ﰡ
مدنية بالإجماع، وآيها: اثنتا عشرة آية، وحروفها: ألف ومئة وستون حرفًا، وكلمها؛ مئتان وسبع وأربعون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١)﴾.[١] كان رسول الله - ﷺ - قد خلا بسُرِّيته مارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس ملك مصر في بيت حفصة، وقد مرت لزيارة أبيها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فجاءت حفصة، فوجدتهما، فأقامت خارج البيت حتى أَخرجَ رسولُ الله - ﷺ - مارية، وذهبت، فدخلت حفصة غَيْرى متغيرة، فقالت: يا رسول الله! أما كان في نسائك أهون عليك مني؟ في بيتي وعلى فراشي! فقال لها رسول الله - ﷺ - متراضيًا لها: "هي حرامٌ عليَّ"، وقال مع ذلك: "والله لا أطؤها أبدًا، فلا تخبري عائشة"، وقال: "أبوك وأبو عائشة الخليفتان بعدي" (١)، ثم إن حفصة -رضي الله عنها- قرعت
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيّ﴾ (١) تقدم مذهب نافع في المد والهمز في أول سورة الطلاق.
﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾.
وقيل: شرب عسلًا عند حفصة، فواطأت عائشة سودة وصفية، فقلن له: إنا نشم منك ريحَ المغافير (٢) -وهو صمغ له ريح منكرة، وكان - ﷺ - يشتد عليه أن يُشم منه ما يكره، فحرم العسل، فنزلت.
قال ابن عطية (٣): والقول الأول أن الآية نزلت بسبب مارية أصحُّ وأوضح، وعليه تفقه الناس في الآية (٤).
فإذا قال الرجل لزوجته: أنت عليَّ حرام، أو ما أحلَّ اللهُ عليَّ حرامٌ، فقال أبو حنيفة: هو ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد الطلاق، فليس بشيء، وقال مالك: هو ثلاث في المدخول بها، وينوي في غير المدخول بها، فهو ما أراد من الواحدة أو الاثنتين أو الثلاث، ومتى حرم مالًا أو جارية دون أن يعتق، أو يشترط عتقًا أو نحو ذلك، فليس تحريمه بشيء، وقال الشافعي: إن نوى طلاقًا أو ظهارًا، حصل، أو نواهما، تخير، وثبت ما اختاره، وإن
(٢) رواه البخاري (٤٦٢٨)، كتاب: التفسير، باب: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾، ومسلم (١٤٧٤)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" (٥/ ٣٣٠).
(٤) "في الآية" زيادة من "ت".
﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ تفسير لـ (تُحَرِّمُ)، والمرضاة مصدر كالرضا؛ أي: تبتغي رضاهن بتحريم المحلَّل، وليس لأحد تحريم ما أحل. قرأ الكسائي: (مَرْضَاتَ) بالإمالة، ووقف عليها بالهاء (٢).
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ سَتور للذنب ﴿رَحِيمٌ﴾ عطوف بالرحمة، غفر تعالى لنبيه - ﷺ - ما عاتبه، ورحمه.
﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢)﴾.
[٢] ثم أمره أن يكفِّر عن يمينه، فقال تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ﴾ أي: بَيَّنَ ﴿اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ﴾ أي: تحليل ﴿أَيْمَانِكُمْ﴾ وهو الكفارة، وتقدم حكمها مستوفىً في سورة المائدة.
﴿وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ﴾ ناصركم ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ﴾ بما يصلحكم ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أفعاله.
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٥).
[٣] ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ﴾ أي: واذكر يا محمد ذلك على جهة التأنيب والتعتب لهن.
﴿إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ﴾ هي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما. واختلاف القراء في الهمزتين من (النَّبِيءُ إِلَى) كاختلافهم فيهما من (يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِذَا) أول سورة الطلاق [الآية: ١] ﴿حَدِيثًا﴾ هو تحريم مارية، وخلافة أبي بكر وعمر.
﴿فَلَمَّا نَبَّأَتْ﴾ حفصةُ ﴿بِهِ﴾ عائشةَ ﴿وَأَظْهَرَهُ﴾ أطلعه ﴿اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ بوحي منه.
﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ﴾ قرأ الكسائي: (عَرَفَ) بتخفيف الراء؛ أي: عرف بعضَ الفعل الذي فعلته من إفشاء سره؛ أي: غضب من ذلك، وجازاها عليه بأن طلقها، فلما بلغ ذلك عمر، قال: "لو كان في آل الخطاب خيرٌ لما طلقك رسول الله"، فأمره الله على لسان جبريل بمراجعتها (١). وقرأ الباقون: بتشديد الراء (٢)، أي: أعلم به، وأَنَّبَ عليه.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٤٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٢١٢)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤٢٥ - ٤٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٥ - ١٧٦).
