مدنية، وهي ثنتا عشرة آية، ومائتان وسبع وأربعون كلمة، وألف وستون حرفا.
ﰡ
قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، وذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء، واشتراك الخطاب في الطلاق في أول تلك السورة يشترك مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة؛ لأن الطلاق في أكثر الصور يشتمل على تحريم ما أحل الله.
وأما تعلّق أول هذه السورة بآخر السورة فلأن المذكور في آخر تلك السورة يدلّ على عظمة حضرة الله تعالى وعلى كمال قدرته وعلمه، ولما كان خلق السماوات والأرض، وما بينهما من العجائب والغرائب مما ينافي القدرة على تحريم ما أحلّ الله، فلهذا قال: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾.
فصل في سبب نزول الآية
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يمكثُ عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطأت أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليها فلتقل: إني أجد ريح مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له، فنزل: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ إلى قوله: ﴿إِن تَتُوبَآ﴾ لعائشة وحفصة».
ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العسل حفصة، وفي الأولى زينب.
وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس: أنه شربه عند سودة.
وقد قيل: إنما هي أمّ سلمة، رواه أسباط عن السديِّ.
وقال عطاء بن أبي مسلم.
قال ابن العربي: «وهذا كله جهل، أو تصور بغير علمٍ».
فقال باقي نساه حسداً وغيرة لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير.
والمغافير: بقلة أو صمغة متغيّرة الرائحة، فيها حلاوة، واحدها: مغفور.
وجَرَسَتْ: أكلت، والعُرْفُطُ: نبت له ريح كريح الخمرِ.
وكان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك.
وقيل: إن التي حرّم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك «الإسكندرية».
قال ابنُ إسحاق: هي من كورة «أنْصِنا» من بلد يقال له: «حفْن»، فواقعها في بيت حفصة.
روى الدارقطني عن ابن عباسٍ عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قال: «دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأم ولده، مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها، فقالت له: تدخلها بيتي؟ ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك، فقال لها: لا تذكري هذا لعائشة، فهي عليّ حرام إن قربتها، قالت حفصة: فكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لا تَذْكُرِيهِ لأَحدٍ «، فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهراً، فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلةً، فأنزل الله تعالى: ﴿يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ » الآية.
قال القرطبي: أصح هذه الأقوال أولها، وأضعفها أوسطها.
قال ابن العربي: «أما ضعفه في السند، فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الموهوبة ليس تحريماً لها؛ لأن من رد ما وُهِبَ له لم يَحْرُمْ عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل، وأما ما روي أنه حرم مارية القبطية، فهو أمثل في السند، وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح بل روي مرسلاً، وإنما الصحيح أنه كان في العسل، وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة، فحلف أن لا يشربه، وأسر ذلك، ونزلت الآية في الجميع».
فصل في هل التحريم يمين؟
قوله تعالى: ﴿لِمَ تُحرِّمُ﴾ إن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حرم ولم يحلف، فليس ذلك بيمين، ولا يحرم قول الرجل: «هذَا عليَّ حَرامٌ» شيئاً، حاشا الزوجة.
وقال أبو حنيفة: أذا أطلق حمل على المأكول والمشروب، دون الملبوس، وكانت يميناً توجب الكفارة.
وقال زفر: هو يمين في الكل، حتى في الحركة والسكون، واستدل المخالف بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حرَّم العسل، فلزمته الكفَّارة، وقد قال تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ فسماه يميناً.
قال القرطبي: ودليلنا قول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا﴾ [المائدة: ٨٧]. وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: ٥٩].
فذم اللَّهُ المُحَرِّمَ للحلال، ولم يوجب عليه كفارة.
قال الزجاجُ: ليس لأحدٍ أن يحرم ما أحلَّ الله، ولم يجعل لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحرم إلا ما حرم الله عليه.
فمن قال لزوجته أو أمته، أنت عليَّ حرام، فإن لم يَنْوِ طلاقاً، ولا ظهاراً فهذا اللفظ يوجب عليه كفارة يمين، ولو خاطب بهذا اللفظ جمعاً من الزوجات والإماء، فعليه كفارة واحدة.
ولو حرم على نفسه طعاماً، أو شيئاً آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك، ويجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.
فصل في اختلافهم هل التحريم طلاق؟
إذا قال الرَّجُلُ لزوجته: «أنْتِ عليَّ حَرَامٌ».
قال القرطبيُّ: «فيه ثمانية عشر قولاً:
أحدها: لا شيء عليه، وبه قال الشعبي، ومسروق، وربيعة، وأبو سلمة، وأصبغ، وهو عندهم كتحريم الماءِ، والطعام، قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧]. والزوجة من الطَّيِّبات، ومما أحل الله.
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ﴾ [النحل: ١١٦].
وروى البغويُّ في تفسيره: أن حفصة لما أخبرت عائشة، غضبت عائشةُ، ولم تزل بنبي الله حتى حلف ألاَّ يقربها، فقيل له: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ ؟ أي: لم تمتنع منه بسبب اليمين، يعني: أقدم عليه، وكفِّر.
وثانيها: أنه يمين يكفرها، قاله أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - والأوزاعي، وهو مقتضى الآية.
قال سعيدُ بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ: إذا حرم الرجل عليه امرأته، فإنما هي يمينٌ بكفرها.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لَقَدْ كَان لكُمْ في رسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنةٌ.
يعني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان حرم جاريته، فقال تعالى: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ إلى قوله: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ فكفَّر عن يمينه، وصيَّر الحرام يميناً، خرجه الدارقطني.
وثالثها: أنه يجب فيها كفَّارة، وليست بيمين، قاله ابن مسعود؛ لأن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفَّارة على المعنى، والآية ترده.
ورابعها: هي ظهارٌ، ففيها كفارة الظهارِ، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق، ولأنه إنما حرم وطؤها، والظهار أقل درجات التحريم.
وخامسها: أنه إن نوى الظهار كان ظهاراً، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريماً مطلقاً وجبت كفارة يمين، وإن لم يَنْوِ فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي.
وسادسها: أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب، والزهري، وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون.
وسابعها: أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان، وزيد بن ثابت، ورواه ابن
وثامنها: أنها ثلاث تطليقات. قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت أيضاً، وأبو هريرة؛ لأنه التحريم المتيقن.
وتاسعها: هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في المدخول بها. قاله علي بن زيد والحسن والحكم، وهو مشهور مذهب مالك؛ لأن غير المدخول بها تبينها الطلقة، وتحرمها.
وعاشرها: هي ثلاث، ولا ينوي بحال، ولا في محل، وإن لم يدخل بها، قاله عبد الملك في «المبسوطة»، وبه قال ابن أبي ليلى؛ لأنه أخذ بالحُكْمِ الأعظم لهما؛ لأنه لو صرح بالثلاث لغير المدخول بها لنفذ.
وحادي عشرها: هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي المدخول بها ثلاث، قاله أبو مصعب، ومحمد بن الحكم.
وثاني عشرها: أنه إن نوى الطَّلاق، والظهار كان ما نوى، وإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً، فإن نوى اثنتين ألزمناه.
وثالث عشرها: أنه لا ينعقد نيّة الظِّهار، وإنما يكون طلاقاً. قاله ابن القاسم.
ورابع عشرها: قال يحيى بن عمر: يكون طلاقاً، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها، حتى يكفر كفارة الظِّهار.
وخامس عشرها: إن نوى الطلاق، فما أراد من أعداده، وإن نوى واحدة فهي رجعية، وهو قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.
وساس عشرها: إن نوى ثلاثاً، فثلاثاً، وإن نوى واحدة، فواحدة، وإن نوى يميناً، فهي يمينٌ، وإن لم ينو شيئاً، فلا شيء عليه، وهو قول سفيان، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور، إلا أنهما قالا: لم ينو شيئاً فهي واحدة.
وسابع عشرها: له نيتُهُ ولا يكون أقلّ من واحدة، قاله ابن شهاب، وإن لم ينو شيئاً لم يَكُنْ شيئاً.
قال ابن العربي: «ورأيت لسعيد بن جبير، وهو:
الثامن عشر: أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهاراً، ولست أعلم لها وجهاً، ولا يبعد في المقالات عندي».
هذا كله في الزوجة، وأما الأمةُ [فليس] فيها شيء من ذلك إلاَّ أن ينوي العتق عند مالك، وذهب عامة العلماء إلى أن عليهن كفَّارة يمين.
قال ابن العربي:» والصحيح أنها طلقة واحدة؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله، وهو الواحدة إلا أن يعدده، فكذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول: أنت عليَّ حرامٌ إلا بعد زوج، فهذا نصف في المراد «.
فصل في هذا الاستفهام
قال ابن الخطيب: قال صاحب» النظم «: قوله:» لِمَ تُحَرِّمُ «استفهام بمعنى الإنكار، وذلك من اللَّه نهيٌ، وتحريم الحلال مكروه؛ لأن الحلال لا يحرم إلا بتحريمِ اللَّهِ تعالى.
فإن قيل: قوله: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب، وخطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟.
فالجوابُ: أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب، بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.
فإن قيل: تحريم ما أحلَّ اللَّهُ غير ممكن، فكيف قال: لم تحرم ما أحل الله؟ فالجواب: أن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج؛ لاعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ امتنع عن الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً؛ فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله - تعالى - فقد كفر، فكيف يضاف إلى الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مثل هذا؟.
قوله: ﴿تَبْتَغِي﴾.
ويجوز أن يكون تفسيراً ل» تُحَرِّمُ «.
ويجوز أن يكون مستأنفاً، فهو جواب للسؤال.
و» مَرْضَاتَ «اسم مصدر، وهو الرضا، وأصله» مرضوة «.
والمصدر هنا مضاف إما للمفعول، أو للفاعل، أي: ترضي أنت أزواجك أو أن ترْضَيْنَ.
والمعنى: يفعل ذلك طلباً لرضاهن ﴿والله غَفُورٌ﴾ أي: لما أوجب المعاتبة ﴿رَّحِيمٌ﴾ برفع المُؤاخذةِ.
قال القرطبيُّ:» وقد قيل: إن ذلك كان ذنباً من الصَّغائر، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة، ولا كبيرة «.
قوله: ﴿قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾.
﴿فَرَضَ الله لَكُمْ﴾ أي: بيَّن لكم، كقوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ [النور: ١] وقيل: قد أوجب الله.
وقال صاحب «النظم» : إذا وصل «فَرَضَ» ب «عَلَى» لم تحتمل غير الإيجاب كقوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب: ٥٠]، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين.
قوله: ﴿تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾.
تحليل اليمين كفَّارتها، أي: إذا أحللتم استباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة «المائدة» :﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [الآية: ٨٩].
قال القرطبيُّ: وتحصل من هذا أن من حرم شيئاً من المأكول، أو المشروب لم يحرم عليه؛ لأن الكفارة لليمين لا للتحريم، وأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيءٍ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرم، فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائنٌ، وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثاً، وإن قال: نويتُ الكذب دينَ فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء، وإن قال: كل حلال عليه حرام، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يميناً، ويكون في الكفارة وجهان:
قوله: ﴿تَحِلَّةَ﴾.
فأما المعتل اللام نحو «زكَّى» ومهموزها نحو: «نبَّأ» فمصدرهما «تَفْعِلَةٌ» نحو: «تَزْكِيَةٌ، وتَنْبِئَةٌ».
على أنه قد جاء «التفعيل» كاملاً في المعتل، نحو: [الرجز]
٤٧٨٤ - بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا... وأصلها: «تَحْلِلَة» ك «تَكْرِمَة» فأدغمت، وانتصابها على المفعول به.
فصل في تكفير النبي عن هذه اليمين
قيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كفر عن يمينه.
وقال الحسنُ: لم يكفر، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر.
وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة، والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك، وقد تقدم عن زيد بن أسلم أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كفر بعتق رقبةٍ.
وعن مقاتل: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعتق رقبةً في تحريم مارية. والله أعلم.
فصل في الاستثناء في المين
قبل: قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين، فبين في قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله﴾ [الأحزاب: ٣٨]، أي: فيما شرعه له في النساء المحللات، أي: حلل لكم ملك اليمين، فلم تحرم مارية في نفسك مع تحليل الله إياها لك.
وقيل: تحلة اليمين الاستثناء، أي: فرض اللَّهُ لكم الاستثناء المخرج عن اليمين، ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الأيمان متى شاء، وإن تخَلَّلَ مُدَّةٌ.
وعند الجمهور لا يجوز إلا متصلاً، فكأنه قال: «استثن بعد هذا فيما تحلف عليه» وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة.
قال القرطبيُّ: «والأصل» تحللة «، فأدغمت، و» تَفْعِلَة «من مصادر» فَعَّل «كالتوصية والتسمية، فالتحلية تحليل اليمين، فكأن اليمين عقد، والكفارة حلٌّ وقيل: التحلة الكفارة، أي: أنها تحلُّ للحالف ما حرَّم على نفسه، أي إذا كفر صار كمن لم يحلف».
