مدنية، وفيها آيات مكية، وهي تسع وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله :﴿ فسبح باسم ربك العظيم( ٧٤ ) ﴾ [ الواقعة : ٩٦ ] مع قوله :﴿ سبح لله ﴾ أي : سبحه اقتداء بأهل السموات والأرض فقد سبحه من فيها، وقال الثعالبي : قوله تعالى :﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ أي : سبحه باسمه الأعظم، وهو ما افتتح به السورة من قوله :﴿ هو الأول والآخر والظاهر والباطن ﴾ وقد قال ابن عباس : اسم الله الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة الحديد. ه.
ﰡ
﴿ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾*﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾*﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾*﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾*﴿ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾*﴿ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾.
قلت : وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع والأمر والمصدر ؛ استيفاء لهذه المادة، فقال هنا :﴿ سَبَّحَ ﴾ وفي الجمعة :﴿ يُسَبِّحُ ﴾ [ الجمعة : ١ ] و﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾ [ الأعلى : ١ ] و﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى ﴾ [ الإسراء : ١ ]. وهذا الفعل قد عُدّي باللام تارة، وبنفسه أخرى في قوله :﴿ وَسَبِّحُوهُ ﴾ [ الأحزاب : ٤٢ ]، وأصله : التعدي بنفسه ؛ لأنّ معنى سبَّحته : بعّدته من السوء، من : سَبَح : إذا ذهب وبَعُد، فاللام إما أن تكون مثل اللام في : نصحته ونصحت له، وإما أن يراد ب " سبَّح لله " : اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً. قاله النسفي.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ سَبَّح لله ﴾ أي : نَزَّه اللّهَ عما لا يليق بجلاله، اعتقاداً، أو قولاً وعملاً، مَن استقر ﴿ في السماوات والأرض ﴾ مِن الملائكة والجن والإنس والجمادات، بلسان الحال والمقال، فإنَّ كل فرد من أفراد الموجودات يدلّ بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم، الواجب الوجود، المتصف بالكمال، المنزَّه عن النقائص، وهو المراد بقوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ] قيل : إنما استغنى عن إعادة الموصل في خصوص هذه السورة لتكرر ذكر الأرض هنا في أربعة مواضع. ه. ﴿ وهو العزيزُ ﴾ المنتقِم ممن لم يُسبِّح له عناداً، ﴿ الحكيمُ ﴾ في مجازاة مَن سبَّح له انقياداً.
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً | ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي |
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً | ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي |
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً | ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي |
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً | ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي |
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً | ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي |
قلت : ومعنى قوله :" فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول : وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالآثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم. وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره.
له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو : ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وهو على كل شيء قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو : هو الظاهر بتجلياته، والباطن بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو : الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو : الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل : أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها ؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال :" أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلاّ أهل الأذواق.
قال القشيري : هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد ؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة ؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز : بِمَ عرفت الله ؟ قال : بجمعه بين الأضداد، ثم تلا هذه الآية :﴿ هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ﴾ قال القشيري : يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي : هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف١ والسجدة٢. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه ؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي " : أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول : إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له : كيف تعتقد :﴿ وهو معكم أين ما كنتم ﴾ ؟ فقال : بالذات، فقال له : أشهد أنك من العارفين. قلت : فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي : للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمان، وسطوات عظمته، حتى لا يبقى أثرها. ثم قال : ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه : أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية ؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً | ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي |
*﴿ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾*﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾*﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾*﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾*﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ آمِنوا بالله ورسوله ﴾ أي : دُوموا على إيمانكم، إن كان خطاباً للمؤمنين، فيكون توطئة لدعائهم إلى ما بعده من الإنفاق وغيره ؛ لأنهم أهل لهذه الرُتب الرفيعة، أو : أَحْدِثوا الإيمان، إن كان خطاباً للكفار، ﴿ وأَنفِقوا ﴾ أي : تصدّقوا، فيشمل الزكاة وغيرها، ﴿ مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ أي : جعلكم خلفاء في التصرُّف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً، وما أنتم فيه إلاّ بمنزلة الوكلاء والنُواب، فأنفِقوا منها في حقوق الله تعالى، وَلْيَهُنْ عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أَذِنَ له، أو : جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما كان في أيديهم بتوريثكم إياه، وسينقله منكم إلى غيركم، فاعتبِروا بحالهم ولا تبخلوا به، ﴿ فالذين آمنوا ﴾ بالله ورسوله ﴿ منكم وأنفَقوا لهم أجرٌ كبير ﴾ لا يُقادر قدره.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿ من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً ﴾، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً " ١. هـ. فيضاعفه له بالترقي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿ من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً ﴾، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً " ١. هـ. فيضاعفه له بالترقي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿ من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً ﴾، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً " ١. هـ. فيضاعفه له بالترقي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ثم بيّن التفاوت بين المنفِقين منهم باعتبار الزمان، فقال :﴿ لا يستوي منكم مَن أنفق مِن قبل الفتح وقاتلَ ﴾ مع مَن أنفق بعد الفتح وقاتل، حذفه لدلالة ما بعده عليه من قوله :﴿ أولئك أعظم درجة. . . ﴾ الخ، والمراد : فتح مكة، أي : لا يستوي مَن أنفق قبل عز الإسلام وظهوره، مع مَن أنفق بعد ذلك، ﴿ أولئك ﴾ الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم :" لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، ولا نِصفه " ١، فهم ﴿ أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلَوا ﴾ لأنّ مَن أنفق وقت الحاجة والاضطرار، أعظم ممن أنفق في حال السعة والبسط، ﴿ وكُلاًّ ﴾ أي : كل واحد من الفريقين ﴿ وَعَدَ اللّهُ الحسنى ﴾ وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ الشامي بالرفع، مبتدأ، أي : وعده الله الحسنى، ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ فيُجازيكم على قدر أعمالكم.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿ من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً ﴾، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً " ١. هـ. فيضاعفه له بالترقي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وعد الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿ من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً ﴾، قال القشيري : هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر :" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً " ١. هـ. فيضاعفه له بالترقي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.
﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾*﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾*﴿ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾*﴿ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله : واذكر ﴿ يومَ ترى ﴾ أو : لهم أجر كبير ﴿ يومَ ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهم ﴾ وهو نور الإيمان في الدنيا، يكون هناك حسيّاً يسعى ﴿ بين أيديهم وبأَيمانهم ﴾ وقيل : هو القرآن، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم مَن يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم كالرجل القائم، وأدناهم نوراً مَنْ نوره على إبهام رجله، يطفأ تارة ويلمع تارة١.
قلت : ومنهم مَن نُوره كالقمر ليلة البدر، ومنهم مَن نوره كالشمس الضاحية، يُضيء خمسمائة عام، كما في أحاديث أخرى، وذلك على قدر إيمانهم وعرفانهم. قال الحسن : يستضيئون به على الصراط، وهم متفاوتون في السرعة، قال أبو نصر الهمداني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سبعة أنواع : الصدِّيقون، والعلماء، والبُدلاء، والشهداء، والحُجاج، والمطيعون، والعاصون، فالصدِّيقون يمرُّون كالبرق، والعلماء، أي : العاملون، كالريح العاصف، والبدلاء كالطير في ساعة، والشهداء كالجواد المسرع، يمرُّون في نصف يوم، والحجاج يمرُّون يومٍ كامل، والمطيعون في شهر، والعاصون يضعون أقدامهم على الصراط، وأوزارهم على ظهرهم، فيعثرون، فتقصد جهنم أن تحرقهم، فترى نور الإيمان في قلوبهم، فتقول : جز يا مؤمن، فإنَّ نورك قد أطفا لهبي. ه. قلت : الصدِّيقون على قسمين، أما أهل الاقتداء، الدالُّون على الله، المسلِّكون، فتقرب الغُرف لهم، فيركبونها، ويمرُّون، وأما الأفراد فيطيرون كالبرق. والله تعالى أعلم.
وقال مقاتل : يكون هذا النور لهم دليلاً إلى الجنة، وتخصيص الجهتين لأنّ السعداء يُؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ﴿ من بين أيديهم وعن إيمانهم ﴾ كما أنَّ الأشقياء يؤتون صحائفهم من شمائلهم ووراء ظهورهم، فجَعَل النور في الجهتين إشعاراً لهم بأنهم بحسناتهم وبصحائفهم البيض أفلحوا.
وتقول لهم الملائكة :﴿ بُشراكم اليومَ جناتٌ ﴾ أي : دخول جنات ؛ لأنّ البشارة تقع بالأجداث دون الجُثث، ﴿ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ﴾.
يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا : انظُرونا والتفتوا إلينا، نقتبس من نوركم، قيل : ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فالتمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر ؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم : ألم نكن معكم في عالم الحس ؟ وهو عالم الأشباح، قالوا : بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني : المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي : حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.
يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا : انظُرونا والتفتوا إلينا، نقتبس من نوركم، قيل : ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فالتمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر ؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم : ألم نكن معكم في عالم الحس ؟ وهو عالم الأشباح، قالوا : بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني : المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي : حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.
يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا : انظُرونا والتفتوا إلينا، نقتبس من نوركم، قيل : ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فالتمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر ؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم : ألم نكن معكم في عالم الحس ؟ وهو عالم الأشباح، قالوا : بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني : المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي : حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.
" تحيةٌ بينهم ضَرْبٌ وجِيعُ " ***. . .
فيكون تهكُّماً بهم، ﴿ وبئس المصيرُ ﴾ أي : النار.
يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا : انظُرونا والتفتوا إلينا، نقتبس من نوركم، قيل : ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فالتمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر ؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم : ألم نكن معكم في عالم الحس ؟ وهو عالم الأشباح، قالوا : بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني : المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي : حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.
وخيل قد دلفت لها بخيل ***...
والبيت لعمرو بن معد يكرب في ديوانه ص١٤٩، وخزانة الأدب ٩/٢٥٢، وشرح أبيات سيبويه ٢/٢٠٠، والكتاب ٣/٥٠، ونوادر أبي زيد ص١٥٠، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١/٣٤٥، والخصائص ١/٣٦٨، وشرح المفصل ٢/٨٠، والمقتضب ٢/٢٠..
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾*﴿ اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾.
