تفسير سورة الممتحنة

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
هي مدنية وآيها ثلاث عشرة، نزلت بعد الأحزاب.
ومناسبتها لما قبلها :
( ١ ) إنه ذكر هناك موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب، وذكرنا هنا نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء، لئلا يشبهوا المنافقين.
( ٢ ) إنه ذكر هناك المعاهدين من أهل الكتاب، وذكر هنا المعاهدين من المشركين.

بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ( ١ ) إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ( ٢ ) لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير ﴾ [ الممتحنة : ١-٣ ].
تفسير المفردات : تلقون إليهم بالمودة : أي ترسلون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم وبينهم، يخرجون الرسول وإياكم : أي من مكة، أن تؤمنوا بالله : أي لأجل إيمانكم بالله، ضل : أي أخطأ، وسواء السبيل : أي الطريق المستوي وهو طريق الحق.
المعنى الجملي : روى البخاري ومسلم وغيرهما " أن سارة التي كانت مغنية ونائحة بمكة أتت المدينة تشكو الحاجة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب أن يعطوها ما يدفع حاجتها، فأعطوها نفقة وكسوة وحمَلوها، فجاءها حاطب بن أبي بلتعة ( مولى عبد الله بن حميد بن عبد العزّى ) فأعطاها عشرة دنانير وكتب معها كتابا إلى أهل مكة، هذا صورته :
من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فأخبره جبريل به، فبعث إليها عليا وعمارا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرسانا. وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ( موضع ) فإن بها ظعينة ( امرأة ) معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع، فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسل سيفه وقال لها أخرجي الكتاب، أو ألقي ما معك من الثياب، فأخرجته من عقاص شعرها، فأحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال له : ما حملك عليه ؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهلهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فصدّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل عذره، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم :( إنه شهد بدرا، ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، فنزلت :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ﴾الآية.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ﴾ أي لا تجعلوا الكفار أنصارا وأعوانا لكم.
ثم فسر هذه الموالاة فقال :﴿ تلقون إليهم بالمودة ﴾ أي تبلغونهم أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم التي لا ينبغي لأعدائه أن يطلعوا عليها من خطط حربية، أو أعمال نافعة في نشر دينه وبث دعوته. بسبب ما بينكم وبينهم من مودة.
ثم ذكر أن مما يمنع هذا الاتخاذ أمرين :
( ١ ) ﴿ وقد كفروا بما جاءكم من الحق ﴾ أي وقد كفروا بالله ورسوله وكتابه الذي أنزله عليك  ! فكيف بكم بعد هذا تجعلونهم أنصارا وتسرون إليهم بما ينفعهم ويضر رسولكم، ويعوق نشر دينكم.
( ٢ ) ﴿ يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ﴾ أي يخرجون الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ولم يكن لهم جريرة ولا جرم سوى ذلك.
ونحو الآية قوله :﴿ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ﴾ [ البروج : ٨ ] وقوله :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾[ الحج : ٤٠ ].
وفي هذا تهييج لهم على عداوتهم وعدم موالاتهم، ثم زادهم تهييجا بقوله :
﴿ إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ﴾ أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي، باغين مرضاتي عنكم، فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم حنقا عليكم وسخطا لدينكم.
ثم توعد من يفعل ذلك وشدد النكير عليه وذكر ما فيه أعظم الزجر له فقال :﴿ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ﴾ أي ومن يفعل هذه الموالاة ويبلغ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لأعدائه فقد جار عن قصد الطريق التي توصل إلى الجنة ورضوان الله تعالى.
المعنى الجملي : روى البخاري ومسلم وغيرهما " أن سارة التي كانت مغنية ونائحة بمكة أتت المدينة تشكو الحاجة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب أن يعطوها ما يدفع حاجتها، فأعطوها نفقة وكسوة وحمَلوها، فجاءها حاطب بن أبي بلتعة ( مولى عبد الله بن حميد بن عبد العزّى ) فأعطاها عشرة دنانير وكتب معها كتابا إلى أهل مكة، هذا صورته :
من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فأخبره جبريل به، فبعث إليها عليا وعمارا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرسانا. وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ( موضع ) فإن بها ظعينة ( امرأة ) معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع، فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسل سيفه وقال لها أخرجي الكتاب، أو ألقي ما معك من الثياب، فأخرجته من عقاص شعرها، فأحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال له : ما حملك عليه ؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهلهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فصدّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل عذره، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم :( إنه شهد بدرا، ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، فنزلت :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ﴾الآية.