فصل
قال ابن الخطيب: وتحلة القسم على وجهين:
أحدهما: تحليله بالكفارة كما في هذه الآية.
وثانيهما: أن يستعمل بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر، كما روي من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَنْ تَلِجَ النَّارَ إلا تحِلَّةَ القسمِ» أي: زماناً يسيراً.
وقرىء: «كفَّارة أيمانِكُم».
قوله: ﴿والله مَوْلاَكُمْ﴾.
أي: وليّكم وناصركم في إزالة الحظر، فيما تحرمونه على أنفسكم، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفَّارة، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة ﴿وَهُوَ العليم الحكيم﴾.
قال القرطبي١ : ودليلنا قول الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا ﴾[ المائدة : ٨٧ ]. وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ ﴾[ يونس : ٥٩ ].
فذم اللَّهُ المُحَرِّمَ للحلال، ولم يوجب عليه كفارة.
قال الزجاجُ٢ : ليس لأحدٍ أن يحرم ما أحلَّ الله، ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه.
فمن قال لزوجته أو أمته، أنت عليَّ حرام، فإن لم يَنْوِ طلاقاً، ولا ظهاراً فهذا اللفظ يوجب عليه كفارة يمين، ولو خاطب بهذا اللفظ جمعاً من الزوجات والإماء، فعليه كفارة واحدة.
ولو حرم على نفسه طعاماً، أو شيئاً آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك، ويجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة.
فصل في اختلافهم هل التحريم طلاق ؟
إذا قال الرَّجُلُ لزوجته :«أنْتِ عليَّ حَرَامٌ ».
قال القرطبيُّ٣ :«فيه ثمانية عشر قولاً :
أحدها : لا شيء عليه، وبه قال الشعبي، ومسروق، وربيعة، وأبو سلمة، وأصبغ، وهو عندهم كتحريم الماءِ، والطعام، قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ ﴾[ المائدة : ٨٧ ]. والزوجة من الطَّيِّبات، ومما أحل الله.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ ﴾ [ النحل : ١١٦ ].
فما لم يحرمه الله، فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراماً، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله : هو حرام عليَّ، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه، وهو قوله :" واللَّهِ لا أقربُهَا بَعْدَ اليَوْمِ ".
وروى البغويُّ في تفسيره٤ : أن حفصة لما أخبرت عائشة، غضبت عائشةُ، ولم تزل بنبي الله حتى حلف ألاَّ يقربها، فقيل له :﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ ؟ أي : لم تمتنع منه بسبب اليمين، يعني : أقدم عليه، وكفِّر.
وثانيها : أنه يمين يكفرها، قاله أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعائشة - رضي الله عنهم - والأوزاعي، وهو مقتضى الآية.
قال سعيدُ بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ : إذا حرم الرجل عليه امرأته، فإنما هي يمينٌ بكفرها.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لَقَدْ كَان لكُمْ في رسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنةٌ.
يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته، فقال تعالى :﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ إلى قوله :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ فكفَّر عن يمينه، وصيَّر الحرام يميناً٥، خرجه الدارقطني.
وثالثها : أنه يجب فيها كفَّارة، وليست بيمين، قاله ابن مسعود ؛ لأن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفَّارة على المعنى، والآية ترده.
ورابعها : هي ظهارٌ، ففيها كفارة الظهارِ، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق، ولأنه إنما حرم وطؤها، والظهار أقل درجات التحريم.
وخامسها : أنه إن نوى الظهار كان ظهاراً، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريماً مطلقاً وجبت كفارة يمين، وإن لم يَنْوِ فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي.
وسادسها : أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب، والزهري، وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون.
وسابعها : أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان، وزيد بن ثابت، ورواه ابن خويزمنداد عن مالك ؛ ولأن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة.
وثامنها : أنها ثلاث تطليقات. قاله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت أيضاً، وأبو هريرة ؛ لأنه التحريم المتيقن.
وتاسعها : هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في المدخول بها. قاله علي بن زيد والحسن والحكم، وهو مشهور مذهب مالك ؛ لأن غير المدخول بها تبينها الطلقة، وتحرمها.
وعاشرها : هي ثلاث، ولا ينوي بحال، ولا في محل، وإن لم يدخل بها، قاله عبد الملك في «المبسوطة »، وبه قال ابن أبي ليلى ؛ لأنه أخذ بالحُكْمِ الأعظم لهما ؛ لأنه لو صرح بالثلاث لغير المدخول بها لنفذ.
وحادي عشرها : هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي المدخول بها ثلاث، قاله أبو مصعب، ومحمد بن الحكم.
وثاني عشرها : أنه إن نوى الطَّلاق، والظهار كان ما نوى، وإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً، فإن نوى اثنتين ألزمناه.
وثالث عشرها : أنه لا ينعقد نيّة الظِّهار، وإنما يكون طلاقاً. قاله ابن القاسم.
ورابع عشرها : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقاً، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها، حتى يكفر كفارة الظِّهار.
وخامس عشرها : إن نوى الطلاق، فما أراد من أعداده، وإن نوى واحدة فهي رجعية، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين.
وساس عشرها : إن نوى ثلاثاً، فثلاثاً، وإن نوى واحدة، فواحدة، وإن نوى يميناً، فهي يمينٌ، وإن لم ينو شيئاً، فلا شيء عليه، وهو قول سفيان، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور، إلا أنهما قالا : لم ينو شيئاً فهي واحدة.
وسابع عشرها : له نيتُهُ ولا يكون أقلّ من واحدة، قاله ابن شهاب، وإن لم ينو شيئاً لم يَكُنْ شيئاً.
قال ابن العربي٦ :«ورأيت لسعيد بن جبير، وهو :
الثامن عشر : أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهاراً، ولست أعلم لها وجهاً، ولا يبعد في المقالات عندي ».
قال القرطبي٧ : وقد روى الدارقطني عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس : أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عليَّ حراماً، فقال : كذبت، ليست عليك بحرامٍ، ثم تلا :﴿ يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ ؟ عليك أغلظ الكفَّارات عتق رقبة٨، وقد قال جماعة من المفسرين : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم قاله زيد بن أسلم وغيره ".
هذا كله في الزوجة، وأما الأمةُ [ فليس ]٩ فيها شيء من ذلك إلاَّ أن ينوي العتق عند مالك، وذهب عامة العلماء إلى أن عليهن كفَّارة يمين.
قال ابن العربي١٠ :" والصحيح أنها طلقة واحدة ؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله، وهو الواحدة إلا أن يعدده، فكذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر، مثل أن يقول : أنت عليَّ حرامٌ إلا بعد زوج، فهذا نص في المراد ".
فصل في هذا الاستفهام
قال ابن الخطيب١١ : قال صاحب " النظم " : قوله :" لِمَ تُحَرِّمُ " استفهام بمعنى الإنكار، وذلك من اللَّه نهيٌ، وتحريم الحلال مكروه ؛ لأن الحلال لا يحرم إلا بتحريمِ اللَّهِ تعالى.
فإن قيل : قوله :﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم ؟.
فالجوابُ : أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب، بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.
فإن قيل : تحريم ما أحلَّ اللَّهُ غير ممكن، فكيف قال : لم تحرم ما أحل الله ؟ فالجواب : أن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج ؛ لاعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً ؛ فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله - تعالى - فقد كفر، فكيف يضاف إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - مثل هذا ؟.
قوله :﴿ تَبْتَغِي ﴾.
يجوز أن يكون حالاً من فاعل " تُحَرِّمُ "، أي : لم تحرم مبتغياً به مرضات أزواجك.
ويجوز أن يكون تفسيراً ل " تُحَرِّمُ ".
ويجوز أن يكون مستأنفاً، فهو جواب للسؤال.
و " مَرْضَاتَ " اسم مصدر، وهو الرضا، وأصله " مرضوة ".
والمصدر هنا مضاف إما للمفعول، أو للفاعل، أي : ترضي أنت أزواجك أو أن ترْضَيْنَ.
والمعنى : يفعل ذلك طلباً لرضاهن ﴿ والله غَفُورٌ ﴾ أي : لما أوجب المعاتبة ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ برفع المُؤاخذةِ.
قال القرطبيُّ١٢ :" وقد قيل : إن ذلك كان ذنباً من الصَّغائر، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة، ولا كبيرة ".
قوله :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾.
﴿ فَرَضَ الله لَكُمْ ﴾ أي : بيَّن لكم، كقوله تعالى :﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ﴾ [ النور : ١ ] وقيل : قد أوجب الله.
وقال صاحب «النظم »١٣ : إذا وصل «فَرَضَ » ب «عَلَى » لم تحتمل غير الإيجاب كقوله :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ ﴾[ الأحزاب : ٥٠ ]، وإذا وصل باللام احتمل الوجهين.
قوله :﴿ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾.
تحليل اليمين كفَّارتها، أي : إذا أحللتم استباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة «المائدة » :﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ﴾[ الآية : ٨٩ ].
قال القرطبيُّ١٤ : وتحصل من هذا أن من حرم شيئاً من المأكول، أو المشروب لم يحرم عليه ؛ لأن الكفارة لليمين لا للتحريم، وأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيءٍ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرم، فإذا حرم طعاماً فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائنٌ، وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثاً، وإن قال : نويتُ الكذب دينَ فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء، وإن قال : كل حلال عليه حرام، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يميناً، ويكون في الكفارة وجهان :
قوله :﴿ تَحِلَّةَ ﴾.
مصدر «حَلّل » مضعفاً، نحو «تكرمة »، وهذان ليسا [ مقيسين ]١٥، فإن قياس مصدر «فَعَّلَ » «التفعيل » إذا كان صحيحاً غير مهموزٍ.
فأما المعتل اللام نحو «زكَّى » ومهموزها نحو :«نبَّأ » فمصدرهما «تَفْعِلَةٌ » نحو :«تَزْكِيَةٌ، وتَنْبِئَةٌ ».
على أنه قد جاء «التفعيل » كاملاً في المعتل، نحو :[ الرجز ]
٤٧٨٤ - بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيَّا ***. . . ١٦
وأصلها :«تَحْلِلَة » ك «تَكْرِمَة » فأدغمت، وانتصابها على المفعول به.
فصل في تكفير النبي عن هذه اليمين
قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه.
وقال الحسنُ : لم يكفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر١٧.
وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة، والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الأمة تقتدي به في ذلك، وقد تقدم عن زيد بن أسلم أنه - عليه الصلاة والسلام - كفر بعتق رقبةٍ.
وعن مقاتل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبةً في تحريم مارية١٨. والله أعل
٢ ينظر: معاني القرآن وإعرابه ٥/١٩٢..
٣ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١١٩..
٤ ينظر معالم التنزيل (٤/٣٦٣)..
٥ أخرجه الدارقطني (٤/٤٠) من طريق هشام عن يحيى عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
والحديث متفق عليه من طريق هشام عن يحيى بهذا الإسناد إلى قوله أسوة حسنة.
أخرجه البخاري ٩/٢٨٧، كتاب الطلاق، باب: لم تحرم ما أحل الله لك(٥٢٦٦) ومسلم ٢/١١٠٠، كتاب الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق (١٨-١٤٧٣)..
٦ ينظر: أحكام القرآن (٤/١٨٤٨)..
٧ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٢٠..
٨ أخرجه النسائي في "الكبرى" (٤٩٠٦) والدارقطني (٤/٤٣) من طريق سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس..
٩ في أ: فلا يلزم..
١٠ ينظر: أحكام القرآن ٤/١٨٥٠..
١١ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٣٨..
١٢ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٢٢..
١٣ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٣٨..
١٤ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٢٢..
١٥ في أ: تفسير..
١٦ تقدم..
١٧ ذكره القرطبي في "تفسيره" ١٨/١٢٢..
١٨ ينظر المصدر السابق..
العامل فيه «اذكر» فهو مفعول به لا ظرف.
والمعنى: اذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه، يعني حفصة «حَدِيثاً» يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك.
وقال الكلبيُّ: أسرَّ إليها أن أباك عائشة يكونان [خليفتين] من بعدي على أمَّتي.
وقال ابن عباس: أسرّ أمر الخلافة بعده إلى حفصة، فذكرته حفصة.
﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ﴾ أخبرت عائشة لمصافاة كانت بينهما، وكانتا متظاهرتين على زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ﴾ أي: أطلعه الله على أنها قد نبأت به.
قوله: ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ﴾.
أصل «نَبَّأ وأنْبَأ، وأخبر وخبّر، وحدّث» أن يتعدى لاثنين [إلى] الأول بنفسها، وإلى الثاني بحرف الجر، وقد يحذف الجار تخفيفاً، وقد يحذف الأول للدلالة عليه، وقد جاءت الاستعمالات الثلاثة في هذه الآية فقوله: ﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ﴾ تعدى لاثنين، حذف أولهما، والثاني مجرور بالباء، أي: «نَبَّأتْ بِهِ غيْرهَا»، وقوله: ﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ﴾ ذكرهما، وقوله: ﴿مَنْ أَنبَأَكَ هذا﴾ ذكرهما، وحذف الجار.
