وفي أحكام ابن العربي عنونها سورة ابن أم مكتوم. ولم أر هذا لغيره. وقال الخفاجي : تسمى سورة الصاخة. وقال العيني في شرح صحيح البخاري تسمى سورة السفرة، وتسمى سورة الأعمى، وكل ذلك تسمية بألفاظ وقعت فيها لم تقع في غيرها من السور أو بصاحب القصة التي كانت سبب نزولها.
ولم يذكرها صاحب الإتقان في السور التي لها أكثر من اسم وهو عبس.
وهي مكية بالاتفاق.
وقال في العارضة : لم يحقق العلماء تعيين النازل بمكة من النازل بالمدينة في الجملة ولا يحقق وقت إسلام ابن أم مكتوم اه. وهو مخالف لاتفاق أهل التفسير على أنها مكية فلا محصل لكلام ابن العربي.
وعدت الرابعة والعشرين في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة والنجم وقبل سورة القدر.
وعدد آيها عند العادين من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة اثنان وأربعون، وعند أهل البصرة إحدى وأربعون وعند أهل الشام أربعون.
وهي أولى السور من أواسط المفصل.
وسبب نزولها يأتي عند قوله تعالى ﴿ عبس وتولى ﴾.
أغراضها
تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموازنة بين مراتب المصالح ووجوب الاستقراء لخفياتها كي لا يفيت الاهتمام بالمهم منها في بادئ الرأي مهما آخر مساويا في الأهمية أو أرجح. ولذلك يقول علماء أصول الفقه إن على المجتهد أن يبحث عن معارض الدليل الذي لاح له.
والإشارة إلى اختلاف الحال بين المشركين المعرضين عن هدي الإسلام وبين المسلمين المقبلين على تتبع مواقعه.
وقرن ذلك بالتذكير بإكرام المؤمنين وسمو درجتهم عند الله تعالى.
والثناء على القرآن وتعليمه لمن رغب في علمه.
وانتقل من ذلك إلى وصف شدة الكفر من صناديد قريش بمكابرة الدعوة التي شغلت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى رغبة ابن أم مكتوم.
والاستدلال على إثبات البعث وهو مما كان يدعوهم إليه حين حضور ابن أم مكتوم وذلك كان من أعظم ما عني به القرآن من حيث إن إنكار البعث هو الأصل الأصيل في تصميم المشركين على وجوب الإعراض عن دعوة القرآن توهما منهم بأنه يدعوا إلى المحال، فاستدل عليهم بالخلق الذي خلقه الإنسان، واستدل بعده بإخراج النبات والأشجار من أرض ميتة.
وأعقب الاستدلال بالإنذار بحلول الساعة والتحذير من أهوالها وبما يعقبها من ثواب المتقين وعقاب الجاحدين.
والتذكير بنعمة الله على المنكرين عسى أن يشكروه.
والتنويه بضعفاء المؤمنين وعلو قدرهم ووقوع الخير من نفوسهم والخشية، وأنهم أعظم عند الله من أصحاب الغنى الذين فقدوا طهارة النفس، وأنهم أحرياء بالتحقير والذم، وأنهم أصحاب الكفر والفجور.
ﰡ
[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)افْتِتَاحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِفِعْلَيْنِ مُتَحَمِّلَيْنِ لِضَمِيرٍ لَا مَعَادَ لَهُ فِي الْكَلَامِ تَشْوِيقٌ لِمَا سَيُورَدُ بَعْدَهُمَا، وَالْفِعْلَانِ يُشْعِرَانِ بِأَنَّ الْمَحْكِيَّ حَادِثٌ عَظِيمٌ، فَأَمَّا الضَّمَائِرُ فَيُبَيِّنُ إِبْهَامَهَا قَوْلُهُ:
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: ٦] وَأَمَّا الْحَادِثُ فَيَتَبَيَّنُ مِنْ ذِكْرِ الْأَعْمَى وَمَنِ اسْتَغْنَى.
وَهَذَا الْحَادِثُ سَبَبُ نزُول هَذِه الْآيَات مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْله: بَرَرَةٍ [عبس: ١٦]. وَهُوَ مَا
رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» مُرْسَلًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَدْنِنِي، وَعند النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرِضُ عَنْهُ (أَيْ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ: يَا أَبَا فُلَانٍ هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا فَيَقُولُ: «لَا وَالدِّمَاءِ مَا أَرَى بِمَا تَقول يأسا»، فَأُنْزِلَتْ: عَبَسَ وَتَوَلَّى
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُسْنَدًا عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُوم جَاءَ يستقرىء النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُنَاجِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأَبَا جَهْلٍ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْبِلُ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِ الْأَعْمى هُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَقِيلَ:
اسْمُهُ عَمْرٌو، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ فِي «الْإِصَابَةِ»، وَهُوَ ابْنُ قَيْسِ بْنِ زَائِدَةَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ.
وَأُمُّهُ عَاتِكَةُ، وَكُنِّيَتْ أَمَّ مَكْتُومٍ لِأَنَّ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ وُلِدَ أَعْمَى وَالْأَعْمَى يُكَنَّى
وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّ أَمَّ مَكْتُومٍ هِيَ أَمُّ أَبِيهِ. وَقَالَ الطَّيِّبِيُّ: إِنَّهُ وَهْمٌ، وَأَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، وَتُوفِيَ بِالْقَادِسِيَّةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بَعْدَ
سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ.
وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَآيَةُ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٥].
وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَيُكْرِمُهُ وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْغَزَوَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَكَانَ مُؤَذِّنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ.
وَالْعُبُوسُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: تَقْطِيبُ الْوَجْهِ وَإِظْهَارُ الْغَضَبِ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ عَبُوسٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، أَيْ مُتَقَطِّبٌ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الْإِنْسَان: ١٠].
وَعَبَسَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ.
وَالتَّوَلِّي: أَصْلُهُ تحوّل الذَّات عَن مَكَانِهَا، وَيُسْتَعَارُ لِعَدَمِ اشْتِغَالِ الْمَرْءِ بِكَلَامٍ يُلْقَى إِلَيْهِ أَوْ جَلِيسٍ يَحِلُّ عِنْدَهُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الِاشْتِغَالِ بِسُؤَالِ سَائِلٍ وَلِعَدَمِ الْإِقْبَالِ عَلَى الزَّائِرِ.
وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ تَوَلَّى لِظُهُورِ أَنَّهُ تَوَلٍّ عَنِ الَّذِي مَجِيئُهُ كَانَ سَبَبَ التَّوَلِّي.
وَعُبِّرَ عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بِ الْأَعْمى تَرْقِيقًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ الْعِتَابُ مَلْحُوظًا فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَاحِبَ ضَرَارَةٍ فَهُوَ أَجْدَرُ بِالْعِنَايَةِ بِهِ، لِأَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ سَرِيعًا إِلَى انْكِسَارِ خَاطِرِهِ.
وأَنْ جاءَهُ الْأَعْمى مَجْرُورٌ بِلَامِ الْجَرِّ مَحْذُوفٌ مَعَ أَنْ وَهُوَ حَذْفٌ مُطَّرِدٌ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلَيْ عَبَسَ وَتَوَلَّى عَلَى طَرِيقَةِ التَّنَازُعِ.
وَالْعِلْمُ بِالْحَادِثَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَجِيءٌ خَاصٌّ وَأَعْمَى مَعْهُودٌ.
وَصِيغَةُ الْخَبَرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعِتَابِ عَلَى الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَقْصُودِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ
قَالَ عِيَاضٌ: قَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالسَّمَرْقَنْدِيُّ: أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالذَّنْبِ حَتَّى سَكَنَ قَلْبُهُ اهـ. فَكَذَلِكَ تَوْجِيهُ الْعِتَابِ إِلَيْهِ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ ثُمَّ جِيءَ
بِضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ فَذِكْرُ الْأَعْمَى تُظْهِرُ الْمُرَادَ مِنَ الْقِصَّةِ وَاتَّضَحَ الْمُرَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.
ثُمَّ جِيءَ بِضَمَائِرِ الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَنْ يُسْلِمُوا فَيُسْلِمَ بِإِسْلَامِهِمْ جُمْهُورُ قُرَيْشٍ أَوْ جَمِيعُهُمْ فَكَانَ دُخُولُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ قَطْعًا لِسِلْكِ الْحَدِيثِ وَجَعَلَ يَقُولُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَدْنِنِي، عَلِّمْنِي، أَرْشِدْنِي، وَيُنَادِيهِ وَيُكْثِرُ النِّدَاءَ وَالْإِلْحَاحَ فَظَهَرَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ لِقَطْعِهِ عَلَيْهِ كَلَامَهُ وَخَشْيَتِهِ أَنْ يَفْتَرِقَ النَّفَرُ الْمُجْتَمِعُونَ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ اسْتَقْرَأَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ.
وَجُمْلَةُ وَما يُدْرِيكَ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
(وَمَا يُدْرِيكَ) مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَفِعْلِ الدِّرَايَةِ الْمُقْتَرِنِ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ، أَيْ مَا يَجْعَلُكَ دَارِيًا أَيْ عَالِمًا. وَمِثْلُهُ: مَا أَدْراكَ كَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ٣].
وَمِنْهُ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٩].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَذِهِ التَّرَاكِيبِ مُرَادٌ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَغْفُولٍ عَنْهُ ثُمَّ تَقَعُ بَعْدَهُ جُمْلَةٌ نَحْوَ مَا أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: ٣] وَنَحْوَ قَوْلِهِ هُنَا: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى
قَالَ الرَّاغِبُ: مَا ذُكِرَ مَا أَدْرَاكَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا وَذُكِرَ بَيَانُهُ بَعْدَهُ اهـ. قُلْتُ: فَقَدْ يُبَيِّنُهُ تَفْصِيلٌ مِثْلَ قَوْلِهِ هُنَا: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى وَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [الْقدر: ٢- ٣] وَقَدْ يَقَعُ بَعْدَهُ مَا فِيهِ تَهْوِيلٌ نَحْوَ: وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ [القارعة: ١٠] أَيْ مَا يُعْلِمُكَ حَقِيقَتَهَا وَقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: ٣] أَيْ أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ جَوَابَ: مَا الْحَاقَّةُ وَفِعْلُ: يُدْرِيكَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ لِوُرُودِ حَرْفِ (لَعَلَّ) بَعْدَهُ فَإِنَّ (لَعَلَّ) مِنْ مُوجِبَاتِ تَعْلِيقِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ عَلَى مَا أَثْبَتَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي «التَّذْكِرَةِ» إِلْحَاقًا لِلتَّرَجِّي بِالِاسْتِفْهَامِ فِي أَنَّهُ طَلَبٌ. فَلَمَّا عُلِّقَ فِعْلُ يُدْرِيكَ عَنِ الْعَمَلِ صَارَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ وَبَقِيَ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَة الَّتِي فِيهِ فَصَارَ مَا بَعْدَهُ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً.
وَالتَّذَكُّرُ: حُصُولُ أَثَرِ التَّذْكِيرِ، فَهُوَ خُطُورُ أَمْرٍ مَعْلُومٍ فِي الذِّهْنِ بَعْدَ نِسْيَانِهِ إِذْ هُوَ
مُشْتَقٌّ مِنَ الذُّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ.
وَالْمَعْنَى: انْظُرْ فَقَدْ يَكُونُ تَزَكِّيهِ مَرْجُوًّا، أَيْ إِذَا أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ بِالْإِرْشَادِ زَادَ الْإِيمَانُ رُسُوخًا فِي نَفْسِهِ وَفَعَلَ خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً مِمَّا تُرْشِدُهُ إِلَيْهِ فَزَادَ تَزَكِّيهِ، فَالْمُرَادُ بِ «يَتَزَكَّى» تَزْكِيَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى تَزْكِيَة الْإِيمَان بالتملّي بِفَضَائِلِ شَرَائِعِهِ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ مِمَّا يُفِيضُهُ هَدْيُكَ عَلَيْهِ، كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِي كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ»
إِذِ الْهُدَى الَّذِي يزْدَاد بِهِ الْمُؤمن رِفْعَةً وَكَمَالًا فِي دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ هُوَ كَاهْتِدَاءِ الْكَافِرِ إِلَى الْإِيمَانِ لَا سِيَّمَا إِذِ الْغَايَةُ مِنَ الِاهْتِدَاءَيْنِ وَاحِدَةٌ.
ويَزَّكَّى أَصْلُهُ: يَتَزَكَّى، قُلِبَتِ التَّاءُ زَايًا لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا قَصْدًا لِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ وَكَذَلِكَ فُعِلَ فِي يَذَّكَّرُ مِنَ الْإِدْغَامِ.
