وقال القرطبي : وتسمى سورة النبي صلى الله عله وسلم اثنتا عشرة آية
وهي مدنية قال القرطبي في قول الجميع قال ابن عباس : نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير نحوه.
ﰡ
(والله غفور رحيم) أي بليغ المغفرة، والرحمة لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك، واختلف في سبب نزول هذه الآية على أقوال، الأول قول أكثر المفسرين: قال الواحدي: قال المفسرون: كان النبي ﷺ في بيت حفصة فزارت أباها، فلما رجعت أبصرت مارية القبطية في بيتها
" عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ كانت له أمة يطؤها فلم تزل عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراماً، فأنزل الله هذه الآية " أخرجه النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه.
" وعن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب. من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال: عائشة وحفصة، وكان بدء الحديث في شأن مارية القبطية أم إبراهيم، أصابها النبي صلى الله عليه في بيت حفصة في يومها فوجدت حفصة فقالت: يا رسول الله لقد جئت إلي بشيء ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي، وفي دوري على فراشي، قال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها ابداً؟ قالت: بلى، فحرمها وقال: لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه فأنزل الله (يا أيها النبي لم تحرم) الآيات كلها فبلغنا أن رسول الله ﷺ كفَّر عن يمينه وأصاب مارية " أخرجه البزار والطبراني قال السيوطي بسند صحيح.
وأخرجه ابن سعد وابن مردويه عنه بأطول من هذا وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه بأخصر منه، وأخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه
_________
(١) ضعيف الجامع - ١٧٠٤.
" وعن ابن عمر قال: قال النبي ﷺ لحفصة لا تحدثي أحداً، وإن أم إبراهيم عليّ حرام، قالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: فوالله لا أقربها فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل الله
" وعن أبي هريرة أن سبب النزول تحريم مارية كما سلف "، أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وسنده ضعيف.
الثاني قيل: السبب أنه كان ﷺ يشرب عسلاً، وهو الذي رواه الشيخان، والتي شرب عندها هي زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة أن يقولا له إذا دخل عليهما: إنا نجد منك ريح مغافير فحرم العسل فنزلت هذه الآية، أخرج البخاري وغيره:
" عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها لبناً أو عسلاً فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي ﷺ فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود، فنزلت (يا أيها النبي) إلى قوله (إن تتوبا إلى الله) لعائشة وحفصة، (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً) لقوله: بل شربت عسلاً ".
وقيل: هي سودة كما روي:
" عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ شرب من شراب عند سودة من العسل، فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريحاً فدخل على حفصة فقالت: إني أجد منك ريحاً، فقال: أراه من شراب
" عن عبد الله بن رافع قال: سألت أم سلمة عن هذه الآية يا أيها النبي لم تحرم؟ قالت كانت عندي عكة من عسل أبيض فكان النبي ﷺ يلعق منها، وكان يحبه فقالت له عائشة نحلها تجرس عرفطاً فنزلت هذه الآية " أخرجه ابن سعد وذكره الخطيب والخازن، وقيل: هي حفصة فواطأت عائشة وسودة وصفية فقلن له إنا نشم منك ريح المغافير، فحرم العسل فنزلت الآية، قاله البيضاوي.
الثالث قيل: السبب المرأة التي وهبت نفسها للنبي ﷺ فالأولان سببان صحيحان لنزول الآية والجمع ممكن بوقوع القصتين، قصة مارية وقصة العسل، وأن القرآن نزل فيهما جميعاً، وفي كل واحد منهما أنه أسر الحديث إلى بعض أزواجه، وأما الثالث فقال شيخنا الشوكاني: أنه ليس في ذلك إلا ما روى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
" عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية للمرأة التي وهبت نفسها للنبي ﷺ "، قال السيوطي: وسنده ضعيف، ويرد هذا أيضاً أن النبي ﷺ لم يقبل تلك الواهبة نفسها، فكيف يصح أن يقال: إنه نزل في شأنها؟ فإن من رد ما وهب له لم يصح أن يقال: أنه حرم على نفسه، وأيضاًً لا ينطبق على هذا السبب قوله: وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً إلى آخر ما حكاه الله.
وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن ابن عباس سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله ﷺ فأخبره أنهما عائشة وحفصة ثم ذكر قصة الإيلاء كما في الحديث الطويل، فليس في هذا نفي كون السبب هو ما قدمنا من قصة العسل والسرية، لأنه إنما أخبره
(قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) أي شرع لكم تحليل أيمانكم، وبينّ لكم الخروج والخلاص منها بالكفارة، وقول النسفي: أو شرع لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها، وذلك أن يقول: إن شاء الله عقيبها حتى لا يحنث، وتحريم الحلال يمين عندنا انتهى، وتحلة أصلها تحللة فأدغمت وهي من مصادر التفعيل كالتوصية والتسمية، فكأن اليمين عند والكفارة حل لأنها تحل للحالف ما حرمه على نفسه، قال مقاتل: المعنى قد بينّ الله كفارة أيمانكم في سورة المائدة، أمر الله نبيه ﷺ أن يكفر يمينه، ويراجع وليدته، فأعتق رقبة.
وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه ﷺ مغفور له ذكره المحلي والنسفي، قال الزجاج: وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله وهذا هو الحق، إن تحريم ما أحل الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه، فالتحليل والتحريم هو إلى الله سبحانه لا إلى غيره، ومعاتبته لنبيه ﷺ في هذه السورة أبلغ دليل على ذلك، والبحث طويل، والمذاهب فيه كثيرة، والمقالات فيه طويلة وقد حققه الشوكاني في مؤلفاته بما يشفي، وذكر رضي الله عنه في شرحه للمنتقي خمسة عشر قولاً، واختلف العلماء هل مجرد التحريم يمين توجب الكفارة أم لا؟ وفي ذلك خلاف، وليس في الآية ما يدل على أنه يمين، لأن الله سبحانه عاتبه على تحريم ما أحله له، ثم قال: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم، وقد ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها هي
عن ابن عباس قال: في الحرام يكفر، وقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، وعنه أنه جاءه رجل فقال: إني جعلت امرأتي عليّ حراماً فقال كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا (لم تحرم ما أحل الله لك)؟ قال: عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة.
" وعن عائشة قالت لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح فأنزل الله (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فأحل يمينه، وأنفق عليه " أخرجه الحرث ابن أسامة.
(والله مولاكم) أي وليكم وناصركم، والمتولي لأموركم، وقيل: مولاكم أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم أنفسكم ذكره النسفي (وهو العليم) بما فيه صلاحكم وفلاحكم (الحكيم) في أقواله وأفعاله.
(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً) قال أكثر المفسرين ومنهم النسفي والمحلي والخازن: هي حفصة كما سبق، والحديث هو تحريم مارية أو العسل أو تحريم التي وهبت نفسها له، والعامل في الظرف فعل مقدر، أي واذكر إذ أسر، وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي.
وأخرج ابن عدي وابن عساكر.
" عن عائشة في الآية قالت: أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي ". وأخرج ابن عدي وأبو نعيم في الصحابة والعشاري في فضائل الصديق وابن مردويه وابن عساكر من طرق:
(فلما نبأت به) أخبرت به غيرها ظناً منها أن لا حرج في ذلك فهو باجتهاد منها، وهي مأجورة فيه، وذلك لأن الاجتهاد جائز في عصره ﷺ على الصحيح، كما في جمع الجوامع وأصل نبأ وأنبأ وخبر وأخبر وحدث أن تتعدى لاثنين إلى الأول بنفسها، وإلى الثاني بحرف الجر، وقد يحذف الجار تخفيفاً، وقد يحذف الأول للدلالة عليه، وقد جاءت الاستعمالات الثلاث في هذه الآية، فقوله: (فلما نبأت به) تعدى لاثنين حذف أولهما، والثاني مجرور بالباء، وقوله: (فلما نبأها به) ذكرهما، وقوله: (من أنبأك هذا)؟ ذكرهما وحذف الجار.
(وأظهره الله عليه) أي أطلع الله نبيه على ذلك الواقع منها من الإخبار لغيرها على لسان جبريل (عرف بعضه) أي بعض ما أخبرت به وهو تحريم مارية أو العسل قرأ الجمهور: عرف مشدداً من التعريف، ومعناه عرف حفصة بعض الحديث، وأخبرها ببعض ما كان منها، وقرىء بالتخفيف أي عرف بعض الذي فعلته حفصة واختار أبو عبيد وأبو حاتم الأولى لقوله: (وأعرض عن بعض) ولو كان مخففاً لقال في ضده: وأنكر بعضاً، والمعنى لم يعرفها إيّاه ولم يخبرها به تكرماً منه وحياء وحسن عشرة.
قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من
(فلما نبأها به) أي أخبرها بما أفشت من الحديث (قالت من أنبأك هذا)؟ أي من أخبرك به (قال نبأني العليم الخبير) أي أخبرني الذي لا تخفى عليه خافية
(وإن تظاهرا عليه) قرأ الجمهور بحذف إحدى التاءين، وقرىء على الأصل، وقرىء تظهر بتشديد الظاء والهاء بدون ألف، وهي سبعية والمراد بالتظاهر التعاضد والتعاون، والمعنى وإن تعاضدا وتعاونا بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره وقيل: كان التظاهر بين عائشة وحفصة في التحكم على النبي ﷺ في النفقة.
(فإن الله هو) ضمير متصل ضمير منفصل (مولاه) تعليل لجواب
" وعن أبي أمامة مرفوعاً مثله " أخرجه الحاكم.
" وعن علي بسند ضعيف قال: هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ".
" وعن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: وصالح المؤمنين علي بن أبي طالب " أخرجه ابن مردويه.
(والملائكة) على تكاثر عددهم (بعد ذلك) أي بعد نصر الله والمذكورين (ظهير) أي أعوان يظاهرونه، قال أبو علي الفارسي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله: (ولا يسأل حميم حميماً)، قال الواحدي: وهذا من الواحد الذي يؤدي عن معنى الجمع كقوله: (وحسن أولئك رفيقاً) وقد تقرر في علم النحو أن مثل جريح وصبور وظهير يوصف به الواحد والمثنى والجمع، وإنما عدل عن عطف المفرد إلى عطف الجملة ليؤذن بالفرق فإن نصرة الله هي النصرة في الحقيقة، وأنه تعالى إنما ضم إليها المظاهرة بجبريل وبصالح المؤمنين وبالملائكة للتتميم، تطبيباً لقلوب المؤمنين، وتوقيراً للنبي الرسول وإظهاراً للآيات البينات، كما في يوم بدر وحنين. قال تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
ثم نعت سبحانه الأزواج بقوله: (مسلمات) أي قائمات بفرائض الإسلام إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص وقال سعيد بن جبير
(تائبات) يعني كثيرات التوبة من الذنوب، تاركات لها، راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله ﷺ عن الهفوات والزلات (عابدات) لله متذللات له قال الحسن وسعيد بن جبير: كثيرات العبادة (سائحات) أي صائمات قاله ابن عباس، وقال زيد بن أسلم والحسن: مهاجرات، وليس في أمة محمد ﷺ سياحة إلا الهجرة، قال ابن قتيبة والفراء وغيرهما: وسمي الصيام سياحة لأن السائح لا زاد معه، وقيل: المعنى ذاهبات في طاعة الله من ساح الماء إذا ذهب، وأصل السياحة الجولان في الأرض، وقيل: يسحن معه حيث ساح وقد مضى الكلام على السياحة في سورة براءة.
(ثيبات وأبكاراً) أي بعضهن كذا وبعضهن كذا ووسط بينهما العاطف لتنافيهما دون سائر الصفات. والثيبات جمع ثيب لا ينقاس، لأنه اسم جنس مؤنث ووزنها فيعل من ثاب يثوب أي رجع، وهي المرأة التي قد تزوجت ثم ثابت عن زوجها فعادت كما كانت غير ذات زوج، وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها وهذا صح: لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوجها، والأبكار جمع بكر وهي العذراء سميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت عليها، عن بريدة في الآية قال: وعد الله نبيه ﷺ في هذه الآية أن يزوجه بالثيب آسية امرأة فرعون وبالبكر مريم بنت عمران. ولا يقال: أي مدح في كونهن ثيبات لأن الثيب قد تمدح من جهة أنها أكثر تجربة وعقلاً، وأسرع حبلاً غالباً، والبكر تمدح من جهة أنها أطهر وأطيب وأكثر مداعبة وملاعبة غالباً،
(ناراً وقودها الناس والحجارة) أي ناراً عظيمة، تتوقد بالناس الكفار والحجارة، كالأصنام منها، كما يتوقد قد غيرها بالحطب، وقيل: الكبريت لأنه أشد الأشياء حراً وأسرع إيقاداً، وقد تقدم بيان هذا في سورة البقرة، قال مقاتل بن سليمان: قوا أنفسكم وأهليكم بالأدب الصالح النار في الآخرة وقال قتادة ومجاهد. قوا أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم، قال ابن جرير: فعلينا أن نعلم أولادنا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب، ومن هذا قوله: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)، وقوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين)، وعن علي بن أبي طالب في الآية قال: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم، وعن ابن عباس قال: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار، وعنه قال: أدبوا أهليكم.
