْد وَمُجَاهِد وَأَبُو عَمْرو وَمَعْقُوب وَابْن وَثَّاب وَالْأَعْمَش وَغَيْرهمَا وَالْكِسَائِيّ " يُنْزِل " مُخَفَّفًا.
الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ.
وَقَرَأَ اِبْن وَثَّاب أَيْضًا وَالْأَعْمَش وَغَيْرهمَا " قَنِطُوا " بِكَسْرِ النُّون ; وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيع هَذَا.
وَالْغَيْث الْمَطَر ; وَسُمِّيَ الْغَيْث غَيْثًا لِأَنَّهُ يُغِيث الْخَلْق.
وَقَدْ غَاثَ الْغَيْث الْأَرْض أَيْ أَصَابَهَا.
وَغَاثَ اللَّه الْبِلَاد يُغِيثهَا غَيْثًا.
وَغِيثَتْ الْأَرْض تُغَاث غَيْثًا فَهِيَ أَرْض مَغِيثَة وَمَغْيُوثَة.
وَعَنْ الْأَصْمَعِيّ قَالَ : مَرَرْت بِبَعْضِ قَبَائِل الْعَرَب وَقَدْ مُطِرُوا فَسَأَلْت عَجُوزًا مِنْهُمْ : أَتَاكُمْ الْمَطَر ؟ فَقَالَتْ : غِثْنَا مَا شِئْنَا غَيْثًا، أَيْ مُطِرْنَا.
وَقَالَ ذُو الرُّمَّة : قَاتَلَ اللَّه أَمَة بَنِي فُلَان مَا أَفْصَحَهَا ! قُلْت لَهَا كَيْف كَانَ الْمَطَر عِنْدكُمْ ؟ فَقَالَتْ : غِثْنَا مَا شِئْنَا.
ذَكَرَ الْأَوَّل الثَّعْلَبِيّ وَالثَّانِي الْجَوْهَرِيّ.
وَرُبَّمَا سُمِّيَ السَّحَاب وَالنَّبَات غَيْثًا.
وَالْقُنُوط الْإِيَاس ; قَالَهُ قَتَادَة وَغَيْره.
قَالَ قَتَادَة : ذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَر بْن الْخَطَّاب : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، قَحَطَ الْمَطَر وَقَلَّ الْغَيْث وَقَنِطَ النَّاس ؟ فَقَالَ : مُطِرْتُمْ إِنْ شَاءَ اللَّه، ثُمَّ قَرَأَ :" وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّل الْغَيْث مِنْ بَعْد مَا قَنَطُوا ".
وَالْغَيْث مَا كَانَ نَافِعًا فِي وَقْته، وَالْمَطَر قَدْ يَكُون نَافِعًا وَضَارًّا فِي، وَقْته وَغَيْر وَقْته ; قَالَهُ الْمَاوَرْدِيّ.
" وَيَنْشُر رَحْمَته " قِيلَ الْمَطَر ; وَهُوَ قَوْل السُّدِّيّ.
وَقِيلَ ظُهُور الشَّمْس بَعْد الْمَطَر ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ.
وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي حَبْس الْمَطَر عَنْ أَهْل مَكَّة سَبْع سِنِينَ حَتَّى قَنَطُوا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّه الْمَطَر.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْأَعْرَابِيّ سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَطَر يَوْم الْجُمْعَة فِي خَبَر الِاسْتِسْقَاء ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ، وَاَللَّه أَعْلَم.
" وَهُوَ الْوَلِيّ الْحَمِيد " " الْوَلِيّ " الَّذِي يَنْصُر أَوْلِيَاءَهُ.
" الْحَمِيد " الْمَحْمُود بِكُلِّ لِسَان.
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
أَيْ عَلَامَاته الدَّالَّة عَلَى قُدْرَته.
وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ
قَالَ مُجَاهِد : يَدْخُل فِي هَذَا الْمَلَائِكَة وَالنَّاس، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :" وَيَخْلُق مَا لَا تَعْلَمُونَ " [ النَّحْل : ٨ ].
وَقَالَ الْفَرَّاء أَرَادَ مَا بَثَّ فِي الْأَرْض دُون السَّمَاء ; كَقَوْلِهِ :" يَخْرُج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان " [ الرَّحْمَن : ٢٢ ] إِنَّمَا يَخْرُج مِنْ الْمِلْح دُون الْعَذْب.
وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : تَقْدِيره وَمَا بَثَّ فِي أَحَدهمَا ; فَحَذَفَ الْمُضَاف.
وَقَوْله :" يَخْرُج مِنْهُمَا " أَيْ مِنْ أَحَدهمَا.
وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ
أَيْ يَوْم الْقِيَامَة.
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر " بِمَا كَسَبَتْ " بِغَيْرِ فَاء.
الْبَاقُونَ " فَبِمَا " بِالْفَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم لِلزِّيَادَةِ فِي الْحَرْف وَالْأَجْر.
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : إِنْ قَدَّرْت أَنَّ " مَا " الْمَوْصُولَة جَازَ حَذْف الْفَاء وَإِثْبَاتهَا، وَالْإِثْبَات أَحْسَن.
وَإِنْ قَدَّرْتهَا الَّتِي لِلشَّرْطِ لَمْ يَجُزْ الْحَذْف عِنْد سِيبَوَيْهِ، وَأَجَازَهُ الْأَخْفَش وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ " [ الْأَنْعَام : ١٢١ ].
وَالْمُصِيبَة هُنَا الْحُدُود عَلَى الْمَعَاصِي ; قَالَهُ الْحَسَن.
وَقَالَ الضَّحَّاك : مَا تَعَلَّمَ رَجُل الْقُرْآن ثُمَّ نَسِيَهُ إِلَّا بِذَنْبٍ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ " ثُمَّ قَالَ : وَأَيّ مُصِيبَة أَعْظَم مِنْ نِسْيَان الْقُرْآن ; ذَكَرَهُ اِبْن الْمُبَارَك عَنْ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي رَوَّاد.
قَالَ أَبُو عُبَيْد : إِنَّمَا هَذَا عَلَى التَّرْك، فَأَمَّا الَّذِي هُوَ دَائِب فِي تِلَاوَته حَرِيص عَلَى حِفْظه إِلَّا أَنَّ النِّسْيَان يَغْلِبهُ فَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْء.
وَمِمَّا يُحَقِّق ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْسَى الشَّيْء مِنْ الْقُرْآن حَتَّى يَذْكُرهُ ; مِنْ ذَلِكَ حَدِيث عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سَمِعَ قِرَاءَة رَجُل فِي الْمَسْجِد فَقَالَ :( مَا لَهُ رَحِمَهُ اللَّه ! لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَات كُنْت أُنْسِيتهَا مِنْ سُورَة كَذَا وَكَذَا ).
وَقِيلَ :" مَا " بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْمَعْنَى الَّذِي أَصَابَكُمْ فِيمَا مَضَى بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.
وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : هَذِهِ الْآيَة أَرْجَى آيَة فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
وَإِذَا كَانَ يُكَفِّر عَنِّي بِالْمَصَائِبِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير فَمَا يَبْقَى بَعْد كَفَّارَته وَعَفْوه ! وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا عَنْهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَلَا أُخْبِركُمْ بِأَفْضَل آيَة فِي كِتَاب اللَّه حَدَّثَنَا بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" وَمَا مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ " الْآيَة :( يَا عَلِيّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَض أَوْ عُقُوبَة أَوْ بَلَاء فِي الدُّنْيَا فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.
وَاَللَّه أَكْرَم مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْكُمْ الْعُقُوبَة فِي الْآخِرَة وَمَا عَفَا عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاَللَّه أَحْلَم مِنْ أَنْ يُعَاقَب بِهِ بَعْد عَفْوه ).
وَقَالَ الْحَسَن : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا مِنْ اِخْتِلَاج عِرْق وَلَا خَدْش عُود وَلَا نَكْبَة حَجَر إِلَّا بِذَنْبٍ وَلِمَا يَعْفُو اللَّه عَنْهُ أَكْثَر ).
وَقَالَ الْحَسَن : دَخَلْنَا عَلَى عِمْرَان بْن حُصَيْن فَقَالَ رَجُل : لَا بُدّ أَنْ أَسْأَلك عَمَّا أَرَى بِك مِنْ الْوَجَع ; فَقَالَ عِمْرَان : يَا أَخِي لَا تَفْعَل ! فَوَاَللَّهِ إِنِّي لَأُحِبّ الْوَجَع وَمَنْ أَحَبَّهُ كَانَ أَحَبَّ النَّاس إِلَى اللَّه، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير " فَهَذَا مِمَّا كَسَبَتْ يَدِي، وَعَفْو رَبِّي عَمَّا بَقِيَ أَكْثَر.
وَقَالَ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ : رَأَيْت عَلَى ظَهْر كَفّ شُرَيْح قُرْحه فَقُلْت : يَا أَبَا أُمَيَّة، مَا هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير.
وَقَالَ اِبْن عَوْن : إِنَّ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ لَمَّا رَكِبَهُ الدَّيْن اِغْتَمَّ لِذَلِكَ فَقَالَ : إِنِّي لَا أَعْرِف هَذَا الْغَمّ، هَذَا بِذَنْبٍ أَصَبْته مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَة.
وَقَالَ أَحْمَد بْن أَبِي الْحَوَارِيّ قِيلَ لِأَبِي سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ : مَا بَال الْعُقَلَاء أَزَالُوا اللَّوْم عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ ؟ فَقَالَ : لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا اِبْتَلَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير ".
وَقَالَ عِكْرِمَة : مَا مِنْ نَكْبَة أَصَابَتْ عَبْدًا فَمَا فَوْقهَا إِلَّا بِذَنْبٍ لَمْ يَكُنْ اللَّه لِيَغْفِرهُ لَهُ إِلَّا بِهَا أَوْ لِيَنَالَ دَرَجَة لَمْ يَكُنْ يُوصِلهُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِمُوسَى : يَا مُوسَى، سَلْ اللَّه لِي فِي حَاجَة يَقْضِيهَا لِي هُوَ أَعْلَم بِهَا ; فَفَعَلَ مُوسَى ; فَلَمَّا نَزَلَ إِذْ هُوَ بِالرَّجُلِ قَدْ مَزَّقَ السَّبْع لَحْمه وَقَتَلَهُ ; فَقَالَ مُوسَى : مَا بَال هَذَا يَا رَبّ ؟ فَقَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ :( يَا مُوسَى إِنَّهُ سَأَلَنِي دَرَجَة عَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغهَا بِعَمَلِهِ فَأَصَبْته بِمَا تَرَى لِأَجْعَلهَا وَسِيلَة لَهُ فِي نَيْل تِلْكَ الدَّرَجَة ).
فَكَانَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِيّ إِذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيث يَقُول : سُبْحَان مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُنِيلهُ تِلْكَ الدَّرَجَة بِلَا بَلْوَى ! وَلَكِنَّهُ يَفْعَل مَا يَشَاء.
قُلْت : وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة فِي الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى :" مَنْ يَعْمَل سُوءًا يُجْزَ بِهِ " [ النِّسَاء : ١٢٣ ] وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا فِي حَقّ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا الْكَافِر فَعُقُوبَته مُؤَخَّرَة إِلَى الْآخِرَة.
وَقِيلَ : هَذَا خِطَاب لِلْكُفَّارِ، وَكَانَ إِذَا أَصَابَهُمْ شَرّ قَالُوا : هَذَا بِشُؤْمِ مُحَمَّد ; فَرَدَّ عَلَيْهِمْ وَقَالَ بَلْ ذَلِكَ بِشُؤْمِ كُفْركُمْ.
وَالْأَوَّل أَكْثَر وَأَظْهَر وَأَشْهَر.
وَقَالَ ثَابِت الْبُنَانِيّ : إِنَّهُ كَانَ يُقَال سَاعَات الْأَذَى يَذْهَبْنَ سَاعَات الْخَطَايَا.
ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهَا خَاصَّة فِي الْبَالِغِينَ أَنْ تَكُون عُقُوبَة لَهُمْ، وَفِي الْأَطْفَال أَنْ تَكُون مَثُوبَة لَهُمْ.
الثَّانِي : أَنَّهَا عُقُوبَة عَامَّة لِلْبَالِغِينَ فِي أَنْفُسهمْ وَالْأَطْفَال فِي غَيْرهمْ مِنْ وَالِد وَوَالِدَة.
" وَيَعْفُو عَنْ كَثِير " أَيْ عَنْ كَثِير مِنْ الْمَعَاصِي أَلَّا يَكُون عَلَيْهَا حُدُود ; وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل الْحَسَن.
وَقِيلَ : أَيْ يَعْفُو عَنْ كَثِير مِنْ الْعُصَاة أَلَّا يُعَجِّل عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ.
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
أَيْ بِفَائِتِينَ اللَّه ; أَيْ لَنْ تَعْجِزُوهُ وَلَنْ تَفُوتُوهُ " وَمَا لَكُمْ مِنْ دُون اللَّه مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِير " تَقَدَّمَ فِي غَيْر مَوْضِع.
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ
أَيْ وَمِنْ عَلَامَاته الدَّالَّة عَلَى قُدْرَته السُّفُن الْجَارِيَة فِي الْبَحْر كَأَنَّهَا مِنْ عِظَمهَا أَعْلَام.
وَالْأَعْلَام : الْحِبَال، وَوَاحِد الْجَوَارِي جَارِيَة، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة " [ الْحَاقَّة : ١١ ].
سُمِّيَتْ جَارِيَة لِأَنَّهَا تَجْرِي فِي الْمَاء.
وَالْجَارِيَة : هِيَ الْمَرْأَة الشَّابَّة ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا يَجْرِي فِيهَا مَاء الشَّبَاب.
وَقَالَ مُجَاهِد : الْأَعْلَام الْقُصُور، وَاحِدهَا عَلَم ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ.
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ عَنْهُ أَنَّهَا الْجِبَال.
وَقَالَ الْخَلِيل : كُلّ شَيْء مُرْتَفِع عِنْد الْعَرَب فَهُوَ عَلَم.
قَالَتْ الْخَنْسَاء تَرْثِي أَخَاهَا صَخْرًا :
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
كَذَا قَرَأَهُ أَهْل الْمَدِينَة " الرِّيَاح " بِالْجَمْعِ.
فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ
أَيْ فَتَبْقَى السُّفُن سَوَاكِن عَلَى ظَهْر الْبَحْر لَا تَجْرِي.
رَكَدَ الْمَاء رُكُودًا سَكَنَ.
وَكَذَلِكَ الرِّيح وَالسَّفِينَة، وَالسَّفِينَة، وَالشَّمْس إِذَا قَامَ قَائِم الظَّهِيرَة.
وَكُلّ ثَابِت فِي مَكَان فَهُوَ رَاكِد.
وَرَكَدَ الْمِيزَان اِسْتَوَى.
وَرَكَدَ الْقَوْم هَدَءُوا.
وَالْمَرَاكِد : الْمَوَاضِع الَّتِي يَرْكُد فِيهَا الْإِنْسَان وَغَيْره.
وَقَرَأَ قَتَادَة " فَيَظْلِلْنَ " بِكَسْرِ اللَّام الْأُولَى عَلَى أَنْ يَكُون لُغَة، مِثْل ضَلَلْت أَضِلّ.
وَفَتَحَ اللَّام وَهِيَ اللُّغَة الْمَشْهُورَة.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
أَيْ دَلَالَات وَعَلَامَات
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
أَيْ صَبَّار عَلَى الْبَلْوَى شَكُور عَلَى النَّعْمَاء.
قَالَ قُطْرُب : نِعْمَ الْعَبْد الصَّبَّار الشَّكُور، الَّذِي إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِذَا اُبْتُلِيَ صَبَرَ.
قَالَ عَوْن بْن عَبْد اللَّه : فَكَمْ مِنْ مُنْعِم عَلَيْهِ غَيْر شَاكِر، وَكَمْ مِنْ مُبْتَلًى غَيْر صَابِر.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا
أَيْ وَإِنْ يَشَأْ يَجْعَل الرِّيَاح عَوَاصِف فَيُوبِق السُّفُن أَيْ يُغْرِقهُنَّ بِذُنُوبِ أَهْلهَا.
وَقِيلَ : يُوبِق أَهْل السُّفُن.
وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ
مِنْ أَهْلهَا فَلَا يُغْرِقهُمْ مَعَهَا ; حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ.
وَقِيلَ :" وَيَعْفُو عَنْ كَثِير " أَيْ وَيَتَجَاوَز عَنْ كَثِير مِنْ الذُّنُوب فَيُنَجِّيهِمْ اللَّه مِنْ الْهَلَاك.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْقِرَاءَة الْفَاشِيَة " وَيَعْفُ " بِالْجَزْمِ، وَفِيهَا إِشْكَال ; لِأَنَّ الْمَعْنَى : إِنْ يَشَأْ يُسْكِن الرِّيح فَتَبْقَى تِلْكَ السُّفُن رَوَاكِد وَيُهْلِكهَا بِذُنُوبِ أَهْلهَا، فَلَا يَحْسُن عَطْف " يَعْفُ " عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ يَصِير الْمَعْنَى : إِنْ يَشَأْ يَعْفُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى ذَلِكَ بَلْ الْمَعْنَى الْإِخْبَار عَنْ الْعَفْو مِنْ غَيْر شَرْط الْمَشِيئَة فَهُوَ إِذَا عَطَفَ عَلَى الْمَجْزُوم مِنْ حَيْثُ اللَّفْظ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى.
وَقَدْ قَرَأَ قَوْم " وَيَعْفُو " بِالرَّفْعِ، وَهِيَ جَيِّدَة فِي الْمَعْنَى.
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ
يَعْنِي الْكُفَّار ; أَيْ إِذَا تَوَسَّطُوا الْبَحْر وَغَشِيَتْهُمْ الرِّيَاح مِنْ كُلّ مَكَان أَوْ بَقِيَتْ السُّفُن رَوَاكِد عَلِمُوا أَنَّهُ لَا مَلْجَأ لَهُمْ سِوَى اللَّه، وَلَا دَافِع لَهُمْ إِنْ أَرَادَ اللَّه إِهْلَاكهمْ فَيُخْلِصُونَ لَهُ الْعِبَادَة وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْر مَوْضِع وَمَضَى الْقَوْل فِي رُكُوب الْبَحْر فِي " الْبَقَرَة " وَغَيْرهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَته.
وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر " وَيَعْلَم " بِالرَّفْعِ، الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ.
فَالرَّفْع عَلَى الِاسْتِئْنَاف بَعْد الشَّرْط وَالْجَزَاء ; كَقَوْلِهِ فِي سُورَة التَّوْبَة :" وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُركُمْ عَلَيْهِمْ " [ التَّوْبَة : ١٤ ] ثُمَّ قَالَ :" وَيَتُوب اللَّه عَلَى مَنْ يَشَاء " [ التَّوْبَة : ١٥ ] رَفْعًا.
وَنَظِيره فِي الْكَلَام : إِنْ تَأْتِنِي آتِك وَيَنْطَلِق عَبْد اللَّه.
أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف.
وَالنَّصْب عَلَى الصَّرْف ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَمَّا يَعْلَم اللَّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَم الصَّابِرِينَ " [ آل عِمْرَان : ١٤٢ ] صُرِفَ مِنْ حَال الْجَزْم إِلَى النَّصْب اِسْتِخْفَافًا كَرَاهِيَة لِتَوَالِي الْجَزْم ; كَقَوْلِ النَّابِغَة :
وَإِنَّ صَخْرًا لِتَأْتَمّ الْهُدَاة بِهِ كَأَنَّهُ عَلَم فِي رَأْسه نَار
فَإِنْ يَهْلِك أَبُو قَابُوس يَهْلِك رَبِيع النَّاس وَالشَّهْر الْحَرَام
وَيُمْسِك بَعْده بِذِنَابِ عَيْش أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَام
وَهَذَا مَعْنَى قَوْل الْفَرَّاء، قَالَ : وَلَوْ جَزَمَ " وَيَعْلَم " جَازَ.
وَقَالَ الزَّجَّاج : نُصِبَ عَلَى إِضْمَار " أَنْ " لِأَنَّ قَبْلهَا جَزْمًا ; تَقُول : مَا تَصْنَع أَصْنَع مِثْله وَأُكْرِمك وَإِنْ شِئْت قُلْت.
وَأُكْرِمك بِالْجَزْمِ.
وَفِي بَعْض الْمَصَاحِف " وَلِيَعْلَم ".
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النَّصْب بِمَعْنَى : وَلِيَعْلَم أَوْ لِأَنْ يَعْلَم.
وَقَالَ أَبُو عَلِيّ وَالْمُبَرِّد : النَّصْب بِإِضْمَارِ " أَنْ " عَلَى أَنْ يَجْعَل الْأَوَّل فِي تَقْدِير الْمَصْدَر ; أَيْ وَيَكُون مِنْهُ عَفْو وَأَنْ يَعْلَم فَلَمَّا حَمَلَهُ.
عَلَى الِاسْم أَضْمَرَ أَنْ، كَمَا تَقُول : إِنْ تَأْتِنِي وَتُعْطِينِي أُكْرِمك، فَتَنْصِب تُعْطِينِي ; أَيْ إِنْ يَكُنْ مِنْك إِتْيَان وَأَنْ تُعْطِينِي.
وَمَعْنَى " مِنْ مَحِيص " أَيْ مِنْ فِرَار وَمَهْرَب ; قَالَهُ قُطْرُب السُّدِّيّ : مِنْ مَلْجَأ وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : حَاصَ بِهِ الْبَعِير حَيْصَة إِذَا رَمَى بِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلهمْ : فُلَان يَحِيص عَنْ الْحَقّ أَيْ يَمِيل عَنْهُ.
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ
يُرِيد مِنْ الْغِنَى وَالسَّعَة فِي الدُّنْيَا.
فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
أَيْ فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاع فِي أَيَّام قَلِيلَة تَنْقَضِي وَتَذْهَب ; فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَاخَر بِهِ.
وَالْخِطَاب لِلْمُشْرِكِينَ.
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى
يُرِيد مِنْ الثَّوَاب عَلَى الطَّاعَة
لِلَّذِينَ آمَنُوا
صَدَقُوا وَوَحَّدُوا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق حِين أَنْفَقَ جَمِيع مَاله فِي طَاعَة اللَّه فَلَامَهُ النَّاس.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيث أَنَّهُ : أَنْفَقَ ثَمَانِينَ أَلْفًا.
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
الَّذِينَ فِي مَوْضِع جَرّ مَعْطُوف عَلَى قَوْله :" خَيْر وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا " أَيْ وَهُوَ لِلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ " كَبَائِر الْإِثْم " قَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْكَبَائِر فِي " النِّسَاء ".
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ
كَبَائِرَ الْإِثْمِ
وَالْوَاحِد قَدْ يُرَاد بِهِ الْجَمْع عِنْد الْإِضَافَة ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَة اللَّه لَا تُحْصُوهَا " [ النَّحْل : ١٨ ]، وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث :( مَنَعَتْ الْعِرَاق دِرْهَمهَا وَقَفِيزهَا ).
الْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ هُنَا وَفِي " النَّجْم ".
وَالْفَوَاحِشَ
قَالَ السُّدِّيّ : يَعْنِي الزِّنَى.
وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ : كَبِير الْإِثْم الشِّرْك.
وَقَالَ قَوْم : كَبَائِر الْإِثْم مَا تَقَع عَلَى الصَّغَائِر مَغْفُورَة عِنْد اِجْتِنَابهَا.
وَالْفَوَاحِش دَاخِلَة فِي الْكَبَائِر، وَلَكِنَّهَا تَكُون أَفْحَشَ وَأَشْنَعَ كَالْقَتْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُرْح، وَالزِّنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُرَاوَدَة.
وَقِيلَ : الْفَوَاحِش وَالْكَبَائِر بِمَعْنًى وَاحِد، فَكَرَّرَ لِتَعَدُّدِ اللَّفْظ ; أَيْ يَجْتَنِبُونَ الْمَعَاصِي لِأَنَّهَا كَبَائِر وَفَوَاحِش.
وَقَالَ مُقَاتِل : الْفَوَاحِش مُوجِبَات الْحُدُود.
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ
أَيْ يَتَجَاوَزُونَ وَيَحْمِلُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ.
قِيلَ : نَزَلَتْ فِي عُمَر حِين شُتِمَ بِمَكَّة.
وَقِيلَ : فِي أَبِي بَكْر حِين لَامَهُ النَّاس عَلَى إِنْفَاق مَاله كُلّه وَحِين شُتِمَ فَحَلَمَ.
وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : اِجْتَمَعَ لِأَبِي بَكْر مَال مَرَّة، فَتَصَدَّقَ بِهِ كُلّه فِي سَبِيل الْخَيْر ; فَلَامَهُ الْمُسْلِمُونَ وَخَطَّأَهُ الْكَافِرُونَ فَنَزَلَتْ :" فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْء فَمَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمَا عِنْد اللَّه خَيْر وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبّهمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِلَى قَوْله وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ".
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : شَتَمَ رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَبَا بَكْر فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا ; فَنَزَلَتْ الْآيَة.
وَهَذِهِ مِنْ مَحَاسِن الْأَخْلَاق ; يُشْفِقُونَ عَلَى ظَالِمهمْ وَيَصْفَحُونَ لِمَنْ جَهِلَ عَلَيْهِمْ ; يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ ثَوَاب اللَّه تَعَالَى وَعَفْوه ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آل عِمْرَان :" وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاس " [ آل عِمْرَان : ١٣٤ ].
وَهُوَ أَنْ يَتَنَاوَلك الرَّجُل فَتَكْظِم غَيْظك عَنْهُ.
وَأَنْشَدَ بَعْضهمْ :
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد : هُمْ الْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ ; اِسْتَجَابُوا إِلَى الْإِيمَان بِالرَّسُولِ حِين أَنْفَذَ إِلَيْهِمْ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ قَبْل الْهِجْرَة.
" وَأَقَامُوا الصَّلَاة " أَيْ أَدَّوْهَا لِمَوَاقِيتِهَا بِشُرُوطِهَا وَهَيْئَاتهَا.
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ
أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِي الْأُمُور.
وَالشُّورَى مَصْدَر شَاوَرْته ; مِثْل الْبُشْرَى وَالذِّكْرَى وَنَحْوه.
فَكَانَتْ الْأَنْصَار قَبْل قُدُوم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا تَشَاوَرُوا فِيهِ ثُمَّ عَمِلُوا عَلَيْهِ ; فَمَدَحَهُمْ اللَّه تَعَالَى بِهِ ; قَالَهُ النَّقَّاش.
وَقَالَ الْحَسَن : أَيْ إِنَّهُمْ لِانْقِيَادِهِمْ إِلَى الرَّأْي فِي أُمُورهمْ مُتَّفِقُونَ لَا يَخْتَلِفُونَ ; فَمُدِحُوا بِاتِّفَاقِ كَلِمَتهمْ.
قَالَ الْحَسَن : مَا تَشَاوَرَ قَوْم قَطُّ إِلَّا هُدُوا لِأَرْشَد أُمُورهمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاك : هُوَ تَشَاوُرهمْ حِين سَمِعُوا بِظُهُورِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَرَدَ النُّقَبَاء إِلَيْهِمْ حَتَّى اِجْتَمَعَ رَأْيهمْ فِي دَار أَبِي أَيُّوب عَلَى الْإِيمَان بِهِ وَالنُّصْرَة لَهُ.
وَقِيلَ تَشَاوُرهمْ فِيمَا يَعْرِض لَهُمْ ; فَلَا يَسْتَأْثِر بَعْضهمْ بِخَبَرٍ دُون بَعْض.
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الشُّورَى أُلْفَة لِلْجَمَاعَةِ وَمِسْبَار لِلْعُقُولِ وَسَبَب إِلَى الصَّوَاب، وَمَا تَشَاوَرَ قَوْم إِلَّا هُدُوا.