تفسير المفردات إن يثقفوكم : أي يظفروا بكم، وأصل الثقف : الحذق في إدراك الشيء وفعله ومنه رجل ثقف لقف، بالسوء : أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم، وودّوا لو تكفرون : أي وتمنوا كفركم.
ثم ذكر أمورا أخرى تمنع موالاتهم فقال :
( ١ ) ﴿ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ﴾ أي إن يظفر بكم هؤلاء الذين تسرون إليهم بالمودة يكونوا حربا عليكم ويفعلوا بكم الأفاعيل.
( ٢ ) ﴿ ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ﴾ أي ويمدوا أيديهم وألسنتهم لقتالكم وأذاكم وسبكم وشتمكم، فكيف ترونهم على هذه الحال وتتخذونهم أصدقاء وأولياء.
( ٣ ) ﴿ وودّوا لو تكفرون ﴾ أي وتمنوا لو تكفرون بربكم، لتكونوا على مثل الذي هم عليه، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة.
والخلاصة : إن هؤلاء يودون لكم كل ضر وأذى في دينكم ودنياكم، فكيف بكم بعد هذا تمدون إليهم حبال المودة، وتوثقون عرا الإخاء، فهذا مما لا يرشد إليه عقل، ولا يهدي إليه دين.
المعنى الجملي : روى البخاري ومسلم وغيرهما " أن سارة التي كانت مغنية ونائحة بمكة أتت المدينة تشكو الحاجة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب أن يعطوها ما يدفع حاجتها، فأعطوها نفقة وكسوة وحمَلوها، فجاءها حاطب بن أبي بلتعة ( مولى عبد الله بن حميد بن عبد العزّى ) فأعطاها عشرة دنانير وكتب معها كتابا إلى أهل مكة، هذا صورته :
من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فأخبره جبريل به، فبعث إليها عليا وعمارا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرسانا. وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ( موضع ) فإن بها ظعينة ( امرأة ) معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع، فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسل سيفه وقال لها أخرجي الكتاب، أو ألقي ما معك من الثياب، فأخرجته من عقاص شعرها، فأحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال له : ما حملك عليه ؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهلهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فصدّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل عذره، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم :( إنه شهد بدرا، ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، فنزلت :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ﴾الآية.
تفسير المفردات : أرحامكم : أي قراباتكم، يفصل بينكم : أي يفرق بينكم من شدة الهول.
ثم ذكر أن ما جعلوه سببا من المحافظة على الأهل والولد لا ينبغي أن يقدّم على شؤون الدين فقال :
﴿ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة ﴾ أي لن تنفعكم يوم القيامة أقاربكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم، وتتقربون إليهم محاماة عنهم- فتدفع عنكم عذاب الله إن عصيتموه في الدنيا وكفرتم به.
ثم بين السبب في عدم نفعهم فقال :﴿ يفصل بينكم ﴾ أي يفرق الله بينكم وبينهم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر كما قال :﴿ يوم يفر المرء من أخيه ( ٣٤ ) وأمه وأبيه ( ٣٥ ) وصاحبته وبنيه ( ٣٦ ) لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ﴾ [ عبس : ٣٤-٣٧ ].
ثم أوعد من يفعل ذلك فقال :﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ أي والله بأعمال ذو بصر بها، لا يخفى عليه شيء منها، فهو محيط بها جميعها، ومجازيكم عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فاتقوا الله في أنفسكم واحذروه.
﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك وما أملك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ( ٤ ) ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ( ٥ ) لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ﴾ [ الممتحنة : ٤-٦ ].
شرح المفردات : الأسوة :( بضم الهمزة وكسرها وبهما قرئ ) من يؤتسى به، كالقدوة لمن يقتدي به والجمع أسى، برآء واحدهم بريء كظرفاء وظريف : أي متبرئون ومنكرون لما تعملون، وما تعبدون : أي الأصنام والكواكب وغيرها، البغضاء : أي البغض والكراهة.