وقرأ طلحة بن مصرف: «فلمَّا أنْبَأت»، وهما لغتان «نَبَّأ وأنْبَأ».
قوله: ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ﴾.
قرأ الكسائي: بتخفيف الراء.
قال القرطبي: «وبها قرأ علي، وطلحة بن مصرف، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة والكلبي والأعمش عن أبي بكر».
قال عطاء: كان أبو عبد الرحم السلمي إذا قرأ عليه الرجل «عَرَّفَ» مشددة حصبه بالحجارة.
وقرأ الباقون: بتشديد الراء.
فالتثقيل يكون المفعول الأول معه محذوفاً، أي «عرَّفَهَا بَعْضَه»، أي: وقفها عليه على سبيل العَتْب.
وأما التخفيف: فمعناه جازى على بعضه، وأعرض عن بعض.
قال الفرَّاءُ: وتأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: «عَرَفَ» بالتخفيف، أي: غضب فيه، وجازى عليه، كقولك لمن أساء إليك: «لأعرِفنَّ لك ما فعلت» أي: لأجَازِينَّك عليه.
فصل في نزول الآية
قال المفسرون: إنه أسرَّ إلى حفصة شيئاً فحدثت به غيرها، فطلقها مجازاة على بعضه، ولم يؤاخذها بالباقي، وهو من قبيل قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله﴾ [البقرة: ١٩٧] أي: يجازيكم عليه، وقوله: ﴿أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [النساء: ٦٣]، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأن الله - تعالى - أطلعه على جميع ما أنبأت به غيرها؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ﴾.
وقرأ عكرمة: «عَرَّافَ» بألف بعد الراء.
وخرجت على الإشباع، كقوله: [الرجز]
٤٧٨٥ - أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ... وقيل: هي لغة يمانية، يقولون: «عراف زيد عمراً».
وإذا ضمنت هذه الأفعال الخمسة معنى «أعلم» تعدت لثلاثة.
وقال الفارسي: «تعدَّت بالهمزة أو التضعيف».
وهو غلط، إذا يقتضي ذلك أنها قبل التضعيف، والهمزة كانت متعدية لاثنين، فاكتسبت بالهمزة، أو التضعيف ثالثاً، والأمر ليس كذلك اتفاقاً.
فصل في تفسير الآية
قال السديُّ: عرف بعضه، وأعرض عن بعض تكرماً.
وقال الحسنُ: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى: ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ﴾.
قال المفسرون: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جازى حفصة، بأن طلقها طلقة واحدة، فلما بلغ ذلك عمر، فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طلقك، فأمره جبريل بمراجعتها، وشفع فيها، واعتزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نساءه شهراً، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم، حتى نزلت آية التخيير كما تقدم.
وقيل: هم بطلاقها، حتَّى قال له جبريل: لا تطلقها، فإنها صوَّامة قوَّامة، وإنها من نسائك في الجنة، فلم يطلقها.
قوله: ﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ﴾، أي: أخبر حفصة بما أظهره الله عليه، قالت: ﴿مَنْ أَنبَأَكَ هذا﴾ يا رسول الله عني، فظنت أن عائشة أخبرته، فقال - عليه السلام -: ﴿نَبَّأَنِيَ العليم الخبير﴾ الذي لا يخفى عليه شيء. وقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما رأى الكراهية في وجه حفصة حين رأته مع مارية أراد أن يتراضاها فأسرَّ إليها شيئين: تحريم الأمة على نفسه، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر، فأخبرت حفصة بذلك عائشة، وأطلع اللَّهُ نبيه عليه فعرف حفصة، وأخبرها بما أخبرت به عائشة، وهو تحريم الأمة ﴿وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ﴾ يعني عن ذكر الخلافة، كره رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينشر ذلك بين الناس، ﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ﴾ أي: أخبر حفصة بما أظهره اللَّهُ عليه، قالت حفصة: ﴿مَنْ أَنبَأَكَ هذا﴾ أي: من أخبرك بأني أفشيت السِّرَّ؟ «قال: ﴿نَبَّأَنِيَ العليم الخبير﴾ ».
قال ابن الخطيب: وصفه بكونه خبيراً بعدما وصفه بكونه عليماً لما أنّ في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم.
قوله: ﴿إِن تَتُوبَآ إِلَى الله﴾.
شرط في جوابه وجهان:
أحدهما: هو قوله: ﴿فَقَدْ صَغَتْ﴾.
والمعنى: إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التَّوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه.
و «صَغَتْ» مالت وزاغت عن الحق.
ويدل له قراءة ابن مسعود: «فقد زاغت».
والثاني: أن الجواب محذوف، وتقديره: فذلك واجب عليكما، أو فتاب الله عليكما قاله أبو البقاء، ودلّ على المحذوف ﴿فَقَدْ صَغَتْ﴾ ؛ لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب.
قال شهاب الدين: «وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب، وكيف يحسن أن يكون جواباً وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جواباً».
وقوله: ﴿قُلُوبُكُمَا﴾ من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيء تثنيتين لو قيل: «قَلبَاكُمَا»، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما؛ لأنه لا يشكل. وقد تقدم هذا في آية السرقة في المائدة.
ومن مجيء التثنية قوله: [الكامل]
٤٧٨٦ - فَتَخَالسَا نَفْسَيْهِمَا بنَوافِذٍ | كنَوافِذِ العُبُطِ الَّتِي لا تُرْقَع |
وقال ابن عصفور، لا يجوز الإفراد إلاَّ في ضرورة؛ كقوله: [الطويل]
٤٧٨٧ - حَمَامَةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمِي | سَقاكِ من الغُرِّ الغَوادِي مَطيرهَا |
وليس بغلط لكراهةِ توالي تثنيتين مع أمن اللبس.
وقوله: «إنْ تَتُوبَا» فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.
فصل في المراد بهذا الخطاب.
المراد بهذا الخطاب أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخين الكريمين: عائشة وحفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - حثّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ أي: زاغت ومالت عن الحق، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اجتناب جاريته واجتناب العسلِ، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب العسل والنِّساء.
وقيل: فقد مالتْ قُلوبكُمَا إلى التوبة.
قوله: ﴿وَإِن تَظَاهَرَا﴾.
أصله: «تَتَظاهَرَا» فأدغم، وهذه قراءة العامة.
وقرأ عكرمة: «تَتَظَاهَرَا» على الأصل.
والحسن وأبو رجاء، ونافع، وعاصم في رواية عنهما: بتشديد الظَّاء والهاء دون ألف، وكلها بمعنى المعاونةِ من الظهر؛ لأنه أقوى الأعضاء وأجلها.
فصل في معنى تتظاهرا
معنى تتظاهرا، أي: تتعاونا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمعصية والإيذاء.
روى مسلم عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: مكثت سنةً، وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجع وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت، حتى فرغ ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضَّأ، فلما رجع قلت: يا أمير المؤمنين، من اللَّتان تظاهرتا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟.
فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيع هيبةً لك، قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك. وذكر الحديث.
قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ﴾.
يجوز أن يكون «هو» فصلاً، و «مَولاهُ» خبره والمبتدأ جملة «إنَّ».
والمعنى: الله وليُّه وناصره، فلا يضره ذلك التَّظاهر منهما.
قوله: ﴿وَجِبْرِيلُ﴾.
يجوز أن يكون عطفاً على اسم الله تعالى.
والمعنى: الله وليه، وجبريل وليه، فلا يوقف على «مَولاهُ» ويوقف على جبريل.
ويكون ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ مبتدأ، «والملائكة» معطوفاً عليه، والخبر «ظَهِيرٌ» ورفع «
ويكون «جِبْريلٌ» وما بعده داخلين في الولاية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويكون «جبريل» ظهيراً له بدخوله في عموم الملائكة.
ويكون «الملائكةُ» مبتدأ، و «ظهيرٌ» خبره، وأفرد لأنه بزنة «فَعِيل».
قال القرطبيُّ: «هو بمعنى الجمع».
قال أبو علي: قد جاء «فعيل» للكثرة، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ [المعارج: ١١]. ومعنى: «ظهيرٌ» أي: أعوان، وهو في معنى ظهراء كقوله تعالى: ﴿وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾ [النساء: ٦٩].
ويجوز أن يكون الكلام تم عند قوله «مَولاهُ»، ويكون «جبريلُ» مبتدأ، وما بعده عطف عليه، و «ظهيرٌ» خبر الجميع، فتختص الولاية بالله، ويكون جبريل قد ذكر في المعاونة مرتين، مرة بالتنصيصِ عليه، ومرة بدخوله في عموم الملائكةِ.
وهذا عكس ما في «البقرة» في قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٨]، فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له، وهناك ذكر العام بعد الخاص، ولم يذكر الناس إلا القسم الأول.
وفي «جِبْريل» لغات تقدم ذكرها في «البقرة».
قوله: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
قال المسيِّبُ بن شريكٍ: ﴿وَصاَلِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أبو بكر.
وقال سعيد بن جبيرٍ: هو عمر.
وقال عكرمة: أبو بكر وعمر.
وروى شقيق عن عبد الله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: « ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ : أبو بكر وعمر».
وقيل: خيار المؤمنين، و «صالح» : اسم جنس، كقوله تعالى: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ﴾ [العصر: ١، ٢]. قاله الطبريُّ.
وقال العلاءُ بنُ زياد، وقتادة، وسفيان: هم الأنبياء.
وقال ابن زيد: هم الملائكة.
وقال السديُّ: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ليس لفظ الواحدِ، وإنما هم «صَالِحُو المُؤمِنينَ» فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
فصل في هذا التظاهر
قيل: كان التَّظاهر منهما في التحكيم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النفقة، ولهذا آلى منهن شهراً واعتزلهن.
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «دخل أبو بكرٍ يستأذن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجد النَّاس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحدٍ منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثُمَّ أقبل عمرُ، فاستأذن، فأذن له، فوجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالساً حوله نساؤه، واجماً ساكتاً، قال: فلأقولن شيئاً أضحكُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله أرأيت بنت خارجة تسألني النفقة، فقمت إليها، فوجأت عنقها فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:» هَنُّ حَولِي كما تَرَى يَسْألنَنِي النَّفقَة «فقام أبو بكر إلى عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً أبداً ليس عنده، ثم اعتزلهن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شهراً، أو تسعاً وعشرين، ثم نزلت عليه: ﴿يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ﴾ [الأحزاب: ٢٨] حتى بلغ ﴿لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: ٢٩] » الحديث.
الظَّاهر أنه مفرد، ولذلك كتب بالحاء دون واو الجمع.
وجوزوا أن يكون جمعاً - بالواو والنون - حذفت النون للإضافة، وكتب دون واو اعتباراً بلفظه، لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين، نحو: ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ [الشورى: ٢٤]. و ﴿يَدْعُ الداع﴾ [القمر: ٦]، و ﴿سَنَدْعُ الزبانية﴾ [العلق: ١٨]، إلى غير ذلك.
ومثل هذا ما جاء في الحديث: «أهْلُ القُرآنِ أهْلُ اللَّه وخاصَّتهُ».
قالوا: يجوز أن يكون مفرداً، وأن يكون جمعاً، كقوله: ﴿شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ [الفتح: ١١] وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لفظاً.
فإذا كتب هذا، فالأحسن أن يكتب بالواو لهذا الغرض، وليس ثمَّ ضرورة لحذفها كما في مرسوم الخطِ.
وجوز أبو البقاء في «جبريل» أن يكون معطوفاً على الضمير في «مولاهُ»، يعني المستتر، وحينئذٍ يكون الفصل بالضمير المجرور كافياً في تجويز العطف عليه.
وجوز أيضاً: أن يكون «جبريل» مبتدأ، و «صالحُ» عطف عليه، فالخبرُ محذوفٌ، أي: مواليه.
فصل في المراد بصالح المؤمنين
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أراد بقوله «وصَالحُ المؤمنين» يعني أبا بكر وعمر مواليين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على من عاداه، وناصرين له: وهو قول المقاتلين.
وقال الضحاكُ: خيار المؤمنين.
وقيل: كل من آمن وعمل صالحاً.
وقيل: كل من برىء من النفاقِ.
وقيل: الأنبياء.
وقيل: الخلفاء.
وقيل: الصحابة.
قوله: ﴿عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ﴾.
قيل: كل «عَسَى» في القرآن واجب إلا هذا.
قال النحويون: «إنْ طلَّقكُنَّ» شرط معترض بين اسم «عَسَى» وخبرها، وجوابه محذوفٌ، أو متقدم، أي «إنْ طلقَكُنَّ فَعَسى».
وأدغم أبو عمرو القاف في الكاف على رأي بعضهم.
قال: وهو أولى من ﴿يَرْزُقُكمْ﴾ [يونس: ٣١]، ونحوه لثقل التأنيثِ.
قوله: ﴿أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً﴾.
