تفسير سورة سورة عبس من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها اثنان وأربعون
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ عبس وتولى... ﴾ روي أن ابن أم مكتوم – عمرو بن قيس، وكان أعمى وأسلم قديما بمكة – أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش ؛ يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم خلق كثير ؛ فقال : يا رسول الله، أقرئني وعلمني مما علمك الله. وكرر ذلك، وهو لا يعلم تشاغله يصلى الله عليه وسلم بالقوم. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه. فنزلت هذه الآيات معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء نجواه معهم وذهابه إلى أهله. وقيل : في أثنائها. فكان الرسول بعد ذلك يكرمه إذا رآه ويقول :( مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ! )، ويبسط له رداءه. واستخلفه على المدينة مرتين. وكان المهاجرين الأولين. قتل شهيدا بالقادسية. والعبوس : قطوب الجبين من ضيق الصدر. والتولي إذا عدي بعن لفظا أو تقديرا فمعناه الإعراض بالجسم، أو بترك الإصغاء.
﴿ وما يدريك لعله يزكى ﴾ أي أيّ شيء يجعلك داريا بحال هذا الأعمى الذي عبست في وجهه ! لعله يتطهر بما يتعلمه منك من الشرائع من دنس الجهل ؟ أو يتعظ فتنفعه ذكراك وموعظتك ! من الزكاة بمعنى الطهارة والنماء.
﴿ أما من استغنى ﴾ عن الإيمان، وعما عندك من العلوم التي ينطوي عليها القرآن بما عنده مما لا خير فيه.
﴿ فأنت له تصدى ﴾ أي تتعرض له بالإقبال عليه والإصغاء لكلامه ! والاهتمام بإرشاده واستصلاحه، رجاء أن يسلم ويسلم بإسلامه غيره. يقال : تصدى له، أي تعرض. وأصله من الصدد، وهو ما استقبلك وصار قبالتك.
يقال : دارى صدد داره، أي قبالتها، فأبدلت الدال حرف علة للتخفيف، نحو تقضى البازي.
﴿ وما عليك ألا يزكى ﴾ أي أيّ شيء عليك في ألا يتطهر من كفره فيسلم حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم وتطهر ؟ أي لا بأس عليك في بقاء هذا الذي استغنى على كفره وضلاله.
﴿ وأما من جاءك يسعى ﴾ أي مسرعا في طلب ما عندك من العلم والخير.
﴿ وهو يخشى ﴾ ويتقيه. أو يخشى فواته.
﴿ فأنت عنه تلهى ﴾ تعرض وتتشاغل. يقال : لهي عنه – كرضي – وتلهى، سلا عنه وترك ذكره.
﴿ كلا ﴾ أي ما الأمر كما تفعل ! وهو مبالغة في إرشاده صلى الله عليه وسلم إلى عدم معاودة ما عوتب عليه. روي أنه صلى الله عليه وسلم ما عبس بعد ذلك في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني قط !. وعن سفيان الثوري : أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.
﴿ إنها تذكرة ﴾ أي إن آيات القرآن موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها. وفيه تعريض بمن استغنى عنها.
﴿ فمن شاء ذكره ﴾ أي ذكر هذه التذكرة، وذكر الضمير لأن التذكرة بمعنى التذكير والوعظ. والجملة معترضة للترغيب في وعي هذه الآيات والاتعاظ بها.
ثم وصف التذكرة بقوله تعالى :﴿ في صحف ﴾ أي مثبتة في صحف منتسخة من اللوح المحفوظ. ﴿ مكرمة ﴾ عنده تعالى.
﴿ مرفوعة ﴾ ذات منزلة رفيعة. ﴿ مطهرة ﴾ منزهة عن مساس أيدي الشياطين، أو عن كل دنس
﴿ بأيدي سفرة ﴾ هم الملائكة الذين جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله. جمع سافر بمعنى سفير ؛ أي رسول وواسطة أو هم كتبة من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ، جمع سافر، أي كاتب. يقال : سفر الكتاب، يسفره كتبه ؛ ومنه السفر للكتاب، وجمعه أسفار.
﴿ كرام ﴾ مكرمين معظمين عنده تعالى ؛ من الكرامة بمعنى التوقير. ﴿ بررة ﴾ أتقياء. أو مطيعين. أو صادقين، جمع بر.
﴿ قتل الإنسان ﴾ لعن. أو عذب الكافر بالله. وعن مجاهد : ما كان في القرآن قتل الإنسان ؛ فإنما عني به الكافر، وهو دعاء عليه بأفظع الدعاء.
﴿ ما أكفره ﴾ ما أشد كفره بالله، مع معرفته بكثرة إحسانه إليه. وهو تعجيب من فرط كفره، وبيان لاستحقاقه الدعاء عليه بأشنع دعاء.
ثم بين نعمه الكثيرة عليه الموجبة للشكر بدل الكفر فقال :﴿ من أي شيء خلقه ﴾ أي من أي شيء خلق الرب تعالى هذا الكافر الجحود، حتى يتكبر ويتعظم عن طاعته، والإقرار بتوحيده.
ثم بين سبحانه ذلك بقوله :﴿ من نطفة ﴾ مهينة حقيرة﴿ خلقه فقدره ﴾ فهيأه لما يصلح له، ويليق به من الأعضاء والأشكال. أو فقدّره أطوارا من حال إلى حال، إلى أن تم خلقه وتكوينه.
﴿ ثم السبيل يسره ﴾ أي يسر الله له سبيل النظر القويم المؤدى إلى الإيمان – بما وهبه من العقل، ومكنه من النظر، وهيأ له من أسبابه. أو يسر له سبيل الخير وسبيل الشر، وبين له المسلكين، وأقدره على كل منهما. وهو مثل قوله تعالى : " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " وقوله : " وهديناه النجدين " . أو يسر له مخرجه من بطن أمه.