المعنى الجملي : بعد أن أنكر عليهم موالاتهم للكافرين، وذكر لهم الموانع التي تمنع من ذلك كإخراجهم من الديار، وتمنى الكفر لهم، وصدهم عن هداية الدين وكفرهم بالرسول وبما جاء به، وأنهم متى وجدوا سبيلا لأذاهم بقول أو فكر سلكوه غير آبهين لصلة رحم ولا قربى- أكد هنا ذلك فأمرهم أن يأتسوا بإبراهيم وأصحابه إذ تبرؤوا من قومهم وعادوهم وقالوا لهم : إنا برآء منكم، قال الفراء : يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم حين تبرأ من أهله ؟ لتعلم أن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرا الإيمان.
الإيضاح :﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ﴾ أي قد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة في إبراهيم خليل الرحمن تقتدون به وبالذين معه من أتباعه المؤمنين حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله وعبدوا الطاغوت : أيها القوم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد.
ثم فسر هذه البراءة بقوله :
﴿ كفرنا بكم ﴾ أي جحدنا ما أنتم عليه من الكفر، وأنكرنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله، فلا نعتدّ بكم ولا بآلهتكم، فإن ما أنتم عليه لا تقره العقول الراجحة، ولا الأحلام الحصيفة ؛ فما قيمة الأحجار والأصنام التي تتخذونها معبودات ترجون منها النفع والضر :﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ﴾ [ الحج : ٧٣ ].
﴿ وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ﴾ أي وها نحن أولاء قد أعلنا الحرب عليكم، فلا هوادة بيننا وبينكم، وسيكون هذا دأبنا معكم، لا نترككم بحال حتى تتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فتنقلب العداوة ولاية، والبغضاء محبة.
﴿ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ﴾ أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدوا لله تبرأ منه.
وقد كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون : إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه فأنزل الله عز وجل :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( ١١٣ ) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ﴾ [ التوبة : ١١٣-١١٤ ].
والخلاصة : لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة وتستغفروا لهم، كما فعل إبراهيم لأبيه، لأنه إنما استغفر له قبل أن يتبين له أنه عدو لله، فلما مات على الكفر تبين له ذلك، فترك الاستغفار، وأنتم قد استبانت لكم عداواتهم بكفرهم بالرسول، وإخراجكم من الديار، فلا ينبغي أن تستغفروا لهم.
﴿ وما أملك لك من الله من شيء ﴾ أي وليس في وسعي إلا الاستغفار لك، ولا أستطيع أن أنفعك بأكثر من هذا، فإن أراد الله عقوبتك على كفرك فلا أدفعها عنك.
ثم أخبر عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبوءوا منهم ولجؤوا إلى الله وتضرعوا إليه.
﴿ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ﴾ أي ربنا اعتمدنا عليك في قضاء أمورنا، ورجعنا إليك بالتوبة مما تكره إلى ما تحب وترضى، ومصيرنا إليك يوم تبعثنا من قبورنا، وتحشرنا إلى موقف العرض والحساب.
المعنى الجملي : بعد أن أنكر عليهم موالاتهم للكافرين، وذكر لهم الموانع التي تمنع من ذلك كإخراجهم من الديار، وتمنى الكفر لهم، وصدهم عن هداية الدين وكفرهم بالرسول وبما جاء به، وأنهم متى وجدوا سبيلا لأذاهم بقول أو فكر سلكوه غير آبهين لصلة رحم ولا قربى- أكد هنا ذلك فأمرهم أن يأتسوا بإبراهيم وأصحابه إذ تبرؤوا من قومهم وعادوهم وقالوا لهم : إنا برآء منكم، قال الفراء : يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم حين تبرأ من أهله ؟ لتعلم أن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرا الإيمان.
شرح المفردات : لا تجعلنا فتنة للذين كفروا : أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نحتمله، من قولهم : فتن الفضة : أي أذابها.
﴿ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ﴾ قال قتادة : أي لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه.
﴿ واغفر لنا إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ أي واستر لنا ذنوبنا بعفوك عنها، إنك أنت الذي لا يضام من لاذ بجنابه، الحكيم في تدبير خلقه، وصرفه إياهم فيما فيه صلاحهم.
ثم أعاد ما تقدم مبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه.
شرح المفردات : يرجو الله : أي يؤمل ثوابه، واليوم الآخر : أي مجيئه، ومن يتول : أي ومن يعص النصيحة.