وَقَدْ قَالَ الْحَكِيم :
إِنِّي عَفَوْت لِظَالِمِي ظُلْمِي وَوَهَبْت ذَاكَ لَهُ عَلَى عِلْمِي
مَازَالَ يَظْلِمنِي وَأَرْحَمهُ حَتَّى بَكَيْت لَهُ مِنْ الظُّلْم
إِذَا بَلَغَ الرَّأْي الْمَشُورَة فَاسْتَعِنْ بِرَأْيِ لَبِيب أَوَمَشُورَة حَازِم
وَلَا تَجْعَل الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَة فَإِنَّ الْخَوَافِي قُوَّة لِلْقَوَادِمِ
فَمَدَحَ اللَّه الْمُشَاوَرَة فِي الْأُمُور بِمَدْحِ الْقَوْم الَّذِينَ كَانُوا يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَاوِر أَصْحَابه فِي الْآرَاء الْمُتَعَلِّقَة بِمَصَالِح الْحُرُوب ; وَذَلِكَ فِي الْآرَاء كَثِير.
وَلَمْ يَكُنْ يُشَاوِرهُمْ فِي الْأَحْكَام ; لِأَنَّهَا مُنَزَّلَة مِنْ عِنْد اللَّه عَلَى جَمِيع الْأَقْسَام مِنْ الْفَرْض وَالنَّدْب وَالْمَكْرُوه وَالْمُبَاح وَالْحَرَام.
فَأَمَّا الصَّحَابَة بَعْد اِسْتِئْثَار اللَّه تَعَالَى بِهِ عَلَيْنَا فَكَانُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي الْأَحْكَام وَيَسْتَنْبِطُونَهَا مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة.
وَأَوَّل مَا تَشَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَة الْخِلَافَة ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنُصّ عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ فِيهَا بَيْن أَبِي بَكْر وَالْأَنْصَار مَا سَبَقَ بَيَانه.
وَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ رَضِيَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا وَتَشَاوَرُوا فِي أَهْل الرِّدَّة فَاسْتَقَرَّ رَأْي أَبِي بَكْر عَلَى الْقِتَال.
وَتَشَاوَرُوا فِي الْجَدّ وَمِيرَاثه، وَفِي حَدّ الْخَمْر وَعَدَده.
وَتَشَاوَرُوا بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُرُوب ; حَتَّى شَاوَرَ عُمَر الْهُرْمُزَان حِين وَفَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا فِي الْمَغَازِي، فَقَالَ لَهُ الْهُرْمُزَان : مَثَلهَا وَمَثَل مَنْ فِيهَا مِنْ النَّاس مِنْ عَدُوّ الْمُسْلِمِينَ مَثَل طَائِر لَهُ رِيش وَلَهُ جَنَاحَانِ وَرِجْلَانِ فَإِنْ كُسِرَ أَحَد الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْس وَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاح الْآخَر نَهَضَتْ الرِّجْلَانِ وَالرَّأْس وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْس ذَهَبَ الرِّجْلَانِ وَالْجَنَاحَانِ.
وَالرَّأْس كِسْرَى وَالْجَنَاح الْوَاحِد قَيْصَر وَالْآخَر فَارِس ; ; فَمَرَّ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى... وَذَكَرَ الْحَدِيث.
وَقَالَ بَعْض الْعُقَلَاء : مَا أَخْطَأْت قَطُّ ! إِذَا حَزَبَنِي أَمْر شَاوَرْت قَوْمِي فَفَعَلْت الَّذِي يَرَوْنَ ; فَإِنْ أَصَبْت فِيهِمْ الْمُصِيبُونَ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَهُمْ الْمُخْطِئُونَ.
قَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " مَا تَضَمَّنَتْهُ الشُّورَى مِنْ الْأَحْكَام عِنْد قَوْله تَعَالَى :" وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر " [ آل عِمْرَان : ١٥٩ ] وَالْمَشُورَة بَرَكَة.
وَالْمَشْوَرَة : الشُّورَى، وَكَذَلِكَ الْمَشُورَة ( بِضَمِّ الشِّين ) ; تَقُول مِنْهُ : شَاوَرْته فِي الْأَمْر وَاسْتَشَرْته بِمَعْنًى.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَاركُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ وَأَمْركُمْ شُورَى بَيْنكُمْ فَظَهْر الْأَرْض خَيْر لَكُمْ مِنْ بَطْنهَا وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَاركُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ وَأُمُوركُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْن الْأَرْض خَيْر لَكُمْ مِنْ ظَهْرهَا ).
قَالَ حَدِيث غَرِيب.
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
أَيْ وَمِمَّا أَعْطَيْنَاهُمْ يَتَصَدَّقُونَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة ".
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
أَيْ أَصَابَهُمْ بَغْي الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَغَوْا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَصْحَابه وَآذَوْهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ مَكَّة فَأَذِنَ اللَّه لَهُمْ بِالْخُرُوجِ وَمَكَّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْض وَنَصَرَهُمْ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ ; وَذَلِكَ قَوْله فِي سُورَة الْحَجّ :" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّه عَلَى نَصْرهمْ لَقَدِير.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا... " [ الْحَجّ :
٣٩ - ٤٠ ] الْآيَات كُلّهَا.
وَقِيلَ : هُوَ عَامّ فِي بَغْي كُلّ بَاغٍ مِنْ كَافِر وَغَيْره، أَيْ إِذَا نَالَهُمْ ظُلْم مِنْ ظَالِم لَمْ يَسْتَسْلِمُوا لِظُلْمِهِ.
وَهَذِهِ إِشَارَة إِلَى الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر وَإِقَامَة الْحُدُود.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : ذَكَرَ اللَّه الِانْتِصَار فِي الْبَغْي فِي مَعْرِض الْمَدْح، وَذَكَرَ الْعَفْو عَنْ الْجُرْم فِي مَوْضِع آخَر فِي مَعْرِض الْمَدْح ; فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون أَحَدهمَا رَافِعًا لِلْآخَرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى حَالَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا أَنْ يَكُون الْبَاغِي مُعْلِنًا بِالْفُجُورِ ; وَقِحًا فِي الْجُمْهُور، مُؤْذِيًا لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِير ; فَيَكُون الِانْتِقَام مِنْهُ أَفْضَل.
وَفِي مِثْله قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ : كَانُوا يَكُوهُونَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسهمْ فَتَجْتَرِئ عَلَيْهِمْ الْفُسَّاق.
الثَّانِيَة : أَنْ تَكُون الْفَلْتَة، أَوْ يَقَع ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَرِف بِالزَّلَّةِ وَيَسْأَل الْمَغْفِرَة ; فَالْعَفْو هَاهُنَا أَفْضَل، وَفِي مِثْله نَزَلَتْ :" وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَب لِلتَّقْوَى " [ الْبَقَرَة : ٢٣٧ ].
وَقَوْل :" فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ " [ الْمَائِدَة : ٤٥ ].
وَقَوْله :" وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِر اللَّه لَكُمْ " [ النُّور : ٢٢ ] قُلْت : هَذَا حَسَن، وَهَكَذَا ذَكَرَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه قَالَ : قَوْله تَعَالَى :" وَاَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْي يَنْتَصِرُونَ " يَدُلّ ظَاهِره عَلَى أَنَّ الِانْتِصَار فِي هَذَا الْمَوْضِع أَفْضَل ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهُ إِلَى ذِكْر الِاسْتِجَابَة لِلَّهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى وَإِقَام الصَّلَاة ; وَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَا ذَكَرَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُذِلُّوا أَنْفُسهمْ فَتَجْتَرِئ عَلَيْهِمْ الْفُسَّاق ; فَهَذَا فِيمَنْ تَعَدَّى وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ.
وَالْمَوْضِع الْمَأْمُور فِيهِ بِالْعَفْوِ إِذَا كَانَ الْجَانِي نَادِمًا مُقْلِعًا.
وَقَدْ قَالَ عَقِيب هَذِهِ الْآيَة :" وَلِمَنْ اِنْتَصَرَ بَعْد ظُلْمه فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيل ".
وَيَقْتَضِي ذَلِكَ إِبَاحَة الِانْتِصَار لَا الْأَمْر بِهِ، وَقَدْ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ :" وَلِمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْم الْأُمُور ".
وَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْغُفْرَان عَنْ غَيْر الْمُصِرّ، فَأَمَّا الْمُصِرّ عَلَى الْبَغْي وَالظُّلْم فَالْأَفْضَل الِانْتِصَار مِنْهُ بِدَلَالَةِ الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا.
وَقِيلَ : أَيْ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْي تَنَاصَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى يُزِيلُوهُ عَنْهُمْ وَيَدْفَعُوهُ ; قَالَهُ اِبْن بَحْر.
وَهُوَ رَاجِع إِلَى الْعُمُوم عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا
" وَجَزَاء سَيِّئَة مِثْلهَا " قَالَ الْعُلَمَاء : جَعَلَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ ; صِنْف يَعْفُونَ عَنْ الظَّالِم فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْله " وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ " [ الشُّورَى : ٣٧ ].
وَصِنْف يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمهمْ.
ثُمَّ بَيَّنَ حَدّ الِانْتِصَار بِقَوْلِهِ :" وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلهَا " فَيَنْتَصِر مِمَّنْ ظَلَمَهُ مِنْ غَيْر أَنْ يَعْتَدِي.
قَالَ مُقَاتِل وَهِشَام بْن حُجَيْر : هَذَا فِي الْمَجْرُوح يَنْتَقِم مِنْ الْجَارِح بِالْقِصَاصِ دُون غَيْره مِنْ سَبّ أَوْ شَتْم.
وَقَالَهُ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَسُفْيَان.
قَالَ سُفْيَان : وَكَانَ اِبْن شُبْرُمَة يَقُول : لَيْسَ بِمَكَّة مِثْل هِشَام.
وَتَأَوَّلَ الشَّافِعِيّ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذ مِنْ مَال مَنْ خَانَهُ مِثْل مَا خَانَهُ مِنْ غَيْر عِلْمه ; وَاسْتُشْهِدَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ زَوْج أَبِي سُفْيَان :( خُذِي مِنْ مَاله مَا يَكْفِيك وَوَلَدك ) فَأَجَازَ لَهَا أَخَذَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنه.
وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي " الْبَقَرَة ".
وَقَالَ اِبْن أَبِي نَجِيح : إِنَّهُ مَحْمُول عَلَى الْمُقَابَلَة فِي الْجِرَاح.
وَإِذَا قَالَ : أَخْزَاهُ اللَّه أَوْ لَعَنَهُ اللَّه أَنْ يَقُول مِثْله.
وَلَا يُقَابَل الْقَذْف بِقَذْفٍ وَلَا الْكَذِب بِكَذِبٍ.
وَقَالَ السُّدِّيّ : إِنَّمَا مَدَحَ اللَّه مَنْ اِنْتَصَرَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْر اِعْتِدَاء بِالزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَار مَا فُعِلَ بِهِ ; يَعْنِي كَمَا كَانَتْ الْعَرَب تَفْعَلهُ.
وَسُمِّيَ الْجَزَاء سَيِّئَة لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتهَا ; فَالْأَوَّل سَاءَ هَذَا فِي مَال أَوْ بَدَن، وَهَذَا الِاقْتِصَاص يَسُوءهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا ; وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلّه فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى.
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَنْ تَرَكَ الْقِصَاص وَأَصْلَحَ بَيْنه وَبَيْن الظَّالِم بِالْعَفْوِ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
أَيْ إِنَّ اللَّه يَأْجُرهُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ مُقَاتِل : فَكَانَ الْعَفْو مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة وَقَدْ مَضَى فِي " آل عِمْرَان " فِي هَذَا مَا فِيهِ كِفَايَة، وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ عَنْ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ قَالَ : إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَادٍ أَيّكُمْ أَهْل الْفَضْل ؟ فَيَقُوم نَاس مِنْ النَّاس ; فَيُقَال : اِنْطَلِقُوا إِلَى الْجَنَّة فَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَة ; فَيَقُولُونَ إِلَى أَيْنَ ؟ فَيَقُولُونَ إِلَى الْجَنَّة ; قَالُوا قَبْل الْحِسَاب ؟ قَالُوا نَعَمْ قَالُوا مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا أَهْل الْفَضْل ; قَالُوا وَمَا كَانَ فَضْلكُمْ ؟ قَالُوا كُنَّا إِذَا جُهِلَ عَلَيْنَا حَلِمْنَا وَإِذَا ظُلِمْنَا صَبَرْنَا وَإِذَا سِيءَ إِلَيْنَا عَفَوْنَا ; قَالُوا اُدْخُلُوا الْجَنَّة فَنِعْمَ أَجْر الْعَامِلِينَ.
وَذَكَرَ الْحَدِيث.
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
أَيْ مَنْ بَدَأَ بِالظُّلْمِ ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر.
وَقِيلَ : لَا يُحِبّ مَنْ يَتَعَدَّى فِي الِاقْتِصَاص وَيُجَاوِز الْحَدّ ; قَالَهُ اِبْن عِيسَى.
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
أَيْ الْمُسْلِم إِذَا اِنْتَصَرَ مِنْ الْكَافِر فَلَا سَبِيل إِلَى لَوْمه، بَلْ يُحْمَد عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْكَافِر.
وَلَا لَوْم إِنْ اِنْتَصَرَ الظَّالِم مِنْ الْمُسْلِم ; فَالِانْتِصَار مِنْ الْكَافِر حَتْم، وَمِنْ الْمُسْلِم مُبَاح، وَالْعَفْو مَنْدُوب
فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ
دَلِيل عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.
وَهَذَا يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقْسَام : أَحَدهَا : أَنْ يَكُون قِصَاصًا فِي بَدَن يَسْتَحِقّهُ آدَمِيّ، فَلَا حَرَج عَلَيْهِ إِنْ اِسْتَوْفَاهُ مِنْ غَيْر عُدْوَان وَثَبَتَ حَقّه عِنْد الْحُكَّام، لَكِنْ يَزْجُرهُ الْإِمَام فِي تَفَوُّته بِالْقِصَاصِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجُرْأَة عَلَى سَفْك الدَّم.
وَإِنْ كَانَ حَقّه غَيْر ثَابِت عِنْد الْحَاكِم فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنه وَبَيْن اللَّه حَرَج ; وَهُوَ فِي الظَّاهِر مُطَالَب وَبِفِعْلِهِ مُؤَاخَذ وَمُعَاقَب.