وَالتَّزَكِّي: مُطَاوِعُ زَكَّاهُ، أَيْ يَحْصُلُ أَثَرُ التَّزْكِيَةِ فِي نَفْسِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ.
وَالذِّكْرَى: اسْمُ مَصْدَرِ التَّذْكِيرِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى اكْتِفَاءٌ عَنْ أَنْ يَقُولَ: فَيَنْفَعُهُ التَّزَكِّي وَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى لِظُهُورِ أَنَّ كِلَيْهِمَا نَفْعٌ لَهُ.
وَالذِّكْرَى: هُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ يُذَكِّرُ النَّاسَ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [الْقَلَم: ٥٢] فَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلَ عَنْهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَنْفَعَهُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى «يَذَّكَّرُ». وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالنَّصْبِ فِي جَوَابِ: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [٥، ٦]
[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَمَّا فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ أَنَّهَا بِمَعْنَى: مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ، فَقَوْلُهُ:
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى تَفْسِيرُهُ مَهْمَا يَكُنِ الَّذِي اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، أَيْ مَهْمَا يَكُنْ شَيْءٌ فَالَّذِي اسْتَغْنَى تَتَصَدَّى لَهُ، وَالْمَقْصُودُ: أَنْتَ تَحْرِصُ عَلَى التَّصَدِّي لَهُ، فَجُعِلَ مَضْمُونُ الْجَوَابِ وَهُوَ التَّصَدِّي لَهُ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ مَنِ اسْتَغْنَى وَمُلَازِمًا لَهُ مُلَازَمَةَ التَّعْلِيقِ الشَّرْطِيِّ
عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ.
وَالِاسْتِغْنَاءُ: عَدُّ الشَّخْصِ نَفْسَهُ غَنِيًّا فِي أَمْرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ قَوْلٌ، أَوْ فِعْلٌ أَوْ عِلْمٌ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْحُسْبَانِ، أَيْ حَسِبَ نَفْسَهُ غَنِيًّا، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ الِاسْتِغْنَاءُ فِي التَّكَبُّرِ وَالِاعْتِزَازِ بِالْقُوَّةِ.
فَالْمُرَادُ بِ مَنِ اسْتَغْنى هُنَا: مَنْ عَدَّ نَفْسَهُ غَنِيًّا عَنْ هَدْيِكَ بِأَنْ أَعْرَضَ عَنْ قَبُولِهِ لِأَنَّهُ أَجَابَ
قَوْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: «هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا، بِقَوْلِهِ: لَا والدماء... »
كِنَايَة عَن أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ يُرِيدُ وَلَكِنِّي غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِ مَنِ اسْتَغْنى مَنِ اسْتَغْنَى بِالْمَالِ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ فِي إِيثَارِ صَاحِبِ مَالٍ عَلَى فَقِيرٍ.
وَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مُظْهَرًا قَبْلَ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ دُونَ اسْتِتَارِهِ فِي الْفِعْلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّقَوِّي كَأَنَّهُ قِيلَ: تَتَصَدَّى لَهُ تَصَدِّيًا، فَمَنَاطُ الْعِتَابِ هُوَ التَّصَدِّي الْقَوِيُّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ فَأَنْتَ لَا غَيْرُكَ تَتَصَدَّى لَهُ، أَيْ ذَلِكَ التَّصَدِّي لَا يَلِيقُ بِكَ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ، أَيْ لَوْ تَصَدَّى لَهُ غَيْرُكَ لَكَانَ هَوْنًا، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَا يَتَصَدَّى مِثْلُكَ لِمِثْلِهِ فَمَنَاطُ الْعِتَابِ هُوَ أَنَّهُ وَقَعَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَلِيلِ قَدْرِهِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ عَلَى إِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الصَّادِ. وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ.
وَالتَّصَدِّي: التَّعَرُّضُ، أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْإِقْبَالِ الشَّديد مجَازًا.
[٧]
[سُورَة عبس (٨٠) : آيَة ٧]
وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى [عبس: ٥] وَجُمْلَةِ: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى [عبس: ٨]، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَمَا نَافِيَةٌ وعَلَيْكَ خَبَرٌ مقدم. والمبتدأ أَلَّا يَزَّكَّى، وَالْمَعْنَى: عَدَمُ تَزَكِّيهِ
لَيْسَ مَحْمُولًا عَلَيْكَ، أَيْ لَسْتَ مُؤَاخَذًا بِعَدَمِ اهْتِدَائِهِ حَتَّى تَزِيدَ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى تَرْغِيبِهِ فِي الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُكَلِّفْكَ اللَّهُ بِهِ. وَهَذَا رِفْقٌ مِنَ الله بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٨- ١٠]
[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ٨ إِلَى ١٠]
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى [عبس: ٥] اقْتَضَى ذِكْرُهُ قَصْدَ الْمُقَابَلَةِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا مُقَابَلَةَ الضِّدَّيْنِ إِتْمَامًا للتقسيم. وَالْمرَاد: بِمن جَاءَ يسْعَى: هُوَ ابْنُ أُمِّ
وَالسَّعْيُ: شِدَّةُ الْمَشْيِ، كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْحِرْصِ عَلَى اللِّقَاءِ فَهُوَ مُقَابِلٌ لِحَالِ مَنِ اسْتَغْنَى لِأَنَّ اسْتِغْنَاءَهُ اسْتغْنَاء الممتعض من التَّصَدِّي لَهُ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ يَخْشى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَخْشى لِظُهُورِهِ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ تَنْصَرِفُ إِلَى خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ جَاءَ طَلَبًا لِلتَّزْكِيَةِ لِأَنْ يَخْشَى اللَّهَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الِاسْتِرْشَادِ. وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ لِإِفَادَتِهِ التَّجَدُّدَ.
وَالْقَوْلُ فِي فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَالْقَوْلِ فِي: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: ٦].
وَالْعبْرَة من هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا عَظِيمًا مِنَ الْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَرَفَعَ دَرَجَةَ عِلْمِهِ إِلَى أَسْمَى مَا تَبْلُغُ إِلَيْهِ عُقُولُ الْحُكَمَاءِ رُعَاةِ الْأُمَمِ، فَنَبَّهَهُ إِلَى أَنَّ فِي مُعْظَمِ الْأَحْوَالِ أَوْ جَمِيعِهَا نَوَاحِيَ صَلَاحٍ وَنَفْعٍ قَدْ تَخْفَى لِقِلَّةِ اطِّرَادِهَا، وَلَا يَنْبَغِي تَرْكُ اسْتِقْرَائِهَا عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا وَلَوْ ظَنَّهُ الْأَهَمَّ، وَأَنْ لَيْسَ الْإِصْلَاحُ بِسُلُوكِ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ لِلتَّدْبِيرِ بِأَخْذِ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ مُنْضَبِطَةٍ تُشْبِهُ قَوَاعِدَ الْعُلُومِ يُطَبِّقُهَا فِي الْحَوَادِثِ وَيُغْضِي عَمَّا يُعَارِضُهَا بِأَنْ يُسْرِعَ إِلَى تَرْجِيحِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ مِمَّا فِيهِ صِفَةُ الصَّلَاحِ، بَلْ شَأْنُ مُقَوِّمِ الْأَخْلَاقِ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَةِ الطَّبِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّبَائِعِ وَالْأَمْزِجَةِ فَلَا يَجْعَلُ لِجَمِيعِ الْأَمْزِجَةِ عِلَاجًا وَاحِدًا بَلِ الْأَمْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ. وَهَذَا غَوْرٌ عَمِيقٌ يُخَاضُ إِلَيْهِ مِنْ سَاحِلِ الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ الْقَائِلَةِ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا لَاحَ لَهُ دَلِيلٌ: «يَبْحَثُ عَنِ الْمُعَارِضِ» وَالْقَاعِدَةِ الْقَائِلَةِ: «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ نَصَّبَ عَلَيْهِ أَمَارَةً وَكَلَّفَ الْمُجْتَهِدَ بِإِصَابَتِهِ فَإِنْ أَصَابَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ».
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَقَامَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مُسْتَطَاعُهُمْ فَإِنَّ غَوْرَهُ هُوَ اللَّائِقُ
بِمَرْتَبَةِ أَفْضَلِ الرُّسُلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ لَهُ فِيهِ وَحْيٌ، فَبَحْثُهُ عَنِ الْحُكْمِ أَوْسَعُ مَدًى مِنْ مَدَى أَبْحَاثِ عُمُومِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَتَنْقِيبُهُ عَلَى الْمُعَارِضِ أَعْمَقُ غَوْرًا مِنْ تَنَاوُشِهِمْ، لِئَلَّا يَفُوتَ سَيِّدَ الْمُجْتَهِدِينَ مَا فِيهِ مِنْ صَلَاحٍ وَلَوْ ضَعِيفًا، مَا لَمْ يَكُنْ
فَالتَّزْكِيَةُ الْحَقُّ هِيَ الْمِحْوَرُ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ حَالُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَحَالُ الْمُشْرِكِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَرْغُوبَةٌ لِلْأَوَّلِ وَمَزْهُودٌ فِيهَا مِنَ الثَّانِي، وَهِيَ مَرْمَى اجْتِهَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَحْصِيلِهَا لِلثَّانِي وَالْأَمْنِ عَلَى قَرَارِهَا لِلْأَوَّلِ بِإِقْبَالِهِ عَلَى الَّذِي يَتَجَافَى عَنْ دَعْوَتِهِ، وَإِعْرَاضِهِ عَنِ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُتَزَكٍّ بِالْإِيمَانِ.
وَفِي حَالَيْهِمَا حَالَانِ آخَرَانِ سِرُّهُمَا مِنْ أَسْرَارِ الْحِكْمَةِ الَّتِي لَقَّنَهَا اللَّهُ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْفَى فِي مُعْتَادِ نَظَرِ النُّظَّارِ فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ بِهِ لِيُزِيلَ عَنْهُ سِتَارَ ظَاهِرِ حَالَيْهِمَا، فَإِنَّ ظَاهِرَ حَالَيْهِمَا قَاضٍ بِصَرْفِ الِاهْتِمَامِ إِلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُشْرِكُ لِدَعْوَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ حِينَ لَاحَ مِنْ لِينِ نَفْسِهِ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مَا أَطْمَعَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنَ الْإِيمَانِ فَمَحَّضَ تَوْجِيهَ كَلَامِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّ هَدْيَ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ أَعْظَمُ غَرَضٍ بُعِثَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِهِ، فَالِاشْتِغَالُ بِهِ يَبْدُو أَهَمَّ وَأَرْجَحَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ خَالِصٌ، وَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
غَيْرَ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ الظَّاهِرِ حَالًا آخَرَ كَامِنًا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْعَالِمُ بِالْخَفِيَّاتِ وَلَمْ يُوحِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّنْقِيبَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَالُ مُؤْمِنٍ هُوَ مَظِنَّةُ الِازْدِيَادِ مِنَ الْخَيْرِ، وَحَالُ كَافِرٍ مُصَمِّمٍ عَلَى الْكُفْرِ تُؤْذِنُ سَوَابِقُهُ بِعِنَادِهِ وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِيهِ الْبُرْهَانُ شَيْئًا. وَإِنَّ عَمِيقَ التَّوَسُّمِ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ قَدْ يُكْشَفُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعَانَةِ اللَّهِ رُجْحَانَ حَالِ الْمُؤْمِنِ الْمُزْدَادِ مِنَ الرُّشْدِ وَالْهَدْيِ عَلَى حَالِ الْكَافِرِ الَّذِي لَا يَغُرُّ مَا أظهره من اللَّبن مُصَانَعَةً أَوْ حَيَاءً مِنَ الْمُكَابَرَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي إِيمَانِ الْكَافِرِ نَفْعٌ عَظِيمٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ بِزِيَادَةِ عَدَدِهَا وَنَفَعٌ خَاصٌّ لِذَاتِهِ. وَفِي ازْدِيَادِ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَسَائِلِ الْخَيْرِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ نَفْعٌ خَاصٌّ لَهُ وَالرَّسُولُ رَاعٍ لِآحَادِ الْأُمَّةِ وَلِمَجْمُوعِهَا، فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْحِفَاظِ عَلَى مَصَالِحِ الْمَجْمُوعِ وَمَصَالِحِ الْآحَادِ بِحَيْثُ لَا يَدْحَضُ مَصَالِحَ الْآحَادِ لِأَجْلِ مَصَالِحِ الْمَجْمُوعِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّالِحِ الْعَامِّ وَالصَّالِحِ الْخَاصِّ، بَيْدَ أَنَّ الْكَافِرَ صَاحِبَ هَذِه الْقَضِيَّة تنبىء دَخِيلَتُهُ بِضَعْفِ الرَّجَاءِ فِي إِيمَانِهِ لَوْ أُطِيلَ التَّوَسُّمُ فِي حَالِهِ، وَبِذَلِكَ تَعَطَّلَ الِانْتِفَاعُ بِهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا وَتَمَخَّضَ أَنَّ لِتَزْكِيَةِ الْمُؤْمِنِ
وَقَدْ حصل من هَذَا إِشْعَارٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ صُنُوفٌ عَدِيدَةٌ وَلَهُ مَرَاتِبُ سَامِيَةٌ، وَلَيْسَ الِاهْتِدَاءُ مُقْتَصِرًا عَلَى حُصُولِ الْإِيمَانِ مَرَاتِبَ وَمَيَادِينَ لِسَبْقِ هِمَمِ النُّفُوسِ لَا يُغْفَلُ عَنْ تَعَهُّدِهَا بِالتَّثْبِيتِ وَالرَّعْيِ وَالْإِثْمَارِ، وَذَلِكَ التَّعَهُّدُ إِعَانَةٌ عَلَى تَحْصِيلِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ.
