تفسير سورة عبس

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة عبس من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة عبس
«١» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ».. اسم كريم بسط للمؤمنين بساط جوده، اسم عزيز انسدّ على الأولين والآخرين طريق وجوده.. وأنّى بذلك ولا حدّ له؟ من الذي يدركه بالزمان والزمان خلقه؟
ومن الذي يحسبه في المكان والمكان فعله؟ ومن الذي يعرفه- إلّا وبه يعرفه؟ ومن الذي يذكره «٢» - إلا وبه يذكره؟
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣)
نزلت في ابن أمّ مكتوم، وكان ضريرا.. أتى النبيّ ﷺ وكان عنده العباس ابن عبد المطلب وأمية بن خلف الجمحىّ «٣» - يرجو الرسول ﷺ إيمانهما، فكره أن يقطع حديثه معهما، فأعرض عن ابن أمّ مكتوم، وعبس وجهه، فأنزل الله هذه الآية.
وجاء في التفسير: أن النبيّ ﷺ خرج على أثره، وأمر بطلبه، وكان بعد ذلك يبرّه ويكرمه، فاستخلفه على المدينة مرتين.
وجاء في التفسير: أنه ﷺ لم يعبس- بعد هذا- فى وجه فقير قط، ولم يعرض عنه.
(١) هكذا في م وهي في ص (سورة الأعمى)
(٢) هكذا في ص. هى في نظرنا أصوب من (يدركه) التي في م لأن السياق بعدها سيكون: (إلا وبه يدركه) والله سبحانه منزه عن الدرك واللحوق كما نعرف من مذهب القشيري. أما الذكر فهذا مقبول على حد تعبير. ذى النون المصري: (لا أعرفك إلا بك ولا أذكرك إلا بك).
(٣) يقول ابن العربي: غير صحيح أن أمية هذا كان في هذا المجلس، فقد كان بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة وكان موته كافرا، ولم يقصد المدينة، ولا اجتمع بالنبي.
ويقال: فى الخطاب لطف.. وهو أنه لم يواجهه بل قاله على الكناية «١»، ثم بعده قال:
«وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» أي يتذكر بما يتعلم منك أو.
«أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى».
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٥ الى ٨]
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨)
أمّا من استغنى عن نفسه فإنه استغنى عن الله.
ويقال: استغنى بماله فأنت له تصدّى، أي تقبل عليه بوجهك.
«وَما عَلَيْكَ..» فأنت لا تؤاحذ بألا يتزكّى هو فإنما عليك البلاغ.
«وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى» لطلب العلم، ويخشى الله فأنت عنه تتلهّى، وتتشاغل وهذا كله من قبيل العتاب معه لأجل الفقراء.
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١١ الى ١٢]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢)
القرآن تذكرة فمن شاء الله أن يذكره ذكره، ومن شاء الله ألا يذكره لم يذكّره أي بذلك جرى القضاء، فلا يكون إلا ما شاء الله.
ويقال: الكلام على جهة التهديد ومعناه: فمن أراد أن يذكره فليذكره، ومن شاء ألا يذكره فلا يذكره! كقوله «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» «٢».
وقال سبحانه: «ذَكَرَهُ» ولم يقل «ذكرها» لأنه أراد به القرآن.
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٣ الى ٢٣]
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)
(١) أي تحدث عن عبوس الوجه بضمير الغائب، ثم جاء العتاب بضمير الخطاب.
(٢) آية ٢٩ سورة الكهف.
688
أي صحف إبراهيم وموسى وما قبل ذلك، وفي اللوح المحفوظ.
«مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ» مرفوعة في القدر والرتبة، مطهرة من التناقض والكذب.
«بِأَيْدِي سَفَرَةٍ» أي: الملائكة الكتبة.
«كِرامٍ بَرَرَةٍ» كرام عند الله بررة.
قوله جل ذكره: «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ!» لعن الإنسان ما أعظم كفره!.
«مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» خلقه وصوّره وقدّره أطوارا: من نطفة، ثم علقة، ثم طورا بعد طور.
قوله جل ذكره: «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» يسّر عليه السبيل في الخير والشرّ، وألهمه كيف التصرّف.
ويقال: يسّر عليه الخروج من بطن أمّه يخرج أولا رأسه منكوسا.
«ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ» أي: جعل له قبرا لئلا تفترسه السّباع والطيور ولئلا يفتضح.
«ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ» بعثه من قبره.
«كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ» أي: عصى وخالف ما أمر به.
689
ويقال: لم يقض الله له ما أمره به، ولو قضى عليه وله ما أمره به لما عصاه «١».
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٢٥ الى ٣٧]
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩)
وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
فى الإشارة: صببنا ماء الرحمة على القلوب القاسية فلانت للتوبة، وصببنا ماء التعريف على القلوب فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوار التجريد.
«وَقَضْباً» أي القت «٢».
«وَحَدائِقَ غُلْباً» متكائفة غلاظا.
«وَفاكِهَةً وَأَبًّا» الفاكهة: جميع الفواكه، و «أَبًّا» : المرعى.
«مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ... »
«فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» أي: القيامة فيومئذ يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، ثم بيّن ما سبب ذلك فقال:
«لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» لا يتفرّغ إلى ذاك، ولا ذاك إلى هذه. كذلك قالوا: الاستقامة أن تشهد الوقت
(١) أي: كلّا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له- وهذا الرأى للإمام ابن فورك شيخ القشيري.
(٢) سمىّ القت قضبا لأنه يقضب، أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد مرة (الحسن) ويرى ابن عباس أنه الرطب لأنه يقضب من النخل، ولأنه ذكر العنب قبله.
قيامة، فما من وليّ ولا عارف إلّا وهو- اليوم- بقلبه يفرّ من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه.
فالعارف مع الخلق ولكنه يفارقهم بقلبه- قالوا:
فلقد جعلتك في الفؤاد محدّثى وأبحت جسمى من أراد جاوسى «١»
قوله جل ذكره:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١)
وسبب استبشارهم مختلف فمنهم من استبشاره لوصوله إلى جنّته، ومنهم لوصوله إلى الحور العين من حظيته.. ومنهم ومنهم، وبعضهم لأنه نظر إلى ربّه فرآه.
«وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» وهي غبرة الفسّاق. «تَرْهَقُها قَتَرَةٌ». وهي ذلّ الحجاب.
(١) أحد بيتين ينسبان إلى رابعة العدوية، والثاني:
فالجسم منى للجليس مؤانس وحبيب قلبى في الفؤاد أنيسى
(نشأة التصوف الإسلامى ص ١٩١ ط المعارف تأليف بسيونى).
Icon