﴿فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ﴾ أي: نبأ حفصة بالخبر، وأنها أفشته إلى عائشة، ظنت أن عائشة فضحتها، فَثَمَّ ﴿قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا﴾ على جهة التثبت ﴿قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾.
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤)﴾.
[٤] فلما أخبرها أن الله أخبره، سكتت، وسلمت، واعتزل - ﷺ - نساءه للحديث الذي أفشته حفصة إلى عائشة، وحلف ألَّا يدخل عليهن شهرًا، فلما ذهب تسع وعشرون ليلة، بدأ بعائشة، فقالت: أقسمتَ أنك لا تدخل شهرًا، وإنما أصبحتَ من تسع وعشرين، فقال: "الشهر تسع وعشرون ليلة" (١)، وكان الشهر تسعًا وعشرين ليلة.
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ﴾ خطاب لحفصة وعائشة من التعاون على رسول الله - ﷺ - بالإيذاء.
﴿فَقَدْ صَغَتْ﴾ مالت ﴿قُلُوبُكُمَا﴾ أي: وُجد منكما ما يوجب التوبة بأن سَرَّكما ما كرهه النبي - ﷺ - من تحريم مارية، وجمع القلوب؛ لئلا يجمع بين تثنيتين في كلمة؛ فرارًا من اجتماع المتجانسين، وربما جمع، وتقديره: إن تبتما، قُبلت توبتكما.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾ أي: ناصره ﴿وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عطفًا على الضمير في (مَوْلاَهُ) (وَصَالح الْمُؤْمِنِينَ) واحد يُراد به الجمع، وهم من صلح من المؤمنين. قرأ ابن كثير: (جَبْرِيلُ) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز (٢)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة، وقرأ أبو بكر عن عاصم كذلك، إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة، وقرأ الباقون: بكسر الجيم والراء من غير همز.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِير﴾ أعوان، المعنى: كلُّ المذكورين ينصرون محمدًا ويعينونه، وتخصيص جبريل لتعظيمه.
﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥)﴾.
[٥] ﴿عَسَى رَبُّهُ﴾ و (عسى) تكون للوجوب في ألفاظ القرآن إلا في موضعين: أحدهما في سورة محمد - ﷺ - (فَهَلْ عَسَيْتُمْ)؛ أي: علمتم وتمنيتم، والثاني: هنا ليس بواجب؛ لأن الطلاق معلق بالشرط، فلما لم يوجد الشرط، لم يوجد التبديل.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٤٠)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٧).
﴿مُسْلِمَاتٍ﴾ خاضعات له بالطاعة ﴿مُؤْمِنَاتٍ﴾ مخلصات ﴿قَانِتَاتٍ﴾ طائعات ﴿تَائِبَاتٍ﴾ عن الذنوب ﴿عَابِدَاتٍ﴾ متذللات لأمر الرسول ﴿سَائِحَاتٍ﴾ صائمات.
﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ أي: مشتملات على الثيبات والأبكار، والآية واردة في الإخبار عن القدرة، لا عن الكون في الوقت؛ لأنه تعالى قال: ﴿إِنْ طَلَّقَكُنَّ﴾، وهو علم أنه لا يطلقهن، وهذا كقوله: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨]، فهذا إخبار عن القدرة، وتخويف لهم؛ لأنه ليس في الوجود خير من أمة محمد - ﷺ -.
روي عن أنس بن مالك: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال للنبي - ﷺ -: "يا رسول الله! لا تكترثْ بأمر نسائك، والله معك، وجبريل معك، وأبو بكر معك، وأنا معك"، فنزلت الآية موافقة نحوًا من قول عمر (٢).
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ٣٣٢)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٨/ ٢٨٧). وأصله في "الصحيح".
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا﴾ جَنِّبوا.
﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ بترك المعاصي ﴿وَأَهْلِيكُمْ﴾ بالنصح والتأديب.
﴿نَارًا وَقُودُهَا﴾ حطبها (٢) ﴿النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ وهي حجارة الكبريت، وقيل: الأصنام، وقرن الناس بالحجارة؛ لأنهم نحتوها واتخذوها أربابًا من دون الله، وقيل من النار نوع لا يتقد إلا بالناس والحجارة كاتقاد هذه النار بالحطب.
﴿عَلَيْهَا﴾ ولاة يعذبون بها الناس ﴿مَلَائِكَةٌ﴾ هم الزبانية ﴿غِلَاظٌ﴾ فظاظ على أهل النار ﴿شِدَادٌ﴾ أقوياء، بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يضرب أحدهم بمقمعته ضربة واحدة سبعين ألفًا، فيهوون في النار.
﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ به ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ بمحبة وإسراع، وهذه الآية تخويف للمؤمنين عن الارتداد.
(٢) "حطبها" زيادة من "ت".
[٧] ويقال للكفار عند دخولهم النار ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ونهيهم عن الاعتذار؛ لأنه لا عذر لهم.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)﴾.
[٨] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ هي ألَّا يعود إلى الذنب. قرأ أبو بكر عن عاصم: (نُصُوحًا) بضم النون، مصدر كالقعود، وقرأ الباقون: بفتحها (١)، مصدر واسم فاعل بمعنى ناصحة، وصف التوبة بالنصح مجازًا، وإنما هو وصف للتائبين؛ لأنهم ينصحون نفوسهم.
﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ ترجية، وروي أن (عَسَى) هنا للوجوب.
﴿وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ عطف على ﴿يُكَفِّرَ﴾.
﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ﴾ ظرف لـ (يُدْخِلَكُم) ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ عطف على (النبي).
﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ على الصراط.
وعن الحسن: مُتَمِّمة لهم، ولكنهم يدعون تقربًا إلى الله؛ كقوله: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: ١٩]، وهو مغفور له.
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)﴾.
[٩] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ﴾ بالسيف ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾ بالحجة وإقامة الحدود ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ في ذلك ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ جهنمُ.
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿ضَرَبَ﴾ أي: مَثَّلَ ﴿اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ﴾ واسمها واعلة ﴿وَامْرَأَتَ لُوطٍ﴾ واسمها واهلة.
﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ﴾ أي: زوجيهما ﴿مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ﴾ هما نوح ولوط عليهما السلام.
﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ بأن أشركتا، لا في الفراش، فقد روي: ما زنت امرأة
﴿فَلَمْ يُغْنِيَا﴾ أي: زوجاهما ﴿عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ﴾ أي: من عذابه.
﴿شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ الكافرين من أمة نوح ولوط، قطع الله بهذه الآية طمع من يركب المعصية أن ينفعه صلاحُ غيره.
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
[١١] ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعًا، فقال: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾ واسمها آسية بنت مزاحم.
﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ قريبًا من رحمتك، وذلك أنها آمنت، فعلم فرعون، فأوتد يدها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقى على صدرها رحى عظيمة (٢)، واستقبل بها الشمس، فقالت: ﴿رَبِّ ابنِ لِى عِندَكَ بها فِى الجَنَّةِ﴾، فكشف لها فرأت بيتها، فسهل الله عليها تعذيبها (٣)، وفي معنى
(٢) "عظيمة" زيادة من "ت".
(٣) رواه أبو يعلى في "مسنده" (٦٤٣١)، عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٩/ ٢١٨): رجاله رجال الصحيح.
﴿وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾ هو الكفرُ، وتعذيبه إياها.
﴿وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ القبط.
﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ﴾ عطف على (امرأةَ فرعون) تسلية للأرامل.
وقف ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (امْرَأَة) و (ابْنَهْ) بالهاء في الأحرف الأربعة، وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (عِمْرَانَ) بالإمالة (١).
﴿الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ من الرجال ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ﴾ أي: الفرج.
﴿مِنْ رُوحِنَا﴾ والمراد: قولُ جبريل -عليه السلام- لها: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾ الآية [مريم: ١٩].
﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا﴾ شرائعه، و (بِكَلِمَةِ رَبِّهَا)؛ أي: بعيسى، والتلاوة بالأول ﴿وَكُتُبِهِ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم: بضم الكاف والتاء بغير ألف على الجمع؛ أي: كتبه المنزلة على إبرإهيم وموسى وداود وعيسى عليهم السلام، وقرأ الباقون: بكسر الكاف وفتح
﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ المطيعين لربها، ولم يقل: من القانتات؛ لأن القنوت يعم الذكر والأنثى، فغلب الذكر.
قال - ﷺ -: "كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسيةُ بنتُ مزاحِم امرأةُ فرعون، ومريمُ بنتُ عمران، وخديجةُ بنتُ خويلد، وفاطمةُ بنتُ محمد، وفضل عائشةَ على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (٢)، والله أعلم.
(٢) رواه البخاري (٣٢٣٠)، كتاب: الأنبياء، باب قوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ ومسلم (٢٤٣١)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل خديجة رضي الله عنها، من حديث أبي موسى الأشعري، بلفظ: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وقد رواه الثعلبي في "تفسيره" (٩/ ٣٥٣) من حديث أبي موسى رضي الله عنه باللفظ الذي ذكره المصنف رحمه الله.