قلت :﴿ ألم يأن ﴾ : مجزوم بحذف الياء، من : أَنَى يأنِي، كمَضَى يمضي : إذا حان وقرب. و﴿ أن تخشع ﴾ : فاعل. و﴿ لا يكونوا ﴾ : عطف على " تخشع "، وقرأ رويس عن يعقوب بالخطاب، فيكون التفاتاً ؛ للاعتناء بالتحذير، أو نهياً.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ألم يَأْنِ ﴾ ألم يحضر، أو يقرب ﴿ للذين آمنوا أن تخشع قُلوبُهم لذكر الله ﴾ أو : ألم يجيء وقت خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى، وتطمئن به، ويسارعون إلى طاعته، بالامتثال لأوامره والاجتناب لنواهيه. قيل : كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا وأصابوا الرزق والنعمة، ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت. وبه تعلم أنَّ الشدة هي عين الرخاء، وأنَّ الجلال هو الجمال، وأين هو حبيبك ثَمَّ هو عدوك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربعُ سنين. وعن ابن عباس رضي الله عنه : استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
وعن أبي بكر رضي الله عنه : إنَّ هذه الآية قُرئت بين يديه، وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاءً شديداً، فنظر إليهم فقال :" هكذا كنا حتى قست قلوبنا ". قلت : مراده بالقسوة : التصلُّب والتثبُّت للواردات، وذلك أنَّ القلب في البدايات يكون رطباً مغلوباً للأحوال والواردات، يتأثر بأدنى شيء، فإذا استمر مع الأنوار والواردات ؛ استأنس بها وتصلّب واشتد، فلا تؤثر فيه الواردات، فيكون مالكاً للأحوال، لا مملوكاً، وهذا أمر ذَوقْي، يرتفع البكاء عن العارفين، ويظهر على الصالحين والطالبين. وهذه الآية أيضاً كانت سبب توبة الفُضيل، كان صاعداً لجارية، فسمع قارئاً يقرأها، فقال : قد آن الخشوع والرجوع، فتاب.
والمراد بذكر الله ذكر اسمه تعالى على أي لفظ كان، كقوله :﴿ إِنَّمَا الْمُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ. . . ﴾ [ الأنفال : ٢ ] الآية، أو : القرآن، فيكون قوله :﴿ وما نَزَلَ من الحق ﴾ عطف تفسير، أو لتغاير العنوانين، فإنه ذِكْرٌ وموعظة، كما أنه حقٌّ نازل من السماء. والمراد بالخشوع : الإنابة والخضوع، ومتابعة الأمر والنهي. ﴿ ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبلُ ﴾ أي : اليهود والنصارى، ﴿ فطال عليهم الأمدُ ﴾ الزمن بينهم وبين أنبيائهم، ﴿ فقست قلوبُهم ﴾ باتباع الشهوات، وذلك أنَّ بني إسرائيل كان الحقُّ يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمِعوا التوراة خشعوا له، ورقَّت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلب عليهم الجفاء والقسوة، واختلفوا.
قال ابن مسعود : إن بني إسرائيل لمّا طال عليهم الأمد قست قلوبُهم، فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم، استحلته أنفُسِهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم، حتى نبذوا كتابَ الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا : اعْرِضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم، وإلاَّ فاقتلوهم. ثم اتفقوا أن يرسلوه إلى عالمٍ من علمائهم، [ وقالوا ] : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإلاَّ قتلتموه، فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة، وجعلها في قرن، وعلقها في عنقه، ثم لبس عليه ثيابه، وأتاهم، فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فأومئ إلى صدره، وقال : آمنتُ بهذا - يعني المعلَّق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة. ه.
قال تعالى :﴿ وكثيرُ منهم فاسقون ﴾ خارجون عن دينهم، رافضون لما في الكتابين، أي : وقليل منهم مؤمنون، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. وقال ابن عطية : الإشارة بقوله :﴿ أوتوا الكتاب ﴾ إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام، ولذلك قال :﴿ من قبل ﴾، وإنما شبّه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي، وقوله :﴿ فطال عليهم الأمدُ ﴾ قيل : أمد الحياة، وقيل : أمد انتظار القيامة. ه. وقال مقاتل :﴿ الأمد ﴾ هنا : الأمل، أي : لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم. ه. قيل : إن الصحابة ملُّوا ملالة، فقالوا : حدِّثنا، فنزل :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [ يوسف : ٣ ]، وبعد مدة قالوا : لو ذَكَّرتَنا، فنزلت هذه السورة.
إذا قسا القلبُ لم تنفعه موعظةٌ | كالأرض إن سبختْ لم ينفع المطرُ |
إذا قسا القلبُ لم تنفعه موعظةٌ | كالأرض إن سبختْ لم ينفع المطرُ |
﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾*﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾.
قلت :﴿ المصدقين ﴾ مَن قرأ بالتشديد فيهما فاسم فاعل، من : تصدّق، أدغمت التاء في الصاد، ومَن قرأ بتخفيف الصاد فاسم فاعل صدّق. و﴿ أقرضوا ﴾ : عطف على الصلة، أي : إن الذين تصدّقوا وأقرضوا.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِنَّ المصدِّقين والمصدِّقات ﴾ أي : المتصدقين بأموالهم والمتصدقات أو : المصدقين بالله ورسوله والمصدقات، ﴿ وأقرضوا اللّهَ قرضاً حسناً ﴾ وهو أن تتصدّق من كسبٍ طيبٍ، بقلب طيب، ﴿ يُضاعف لهم ﴾ بأضعاف كثيرة إلى سبعمائة، ﴿ ولهم أجرٌ كريمٌ ﴾ الجنة وما فيها.