الْقِسْم الثَّانِي : أَنْ يَكُون حَدّ اللَّه تَعَالَى لَا حَقّ لِآدَمِيٍّ فِيهِ كَحَدِّ الزِّنَى وَقَطْع السَّرِقَة ; فَإِنْ لَمْ يَثْبُت ذَلِكَ عِنْد حَاكِم أُخِذَ بِهِ وَعُوقِبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ثَبَتَ عِنْد حَاكِم نَظَر، فَإِنْ كَانَ قَطْعًا فِي سَرِقَة سَقَطَ بِهِ الْحَدّ لِزَوَالِ الْعُضْو الْمُسْتَحَقّ قَطْعه، وَلَمْ يَجِب عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَقّ لِأَنَّ التَّعْزِير أَدَب، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا لَمْ يَسْقُط بِهِ الْحَدّ لِتَعَدِّيهِ مَعَ بَقَاء مَحِلّه فَكَانَ مَأْخُوذًا بِحُكْمِهِ.
الْقِسْم الثَّالِث : أَنْ يَكُون حَقًّا فِي مَال ; فَيَجُوز لِصَاحِبِهِ أَنْ يُغَالِب عَلَى حَقّه حَتَّى يَصِل إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ هُوَ عَالِم بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْر عَالِم نَظَر، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْوُصُول إِلَيْهِ عِنْد الْمُطَالَبَة لَمْ يَكُنْ لَهُ الِاسْتِسْرَار بِأَخْذِهِ.
وَإِنْ كَانَ لَا يَصِل إِلَيْهِ بِالْمُطَالَبَةِ لِجُحُودِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَم بَيِّنَة تَشْهَد لَهُ فَفِي جَوَاز اِسْتِسْرَاره بِأَخْذِهِ مَذْهَبَانِ : أَحَدهمَا : جَوَازه ; وَهُوَ قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ.
الثَّانِي : الْمَنْع ; وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ
أَيْ بِعُدْوَانِهِمْ عَلَيْهِمْ ; فِي قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء.
وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : أَيْ يَظْلِمُونَهُمْ بِالشِّرْكِ الْمُخَالِف لِدِينِهِمْ.
وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
أَيْ فِي النُّفُوس وَالْأَمْوَال ; فِي قَوْل الْأَكْثَرِينَ.
وَقَالَ مُقَاتِل : بَغْيهمْ عَمَلهمْ بِالْمَعَاصِي.
وَقَالَ أَبُو مَالِك : هُوَ مَا يَرْجُوهُ كُفَّار قُرَيْش أَنْ يَكُون بِمَكَّة غَيْر الْإِسْلَام دِينًا.
وَعَلَى هَذَا الْحَدّ قَالَ اِبْن زَيْد : إِنَّ هَذَا كُلّه مَنْسُوخ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّة.
وَقَوْل قَتَادَة : إِنَّهُ عَامّ ; وَكَذَا يَدُلّ ظَاهِر الْكَلَام.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالْحَمْد لِلَّهِ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذِهِ الْآيَة : فِي مُقَابَلَة الْآيَة الْمُتَقَدِّمَة فِي " بَرَاءَة " وَهِيَ قَوْله :" مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل " [ التَّوْبَة : ٩١ ] ; فَكَمَا نَفَى اللَّه السَّبِيل عَمَّنْ أَحْسَنَ فَكَذَلِكَ نَفَاهَا عَلَى مَنْ ظُلِمَ ; وَاسْتَوْفَى بَيَان الْقِسْمَيْنِ.
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي السُّلْطَان يَضَع عَلَى أَهْل بَلَد مَالًا مَعْلُومًا بِأَخْذِهِمْ بِهِ وَيُؤَدُّونَهُ عَلَى قَدْر أَمْوَالهمْ ; هَلْ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاص مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَل، وَهُوَ إِذَا تَخَلَّصَ أَخَذَ سَائِر أَهْل الْبَلَد بِتَمَامِ مَا جُعِلَ عَلَيْهِمْ.
فَقِيلَ لَا ; وَهُوَ قَوْل سَحْنُون مِنْ عُلَمَائِنَا.
وَقِيلَ : نَعَمْ، لَهُ ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلَاص ; وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو جَعْفَر أَحْمَد بْن نَصْر الدَّاوُدِيّ ثُمَّ الْمَالِكِيّ.
قَالَ : وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْل مَالِك فِي السَّاعِي يَأْخُذ مِنْ غَنَم أَحَد الْخُلَطَاء شَاة وَلَيْسَ فِي جَمِيعهَا نِصَاب إِنَّهَا مَظْلِمَة عَلَى مَنْ أَخَذْت لَهُ لَا يَرْجِع عَلَى أَصْحَابه بِشَيْءٍ.
قَالَ : وَلَسْت آخُذ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَحْنُون ; لِأَنَّ الظُّلْم لَا أُسْوَة فِيهِ، وَلَا يَلْزَم أَحَد أَنْ يُولِج نَفْسه فِي ظُلْم مَخَافَة أَنْ يُضَاعَف الظُّلْم عَلَى غَيْره، وَاَللَّه سُبْحَانه يَقُول :" إِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاس ".
وَاخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاء فِي التَّحْلِيل ; فَكَانَ اِبْن الْمُسَيِّب لَا يُحَلِّل أَحَدًا مِنْ عِرْض وَلَا مَال.
وَكَانَ سُلَيْمَان بْن يَسَار وَمُحَمَّد بْن سِيرِينَ يُحَلِّلَانِ مِنْ الْعِرْض وَالْمَال.
وَرَأَى مَالِك التَّحْلِيل مِنْ الْمَال دُون الْعِرْض.
رَوَى اِبْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب عَنْ مَالِك وَسُئِلَ عَنْ قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب " لَا أُحَلِّل أَحَدًا " فَقَالَ : ذَلِكَ يَخْتَلِف ; فَقُلْت لَهُ يَا أَبَا عَبْد اللَّه، الرَّجُل يُسَلِّف الرَّجُل فَيَهْلَك وَلَا وَفَاء لَهُ ؟ قَالَ : أَرَى أَنْ يُحَلِّلهُ وَهُوَ أَفْضَل عِنْدِي ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى : يَقُول :" الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنه " [ الزُّمَر : ١٨ ].
فَقِيلَ لَهُ : الرَّجُل يَظْلِم الرَّجُل ؟ فَقَالَ : لَا أَرَى ذَلِكَ، هُوَ عِنْدِي مُخَالِف لِلْأَوَّلِ، يَقُول اللَّه تَعَالَى :" إِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاس " وَيَقُول تَعَالَى :" مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل " التَّوْبَة : ٩١ ] فَلَا أَرَى أَنْ يَجْعَلهُ مِنْ ظُلْمه فِي حِلّ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال : أَحَدهَا : لَا يُحَلِّلهُ بِحَالٍ ; قَالَهُ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب.
الثَّانِي : يُحَلِّلهُ ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ.
الثَّالِث : إِنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلهُ ; وَهُوَ قَوْل مَالِك.
وَجْه الْأَوَّل أَلَّا يُحَلِّل مَا حَرَّمَ اللَّه ; فَيَكُون كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّه.
وَوَجْه الثَّانِي أَنَّهُ حَقّه فَلَهُ أَنْ يُسْقِط كَمَا يُسْقِط دَمه وَعِرْضه.
وَوَجْه الثَّالِث الَّذِي اِخْتَارَهُ مَالِك هُوَ أَنَّ الرَّجُل إِذَا غَلَبَ عَلَى أَدَاء حَقّك فَمِنْ الرِّفْق بِهِ أَنْ يَتَحَلَّلهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنْ الْحَقّ أَلَّا تَتْرُكهُ لِئَلَّا تَغْتَرّ الظَّلَمَة وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالهمْ الْقَبِيحَة.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم حَدِيث أَبِي الْيُسْر الطَّوِيل وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِغَرِيمِهِ : اُخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْت أَيْنَ أَنْتَ ; فَخَرَجَ ; فَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى أَنْ أَخْتَبَأْت مِنِّي ؟ قَالَ : أَنَا وَاَللَّه أُحَدِّثك ثُمَّ لَا أَكْذِبك، خَشِيت وَاَللَّه أَنْ أُحَدِّثك فَأَكْذِبك، وَأَنْ أَعِدك فَأُخْلِفك، وَكُنْت صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْت وَاَللَّه مُعْسِرًا.
قَالَ قُلْت : آللَّه ؟ قَالَ آللَّه ; قَالَ : فَأَتَى بِصَحِيفَةٍ فَمَحَاهَا فَقَالَ :
إِنْ وَجَدْت قَضَاء فَاقْضِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ فِي حِلّ وَذَكَرَ الْحَدِيث.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا فِي الْحَيّ الَّذِي يُرْجَى لَهُ الْأَدَاء لِسَلَامَةِ الذِّمَّة وَرَجَاء التَّمَحُّل، فَكَيْف بِالْمَيِّتِ الَّذِي لَا مُحَالَلَة لَهُ وَلَا ذِمَّة مَعَهُ.
الْعَاشِرَة : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ مَنْ ظُلِمَ وَأُخِذَ لَهُ مَال فَإِنَّمَا لَهُ ثَوَاب مَا اِحْتَبَسَ عَنْهُ إِلَى مَوْته، ثُمَّ يَرْجِع الثَّوَاب إِلَى وَرَثَته، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى آخِرهمْ ; لِأَنَّ الْمَال يَصِير بَعْده لِلْوَارِثِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَر الدَّاوُدِيّ الْمَالِكِيّ : هَذَا صَحِيح فِي النَّظَر ; وَعَلَى هَذَا الْقَوْل إِنْ مَاتَ الظَّالِم قَبْل مَنْ ظَلَمَهُ وَلَمْ يَتْرُك شَيْئًا أَوْ تَرَكَ مَا لَمْ يَعْلَم وَارِثه فِيهِ بِظُلْمٍ لَمْ تَنْتَقِل تَبَاعَة الْمَظْلُوم إِلَى وَرَثَة الظَّالِم ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلظَّالِمِ مَا يَسْتَوْجِبهُ وَرَثَة الْمَظْلُوم.
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ
أَيْ صَبَرَ عَلَى الْأَذَى و " غَفَرَ " أَيْ تَرَكَ الِانْتِصَار لِوَجْهِ اللَّه تَعَالَى ; وَهَذَا فِيمَنْ ظَلَمَهُ مُسْلِم.
وَيُحْكَى أَنَّ رَجُلًا سَبَّ رَجُلًا فِي مَجْلِس الْحَسَن رَحِمَهُ اللَّه فَكَانَ الْمَسْبُوب يَكْظِم وَيَعْرَق فَيَمْسَح الْعَرَق، ثُمَّ قَامَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَة ; فَقَالَ الْحَسَن : عَقَلَهَا وَاَللَّه ! وَفَهِمَهَا إِذْ ضَيَّعَهَا الْجَاهِلُونَ.
وَبِالْجُمْلَةِ الْعَفْو مَنْدُوب إِلَيْهِ، ثُمَّ قَدْ يَنْعَكِس الْأَمْر فِي بَعْض الْأَحْوَال فَيَرْجِع تَرْك الْعَفْو مَنْدُوبًا إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ; وَذَلِكَ إِذَا اُحْتِيجَ إِلَى كَفّ زِيَادَة الْبَغْي وَقَطْع مَادَّة الْأَذَى، وَعَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ زَيْنَب أَسْمَعَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِحَضْرَتِهِ فَكَانَ يَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، فَقَالَ لِعَائِشَة :( دُونك فَانْتَصِرِي ) خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه بِمَعْنَاهُ.
وَقِيلَ :" صَبَرَ " عَنْ الْمَعَاصِي وَسَتَرَ عَلَى الْمَسَاوِئ.
إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
أَيْ مِنْ عَزَائِم اللَّه الَّتِي أَمَرَ بِهَا.
وَقِيلَ : مِنْ عَزَائِم الصَّوَاب الَّتِي وُفِّقَ لَهَا.
وَذَكَرَ الْكَلْبِيّ وَالْفَرَّاء أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَعَ ثَلَاث آيَات قَبْلهَا، وَقَدْ شَتَمَهُ بَعْض الْأَنْصَار فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ أَمْسَكَ.
وَهِيَ الْمَدَنِيَّات مِنْ هَذِهِ السُّورَة.
وَقِيلَ : هَذِهِ الْآيَات فِي الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ هَذَا فِي اِبْتِدَاء الْإِسْلَام قَبْل الْأَمْر بِالْقِتَالِ ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَة الْقِتَال ; وَهُوَ قَوْل اِبْن زَيْد، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَفِي تَفْسِير اِبْن عَبَّاس " وَلَمَنْ اِنْتَصَرَ بَعْد ظُلْمه " يُرِيد حَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب، وَعُبَيْدَة وَعَلِيًّا وَجَمِيع الْمُهَاجِرِينَ رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ.
" فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيل " يُرِيد حَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب وَعُبَيْدَة وَعَلِيًّا رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
" إِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاس " يُرِيد عُتْبَة بْن رَبِيعَة وَشَيْبَة بْن رَبِيعَة وَالْوَلِيد بْن عُتْبَة وَأَبَا جَهْل وَالْأَسْوَد، وَكُلّ مَنْ قَاتَلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْم بَدْر.
" وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْض " يُرِيد بِالظُّلْمِ وَالْكُفْر.
" أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَاب أَلِيم " يُرِيد وَجِيع.
" وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ " يُرِيد أَبَا بَكْر وَعُمَر وَأَبَا عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح وَمُصْعَب بْن عُمَيْر وَجَمِيع أَهْل بَدْر رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
" إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْم الْأُمُور " حَيْثُ قَبِلُوا الْفِدَاء وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
أَيْ يَخْذُلهُ
فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ
هَذَا فِيمَنْ أَعْرَضَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنْ الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى، وَلَمْ يُصَدِّقهُ فِي الْبَعْث وَأَنَّ مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل.
أَيْ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّه عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاء فَلَا يَهْدِيه هَادٍ.
وَتَرَى الظَّالِمِينَ
أَيْ الْكَافِرِينَ.
لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ
يَعْنِي جَهَنَّم.
وَقِيلَ رَأَوْا الْعَذَاب عِنْد الْمَوْت.
يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ
يَطْلُبُونَ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّه فَلَا يُجَابُونَ إِلَى ذَلِكَ.