وَتِلْكَ سَرَائِرُ لَا يَعْلَمُ حَقَّهَا وَفُرُوقَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. فَعَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ أَنْ يَتَوَخَّاهَا بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ، فَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي شَأْنِهِ اتَّبَعَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ وَحْيٌ فِي شَأْنِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَرِّفَ اجْتِهَادَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [مُحَمَّد: ٣٠].
فَكَانَ ذَلِكَ مَوْقِعَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْمُفْرَغَةِ فِي قَالَبِ الْمُعَاتَبَةِ لِلتَّنْبِيهِ إِلَى الِاكْتِرَاثِ بِتَتَبُّعِ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ وَغَرْسِ الْإِرْشَادِ فِيهَا عَلَى مَا يُرْجَى مِنْ طِيبِ تُرْبَتِهَا لِيَخْرُجَ مِنْهَا نَبَات نَافِع للخاص وللعامة.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُشْرِكَ الَّذِي مَحَضَهُ نُصْحَهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ صَلَاحٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي اسْتَبْقَى الْعِنَايَةَ بِهِ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ يَزْدَادُ صَلَاحًا تُفِيدُ الْمُبَادَرَةُ بِهِ، لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ تَلَهُّفِهِ عَلَى التَّلَقِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّ اسْتِعْدَادًا مِنْهُ فِي حِينٍ آخَرَ.
فَهَذِهِ الْحَادِثَةُ منوال ينسج عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ النَّبَوِيُّ إِذَا لَمْ يَرِدْ لَهُ الْوَحْيُ لِيَعْلَمَ أَنَّ مِنْ وَرَاءِ الظَّوَاهِرِ خَبَايَا، وَأَنَّ الْقَرَائِنَ قَدْ تَسْتُرُ الْحَقَائِقَ.
وَفِي مَا قَرَّرْنَا مَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ مَرْجِعَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَضِيَّتَهَا إِلَى تَصَرُّفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مَا حَادَ عَنْ رِعَايَةِ أُصُولِ الِاجْتِهَادِ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ. وَهِيَ دَلِيلٌ لِمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُقُوعِهِ، وَأَنَّهُ جَرَى عَلَى قَاعِدَةِ إِعْمَالِ أَرْجَحِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ السَّرَائِرَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اجْتِهَاده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يخطىء بِحَسْبَ مَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ قَضِيَّةُ أَسْرَى بَدْرٍ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْمَوْقِفُ فِيهِمَا مُتَمَاثِلٌ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: ٣] إِيمَاءٌ إِلَى عُذْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
تَأْخِيرِهِ إِرْشَادَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى أَمْرٍ مَغْفُولٍ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى تَزْكِيَةً عَظِيمَةً كَانَتْ نَفْسُهُ مُتَهَيِّئَةً لَهَا سَاعَتَئِذٍ إِذْ جَاءَ مُسْتَرْشِدًا حَرِيصًا، وَهَذِهِ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ.
وَكَذَلِكَ عُذْرُهُ فِي الْحِرْصِ عَلَى إِرْشَادِ الْمُشْرِكِ بِقَوْلِهِ: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس:
٧] إِذْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى تَبِعَةً مِنْ فَوَاتِ إِيمَانِ الْمُشْرِكِ بِسَبَبِ قِطْعِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَهُ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اسْتِجَابَةِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَرْشِدِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِل: فَلَمَّا ذَا لَمْ يُعْلِمِ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ حُضُورِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بِمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا التَّعْلِيمُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ.
قُلْنَا: لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَحْصُلُ عَنْ تَبَيُّنِ غَفْلَةٍ، أَوْ إِشْعَارٍ بِخَفَاءٍ يَكُونُ أَرْسَخَ فِي النَّفْسِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَسُوقِ عَنْ غَيْرِ تَعَطُّشٍ وَلِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ بَعْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ أَشْهَرُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَحْصُلَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزِيَّةُ كِلَا الْمَقَامَيْنِ: مَقَامُ الِاجْتِهَادِ، وَمَقَامُ الْإِفَادَةِ.
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمَهِيعِ مِنْ عَلِيِّ الِاجْتِهَادِ لِتَكُونَ نَفْسُهُ غَيْرَ غَافِلَةٍ عَنْ مِثْلِهِ وَلِيَتَأَسَّى بِهِ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ وَحُكَّامُهَا وَوُلَاةُ أُمُورِهَا.
وَنَظِيرُ هَذَا مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَثَلِ فِي مُلَاقَاةِ الْخَضِرِ، وَمَا جَرَى مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلِ الْخَضِرِ لِمُوسَى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الْكَهْف: ٦٨] ثُمَّ قَوْلِهِ لَهُ: ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: ٨٢]. وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود: ٤٦] وَقَوْلِهِ لِإِبْرَاهِيمَ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الْبَقَرَة: ١٢٤].
هَذَا مَا لَاحَ لِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَسَاسِ
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ مَنَاطَ الْعِتَابِ الَّذِي تُؤْتِيهِ لَهْجَةُ الْآيَةِ وَالَّذِي
رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُبُوتُهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا يَقُولُ لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ: «مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي رَبِّي لِأَجْلِهِ»
إِنَّمَا هُوَ عِتَابٌ عَلَى الْعُبُوسِ وَالتَّوَلِّي، لَا عَلَى مَا حَفَّ بِذَلِكَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ بِدَعْوَةٍ، وَتَأْخِيرِ إِرْشَادٍ، لِأَنَّ مَا سَلَكَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مِنْ سَبِيلِ الْإِرْشَادِ لَا يَسْتَدْعِي عِتَابًا إِذْ مَا سَلَكَ إِلَّا سَبِيلَ
الِاجْتِهَادِ الْقَوِيمِ لِأَنَّ الْمَقَامَ الَّذِي أُقِيمَتْ فِيهِ هَذِهِ الْحَادِثَةُ تَقَاضَاهُ إِرْشَادَانِ لَا مَحِيصَ مِنْ تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، هُمَا: إِرْشَادُ كَافِرٍ إِلَى الْإِسْلَامِ عَسَاهُ أَنْ يُسْلِمَ، وَإِرْشَادُ مُؤْمِنٍ إِلَى شُعَبِ الْإِسْلَامِ عَسَاهُ أَنْ يَزْدَادَ تَزْكِيَةً.
وَلَيْسَ فِي حَالِ الْمُؤْمِنِ مَا يُفِيتُ إِيمَانًا وَلَيْسَ فِي تَأْخِيرِ إِرْشَادِهِ عَلَى نِيَّةِ التَّفَرُّغِ إِلَيْهِ بَعْدَ حِينٍ مَا يُنَاكِدُ زِيَادَةَ صَلَاحِهِ فَإِنَّ زِيَادَةَ صَلَاحِهِ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى مَمَرِّ الْأَيَّامِ.
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُسْتَقْرَاةِ مِنْ تَصَارِيفِ الشَّرِيعَةِ وَالشَّاهِدَةِ بِهَا الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ تَقْدِيمُ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَنَفْيُ الضُّرِّ الْأَكْبَرِ قَبْلَ نَفْيِ الضُّرِّ الْأَصْغَرِ، فَلَمْ يَسْلُكِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَسْلَكَ الِاجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ. وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ قَوْلِهِ تَعَالَى لِعُمُومِ الْأُمَّةِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] وَهُوَ الْقَائِلُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ. فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ»، وَهُوَ الْقَائِلُ:
«أُمِرْتُ أَنْ أَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحُ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ تَرَدُّدٌ. فَلَا قِبَلَ لَهُ بِعِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ إِلَّا أَنْ يُطْلِعَهُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْمُشْرِكَ مُضْمِرُ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَلَا أَنَّ لِذَلِكَ الْمُؤْمِنِ فِي ذَلِكَ صَفَاءَ نَفْسٍ وَإِشْرَاقَ قَلْبٍ لَا يَتَهَيَّآنِ لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ.
[١١- ١٦]
[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ١١ الى ١٦]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)
كَلَّا إِبْطَالٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ (كَلَّا) فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٧٩- ٨٢]، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ النَّبَأِ [٤، ٥]، وَهُوَ هُنَا إِبْطَالٌ لِمَا جَرَى فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ وَلَوْ بِالْمَفْهُومِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: ٣]. وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: ١].
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي الْمُتَقَدِّمِ يَنْصَرِفُ الْإِبْطَالُ إِلَى عَبَسَ وَتَوَلَّى خَاصَّةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: ٧] عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ، أَيْ لَا تظن أَنَّك مسؤول عَنْ مُكَابَرَتِهِ وَعِنَادِهِ فَقَدْ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِتَبْلِيغِهِ.
إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (٥٠) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦).
اسْتِئْنَافٌ بَعْدَ حَرْفِ الْإِبْطَالِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعِتَابِ ثُمَّ مَا عَقِبَهُ مِنَ الْإِبْطَالِ يُثِيرُ فِي خَاطِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيْرَةَ فِي كَيْفَ يَكُونُ الْعَمَلُ فِي دَعْوَةِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ إِذَا لَمْ يَتَفَرَّغْ لَهُمْ لِئَلَّا يَنْفِرُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ يُثِيرُ
وَضمير إِنَّها عَائِد إِلَى الدَّعْوَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: ٦].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ تَذْكِرَةٌ لَكَ وَتَنْبِيهٌ لِمَا غَفَلْتَ عَنْهُ وَلَيْسَتْ مَلَامًا وَإِنَّمَا يُعَاتِبُ الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا مُوَجَّهًا إِلَى مَنْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ قُبَيْلَ نُزُولِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانُوا لَا يَسْتَجِيبُونَ إِلَى مَا دَعَاهُمْ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ، فَتَكُونُ (كَلَّا) إِبْطَالًا لِمَا نَعَتُوا بِهِ الْقُرْآنَ مِنْ أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
فَيَكُونُ ضَمِيرُ إِنَّها تَذْكِرَةٌ عَائِدًا إِلَى الْآيَاتِ الَّتِي قَرَأَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ أُعِيدَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ بِالتَّذْكِيرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آيَاتُ الْقُرْآنِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧] الْآيَاتِ حَيْثُ سَاقَ لَهُمْ أَدِلَّةَ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ.
فَكَانَ تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ نُكْتَةً خُصُوصِيَّةً لِتَحْمِيلِ الْكَلَامِ هَذِهِ الْمَعَانِي.
وَالضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: ذَكَرَهُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى تَذْكِرَةٌ لِأَن مَا صدقهَا الْقُرْآنُ الَّذِي كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهُ عَلَى صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قُبَيْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ إِعَادَةَ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ ذِكْرِ مَعَادِهِ فِي الْكَلَامِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ شُؤُونَهُ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ نَزَلَ الْقُرْآنُ لِأَجْلِهَا فَهُوَ مَلْحُوظٌ لِكُلِّ سَامِعٍ لِلْقُرْآنِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ اللَّهَ وَتَوَخَّى مَرْضَاتَهُ.
وَالذِّكْرُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ: الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ تَوَخِّي الْوُقُوفِ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (ذَكَرَ) إِلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يُنَاسِبُ الْمَقَامَ.
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤].
وَفِي قَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَوْعِظَةَ الْقُرْآنِ نَافِعَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ تَجَرَّدَ عَنِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، فَمَنْ لَمْ يَتَّعِظْ بِهَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَتَّعِظَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: ٤٥] وَقَوْلِهِ: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير: ٢٨] وَقَوْلِهِ:
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [الحاقة: ٤٨] وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ [٢٩].
وَالتَّذْكِرَةُ: اسْمٌ لِمَا يُتَذَكَّرُ بِهِ الشَّيْءُ إِذَا نُسِيَ. قَالَ الرَّاغِبُ: وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الدِّلَالَةِ وَالْأَمَارَةِ قَالَ تَعَالَى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [٤٩].