المعنى الجملي : بعد أن أنكر عليهم موالاتهم للكافرين، وذكر لهم الموانع التي تمنع من ذلك كإخراجهم من الديار، وتمنى الكفر لهم، وصدهم عن هداية الدين وكفرهم بالرسول وبما جاء به، وأنهم متى وجدوا سبيلا لأذاهم بقول أو فكر سلكوه غير آبهين لصلة رحم ولا قربى- أكد هنا ذلك فأمرهم أن يأتسوا بإبراهيم وأصحابه إذ تبرؤوا من قومهم وعادوهم وقالوا لهم : إنا برآء منكم، قال الفراء : يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم حين تبرأ من أهله ؟ لتعلم أن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرا الإيمان.
﴿ لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر ﴾ أي لقد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة في إبراهيم ومن آمن معه من أتباعه المؤمنين، لمن كان منكم يرجو لقاء الله وجزيل ثوابه، والنجاة في اليوم الآخر. وفي هذا تهييج إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، والعض عليهما بالنواجذ، وبيان أنهما ملاك الأمر كله يوم العرض والحساب.
ثم أوعد على تركهما بقوله :
﴿ ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ﴾ أي ومن أعرض عما ندبه الله إليه منكم وأدبر واستكبر، ووالى أعداء الله، وألقى إليهم بالمودة فلا يضرنّ إلا نفسه، فإن الله غني عن إيمانه وطاعته، بل عن جميع خلقه، محمود بآياته وآلائه عليهم.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ﴾ [ إبراهيم : ٨ ].
﴿ *عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ( ٧ ) لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ( ٨ ) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ﴾ [ الممتحنة : ٧-٩ ].
شرح المفردات : عسى : كلمة تفيد رجاء حصول ما بعدها، فإذا صدرت من الله فما بعدها واجب الوقوع
المعنى الجملي : لما نهاهم عن موالاة الكفار وإلقاء المودة إليهم، وضرب لهم المثل بإبراهيم وقومه- حملهم ذلك على أن يظهروا براءتهم من أقربائهم، والتشدد في معاداتهم ومقاطعتهم، وكان ذلك عزيزا على نفوسهم، ويتمنون أن يجدوا المخلص منه- أردف ذلك سبحانه بأنه سيغير من طباع المشركين، ويغرس في قلوبهم محبة الإسلام، فيتم التوادّ والتصافي بينكم وبينهم.
وفي ذلك إزالة للوحشة من قلوب المؤمنين، وتطييب لقلوبهم، وقد أنجز الله وعده، فأتاح للمسلمين فتح مكة، فأسلم قومهم، وتم لهم ما كانوا يريدون من التحابّ والتوادّ، ثم رخص لهم في صلة الذين لم يقاتلهم من الكفار ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم.
روى أحمد في جماعة آخرين عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا- صناب ( صباغ يتخذ من الخردل والزبيب ) وأقِطَ وسمن وهي مشركة ؛ فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخل بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فسألت فأنزل الله :﴿ لا ينهاكم الله ﴾ الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها ؛ وقال الحسن وأبو صالح : نزلت الآية في خزاعة وبني الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب، كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه.
الإيضاح :﴿ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ﴾ أي لعل الله يجعل بينكم وبين أعدائكم من كفار مكة محبة بعد البغض، ومودة بعد النفرة، وألفة بعد الفرقة، والله قدير على ما يشاء، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة، غفور لخطيئة من ألقى إليهم بالمودة إذا تابوا منها، رحيم بهم أن يعذبهم بعد التوبة.
وقد تمّ ذلك بفتح مكة حين دخل المشركون في دين الله أفواجا، وتم بينهم التصافي والتصاهر، وكان بينهم أتم ما يكون من وثيق الصلاة كما قال تعالى :﴿ واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ] وقال :﴿ هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( ٦٢ ) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ﴾ [ الأنفال : ٦٢-٦٣ ].
المعنى الجملي : لما نهاهم عن موالاة الكفار وإلقاء المودة إليهم، وضرب لهم المثل بإبراهيم وقومه- حملهم ذلك على أن يظهروا براءتهم من أقربائهم، والتشدد في معاداتهم ومقاطعتهم، وكان ذلك عزيزا على نفوسهم، ويتمنون أن يجدوا المخلص منه- أردف ذلك سبحانه بأنه سيغير من طباع المشركين، ويغرس في قلوبهم محبة الإسلام، فيتم التوادّ والتصافي بينكم وبينهم.