وقد ورد في الصدقات أحاديث، منها : أنها تدفع سبعين باباً من السوء١، وتزيد البركة في العمر٢. رُوي أن شابّاً وشابة دخلا على سليمان عليه السلام فعقد لهما النكاح، وخرجا من عنده مسرورين، وحضر ملك الموت، فقال : لا تعجب من سرورهما، فقد أُمرت أن أقبض روح هذا الشاب بعد خمسة أيام، فجعل سليمانُ يراعي حالَ الشاب، حتى ذهبت ستة أيام، ثم خمسة أشهر، فعجب من ذلك، فدخل عليه ملك الموت، فسأله عن ذلك، فقال : إني أُمرت أن أقبض روحه كما ذكرتُ لك، فلما خرج من عندك لقيه سائل، فدفع له درهماً، فدعا له بالبقاء، فأُمرت بتأخير الأمر عنه ببركة صدقته. ه. وانظر عند قوله :﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [ الرعد : ٣٨ ]، ومثله قضية الرجل الذي آذى جيرانَه، فدعا موسى عليه السلام عليه، ثم تصدَّق صبيحة اليوم برغيف، فنزل الثعبان، فلقيته الصدقة فسقط ميتاً على حزمة حطبه.
وقال القشيري : الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه، ويقال : هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح إلى التأويلات، والشهداء : الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة، ونُورهم : ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد. هـ.
٢ أخرجه بنحوه أحمد في المسند ٣/٥٠٢، بلفظ: "الصدقة تمنع ميتة السوء". والهيثمي في مجمع الزوائد ٣/١١٠، بلفظ: "صدقة المسلم تزيد في العمر"..
والحاصل على هذه العبارة : الترغيب في الإيمان والحث عليه، وهو وارد في كلام العرب في مبالغة التشبيه، تقول : فلان هو حاتم بعينه، إذا شابهه في الجود، ويؤيد هذا حديث البراء بن عازب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" مؤمنو أمتي شهداء " ١ قال مجاهد :( كل مؤمن صدّيق وشهيد )٢، أي : على ما تقدّم، وإنما خصّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكرَ الشهداء السبعة٣ تشريفاً على رتب الشهداء غيرهم، ألا ترى أنَّ المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً بتشريف ينفرد به، وقال بعضهم : معنى الشهداء هنا : أنهم يشهدون على الأمم. قال ابن عباس ومسروق والضحاك : الكلام تام في قوله :" الصدّيقون "، وقوله :" الشهداء " استئناف كلام، أي : والشهداء حاضرون عند ربهم، أو : والشهداء ﴿ لهم أجرهم ونورهم ﴾ عند ربهم، قال أبو حيان : والظاهر : أن " الشهداء " مبتدأ، خبره ما بعده. ه.
قلت : الظاهر : أنَّ الآية متصلة، فكل مؤمن حقيقي صدّيق وشهيد، أي : يلحق بهم، وقوله :﴿ لهم أجرهم ونورهم ﴾ أي : لهم أجر الصدّيقين ونورهم، على التشبيه، ولا يبلغ المشبَّه درجة المشبَّه به. وإذا قيّدنا الإيمان بالسبق، فالمعنى لهم أجرهم كامل ونورهم تام، ويؤيد عدم التقييد : ذكر ضده عقبه، كما هو عادة التنزيل، بقوله :﴿ والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ﴾.
وقال القشيري : الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه، ويقال : هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح إلى التأويلات، والشهداء : الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة، ونُورهم : ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد. هـ.
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦/٢٥٦..
٣ لفظ الحديث: "الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد". أخرجه أبو داود في الجنائز حديث ٣١١١، وابن ماجه في الجهاد حديث ٢٨٠٣، ومالك في الجنائز حديث ٣٦..
﴿ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾*﴿ سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ اعْلَموا أنما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ ﴾ كلعب الصبيان، ﴿ وَلَهوٌ ﴾ كلهو الفتيان، ﴿ وزِينَةٌ ﴾ كزينة النسوان، ﴿ وتفاخر بينكم ﴾ كتفاخر الأقران، ﴿ وتكاثرٌ ﴾ كتكاثر الدهقان - أي الفلاحين - ﴿ في الأموال والأولاد ﴾ أي : مباهاة بهما. والتكاثر : الاستكثار، والحاصل : أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء، فضلاً عن الاطمئنان بها، وأنها مع ذلك سريعة الزوال، وشيكة الاضمحلال، ولذلك قال :﴿ كَمَثَل غيثٍ أعجَبَ الكفَّارَ ﴾ أي : الحُرّاث، من : كَفَرَ الحبَ : ستره، ويقال : كفرت الغمامُ النجومَ : سترتها، أي : أعجب الزراع ﴿ نباتُه ﴾ أي : النبات الحاصل منه، ﴿ ثم يَهيجُ ﴾ أي : يجف بعد خضرته ونضارته، ﴿ فتراه مُصْفراً ﴾ بعد ما رأيته ناضراً مونِعاً، وإنما لم يقل : ثم تراه ؛ إيذاناً بأنّ اصفراره مقارن لجفافه. ﴿ ثم يكون حُطاماً ﴾ متفتتاً متكسراً، شبَّه حالَ الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنباتٍ أنبته الغيث، فاستوى وقوي، وأعجب به حُرّاثه، أو : الكفار الجاحدون لنعمة الله تعالى فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة، فهاج، واصفرّ وصار حطاماً.