وَكُلٌّ مِنْ تَذْكِرَةٌ وذَكَرَهُ هُوَ مِنَ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ الَّذِي مصدره بِضَم الدَّال فِي الْغَالِبِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ عَمِلَ بِهِ وَلَا يَنْسَهُ.
وَالصُّحُفُ: جَمْعُ صَحِيفَةٍ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ أَدِيمٍ أَوْ وَرَقٍ أَوْ خِرْقَةٌ يُكْتَبُ فِيهَا الْكِتَابُ، وَقِيَاسُ جَمْعِهَا صَحَائِفُ، وَأَمَّا جَمْعُهَا عَلَى صُحُفٍ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا صُحُفٌ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْلَى، وَتُطْلَقُ الصَّحِيفَةُ عَلَى مَا يُكْتَبُ فِيهِ.
ومُطَهَّرَةٍ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ طَهَّرَهِ إِذَا نَظَّفَهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الطَّهَارَةُ الْمَجَازِيَّةُ وَهِيَ الشَّرَفُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الصُّحُفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَتَكُونُ أَوْصَافُهَا بِ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ، مُطَهَّرَةٍ مَحْمُولَةً عَلَى الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ وَهِيَ مَعَانِي الِاعْتِنَاءِ بِهَا
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ كُتَّابَ الْوَحْيِ كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهَا كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ لِلْمُصْحَفِ حِينَ أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ فِي رُقُوقٍ أَوْ قَرَاطِيسَ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الصُّحُفِ عَلَيْهَا تَغْلِيبًا وَيَكُونُ حَرْفُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّفَرَةِ جَمْعَ سَافِرٍ، أَيْ كَاتِبٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكِتَابِ سِفْرٌ (بِكَسْرِ السِّينِ) وَلِلْكَاتِبِ سَافِرٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الشَّيْءَ وَيُوَضِّحُهُ يُقَالُ: أَسْفَرَ الصُّبْحُ، إِذَا أَضَاءَ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالصُّحُفِ كُتُبُ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ تَأْيِيدًا لِلْقُرْآنِ بِأَنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ السَّابِقَةَ جَاءَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ هَذِهِ التَّذْكِرَةِ فِي كُتُبِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ: أَنَّ أَمْثَالَ مَعَانِيهَا وَأُصُولِهَا فِي كُتُبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: ١٨- ١٩] وَكَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٩٦] وَكَمَا قَالَ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: ١٣].
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالصُّحُفِ صُحُفٌ مَجَازِيَّةٌ، أَيْ ذَوَاتٌ مَوْجُودَةٌ قُدْسِيَّةٌ يَتَلَقَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا الْقُرْآنَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِتَبْلِيغِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الصُّحُفِ عَلَيْهَا لِشِبْهِهَا بِالصُّحُفِ الَّتِي يَكْتُبُ النَّاسُ فِيهَا. وَمَعْنَى مُكَرَّمَةٍ عِنَايَةُ اللَّهِ بِهَا، وَمَعْنَى مَرْفُوعَةٍ أَنَّهَا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَمَعْنَى مُطَهَّرَةٍ مُقَدَّسَةٌ مُبَارَكَةٌ، أَيْ هَذِهِ التَّذْكِرَةُ مِمَّا تَضَمَّنَهُ عِلْمُ اللَّهِ وَمَا كَتَبَهُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي صُحُفٍ قُدْسِيَّةٍ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِالصُّحُفِ (فَسَفَرَةٌ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ سَافِرٍ، مِثْلَ كَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعِ سَفِيرٍ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ فِي أَمْرٍ
وَتَأْتِي وُجُوهٌ مُنَاسِبَةٌ فِي مَعْنَى سَفَرَةٍ، فَالْمُنَاسِبُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنْ يَكُونَ السَّفَرَةُ كُتَّابَ الْقُرْآنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قُرَّاءَ الْقُرْآنِ، وَبِهِ فَسَّرَ قَتَادَةُ وَقَالَ: هُمْ بِالنَّبَطِيَّةِ الْقُرَّاءُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْوَرَّاقُونَ بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ.
وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي عِدَادِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ كَمَا فِي «الْإِتْقَانِ» عَنِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَدْ أَغْفَلَهَا السُّيُوطِيُّ فِيمَا اسْتَدْرَكَهُ عَلَى ابْنِ السُّبْكِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ فِي نَظْمَيْهِمَا فِي الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ قَصَدَ عَدَمَ ذِكْرِهَا لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي تَعْرِيبِهَا.
وَالْمُنَاسِبُ لِلْوَجْهِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُهُ الرُّسُلَ.
وَالْمُنَاسِبُ لِلْوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُهُ الْمَلَائِكَةَ لِأَنَّهُمْ سُفَرَاءُ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ.
وَالْمُرَادُ بِأَيْدِيهِمْ: حِفْظُهُمْ إِيَّاهُ إِلَى تَبْلِيغِهِ، فَمَثَّلَ حَالَ الْمَلَائِكَةِ بِحَالِ السُّفَرَاءِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ بِأَيْدِيهِمُ الْأَلُوكَ وَالْعُهُودَ.
وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ: الرُّسُلُ الَّذِينَ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ كُتُبُهُمْ مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ كُتَّابُ الْوَحْيِ مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ.
وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ مَا يَتَلَقَّاهُ مِنَ الْقُرْآنِ لِيَدْرُسَهُ مِثْلَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ إِسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ عُثُورِهِ عَلَى سُورَةِ طَهَ مَكْتُوبَةً عِنْدَ أُخْتِهِ أُمِّ جَمِيلٍ فَاطِمَةَ زَوْجِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ.
وَفِي وَصْفِهِمْ بِالسَّفَرَةِ ثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ الْقُرْآنَ لِلنَّاسِ وَهُمْ حُفَّاظُهُ وَوُعَاتُهُ قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: ٤٩] فَهَذَا مَعْنَى
وَوَصْفُ كِرامٍ مِمَّا وُصِفَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى كِراماً
كاتِبِينَ
[الانفطار: ١١].
وَوَصْفُ الْبَرَرَةِ وَرَدَ صِفَةً لِلْمَلَائِكَةِ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَوْلِهِ: «الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ».
وَالْبَرَرَةُ: جَمْعُ بَرٍّ، وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِكَثْرَةِ الْبُرُورِ. وَأَصْلُ بَرٍّ مَصْدَرُ بَرَّ يَبَرُّ مِنْ بَابِ فَرِحَ، وَمَصْدَرُهُ كَالْفَرَحِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ مِثْلَ عَدْلٍ وَقَدِ اخْتُصَّ الْبَرَرَةُ بِجَمْعِ بَرٍّ وَلَا يَكُونُ جَمْعَ بَارٍّ.
وَالْغَالِبُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ أَنَّ الْبَرَرَةَ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَبْرَارَ الْآدَمِيُّونَ. قَالَ الرَّاغِبُ:
«لِأَنَّ بَرَرَةً أَبْلَغُ مِنْ أَبْرَارٍ إِذْ هُوَ جَمْعُ بَرٍّ، وَأَبْرَارٌ جَمْعُ بَارٍّ، وَبَرٌّ أَبْلَغُ مِنْ بَارٍّ كَمَا أَنَّ عَدْلًا أَبْلَغُ مِنْ عَادِلٍ».
وَهَذَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ التَّنْوِيهَ بِالْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بَعْضُ الْقُرْآنِ فَأُثْنِيَ عَلَى الْقُرْآنِ بِفَضِيلَةِ أَثَرِهِ فِي التَّذْكِيرِ وَالْإِرْشَادِ، وَبِرِفْعَةِ مَكَانَتِهِ، وَقُدْسِ مَصْدَرِهِ، وَكَرَمِ قَرَارِهِ، وَطَهَارَتِهِ، وَفَضَائِلِ حَمَلَتِهِ وَمُبَلِّغِيهِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْمَدَائِحَ عَائِدَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ بطرِيق الْكِنَايَة.
[١٧- ٢٢]
[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ١٧ إِلَى ٢٢]
قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ نَشَأَ عَنْ ذِكْرِ مَنِ اسْتَغْنَى فَإِنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مُعَيَّنٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُهُ مَا وَقَعَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي دَارَ بَيْنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ.
وَالْمُنَاسَبَةُ وَصْفُ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَذَكَّرَ، وَإِذْ قَدْ كَانَ أَكْبَرُ
١٢].
وَالَّذِي عُرِّفَ بِقَوْلِهِ: مَنِ اسْتَغْنى [عبس: ٥] يَشْمَلُهُ الْعُمُومُ الَّذِي أَفَادَهُ تَعْرِيفُ الْإِنْسانُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ وَفِعْلُ قُتِلَ فُلَانٌ أَصْلُهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ. وَالْمُفَسِّرُونَ الْأَوَّلُونَ جَعَلُوا:
قُتِلَ الْإِنْسانُ أَنَّهُ لُعِنَ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو مَالِكٍ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَهَذَا مِنْ أَشْنَعِ دَعَوَاتِهِمْ»، أَيْ فَمَوْرِدُهُ غَيْرُ مَوْرِدِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قاتَلَهُمُ اللَّهُ [التَّوْبَة: ٣٠] وَقَوْلِهِمْ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا يُرِيدُونَ التعجيب مِنْ حَالِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَرْجِعُهُ لِلِاسْتِعْمَالِ وَلَا دَاعِيَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى التَّعْجِيبِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا أَكْفَرَهُ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ.
وَالدُّعَاءُ بِالسُّوءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ وَالتَّهْدِيدِ لِظُهُورِ أَنَّ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ لَا تُنَاسِبُ الْإِلَهِيَّةَ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ النَّاسُ بِالدُّعَاءِ.
وَبِنَاءُ قُتِلَ لِلْمَجْهُولِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الدُّعَاءِ، إِذْ لَا غَرَضَ فِي قَاتِلٍ يَقْتُلُهُ، وَكَثُرَ فِي الْقُرْآنِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ نَحْوَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ [المدثر: ١٩].
وَتَعْرِيفُ الْإِنْسانُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفَ الْمُسَمَّى تَعْرِيفَ الْجِنْسِ فَيُفِيدُ اسْتِغْرَاقَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ حَقِيقِيٌّ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ اسْتِغْرَاقُ مُعْظَمِ الْأَفْرَادِ بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ فَتَوَلَّدَ بِصِيغَةِ الِاسْتِغْرَاقِ ادِّعَاءٌ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَيُسَمَّى الِاسْتِغْرَاقَ الْعُرْفِيَّ فِي اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي، وَيُسَمَّى الْعَامَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ فِي اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَالْقَرِينَةُ هُنَا مَا بُيِّنَ بِهِ كُفْرُ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إِلَى قَوْلِهِ:
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الْإِنْسانُ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ الْبَعْثَ، وَعَلَى ذَلِكَ جُمْلَةُ الْمُفَسِّرِينَ، فَإِنَّ مُعْظَمَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ كَافِرُونَ بِالْبَعْثِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ قُتِلَ الْإِنْسانُ فَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ الْكَافِرُ.
وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يُحْكَمُ بِهَا عَلَى الْأَجْنَاسِ يُرَادُ أَنَّهَا غَالِبَةٌ عَلَى الْجِنْسِ، فَالِاسْتِغْرَاقُ
فَآلَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ إِلَى الْكُفَّارِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَهُمُ الْغَالِبُ عَلَى نَوْعِ الْإِنْسَانِ.
فَغَالِبُ النَّاسِ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ التَّارِيخِ وَتَفَشَّى الْكُفْرُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَانْتَصَرُوا لَهُ وَنَاضَلُوا عَنْهُ. وَلَا أَعْجَبَ مِنْ كُفْرِ مَنْ أَلَّهُوا أَعْجَزَ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ حِجَارَةٍ وَخَشَبٍ، أَوْ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رَبٌّ خَلَقَهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفُ الْإِنْسانُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْإِنْسَانِ يُعَيِّنُهُ خَبَرُ سَبَبِ النُّزُولِ، فَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ مِمَّنْ حَوَاهُ الْمَجْلِسُ الَّذِي غَشِيَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي لَهَبٍ، وَذُكِرَ فِي ذَلِكَ قِصَّةٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِخَبَرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي غَشِيَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةً.
وَجُمْلَةُ مَا أَكْفَرَهُ تَعْلِيلٌ لِإِنْشَاءِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ دُعَاءَ التَّحْقِيرِ وَالتَّهْدِيدِ. وَهَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ شِدَّةِ كُفْرِ هَذَا الْإِنْسَانِ.