وفي ذلك إزالة للوحشة من قلوب المؤمنين، وتطييب لقلوبهم، وقد أنجز الله وعده، فأتاح للمسلمين فتح مكة، فأسلم قومهم، وتم لهم ما كانوا يريدون من التحابّ والتوادّ، ثم رخص لهم في صلة الذين لم يقاتلهم من الكفار ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم.
روى أحمد في جماعة آخرين عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا- صناب ( صباغ يتخذ من الخردل والزبيب ) وأقِطَ وسمن وهي مشركة ؛ فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخل بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فسألت فأنزل الله :﴿ لا ينهاكم الله ﴾ الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها ؛ وقال الحسن وأبو صالح : نزلت الآية في خزاعة وبني الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب، كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه.
شرح المفردات : أن تبروهم : أي تفعلوا البر والخير لهم، وتقسطوا إليهم : أي تعدلوا فيهم بالبر والإحسان، المقسطين : أي العادلين.
ثم أباح لهم صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار فقال :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ﴾ أي لا ينهاكم الله عن الإحسان إلى الكفار الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، ولم يعاونوا على إخراجكم، وهم خزاعة وغيرهم ممن كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك القتال والإخراج من الديار، فأمر الله رسوله بالبر والوفاء لهم إلى مدة أجلهم.
المعنى الجملي : لما نهاهم عن موالاة الكفار وإلقاء المودة إليهم، وضرب لهم المثل بإبراهيم وقومه- حملهم ذلك على أن يظهروا براءتهم من أقربائهم، والتشدد في معاداتهم ومقاطعتهم، وكان ذلك عزيزا على نفوسهم، ويتمنون أن يجدوا المخلص منه- أردف ذلك سبحانه بأنه سيغير من طباع المشركين، ويغرس في قلوبهم محبة الإسلام، فيتم التوادّ والتصافي بينكم وبينهم.
وفي ذلك إزالة للوحشة من قلوب المؤمنين، وتطييب لقلوبهم، وقد أنجز الله وعده، فأتاح للمسلمين فتح مكة، فأسلم قومهم، وتم لهم ما كانوا يريدون من التحابّ والتوادّ، ثم رخص لهم في صلة الذين لم يقاتلهم من الكفار ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم.
روى أحمد في جماعة آخرين عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا- صناب ( صباغ يتخذ من الخردل والزبيب ) وأقِطَ وسمن وهي مشركة ؛ فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخل بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فسألت فأنزل الله :﴿ لا ينهاكم الله ﴾ الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها ؛ وقال الحسن وأبو صالح : نزلت الآية في خزاعة وبني الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب، كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه.
شرح المفردات : ظاهروا : أي ساعدوا، أن تولوهم : أي أن تكونوا أولياء وأنصارا لهم.
ثم زاد الأمر إيضاحا وبيانا فقال :﴿ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ﴾ أي إنما ينهاكم عن موالاة الذين ناصبوكم العداوة فقاتلوكم وأخرجوكم أو عاونوا على إخراجكم كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين، وبعضهم أعان المخرجين.
ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال :﴿ ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ﴾ لأنهم تولوا غير الذين يجوز لهم أن يتولوهم، ووضعوا ولايتهم في غير موضعها، وخالفوا أمر الله في ذلك.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهم فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر وسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ( ١٠ ) وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ﴾[ الممتحنة : ١٠-١١ ].
شرح المفردات : فامتحنوهن : أي فاختبروهن، بما يغلب به على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان، علمتموهن : أي ظننتموهن، إلى الكفار : أي إلى أزواجهن الكفار أجورهن : أي مهورهن، وعصم : وأحدها عصمة، وهي ما يعتصم به من عقد وسبب، والكوافر : واحدتهن كافرة.
المعنى الجملي : الكافر المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة :
( ١ ) أن يستمر على عناده، وإلى مثله أشار بقوله :﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ﴾[ الممتحنة : ٤ ] الآية.
