تفسير سورة الممتحنة

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مدنية وآياتها ١٣.

تفسير سورة الممتحنة
وهي مدنيّة بإجماع
[سورة الممتحنة (٦٠) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ... الآية:
المراد بالعدو هاهنا: كُفَّارُ قريش، وسبب نزول هذه الآية حَاطِبُ بن أبي بلتعة وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أرادَ الخروجَ إلى مَكَّةَ عامَ الحديبية.
ت: بل عام فتح مَكَّةَ، فكتب حاطبٌ إلى قوم من كُفَّارِ مَكَّةَ يخبرهم بقصد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن ذلك منه ارتداداً، فنزل الوحي مخبرا بما صنع حاطب، فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم عَلِيًّا والزبيرَ وثالثاً- قيل هو المقداد- وقال: انطلقوا حَتَّى تأتُوا روضة خاخ، فإنَّ بها ظغينةً معها كتابٌ من حاطبٍ إلى المشركين، فخذوه منها، وخَلُّوا سبيلها، فانطلقوا حَتَّى وجدوا المرأة، فقالوا لها: أَخْرِجِي الكتابَ، فقالت: ما معي كتاب! ففتشوا رحلها فما وجدوا شيئاً فقال عليّ: ما كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا كُذِّب، واللَّهِ، لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِينَّ الثِّيَابَ، فقالَتْ: أَعْرِضُوا عَنِّي، فَحَلَّتْهُ مِنْ قُرُونِ رأسها، فجاؤوا به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ لِحَاطِبٍ: مَنْ كَتَبَ هَذَا؟ فَقَالَ: أنا يا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ على مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تعجل عليّ فو الله، مَا كَفَرْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَمَا/ فَعَلْتُ ذَلِكَ ارتدادا عَن دِينِي وَلاَ رَغْبَةً عَنْهُ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ إلاَّ وَلَهُ «١» بِمَكَّةَ مَنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ، وَكُنْتُ امرأ مُلْصَقاً فِيهِمْ، وَأَهْلِي بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، فَخَشِيتُ عَلَيْهِمْ فَأَرَدْتُ أن أتّخذ عندهم
(١) في د: الأول.
يدا، فصدّقه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: لاَ تَقُولُوا لِحَاطِبٍ إلاَّ خَيْراً» «١» وروي أنّ حاطبا كتب: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُرِيدُ غَزْوَكُمْ في مِثْلِ اللَّيْلِ وَالسَّيْلِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ، لَوْ غَزَاكُمْ وَحْدَهُ، لَنُصِرَ عَلَيْكُمْ، فَكَيْفَ وهو في جمع كثير؟! - ص-: وتُلْقُونَ مفعوله محذوف، أي: تلقون إليهم أخبارَ الرسول وأسراره، وبِالْمَوَدَّةِ: الباء للسبب، انتهى.
وقوله تعالى: أَنْ تُؤْمِنُوا: مفعول من أجله، أي: أخرجوكم من أجل أنْ آمنتم بربكم.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ: شرط، جوابُهُ متقدم في معنى ما قبله، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط، والتقدير: إنْ كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياءَ، وجِهاداً منصوب على المصدر، وكذلك ابْتِغاءَ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلك مفعولاً من أجله، والمرضاة: مصدر كالرضى وتُسِرُّونَ حال من تُلْقُونَ، ويجوز أنْ يكون في موضع خبر ابتداء، كأَنَّهُ قال: أنتم تُسِرُّونَ، ويصحّ أن يكون فعلا ابتدئ به القول.
وقوله تعالى: أَعْلَمُ يحتمل أنْ يكون أفعل، ويحتمل أنْ يكون فعلاً لأَنَّكَ تقول:
علمت بكذا فتدخل الباء.