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
أَيْ عَلَى النَّار لِأَنَّهَا عَذَابهمْ ; فَكَنَّى عَنْ الْعَذَاب الْمَذْكُور بِحَرْفِ التَّأْنِيث لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَذَاب هُوَ النَّار، وَإِنْ شِئْت جَهَنَّم، وَلَوْ رَاعَى اللَّفْظ لَقَالَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قِيلَ : هُمْ الْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا يُعْرَضُونَ عَلَى جَهَنَّم عِنْد اِنْطِلَاقهمْ إِلَيْهَا ; قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ.
وَقِيلَ : آل فِرْعَوْن خُصُوصًا، تُحْبَس أَرْوَاحهمْ فِي أَجْوَاف طَيْر سُود تَغْدُو عَلَى جَهَنَّم وَتَرُوح ; فَهُوَ عَرْضهمْ عَلَيْهَا ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود.
وَقِيلَ : إِنَّهُمْ عَامَّة الْمُشْرِكِينَ، تُعْرَض عَلَيْهِمْ ذُنُوبهمْ فِي قُبُورهمْ، وَيُعْرَضُونَ عَلَى الْعَذَاب فِي قُبُورهمْ ; وَهَذَا مَعْنَى قَوْل أَبِي الْحَجَّاج.
خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ
ذَهَبَ بَعْض الْقُرَّاء إِلَى الْوَقْف عَلَى " خَاشِعِينَ ".
وَقَوْله :" مِنْ الذُّلّ " مُتَعَلِّق ب " يَنْظُرُونَ ".
وَقِيلَ : مُتَعَلِّق ب " خَاشِعِينَ ".
وَالْخُشُوع الِانْكِسَار وَالتَّوَاضُع.
وَمَعْنَى
يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ
أَيْ لَا يَرْفَعُونَ أَبْصَارهمْ لِلنَّظَرِ رَفْعًا تَامًّا ; لِأَنَّهُمْ نَاكِسُو الرُّءُوس.
وَالْعَرَب تَصِف الذَّلِيل بِغَضِّ الطَّرْف، كَمَا يَسْتَعْمِلُونَ فِي ضِدّه حَدِيد النَّظَر إِذَا لَمْ يُتَّهَم بِرِيبَةٍ فَيَكُون عَلَيْهِ مِنْهَا غَضَاضَة.
وَقَالَ مُجَاهِد :" مِنْ طَرْف خَفِيّ " أَيْ ذَلِيل، قَالَ : وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا، وَعَيْن الْقَلْب طَرْف خَفِيّ.
وَقَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَالْقُرَظِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر : يُسَارِقُونَ النَّظَر مِنْ شِدَّة الْخَوْف.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى يَنْظُرُونَ مِنْ عَيْن ضَعِيفَة النَّظَر.
وَقَالَ يُونُس :" مِنْ " بِمَعْنَى الْبَاء ; أَيْ يَنْظُرُونَ بِطَرْفٍ خَفِيّ، أَيْ ضَعِيف مِنْ الذُّلّ وَالْخَوْف، وَنَحْوه عَنْ الْأَخْفَش.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : بِطَرْفٍ ذَابِل ذَلِيل.
وَقِيلَ : أَيْ يَفْزَعُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهَا بِجَمِيعِ أَبْصَارهمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ أَصْنَاف الْعَذَاب.
وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَيْ يَقُول الْمُؤْمِنُونَ فِي الْجَنَّة لَمَّا عَايَنُوا مَا حَلَّ بِالْكَفَّارِ إِنَّ الْخُسْرَان فِي الْحَقِيقَة مَا صَارَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسهمْ لِأَنَّهُمْ فِي الْعَذَاب الْمُخَلَّد، وَخَسِرُوا أَهْلِيهِمْ لِأَنَّ الْأَهْل إِنْ كَانُوا فِي النَّار فَلَا اِنْتِفَاع بِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْجَنَّة فَقَدْ حِيلَ بَيْنه وَبَيْنهمْ.
وَقِيلَ : خُسْرَان الْأَهْل أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا لَكَانَ لَهُمْ أَهْل فِي الْجَنَّة مِنْ الْحُور الْعِين.
وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد إِلَّا لَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِل فِي الْجَنَّة وَمَنْزِل فِي النَّار فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّار وَرِثَ أَهْل الْجَنَّة مَنْزِله فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" أُولَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : ١٠ ].
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَا مِنْ أَحَد يُدْخِلهُ اللَّه الْجَنَّة إِلَّا زَوَّجَهُ اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَة مِنْ الْحُور الْعِين وَسَبْعِينَ مِنْ مِيرَاثه مِنْ أَهْل النَّار وَمَا مِنْهُنَّ وَاحِدَة إِلَّا وَلَهَا قُبُل شَهِيّ وَلَهُ ذَكَر لَا يَنْثَنِي ).
قَالَ هِشَام بْن خَالِد :( مِنْ مِيرَاثه مِنْ أَهْل النَّار ) يَعْنِي رِجَالًا أُدْخِلُوا النَّار فَوَرِثَ أَهْل الْجَنَّة نِسَاءَهُمْ كَمَا وَرِثَتْ اِمْرَأَة فِرْعَوْن.
أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ
أَيْ دَائِم لَا يَنْقَطِع.
ثُمَّ يَجُوز أَنْ يَكُون هَذَا مِنْ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوز أَنْ يَكُون اِبْتِدَاء مِنْ اللَّه تَعَالَى
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ
أَيْ أَعْوَانًا وَنُصَرَاء
يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَيْ مِنْ عَذَابه
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ
أَيْ طَرِيق يَصِل بِهِ إِلَى الْحَقّ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّة فِي الْآخِرَة ; لِأَنَّهُ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِ طَرِيق النَّجَاة.
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ
أَيْ أَجِيبُوهُ إِلَى مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ الْإِيمَان بِهِ وَالطَّاعَة.
اِسْتَجَابَ وَأَجَابَ بِمَعْنَى ; وَقَدْ تَقَدَّمَ.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ
يُرِيد يَوْم الْقِيَامَة ; أَيْ لَا يَرُدّهُ أَحَد بَعْدَمَا حَكَمَ اللَّه بِهِ وَجَعَلَهُ أَجَلًا وَوَقْتًا.
مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ
أَيْ مِنْ مَلْجَأ يُنْجِيكُمْ مِنْ الْعَذَاب.
وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ
أَيْ مِنْ نَاصِر يَنْصُركُمْ ; قَالَهُ مُجَاهِد.
وَقِيلَ : النَّكِير بِمَعْنَى الْمُنْكَر ; كَالْأَلِيمِ بِمَعْنَى الْمُؤْلِم ; أَيْ لَا تَجِدُونَ يَوْمئِذٍ مُنْكَرًا لِمَا يَنْزِل بِكُمْ مِنْ الْعَذَاب ; حَكَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم ; وَقَالَهُ الْكَلْبِيّ.
الزَّجَّاج : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُنْكِرُوا الذُّنُوب الَّتِي يُوقَفُونَ عَلَيْهَا.
وَقِيلَ :" مِنْ نَكِير " أَيْ إِنْكَار مَا يَنْزِل بِكُمْ مِنْ الْعَذَاب، وَالنَّكِير وَالْإِنْكَار تَغْيِير الْمُنْكَر.
فَإِنْ أَعْرَضُوا
أَيْ عَنْ الْإِيمَان
فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا
أَيْ حَافِظًا لِأَعْمَالِهِمْ حَتَّى تُحَاسِبهُمْ عَلَيْهَا.
وَقِيلَ : مُوَكَّلًا بِهِمْ لَا تُفَارِقهُمْ دُون أَنْ يُؤْمِنُوا ; أَيْ لَيْسَ لَك إِكْرَاههمْ عَلَى الْإِيمَان.
إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ
وَقِيلَ : نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ الْقِتَال.
وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ
الْكَافِر.
مِنَّا رَحْمَةً
رَخَاء وَصِحَّة.
فَرِحَ بِهَا
بَطِرَ بِهَا.
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
بَلَاء وَشِدَّة.
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ
أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّعْمَة فَيُعَدِّد الْمَصَائِب وَيَنْسَى النِّعَم.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
" لِلَّهِ مُلْك السَّمَاوَات وَالْأَرْض " اِبْتِدَاء وَخَبَر.
" يَخْلُق مَا يَشَاء " مِنْ الْخَلْق.
يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو مَالِك وَمُجَاهِد وَالْحَسَن وَالضِّحَاك : يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا لَا ذُكُور مَعَهُنَّ، وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء ذُكُورًا لَا إِنَاثًا مَعَهُمْ ; وَأَدْخَلَ الْأَلِف وَاللَّام عَلَى الذُّكُور دُون الْإِنَاث لِأَنَّهُمْ أَشْرَف فَمَيَّزَهُمْ بِسِمَةِ التَّعْرِيف.
وَقَالَ وَاثِلَة بْن الْأَسْقَع : إِنَّ مِنْ يُمْن الْمَرْأَة تَبْكِيرهَا بِالْأُنْثَى قَبْل الذَّكَر، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور " فَبَدَأَ بِالْإِنَاثِ.
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ أَنْ تَلِد الْمَرْأَة غُلَامًا ثُمَّ تَلِد جَارِيَة ثُمَّ تَلِد غُلَامًا ثُمَّ تَلِد جَارِيَة.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة : هُوَ أَنْ تَلِد تَوْأَمًا، غُلَامًا وَجَارِيَة، أَوْ يُزَوِّجهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا.
قَالَ الْقُتَبِيّ : التَّزْوِيج هَاهُنَا هُوَ الْجَمْع بَيْن الْبَنِينَ وَالْبَنَات ; تَقُول الْعَرَب : زَوَّجْت إِبِلِي إِذَا جَمَعْت بَيْن الْكِبَار وَالصِّغَار.
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
أَيْ لَا يُولَد لَهُ ; يُقَال : رَجُل عَقِيم، وَامْرَأَة عَقِيم.
وَعَقِمَتْ الْمَرْأَة تَعْقَم عَقْمًا ; مِثْل حَمِدَ يَحْمَد.
وَعَقُمَتْ تَعْقُم، مِثْل عَظُمَ يَعْظُم.
وَأَصْله الْقَطْع، وَمِنْهُ الْمُلْك الْعَقِيم، أَيْ تُقْطَع فِيهِ الْأَرْحَام بِالْقَتْلِ وَالْعُقُوق خَوْفًا عَلَى الْمِلْك.
وَرِيح عَقِيم ; أَيْ لَا تَلْقَح سَحَابًا وَلَا شَجَرًا.
وَيَوْم الْقِيَامَة يَوْم عَقِيم ; لِأَنَّهُ لَا يَوْم بَعْده.
وَيُقَال : نِسَاء عُقُم وَعُقْم ; قَالَ الشَّاعِر :
عُقِمَ النِّسَاء فَمَا يَلِدْنَ شَبِيهه إِنَّ النِّسَاء بِمِثْلِهِ عُقْم
وَحَكَى النَّقَّاش أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْأَنْبِيَاء خُصُوصًا وَإِنْ عَمَّ حُكْمهَا.
وُهِبَ لِلُوطٍ الْإِنَاث لَيْسَ مَعَهُنَّ ذَكَر، وَوُهِبَ لِإِبْرَاهِيم الذُّكُور لَيْسَ مَعَهُمْ أُنْثَى، وَوُهِبَ لِإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق الذُّكُور وَالْإِنَاث، وَجُعِلَ عِيسَى وَيَحْيَى عَقِيمَيْنِ ; وَنَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس وَإِسْحَاق بْن بِشْر.
قَالَ إِسْحَاق : نَزَلَتْ فِي الْأَنْبِيَاء، ثُمَّ عَمَّتْ.
" يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا " يَعْنِي لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَام، لَمْ يُولَد لَهُ ذَكَر وَإِنَّمَا وُلِدَ لَهُ اِبْنَتَانِ.
" وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور " يَعْنِي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يُولَد لَهُ أُنْثَى بَلْ وُلِدَ لَهُ ثَمَانِيَة ذُكُور.
" أَوْ يُزَوِّجهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا " يَعْنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وُلِدَ لَهُ أَرْبَعَة بَنِينَ وَأَرْبَع بَنَات.
" وَيَجْعَل مَنْ يَشَاء عَقِيمًا " يَعْنِي يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام ; لَمْ يَذْكُر عِيسَى.
اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا " يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا " يَعْنِي لُوطًا كَانَ لَهُ بَنَات وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اِبْن.
" وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور " يَعْنِي إِبْرَاهِيم، كَانَ لَهُ بَنُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِنْت.
وَقَوْله :" أَوْ يُزَوِّجهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا " يَعْنِي آدَم، كَانَتْ حَوَّاء تَلِد لَهُ فِي كُلّ بَطْن تَوْأَمَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى.
وَيُزَوِّج الذَّكَر مِنْ هَذَا الْبَطْن مِنْ الْأُنْثَى مِنْ الْبَطْن الْآخَر، حَتَّى أَحْكَمَ اللَّه التَّحْرِيم فِي شَرْع نُوح صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَذَلِكَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ ذُكُور وَإِنَاث مِنْ الْأَوْلَاد : الْقَاسِم وَالطَّيِّب وَالطَّاهِر وَعَبْد اللَّه وَزَيْنَب وَأُمّ كُلْثُوم وَرُقَيَّة وَفَاطِمَة ; وَكُلّهمْ مِنْ خَدِيجَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَإِبْرَاهِيم وَهُوَ مِنْ مَارِيَة الْقِبْطِيَّة.
وَكَذَلِكَ قَسَمَ اللَّه الْخَلْق مِنْ لَدُنْ آدَم إِلَى زَمَاننَا هَذَا، إِلَى أَنْ تَقُوم السَّاعَة، عَلَى هَذَا التَّقْدِير الْمَحْدُود بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَة وَمَشِيئَته النَّافِذَة ; لِيَبْقَى النَّسْل، وَيَتَمَادَى الْخَلْق، وَيَنْفُذ الْوَعْد، وَيَحِقّ الْأَمْر، وَتَعْمُر الدُّنْيَا، وَتَأْخُذ الْجَنَّة وَجَهَنَّم كُلّ وَاحِدَة مَا يَمْلَؤُهَا وَيَبْقَى.