(عليها ملائكة) أي على النار خزنة من الملائكة يولون أمرها وتعذيب أهلها، وهم الزبانية (غلاظ) على أهل النار (شداد) عليهم لا يرحمونهم إذا استرحموهم، لأن الله سبحانه وتعالى خلقهم من غضبه، وحبب إليهم تعذيب خلقه، وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال، وقيل: الغلاظ ضخام الأجسام والشداد الأقوياء، وقيل: المراد غلاظ القلوب شداد الأبدان، من غلظ القلب أي قسوته، لا من غلظ الجسم ولا من غلظ القول.
" عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكب أحدهم مسيرة مائة خريف، ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحناً من لدن قرنه إلى قدمه " أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد.
وأن يكون مصدراً، تنصح صاحبها بترك العود إلى ما ناب عنه، وصفت بذلك على الإسناد المجازي، وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم بالعزم على الترك للذنب، وترك المعاودة له.
قال قتادة: التوبة النَّصوح الصادقة، وقيل: الخالصة، وقال الحسن: التوبة النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره، وقال الكلبي: التوبة النصوح الندم بالقلب والاستغفار باللسان والإقلاع بالبدن، والاطمئنان على أن لا يعود وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة، وعن
" وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود إليه أبداً (١) أخرجه أحمد وابن مردويه والبيهقي، وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف، والصحيح الموقوف كما أخرجه موقوفاً عليه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي وابن المنذر.
" وعن ابن مسعود قال: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، وهو في القرآن، ثم قرأ هذه الآية " (٢) أخرجه الحاكم وصححه.
وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة، وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال، وفي كل الأزمان، واختلف في معناها، وذكروا في تفسيرها ثلاثة وعشرين قولاً متقاربة المعنى لا يسعها هذا الموضع، وملاك الأمر فيها أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، ولو حز بالسيف وأحرق بالنار، وهي واجبة من كل معصية كبيرة أو صغيرة على الفور، ولا يجوز تأخيرها، وتجب من جميع الذنوب، وإن تاب، من بعضها صحت توبته عما تاب منه، وبقي الذي لم يتب منه هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
وقد أخرج مسلم:
_________
(١) رواه أحمد.
(٢) رواه الحاكم.
" وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " (٢) أخرجه البخاري، وأخرجا:
" عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض الفلاة "، الحديث.
" وعن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار، ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه مسلم.
" وعن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " أخرجه الترمذي وحسنه.
(عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم) بسبب تلك التوبة (جنات تجري من تحتها الأنهار) معطوف على يكفر منصوب بناصبه، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرىء بالجزم عطفاً على محل عيسى، كأنه قال توبوا يوجب تكفير سيئاتكم، ويدخلكم، وعسى وإن كان أصلها للإطماع فهي من الله واجبة تفضلاً وتكرماً لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وليس واجباً
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) رواه البخاري.
وقد تقدم في سورة الحديد أن النور يكون معهم حال مشيهم على الصراط والمراد بأيمانهم جهاتهم كلها والتقييد بالأمام والإيمان لا ينفي أن لهم نوراً على شمائلهم، بل لهم نور لكن لا يلتفتون إليه، لأنهم إما من السابقين فيمشون فيما هو أمامهم، وإما من أهل اليمين فيمشون فيما هو عن أيمانهم، عن ابن عباس في الآية قال: ليس أحد من الموحدين لا يعطي نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفىء نوره، وما من مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، قال ابن مسعود: يمرون على صراط على قدر أعمالهم، يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه ذكره السيوطي في البدور السافرة.
(يقولون) خبر ثان أو حال: (ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير) هذا دعاء المؤمنين حين إطفاء الله نور المنافقين كما تقدم بيانه وتفصيله.
(كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين) وهما نوح ولوط عليهما السلام، أي كانتا في عصمة نكاحهما، وهذه جملة مستأنفة كأنها مفسرة لضرب المثل، ولم يؤت بضميرهما فيقال: تحتهما لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة وفي ذلك مبالغة في المعنى المقصود وهو أن الإنسان لا ينفعه عادة إلا صلاح نفسه لا صلاح غيره، وإن كان ذلك الغير في أعلى مراتب الصلاح والقرب من الله تعالى (فَخَانَتَاهُمَا) أي فوقعت منهما الخيانة لهما.
" قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط "، ورواه ابن عساكر مرفوعاً.
وقال عكرمة والضحاك: بالكفر، وقد وقعت الأدلة الإجماعية على أنها ما زنت امرأة نبي قط، وقيل: كانت خيانتهما النفاق وقيل: خانتاهما بالنميمة.