- ص-: والظاهر أَنَّه أفعل تفضيل ولذلك عُدِّيَ بالباء، انتهى، وسَواءَ يجوز أنْ يكون مفعولاً ب ضَلَّ على تعدي «ضل»، ويجوز أنْ يكون ظرفاً/ على غير التعدي لأَنَّهُ يجيء بالوجهين، والأوَّلُ أحسن في المعنى، والسواء: الوسط، والسَّبِيلِ: هنا شرع الله وطريق دينه.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٢ الى ٣]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)
وقوله سبحانه: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً... الآية: أخبر تعالى أَنَّ مُدَارَاةَ هؤلاء الكفرة غيرُ نافعة في الدنيا، وأَنَّها ضارَّةٌ في الآخرة ليبين فساد رأي مصانعهم،
(١) أخرجه البخاري (٦/ ١٦٦)، كتاب «الجهاد والسير» باب: الجاسوس (٣٠٠٧)، وأطرافه (٣٠٨١، ٣٩٨٣، ٤٢٧٤، ٤٨٩٠، ٦٢٥٩، ٦٩٣٩)، ومسلم (٤/ ١٩٤١- ١٩٤٢)، كتاب «فضائل الصحابة» باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم، وقصة حاطب من أبي بلتعة (١٦١، ١٦١/ ٢٤٩٤)، وأبو داود (٢/ ٥٤)، كتاب «الجهاد» باب: في حكم الجاسوس إذا كان مسلما (٢٦٥٠)، والترمذي (٥/ ٦٩٧)، كتاب «المناقب» باب: (٥٩) (٣٨٦٤).
فقال: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي: إنْ يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم ظهرت عداوتهم، وانبسطت إليكم أيديهم بِضَرَرِكُمْ وَقَتْلِكُمْ، وانبسطت ألسنتُهم بسبِّكم، وأَشَدُّ من هذا كله إنَّما يقنعهم أَنْ تكفروا، وهذا هو ودهم، ثم أخبر تعالى أنَّ هذه الأرحامَ التي رغبتم في وصلها، ليستْ بنافعة يومَ القيامة، فالعامل في يَوْمَ قوله تَنْفَعَكُمْ، وقيل: العامل فيه يَفْصِلُ وهو مِمَّا بعده لا مِمَّا قبله، وعبارةُ الثعلبيِّ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي: قرابتكم منهم وَلا أَوْلادُكُمْ: الذين عندهم بمكة يَوْمَ الْقِيامَةِ: إذا عصيتم اللَّه من أجلهم يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ: فيدخل المؤمنون الجنة، والكافرون النارَ، انتهى.
ت: وهذه الآيةُ تُنظر إلى قوله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى... [سبأ: ٣٧] الآية: واعلم أنَّ المال والسبب النافع يوم القيامة، ما كان لِلَّهِ وقُصِدَ به العونُ على طاعة اللَّه، وإلاَّ فهو على صاحبه وَبَالٌ وطولُ حساب، قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد اللَّه بن الحارث يُحَدِّثُ عن أبي كثير، عن عبد اللَّه بن عمرو بن/ العاصي أَنَّه سمعه يقول: ويجمعون- يعني ليوم القيامة- فيقال: أين فقراء هذه الأمة ومساكينُها؟ فيبرزون، فَيُقَالُ: ما عندكم؟
فيقولون: يا رَبَّنَا، ابْتُلِينَا فَصَبِرْنَا، وأنت أعلم، أحسبه، قال: ووليت الأموال والسلطانَ غَيْرَنا، فيقال: صدقتم، فيدخلون الجنة قبل سائر الناس بزمان، وتبقى شِدَّةُ الحساب على ذَوِي السلطان والأموال، قال: قلت: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسيُّ من نور، ويُظَلِّلُ عليهم الغمامُ، ويكون ذلك اليومُ أقصرَ عليهم من ساعة من نهار، انتهى، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: وعيد وتحذير.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٤ الى ٥]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥)
وقوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ أي: قدوة فِي إِبْراهِيمَ: الخليل وَالَّذِينَ مَعَهُ: قيل: مَنْ آمن به مِنَ الناس، وقال الطبريُّ وغيره «١» : الَّذِينَ مَعَهُ: هم الأنبياء المعاصرون له أو قريباً من عصره، قال ع «٢» : وهذا أرجح لأَنَّهُ لم يرو أنّ لإبراهيم
(١) ينظر: «تفسير الطبري» (١٢/ ٥٩).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٩٥).