وهذا المثل هو لمَن اشتغل بالدنيا، والجري عليها، وأمّا ما كان منها في طاعة الله، أو في الضرورات التي تُقيم الأولاد، وتُعين الطاعات، فلا يدخل في هذا المثل، وهذا مثال للإنسان ينشأ شابّاً قويّاً، حَسن المنظر والهيئة، ثم يأخذ في النقص والهرم، ثم يموت، ويضمحل أمره، وتصير الأموال لغيره. قال القشيري : الدنيا حقيرة، وأحقرُ منها قَدْراً : طالبُها، وأقلُّ منها خَطَراً : المُزاحِم فيها، فما هي إلاّ جيفة، وطلاب الجيفةِ ليس لهم خطر، وأخسُّهم مَن يبخل بها. وهذه الدنيا المذمومة هي ما شَغَل العبد عن الآخرة، فكل ما شغله عن الآخرة فهي الدنيا. ه.
﴿ وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ ﴾ لمَن أعرض عن الله، ﴿ ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ ﴾ لمَن أقبل على الله، وزهد فيما سواه. والحاصل : أنّ الدنيا ليست إلاَّ محقراتٍ من الأمور، وهي اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر، وأمّا الآخرة ؛ فما هي إلا أمورٌ عِظام، وهي العذاب الشديد، والمغفرة، والرضوان من الله الحميد. والكاف في " كَمَثَلِ " في محل رفع، خبر بعد خبر، ﴿ وما الحياةُ الدنيا إِلا متاعُ الغُرور ﴾ لمَن ركن إليها، واعتمد عليها، ومتاع الغرور : هو الذي يظهر ما حسن منه، ويبطن ما قبح، يفعله مَن يغر الناس ويغشهم، وكذلك الدنيا تُظهر لطلابها حلاوةً ووَلُوعاً، وتزداد عليهم شيئاً فشيئاً، فينهمكون في حلاوة شهواتها وبهجتها، ويغفلون عن الاستعداد، والعمر يفنى من يدهم في البطالة، فهي تغرهم وتخدعهم حتى تسوقهم إلى الموت مفلسين. قال ذو النون : يا معشر المريدين ؛ لا تطلبوا الدنيا، وإن طلبتموها فلا تحبوها، فإنّ الزاد منها، والمَقيل في غيرها.
وذكر القشيري في إشارة الآية : أنها إشارة إلى أطوار النفس والقلب والروح والسر، فقال بعد كلام : وأيضاً يُشير إلى تعب صِبا النفس الأمّارة بملاعب المخالفات الشرعية، والموافقات الطبيعية، وإلى لهو شاب القلب بالصفات القلبية، مثل الزهد، والورع، والتوكُّل والتقيُّيد بها، وإلى زينة كهل السر بالأحوال السرية، والمنازلات الغيبية، مثل الكشوفات والمشاهدات والمعاينات، وإلى تفاخر شيخ الروح بإنبات التجليات والتنزلات، وإلى تكاثر سر السر بالفناء عن ناسوتيته، والبقاء بلاهوتيته الجامع. هـ. إلاّ أنه قدّم السر على الروح، والمعهود العكس، فانظره.
قوله :﴿ سابِقوا... ﴾ الآية، فيه إغراء على النهوض إلى الله، وسرعة السير إلى الحق تعالى، التنافس في السبق، كما قال الشاعر :
السباقَ السباقَ قولاً وفعلاً | حَذّر النفسَ حسرةَ المسبوق |
" لا يدخل الجنة أحدٌ بعمله " ١ كما في الحديث :﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ وبذلك يؤتي من شاء ذلك الفضل، الذي لا غاية وراءه.
وذكر القشيري في إشارة الآية : أنها إشارة إلى أطوار النفس والقلب والروح والسر، فقال بعد كلام : وأيضاً يُشير إلى تعب صِبا النفس الأمّارة بملاعب المخالفات الشرعية، والموافقات الطبيعية، وإلى لهو شاب القلب بالصفات القلبية، مثل الزهد، والورع، والتوكُّل والتقيُّيد بها، وإلى زينة كهل السر بالأحوال السرية، والمنازلات الغيبية، مثل الكشوفات والمشاهدات والمعاينات، وإلى تفاخر شيخ الروح بإنبات التجليات والتنزلات، وإلى تكاثر سر السر بالفناء عن ناسوتيته، والبقاء بلاهوتيته الجامع. هـ. إلاّ أنه قدّم السر على الروح، والمعهود العكس، فانظره.
قوله :﴿ سابِقوا... ﴾ الآية، فيه إغراء على النهوض إلى الله، وسرعة السير إلى الحق تعالى، التنافس في السبق، كما قال الشاعر :
السباقَ السباقَ قولاً وفعلاً | حَذّر النفسَ حسرةَ المسبوق |
﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾*﴿ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾*﴿ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾.
قلت :﴿ في الأرض ﴾ : نعت لمصيبة، أي : كائنة في الأرض، و( في كتاب ) : حال.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ﴾ من الجدب وآفات الزروع والفواكه، ﴿ ولا في أنفُسِكُم ﴾ من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد ﴿ إِلاَّ ﴾ مكتوب ﴿ في كتابٍ ﴾ اللوح ﴿ من قبل أن نبرأها ﴾ أي : مِن قبل أن تخلق الأنفس أو المصائب، ﴿ إِنّ ذلك على الله يسير ﴾ أي : إن إثباتها في اللوح سهل على قدرته كلحظة، وكما كُتبت المصائب، كُتبت المسرات والمواهب، وقد يدلّ عليها قوله تعالى :﴿ لِكَيْلا تأسَوا ﴾.