﴿ ثم أماته فأقبره ﴾ جعله ذا قبر توارى فيه جيفته تكرمة له. ولم يدعه مطروحا على وجه الأرض يستقذره الناس كافة، وتنوشه الطير والسباع إذا ظفرت به كسائر الحيوان. والمراد أنه تعالى أمر بدفنه. يقال. قبر الميت يقبره ويقبره، إذا دفنه بيده ؛ فهو قابر. وأقبره : إذا أمر بدفنه ؛ أو مكن منه. وفي الآية إشارة إلى مشروعية دفن الإنسان. أما حرقه بعد موته كما يفعل بعض الوثنيين فمناف للتكرمة، ومنابذ للسنة الإسلامية ؛ فضلا عما فيه من البشاعة والشناعة.
﴿ أنشره ﴾ أحياه بعد الموت للجزاء إذا جاء الوقت المقدر للبعث في علمه تعالى. يقال : أنشر الله الميت ونشره، بمعنى.
﴿ كلا ﴾ ردع للإنسان عما هو عليه من الكفران البالغ حد الطغيان. ﴿ لما يقض ما أمره ﴾ لم يقض ذلك الإنسان المستغنى المتكبر شيئا مما أمره به ربه ! من ترك التكبر ومن التأمل في الآيات، والإيمان بالله، مع ما يتقلب فيه من النعم الجليلة.
ثم بعد أن ذكر خلق الإنسان ذكر رزقه ليعتبر ويقابل هذه النعمة بالشكر فقال :﴿ فلينظر الإنسان إلى طعامه ﴾ كيف دبر.
﴿ أنا صببنا الماء صبا ﴾ أنزلنا له الغيث من السماء إنزالا
﴿ ثم شققنا الأرض شقا ﴾ شققناها بالنبات شقا بديعا، لائقا بما يشقها منه صغرا وكبرا، وشكلا وهيئة.
﴿ حبا ﴾ ما يقتات به الإنسان ويدخره ؛ من نحو الحنطة والشعير والذرة.
﴿ وعنبا ﴾ يتفكه به. ﴿ وقضبا ﴾ علفا رطبا للدواب. ويسمى الفصفصة. وإذا يبس يسمى القت. وسمى قضبا لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد أخرى ؛ كالكلأ والبرسيم. وقيل : القضب ما يقضب من النبات ليأكله الإنسان غضا رطبا ؛ كالبقول التي تقطع فينبت أصلها.
﴿ وحدائق ﴾ بساتين محوطة. جمع حديقة، وهي ما أحيط من النخل والشجر ؛ فإذا لم يحط فليس بحديقة، بل هو بستان ؛ ومنه : أحدقوا به، أي أحاطوا به. ﴿ غلبا ﴾ عظاما ؛ جمع أغلب وغلباء. والغلباء. الحديقة الغليظة الأشجار الملتفة. وأصلها من الغلب – بفتحتين – بمعنى الغلظ. يقال : غلب – كفرح – أي غلظ عنقه ؛ ومنه : الأغلب للغليظ الرقبة، وهضبة غلباء : أي عظيمة مشرفة.
﴿ وأبا ﴾ الأب : الكلأ والمرعى، وهو ما تأكله البهائم من العشب : من أبّه : إذا أمّه وقصده ؛ لأنه يؤم ويقصد. أو من أب لكذا. إذا تهيأ له ؛ لأنه متهيء للرعى. أو ما تأكله البهائم من العشب والنبات، رطبا كان أو يابسا. فهو أعم من القضب. أو هو التبن خاصة.
﴿ الصاخة ﴾ الداهية العظيمة ؛ من صخ بمعنى أصاخ أي استمع. والمراد بها : نفخة البعث ؛ لأن الناس يصخون لها، أي يستمعون فجعلت مستمعة مجازا. أو من صخه بالحجر : أي صكه. وأصل الصخ : الصك الشديد. وجواب إذا محذوف لظهوره ؛ تقديره : شغل كل إنسان بنفسه.
﴿ لكل امرئ منهم... ﴾ أي لكل واحد منهم شغل منهم شغل شاغل يكفيه في الاهتمام به. يقال : أغناه عن كذا، جعله في غنية عنه.
ثم بين تعالى مآل الناس يومئذ وأنهم فريقان : سعداء، وأشقياء. فقال :﴿ وجوه يومئذ مسفرة ﴾ مضيئة مشرقة ؛ من أسفر الصبح : إذا أضاء.
﴿ ضاحكة مستبشرة ﴾ مسرورة بما أعطاها الله من النعيم، راجية المزيد ؛ وهي وجوه المؤمنين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:ثم بين تعالى مآل الناس يومئذ وأنهم فريقان : سعداء، وأشقياء. فقال :﴿ وجوه يومئذ مسفرة ﴾ مضيئة مشرقة ؛ من أسفر الصبح : إذا أضاء.
﴿ ضاحكة مستبشرة ﴾ مسرورة بما أعطاها الله من النعيم، راجية المزيد ؛ وهي وجوه المؤمنين.
ثم أخبر عن وجوه الكافرين بقوله :﴿ عليها غبرة ﴾ غبار، وهو كناية عن تغيرها للغم والكآبة.
﴿ ترهقها قترة ﴾ تغشاها ظلمة وسواد. أو ذلة وشدة من الهم. يقال : رهقه، أي غشيه. وقيل : الغبرة والقترة بمعنى ؛ إلا أن الغبرة ما انحط من الغبار إلى الأرض. والقترة ما ارتفع منه إلى السماء.
والله أعلم.