قرىء: مخففاً ومشدداً، كما تقدم في «الكهف».
والتبديل والإبدال بمعنى كالتنزيل والإنزال.
وقوله: ﴿أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ﴾.
لأنكن لو كنتن خيراً منهن ما طلقكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال معناه السديُّ.
وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الآخرة نساء خيراً منهن، وكان الله عالماً بأنه لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن طلقهن أبدله خيراً منهن تخويفاً لهن، كقوله تعالى: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨] وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجودِ من هو خير من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
فصل في الكلام على لفظ مسلمات
قوله: ﴿مُسْلِمَاتٍ﴾ إلى آخره. إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص.
قال سعيد بن جبير: يعني مخلصاتٍ.
وقيل: مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله خاضعات لله بالطاعة ﴿مُّؤْمِنَاتٍ﴾ أي: مصدقات بتوحيد الله.
وقيل: مصدقات بما أمرنَ به: ونهين عنه ﴿قَانِتَاتٍ﴾ مطيعات، والقنوت: الطاعة.
وقيل: داعياتٍ بتوحيد الله.
وقيل: مصليات «تائبات» أي: من ذنوبهن، قاله السديُّ.
وقيل: راجعاتٍ إلى أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تاركاتٍ لمحاب أنفسهن، ﴿عَابِدَاتٍ﴾ أي: كثيرات العبادةِ لله تعالى.
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد
وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان: مهاجرات.
قال زيد: وليس في أمة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض.
وقال الفرَّاء والقتبي وغيرهما: سمي الصائمُ سائحاً؛ لأن السائحَ لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث وجد الطعام.
وقيل: يسحن معه حيثما ساح.
وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى، من ساح الماءُ إذا ذهب. وقد مضى في سورة براءة.
وقرأ عمرو بن فائد: «سَيِّحاتٍ».
فصل في الكلام على الآية.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: كيف تكون المبدلات خيراً منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين؟.
فالجواب: إذا طلقهن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لعصيانهن له، وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بهذه الصفات مع الطاعة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيراً منهن.
فإن قيل: قوله: ﴿مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ﴾ يوهم التَّكرارَ؛ لأن المسلمات والمؤمنات سواء؟ فالجواب: الإسلام هو التصديق باللسان، والإيمان التصديق بالقلب، وقد لا يجتمعان فقوله ﴿مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ﴾ تحقيقاً لاجتماعهما.
قوله: ﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾.
إنما توسطت الواو بين ثيبات وأبكاراً لتنافي الوصف دون سائر الصفات.
و «ثَيِّباتٍ» ونحوه لا ينقاس؛ لأنه اسم جنس مؤنث، فلا يقال: نساء حورات، ولا رأيت عينات.
و «الثَّيِّبُ» وزنها «فَيعِل» من «ثاب يثوب» أي: رجع، كأنها ثابت بعد زوال عذرتها.
شرط في جوابه وجهان :
أحدهما : هو قوله :﴿ فَقَدْ صَغَتْ ﴾.
والمعنى : إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التَّوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه.
و «صَغَتْ » مالت وزاغت عن الحق.
ويدل له١ قراءة ابن مسعود :«فقد زاغت ».
قال القرطبيُّ٢ :«وليس قوله ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ جزاء للشرط ؛ لأن هذا الصغو كان سابقاً، فجواب الشرط محذوف للعلم به، أي : إن تتوبا كان خيراً لكما ؛ إذ قد صغت قلوبكما ».
والثاني : أن الجواب محذوف، وتقديره : فذلك واجب عليكما، أو فتاب الله عليكما قاله أبو البقاء٣، ودلّ على المحذوف ﴿ فَقَدْ صَغَتْ ﴾ ؛ لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب.
قال شهاب الدين٤ :«وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب، وكيف يحسن أن يكون جواباً وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جواباً ».
وقوله :﴿ قُلُوبُكُمَا ﴾ من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيء تثنيتين لو قيل :«قَلبَاكُمَا »، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما ؛ لأنه لا يشكل. وقد تقدم هذا في آية السرقة في المائدة٥.
ومن مجيء التثنية قوله :[ الكامل ]
٤٧٨٦ - فَتَخَالسَا نَفْسَيْهِمَا بنَوافِذٍ*** كنَوافِذِ العُبُطِ الَّتِي لا تُرْقَع٦
والأحسن في هذا الباب الجمع، ثم الإفراد، ثم التثنية.
وقال ابن عصفور، لا يجوز الإفراد إلاَّ في ضرورة ؛ كقوله :[ الطويل ]
٤٧٨٧ - حَمَامَةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمِي*** سَقاكِ من الغُرِّ الغَوادِي مَطيرهَا٧
وتبعه أبو حيان٨، وغلط ابن مالك في كونه جعلهُ أحسن من التثنية.
وليس بغلط لكراهةِ توالي تثنيتين مع أمن اللبس.
وقوله :«إنْ تَتُوبَا » فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.
فصل في المراد بهذا الخطاب.
المراد بهذا الخطاب أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخين الكريمين : عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - حثّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ﴾ أي : زاغت ومالت عن الحق، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسلِ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب العسل والنِّساء.
قال ابن زيد رضي الله عنه مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم٩.
وقيل : فقد مالتْ قُلوبكُمَا إلى التوبة.
قوله :﴿ وَإِن تَظَاهَرَا ﴾.
أصله :«تَتَظاهَرَا » فأدغم، وهذه قراءة العامة.
وقرأ عكرمة١٠ :«تَتَظَاهَرَا » على الأصل.
والحسن وأبو رجاء، ونافع، وعاصم١١ في رواية عنهما : بتشديد الظَّاء والهاء دون ألف، وكلها بمعنى المعاونةِ من الظهر ؛ لأنه أقوى الأعضاء وأجلها.
فصل في معنى تتظاهرا
معنى تتظاهرا، أي : تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء.
روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مكثت سنةً، وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجع وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت، حتى فرغ ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضَّأ، فلما رجع قلت : يا أمير المؤمنين، من اللَّتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم ؟.
فقال : تلك حفصة وعائشة، قال : فقلت له : والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيع هيبةً لك، قال : فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك١٢. وذكر الحديث.
قوله :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ ﴾.
يجوز أن يكون «هو » فصلاً، و «مَولاهُ » خبره والمبتدأ جملة «إنَّ ».
والمعنى : الله وليُّه وناصره، فلا يضره ذلك التَّظاهر منهما.
قوله :﴿ وَجِبْرِيلُ ﴾.
يجوز أن يكون عطفاً على اسم الله تعالى.
والمعنى : الله وليه، وجبريل وليه، فلا يوقف على «مَولاهُ » ويوقف على جبريل.
ويكون ﴿ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ مبتدأ، «والملائكة » معطوفاً عليه، والخبر «ظَهِيرٌ » ورفع «جبريل » نظراً إلى محل اسم «إن » وذلك بعد استكمال خبرها وقد تقدم مذاهب الناس في ذلك.
ويكون «جِبْريلٌ » وما بعده داخلين في الولاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون «جبريل » ظهيراً له بدخوله في عموم الملائكة.
ويكون «الملائكةُ » مبتدأ، و «ظهيرٌ » خبره، وأفرد لأنه بزنة «فَعِيل ».
قال القرطبيُّ١٣ :«هو بمعنى الجمع ».
قال أبو علي : قد جاء «فعيل » للكثرة، قال تعالى :﴿ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ﴾ [ المعارج : ١١ ]. ومعنى :«ظهيرٌ » أي : أعوان، وهو في معنى ظهراء كقوله تعالى :﴿ وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً ﴾[ النساء : ٦٩ ].
ويجوز أن يكون الكلام تم عند قوله «مَولاهُ »، ويكون «جبريلُ » مبتدأ، وما بعده عطف عليه، و «ظهيرٌ » خبر الجميع، فتختص الولاية بالله، ويكون جبريل قد ذكر في المعاونة مرتين، مرة بالتنصيصِ عليه، ومرة بدخوله في عموم الملائكةِ.
وهذا عكس ما في «البقرة » في قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ﴾[ البقرة : ٩٨ ]، فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له، وهناك ذكر العام بعد الخاص، ولم يذكر الناس إلا القسم الأول.
وفي «جِبْريل » لغات تقدم ذكرها في «البقرة ».
قوله :﴿ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
قال المسيِّبُ بن شريكٍ :﴿ وَصاَلِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أبو بكر١٤.
وقال سعيد بن جبيرٍ : هو عمر١٥.
وقال عكرمة : أبو بكر وعمر١٦.
وروى شقيق عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«﴿ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ : أبو بكر وعمر »١٧.
وعن أسماء بنت عميسٍ قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«﴿ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنينَ ﴾ : علي بن أبي طالب »١٨.
وقيل : خيار المؤمنين، و «صالح » : اسم جنس، كقوله تعالى :﴿ والعصر إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ ﴾[ العصر : ١، ٢ ]. قاله الطبريُّ.
وقال العلاءُ بنُ زياد، وقتادة، وسفيان : هم الأنبياء١٩.
وقال ابن زيد : هم الملائكة٢٠.
وقال السديُّ : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم٢١.
وقيل :﴿ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ليس لفظ الواحدِ، وإنما هم «صَالِحُو المُؤمِنينَ » فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
فصل في هذا التظاهر
قيل : كان التَّظاهر منهما في التحكيم على النبي صلى الله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهراً واعتزلهن.
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال :«دخل أبو بكرٍ يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد النَّاس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحدٍ منهم، قال : فأذن لأبي بكر فدخل، ثُمَّ أقبل عمرُ، فاستأذن، فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه، واجماً ساكتاً، قال : فلأقولن شيئاً أضحكُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت بنت خارجة تسألني النفقة، فقمت إليها، فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" هَنُّ حَولِي كما تَرَى يَسْألنَنِي النَّفقَة " فقام أبو بكر إلى عائشة رضي الله عنها يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده، ثم اعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، أو تسعاً وعشرين، ثم نزلت عليه :﴿ يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ ﴾ حتى بلغ ﴿ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ﴾[ الأحزاب : ٢٩ ] » الحديث٢٢.
قوله :﴿ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
الظَّاهر أنه مفرد، ولذلك كتب بالحاء دون واو الجمع.
وجوزوا أن يكون جمعاً - بالواو والنون - حذفت النون للإضافة، وكتب دون واو اعتباراً بلفظه، لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين، نحو :﴿ وَيَمْحُ الله الباطل ﴾[ الشورى : ٢٤ ]. و ﴿ يَدْعُ الداع ﴾[ القمر : ٦ ]، و﴿ سَنَدْعُ الزبانية ﴾[ العلق : ١٨ ]، إلى غير ذلك.
ومثل هذا ما جاء في الحديث :«أهْلُ القُرآنِ أهْلُ اللَّه وخاصَّتهُ ».
قالوا : يجوز أن يكون مفرداً، وأن يكون جمعاً، كقوله :﴿ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ﴾[ الفتح : ١١ ] وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لفظاً.
فإذا كتب هذا، فالأحسن أن يكتب بالواو لهذا الغرض، وليس ثمَّ ضرورة لحذفها كما في مرسوم الخطِ.
وجوز أبو البقاء٢٣ في «جبريل » أن يكون معطوفاً على الضمير في «مولاهُ »، يعني المستتر، وحينئذٍ يكون الفصل بالضمير المجرور كافياً في تجويز العطف عليه.
وجوز أيضاً : أن يكون «جبريل » مبتدأ، و «صالحُ » عطف عليه، فالخبرُ محذوفٌ، أي : مواليه.
فصل في المراد بصالح المؤمنين
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أراد بقوله «وصَالحُ المؤمنين » يعني أبا بكر وعمر مواليين للنبي صلى الله عليه وسلم على من عاداه، وناصرين له٢٤ : وهو قول المقاتلين.
وقال الضحاكُ : خيار المؤمنين٢٥.
وقيل : كل من آمن وعمل صالحاً.
وقيل : كل من برىء من النفاقِ.
وقيل : الأنبياء.
وقيل : الخلفاء.
وقيل : الصحابة.
٢ ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٢٤..
٣ ينظر: الإملاء ٢/١٢٢٩..
٤ ينظر: الدر المصون ٦/٣٣٥..
٥ آية رقم ٣٨..
٦ تقدم..
٧ تقدم..
٨ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٨٦..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٥٢)..
١٠ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٣١، والبحر المحيط ٢٨٦، والدر المصون ٦/٣٣٥..
١١ ينظر: السابق..
١٢ أخرجه البخاري (٨/٥٢٥-٥٢٦) كتاب التفسير، باب: تبتغي مرضاة أزواجك رقم (٤٩١٣) ومسلم (٢/١١٠٥) عن ابن عباس والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧١) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن سعد وأحمد وعبد بن حميد وابن حبان وابن المنذر وابن مردويه..
١٣ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٢٥..
١٤ ذكره القرطبي في"تفسيره" (١٨/١٢٤)..
١٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٣) عن سعيد بن جبير وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عنه..
١٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٥٤) عن مجاهد والضحاك وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٣) عن عكرمة وعزاه إلى ابن عساكر..
١٧ ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١٧/١٣٠) عن ابن مسعود وقال: رواه الطبراني وفيه عبد الرحيم بن زيد العمي وهو متروك.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٣) وزاد نسبته إلى أبي نعيم في "فضائل الصحابة" وابن مردويه..
١٨ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٤) وعزاه إلى ابن مردويه عن أسماء بنت عميس وذكره أيضا عن ابن عباس وعزاه إلى ابن مردويه وابن عساكر..
١٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٥٤) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٤) عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
وذكره أيضا عن العلاء بن زياد وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر..
٢٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٥٤) عن ابن زيد..
٢١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٢٤)..
٢٢ أخرجه مسلم (٢/١١٠٤) كتاب الطلاق، باب: أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا (٢٩/١٤٧٨) من طريق أبي الزبير عن جابر..
٢٣ ينظر: الإملاء ٢/١٢٣٠..
٢٤ تقدم..
٢٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٥٤) عن الضحاك..
قيل : كل «عَسَى » في القرآن واجب إلا هذا.
وقيل : واجب، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - علقه بشرط، وهو التطليق ولم يطلقهن.
قال النحويون :«إنْ طلَّقكُنَّ » شرط معترض بين اسم «عَسَى » وخبرها، وجوابه محذوفٌ، أو متقدم، أي «إنْ طلقَكُنَّ فَعَسى ».
وأدغم أبو عمرو القاف في الكاف على رأي بعضهم١.
قال : وهو أولى من ﴿ يَرْزُقُكمْ ﴾[ يونس : ٣١ ]، ونحوه لثقل التأنيثِ.
قوله :﴿ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً ﴾.
قرئ : مخففاً٢ ومشدداً، كما تقدم في «الكهف ».
والتبديل والإبدال بمعنى كالتنزيل والإنزال.
وقوله :﴿ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ ﴾.
لأنكن لو كنتن خيراً منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السديُّ.
وقيل : هذا وعد من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الآخرة نساء خيراً منهن، وكان الله عالماً بأنه لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن طلقهن أبدله خيراً منهن تخويفاً لهن، كقوله تعالى :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾[ محمد : ٣٨ ] وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجودِ من هو خير من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
فصل في الكلام على لفظ مسلمات
قوله :﴿ مُسْلِمَاتٍ ﴾ إلى آخره. إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص.
قال سعيد بن جبير : يعني مخلصاتٍ.
وقيل : مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله خاضعات لله بالطاعة ﴿ مُّؤْمِنَاتٍ ﴾ أي : مصدقات بتوحيد الله.
وقيل : مصدقات بما أمرنَ به : ونهين عنه ﴿ قَانِتَاتٍ ﴾ مطيعات، والقنوت : الطاعة.
وقيل : داعياتٍ بتوحيد الله.
وقيل : مصليات «تائبات » أي : من ذنوبهن، قاله السديُّ.
وقيل : راجعاتٍ إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركاتٍ لمحاب أنفسهن، ﴿ عَابِدَاتٍ ﴾ أي : كثيرات العبادةِ لله تعالى.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كل عبادة في القرآن فهو التوحيد٣ ﴿ سَائِحَاتٍ ﴾ أي : صائمات، قاله ابن عبَّاس والحسن وابن جبير٤.
وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان : مهاجرات.
قال زيد : وليس في أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض.
وقال الفرَّاء٥ والقتبي وغيرهما : سمي الصائمُ سائحاً ؛ لأن السائحَ لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث وجد الطعام.
وقيل : يسحن معه حيثما ساح.
وقيل : ذاهبات في طاعة الله تعالى، من ساح الماءُ إذا ذهب. وقد مضى في سورة براءة٦.
وقرأ٧ عمرو٨ بن فائد :«سَيِّحاتٍ ».
فصل في الكلام على الآية.
قال ابن الخطيب٩ : فإن قيل : كيف تكون المبدلات خيراً منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين ؟.
فالجواب : إذا طلقهن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لعصيانهن له، وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بهذه الصفات مع الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم خيراً منهن.
فإن قيل : قوله :﴿ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ ﴾ يوهم التَّكرارَ ؛ لأن المسلمات والمؤمنات سواء ؟ فالجواب١٠ : الإسلام هو التصديق باللسان، والإيمان التصديق بالقلب، وقد لا يجتمعان فقوله ﴿ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ ﴾ تحقيقاً لاجتماعهما.
قوله :﴿ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾.
إنما توسطت الواو بين ثيبات وأبكاراً لتنافي الوصف دون سائر الصفات.
و «ثَيِّباتٍ » ونحوه لا ينقاس ؛ لأنه اسم جنس مؤنث، فلا يقال : نساء حورات، ولا رأيت عينات.
و «الثَّيِّبُ » وزنها «فَيعِل » من «ثاب يثوب » أي : رجع، كأنها ثابت بعد زوال عذرتها.
وأصله :«ثَيْوب » ك «سيِّد وميِّت » أصلهما :«سَيْود ومَيْوت » على الإعلال المشهور.
والمعنى : منهن ثيّب، ومنهن بِكْر.
قيل : إنما سميت ثيِّباً ؛ لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، وإلى غيره إن فارقها.
وقيل : لأنها ثابت إلى بيت أبويها.
قال القرطبي١١ :«والأول أصح ؛ لأن ليس كل ثيب تعود إلى زوج، وأما البكر : فهي العذراء، سميت بكراً ؛ لأنها على أول حالتها التي خلقت بها ».
قال ابن الخطيب١٢ : فإن قيل : ذكر الثيبات في مقام المدحِ، وهي من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن ؟.
فالجوابُ : يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول - عليه الصلاة والسلام - لاختصاصهن بالمال، والجمال، أو النسب، أو المجموع، وإذا كان كذلك، فلا يقدح ذكر الثَّيِّب في المدح، لجواز ذلك.
وقال الكلبيُّ : أراد بالثيِّب مثل : آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل : مريم ابنة عمران١٣.
قال القرطبيُّ١٤ :«وهذا إنما يمشي على قول من قال : إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيراً منهن، والله أعلم ».
٢ وهي قراءة نافع والأعرج وأبي جعفر كما في: المحرر الوجيز ٥/٣٣٢، وينظر: الدر المصون ٦/٣٣٧..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٢٧)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٥٦) عن ابن عباس وقتادة والضحاك.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٤) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٥ ينظر: معاني القرآن له ٣/١٦٧..
٦ آية رقم ١١٢..
٧ في أ: واختار..
٨ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٨٧، والدر المصون ٦/٣٣٧..
٩ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٤٠..
١٠ السابق ٣٠/٤١..
١١ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٢٧..
١٢ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٤١..
١٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٢٧) عن الكلبي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٤) عن بريدة بمعناه وعزاه إلى الطبراني وابن مردويه..
١٤ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٢٧..
والمعنى: منهن ثيّب، ومنهن بِكْر.
قيل: إنما سميت ثيِّباً؛ لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، وإلى غيره إن فارقها.
وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها.
قال القرطبي: «والأول أصح؛ لأن ليس كل ثيبت تعود إلى زوج، وأما البكر: فهي العذراء، سميت بكراً؛ لأنها على أول حالتها التي خلقت بها».
قال ابن الخطيب: فإن قيل: ذكر الثيبات في مقام المدحِ، وهي من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟.
فالجوابُ: يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لاختصاصهن بالمال، والجمال، أو النسب، أو المجموع، وإذا كان كذلك، فلا يقدح ذكر الثَّيِّب في المدح، لجواز ذلك.
وقال الكلبيُّ: أراد بالثيِّب مثل: آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل: مريم ابنة عمران.
قال القرطبيُّ: «وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيراً منهن، والله أعلم».
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها
الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾.
«قُوْا» أمر من الوقاية، فوزنه «عُو» ؛ لأن الفاء حذفت لوقوعها في المضارع بين ياء وكسرة، وهذا محمول عليه، واللام حذفت حملاً له على المجزوم؛ لأن أصله «أوقيوا» ك «اضربوا» فحذفت الواو التي هي فاء لما تقدم، واستثقلت الضمة على الياء، فالتقى ساكنانِ، فحذفت الياء؛ وضم ما قبل الواو لتصح.
ونقل مكي عن الكوفيين: أن الحذف عندهم فرقاً بين المتعدي، والقاصر، فحذفت الواو التي هي فاء في «يَقِي، ويَعِد» لتعديهما، ولم يحذف من «يَوْجَلُ» لقصوره.
قال: «ويرد عليهم نحو: يَرمِ، فإنه قاصر، ومع ذلك فقد حذفوا فاءه».
قال شهاب الدين: وفي هذا نظر؛ لأن «يَوْجَلُ» لم تقع فيه الواو بين ياء وكسرة لا ظاهرة ولا مضمرة.
وقلت: ولا مضمرة، تحرُّزاً من «تَضَع، ويَسَع، ويهب».
وقرأ بعضهم: «وأهْلُوكُمْ».
وخرجت على العطف على الضَّمير المرفوع ب «قُوْا»، وجوز ذلك الفصل بالمفعول قال الزمخشريُّ بعد ذكره القراءة وتخريجها: فإن قلت: أليس التقديرُ: «قُوا أنفُسكُمْ وليَقِ أهلوكم أنفسهم» ؟.
قلت: لا، ولكن المعطوف في التقدير مقارن للواو، و «أنْفُسَكُمْ» واقع بعده، كأنه قيل: قوا أنتم، وأهلوكم أنفسكم، لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه، فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب.
قوله: «ناراً» مفعول ثانٍ، «وقُودُهَا النَّاسُ» صفة ل «نَاراً» وكذلك «عَليْهَا مَلائكةٌ»، ويجوز أن يكون الوصف وحده «عَليْهَا»، و «مَلائِكَةٌ» فاعل به، ويجوز أن يكون حالاً لتخصيصها بالصفة الأولى، وكذلك ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله﴾.
وتقدم الخلاف في واو ﴿وَقُودُهَا﴾ [البقرة: ٢٤] ضمًّا وفتحاً في «البقرة».
فصل في معنى الآية
قال الضحاك: المعنى: قو أنفسكم؛ وأهلوكم، فليقوا أنفسهم ناراً.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقتادة ومجاهدٌ: قوا أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم.
قال ابن العربي: وهو الصحيحُ، والفقهُ الذي يعطيه العطفُ الذي يقتضي التشريك بين المعطوف؛ والمعطوف عليه في معنى الفعل.
كقوله: [الرجز]
٤٧٨٨ - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً...........................
وكقوله: [مجزوء الكامل]
٤٧٨٩ - ورَأيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى | مُتَقلِّداً سَيْفاً ورُمْحا |
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسْئُولٌ عن رعيَّتِهِ، فالإمامُ الَّذي على النَّاسِ راعٍ وهُوَ مَسْئُولٌ عَنهُمْ، والرَّجلُ راعٍ على أهْلِ بَيْتهِ وهُوَ مسْئُولٌ عَنْهُمْ».
قال الحسن في هذه الآية: يأمرهم، وينهاهم.
وقال بعض العلماء لما قال: «قُو أنفُسَكُمْ» : دخل فيه الأولاد؛ لأن الولد بعض منه كما دخلوا في قوله تعالى: ﴿وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: ٦١]، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ أحلَّ مَا أكلَ الرَّجلُ من كسْبِهِ، وإنَّ ولدهُ مِنْ كسْبِهِ» فلم يفرد بالذّكر إفراد سائر القرابات، فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام إلى غير ذلك من الأحكام.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «حَقُّ الولدِ على الوالِدِ، أنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ، ويُعلِّمهُ الكِتابَةَ، ويزَوِّجهُ إذا بلَغَ».
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مُرُوا أبْناءَكُمْ بالصَّلاة لسَبْعٍ؛ واضْربُوهُمْ على تَرْكِهَا لعشْرٍ، وفرِّقُوا بَيْنَهُم في المَضَاجِعِ».
قال بعض العلماء: ويخبر أهله بوقت الصلاة، ووجوب الصيام.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «رَحِمَ اللَّهُ امْرءاً قَامَ مِنْ اللَّيلِ يُصلِّي، فأيقظَ أهلَهُ، فإنْ لَمْ تَقُم رشَّ على وجهِهِا المَاءَ، ورحِمَ اللَّهُ امْرَأةً قَامَتْ في اللَّيْلِ تُصلِّي، وأيْقَظَتْ زوْجَهَا، فإنْ لم يَقُمْ رشَّتْ على وجْهِهِ المَاء».
وذكر القشيريُّ قال: «فلما نزلت هذه الآية، قال رجلٌ: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟.
فقال:» تنهونهم عما نهاكم الله، وتأمرونهم بما أمر الله «».
وقال مقاتلٌ: ذلك حق عليه في نفسه، وولده، وأهله، وعبيده، وإمائه.
قال إلكيا: فعلينا تعليم أولادنا، وأهلينا الدين، والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب.
وهو قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا﴾ [طه: ١٣٢]، وقوله للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾ [الشعراء: ١٤].