لا يَفرحونَ إذا نالت رِماحُهُمُ | قَوْماً وليسوا مجازيعاً إذا نِيلوا |
وإن خطرتْ يوماً على خاطر امرئٍ | أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ |
قلت : في تفريقه نظر، والحق : التفصيل في النظر، فمَن نظر لعالم الحكمة، وهو عالم التشريع، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب، وحصل مقام التقوى ؛ لقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً... ﴾ [ الطلاق : ٢ ] الآية، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللّهُ عنه في الفعل، ومَن نظر لعالم القدرة، وهو عالم الحقيقة، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة ﴿ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ﴾ وكذلك أمر الرزق المعنوي، وهو الطاعة واليقين، التي يترتب عليهما الثواب والعقاب، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده، وبها جاءت الشريعة، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده، فضلاً عن فعله وتسبُّبه، فتأمّله.
قوله تعالى :﴿ والله لا يُحب كل مختال فخور ﴾ قال القشيري : لأنّ الاختيال من بقاء النفس، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر. هـ. ﴿ الذين يبخلون ﴾ بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية، والبخل بها علامة الفرح بها، والوقوف معها، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء ؛ لغناه بالله عن كل شيء، ومَن يتولّ عن هذا كله، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق، المحمود قبل وجود الخلق. والله تعالى أعلم.
وليس أحد إلاَّ وهو يفرح بمنفعةٍ تُصيبه، ويحزن عند مضرةٍ تنزل به، لأنه طبع بشري، ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أوتي بغنيمة أو خير يقول :( اللهم إنا لا نستطيع إلاَّ أن نفرح بما آتيتنا )، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً، والحزن صبراً، وإنما يُذم مِن الحزن الجزع المنافي للصبر، ومن الفرح الأشر المُطغي المُلهي عن الشكر، والمؤدّي إلى الفخر، ﴿ واللّهُ لا يُحب كلَّ مختال فخور ﴾ فإنَّ مَن فرح بحظوظ الدنيا، وعظمت في نفسه، اختال وافتخر بها، لا محالة. وفي تخصيص التنزيل الذم بالفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى.
لا يَفرحونَ إذا نالت رِماحُهُمُ | قَوْماً وليسوا مجازيعاً إذا نِيلوا |
وإن خطرتْ يوماً على خاطر امرئٍ | أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ |
قلت : في تفريقه نظر، والحق : التفصيل في النظر، فمَن نظر لعالم الحكمة، وهو عالم التشريع، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب، وحصل مقام التقوى ؛ لقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً... ﴾ [ الطلاق : ٢ ] الآية، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللّهُ عنه في الفعل، ومَن نظر لعالم القدرة، وهو عالم الحقيقة، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة ﴿ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ﴾ وكذلك أمر الرزق المعنوي، وهو الطاعة واليقين، التي يترتب عليهما الثواب والعقاب، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده، وبها جاءت الشريعة، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده، فضلاً عن فعله وتسبُّبه، فتأمّله.
قوله تعالى :﴿ والله لا يُحب كل مختال فخور ﴾ قال القشيري : لأنّ الاختيال من بقاء النفس، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر. هـ. ﴿ الذين يبخلون ﴾ بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية، والبخل بها علامة الفرح بها، والوقوف معها، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء ؛ لغناه بالله عن كل شيء، ومَن يتولّ عن هذا كله، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق، المحمود قبل وجود الخلق. والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤..
٣ أخرجه البخاري في المرضى حديث ٥٦٤٠، ومسلم في البر حديث ٤٦..
لا يَفرحونَ إذا نالت رِماحُهُمُ | قَوْماً وليسوا مجازيعاً إذا نِيلوا |
وإن خطرتْ يوماً على خاطر امرئٍ | أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ |
قلت : في تفريقه نظر، والحق : التفصيل في النظر، فمَن نظر لعالم الحكمة، وهو عالم التشريع، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب، وحصل مقام التقوى ؛ لقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً... ﴾ [ الطلاق : ٢ ] الآية، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللّهُ عنه في الفعل، ومَن نظر لعالم القدرة، وهو عالم الحقيقة، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة ﴿ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ﴾ وكذلك أمر الرزق المعنوي، وهو الطاعة واليقين، التي يترتب عليهما الثواب والعقاب، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده، وبها جاءت الشريعة، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده، فضلاً عن فعله وتسبُّبه، فتأمّله.
قوله تعالى :﴿ والله لا يُحب كل مختال فخور ﴾ قال القشيري : لأنّ الاختيال من بقاء النفس، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر. هـ. ﴿ الذين يبخلون ﴾ بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية، والبخل بها علامة الفرح بها، والوقوف معها، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء ؛ لغناه بالله عن كل شيء، ومَن يتولّ عن هذا كله، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق، المحمود قبل وجود الخلق. والله تعالى أعلم.