( ٢ ) أن يرجى منه أن يترك العناد، وإلى مثله أشار بقوله :﴿ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ﴾[ الممتحنة : ٧ ].
( ٣ ) أن يترك العناد ويستسلم، وإلى ذلك أشار بقوله :﴿ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ﴾ الآية.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ﴾ أي إذا جاءكم أيها المؤمنون النساء اللاتي نطقن بالشهادة ولم يظهر منهن ما يخالف ذلك- مهاجرات من بين الكافر فاختبروا حالهن، وانظروا هل توافق قلوبهن ألسنتهن، أو هنّ منافقات، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة :( بالله الذي لا إله إلا هو، ما خرجت من بغض زوج، بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، بالله ما خرجت التماسا لدنيا، بالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله ؟ ). ثم ذكر جملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها ليتبين أن الامتحان يفيد معرفة الظاهر فحسب فقال :﴿ الله أعلم بإيمانهن ﴾ منكم وهو يتولى السرائر، وفي هذا بيان أنه لا سبيل إلى ما تطمئن إليه النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر الله بعلمه.
﴿ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ﴾ أي فإن غلب على ظنكم إيمانهن بالحلف وغيره مما يورث اطمئنان قلوبكم على إسلامهن، فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين.
ثم بين العلة في النهي عن إرجاعهن بقوله :﴿ لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ﴾ أي لا المؤمنات حل للكفار، ولا الكفار يحلون للمؤمنات.
﴿ وآتوهم ما أنفقوا ﴾ أي وأعطوا أزواجهن مثل ما أنفقوا من المهور. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أمر عليا أن يكتب بالصلح فكتب : باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحوا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده إليه، ومن جاء قريشا من محمد لم يرده إليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة وأن لا إسلال ولا إغلال، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبا جندل بن سهيل، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلا ردّه في مدة العهد، وإن كان مسلما، ثم جاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أولاهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فقدم أخواها عمار والوليد فكلماه في أمرها ليردها إلى قريش فنزلت الآية، فلم يردها عليه الصلاة والسلام، ثم أنكحها زيد بن حارثة. وعن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحارث الأسلمية مؤمنة، وكانت تحت صيفي بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلب ردّها فأنزل سبحانه الآية فلم يردها وأعطاها ما أنفق، وتزوجها عمر رضي الله عنه.
ومن هذا تعلم أن الآية بيّنت أن العهد الذي أعطى كان في الرجال دون النساء ومن ثم لم يردهن حين جئن مؤمنات.
﴿ ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ﴾ أي ولا إثم عليكم ولا حرج في نكاح هؤلاء المؤمنات المهاجرات، بشرط أن تتعهدوا بالمهور، وتلتزموا بأدائها. وإنما جاز هذا لأن الإسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار، فكان من المصلحة أن يكون لهن عائل من المؤمنين يكفل أمر أرزاقهن.
﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ أي إنه لا ينبغي أن يكون علاقة من علاقات الزوجية بين المؤمنين ونسائهم المشركات الباقيات في دار الشرك، فلا يمنع نكاح إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها ما دامت في العدة، لأنه لا عدة لهن.
﴿ واسألوا ما أنفقتم ﴾ أي واسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم إذا ارتددن ولحقن بهم.
﴿ وليسألوا ما أنفقوا ﴾ أي وليسألكم الكفار مهور نسائكم المهاجرات إليكم، والمراد أن عليكم أن تؤدوا لهم ذلك.
﴿ ذلكم حكم الله يحكم بينكم ﴾ أي ذلكم الذي ذكر هو حكم الله فاتبعوه، يحكم به بينكم فلا تخالفوه.
﴿ والله عليم حيكم ﴾ فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة.
المعنى الجملي : الكافر المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة :
( ١ ) أن يستمر على عناده، وإلى مثله أشار بقوله :﴿ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ﴾[ الممتحنة : ٤ ] الآية.
( ٢ ) أن يرجى منه أن يترك العناد، وإلى مثله أشار بقوله :﴿ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ﴾[ الممتحنة : ٧ ].
( ٣ ) أن يترك العناد ويستسلم، وإلى ذلك أشار بقوله :﴿ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ﴾ الآية.
شرح المفردات : فعاقبتم : أي فكانت العقبى لكم، أي الغلبة والنصر لكم، حتى غنمتم منهم.