فَفِي الْحَدِيث :( إِنَّ النَّار لَنْ تَمْتَلِئ حَتَّى يَضَع الْجَبَّار فِيهَا قَدَمه، فَتَقُول قَطْ قَطْ.
وَأَمَّا الْجَنَّة فَيَبْقَى مِنْهَا فَيُنْشِئ اللَّه لَهَا خَلْقًا آخَر ).
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى لِعُمُومِ قُدْرَته وَشَدِيد قُوَّته يَخْلُق الْخَلْق اِبْتِدَاء مِنْ غَيْر شَيْء، وَبِعَظِيمِ لُطْفه وَبَالِغ حِكْمَته يَخْلُق شَيْئًا مِنْ شَيْء لَا عَنْ حَاجَة ; فَإِنَّهُ قُدُّوس عَنْ الْحَاجَات سَلَام عَنْ الْآفَات، كَمَا قَالَ الْقُدُّوس السَّلَام ; فَخَلَقَ آدَم مِنْ الْأَرْض وَخَلَقَ حَوَّاء مِنْ آدَم وَخَلَقَ النَّشْأَة مِنْ بَيْنهمَا مِنْهُمَا مُرَتَّبًا عَلَى الْوَطْء كَائِنًا عَنْ الْحَمْل مَوْجُودًا فِي الْجَنِين بِالْوَضْعِ ; كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِذَا سَبَقَ مَاء الرَّجُل مَاء الْمَرْأَة أَذْكَرَا وَإِذَا سَبَقَ مَاء الْمَرْأَة مَاء الرَّجُل آنَثَا ).
وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح أَيْضًا :( إِذَا عَلَا مَاء الرَّجُل مَاء الْمَرْأَة أَشْبَهَ الْوَلَد أَعْمَامه وَإِذَا عَلَا مَاء الْمَرْأَة مَاء الرَّجُل أَشْبَهَ الْوَلَد أَخْوَاله ).
قُلْت : وَهَذَا مَعْنَى حَدِيث عَائِشَة لَا لَفْظه خَرَّجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث عُرْوَة بْن الزُّبَيْر عَنْهَا أَنَّ اِمْرَأَة قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ تَغْتَسِل الْمَرْأَة إِذَا اِحْتَلَمَتْ وَأَبْصَرَتْ الْمَاء ؟ فَقَالَ :( نَعَمْ ) فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَة : تَرِبَتْ يَدَاك وَأَلَتْ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( دَعِيهَا وَهَلْ يَكُون الشَّبَه إِلَّا مِنْ قِبَل ذَلِكَ.
إِذَا عَلَا مَاؤُهَا مَاء الرَّجُل أَشْبَهَ الْوَلَد أَخْوَاله وَإِذَا عَلَا مَاء الرَّجُل مَاءَهَا أَشْبَهَ أَعْمَامه ).
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْعُلُوّ يَقْتَضِي الشَّبَه ; وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث ثَوْبَان خَرَّجَهُ مُسْلِم أَيْضًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِيِّ :( مَاء الرَّجُل أَبْيَض وَمَاء الْمَرْأَة أَصْفَر، فَإِذَا اِجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيّ الرَّجُل مَنِيّ الْمَرْأَة أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّه وَإِذَا عَلَا مَنِيّ الْمَرْأَة مَنِيّ الرَّجُل آنَثَا بِإِذْنِ اللَّه... ) الْحَدِيث.
فَجَعَلَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَيْضًا الْعُلُوّ يَقْتَضِي الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة ; فَعَلَى مُقْتَضَى الْحَدِيثَيْنِ يَلْزَم اِقْتِرَان الشَّبَه لِلْأَعْمَالِ وَالذُّكُورَة إِنْ عَلَا مَنِيّ الرَّجُل، وَكَذَلِكَ يَلْزَم إِنْ عَلَا مَنِيّ الْمَرْأَة اِقْتِرَان الشَّبَه لِلْأَخْوَالِ وَالْأُنُوثَة ; لِأَنَّهُمَا مَعْلُولًا عِلَّة وَاحِدَة، وَلَيْسَ الْأَمْر كَذَلِكَ بَلْ الْوُجُود بِخِلَافِ ذَلِكَ ; لِأَنَّا نَجِد الشَّبَه لِلْأَخْوَالِ وَالذُّكُورَة وَالشَّبَه لِلْأَعْمَامِ وَالْأُنُوثَة فَتَعَيَّنَ تَأْوِيل أَحَد الْحَدِيثَيْنِ.
وَاَلَّذِي يَتَعَيَّن تَأْوِيله الَّذِي فِي حَدِيث ثَوْبَان فَيُقَال : إِنَّ ذَلِكَ الْعُلُوّ مَعْنَاهُ سَبَقَ الْمَاء إِلَى الرَّحِم، وَوَجْه أَنَّ الْعُلُوّ لِمَا كَانَ مَعْنَاهُ الْغَلَبَة مِنْ قَوْلهمْ سَابَقَنِي فُلَان فَسَبَقْته أَيْ غَلَبْته ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ " [ الْوَاقِعَة : ٦٠ ] أَيْ بِمَغْلُوبِينَ، قِيلَ عَلَيْهِ عَلَا.
وَيُؤَيِّد هَذَا التَّأْوِيل قَوْله فِي الْحَدِيث :( إِذَا سَبَقَ مَاء الرَّجُل مَاء الْمَرْأَة أَذْكَرَا وَإِذَا سَبَقَ مَاء الْمَرْأَة مَاء الرَّجُل آنَثَا ).
وَقَدْ بَنَى الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيث بِنَاء فَقَالَ : إِنَّ لِلْمَاءَيْنِ أَرْبَعَة أَحْوَال : الْأَوَّل : أَنْ يَخْرُج مَاء الرَّجُل أَوَّلًا، الثَّانِي : أَنْ يَخْرُج مَاء الْمَرْأَة أَوَّلًا، الثَّالِث : أَنْ يَخْرُج مَاء الرَّجُل أَوَّلًا وَيَكُون أَكْثَر، الرَّابِع : أَنْ يَخْرُج مَاء الْمَرْأَة أَوَّلًا وَيَكُون أَكْثَر.
وَيَتِمّ التَّقْسِيم بِأَنْ يَخْرُج مَاء الرَّجُل أَوَّلًا ثُمَّ يَخْرُج مَاء الْمَرْأَة بَعْده وَيَكُون أَكْثَر أَوْ بِالْعَكْسِ ; فَإِذَا خَرَجَ مَاء الرَّجُل أَوَّلًا وَكَانَ أَكْثَر جَاءَ الْوَلَد ذَكَرًا بِحُكْمِ السَّبْق وَأَشْبَهَ الْوَلَد أَعْمَامه بِحُكْمِ الْكَثْرَة.
وَإِنْ خَرَجَ مَاء الْمَرْأَة أَوَّلًا وَكَانَ أَكْثَر جَاءَ الْوَلَد أُنْثَى بِحُكْمِ السَّبْق وَأَشْبَهَ أَخْوَاله بِحُكْمِ الْغَلَبَة.
وَإِنْ خَرَجَ مَاء الرَّجُل أَوَّلًا لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاء الْمَرْأَة بَعْده كَانَ أَكْثَر كَانَ الْوَلَد ذَكَرًا بِحُكْمِ السَّبْق وَأَشْبَهَ أَخْوَاله بِحُكْمِ غَلَبَة مَاء الْمَرْأَة، وَإِنْ سَبَقَ مَاء الْمَرْأَة لَكِنْ لَمَّا خَرَجَ مَاء الرَّجُل كَانَ أَعْلَى مِنْ مَاء الْمَرْأَة، كَانَ الْوَلَد أُنْثَى بِحُكْمِ سَبْق مَاء الْمَرْأَة وَأَشْبَهَ أَعْمَامه بِحُكْمِ غَلَبَة مَاء الرَّجُل.
قَالَ : وَبِانْتِظَامِ هَذِهِ الْأَقْسَام يَسْتَتِبّ الْكَلَام وَيَرْتَفِع التَّعَارُض عَنْ الْأَحَادِيث، فَسُبْحَان الْخَالِق الْعَلِيم
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَتْ الْخِلْقَة مُسْتَمِرَّة ذَكَرًا وَأُنْثَى إِلَى أَنْ وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّة الْأُولَى الْخُنْثَى فَأُتِيَ بِهِ فَرِيض الْعَرَب وَمُعَمِّرهَا عَامِر بْن الظَّرِب فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُول فِيهِ وَأَرْجَأَهُمْ عَنْهُ ; فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْل تَنَكَّرَ مَوْضِعه، وَأَقَضَّ عَلَيْهِ مَضْجَعه، وَجَعَلَ يَتَقَلَّب وَيَتَقَلَّب، وَتَجِيء بِهِ الْأَفْكَار وَتَذْهَب، إِلَى أَنْ أَنْكَرَتْ خَادِمه حَاله فَقَالَتْ : مَا بِك ؟ قَالَ لَهَا : سَهِرْت لِأَمْرٍ قَصَدْت بِهِ فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُول فِيهِ ؟ فَقَالَتْ مَا هُوَ ؟ قَالَ لَهَا : رَجُل لَهُ ذَكَر وَفَرْج كَيْف يَكُون حَاله فِي الْمِيرَاث ؟ قَالَتْ لَهُ الْأَمَة : وَرِّثْهُ مِنْ حَيْثُ يَبُول ; فَعَقَلَهَا وَأَصْبَحَ فَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ وَانْقَلَبُوا بِهَا رَاضِينَ.
وَجَاءَ الْإِسْلَام عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ تَنْزِل إِلَّا فِي عَهْد عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَضَى فِيهَا.
وَقَدْ رَوَى الْفَرْضِيُّونَ عَنْ الْكَلْبِيّ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُود لَهُ قُبُل وَذَكَر مِنْ أَيْنَ يُوَرَّث ؟ قَالَ : مِنْ حَيْثُ يَبُول.
وَرُوِيَ أَنَّهُ أُتِيَ بِخُنْثَى مِنْ الْأَنْصَار فَقَالَ :( وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّل مَا يَبُول ).
وَكَذَا رَوَى مُحَمَّد بْن الْحَنَفِيَّة عَنْ عَلِيّ، وَنَحْوه عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَبِهِ قَالَ اِبْن الْمُسَيِّب وَأَبُو حَنِيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد، وَحَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيّ.
وَقَالَ قَوْم : لَا دَلَالَة فِي الْبَوْل ; فَإِنْ خَرَجَ الْبَوْل مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ أَبُو يُوسُف : يُحْكَم بِالْأَكْثَرِ.
وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَنِيفَة وَقَالَ : أَتَكِيلُهُ ! وَلَمْ يَجْعَل أَصْحَاب الشَّافِعِيّ لِلْكَثْرَةِ حُكْمًا.
وَحُكِيَ عَنْ عَلِيّ وَالْحَسَن أَنَّهُمَا قَالَا : تُعَدّ أَضْلَاعه، فَإِنَّ الْمَرْأَة تَزِيد عَلَى الرَّجُل بِضِلْعٍ وَاحِد.
وَقَدْ مَضَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي آيَة الْمَوَارِيث فِي " النِّسَاء " مُجَوَّدًا وَالْحَمْد لِلَّهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْم مِنْ رُءُوس الْعَوَامّ وُجُود الْخُنْثَى، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَسَمَ الْخَلْق إِلَى ذَكَر وَأُنْثَى.
قُلْنَا : هَذَا جَهْل بِاللُّغَةِ، وَغَبَاوَة عَنْ مَقْطَع الْفَصَاحَة، وَقُصُور عَنْ مَعْرِفَة سَعَة الْقُدْرَة.
أَمَّا قُدْرَة اللَّه سُبْحَانه فَإِنَّهُ وَاسِع عَلِيم، وَأَمَّا ظَاهِر الْقُرْآن فَلَا يَنْفِي وُجُود الْخُنْثَى ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" لِلَّهِ مُلْك السَّمَاوَات وَالْأَرْض يَخْلُق مَا يَشَاء ".
فَهَذَا عُمُوم مَدْح فَلَا يَجُوز تَخْصِيصه ; لِأَنَّ الْقُدْرَة تَقْتَضِيه.
وَأَمَّا قَوْله :" يَهَب لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَب لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور.
أَوْ يُزَوِّجهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَل مَنْ يَشَاء عَقِيمًا " فَهَذَا إِخْبَار عَنْ الْغَالِب فِي الْمَوْجُودَات، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْر النَّادِر لِدُخُولِهِ تَحْت عُمُوم الْكَلَام الْأَوَّل، وَالْوُجُود يَشْهَد لَهُ وَالْعِيَان يُكَذِّب مُنْكِرَهُ، وَقَدْ كَانَ يَقْرَأ مَعَنَا بِرِبَاطِ أَبِي سَعِيد عَلَى الْإِمَام الشَّهِيد مِنْ بِلَاد الْمَغْرِب خُنْثَى لَيْسَ لَهُ لِحْيَة وَلَهُ ثَدْيَانِ وَعِنْده جَارِيَة ; فَرَبّك أَعْلَم بِهِ، وَمَعَ طُول الصُّحْبَة عَقَلَنِي الْحَيَاء عَنْ سُؤَاله، وَبِوُدِّي الْيَوْم لَوْ كَاشَفْته عَنْ حَاله.
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا
سَبَب ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُود قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا تُكَلِّم اللَّه وَتَنْظُر إِلَيْهِ إِنْ كُنْت نَبِيًّا كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى وَنَظَرَ إِلَيْهِ ; فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِن لَك حَتَّى تَفْعَل ذَلِكَ.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ مُوسَى لَنْ يَنْظُر إِلَيْهِ ) فَنَزَلَ قَوْله :" وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلَّا وَحْيًا " ; ذَكَرَهُ النَّقَّاش وَالْوَاحِدِيّ وَالثَّعْلَبِيّ.
" وَحْيًا " قَالَ مُجَاهِد : نَفَثَ يَنْفُث فِي قَلْبه فَيَكُون إِلْهَامًا ; وَمِنْهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ رُوح الْقُدُس نَفَثَ فِي رُوعِي إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوت حَتَّى تَسْتَكْمِل، رِزْقهَا وَأَجَلهَا فَاتَّقُوا اللَّه وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَب.
خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ ).
" أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب " كَمَا كَلَّمَ مُوسَى.
" أَوْ يُرْسِل رَسُولًا " كَإِرْسَالِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقِيلَ :" إِلَّا وَحْيًا " رُؤْيَا يَرَاهَا فِي مَنَامه ; قَالَهُ مُحَمَّد بْن زُهَيْر.
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
كَمَا كَلَّمَ مُوسَى.
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا
قَالَ زُهَيْر : هُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
وَهَذَا الْوَحْي مِنْ الرُّسُل خِطَاب مِنْهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ يَسْمَعُونَهُ نُطْقًا وَيَرَوْنَهُ عِيَانًا.
وَهَكَذَا كَانَتْ حَال جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى كُلّ نَبِيّ فَلَمْ يَرَهُ مِنْهُمْ إِلَّا مُحَمَّد وَعِيسَى وَمُوسَى وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمْ السَّلَام.
فَأَمَّا غَيْرهمْ فَكَانَ وَحْيًا إِلْهَامًا فِي الْمَنَام.
وَقُلْ :" إِلَّا وَحْيًا " بِإِرْسَالِ جِبْرِيل " أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَاب " كَمَا كَلَّمَ مُوسَى.
" أَوْ يُرْسِل رَسُولًا " إِلَى النَّاس كَافَّة.
وَقَرَأَ الزُّهْرِيّ وَشَيْبَة وَنَافِع " أَوْ يُرْسِل رَسُولًا فَيُوحِي " بِرَفْعِ الْفِعْلَيْنِ.
الْبَاقُونَ بِنَصْبِهِمَا.
فَالرَّفْع عَلَى الِاسْتِئْنَاف ; أَيْ وَهُوَ يُرْسِل.
وَقِيلَ :" يُرْسِل " بِالرَّفْعِ فِي مَوْضِع الْحَال ; وَالتَّقْدِير إِلَّا مُوحِيًا أَوْ مُرْسَلًا.
وَمَنْ نَصَبَ عَطَفُوهُ عَلَى مَحَلّ الْوَحْي ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللَّه إِلَّا أَنْ يُوحِي أَوْ يُرْسِل.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون النَّصْب عَلَى تَقْدِير حَذْف الْجَار مِنْ أَنْ الْمُضْمَرَة.
وَيَكُون فِي مَوْضِع الْحَال ; التَّقْدِير أَوْ بِأَنْ يُرْسِل رَسُولًا.
وَلَا يَجُوز أَنْ يَعْطِف " أَوْ يُرْسِل " بِالنَّصْبِ عَلَى " أَنْ يُكَلِّمهُ " لِفَسَادِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ يَصِير : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُرْسِلهُ أَوْ أَنْ يُرْسِل إِلَيْهِ رَسُولًا، وَهُوَ قَدْ أَرْسَلَ الرُّسُل مِنْ الْبَشَر وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ.
اِحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَة مَنْ رَأَى فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّم رَجُلًا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَنَّهُ حَانِث، لِأَنَّ الْمُرْسَل قَدْ سُمِّيَ فِيهَا مُكَلِّمًا لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ ; إِلَّا أَنْ يَنْوِي الْحَالِف الْمُوَاجَهَة بِالْخِطَابِ.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُل يَحْلِف أَلَّا يُكَلِّم فُلَانًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا ; فَقَالَ الثَّوْرِيّ : الرَّسُول لَيْسَ بِكَلَامٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يُبَيِّن أَنْ يَحْنَث.
وَقَالَ النَّخَعِيّ : وَالْحُكْم فِي الْكِتَاب يَحْنَث.
وَقَالَ مَالِك : يَحْنَث فِي الْكِتَاب وَالرَّسُول.
وَقَالَ مُرَّة : الرَّسُول أَسْهَل مِنْ الْكِتَاب.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : الْكَلَام سِوَى الْخَطّ وَالْإِشَارَة.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر : لَا يَحْنَث فِي الْكِتَاب.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا يَحْنَث فِي الْكِتَاب وَالرَّسُول.
قُلْت : وَهُوَ قَوْل مَالِك.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَمَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّم رَجُلًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا، أَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَة هُوَ فِيهِمْ فَقَدْ حَنِثَ فِي ذَلِكَ كُلّه عِنْد مَالِك.
وَإِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة لَمْ يَحْنَث.
قُلْت : يَحْنَث فِي الرَّسُول إِلَّا أَنْ يَنْوِي الْمُشَافَهَة ; لِلْآيَةِ، وَهُوَ قَوْل مَالِك وَابْن الْمَاجِشُون.
وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّل " سُورَة مَرْيَم " هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عُلَمَائِنَا مُسْتَوْفًى، وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا
أَيْ وَكَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَى الْأَنْبِيَاء مِنْ قَبْلك أَوْحَيْنَا إِلَيْك " رُوحًا " أَيْ نُبُوَّة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
الْحَسَن وَقَتَادَة : رَحْمَة مِنْ عِنْدنَا.
السُّدِّيّ : وَحْيًا.
الْكَلْبِيّ : كِتَابًا.
الرَّبِيع : هُوَ جِبْرِيل.
الضَّحَّاك : هُوَ الْقُرْآن.
وَهُوَ قَوْل مَالِك بْن دِينَار.
وَسَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّ فِيهِ حَيَاة مِنْ مَوْت الْجَهْل.
وَجَعَلَهُ مِنْ أَمْره بِمَعْنَى أَنْزَلَ كَمَا شَاءَ عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْ النَّظْم الْمُعْجِز وَالتَّأْلِيف الْمُعْجِب.
وَيُمْكِن أَنْ يُحْمَل قَوْله :" وَيَسْأَلُونَك عَنْ الرُّوح " [ الْإِسْرَاء : ٨٥ ] عَلَى الْقُرْآن أَيْضًا " قُلْ الرُّوح مِنْ أَمْر رَبِّي " [ الْإِسْرَاء : ٨٥ ] أَيْ يَسْأَلُونَك مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الْقُرْآن، قُلْ إِنَّهُ مِنْ أَمْر اللَّه أُنْزِلَ عَلَيَّ مُعْجِزًا ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ.
وَكَانَ مَالِك بْن دِينَار يَقُول : يَا أَهْل الْقُرْآن، مَاذَا زَرَعَ الْقُرْآن فِي قُلُوبكُمْ ؟ فَإِنَّ الْقُرْآن رَبِيع الْقُلُوب كَمَا أَنَّ الْغَيْث رَبِيع الْأَرْض.
مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ
أَيْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِف الطَّرِيق إِلَى الْإِيمَان.
وَظَاهِر هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ قَبْل الْإِيحَاء مُتَّصِفًا بِالْإِيمَانِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهُوَ مِنْ مُجَوَّزَات الْعُقُول، وَاَلَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْمُعْظَم أَنَّ اللَّه مَا بَعَثَ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ مُؤْمِنًا بِهِ قَبْل الْبَعْثَة.
وَفِيهِ تَحَكُّم، إِلَّا أَنْ يَثْبُت ذَلِكَ بِتَوْقِيفِ مَقْطُوع بِهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل عِيَاض وَأَمَّا عِصْمَتهمْ مِنْ هَذَا الْفَنّ قَبْل النُّبُوَّة فَلِلنَّاسِ فِيهِ خِلَاف ; وَالصَّوَاب أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ قَبْل النُّبُوَّة مِنْ الْجَهْل بِاَللَّهِ وَصِفَاته وَالتَّشَكُّك فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَعَاضَدَتْ الْأَخْبَار وَالْآثَار عَنْ الْأَنْبِيَاء بِتَنْزِيهِهِمْ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَة مُنْذُ وُلِدُوا ; وَنَشْأَتهمْ عَلَى التَّوْحِيد وَالْإِيمَان، بَلْ عَلَى إِشْرَاق أَنْوَار الْمَعَارِف وَنَفَحَات أَلْطَاف السَّعَادَة، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرهمْ مُنْذُ صِبَاهُمْ إِلَى مَبْعَثهمْ حَقَّقَ ذَلِكَ ; كَمَا عُرِفَ مِنْ حَال مُوسَى وَعِيسَى وَيَحْيَى وَسُلَيْمَان وَغَيْرهمْ عَلَيْهِمْ السَّلَام.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَآتَيْنَاهُ الْحُكْم صَبِيًّا " [ مَرْيَم : ١٢ ] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : أُعْطِيَ يَحْيَى الْعِلْم بِكِتَابِ اللَّه فِي حَال صِبَاهُ.
قَالَ مَعْمَر : كَانَ اِبْن سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاث ; فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَان : لِمَ لَا تَلْعَب ! فَقَالَ : أَلِلَّعِبِ خُلِقْت ! وَقِيلَ فِي قَوْله :" مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّه " [ آل عِمْرَان : ٣٩ ] صَدَّقَ يَحْيَى بِعِيسَى وَهُوَ اِبْن ثَلَاث سِنِينَ، فَشَهِدَ لَهُ أَنَّهُ كَلِمَة اللَّه وَرُوحه وَقِيلَ : صَدَّقَهُ وَهُوَ فِي بَطْن أُمّه ; فَكَانَتْ أُمّ يَحْيَى تَقُول لِمَرْيَم إِنِّي أَجِد مَا فِي بَطْنِي يَسْجُد لِمَا فِي بَطْنك تَحِيَّة لَهُ.
وَقَدْ نَصَّ اللَّه عَلَى كَلَام عِيسَى لِأُمِّهِ عِنْد وِلَادَتهَا إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ :" أَلَّا تَحْزَنِي " [ مَرْيَم : ٢٤ ] عَلَى قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " مِنْ تَحْتهَا "، وَعَلَى قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمُنَادَى عِيسَى وَنُصَّ عَلَى كَلَامه فِي مَهْده فَقَالَ :" إِنِّي عَبْد اللَّه آتَانِيَ الْكِتَاب وَجَعَلَنِي نَبِيًّا " [ مَرْيَم : ٣٠ ].
وَقَالَ " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا " [ الْأَنْبِيَاء : ٧٩ ] وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ حُكْم سُلَيْمَان وَهُوَ صَبِيّ يَلْعَب فِي قِصَّة الْمَرْجُومَة وَفِي قِصَّة الصَّبِيّ مَا اِقْتَدَى بِهِ أَبُوهُ دَاوُدُ.
وَحَكَى الطَّبَرِيّ أَنَّ عُمْره كَانَ حِين أُوتِيَ الْمُلْك اِثْنَيْ عَشَرَ عَامًا.
وَكَذَلِكَ قِصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ فِرْعَوْن وَأَخْذه بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ طِفْل.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى :" وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رُشْده مِنْ قَبْل " [ الْأَنْبِيَاء : ٥١ ] : أَيْ هَدَيْنَاهُ صَغِيرًا ; قَالَهُ مُجَاهِد وَغَيْره.
وَقَالَ اِبْن عَطَاء : اِصْطَفَاهُ قَبْل إِبْدَاء خَلْقه.
وَقَالَ بَعْضهمْ : لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيم بَعَثَ اللَّه إِلَيْهِ مَلَكًا يَأْمُرهُ عَنْ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُعَرِّفهُ بِقَلْبِهِ وَيُذَكِّرهُ بِلِسَانِهِ فَقَالَ : قَدْ فَعَلْت ; وَلَمْ يَقُلْ أَفْعَل ; فَذَلِكَ رُشْده.
وَقِيلَ : إِنَّ إِلْقَاء إِبْرَاهِيم فِي النَّار وَمِحْنَته كَانَتْ وَهُوَ اِبْن سِتّ عَشْرَة سَنَة.
وَإِنَّ اِبْتِلَاء إِسْحَاق بِالذَّبْحِ وَهُوَ اِبْن سَبْع سِنِينَ.
وَأَنَّ اِسْتِدْلَال إِبْرَاهِيم بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَر وَالشَّمْس كَانَ وَهُوَ اِبْن خَمْس عَشْرَة سَنَة.
وَقِيلَ أُوحِيَ إِلَى يُوسُف وَهُوَ صَبِيّ عِنْدَمَا هُمْ إِخْوَته بِإِلْقَائِهِ فِي الْجُبّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا " [ يُوسُف : ١٥ ] الْآيَة ; إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ أَخْبَارهمْ.
وَقَدْ حَكَى أَهْل السِّيَر أَنَّ آمِنَة بِنْت وَهْب أُخْبِرَتْ أَنَّ نَبِيّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ حِين وُلِدَ بَاسِطًا يَدَيْهِ إِلَى الْأَرْض رَافِعًا رَأْسه إِلَى السَّمَاء، وَقَالَ فِي حَدِيثه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَمَّا نَشَأَتْ بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَوْثَان وَبُغِّضَ إِلَيَّ الشِّعْر وَلَمْ أَهُمّ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَفْعَلهُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ فَعَصَمَنِي اللَّه مِنْهُمَا ثُمَّ لَمْ أَعُدْ ).
ثُمَّ يَتَمَكَّن الْأَمْر لَهُمْ، وَتَتَرَادَف نَفَحَات اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَتَشْرَق أَنْوَار الْمَعَارِف فِي قُلُوبهمْ حَتَّى يَصِلُوا الْغَايَة وَيَبْلُغُوا بِاصْطِفَاءِ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ فِي تَحْصِيل الْخِصَال الشَّرِيفَة النِّهَايَة دُون مُمَارَسَة وَلَا رِيَاضَة.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا " [ يُوسُف : ٢٢ ].
قَالَ الْقَاضِي : وَلَمْ يَنْقُل أَحَد مِنْ أَهْل الْأَخْبَار أَنَّ أَحَدًا نُبِّئَ وَاصْطُفِيَ مِمَّنْ عُرِفَ بِكُفْرٍ وَإِشْرَاك قَبْل ذَلِكَ.
وَمُسْتَنَد هَذَا الْبَاب النَّقْل.
وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بَعْضهمْ بِأَنَّ الْقُلُوب تَنْفِر عَمَّنْ كَانَتْ هَذِهِ سَبِيله.