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾*﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾*﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ لقد أرسلنا رسلنا ﴾ من البشر ﴿ بالبينات ﴾ الحُجج والمعجزات، أو : لقد أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء، والأنبياء إلى الأمم، ويؤيده قوله تعالى :﴿ وأنزلنا معهم الكتابَ ﴾ أي : جنس الكتاب الشامل للكل ؛ لأنّ الكتاب من شأنه أن ينزل مع الملائكة، ويُجاب : بأن التقدير : وأنزلنا عليهم الكتاب مصحوباً معهم لا تُفارقهم أحكامه، ﴿ و ﴾ أنزلنا ﴿ الميزانَ ﴾ أي : الشرع ؛ لأنه عِيار الأحكام الصحيحة والفاسدة، ﴿ ليقوم الناسُ بالقسط ﴾ أي : العدل، وقيل المراد : الميزان الحسي. رُوي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال :" مُرْ قومَك يَزِنوا به ". ﴿ وأنزلنا الحديدَ ﴾ قال ابن عباس :" نزل آدم من الجنة ومعه آلة الحدادين، خمسة أشياء : السندان، والكَلْبتانِ، والمِيقَعَةُ١، والمِطرقة، والإبرة ". أو :﴿ أنزلنا الحديد ﴾ أخرجناه من المعادن، والمعادن تتكون من الماء النازل في الأرض، فينعقد في عروق المعادن، وقيل : المراد به السلاح.
وحاصل مضمن الآية : أرسلنا الرسلَ وأنزلنا الكتابَ، فمَن تبع طوعاً نجا، ومَن أعرض فقد أنزلنا الحديد يُحارب به حتى يستقيم كرهاً. ﴿ فيه بأس شديد ﴾ أي : قوة وشدة يتمنّع بها ويحارب، ﴿ ومنافعُ للناس ﴾ يستعملونه في أدواتهم، فلا تجد صنعة تستغني عن الحديد، ﴿ وليعلم اللّهُ ﴾ علم ظهور ﴿ مَن ينصُرُه ورسُلَه ﴾ باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، ﴿ بالغيبِ ﴾ غائباً عنهم في مقام الإيمان بالغيب، ﴿ إِنَّ الله قويٌّ عزيزٌ ﴾ فيدفع بقوته مَن يُعرض عن ملته، وينصر بعزته مَن ينصر دينه، فيقوى جأشه على الثبوت في مداحض الحرب.
قال النسفي : والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة : أنّ الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يُبين سبيل المراشد والعهود، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن البغي والطغيان، والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة بها يقع التعامل، ويحصل بها التساوي والتعادل، وهي الميزان. ومن المعلوم : أنَّ الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للتعامل بالتسوية، إنما يُحافظ العوامّ على اتباعها بالسيف، الذي هو حجة الله على مَن جحد وعَنَد، ونزع من صفقة الجماعة اليد، وهو الحديد، الذي وصف بالبأس الشديد. ه.
ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، خصّ هذين الرسولين ؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة، وإبراهيم كان في غاية الليونة، وهكذا أولياء كل زمان، بعضهم يميل للقوة جدّاً، وبعضهم يميل للرطوبة، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أو مِلةً جعل فيها هذين الضدين، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة، ليعتدل الأمر في الوجود، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود، أو غرق، كما جرى في زمان نوح عليه السلام، حين انفرد بالقوة، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه ؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً، وهارون كان ليناً، فكثرت أتباعه. وعظمت هذه الملة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم فقابله عمر رضي الله عنه، فلما استخلف عمر ولان ؛ قابله عليّ رضي الله عنه، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين. سبحان المدبِّر الحكيم، الجامع للأضداد.
وقوله تعالى :﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ﴾ هي صفة المريدين المتوجهين، ورهبانيةُ هذه الأمة : المساجد والزوايا، كما في الحديث١. وليس من شأن العارفين الانفراد في الجبال والفيافي، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم. قال الورتجبي : وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة، أهل السنة : أهل الرحمة والرأفة، وأهل البدعة : أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم. وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله، فتلك المودة من مودة الله إياهم، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم، حيث اختارهم في الأزل ؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، وقادة الأمة، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم، مثل ترك أكل اللحم، والجلوس في الزوايا للأربعين، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات، لأجل قبول العامة، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل هم يتبعون شياطينهم، الذي غوتهم في دينهم، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم. هـ. وقوله :" الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة، والأمر كما قيل : إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل، فهو أسلم. والله تعالى أعلم.
ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، خصّ هذين الرسولين ؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة، وإبراهيم كان في غاية الليونة، وهكذا أولياء كل زمان، بعضهم يميل للقوة جدّاً، وبعضهم يميل للرطوبة، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أو مِلةً جعل فيها هذين الضدين، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة، ليعتدل الأمر في الوجود، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود، أو غرق، كما جرى في زمان نوح عليه السلام، حين انفرد بالقوة، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه ؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً، وهارون كان ليناً، فكثرت أتباعه. وعظمت هذه الملة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم فقابله عمر رضي الله عنه، فلما استخلف عمر ولان ؛ قابله عليّ رضي الله عنه، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين. سبحان المدبِّر الحكيم، الجامع للأضداد.