(فلم يغنيا عنهما من الله شيئاًً) أي فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئاًً من النفع، ولا دفعا عنهما من عذاب الله مع كرامتهما على الله، ونبوتهما شيئاًً من الدفع، وفيه تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة (وقيل) أي ويقال لهما في الآخرة أو عند موتهما:
(ادخلا النار مع الداخلين) لها من أهل الكفر والمعاصي، وقال يحيى ابن سلام: ضرب الله مثلاً للذين كفروا يحذر به عائشة، وحفصة من المخالفة لرسول الله ﷺ حين تظاهرتا عليه، وما أحسن ما قال، فإن ذكر امرأتي النبيين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله ﷺ يرشد أتم إرشاد ويلوح أبلغ تلويح إلى أن المراد تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين، وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئاًً، وقد عصمهما الله سبحانه عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة.
(إذ) ظرف لمثلاً أو لضرب (قالت رب ابن لي عندك) حال من ضمير المتكلم أو من (بيتاً) لتقدمه عليه وقوله: (في الجنة) بدل أو عطف بيان لقوله: عندك، أو متعلق بقوله: ابن، وقدم عندك هنا للإشارة إلى قولهم: الجار قبل الدار، ومعناه بيتاً قريباً من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين منك، أو في مكان لا يتصرف فيه إلا بإذنك وهو الجنة.
(ونجني من فرعون وعمله) أي من ذاته الخبيثة وشركه، وما يصدر عنه من أعمال الشر، وقال ابن عباس: عمله يعني جماعة، وعن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة، وعن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة اوتاد، وأضجعها، وجعل على صدرها رحى، واستقبل بها عين الشمس، فرفعت رأسها إلى السماء فقال: رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة إلى قوله: (ونجني من القوم الظالمين) ففرج الله لها عن بيتها في الجنة فرأته، وقبض الله روحها، قال الكلبي هم أهل مصر، وقال مقاتل: هم القبط، قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرم نجاة، ورفعها إلى الجنة، فهي تأكل وتشرب، وفيه دليل على أن الإستعاذة بالله والإلتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين، وديدن المؤمنين بيوم الدين.
(وصدقت بكلمات ربها) يعني بشرائعه التي شرعها الله لعباده، وقيل: المراد بالكلمات عيسى وقيل صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره، قرأ الجمهور صدقت بالتشديد، وقرىء بالجمع والمراد على الأول الجنس، فيكون في معنى الجمع وهي الكتب المنزلة على الأنبياء كإبراهيم وموسى وابنها عيسى.
(وكانت من القانتين) قال قتادة من القوم المطيعين لربهم، وقال عطاء: من المصلين كانت تصلي بين المغرب والعشاء، ويجوز أن يراد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم، وكانوا مطيعين أهل بيت صلاح وطاعة، ولا كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على إناثه، وفيه إشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين حتى عدت من جملتهم، ومن للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام.
" عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، ما قص الله علينا من خبرها في القرآن قالت رب ابن لي عندك الآية (١) أخرجه أحمد والطبراني والحاكم، وفي الصحيحين وغيرهما:
_________
(١) رواه أحمد.
_________
(١) رواه مسلم.
وتسمى سورة تبارك والواقية والمنجية، وتدعى في التوراة (١)، المانعة، وهي ثلاثون آية، وهي مكية قال القرطبي: في قول الجميع، وعن ابن عباس قال: نزلت بمكة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك " (٢)، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن الضريس والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب والترمذي وقال: هذا حديث حسن.
وعن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " سورة في القرآن خاصمت عن صحابها حتى أدخلته الجنة: تبارك " الآية أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه والضياء في المختارة.
وعن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي - ﷺ -
_________
(١) كيف ورد ذكرها في التوراة لا ندري؟؟ سامح الله المؤلف.
(٢) رواه أحمد؛ المسند وأصحاب السنن الأربعة بسند حسن.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ -: " تبارك هي المانعة من عذاب القبر " (١) أخرجه ابن مردويه والنسائي وصححه الحاكم.
وعن رافع بن خديج وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله - ﷺ - يقول: أنزلت عليّ سورة تبارك وهي ثلاثون آية جملة واحدة وهي المانعة في القبور " أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن عباس أنه قال لرجل ألا أتحفك بحديث تفرح به، قال بلى قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة تجادل يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن ينجيه الله من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول الله - ﷺ -: " لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي " أخرجه عبد بن حميد في مسنده والطبراني والحاكم وابن مردويه.
_________
(١) ذكره السيوطي في الدر ٦/ ٢٤٦ من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود موقوفاً عليه وهو ضعيف.
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (٥)