وَمَعْنَى شِدَّةِ الْكُفْرِ أَنَّ كُفْرَهُ شَدِيدٌ كَمًّا وَكَيْفًا، وَمَتًى، لِأَنَّهُ كُفْرٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَبِإِرْسَالِهِ الرَّسُولَ، وَبِالْوَحْيِ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ كُفْرٌ قَوِيٌّ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ قَوِيٌّ لَا يَقْبَلُ التَّزَحْزُحَ، وَأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ لَا يُقْلَعُ عَنْهُ مَعَ تَكَرُّرِ التَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَلَغَتْ نِهَايَةَ الْإِيجَازِ وَأَرْفَعَ الْجَزَالَةِ بِأُسْلُوبٍ غَلِيظٍ دَالٍّ عَلَى السُّخْطِ بَالِغِ حَدِّ الْمَذَمَّةِ، جَامِعٍ لِلْمَلَامَةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهَا قَبْلَهَا، فَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الْقُرْآنِيَّةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ مُحَسِّنُ الِاتِّزَانِ فَإِنَّهُ مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ مِنْ عَرُوضِهِ الْأُولَى الْمَحْذُوفَةِ.
وَجُمْلَةُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ لِأَنَّ مَفَادَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِبْطَالِ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ وَذَلِكَ الْإِنْكَارُ مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ كُفْرِهِمْ.
وَجِيءَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِصُورَةِ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى مَضْمُونِهِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ الِاسْتِفْهَامُ بِالْجَوَابِ عَنْهُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: ١- ٢].
وَالِاسْتِفْهَامُ صُورِيٌّ، وَجُعِلَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ تَعْيِينَ الْأَمْرِ الَّذِي بِهِ خُلِقَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لَيْسَ لِإِثْبَاتِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ، بَلِ الْمَقَامُ لِإِثْبَاتِ إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ بِتَنْظِيرِهِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: ١٥] أَيْ كَمَا كَانَ خَلْقُ
الْإِنْسَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ نُطْفَةٍ يَكُونُ خَلْقُهُ ثَانِيَ مَرَّةٍ مِنْ كَائِنٍ مَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ فِي سُورَةِ الطَّارِقِ [٥- ٨].
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَهُ عَائِد إِلَى لله تَعَالَى الْمَعْلُومِ مِنْ فِعْلِ الْخَلْقِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْإِنْسَانِ.
وَقُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ مُحَاكَاةً لِتَقْدِيمِ الْمُبَيَّنِ فِي السُّؤَالِ الَّذِي اقْتَضَى تَقْدِيمَهُ كَوْنُهُ اسْتِفْهَامًا يَسْتَحِقُّ صَدْرَ الْكَلَامِ، مَعَ الِاهْتِمَامِ بِتَقْدِيمِ مَا مِنْهُ الْخَلْقُ، لِمَا فِي تَقْدِيمِهِ مِنَ التَّنْبِيهِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ كَوَّنَ أَبْدَعَ مَخْلُوقٍ مَعْرُوفٍ مِنْ أَهْوَنِ شَيْءٍ وَهُوَ النُّطْفَةُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُسْتَغْنَ عَنْ إِعَادَةِ فِعْلِ خَلَقَهُ فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ بِتَقَدُّمِ ذِكْرِ حَاصِلِهِ فِي السُّؤَالِ لِزِيَادَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى دِقَّةِ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ.
وَالنُّطْفَةُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ، وَهِيَ فُعْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَقَوْلِهِمْ: قُبْضَةُ حَبٍّ، وَغُرْفَةُ مَاءٍ.
وَغُلِبَ إِطْلَاقُ النُّطْفَةِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي مِنْهُ التَّنَاسُلُ، فَذُكِرَتِ النُّطْفَةُ لِتَعَيُّنِ ذِكْرِهَا لِأَنَّهَا مَادَّةُ خَلْقِ الْحَيَوَانِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ صُنْعَ اللَّهِ بَدِيعٌ فَإِمْكَانُ الْبَعْثِ حَاصِلٌ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ النُّطْفَةِ هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيرِ أَصْلِ نَشْأَةِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ قَصْدَ ذَلِكَ مَحَلُّ نَظَرٍ، عَلَى أَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِلدِّلَالَةِ عَلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ وَلَيْسَ مَقَامَ زَجْرِ الْمُتَكَبِّرِ.
وَفُرِّعَ عَلَى فِعْلِ خَلَقَهُ فِعْلُ فَقَدَّرَهُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ هُنَا إِيجَادُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارٍ مَضْبُوطٍ مُنَظَّمٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: ٢] أَيْ جَعَلَ التَّقْدِيرَ مِنْ آثَارِ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ خَلَقَهُ مُتَهَيِّئًا لِلنَّمَاءِ وَمَا يُلَابِسُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالتَّصَرُّفِ وَتَمْكِينِهِ مِنَ النَّظَرِ بِعَقْلِهِ، وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يُرِيدُ إِتْيَانَهَا وَذَلِكَ حَاصِلٌ مَعَ خَلْقِهِ مُدَرَّجًا مُفَرَّعًا.
وَهَذَا التَّفْرِيعُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ إدماج للامتنان فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ.
وَحَرْفُ ثُمَّ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ تَيْسِيرَ سَبِيلِ الْعَمَلِ الْإِنْسَانِيِّ أَعْجَبُ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْعَقْلِ وَهُوَ أَعْظَمُ مَا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ أَقْوَى فِي الْمِنَّةِ.
والسَّبِيلَ: الطَّرِيق، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ تَشْبِيهًا لِلْأَعْمَالِ بِطَرِيقٍ يَمْشِي فِيهِ الْمَاشِي تَشْبِيهَ الْمَحْسُوسِ بِالْمَعْقُولِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا لِمَسْقَطِ الْمَوْلُودِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْمَمَرِّ اسْمُ السَّبِيلِ فِي قَوْلِهِمُ: «السَّبِيلَانِ» فَيَكُونُ هَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَجَازِيهِ. وَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ، فَ أَماتَهُ مُقَابِلُ خَلَقَهُ وَ (أَقْبَرَهُ) مُقَابِلُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ لِأَنَّ الْإِقْبَارَ إِدْخَالٌ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ ضِدُّ خُرُوجِ الْمَوْلُودُ إِلَى الْأَرْضِ.
وَالتَّيْسِيرُ: التَّسْهِيلُ، والسَّبِيلَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ عَلَى طَرِيقِ
١٧] أَيْ لِذِكْرِ النَّاسِ.
وَتَقْدِيمُ السَّبِيلَ عَلَى فِعْلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْعِبْرَةِ بِتَيْسِيرِ السَّبِيلِ بِمَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيَّيْنِ، وَفِيهِ رِعَايَةٌ لِلْفَوَاصِلِ.
وَكَذَلِكَ عَطْفُ ثُمَّ أَماتَهُ عَلَى يَسَّرَهُ بِحَرْفِ التَّرَاخِي هُوَ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ فَإِنَّ انْقِرَاضَ تِلْكَ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ بِالْمَوْتِ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ رَاسِخَةً زَمَنًا مَا، انْقِرَاضٌ عَجِيبٌ دُونَ تَدْرِيجٍ وَلَا انْتِظَارِ زَمَانٍ يُسَاوِي مُدَّةَ بَقَائِهَا، وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلدِّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا يُحْصَى مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ قَدْ صَارَ أَمْرُهُ إِلَى الْمَوْتِ وَأَنَّ مَنْ هُوَ حيّ آيل إِلَى الْمَوْت لَا مَحَالَةَ، فَالْمَعْنَى: ثُمَّ أَمَاتَهُ وَيُمِيتُهُ.
فَصِيغَةُ الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَماتَهُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَهُوَ مَوْتُ مَنْ مَاتَ، وَمَجَازُهُ وَهُوَ مَوْتُ مَنْ سَيَمُوتُونَ، لِأَنَّ مَوْتَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُحَقَّقٌ. وَذِكْرُ جُمْلَةِ: ثُمَّ أَماتَهُ تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لِجُمْلَةِ فَأَقْبَرَهُ وَإِسْنَادُ الْإِمَاتَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ بِحَسَبِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ. وَهَذَا إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا أُدْمِجَ: فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ فِيمَا سَبَقَ.
وَ (أَقْبَرَهُ) جَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَى قَبَرَهُ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ سَبَّبَ لَهُ أَنْ يُقْبَرَ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: «أَيْ جَعَلَهُ مَقْبُورًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّنْ يُلْقَى لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ وَلَا مِمَّنْ يُلْقَى فِي النَّوَاوِيسِ» (جَمْعِ نَاوُوسٍ صُنْدُوقٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ فِي بَيْتٍ أَوْ نَحْوِهِ).
وَالْإِقْبَارُ: تَهْيِئَةُ الْقَبْرِ، وَيُقَالُ: أَقْبَرَهُ أَيْضًا، إِذَا أَمَرَ بِأَنْ يُقْبَرَ، وَيُقَالُ: قَبَرَ الْمَيِّتَ، إِذَا دَفَنَهُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ النَّاسَ ذَوِي قُبُورٍ.
وَإِسْنَادُ الْإِقْبَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ النَّاسَ الدَّفْنَ كَمَا فِي قِصَّةِ دَفْنِ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ بِإِلْهَامِ تَقْلِيدِهِ لِفِعْلِ غُرَابٍ حَفَرَ لِغُرَابٍ آخَرَ مَيِّتٍ حُفْرَةً
وَالْقَوْلُ فِي أَنَّ صِيغَةَ الْمُضِيِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي صِيغَةِ أَماتَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا دَلَائِلُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ عَدُّوهَا قَاصِرَةً عَلَى الْخَلْقِ الثَّانِي، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ مِنَنًا عَلَى النَّاسِ فِي خَلْقِهِمْ وَتَسْوِيَتِهِمْ وَإِكْمَالِ قُوَاهُمْ أَحْيَاءً، وَإِكْرَامِهِمْ أَمْوَاتًا بِالدَّفْنِ لِئَلَّا يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالشَّيْءِ اللَّقِيِّ يَجْتَنِبُ بَنُو جِنْسِهِ الْقُرْبَ مِنْهُ وَيُهِينُهُ الْتِقَامُ السِّبَاعِ وَتَمْزِيقُ مَخَالِبِ الطَّيْرِ وَالْكِلَابِ، فَمَحَلُّ الْمِنَّةِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَماتَهُ هُوَ فِيمَا فُرِّعَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ بِقَوْلِهِ: فَأَقْبَرَهُ وَلَيْسَتِ الْإِمَاتَةُ وَحْدَهَا مِنَّةً.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ دَفْنِ أَمْوَاتِ النَّاسِ بِالْإِقْبَارِ دُونَ الْحَرْقِ بِالنَّارِ كَمَا يَفْعَلُ مَجُوسُ الْهِنْدِ، وَدُونَ الْإِلْقَاءِ لِسِبَاعِ الطَّيْرِ فِي سَاحَاتٍ فِي الْجِبَالِ مَحُوطَةٍ بِجُدْرَانٍ دُونَ سَقْفٍ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ مَجُوسُ الْفُرْسِ وَكَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَوْتَى الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ فِي الْفَيَافِي إِذْ لَا يُوَارُونَهُمْ بِالتُّرَابِ وَكَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَتَمَنَّوْنَهُ قَالَ الشَّنْفَرَى:
لَا تَقْبُرُونِي إِنَّ قَبْرِي مُحَرَّمٌ | عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَبْشِرِي أُمَّ عَامِرِ |
آلَيْتُ لَا أَدْفِنُ قَتْلَاكُمُ | فَدَخِّنُوا الْمَرْءَ وَسِرْبَالَهُ |
حِينَ تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ بِإِنْشَارِهِ.
وَأما الإنشار بِالْهَمْز فَهُوَ خَاصٌّ بِإِخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنَ الْأَرْضِ حَيًّا وَهُوَ الْبَعْثُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: نُشِرَ الْمَيِّتُ، وَالْعَرَبُ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ إِحْيَاءَ الْأَمْوَاتِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَالُوهُ فِي تَخَيُّلَاتِهِمُ التَّوَهُّمِيَّةِ. فَيَكُونُ مِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا | يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ |
وَفِي قَوْلِهِ: إِذا شاءَ رَدٌّ لِشُبْهَتِهِمْ إِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ تَعْجِيلَ الْبَعْثِ تَحَدِّيًا وَتَهَكُّمًا لِيَجْعَلُوا عَدَمَ الِاسْتِجَابَةِ بِتَعْجِيلِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنه يَقع عِنْد مَا يَشَاءُ اللَّهُ وُقُوعَهُ لَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسْأَلُونَهُ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى حِكْمَةِ اللَّهِ، وَاسْتِفَادَةِ إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ مِنْ طَرِيق الْكِنَايَة.