وتقدم الكلام على قوله: ﴿وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ في «البقرة».
فصل في مخاطبة الله تعالى للمؤمنين
قال ابن الخطيب: فإن قيل: إنه - تعالى - خاطب المشركين في قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ [البقرة: ٢٤]، ثم قال: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك؟.
فالجوابُ: أن الفساق، وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكُفَّار، فإنهم مع الكُفَّار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا: «قُوا أنفُسَكُمْ» باجتناب الفسوقِ ومجاورة الذين أعدت لهم هذه النار، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقِّي عن الارتداد.
قوله: ﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ﴾.
يعني الزَّبَانية، غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا، خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلقِ، كما حبب لبني آدم الطعام، والشراب «شِدادٌ»، أي: شداد الأبدان وقيل: غلاظ الأقوال شدادُ الأفعالِ.
وقيل: «غِلاظٌ» في أخذهم أهل النار «شِدادٌ» عليهم، يقال: فلان شديد على فلان، أي: قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب.
وقيل: أغلاظ أجسامهم ضخمة «شِدادٌ» أي: أقوياء.
قال ابن عبَّاس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في خزنة جهنم: «مَا بَيْنَ منْكبَيْ أحدهِمْ كَمَا بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْربِ».
قوله: ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ﴾.
يجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي»، والعائد محذوف، أي: «مَا أمَرَهُمُوهُ»، والأصل: «بِهِ»، لا يقال: كيف حذف العائد المجرور، ولم يجر الموصول بمثله؟ لأنه يطرد حذف هذا الحرف فلم يحذف إلا منصوباً.
وأن تكون مصدرية، ويكون محلها بدلاً من اسم الله بدل اشتمال، كأنه قيل: لا يعصون أمره.
وقوله: ﴿وَيَفْعَلُونَ﴾.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟.
والثانية: معناها أنهم يؤدّون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه».
وقال القرطبي: ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ﴾ أي: لا يخالفونه في أمر من زيادة، أو نقصان ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ في وقته لا يقدمونه، ولا يؤخرونه.
وقيل: أي: لذتهم في امتثال أمر اللَّهِ، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة، ذكره بعض المعتزلة، وعندهم أنه يستحيل التكليف غداً، ولا يخفى معتقد أهل الحقِّ في أن الله يكلف العبد اليوم وغداً، ولا ينكر التكليف غداً في حق الملائكةِ، ولله أن يفعل ما يشاء.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها
الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً﴾.
فرأ الجمهور: بفتح نون «نَصُوحاً».
فهي صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازاً، وهي من: نصح الثوب، أي: خاطه فكأنه التائب يرقع ما حرقه بالمعصية.
وقيل: هي من قولهم: عسل ناصح، أي: خالص.
وقرأ أبو بكر: بضم النون.
وهو مصدر «نَصَحَ»، يقال: نصح نصحاً ونصوحاً، نحو: كَفَر كُفْراً وكُفُوراً، وشَكَرَ شُكْراً وشُكُوراً.
وفي انتصابه أوجه:
والثاني: أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي: ينصحهم نصحاً.
الثالث: أنه صفة لها، إما على المبالغة على أنها نفس المصدر، أو على حذف مضاف، أي: ذات نصوحٍ.
وقرأ زيد بن عليّ: «تَوْباً» دون تاء.
فصل في تعلق هذه الآية بقوله يا أيها الذين كفروا
قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه الآية بقوله: ﴿يا أيها الذين كَفَرُواْ﴾ أنه - تعالى - نبّههم على رفعِ العذاب في ذلك اليوم، بالتوبة في الدنيا، إذ في ذلك اليوم لا تفيدُ التوبةُ.
فصل
أمر بالتَّوبة، وهي فرض على الأعيان في كُلِّ الأحوال، وكُلِّ الأزمان واختلفوا في التوبة النَّصُوح:
فقيل: هي التي لا عودة بعدها، كما لا يعود اللَّبن إلى الضرع.
روي عن عمر، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، ورفعه معاذٌ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال قتادة: «النَّصُوحُ» الصَّادقة الخالصة.
وقال الحسن: «النَّصُوحُ» أن يبغض الذنب الذي أحبه، ويستغفر منه إذا ذكره.
وقيل: هي التي لا يثق بقبولها، ويكون على وجلٍ منها.
وقال الكلبيُّ: التوبة النَّصوح، الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والعزم على ألاَّ يعود.
وقيل غير ذلك.
فصل في الأشياء التي يُتَاب منها
قال بعض العلماءِ: الذنبُ الذي لا يكونُ منه التوبةُ لا يخلو، إما أن يكون حقاً لله أو للآدميين، فإن كان حقاً لله عَزَّ وَجَلَّ كتركِ صلاة، أو صوم أو تفريط في زكاة؛ فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها.
وإن كان قتل نفساً بغير حقٍّ، فإن تمكن من القصاص منه إن طلب به، فإن عُفِيَ عنه كفاه النَّدم، والعزم على ترك العودِ بالإخلاص، وكذلك إن عُفِي عنه في القَتْل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجداً له، قال تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ١٧٨].
وإن كان ذلك من حدود الله - ما كان - فإنه إذا تاب إلى الله - تعالى - بالندم الصحيح سقط منه، وقد نصَّ الله - تعالى - على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرةِ عليهم، كما تقدم.
وكذلك الشُّرَّاب، والسُّراق، والزُّناة إذا صلحوا، وتابوا، وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا: تُبْنا لم يتركهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا، هذا مذهب الشافعي.
فإن كان الذنبُ من مظالم العباد، فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه، والخروج عنه - عيناً كان أو غيره - إن كان قادراً عليه، فإن لم يكن قادراً، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت، وأسرعه.
وإن كان لواحد من المسلمين، وذلك الواحد لا يشعر به، ولا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه، ويستغفر له، فإذا عفى، فقد سقط الذنب عنه، وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفى ذلك المظلوم عن ظلمه عرفه بعينه، أو لم يعرفه، فذلك صحيح.
قوله: ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾.
«عَسَى» من الله واجبةً، وهو معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «التَّائِبُ من الذَّنْبِ كمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ».
و «أنْ» في موضع نصب.
قوله: «ويُدخِلَكُمْ». معطوف على «يُكَفِّرَ».
قرأ العامة: بالنصب.
وابن أبي عبلة: بسكون اللام.
فاحتمل أن يكون من إجراء المنفصلِ مجرى المتصل، فسلبت الحركة؛ لأنه يتحلل من مجموع «يُكفِّرَ عَنْكُم» مثل «نطع وقمع» فيقال: فيهما: نَطْع وقَمْع.
ويحتمل أن يكون عطفاً على محل «عَسَى أن يُكَفِّرَ» كأنه قيل: توبوا يوجب تكفير سيئاتكم، ويدخلكم، قاله الزمخشري.
يعني أن «عَسَى» في محل جزم جواباً للأمر؛ لأنه لو وقع موقعها مضارع لانجزم كما مثل به الزمخشري.
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن «عَسَى» جوابٌ ولا تقع جواباً؛ لأنها للإنشاء.
قوله: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي﴾.
«يَوْمَ» منصوب ب «يُدخِلَكُم»، أو بإضمار «اذْكُرْ».
ومعنى «يُخْزِي» هنا: يعذب، أي: لا يعذبه، ولا يعاقب الذين آمنوا معه.
قالت المعتزلة: قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ﴾ يدل على أنه لا يعذب الذين آمنوا؛ لأن الإخزاء يقع بالعذاب، ولو كان أصحاب الكبائر من أهل الإيمان لم يخفف عليهم العذاب.
قال ابنُ الخطيب: وأجاب أهل السُّنة بأنه - تعالى - وعد أهل الإيمان بألاَّ يخزيهم.
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ﴾ يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون منسوقاً على «النَّبِي»، أي: ولا يخزي الذين آمنوا، فعلى هذا يكون «نُورُهُمْ يَسْعَى» مُستأنفاً، أو حالاً.
والثاني: أن يكون مبتدأ، وخبره «نُورُهُمْ يَسْعَى»، و «يَقُولُون» خبر ثاني أو حال.
وتقدم إعراب مثل هذه الجمل في «الحديد» وإعراب ما بعدها في «براءة».
وقرأ أبو حيوة، وأبو نهل الفهمي: «وبإيْمَانهِمْ» بكسر الهمزة.
ومعنى قوله: ﴿نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: في الدنيا وبأيمانهم عند الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم، وفيه نور، وخير.
وقيل: يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع أقدامهم «وبأيْمانِهِمْ» لأن خلفهم وشمالهم طرق الكفرة، وقولهم: ﴿رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾ قال ابن عباس: يقولون ذلك عند إطفاء نور المُنافقين إشفاقاً.
وقال الحسنُ: إنه - تعالى - يتمّم لهم نورهم، ولكنهم يدعون تقرباً إلى حضرة الله تعالى، كقوله: ﴿واستغفر لِذَنبِكَ﴾ [غافر: ٥٥] وهو مغفور.
وقيل: أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر موضع قدمه، فيسألون إتمامه.
وقال الزمخشري: السَّابقون إلى الجنَّة يمرون كالبرقِ على الصِّراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم كالجواد المسرع، وبعضهم حَبْواً، وهم الذين يقولون: ربنا أتمِمْ لنا نورنا.
فالجوابُ: لأن فيه إفادة الاجتماع، بمعنى لا يخزي الله المجموع، أي: الذين يسعى نورهم، وفيه فائدة عظيمة، إذ الاجتماع بين الذين آمنوا، وبين نبيهم تشريفٌ في حقهم وتعظيم.
قرأ الجمهور : بفتح نون «نَصُوحاً ».
فهي صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازاً، وهي من : نصح الثوب، أي : خاطه فكأنه التائب يرقع ما حرقه بالمعصية.
وقيل : هي من قولهم : عسل ناصح، أي : خالص.
وقرأ أبو بكر١ : بضم النون.
وهو مصدر «نَصَحَ »، يقال : نصح نصحاً ونصوحاً، نحو : كَفَر كُفْراً وكُفُوراً، وشَكَرَ شُكْراً وشُكُوراً.
وفي انتصابه أوجه :
أحدها : أنه مفعول له، أي : لأجل النصح الحاصل نفعه عليكم.
والثاني : أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي : ينصحهم نصحاً.
الثالث : أنه صفة لها، إما على المبالغة على أنها نفس المصدر، أو على حذف مضاف، أي : ذات نصوحٍ.
وقرأ زيد٢ بن عليّ :«تَوْباً » دون تاء.
فصل في تعلق هذه الآية بقوله يا أيها الذين كفروا
قال ابن الخطيب٣ : وجه تعلق هذه الآية بقوله :﴿ يا أيها الذين كَفَرُواْ ﴾ أنه - تعالى - نبّههم على رفعِ العذاب في ذلك اليوم، بالتوبة في الدنيا، إذ في ذلك اليوم لا تفيدُ التوبةُ.
فصل
أمر بالتَّوبة، وهي فرض على الأعيان في كُلِّ الأحوال، وكُلِّ الأزمان واختلفوا في التوبة النَّصُوح :
فقيل : هي التي لا عودة بعدها، كما لا يعود اللَّبن إلى الضرع.
روي عن عمر، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، ورفعه معاذٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم٤.
وقال قتادة :«النَّصُوحُ » الصَّادقة الخالصة٥.
وقيل : الخالصة. يقال : نصح له، أي : أخلص له القول.
وقال الحسن :«النَّصُوحُ » أن يبغض الذنب الذي أحبه، ويستغفر منه إذا ذكره٦.
وقيل : هي التي لا يثق بقبولها، ويكون على وجلٍ منها.
وقال الكلبيُّ : التوبة النَّصوح، الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والعزم على ألاَّ يعود.
وقيل غير ذلك.
فصل في الأشياء التي يُتَاب منها
قال بعض العلماءِ : الذنبُ الذي لا يكونُ منه التوبةُ لا يخلو، إما أن يكون حقاً لله أو للآدميين، فإن كان حقاً لله عز وجل كتركِ صلاة، أو صوم أو تفريط في زكاة ؛ فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها.
وإن كان قتل نفساً بغير حقٍّ، فإن تمكن من القصاص منه إن طلب به، فإن عُفِيَ عنه كفاه النَّدم، والعزم على ترك العودِ بالإخلاص، وكذلك إن عُفِي عنه في القَتْل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجداً له، قال تعالى :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فإتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾[ البقرة : ١٧٨ ].
وإن كان ذلك من حدود الله - ما كان - فإنه إذا تاب إلى الله - تعالى - بالندم الصحيح سقط منه، وقد نصَّ الله - تعالى - على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرةِ عليهم، كما تقدم.
وكذلك الشُّرَّاب، والسُّراق، والزُّناة إذا صلحوا، وتابوا، وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا : تُبْنا لم يتركهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا، هذا مذهب الشافعي.