وقوله تعالى :﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ﴾ هي صفة المريدين المتوجهين، ورهبانيةُ هذه الأمة : المساجد والزوايا، كما في الحديث١. وليس من شأن العارفين الانفراد في الجبال والفيافي، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم. قال الورتجبي : وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة، أهل السنة : أهل الرحمة والرأفة، وأهل البدعة : أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم. وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله، فتلك المودة من مودة الله إياهم، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم، حيث اختارهم في الأزل ؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، وقادة الأمة، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم، مثل ترك أكل اللحم، والجلوس في الزوايا للأربعين، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات، لأجل قبول العامة، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل هم يتبعون شياطينهم، الذي غوتهم في دينهم، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم. هـ. وقوله :" الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة، والأمر كما قيل : إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل، فهو أسلم. والله تعالى أعلم.
﴿ ما كتبناها عليهم ﴾ أي : لم نفرضها عليهم، ولكن نذروها على أنفسهم. ما فعلوا ذلك ﴿ إِلاَّ ابتغاءَ رِضْوانِ الله ﴾ عليهم، قيل : الاستثناء منقطع، أي : ما كتبناها عليهم لكن فعلوها ابتغاء رضوان الله، وقيل : متصل من أعم الأحوال، أي : ما كتبناها عليهم في حال من الأحوال إلاّ ابتغاء الرضوان، ﴿ فما رَعَوْها حقَّ رعايتها ﴾ كما يجب على الناذر رعاية نذره ؛ لأنه عهد مع الله، لا يحلّ نكثه، وقيل : في حق مَن أدرك البعثة فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أي : فما رَعَوا تلك الرهبانية حقها، حيث لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قوله تعالى :﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم ﴾ إيماناً صحيحاً، وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ أجرَهم ﴾ ما يخصهم من الأجر، ﴿ وكثيرٌ منهم فاسقون ﴾ خارجون عن حد الاتباع، كافرون بالله ورسوله.
ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، خصّ هذين الرسولين ؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة، وإبراهيم كان في غاية الليونة، وهكذا أولياء كل زمان، بعضهم يميل للقوة جدّاً، وبعضهم يميل للرطوبة، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أو مِلةً جعل فيها هذين الضدين، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة، ليعتدل الأمر في الوجود، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود، أو غرق، كما جرى في زمان نوح عليه السلام، حين انفرد بالقوة، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه ؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً، وهارون كان ليناً، فكثرت أتباعه. وعظمت هذه الملة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم فقابله عمر رضي الله عنه، فلما استخلف عمر ولان ؛ قابله عليّ رضي الله عنه، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين. سبحان المدبِّر الحكيم، الجامع للأضداد.
وقوله تعالى :﴿ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ﴾ هي صفة المريدين المتوجهين، ورهبانيةُ هذه الأمة : المساجد والزوايا، كما في الحديث١. وليس من شأن العارفين الانفراد في الجبال والفيافي، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم. قال الورتجبي : وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة، أهل السنة : أهل الرحمة والرأفة، وأهل البدعة : أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم. وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله، فتلك المودة من مودة الله إياهم، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم، حيث اختارهم في الأزل ؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، وقادة الأمة، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم، مثل ترك أكل اللحم، والجلوس في الزوايا للأربعين، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات، لأجل قبول العامة، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل هم يتبعون شياطينهم، الذي غوتهم في دينهم، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم. هـ. وقوله :" الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة، والأمر كما قيل : إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل، فهو أسلم. والله تعالى أعلم.
*﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾*﴿ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ بالرسل المتقدمة ﴿ اتقوا اللهَ ﴾ أي : خافوه ﴿ وآمِنوا برسوله ﴾ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المذكور في كتابكم، ﴿ يُؤتِكم كِفْلَين ﴾ نصيبين ﴿ من رحمته ﴾ لإيمانكم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمَن قبله، لكن لا بمعنى أن شريعتهم باقية بعد البعثة، بل على أنها كانت حقاً قبل النسخ، وإنما أعطى مَن آمن بنبينا كفلين مع بطلان شريعته، لصعوبة الخروج عن الإلف والعادة، ﴿ ويجعل لكم نوراً تمشون به ﴾ يوم القيامة، كما سبق للمؤمنين في قوله :﴿ يَسْعَى نُورُهُم. . . ﴾ [ الحديد : ١٢ ] الخ، ﴿ ويغفرْ لكم ﴾ ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، ﴿ واللهُ غفور رحيم ﴾ ويؤيد هذا التأويل وأنَّ الخطاب لأهل الكتاب : قوله صلى الله عليه وسلم :" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي. . . " ١ الحديث. وقيل : الخطاب للمؤمنين، أي : يأيها الذين آمنوا اتقوا الله فيما نهاكم عنه، ودُوموا على إيمانكم، يؤتكم كفلين. . . الخ، ويؤيد هذا حديث الصحيحين :" مَثَلُ أهل الكتاب قبلنا كمثل رجل استأجر أُجراء يعملون إلى الليل على قيراط قيراط، فعملت اليهود إلى نصف النهار، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى الليل، فاستوفيتم أجر الفريقين، فقيل : ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأعظم أجر ؟ فقال : هي ظلمتكم من حقكم شيئاً ؟ قالوا : لا، قال : ذلك فضلي أوتيه مَن أشاء " ٢.
قيل : لمّا نزل قوله :﴿ أولئك يُؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ﴾ افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزل :﴿ يا أيها الذين آمنوا. . . ﴾ الخ. ولمّا نزلت هذه الآية الكريمة في هذا الوعد الكريم للمؤمنين حسدتهم اليهود، فأنزل الله :﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ألاَّ يقدرون على شيء. . . ﴾ الخ.
٢ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٥٩..