[٢٣]
[سُورَة عبس (٨٠) : آيَة ٢٣]
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣)
تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُعْضِلٌ وَكَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَأَوِّلِينَ فِيهَا بَعْضُهَا جَافُّ الْمَنَالِ، وَبَعْضُهَا جَافٍ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ. ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَّا أَنَّهُ حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ عَنْ كَلَامٍ سَابِقٍ أَوْ لَاحِقٍ، وَلَيْسَ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مَا سَبَقَهَا وَلَا فِيمَا بَعْدَهَا مَا ظَاهِرُهُ أَنْ يُزْجَرَ عَنْهُ وَلَا أَنْ يُبْطَلَ، فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَى تَأْوِيلِ مَوْرِدِ كَلَّا فَأَمَّا الَّذِينَ الْتَزَمُوا أَنْ يَكُونَ حَرْفُ كَلَّا لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ وَهُمُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورُ نُحَاةِ الْبَصْرَة ويجيزون الْوَقْف عَلَيْهَا كَمَا يُجِيزُونَ الِابْتِدَاءَ بِهَا، فَقَدَ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا أَشْبَهَهَا بِتَوْجِيهِ الْإِنْكَارِ إِلَى مَا يومىء إِلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ أَوِ اللَّاحِقُ دُونَ صَرِيحِهِ وَلَا مَضْمُونِهِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الرَّدْعَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَا قَبْلَ كَلَّا ممّا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: ٢٢]، أَيْ إِذَا شَاءَ الله، إِذْ يومىء إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُنْكِرُ أَنْ يَنْشُرَهُ اللَّهُ
كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَوْقِعُ كَلَّا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَوْقِعُ الْجَوَابِ بِالْإِبْطَالِ، وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ مَوْقِعُ الْعِلَّةِ لِلْإِبْطَالِ، أَيْ لَوْ قَضَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لَعَلِمَ بُطْلَانَ زَعْمِهِ أَنَّهُ لَا يُنْشَرُ.
وَتَأَوَّلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّهُ: «رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ» أَيْ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ شِدَّةِ كُفْرِهِ وَاسْتِرْسَالِهِ عَلَيْهِ دُونَ إِقْلَاعٍ، يُرِيدُ أَنه زجر عَن مَضْمُونٍ: مَا أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧].
وَمِنْهُم من يَجْعَل الرَّدْعَ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَا بَعْدَ كَلَّا مِمَّا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ الَّذِي نَبَّهَهُ إِلَيْهِ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ وَبِإِيدَاعِ قُوَّةِ التفكير فِيهِ، ويتسروح هَذَا مِنْ كَلَامٍ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ لِأَنَّ مَا بَعْدَ كَلَّا لَمَّا كَانَ نَفْيًا نَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ كَلَّا تَمْهِيدًا لِلنَّفْيِ.
وَمَوْقِعُ كَلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ اسْتِئْنَافٍ.
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إِلَى قَوْله: أَنْشَرَهُ [عبس: ١٨- ٢٢]، أَيْ إِنَّمَا لَمْ يَهْتَدِ الْكَافِرُ إِلَى دِلَالَةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ عَلَى إِمْكَانِ الْخَلْقِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ حَقَّ النَّظَرِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَلْتَزِمُوا مَعْنَى الزَّجْرِ فِي كَلَّا وَهُمُ الْكِسَائِيُّ الْقَائِلُ: تَكُونُ كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا، وَوَافَقَهُ ثَعْلَبٌ وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ الْقَائِلُ: تَكُونُ كَلَّا بِمَعْنَى (أَلَا) الِاسْتِفْتَاحِيَّةِ.
وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَالْفَرَّاءُ الْقَائِلَانِ: تَكُونُ كَلَّا حَرْفَ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ. فَهَؤُلَاءِ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى رَأْيِهِمْ ظَاهِرٌ.
وَعَنِ الْفَرَّاءِ كَلَّا تَكُونُ صِلَةً (أَيْ حَرْفًا زَائِدًا لِلتَّأْكِيدِ) كَقَوْلِكَ: كَلَّا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ اهـ. وَهَذَا وَجْهٌ إِلَيْهِ وَلَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَالْوَجْهُ فِي مَوْقِعِ كَلَّا هُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَجْرًا عَمَّا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ:
نَنْشُرُهُمْ عِنْد مَا نَشَاءُ مِمَّا قَدَّرْنَا أَجَلَهُ عِنْدَ خَلْقِ الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ.
وَتَكُونُ جُمْلَةُ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ تَعْلِيلًا لِلرَّدْعِ، أَيِ الْإِنْسَانُ لَمْ يَسْتَتِمَّ مَا أَجَّلَ اللَّهُ لِبَقَاءِ نَوْعِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ يَوْمِ تَكْوِينِهِ فَلِذَلِكَ لَا يُنْشَرُ الْآنَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: مَا أَمَرَهُ أَمْرَ التَّكْوِينِ، أَيْ لَمْ يَسْتَتِمَّ مَا صَدَّرَ بِهِ أَمْرَ تَكْوِينِهِ حِينَ قِيلَ لِآدَمَ:
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [الْبَقَرَة: ٣٦].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَجْرًا عَمَّا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ وَقُدِّمَتْ كَلَّا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ الْوَارِدَةُ لِإِبْطَالِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِمُبَادَرَةِ الزَّجْرِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَام فِي كَلَّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَأَحَلْتُ هُنَالِكَ عَلَى مَا هُنَا.
ولَمَّا حَرْفُ نَفْيٍ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمَاضِي مِثْلَ (لَمْ) وَيَزِيدُ بِالدِّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ النَّفْيِ إِلَى وَقْتِ التَّكَلُّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:
١٤].
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى عَدَمِ قَضَاءِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ مِمَّا دَعَاهُ إِلَيْهِ.
وَالْقَضَاءُ: فِعْلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَامِلًا لِأَنَّ أَصْلَ الْقَضَاءِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِتْمَامِ فَتَضَمَّنَ فِعْلًا تَامًّا، أَيْ لَمْ يَزَلِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ مُعْرِضًا عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَعَنِ النَّظَرِ فِي خَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ تَطَوُّرِهِ أَطْوَارًا إِلَى الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: ٥]، وَمَا أَمَرَهُ مِنَ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ وَدَلَائِلِهِ وَمِنْ إِعْمَالِ عَقْلِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ. وَمِنَ الدَّلَائِلِ نَظَرُهُ فِي كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ فَإِنَّهَا دَلَائِلُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ فَاسْتَحَقَّ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي أَمَرَهُ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمُسْتَتِرَةُ فِي (خلقه، وَقدره، ويسره، وَأَمَاتَهُ، وأقبره، وأنشره).
[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٣٢]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨)وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
إِمَّا مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس: ٢٣] فَيَكُونُ مِمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النَّظَرِ، وَإِمَّا عَلَى قَوْلِهِ: مَا أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧] فَيَكُونُ هَذَا النَّظَرُ مِمَّا يُبْطِلُ وَيُزِيلُ شِدَّةَ كُفْرِ
الْإِنْسَانِ. وَالْفَاءُ مَعَ كَوْنِهَا لِلتَّفْرِيعِ تُفِيدُ مَعْنَى الْفَصِيحَةِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَعَامِهِ أَوْ إِنْ أَرَادَ نَقْضَ كُفْرِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَعَامِهِ. وَهَذَا نَظِيرُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: ٤، ٥]، أَيْ إِنْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ الْخَلَاصَ مِنْ تَبِعَاتِ مَا يَكْتُبُهُ عَلَيْهِ الْحَافِظُ فَلْيَنْظُرْ مِمَّ خُلِقَ لِيَهْتَدِيَ بِالنَّظَرِ فَيُؤْمِنَ فَيَنْجُوَ.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى تَقْرِيبِ كَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ فِي مَعْرِضِ الْإِرْشَادِ إِلَى تَدَارُكِ الْإِنْسَانِ مَا أَهْمَلَهُ وَكَانَ الِانْتِقَالُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ بَدِيعِ الصُّنْعِ مِنْ دَلَائِلَ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهِ فِي آيَةِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: ١٨] إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالٍ مَوْجُودَةٍ فِي بَعْضِ الْكَائِنَاتِ شَدِيدَةِ الْمُلَازَمَةِ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ تَرْسِيخًا لِلِاسْتِدْلَالِ، وَتَفَنُّنًا فِيهِ، وَتَعْرِيضًا بِالْمِنَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ، من نِعْمَةِ النَّبَاتِ الَّذِي بِهِ بَقَاءُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَحَيَاةِ مَا يَنْفَعُهُ مِنَ الْأَنْعَامِ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ النَّظَرِ هُنَا بِحَرْفِ إِلى تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ فِي أَطْوَارِهِ. وَالْمَقْصُودُ التَّدَبُّرُ فِيمَا يُشَاهِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَحْوَالِ طَعَامِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى إِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْأَرْضِ. وَجُعِلَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ ذَاتَ الطَّعَامِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ النَّظَرُ إِلَى أَسْبَابِ تَكَوُّنِهِ وَأَحْوَالِ تَطَوُّرِهِ إِلَى حَالَةِ انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِهِ وَانْتِفَاعِ أَنْعَامِ النَّاسِ بِهِ.
وَذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ إِنَاطَةِ الْأَحْكَامِ بِأَسْمَاءِ الذَّوَاتِ، وَالْمُرَادُ أَحْوَالُهَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] أَيْ أَكْلُهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِالتَّفْكِيرِ فِي أَطْوَارِ تَكَوُّنِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ الَّتِي بِهَا طَعَامُهُ، وَقَدْ وُصِفَ لَهُ تَطَوُّرُ ذَلِكَ لِيَتَأَمَّلَ مَا أُودِعَ إِلَيْهِ فِي
وَفِي «تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: ٧] عَن ابْن
[أبي] (١) حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: «يَسِيلُ وَادٍ مِنْ أَصْلِ الْعَرْشِ فِيمَا بَيْنَ الصَّيْحَتَيْنِ فَيَنْبُتُ مِنْهُ كُلُّ خَلْقٍ بَلِيَ إِنْسَانٍ أَوْ دَابَّةٍ وَلَوْ مَرَّ عَلَيْهِمْ مَارٌّ قَدْ عَرَفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ لَعَرَفَهُمْ قَدْ نَبَتُوا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، ثُمَّ تُرْسَلُ الْأَرْوَاحُ فَتُزَوَّجُ الْأَجْسَادَ» اهـ. وَأُمُورُ الْآخِرَةِ لَا تَتَصَوَّرُهَا الْأَفْهَامُ بِالْكُنْهِ وَإِنَّمَا يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِأَنَّهَا مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَهِيَ مُطِيعَةٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ التَّنْجِيزِيِّ.
وَالْإِنْسَانُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الْإِنْسَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧] وَإِنَّمَا جِيءَ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ دُونَ الضَّمِيرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: ١٨]، لِأَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ مَعَادِهِ وَمَا هُنَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ فَعُبِّرَ فِيهِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ لِلْإِيضَاحِ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ مِنَّةً عَلَيْهِ بِالْإِمْدَادِ بِالْغِذَاءِ الَّذِي بِهِ إِخْلَافُ مَا يَضْمَحِلُّ مِنْ قُوَّتِهِ بِسَبَبِ جُهُودِ الْعَقْلِ وَالتَّفْكِيرِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي لَا يُشْعَرُ بِحُصُولِهَا فِي دَاخِلِ الْمِزَاجِ، وَبِسَبَبِ كَدِّ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْإِفْرَازَاتِ، وَتِلْكَ أَسْبَابٌ لِتَبَخُّرِ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ فَيَحْتَاجُ الْمِزَاجُ إِلَى تَعْوِيضِهَا وَإِخْلَافِهَا وَذَلِكَ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ النَّظَرُ بِالطَّعَامِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ هُوَ بِأَحْوَالِ تَكْوِينِ الطَّعَامِ، إِجْرَاءً لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِيجَازِ وَيُبَيِّنُهُ مَا فِي الْجُمَلِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا إِلَى آخِرِهَا.
فَالتَّقْدِيرُ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى خَلْقِ طَعَامِهِ وَتَهْيِئَةِ الْمَاءِ لِإِنْمَائِهِ وَشَقِّ الْأَرْضِ وَإِنْبَاتِهِ وَإِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ وَانْتِفَاعِ مَوَاشِيهِ فِي بَقَاءِ حَيَاتِهِمْ.
_________
(١) زِيَادَة من «تَفْسِير ابْن كثير» عِنْد شرح الْآيَة، وَالنَّقْل مِنْهُ بِتَصَرُّف.