أتباعاً مؤمنين في وقتِ مكافحته نمروداً، وفي البخاريِّ: أنه قال لسارةَ حين رحل بها إلى الشام مهاجراً من بلد النمرود: ما على الأرض مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ غيري وغيرُك، وهذه الأُسْوَةُ مُقَيَّدَةٌ في التبري من المشركين وإشراكهم، وهو مُطَّرِدٌ في كل مِلَّةٍ، وفي نبينا مُحَمَّدٍ- عليه السلام- أسوةٌ حسنةٌ على الإطلاق في العقائد وفي أحكام الشرع كُلِّها.
وقوله: كَفَرْنا بِكُمْ: أي: كذبناكم في عبادتكم الأصنامَ.
وقوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ يعني: تأسوا بإبراهيم، إلاَّ في استغفاره لأبيه، فلا تتأسوا به فتستغفروا للمشركين، لأَنَّ استغفاره إنَّما كانَ عَنْ موعدةِ وعدها/ إيَّاهُ وهذا تأويل قتادة، ومجاهد، وعطاءِ الخُرَاسَانِيِّ وغيرهم «١».
وقوله: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا إلى قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هو حكاية عن قول إبراهيم والذين معه، وهذه الألفاظ بَيِّنَةٌ مِمَّا تقدم في آي القرآن.
وقوله: رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً قيل: المعنى: لا تغلبهم علينا، فنكونَ لهم فتنةً وسَبَبَ ضلالةٍ نحا هذا المنحى قتادةُ وأبو مِجْلَزٍ»
، وقد تقدم مُسْتَوفًى في سورة يونس، وقال ابن عباس «٣» : المعنى: لا تسلِّطْهم علينا فيفتنونا عَنْ أدياننا، فكأَنَّه قال: لا تجعلنا مفتونين، فَعَبَّرَ عن ذلك بالمصدر، وهذا أرجح الأقوال لأَنَّهُمْ إنَّما دعوا لاًّنْفُسِهِم، وعلى منحى قتادة: إنما دعوا للكفار، أَمَّا أَنَّ مقصدَهم إنما هو أَنْ يندفع عنهم ظهورُ الكُفَّارِ الذي بسببه فِتَنُ الكُفَّارِ، فجاء في المعنى تحليق بليغ.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٦ الى ٧]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)
وقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ [فِيهِمْ] «٤» أي: في إبراهيم والذين معه، وباقي الآية
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٦٠) عن مجاهد برقم: (٣٣٩٤١) وعن قتادة برقم: (٣٣٩٤٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٩٥)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٣٤٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٣٠٤)، وعزاه لعبد بن حميد.
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٦١)، برقم: (٣٣٩٤٧)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٩٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٣٤٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٣٠٤)، وعزاه لعبد بن حميد.
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٦١)، برقم: (٣٣٩٤٨)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٩٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٣٤٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٣٠٤)، وعزاه لابن المنذر، والحاكم وصححه.
(٤) سقط في: د.
بَيِّنٌ، وروي أَنَّ هذهِ الآياتِ لما نزلت، وَعَزَمَ المؤمنون على امتثالها، وَصَرْمِ حِبَالِ الكَفَرَةِ- لحقهم تَأَسُّفٌ وهمٌّ من أَجل قراباتهم إذ لم يؤمنوا، ولم يهتدوا، حَتَّى يكونَ بينهم التوادُدُ والتواصُلُ، فنزلت: عَسَى اللَّهُ... الآية: مؤنسةً في ذلك، ومُرْجِيةً أَنْ يقعَ، فوقع ذلك بإسلامهم في الفتح، وصار الجميعُ إخواناً، وعسى من اللَّه واجبةُ الوقوع.
ت: قد تقدم تحقيقُ القولِ في عَسَى في سورة القصص، فأغنى عن إعادته.