فإن كان الذنبُ من مظالم العباد، فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه، والخروج عنه - عيناً كان أو غيره - إن كان قادراً عليه، فإن لم يكن قادراً، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت، وأسرعه.
وإن كان لواحد من المسلمين، وذلك الواحد لا يشعر به، ولا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه، ويستغفر له، فإذا عفى، فقد سقط الذنب عنه، وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفى ذلك المظلوم عن ظلمه عرفه بعينه، أو لم يعرفه، فذلك صحيح.
وإن أساء رجل إلى رجل، بأن فزعه بغير حق، أو غمه، أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط وآلمه، ثم جاءه مستعفياً نادماً على ما كان منه عازماً على ألا يعود فلم يزل يتذلل له، حتى طابت نفسه فعفا عنه، سقط الذَّنب عنه، وهكذا إن شتمه بشتمٍ لا حدَّ فيه.
قوله :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾.
«عَسَى » من الله واجبةً، وهو معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - :«التَّائِبُ من الذَّنْبِ كمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ »٧.
و «أنْ » في موضع نصب.
قوله :«ويُدخِلَكُمْ ». معطوف على «يُكَفِّرَ ».
قرأ العامة : بالنصب.
وابن أبي عبلة٨ : بسكون اللام.
فاحتمل أن يكون من إجراء المنفصلِ مجرى المتصل، فسلبت الحركة ؛ لأنه يتحلل من مجموع «يُكفِّرَ عَنْكُم » مثل «نطع وقمع » فيقال : فيهما : نَطْع وقَمْع.
ويحتمل أن يكون عطفاً على محل «عَسَى أن يُكَفِّرَ » كأنه قيل : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم، ويدخلكم، قاله الزمخشري٩.
يعني أن «عَسَى » في محل جزم جواباً للأمر ؛ لأنه لو وقع موقعها مضارع لانجزم كما مثل به الزمخشري.
وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم أن «عَسَى » جوابٌ ولا تقع جواباً ؛ لأنها للإنشاء.
قوله :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِي الله النبي ﴾.
«يَوْمَ » منصوب ب «يُدخِلَكُم »، أو بإضمار «اذْكُرْ ».
ومعنى «يُخْزِي » هنا : يعذب، أي : لا يعذبه، ولا يعاقب الذين آمنوا معه.
قالت المعتزلة : قوله تعالى :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِي الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ يدل على أنه لا يعذب الذين آمنوا ؛ لأن الإخزاء يقع بالعذاب، ولو كان أصحاب الكبائر من أهل الإيمان لم يخفف عليهم العذاب.
قال ابنُ الخطيب١٠ : وأجاب أهل السُّنة بأنه - تعالى - وعد أهل الإيمان بألاَّ يخزيهم.
من أهل السنَّةِ من يقف على قوله :﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِي الله النبي ﴾، ومعناه لا يخزيه في رد الشفاعة، والإخزاء : الفضيحة، أي : لا يفضحهم بين يدي الكفار، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا تقف الكفرة عليه.
قوله :﴿ والذين آمَنُواْ ﴾ يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون منسوقاً على «النَّبِي »، أي : ولا يخزي الذين آمنوا، فعلى هذا يكون «نُورُهُمْ يَسْعَى » مُستأنفاً، أو حالاً.
والثاني : أن يكون مبتدأ، وخبره «نُورُهُمْ يَسْعَى »، و «يَقُولُون » خبر ثاني أو حال.
وتقدم إعراب مثل هذه الجمل في «الحديد » وإعراب ما بعدها في «براءة ».
وقرأ أبو حيوة، وأبو نهل١١ الفهمي :«وبإيْمَانهِمْ » بكسر الهمزة.
ومعنى قوله :﴿ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي : في الدنيا وبأيمانهم عند الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم، وفيه نور، وخير.
وقيل : يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع أقدامهم «وبأيْمانِهِمْ » لأن خلفهم وشمالهم طرق الكفرة، وقولهم :﴿ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ﴾ قال ابن عباس : يقولون ذلك عند إطفاء نور المُنافقين١٢ إشفاقاً١٣.
وقال الحسنُ : إنه - تعالى - يتمّم لهم نورهم، ولكنهم يدعون تقرباً إلى حضرة الله تعالى، كقوله :﴿ واستغفر لِذَنبِكَ ﴾[ غافر : ٥٥ ] وهو مغفور١٤.
وقيل : أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر موضع قدمه، فيسألون إتمامه.
وقال الزمخشري١٥ : السَّابقون إلى الجنَّة يمرون كالبرقِ على الصِّراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم كالجواد المسرع، وبعضهم حَبْواً، وهم الذين يقولون : ربنا أتمِمْ لنا نورنا.
فإن قيل : إنه - تعالى - لا يخزي النبي في ذلك اليوم، ولا الذين آمنوا معه ؟.
فالجوابُ١٦ : لأن فيه إفادة الاجتماع، بمعنى لا يخزي الله المجموع، أي : الذين يسعى نورهم، وفيه فائدة عظيمة، إذ الاجتماع بين الذين آمنوا، وبين نبيهم تشريفٌ في حقهم وتعظيم.
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٨٩، والدر المصون ٦/٣٣٨..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٤٣..
٤ أثر عمر بن الخطاب. أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٥٨) والحاكم (٢/٤٩٤) وصححه وذكره الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (٣/٣٩٠) رقم(٣٧٨٥) وعزاه إلى أحمد بن منيع وقال: إسناده صحيح موقوف.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٦) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن النعمان بن بشير عن عمر.
حديث ابن مسعود. أخرجه أحمد (١/٣٩٦) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٦) وزاد نسبته إلى ابن مردويه والبيهقي.
حديث أبيّ بن كعب. أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان" بسند ضعيف كما قال الحافظ السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٦).
حديث معاذ. ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٦) وعزاه إلى ابن مردويه.
وقد روي عن ابن مسعود موقوفا أيضا. أخرجه الطبري (١٢/١٥٨) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٥٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٦) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٦ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٦) وعزاه إلى عبد بن حميد..
٧ تقدم..
٨ ينظر: الكشاف ٤/٥٧٠، والدر المصون ٦/٣٣٨..
٩ ينظر: الكشاف ٤/٥٧٠..
١٠ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٤٣..
١١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٣٤، والبحر المحيط ٨/٢٨٩، والدر المصون ٦/٣٣٨..
١٢ في أ: الكفرة..
١٣ أخرجه الحاكم (٢/٤٩٥) من طريق عتبة بن يقظان عن عكرمة عن ابن عباس وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورده الذهبي فقال: عتبة واه.
وذكره الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (٧/١٠٤) وقال: قال النسائي في "الكنى": أبو زحارة عتبة بن يقظان غير ثقة وقال علي بن الجنيد لا يساوي شيئا وذكره ابن حبان في "الثقات".
والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٧) وزاد نسبته إلى البيهقي في "البعث"..
١٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٥٩) عن الحسن..
١٥ ينظر: الكشاف ٤/٥٧٠..
١٦ ينظر: الفخر الرازي ٣٠/٤٣..
وقال الحسنُ: أي: جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود وكانت الحدودُ تقامُ عليهم ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ يرجع إلى الصنفين ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي: المرجع.
قال ابن الخطيب: وفي مخاطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: ﴿يا أيها النبي﴾ في أول السورة وفي هذه الآية ووصفه بالنبي لا باسمه، كقوله لآدم: ﴿يا آدم﴾ [البقرة: ٣٥]، وموسى ﴿ياموسى﴾ [طه: ١١]، ولعيسى ﴿ياعيسى﴾ [المائدة: ١١٦] دليل على فضيلته عليهم.
فإن قيل: قوله: ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ يدل على أن مصيرهم بئس المصيرُ، فما فائدة ذلك؟ فالجوابُ: أن مصيرهم بئس المصير مطلقاً، والمطلق يدل على الدوام، وغير المطلق لا يدل على الدوام.
فصل في ضرب الله لهذا المثل
ضرب الله هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني أحد عن قريب، ولا نسب في الآخرة إذا فرق بينهما الدِّين، وكان اسم امرأة نوح «والهة»، وامرأة لوط «والغة»، قاله مقاتل.
وقال الضحاكُ عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: إن جبريل نزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبره أن اسم امرأة نوح «وَاغِلة» وامرأة لوط «والهة»، ﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ﴾ يعني نوحاً ولوطاً.
ويجوز أن يكون «امْرَأة نُوحٍ» بدلاً من قوله «مثلاً» على تقدير حذف المضاف، أي: ضرب الله مثلاً مثل امرأة نوح.
ويجوزأن يكونا مفعولين.
قوله: ﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ﴾.
جملة مستأنفة كأنها مفسرة ل «ضَرْبِ المثلِ»، ولم يأت بضميرهما، فيقال: تحتهما أي: تحت نوح ولوط، لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة، وليصفهما بأجَلّ الصِّفات، وهو الصَّلاح.
قوله: ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾.
قال عكرمة، والضحاك: بالكفر.
وقال سليمان بن رقية، عن ابن عباس: كانت امرأة تقول للناس: إنه مجنون وامرأة لوط كانت تخبر بأضيافه.
وعن ابن عباس: ما بَغَت امرأة نبي قط، وإنما كانت خيانتهما أنهما كانا على غير دينهما.
وقيل: خيانتهما النَّميمةُ إذا أوحى الله إليهما شيئاً أفشتاه إلى المشركين، قاله الضحاك.
وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال.
قوله: ﴿فَلَمْ يُغْنِيَا﴾.
العامة: بالياء من تحت، أي: لم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من الإغناء من عذاب الله.
وقرأ مبشر بن عبيد: تغنيا - بالتاء من فوق -، أي: فلم تُغْن المرأتان عن أنفسهما.
وفيها إشكال إذ يلزم من ذلك تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غير المواضع المستثناة.
وجوابه: أن «عَنْ» هنا اسم كهي في قوله: [الكامل]
٤٧٩٠ - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَراتِهِ........................................
وقد تقدم هذا والاعتراض عليه بقوله: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة﴾ [مريم: ٢٥] ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ [القصص: ٣٢]، والجواب هناك.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: لم يدفع نوح، ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لما عصيا شيئاً من عذاب اللَّه تنبيهاً بذلك على أنَّ العذاب يدفع بالطَّاعة، لا بالوسيلة.
وقيل: إن كفار مكة استهزءوا وقالوا: إنَّ محمداً يشفع لنا، فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار «مكة»، وإن كانوا أقرباء كما لا ينفع شفاعة نوح امرأته، وشفاعة لوط لامرأته مع قربهما له لكفرهما.
﴿وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين﴾ في الآخرة كما يقال لكفار مكة وغيرهم. قطع الله
قوله: ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأة فِرْعَوْنَ﴾.
واسمها آسية بنت مزاحم.
قال يحيى بن سلام: قوله: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ مثل ضربه الله يحذر به عائشة، وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم ضرب الله لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة، والثبات على الدين.
وقيل: هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة، أي: لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون.
قال المفسرون: لما غلب موسى السحرة آمنت امرأةُ فرعون.
وقيل: هي عمة موسى آمنت به، فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس، وألقى عليها صخرة عظيمة، فقالت: «ربِّ نَجِّنِي مِنْ فرعَونَ وعمله». فرمى بروحها في الجنة، فوقعت الصخرة على جسد لا روح فيه.
وقال الحسنُ: رفعها تأكل في الجنة، وتشرب.
قال سلمان الفارسي: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة.
قوله: ﴿إذْ قَالَتْ رَبِّ﴾.
منصوب ب «ضرب»، وإن تأخر ظهور الضرب.
ويجوز أن ينتصب بالمثل.
قوله: ﴿عِندَكَ﴾.
يجوز تعلقه ب «ابْنِ»، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «بَيْتاً» كان نعته فلما قدم نصب حالاً.
و ﴿فِي الجنة﴾.
إما متعلق ب «ابْنِ» وإما بمحذوف على أنه نعت ل «بَيْتاً».
فصل في قصة امرأة فرعون.
قال المفسرون: لما كانت تعذب في الشمس، وأذاها حرّ الشمس ﴿قَالَتْ: رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة﴾ فوافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون: لا تَعْجبُوا من جُنُونهَا أنَا أعذِّبُها وهي تضحك، فقبض رُوحها.
وروي أنه وضع على ظهرها رحى فأطلعها اللَّهُ، حتى رأت مكانها في الجنَّة، وانتزع روحها، فألقيت عليها صخرة بعد خروج روحها فلم تجد ألماً.
وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة، فهي فيها تأكل، وتشرب، وتتنعم.
قوله: ﴿وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾.
تعني بالعمل: الكفر.
وقيل: «من عمله»، أي: من عذابه وظلمه.
وقال ابن عباس: الجماع.
﴿وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين﴾، أي: الكافرين.
قال الكلبيُّ: أهل «مصر».
وقال مقاتل: القبط.
قوله: ﴿وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ﴾.
عطف على ﴿امرأة فِرْعَوْنَ﴾.
ضرب الله المثل للكافرين بامرأتين، وللمؤمنين بامرأتين.