وَالصَّبُّ: إِلْقَاءُ صُبْرَةٍ مُتَجَمِّعَةٍ مِنْ أَجْزَاءٍ مَائِعَةٍ أَوْ كَالْمَائِعَةِ فِي الدِّقَّةِ فِي وِعَاءٍ غَيْرِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، يُقَالُ: صَبَّ الْمَاءَ فِي الْجَرَّةِ، وَصَبَّ الْقَمْحَ فِي الْهَرِي، وَصَبَّ الدَّرَاهِمَ فِي الْكِيسِ. وَأَصْلُهُ: صَبَّ الْمَاءَ، مِثْلَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَإِفْرَاغِ الدَّلْوِ.
وَالشَّقُّ: الْإِبْعَادُ بَيْنَ مَا كَانَ مُتَّصِلًا. وَالْمُرَادُ هُنَا شَقُّ سَطْحِ الْأَرْضِ بِخَرْقِ الْمَاءِ فِيهِ أَوْ بِآلَةٍ كَالْمِحْرَاثِ وَالْمِسْحَاةِ، أَوْ بِقُوَّةِ حَرِّ الشَّمْسِ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ لِتَتَهَيَّأَ لِقَبُولِ الْأَمْطَارِ فِي فَصْلِ الْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ.
وَإِسْنَادُ الصَّبِّ وَالشَّقِّ وَالْإِنْبَاتِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ اللَّهَ مُقَدِّرُ نِظَامِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي ذَلِكَ، وَمُحْكِمُ نَوَامِيسِهَا وَمُلْهِمُ النَّاسِ اسْتِعْمَالَهَا.
فَالْإِسْنَادُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ. وَقَدْ شَاعَ فِي صَبَبْنَا وَ (أَنْبَتْنَا) حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ الْعَقْلِيَّةَ.
وَانْتَصَبَ صَبًّا وشَقًّا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ صَبَبْنَا وشَقَقْنَا مُؤَكِّدًا لِعَامِلِهِ لِيَتَأَتَّى تَنْوِينُهُ لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ وَتَعْظِيمُ كُلِّ شَيْءٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَهُوَ تَعْظِيمُ تَعْجِيبٍ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْبَتْنا لِلتَّفْرِيعِ وَالتَّعْقِيبِ وَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
وَالْحَبُّ أُرِيدَ مِنْهُ الْمُقْتَاتُ مِنْهُ لِلْإِنْسَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦١].
وَالْعِنَبُ: ثَمَرُ الْكَرْمِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الْخَمْرُ وَالْخَلُّ، وَيُؤْكَلُ رَطْبًا، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الزَّبِيبُ.
وَالْقَضْبُ: الْفِصْفِصَةُ الرَّطْبَةُ، سُمِّيَتْ قَضْبًا لِأَنَّهَا تُعْلَفُ لِلدَّوَابِّ رَطْبَةً فَتُقَضَّبُ،
وَالزَّيْتُونُ: الثَّمَرُ الَّذِي يُعْصَرُ مِنْهُ الزَّيْتُ الْمَعْرُوفُ.
وَالنَّخْلُ: الشَّجَرُ الَّذِي ثَمَرَتُهُ التَّمْرُ وَأَطْوَارُهُ.
وَالْحَدَائِقُ: جَمْعُ حَدِيقَةٍ وَهِيَ الْجَنَّةُ مِنْ نَخْلٍ وَكَرْمٍ وَشَجَرٍ فواكه، وَعَطْفُهَا عَلَى النَّخْلِ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَلِأَنَّ فِي ذِكْرِ الْحَدَائِقِ إِدْمَاجًا لِلِامْتِنَانِ بِهَا لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ تَنَزُّهِهِمْ وَاخْتِرَافِهِمْ.
وَإِنَّمَا ذُكِرَ النَّخْلُ دُونَ ثَمَرَتِهِ، وَهُوَ التَّمْرُ، خِلَافًا لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنَ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْكَلَأِ، لِأَنَّ مَنَافِعَ شَجَرِ النَّخِيلِ كَثِيرَةٌ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى ثَمَرِهِ، فَهُمْ يَقْتَاتُونَ ثَمَرَتَهُ مِنْ تَمْرٍ وَرُطَبٍ وَبُسْرٍ، وَيَأْكُلُونَ جُمَّارَهُ، وَيَشْرَبُونَ مَاءَ عُودِ النَّخْلَةِ إِذَا شُقَّ عَنْهُ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْ نَوَى التَّمْرِ عَلَفًا لِإِبِلِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ، فَضْلًا عَنِ اتِّخَاذِهِمُ الْبُيُوتَ وَالْأَوَانِيَ مِنْ خَشَبِهِ، وَالْحُصْرَ مِنْ سَعَفِهِ، وَالْحِبَالَ مِنْ لِيفِهِ. فَذِكْرُ اسْمِ الشَّجَرَةِ الْجَامِعَةِ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ أَجْمَعُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِمُخْتَلِفِ الْأَحْوَالِ وَإِدْمَاجِ الِامْتِنَانِ بِوَفْرَةِ النِّعَمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي سُورَةِ النَّبَأِ.
وَالْغُلْبُ: جَمْعُ غَلْبَاءَ، وَهِيَ مُؤَنَّثُ الْأَغْلَبِ، وَهُوَ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ، يُقَالُ: غَلِبَ كَفَرِحَ،
يُوصَفُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَالْبَعِيرُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِغِلَظِ أُصُولِ الشَّجَرِ فَوَصْفُ الْحَدَائِقِ بِهِ إِمَّا عَلَى تَشْبِيهِ الْحَدِيقَةِ فِي تَكَاثُفِ أَوْرَاقِ شَجَرِهَا وَالْتِفَافِهَا بِشَخْصٍ غَلِيظِ الْأَوْدَاجِ وَالْأَعْصَابِ فَتَكُونُ اسْتِعَارَةً، وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ غُلْبٌ شَجَرُهَا، فَيَكُونُ نَعْتًا سَبَبِيًّا وَتَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ فِي تَشْبِيهِ كُلِّ شَجَرَةٍ بِامْرَأَةٍ غَلِيظَةِ الرَّقَبَةِ، وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الْحَدَائِقِ لِأَنَّهَا تَكُونُ قَدِ اسْتَكْمَلَتْ قُوَّةَ الْأَشْجَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [النبأ: ١٦].
وَخُصَّتِ الْحَدَائِقُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ التَّنَزُّهِ وَالِاخْتِرَافِ، وَلِأَنَّهَا تَجْمَعُ أَصْنَافًا مِنَ الْأَشْجَارِ.
وَالْفَاكِهَةُ: الثِّمَارُ الَّتِي تُؤْكَلُ لِلتَّفَكُّهِ لَا لِلِاقْتِيَاتِ، مِثْلَ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ الرَّطْبِ وَالرُّمَّانِ وَاللَّوْزِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي انْتِفَاءِ عِلْمِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ بِمَدْلُولِ الْأَبِّ وَهُمَا مِنْ خُلَّصِ الْعَرَبِ لِأَحَدِ سَبَبَيْنِ:
إِمَّا لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَانَ قَدْ تُنُوسِيَ مِنَ اسْتِعْمَالِهِمْ فَأَحْيَاهُ الْقُرْآنُ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تَشْتَهِرُ فِي بَعْضِ الْقَبَائِلِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَتُنْسَى فِي بَعْضِهَا مِثْلَ اسْمِ السِّكِّينِ عِنْدَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَقَدَ
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةُ حَتَّى سَمِعْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «ايتوني بِالسِّكِّينِ أَقْسِمُ الطِّفْلَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ»
. وَإِمَّا لِأَنَّ كَلِمَةَ الْأَبِّ تُطْلَقُ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا النَّبْتُ الَّذِي تَرْعَاهُ الْأَنْعَامُ، وَمِنْهَا التِّبْنُ، وَمِنْهَا يَابِسُ الْفَاكِهَةِ، فَكَانَ إِمْسَاكُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَنْ بَيَانِ مَعْنَاهُ لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ عَلَى التَّعْيِينِ، وَهَلِ الْأَبُّ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: مَتاعاً لَكُمْ أَوْ إِلَى قَوْلِهِ:
وَلِأَنْعامِكُمْ فِي جَمْعِ مَا قُسِّمَ قَبْلَهُ.
وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ خَاصًّا بِكَلَامِ عُمَرَ فَقَالَ: «إِنَّ الْقَوْمَ كَانَتْ أَكْبَرُ هِمَّتِهِمْ عَاكِفَةً عَلَى الْعَمَلِ، وَكَانَ التَّشَاغُلُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ لَا يُعْمَلُ بِهِ تَكَلُّفًا عِنْدَهُمْ، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي الِامْتِنَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ فَحْوَى الْآيَةِ أَنَّ الْأَبَّ بَعْضُ مَا أَنْبَتَهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ مَتَاعًا لَهُ وَلِأَنْعَامِهِ فَعَلَيْكَ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنَ النُّهُوضِ بِالشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ لَكَ مِمَّا عُدِّدَ مِنْ نِعَمِهِ وَلَا تَتَشَاغَلْ عَنهُ بِطَلَب معنى الْأَبِّ وَمَعْرِفَةِ النَّبَاتِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لَهُ وَاكْتَفِ بِالْمَعْرِفَةِ الْجُمَلِيَّةِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ، ثُمَّ وَصَّى النَّاسَ بِأَنْ يَجْرُوا عَلَى هَذَا
وَقَوْلُهُ: مَتاعاً لَكُمْ حَالٌ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا عَلَى قَاعِدَةِ وُرُودِ الْحَالِ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ التَّنَازُعِ.
وَقَوْلُهُ: وَلِأَنْعامِكُمْ عَطْفُ قَوْلِهِ: لَكُمْ وَالْمَتَاعُ: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ زَمَنًا ثُمَّ يَنْقَطِعُ، وَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوِّشٌ، وَالسَّامِعُ يُرْجِعُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ إِلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ لِظُهُورِهِ. وَهَذِهِ الْحَالُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْإِدْمَاجِ أُدْمِجَتِ الْمَوْعِظَةُ وَالْمِنَّةُ فِي خلال الِاسْتِدْلَال.
[٣٣- ٤٢]
[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ٣٣ إِلَى ٤٢]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى اللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧] وَمَا تَبِعَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ إِلَى قَوْلِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا [عبس: ١٨- ٢٥]، فَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْذَارٌ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ، مَعَ مُنَاسَبَةِ وُقُوعِ هَذَا الْإِنْذَارِ عَقِبَ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ بِالِامْتِنَانِ فِي قَوْلِهِ: إِلى طَعامِهِ [عبس: ٢٤] وَقَوْلِهِ:
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس: ٣٢] عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى مِنْ سُورَةِ النَّازِعَاتِ [٣٤].
والصَّاخَّةُ: صَيْحَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ صَيْحَاتِ الْإِنْسَانِ تَصُخُّ الْأَسْمَاعَ، أَيْ تُصِمُّهَا.
يُقَالُ: صَخَّ يَصُخُّ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَمُضَارِعُهُ يَصُخُّ بِضَمِّ عَيْنِهِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي اشْتِقَاقِهَا اخْتِلَافًا لَا جَدْوَى لَهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ خُلَاصَةُ قَوْلِ الْخَلِيلِ وَالرَّاغِبِ وَهُوَ أَحْسَنُ وَأَجْرَى عَلَى قِيَاسِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، فَالصَّاخَّةُ صَارَتْ فِي الْقُرْآنِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى حَادِثَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَانْتِهَاءِ
وَ (إِذَا) ظَرْفٌ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ جاءَتِ الصَّاخَّةُ وَجَوَابُهُ قَوْلُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ الْآيَاتِ.
وَالْمَجِيءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحُصُولِ مَجَازًا، شُبِّهَ حُصُولُ يَوْمِ الْجَزَاءِ بِشَخْصٍ جَاءَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ.
ويَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ بَدَلٌ مِنْ إِذَا جاءَتِ الصَّاخَّةُ بَدَلًا مُطَابِقًا.
وَالْفِرَارُ: الْهُرُوبُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ مُخِيفٍ.
وَحَرْفُ (مِنْ) هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ الَّذِي يُعَدَّى بِهِ فِعْلُ الْفِرَارِ إِلَى سَبَبِ الْفِرَارِ حِينَ يُقَالُ: فَرَّ مِنَ الْأَسَدِ، وَفَرَّ مِنَ الْعَدُوِّ، وَفَرَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ مِثْلَ (عَنْ).