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٨ الى ١١]
لاَّ يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)
وقوله تعالى: لاَّ يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ.... الآية: اختلف في هؤلاء الذين لم يَنْهَ عنهم أنْ يُبَرُّوا، فقيل: أراد المؤمنين التاركين للهجرة، وقيل: خُزَاعَةَ وقبائلَ من العرب، كانوا مظاهرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم/ ومُحِبِّينَ لظهوره، وقيل: أراد النساءَ والصبيان من الكَفَرَةِ، وقيل: أراد مِنْ كُفَّارِ قريش مَنْ لم يقاتلْ ولا أخرج، ولم يُظْهِرْ سُوءاً وعلى أَنَّها في الكفار فالآية منسوخةٌ بالقتال، والذين قاتلوا في الدين وأخرجوهم هم مَرَدَةُ قريش.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ الآيةُ نزلَتْ إثرَ صلح الحديبية وذلك أَنَّ ذلك الصلحَ تَضَمَّنَ أَنَّ مَنْ أتى مُسْلِماً من أهل مَكَّةَ، رُدَّ إليهم، سَواءٌ كان رجلاً أو امرأةً، فَنَقَضَ اللَّهُ تعالى من ذلك أَمْرَ النساء بهذه الآية، وحكم بأَنَّ المهاجرة المؤمنةَ لا تردّ إلى دار الكفر، وفَامْتَحِنُوهُنَّ: معناه: جربوهن واستخبروا حقيقةَ ما عندهنَّ.
وقوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ إشارة إلى الاسترابة ببعضهنَّ.
ت: وقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ... الآية: العلم هنا: بمعنى الظن، وذكر اللَّه تعالى العِلَّةَ في أَلاَّ يُرَدَّ النساءُ إلى الكُفَّارِ وهو امتناعُ الوطء وحُرْمَتُهُ.
420
وقوله تعالى: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا... الآية: أمر بأَنْ يؤتى الكُفَّارُ مهورَ نسائهم التي هاجرنَ مؤمناتَ، ورفع سبحانه الجناحَ في أَنْ يتزوجنَ بصدقاتٍ هي أجورهِن، وأمر المسلمين بفراق الكافراتِ وأَلاَّ يتمسكوا بعصمهن، فقيل: الآية في عابداتِ الأوثان ومَنْ لا يجوزُ نكاحُها ابتداءً، وقيل: هي عامَّةٌ نُسِخَ منها نساءُ أهل الكتاب، والعِصَمُ: جمع عِصْمَة، وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية، وأمر تعالى أَنْ يسأل أيضاً المؤمنون: ما أنفقوا؟ فرُوِيَ عنِ ابن شهاب أَنَّ قريشاً لَمَّا/ بلغهم هذا الحكم، قالوا: نحن لا نرضى بهذا الحكم، ولا نَلْتَزِمُهُ، ولا ندفع لأحد صَدَاقاً، فنزلت بسبب ذلك هذه الآيةُ الأخرى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ... الآية: فأمر اللَّه تعالى المؤمنين أنْ يدفعوا إلى مَن فَرَّتْ زوجتُه ففاتتْ بنفسها إلى الكُفَّارِ صَدَاقَهُ الذي أنفق، واخْتُلِفَ: مِنْ أَيِّ مَالٍ يُدْفَعُ إليه الصَّدَاقُ؟ فقال ابن شهاب «١» : يُدْفَعُ إليه من الصدقات التي كانت تُدْفَعُ إلى الكفار بسبب مَنْ هاجر من أزواجهم، وأزال اللَّه دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه، قال ع «٢» : وهذا قول صحيح يقتضيه قوله: فَعاقَبْتُمْ وقال قتادة «٣» وغيره: يُدْفَعُ إليه من مغانم المغازي، وقال هؤلاء: التعقيب هو الغزو والمغنم، وقال ابن شهاب «٤» أيضاً: يدفع إليه مِنْ أيِّ وجوه الفيء أمكن، والمعاقبة في هذه الآية ليستْ بمعنى مجازاة السوء بسوءٍ، قال الثعلبي: وقرأ مجاهد: «فَأَعْقَبْتُمْ» «٥» وقال: المعنى: صنعتم بهم كما صنعوا بكم، انتهى، قال ع «٦» : أي: وذلك بأنْ يفوت إليكم شيء من أزواجهم، وهكذا هو التعاقب على الجَمَلِ والدَّوَابِّ أنْ يركبَ هذا عقبة وهذا عقبة، ويقال: عاقب الرجلُ صاحِبَه في كذا، أي: جاء فِعْلُ كُلِّ واحد منهما بعقب فعل الآخر، وهذه الآية كلّها قد ارتفع حكمها.
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٧١)، برقم: (٣٣٩٩٤)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٩٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٩٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٣٠٩)، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي داود في «ناسخه»، وابن جرير، وابن المنذر.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٩٨).