وقال أبو البقاء: «ومَرْيَمَ» أي: «واذكر مريم».
وقيل: أو «ومثل مريم».
وقرأ العامة: «ابْنَة» بنصب التاء.
وأيوب السختياني: بسكون الهاء، وصلاً، أجرى الوصل مجرى الوقف.
والعامة أيضاً: «فَنَفَخْنَا فيْهِ» أي: في الفرجِ.
والعامة أيضاً: «وصَدَّقتْ» بتشديد الدال.
ويعقوب وقتادة وأبو مجلز، وعاصم في رواية: بتخفيفها، أي: صدقت فيما أخبرت به من أمر عيسى.
والعامة على: «بِكَلمَاتِ» جمعاً.
والحسن ومجاهد والجحدري: «بِكلمَةِ» بالإفراد.
فقيل: المراد بها عيسى؛ لأنه كلمةُ الله.
فصل في مريم ابنة عمران
ضرب الله مثلاً بمريم ابنة عمران وصبرها على أذى اليهود.
وقوله: ﴿التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ عن الفواحش.
وقال المفسرون هنا: أراد بالفرج الجيب، لقوله ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ وجبريل - عليه السلام - إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها.
وهي في قراءة أبيٍّ: ﴿فنفخنا في جيبها من روحنا﴾، وكل خرق في الثوب يسمى فرجاً، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ [ق: ٦].
ويحتمل أن يكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها.
ومعنى «فَنَفَخْنَا» أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها «مِنْ رُوحِنَا» أي: روحاً من أرواحنا وهي روح عيسى، وقوله: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾ أي: قول جبريل لها: ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ﴾ [مريم: ١٩] الآية.
وقال مقاتل: يعني بالكلمات عيسى، وأنه نبيّ وعيسى كلمة الله كما تقدم.
وقيل: ﴿بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾ يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة.
قوله: ﴿وَكُتُبِهِ﴾.
قرأ أهل «البَصْرة» وحفص: «وكُتُبِهِ» على الجمع.
وقرأ الأخرون: «وكِتَابِهِ» على التوحيد.
وقرأ أبو رجاء: «وَكُتْبِهِ» بسكون التاء، وهو تخفيف حسن.
وروي عنه: «وكَتْبِهِ» بفتح الكاف.
قال أبو الفضل: مصدر وضع موضع الاسم، يعني ومكتوبه.
فصل في المراد بالكتب
أراد الكتب التي أنزلتْ على إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى.
وقوله: ﴿وَكَانَتْ مِنَ القانتين﴾.
يجوز في «مِن» وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية.
والثاني: أنها للتبعيض، وقد ذكرهما الزمخشريُّ، فقال: و «مِنْ» للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية، على أنها ولدت من القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله على نبيِّنا وعليهما وعلى سائر الأنبياء وآلهم.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: ﴿مِنَ القانتين﴾ على التذكير؟.
قلت: القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه.
ويجوز أن يرجع إلى أهل بيتها، فإنهم كانوا مطيعين لله، والقنوت: الطاعة.
وقال عطاء: من المصلّين بين المغرب والعشاء.
وعن معاذ بن جبلٍ: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لخديجة وهي تجود بنفسها: أتكرهين ما قد نزل بك، وقد جعل اللَّهُ في الكره خيراً، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهنّ منِّي السَّلام مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم وكليمة - أو قال: حليمة - بنت عمران أخت موسى بن عمران، فقالت: بالرفاء والبنين يا رسول الله».
[قال ابن الأثير: الرفاء والبنين: الالتئام والاتفاق والبركة والنَّماء، وهو مهموز.
وذكره الهروي في «المعتلّ» قال: «وهو على معنيين:
أحدهما: الاتفاق وحسن الاجتماع، والآخر: من الهدوء والسكون، وأما المهموز
وروى قتادة عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «حَسْبُكُ مِنْ نِسَاءِ العَالمينَ أربعٌ: مَريَمُ ابْنَةُ عِمرانَ، وخَدِيجَةُ بنتُ خُويْلِدٍ، وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وآسيةُ بِنْتُ مُزاحِمٍ امرأةُ فِرْعَونَ».
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ ﴿يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ﴾ أعطاهُ اللَّهُ تَوْبَةٌ نَصُوحاً».
مكية، وتسمى الواقية، والمنجية، وتدعى في التوراة المانعة؛ لأنها تنقي وتنجي من عذاب القبر.
واسمها آسية بنت مزاحم.
قال يحيى بن سلام : قوله :﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ مثل ضربه الله يحذر به عائشة، وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا عليه صلى الله عليه وسلم ثم ضرب الله لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة، والثبات على الدين.
وقيل : هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة، أي : لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون.
قال المفسرون : لما غلب موسى السحرة آمنت امرأةُ فرعون.
وقيل : هي عمة موسى آمنت به، فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس، وألقى عليها صخرة عظيمة، فقالت :«ربِّ نَجِّنِي مِنْ فرعَونَ وعمله ». فرمى بروحها في الجنة، فوقعت الصخرة على جسد لا روح فيه.
وقال الحسنُ : رفعها تأكل في الجنة، وتشرب١.
قال سلمان الفارسي : كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة٢.
قوله :﴿ إذْ قَالَتْ رَبِّ ﴾.
منصوب ب «ضرب »، وإن تأخر ظهور الضرب.
ويجوز أن ينتصب بالمثل.
قوله :﴿ عِندَكَ ﴾.
يجوز تعلقه ب «ابْنِ »، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «بَيْتاً » كان نعته فلما قدم نصب حالاً.
و ﴿ فِي الجنة ﴾.
إما متعلق ب «ابْنِ » وإما بمحذوف على أنه نعت ل «بَيْتاً ».
فصل في قصة امرأة فرعون.
قال المفسرون٣ : لما كانت تعذب في الشمس، وأذاها حرّ الشمس ﴿ قَالَتْ : رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة ﴾ فوافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون : لا تَعْجبُوا من جُنُونهَا أنَا أعذِّبُها وهي تضحك، فقبض رُوحها.
وروي أنه وضع على ظهرها رحى فأطلعها اللَّهُ، حتى رأت مكانها في الجنَّة، وانتزع روحها، فألقيت عليها صخرة بعد خروج روحها فلم تجد ألماً.
وقال الحسن وابن كيسان : رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة، فهي فيها تأكل، وتشرب، وتتنعم.
قوله :﴿ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ﴾.
تعني بالعمل : الكفر.
وقيل :«من عمله »، أي : من عذابه وظلمه.
وقال ابن عباس : الجماع٤.
﴿ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين ﴾، أي : الكافرين.
قال الكلبيُّ : أهل «مصر »٥.
وقال مقاتل : القبط٦.
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/١٦٢) والحاكم (٢/٤٩٦)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٢/٢٤٤) رقم (١٦٣٧) عن سلمان وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر..
٣ ينظر: القرطبي ١٨/١٣٢..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٧٨) وعزاه إلى وكيع في "الغرر"..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٣٢)..
٦ ينظر تفسير القرطبي (١٨/١٣٢)..
عطف على ﴿ امرأة فِرْعَوْنَ ﴾.
ضرب الله المثل للكافرين بامرأتين، وللمؤمنين بامرأتين.
وقال أبو البقاء١ :«ومَرْيَمَ » أي :«واذكر مريم ».
وقيل : أو «ومثل مريم ».
وقرأ العامة :«ابْنَة » بنصب التاء.
وأيوب٢ السختياني : بسكون الهاء، وصلاً، أجرى الوصل مجرى الوقف.
والعامة أيضاً :«فَنَفَخْنَا فيْهِ » أي : في الفرجِ.
وعبد الله٣ :«فِيْهَا » أي : في الجملة. وقد تقدم في «الأنبياء »٤ مثله.
والعامة أيضاً :«وصَدَّقتْ » بتشديد الدال.
ويعقوب وقتادة وأبو مجلز، وعاصم٥ في رواية : بتخفيفها، أي : صدقت فيما أخبرت به من أمر عيسى.
والعامة على :«بِكَلمَاتِ » جمعاً.
والحسن ومجاهد والجحدري :«بِكلمَةِ » بالإفراد٦.
فقيل : المراد بها عيسى ؛ لأنه كلمةُ الله.
فصل في مريم ابنة عمران
ضرب الله مثلاً بمريم ابنة عمران وصبرها على أذى اليهود.
وقوله :﴿ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾ عن الفواحش.
وقال المفسرون هنا٧ : أراد بالفرج الجيب، لقوله ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ وجبريل - عليه السلام - إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها.
وهي٨ في قراءة أبيٍّ :﴿ فنفخنا في جيبها من روحنا ﴾، وكل خرق في الثوب يسمى فرجاً، ومنه قوله تعالى :﴿ وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾.
ويحتمل أن يكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها.
ومعنى «فَنَفَخْنَا » أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها «مِنْ رُوحِنَا » أي : روحاً من أرواحنا وهي روح عيسى، وقوله :﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ﴾ أي : قول جبريل لها :﴿ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾[ مريم : ١٩ ] الآية.
وقال مقاتل : يعني بالكلمات عيسى، وأنه نبيّ وعيسى كلمة الله٩ كما تقدم.
وقيل :﴿ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا ﴾ يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة.
قوله :﴿ وَكُتُبِهِ ﴾.
قرأ أهل «البَصْرة » وحفص :«وكُتُبِهِ » على الجمع.
وقرأ الأخرون١٠ :«وكِتَابِهِ » على التوحيد.
والمراد منه الكثرة، فالمراد به الجِنْس، فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى.
وقرأ أبو رجاء١١ :«وَكُتْبِهِ » بسكون التاء، وهو تخفيف حسن.
وروي عنه١٢ :«وكَتْبِهِ » بفتح الكاف.
قال أبو الفضل : مصدر وضع موضع الاسم، يعني ومكتوبه.
فصل في المراد بالكتب
أراد الكتب التي أنزلتْ على إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى.
وقوله :﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾.
يجوز في «مِن » وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية.
والثاني : أنها للتبعيض، وقد ذكرهما الزمخشريُّ، فقال١٣ : و «مِنْ » للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية، على أنها ولدت من القانتين ؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله على نبيِّنا وعليهما وعلى سائر الأنبياء وآلهم.
قال الزمخشري١٤ : فإن قلت : لم قيل :﴿ مِنَ القانتين ﴾ على التذكير ؟.
قلت : القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه.
ويجوز أن يرجع إلى أهل بيتها، فإنهم كانوا مطيعين لله، والقنوت : الطاعة.
وقال عطاء : من المصلّين بين المغرب والعشاء١٥.
وعن معاذ بن جبلٍ :«أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها : أتكرهين ما قد نزل بك، وقد جعل اللَّهُ في الكره١٦ خيراً، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهنّ منِّي السَّلام مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم وكليمة - أو قال : حليمة - بنت عمران أخت موسى بن عمران، فقالت : بالرفاء والبنين يا رسول الله »١٧.
[ قال ابن الأثير١٨ : الرفاء والبنين : الالتئام والاتفاق والبركة والنَّماء، وهو مهموز.
وذكره الهروي في «المعتلّ » قال :«وهو على معنيين :
أحدهما : الاتفاق وحسن الاجتماع، والآخر : من الهدوء والسكون، وأما المهموز فمن قولهم : رَفَأتُ الثَّوب رفاءً، ورفوتُه رفواً » انتهى ]١٩.
وروى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«حَسْبُكُ مِنْ نِسَاءِ العَالمينَ أربعٌ : مَريَمُ ابْنَةُ عِمرانَ، وخَدِيجَةُ بنتُ خُويْلِدٍ، وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وآسيةُ بِنْتُ مُزاحِمٍ امرأةُ فِرْعَونَ »٢٠.
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٩٠، والدر المصون ٦/٣٣٩..
٣ ينظر السابق، والكشاف ٤/٥٧٣..
٤ آية رقم ٩١..
٥ ينظر السابق، والمحرر الوجيز ٥/٣٣٥، ٣٣٦..
٦ ينظر السابق..
٧ ينظر: القرطبي ١٨/١٣٣..
٨ ينظر: السابق..
٩ ينظر تفسير القرطبي (١٨/١٣٢)..
١٠ ينظر: السبعة ٦٤١، والحجة ٦/٣٠٤، وإعراب القراءات ٢/٣٧٦، وحجة القراءات ٤١٥، والعنوان ١٩٣، وشرح الطيبة ٦/٦١، وإتحاف ٢/٥٤٩..
١١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٣٣٦، والبحر المحيط ٨/٢٩٠، والدر المصون ٦/٣٣٩..
١٢ ينظر السابق..
١٣ ينظر: الكشاف ٤/٥٧٣..
١٤ السابق..
١٥ ينظر تفسير القرطبي (١٨/١٣٢)..
١٦ في أ: ذلك..
١٧ ينظر تفسير القرطبي (١٨/١٣٣)..
١٨ ينظر النهاية ٢/٢٤٠..
١٩ سقط من: أ..
٢٠ تقدم..