وَكَوْنُ أَقْرَبِ النَّاسِ لِلْإِنْسَانِ يَفِرُّ مِنْهُمْ يَقْتَضِي هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَيْثُ إِذَا رَأَى مَا يَحِلُّ مِنَ الْعَذَابِ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ تَوَهَّمَ أَنَّ الْفِرَارَ مِنْهُ يُنْجِيهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِهِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُمَاثِلًا لَهُمْ فِيمَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَذُكِرَتْ هُنَا أَصْنَافٌ مِنَ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّ الْقَرَابَةَ آصِرَةٌ تَكُونُ لَهَا فِي النَّفْسِ مَعَزَّةٌ وَحِرْصٌ عَلَى سَلَامَةِ صَاحِبِهَا وَكَرَامَتِهِ. وَالْإِلْفُ يُحْدِثُ فِي النَّفْسِ حِرْصًا عَلَى الْمُلَازَمَةِ وَالْمُقَارَنَةِ. وَكِلَا هَذَيْنِ الْوِجْدَانَيْنِ يَصُدُّ صَاحِبَهُ عَنِ الْمُفَارَقَةِ فَمَا ظَنُّكَ بِهَوْلٍ يَغْشَى على هذَيْن الواجدين فَلَا يَتْرُكُ لَهُمَا مَجَالًا فِي النَّفْسِ.
وَرُتِّبَتْ أَصْنَافُ الْقَرَابَةِ فِي الْآيَةِ حَسَبَ الصُّعُودِ مِنَ الصِّنْفِ إِلَى مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ تَدَرُّجًا فِي تَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فَابْتُدِئَ بِالْأَخِ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِأَخِيهِ مِنْ زَمَنِ الصِّبَا فَيَنْشَأُ بِذَلِكَ إِلْفٌ بَيْنَهُمَا يَسْتَمِرُّ طُولَ الْحَيَاةِ، ثُمَّ ارْتُقِيَ مِنَ الْأَخِ إِلَى الْأَبَوَيْنِ وَهُمَا أَشَدُّ قُرْبًا لِابْنَيْهِمَا، وَقُدِّمَتِ الْأُمُّ فِي الذِّكْرِ لِأَنَّ إِلْفَ ابْنِهَا بِهَا أَقْوَى مِنْهُ بِأَبِيهِ وَلِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، وَانْتُقِلَ إِلَى الزَّوْجَةِ وَالْبَنِينَ وَهُمَا مُجْتَمَعُ عَائِلَةِ الْإِنْسَانِ وَأَشَدُّ النَّاسِ قُرْبًا بِهِ وَمُلَازَمَةً.
وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَرَابَةِ إِذَا قَدَّرْتَهُ هُوَ الْفَارَّ كَانَ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُ مَفْرُورًا مِنْهُ إِلَّا قَوْلَهُ:
وَصاحِبَتِهِ لِظُهُورِ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَالْمَرْأَةِ مِنْ صَاحِبِهَا، فَفِيهِ اكْتِفَاءٌ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ بِوَصْفِ الصَّاحِبَةِ الدَّالِّ عَلَى الْقُرْبِ وَالْمُلَازَمَةِ دُونَ وَصْفِ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ حَسَنَةِ الْعِشْرَةِ لِزَوْجِهَا فَلَا يَكُونُ فِرَارُهُ مِنْهَا كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ فَذُكِرَ بِوَصْفِ الصَّاحِبَةِ.
وَالْأَقْرَبُ أَنَّ هَذَا فِرَارُ الْمُؤْمِنِ مِنْ قَرَابَتِهِ الْمُشْرِكِينَ خَشْيَةَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِتَبِعَتِهِمْ إِذْ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ.
وَتَعْلِيقُ جَارِ الْأَقْرِبَاءِ بِفِعْلِ: يَفِرُّ الْمَرْءُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَدْ وَقَعُوا فِي عَذَابٍ يَخْشَوْنَ تَعَدِّيَهُ إِلَى مَنْ يَتَّصِلُ بِهِمْ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ إِلَى آخِرِهِ أَبْلَغُ مَا يُفِيدُ هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ هَوْلُهُ لِلْمَرْءِ بَقِيَّةً مِنْ رُشْدِهِ فَإِنَّ نَفْسَ الْفِرَارِ لِلْخَائِفِ مَسَبَّةٌ فِيمَا تَعَارَفُوهُ لِدِلَالَتِهِ عَلَى جُبْنِ صَاحِبِهِ وَهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِالْجُبْنِ وَكَوْنَهُ يَتْرُكُ أَعَزَّ الْأَعِزَّةِ عَلَيْهِ مَسَبَّةٌ عُظْمَى.
وَجُمْلَةُ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِزِيَادَةِ تَهْوِيلِ الْيَوْمِ، وَتَنْوِينُ شَأْنٌ لِلتَّعْظِيمِ.
وَحَيْثُ كَانَ فِرَارُ الْمَرْءِ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ الْخَمْسَةِ يَقْتَضِي فِرَارَ كُلِّ قَرِيبٍ مِنْ أُولَئِكَ مِنْ مِثْلِهِ كَانَ الِاسْتِئْنَافُ جَامِعًا لِلْجَمِيعِ تَصْرِيحًا بِذَلِكَ الْمُقْتَضَى، فَقَالَ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أَيْ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ بَلْهَ الِاشْتِغَالَ عَمَّنْ هُوَ دُونَ أُولَئِكَ فِي الْقَرَابَةِ وَالصُّحْبَةِ.
وَالشَّأْنُ: الْحَالُ الْمُهِمُّ.
وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ امْرِئٍ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ شَأْنٌ الدَّالِّ عَلَى التَّعْظِيمِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَبْتَدِئُونَ بِالنَّكِرَةِ فِي جُمْلَتِهَا إِلَّا بِمُسَوِّغٍ مِنْ مُسَوِّغَاتٍ عَدَّهَا النُّحَاةُ بِضْعَةَ عَشَرَ مُسَوِّغًا، وَمِنْهَا تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ.
حُصُولُ النَّافِعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: ٦٧]
وَقَالَ: مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ [الحاقة: ٢٨]. وَقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَعْنَى الْإِشْغَالِ وَالْإِشْغَالُ أَعَمُّ.
فَاسْتُعْمِلَ الْإِغْنَاءُ الَّذِي هُوَ نَفْعٌ فِي مَعْنَى الْإِشْغَالِ الْأَعَمِّ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَشْغَلُهُمْ عَنْ قَرَابَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ فَرْطُ النَّعِيمِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَجُمْلَةُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ جَوَابُ (إِذَا)، أَيْ إِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ صِنْفٌ وُجُوهُهُمْ مُسْفِرَةٌ وَصِنْفٌ وُجُوهُهُمْ مُغْبَرَّةٌ.
وَقُدِّمَ هُنَا ذِكْرُ وُجُوهِ أَهْلِ النَّعِيمِ عَلَى وُجُوهِ أَهْلِ الْجَحِيمِ خِلَافَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [٣٧] فَأَمَّا مَنْ طَغى ثُمَّ قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ [النازعات: ٤٠] إِلَى آخِرِهِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُقِيمَتْ عَلَى عِمَادِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ رَجُلٍ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّحْقِيرِ لِشَأْنِ عَظِيمٍ مِنْ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ حَظُّ الْفَرِيقَيْنِ مَقْصُودًا مَسُوقًا إِلَيْهِ الْكَلَامُ وَكَانَ حَظُّ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْمُلْتَفَتَ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَذَلِكَ من قَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: ٣] إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَوْلِهِ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: ٥، ٦].
وَأَمَّا سُورَةُ النَّازِعَاتِ فَقَدْ بُنِيَتْ عَلَى تَهْدِيدِ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ [النازعات: ٦- ٨] فَكَانَ السِّيَاقُ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَتَهْوِيلِ مَا يَلْقَوْنَهُ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَأَمَّا ذِكْرُ حَظِّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ دَعَا إِلَى ذِكْرِهِ الِاسْتِطْرَادُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَعْقِيبِ التَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ.
وَتَنْكِيرُ وُجُوهٌ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلتَّنْوِيعِ، وَذَلِكَ مُسَوِّغُ وُقُوعِهِمَا مُبْتَدَأً.
وَإِعَادَةُ يَوْمَئِذٍ لِتَأْكِيدِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَلِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَالتَّقْدِيرُ:
وُجُوهٌ مُسْفِرَةٌ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَدْ أَغْنَتْ إِعَادَةُ يَوْمَئِذٍ عَنْ رَبْطِ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ.
وَالْمُسْفِرَةُ ذَاتُ الْإِسْفَارِ، وَالْإِسْفَارُ النُّورُ وَالضِّيَاءُ يُقَالُ: أَسْفَرَ الصُّبْحُ، إِذَا ظَهَرَ ضَوْءُ الشَّمْسِ فِي أُفُقِ الْفَجْرِ، أَيْ وُجُوهٌ مُتَهَلِّلَةٌ فَرَحًا وَعَلَيْهَا أَثَرُ النَّعِيمِ.
وَ (مُسْتَبْشِرَةٌ) مَعْنَاهُ فَرِحَةٌ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ، وَيُقَالُ: بَشَرَ،
أَيْ فَرِحَ وَسُرَّ، قَالَ تَعَالَى: قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ [يُوسُف: ١٩] أَيْ يَا فَرْحَتِي.
وَإِسْنَادُ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ إِلَى الْوُجُوهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْوُجُوهَ مَحَلُّ ظُهُورِ الضَّحِكِ وَالِاسْتِبْشَارِ، فَهُوَ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى مَكَانِهِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْوُجُوهَ كِنَايَةً عَنِ الذَّوَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: ٢٧].
وَهَذِهِ وُجُوهُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْمُطْمَئِنِّينَ بَالًا الْمُكْرَمِينَ عَرْضًا وَحُضُورًا.
وَالْغَبَرَةُ بِفَتْحَتَيْنِ الْغُبَارُ كُلُّهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهَا مُعَفَّرَةٌ بِالْغُبَارِ إِهَانَةً وَمِنْ أَثَرِ الْكَبَوَاتِ.
وتَرْهَقُها تَغْلِبُ عَلَيْهَا وَتَعْلُوهَا.
وَالْقَتَرَةُ: بِفَتْحَتَيْنِ شِبْهُ دُخَانٍ يَغْشَى الْوَجْهَ مِنَ الْكَرْبِ وَالْغَمِّ، كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ، وَهُوَ غَيْرُ الْغَبَرَةِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ لِئَلَّا يَكُونَ مِنَ الْإِعَادَةِ، وَهِيَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهَا.
وَسَوَّى بَيْنَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ مَنْظُورٍ وَصَاحِبُ «الْقَامُوسِ».
وَهَذِهِ وُجُوهُ أَهْلِ الْكُفْرِ، يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ سِيَاقِ هَذَا التَّنْوِيعِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ زِيَادَةً فِي تَشْهِيرِ حَالِهِمُ الْفَظِيعِ لِلسَّامِعِينَ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ تَشْهِيرًا بِالْحَالَةِ الَّتِي سَبَّبَتْ لَهُمْ ذَلِكَ.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا لِإِفَادَةِ التَّقْوَى.
وَأُتْبِعَ وَصْفُ الْكَفَرَةُ بِوَصْفِ الْفَجَرَةُ مَعَ أَنَّ وَصْفَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ وَصْفِ الْفُجُورِ لِمَا فِي مَعْنَى الْفُجُورِ مِنْ خَسَاسَةِ الْعَمَلِ فَذُكِرَ وصفاهم الدالان على مَجْمُوعِ فَسَادِ الِاعْتِقَادِ وَفَسَادِ الْعَمَلِ.
وَذِكْرُ وَصْفِ الْفَجَرَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ يُفِيدُ أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٨١- سُورَةُ التَّكْوِيرِلَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمَّاهَا تَسْمِيَةً صَرِيحَةً،
وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ»
وَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا فِي التَّسْمِيَةِ لِأَنَّ صِفَةَ يَوْم الْقِيَامَة لَيست فِي جَمِيعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَلْ هُوَ فِي الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْهَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَعُنْوِنَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» «سُورَةَ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»، وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا الطَّبَرَيُّ.
وَأَكْثَرُ التَّفَاسِيرِ يُسَمُّونَهَا «سُورَةَ التَّكْوِيرِ» وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَهُوَ اخْتِصَارٌ لِمَدْلُولِ «كُوِّرَتْ».
وَتُسَمَّى «سُورَةَ كُوِّرَتْ» تَسْمِيَةً بِحِكَايَةِ لَفْظٍ وَقَعَ فِيهَا. وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» مَعَ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنَ اسْمٍ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَهِيَ مَعْدُودَةٌ السَّابِعَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَعْلَى.
وَعَدَدُ آيِهَا تسع وَعِشْرُونَ.
أغراضها
اشْتَمَلَتْ عَلَى تَحْقِيقِ الْجَزَاءِ صَرِيحًا.