قَالَ الْقَاضِي : وَأَنَا أَقُول إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ رَمَتْ نَبِيّنَا عَلَيْهِ السَّلَام بِكُلِّ مَا اِفْتَرَتْهُ، وَعَيَّرَ كُفَّار الْأُمَم أَنْبِيَاءَهَا بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهَا وَاخْتَلَقَتْهُ، مِمَّا نَصَّ اللَّه عَلَيْهِ أَوْ نَقَلَتْهُ إِلَيْنَا الرُّوَاة، وَلَمْ نَجِد فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ تَعْيِيرًا لِوَاحِدِ مِنْهُمْ بِرَفْضِهِ آلِهَتهمْ وَتَقْرِيعه بِذَمِّهِ بِتَرْكِ مَا كَانَ قَدْ جَامَعَهُمْ عَلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا لَكَانُوا بِذَلِكَ مُبَادِرِينَ، وَبِتَلَوُّنِهِ فِي مَعْبُوده مُحْتَجِّينَ، وَلَكَانَ تَوْبِيخهمْ لَهُ بِنَهْيِهِمْ عَمَّا كَانَ يُعْبَد قَبْل أَفْظَع وَأَقْطَع فِي الْحُجَّة مِنْ تَوْبِيخه بِنَهْيِهِمْ عَنْ تَرْكه آلِهَتهمْ وَمَا كَانَ يَعْبُد آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْل ; فَفِي إِطْبَاقهمْ عَلَى الْإِعْرَاض عَنْهُ دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا إِلَيْهِ ; إِذْ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَمَا سَكَتُوا عَنْهُ كَمَا لَمْ يَسْكُتُوا عَنْ تَحْوِيل الْقِبْلَة وَقَالُوا :" مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتهمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا " [ الْبَقَرَة : ١٤٢ ] كَمَا حَكَاهُ اللَّه عَنْهُمْ.
وَتَكَلَّمَ الْعُلَمَاء فِي نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِدِينٍ قَبْل الْوَحْي أَمْ لَا ; فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَأَحَالَهُ عَقْلًا.
قَالُوا : لِأَنَّهُ يَبْعُد أَنْ يَكُون مَتْبُوعًا مَنْ عُرِفَ تَابِعًا، وَبَنَوْا هَذَا عَلَى التَّحْسِين وَالتَّقْبِيح.
وَقَالَتْ فِرْقَة أُخْرَى : بِالْوَقْفِ فِي أَمْره عَلَيْهِ السَّلَام وَتَرْك قَطْع الْحُكْم عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يُحِلْ الْوَجْهَيْنِ مِنْهُمَا الْعَقْل وَلَا اِسْتَبَانَ عِنْدهَا فِي أَحَدهمَا طَرِيق النَّقْل، وَهَذَا مَذْهَب أَبِي الْمَعَالِي.
وَقَالَتْ فِرْقَة ثَالِثَة : إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْله وَعَامِلًا بِهِ ; ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي التَّعْيِين، فَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِين عِيسَى فَإِنَّهُ نَاسِخ لِجَمِيعِ الْأَدْيَان وَالْمِلَل قَبْلهَا ; فَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون النَّبِيّ عَلَى دِين مَنْسُوخ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِين إِبْرَاهِيم ; لِأَنَّهُ مِنْ وَلَده وَهُوَ أَبُو الْأَنْبِيَاء.
وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِين مُوسَى ; لِأَنَّهُ أَقْدَم الْأَدْيَان.
وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَة إِلَى أَنَّهُ لَا بُدّ أَنْ يَكُون عَلَى دِين وَلَكِنْ عَيْن الدِّين غَيْر مَعْلُومَة عِنْدنَا.
وَقَدْ أَبْطَلَ هَذِهِ الْأَقْوَال كُلّهَا أَئِمَّتنَا ; إِذْ هِيَ أَقْوَال مُتَعَارِضَة وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَة قَاطِعَة، وَإِنْ كَانَ الْعَقْل يُجَوِّز ذَلِكَ كُلّه.
وَاَلَّذِي يُقْطَع بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى وَاحِد مِنْ الْأَنْبِيَاء نِسْبَة تَقْتَضِي أَنْ يَكُون وَاحِدًا مِنْ أُمَّته وَمُخَاطَبًا بِكُلِّ شَرِيعَته ; بَلْ شَرِيعَته مُسْتَقِلَّة بِنَفْسِهَا مُفْتَتِحَة مِنْ عِنْد اللَّه الْحَاكِم جَلَّ وَعَزَّ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا سَجَدَ لِصَنَمٍ، وَلَا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ، وَلَا زَنَى وَلَا شَرِبَ الْخَمْر، وَلَا شَهِدَ السَّامِر وَلَا حَضَرَ حِلْف الْمَطَر وَلَا حِلْف الْمُطَيَّبِينَ ; بَلْ نَزَّهَهُ اللَّه وَصَانَهُ عَنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى عُثْمَان بْن أَبِي شَيْبَة حَدِيثًا بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَشْهَد مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدهمْ، فَسَمِعَ مَلَكَيْنِ خَلْفه أَحَدهمَا يَقُول لِصَاحِبِهِ : اِذْهَبْ حَتَّى تَقُوم خَلْفه، فَقَالَ الْآخَر : كَيْف أَقُوم خَلْفه وَعَهِدَهُ بِاسْتِلَامِ الْأَصْنَام فَلَمْ يَشْهَدهُمْ بَعْد ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا حَدِيث أَنْكَرَهُ الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل جِدًّا وَقَالَ : هَذَا مَوْضُوع أَوْ شَبِيه بِالْمَوْضُوعِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : إِنَّ عُثْمَان وَهِمَ فِي إِسْنَاده، وَالْحَدِيث بِالْجُمْلَةِ مُنْكَر غَيْر مُتَّفَق عَلَى إِسْنَاده فَلَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ، وَالْمَعْرُوف عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافه عِنْد أَهْل الْعِلْم مِنْ قَوْله :( بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَصْنَام ) وَقَوْله فِي قِصَّة بَحِيرَا حِين اِسْتَحْلَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِذْ لَقِيَهُ بِالشَّامِ فِي سُفْرَته مَعَ عَمّه أَبِي طَالِب وَهُوَ صَبِيّ، وَرَأَى فِيهِ عَلَامَات النُّبُوَّة فَاخْتَبَرَهُ بِذَلِكَ ; فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا تَسْأَلنِي بِهِمَا فَوَاَللَّهِ مَا أَبْغَضْت شَيْئًا قَطُّ بُغْضهمَا ) فَقَالَ لَهُ بَحِيرَا : فَبِاَللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتنِي عَمَّا أَسْأَلك عَنْهُ، فَقَالَ :( سَلْ عَمَّا بَدَا لَك ).
وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوف مِنْ سِيرَته عَلَيْهِ السَّلَام وَتَوْفِيق اللَّه إِيَّاهُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ قَبْل نُبُوَّته يُخَالِف الْمُشْرِكِينَ فِي وُقُوفهمْ بِمُزْدَلِفَة فِي الْحَجّ، وَكَانَ يَقِف هُوَ بِعَرَفَة، لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقِف إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى :" قُلْ بَلْ مِلَّة إِبْرَاهِيم " [ الْبَقَرَة : ١٣٥ ] وَقَالَ :" أَنْ اِتَّبِعْ مِلَّة إِبْرَاهِيم " [ النَّحْل : ١٢ ] وَقَالَ :" شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين " [ الشُّورَى : ١٣ ] الْآيَة.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُون مُتَعَبَّدًا بِشَرْعٍ.
فَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَا تَخْتَلِف فِيهِ الشَّرَائِع مِنْ التَّوْحِيد وَإِقَامَة الدِّين ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي غَيْر مَوْضِع وَفِي هَذِهِ السُّورَة عِنْد قَوْله :" شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين " [ الشُّورَى : ١٣ ] وَالْحَمْد لِلَّهِ.
الرَّابِعَة : إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاء اِخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى :" مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَاب وَلَا الْإِيمَان ".
فَقَالَ جَمَاعَة : مَعْنَى الْإِيمَان فِي هَذِهِ الْآيَة شَرَائِع الْإِيمَان وَمَعَالِمه ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ.
وَقِيلَ : تَفَاصِيل هَذَا الشَّرْع ; أَيْ كُنْت غَافِلًا عَنْ هَذِهِ التَّفَاصِيل.
وَيَجُوز إِطْلَاق لَفْظ الْإِيمَان عَلَى تَفَاصِيل الشَّرْع ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ : وَقِيلَ : مَا كُنْت تَدْرِي قَبْل الْوَحْي أَنْ تَقْرَأ الْقُرْآن، وَلَا كَيْف تَدْعُو الْخَلْق إِلَى الْإِيمَان ; وَنَحْوه عَنْ أَبِي الْعَالِيَة.
وَقَالَ بَكْر الْقَاضِي : وَلَا الْإِيمَان الَّذِي هُوَ الْفَرَائِض وَالْأَحْكَام.
قَالَ : وَكَانَ قَبْل مُؤْمِنًا بِتَوْحِيدِهِ ثُمَّ نَزَلَتْ الْفَرَائِض الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَدْرِيهَا قَبْل ; فَزَادَ بِالتَّكْلِيفِ إِيمَانًا.
وَهَذِهِ الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة مُتَقَارِبَة.
وَقَالَ اِبْن خُزَيْمَة : عَنَى بِالْإِيمَانِ الصَّلَاة ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانكُمْ " [ الْبَقَرَة : ١٤٣ ] أَيْ صَلَاتكُمْ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس ; فَيَكُون اللَّفْظ عَامًّا وَالْمُرَاد الْخُصُوصِيّ.
وَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : أَيْ مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَاب وَلَا أَهْل الْإِيمَان.
وَهُوَ مِنْ بَاب حَذْف الْمُضَاف ; أَيْ مَنْ الَّذِي يُؤْمِن ؟ أَبُو طَالِب أَوْ الْعَبَّاس أَوْ غَيْرهمَا.
وَقِيلَ : مَا كُنْت تَدْرِي شَيْئًا إِذْ كُنْت فِي الْمَهْد وَقَبْل الْبُلُوغ.
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيّ نَحْوه عَنْ عَلِيّ بْن عِيسَى قَالَ : مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَاب لَوْلَا الرِّسَالَة، وَلَا الْإِيمَان لَوْلَا الْبُلُوغ.
وَقِيلَ : مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَاب لَوْلَا إِنْعَامنَا عَلَيْك، وَلَا الْإِيمَان لَوْلَا هِدَايَتنَا لَك، وَهُوَ مُحْتَمَل.
وَفِي هَذَا الْإِيمَان وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ الْإِيمَان بِاَللَّهِ، وَهَذَا يَعْرِفهُ بَعْد بُلُوغه وَقَبْل نُبُوَّته.
وَالثَّانِي : أَنَّهُ دِين الْإِسْلَام، وَهَذَا لَا يَعْرِفهُ إِلَّا بَعْد النُّبُوَّة.
قُلْت : الصَّحِيح أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حِين نَشَأَ إِلَى حِين بُلُوغه ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ :" مَا كُنْت تَدْرِي مَا الْكِتَاب وَلَا الْإِيمَان " أَيْ كُنْت مِنْ قَوْم أُمِّيِّينَ لَا يَعْرِفُونَ الْكِتَاب وَلَا الْإِيمَان، حَتَّى تَكُون قَدْ أَخَذْت مَا جِئْتهمْ بِهِ عَمَّنْ كَانَ يَعْلَم ذَلِكَ مِنْهُمْ ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَمَا كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب وَلَا تَخُطّهُ بِيَمِينِك إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ " [ الْعَنْكَبُوت : ٤٨ ] رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : يَعْنِي الْإِيمَان.
السُّدِّيّ : الْقُرْآن وَقِيلَ الْوَحْي ; أَيْ جَعَلْنَا هَذَا الْوَحْي
نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا
أَيْ مَنْ نَخْتَارهُ لِلنُّبُوَّةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء " [ آل عِمْرَان : ٧٤ ].
وَوَحَّدَ الْكِتَابَة لِأَنَّ الْفِعْل فِي كَثْرَة أَسْمَائِهِ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْل فِي الِاسْم الْوَاحِد ; أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُول : إِقْبَالك وَإِدْبَارك يُعْجِبنِي ; فَتَوَحَّدَ، وَهُمَا اِثْنَانِ.
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
أَيْ تَدْعُو وَتُرْشِد
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
دِين قَوِيم لَا اِعْوِجَاج فِيهِ.
وَقَالَ عَلِيّ : إِلَى كِتَاب مُسْتَقِيم.
وَقَرَأَ عَاصِم الْجَحْدَرِيّ وَحَوْشَب " وَإِنَّك لَتَهْدِي " غَيْر مُسَمَّى الْفَاعِل ; أَيْ لَتُدْعَى.
الْبَاقُونَ " لَتَهْدِي " مُسَمَّى الْفَاعِل.
وَفِي قِرَاءَة أُبَيّ " وَإِنَّك لَتَدْعُو ".
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا لَا يُقْرَأ بِهِ ; لِأَنَّهُ مُخَالِف لِلسَّوَادِ، وَإِنَّمَا يُحْمَل مَا كَانَ مِثْله عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَائِله عَلَى جِهَة التَّفْسِير ; كَمَا قَالَ :" وَإِنَّك لَتَهْدِي " أَيْ لَتَدْعُو.
وَرَوَى مَعْمَر عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى :" وَإِنَّك لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " قَالَ :" وَلِكُلِّ قَوْم هَادٍ " [ الرَّعْد : ٧ ].
صِرَاطِ اللَّهِ
بَدَل مِنْ الْأَوَّل بَدَل الْمَعْرِفَة مِنْ النَّكِرَة.
قَالَ عَلِيّ : هُوَ الْقُرْآن.
وَقِيلَ الْإِسْلَام.
وَرَوَاهُ النَّوَّاس بْن سَمْعَان عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
مُلْكًا وَعَبْدًا وَخَلْقًا.
أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ
وَعِيد بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاء.
قَالَ سَهْل بْن أَبِي الْجَعْد : اِحْتَرَقَ مُصْحَف فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا قَوْله :" أَلَا إِلَى اللَّه تَصِير الْأُمُور " وَغَرَق مُصْحَف فَامَّحَى كُلّه إِلَّا قَوْله :" أَلَا إِلَى اللَّه تَصِير الْأُمُور " وَالْحَمْد لِلَّهِ وَحْده.
Icon