﴿ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ﴾ أي وإن ذهبت أزواجكم مرتدات إلى دار الشرك ولم يعطوكم المهور اللاتي دفعت لهن، ثم ظفرتم بالمشركين وانتصرتم عليهم فأعطوا الذين ذهبت أزواجهن من الغنيمة مثل ما أنفقوا.
روي عن ابن عباس أنه يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمّس أي قبل أن تقسم أخماسا، كما هي القاعدة في تقسيم الغنائم كما تقدم في سورة الأنفال.
﴿ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ﴾ أي وخافوا الله الذي أنتم به مصدقون، فأدّوا فرائضه، واجتنبوا نواهيه.
﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ﴾ [ الممتحنة : ١٢ ].
شرح المفردات : يبايعنك : أي يلتزمن لك الطاعة، ولا يقتلن أولادهن : أي ولا يئدن البنات والمراد بالبهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن : الولد الذي كانت ألصقته بزوجها كذبا، والافتراء : الكذب، في معروف : أي في أمر برّ وتقوى، فبايعهن : أي فالتزم لهن ضمان الثواب إذا وفين بهذه الأشياء.
المعنى الجملي : روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه بهذه الآية :﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ﴾ إلى قوله :﴿ غفور رحيم ﴾. فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قد بايعتك ) كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما بايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك. وروى أحمد عن أميمة بنت رقية التيمية قالت :" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن : ألا نشرك ﴿ بالله شيئا ﴾- حتى بلغ- ﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ فقال :( فيما استطعتن وأطقتن : ، قلنا : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا يا رسول الله ألا تصافحنا ؟ قال :( إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة ).
الإيضاح : أي أيها النبي إذا جاءك النساء المؤمنات مقدمات لك الطاعة، ملتزمات ألا يشركن بالله شيئا من صنم أو حجر، ولا يسرقن من مال الناس شيئا، ولا يزنين، ولا يئدن البنات كما كنّ يفعلن ذلك في الجاهلية، ولا يلصقن أولاد الأجانب بأزواجهن كذبا وبهتانا، ولا يعصينك فيما تأمرهن به أو تنهاهن عنه كالنوح وتمزيق الثياب وجزّ الشعر وشق الجيوب وخمش الوجوه، وألا تخلو امرأة بغير ذي رحم محرم- فبايعهن على ذلك، والتزم لهن الوفاء بالثواب إن هن أطعنك في كل ذلك، واطلب لهن المغفرة من الله، إنه هو الغفور الرحيم لهن إذا وفين بما بايعن عليه.
وعن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها :﴿ أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ﴾ الآية، قال فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة : أقرّي أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا، قالت فنعم، فبايعها بالآية.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ﴾[ الممتحنة : ١٣ ].
شرح المفردات : غضب الله عليهم : أي طردهم من رحمته، من الآخرة : أي من ثوابها ونعيمها، من أصحاب القبور : أي من رجوع موتاهم إليهم، لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور.
المعنى الجملي : نهى سبحانه أول السورة عن موالاة المشركين، وذكر الموانع التي تمنع من موالاتهم، ثم أوعد على ذلك، ولما كان الأمر في ذلك جدّ خطير في سياسة الدولة الإسلامية ونشر الملة- كرر النهي عن موالاة الكافرين مرة أخرى، يهودا كانوا أو نصارى، ليكون عظة وذكرى لحاطب بن أبي بلتعة ومن نحا نحوه ممن يفضلون توثيق الصلات الدنيوية على مصلحة الدعوة الدينية، ويجعلون شؤون الدنيا مقدمة على شؤون الدين.
روي أن قوما من فقراء المؤمنين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين، ليصيبوا من ثمارهم فنزلت الآية.
الإيضاح :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ﴾ أي لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم واستحقوا الطرد من رحمته- أولياء لكم وأصدقاء تسرون إليهم بما يضر نشر الدعوة، ويحول دون تقدم شؤون الملة.
ثم بين أوصافهم ومعتقداتهم فقال :﴿ قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ﴾ أي قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها، لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المبشر به في كتابهم المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الباهرات ؛ فهم قد أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم له وعلموا أن لا سبيل لهم لنيل نعيمها، كما يئس الكفار من بعث موتاهم، لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
Icon