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٧٢)، برقم: (٣٤٠٠٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٩٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٩٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٣٠٩)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٧٢)، برقم: (٣٤٠٠٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ٢٩٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٣٥٢).
(٥) وقرأ بها الحسن.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٥٦)، و «المحتسب» (٢/ ٣٢٠)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٩٨).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٩٨).
421

[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٢ الى ١٣]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ... الآية: هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على الصَفَا، وهي كانت في المعنى بَيْعَةِ الرجال قَبْلَ فرض القتال.
ت: وخرَّج البخَاريُّ بسنده عن عائشة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كَانَ/ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ بهذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ الآية «١».
وكذا روى البخاريُّ من طريق ابن عباس أَنَّهُ ع تَلاَ عَلَيْهِنَّ الآيةَ يَوْمَ الْفِطْرَ عَقِبَ الصَّلاَةِ «٢»، وَنَحْوُهُ عن أُمِّ عطيةَ في البخاري: «وَقَرَأَ عَلَيْهِنَّ الآيَةَ أيْضاً في ثَانِي يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ» «٣» وكلام ع: يُوهِمُ أَنَّ الآيةَ نزلت في بيعة النساء يومَ الفتح، وليس كذلك وإنَّما يريد أَنَّه أعاد الآيةَ على مَنْ لم يبايعه من أهل مَكّة لِقُرْبِ عهدهم بالإسلام، واللَّه أعلم، والإتيان بالبهتان: قال أكثر المفسرين: معناه أنْ تَنْسِبَ إلى زوجها ولداً ليس منه، قال ع «٤» : واللفظ أَعَمُّ من هذا التخصيص.
وقوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ: يعم جميع أوامر الشريعة، فَرْضَهَا وَنَدْبَهَا، وفي الحديث: «أَنَّ جَمَاعَةَ نُسْوَةٍ قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُبَايِعُكَ عَلَى كَذَا وَكَذَا الآية، فلمّا فرغن قال صلّى الله عليه وسلّم: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ، فَقُلْنَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنَّا لأَنْفُسِنَا» «٥».
وقوله تعالى: فَبايِعْهُنَّ أي: أمض لَهُنَّ صفقة الإيمان بأنْ يُعْطِينَ ذلك من أنفسهن، ويُعْطَيْنَ عليه الجَنَّةَ، واخْتُلِفَ في هيئة مبايعته صلّى الله عليه وسلّم النساءَ بعد الإجماع على أَنَّهُ لم تَمَسَّ يَدُهُ يَدَ امرأة أجنبيَّةٍ قَطُّ والمرويُّ عن عائشةَ وغيرِها: «أَنَّهُ بَايَعَ بِاللِّسَانِ قَوْلاً، وقال: إنّما قولي
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٥٠٤)، كتاب «التفسير» باب: إذا جاءك المؤمنات مهاجرات (٤٨٩١)، (٧/ ٥٢)، كتاب «المغازي» باب: غزوة خيبر (٤١٨٢)، ومسلم (٣/ ١٤٨٩)، كتاب «الإمارة» باب: كيفية بيعة النساء (٨٨/ ١٨٦٦)، وابن ماجه (٢/ ٩٥٩- ٩٦٠)، كتاب «الجهاد» باب: بيعة النساء (٢٨٧٥)، وأحمد (٦/ ٢٧٠).
(٢) أخرجه البخاري (٤٨٩٥).
(٣) أخرجه البخاري (٤٨٩٢).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٩٩).
(٥) أخرجه ابن ماجه (٢/ ٩٥٩)، كتاب «الجهاد» باب: بيعة النساء (٢٨٧٤).
422
لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» «١».
وقَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: هم اليهود في قول ابن زيد وغيره «٢»، ويأسهم من الآخرة: هو يأسهم من نعيمها مع التصديق بها، وقال ابن عباس «٣» : قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: في هذه الآية/ كُفَّارُ قريش.
وقوله: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ: على هذا التأويل هو على ظاهره في اعْتِقَادِ الكَفَرَةِ إذَا مَاتَ لَهُمْ حَمِيمٌ قَالوا: هَذَا آخِرُ العَهْدِ به لا يبعث أبدا.
(١) ينظر: حديث عائشة السابق في المبايعة.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٠٠).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٠٠).
423
Icon