تفسير سورة عبس

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة عبس من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة عبس

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة عبس
وهي أربعون وآيتان مكية
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢)
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
- وَأُمُّ مَكْتُومٍ أُمُّ أَبِيهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُرَيْحِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ الْفِهْرِيُّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ-
وَعِنْدَهُ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ بِإِسْلَامِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرِئْنِي وَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعَهُ لِكَلَامِهِ، وَعَبَسَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْرِمُهُ، وَيَقُولُ: إِذَا رَآهُ «مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي» وَيَقُولُ: هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ،
وَفِي الْمَوْضِعِ سُؤَالَاتٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ وَالزَّجْرَ، فَكَيْفَ عَاتَبَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى أَنْ أَدَّبَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَزَجَرَهُ؟ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِفَقْدِ بَصَرِهِ لَا يَرَى الْقَوْمَ، لَكِنَّهُ لِصِحَّةِ سَمْعِهِ كَانَ يَسْمَعُ مُخَاطَبَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ، وَكَانَ يَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ أَيْضًا، وَكَانَ يَعْرِفُ بِوَاسِطَةِ اسْتِمَاعِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ شِدَّةَ اهْتِمَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَأْنِهِمْ، فَكَانَ إِقْدَامُهُ عَلَى قَطْعِ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلْقَاءِ غَرَضِ نَفْسِهِ فِي الْبَيْنِ قَبْلَ تَمَامِ غَرَضِ النَّبِيِّ إِيذَاءً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَهَمَّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُهِمِّ، وَهُوَ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَتَعَلَّمَ، مَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، أَمَّا أُولَئِكَ الْكُفَّارُ فَمَا كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا، وَهُوَ إِسْلَامُهُمْ سَبَبًا لِإِسْلَامِ جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَإِلْقَاءُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي الْبَيْنِ كَالسَّبَبِ فِي قَطْعِ ذَلِكَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، لِغَرَضٍ قَلِيلٍ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْحُجُرَاتِ: ٤] فَنَهَاهُمْ عَنْ مجرد النداء إلا في الوقت، فههنا هَذَا النِّدَاءُ الَّذِي صَارَ كَالصَّارِفِ لِلْكُفَّارِ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَكَالْقَاطِعِ/ عَلَى الرَّسُولِ أَعْظَمَ مُهِمَّاتِهِ، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً، وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الرَّسُولُ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَعِنْدَ هَذَا يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ فِي أَنَّهُ كَيْفَ عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الفعل؟.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَاتَبَهُ عَلَى مُجَرَّدِ أَنَّهُ عَبَسَ فِي وَجْهِهِ، كَانَ تَعْظِيمًا عَظِيمًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذَا التَّعْظِيمِ أَنْ يَذْكُرَهُ بِاسْمِ الْأَعْمَى مَعَ أَنَّ ذِكْرَ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الْوَصْفِ يَقْتَضِي تَحْقِيرَ شَأْنِهِ جِدًّا؟.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا فِي أَنْ يُعَامِلَ أَصْحَابَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَثِيرًا مَا كَانَ يُؤَدِّبُ أَصْحَابَهُ وَيَزْجُرُهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا بُعِثَ لِيُؤَدِّبَهُمْ وَلِيُعَلِّمَهُمْ مَحَاسِنَ الْآدَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ التَّعْبِيسُ دَاخِلًا فِي إِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فِي تَأْدِيبِ أَصْحَابِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَأْذُونًا فِيهِ، فَكَيْفَ وَقَعَتِ الْمُعَاتَبَةُ عَلَيْهِ؟ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْوَاقِعَةِ يُوهِمُ تَقْدِيمَ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَانْكِسَارَ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَصَلَتِ الْمُعَاتَبَةُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: ٥٢]، والوجه الثَّانِي:
لَعَلَّ هَذَا الْعِتَابَ لَمْ يَقَعْ عَلَى مَا صَدَرَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْفِعْلِ الظَّاهِرِ، بَلْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ أَنَّ قَلْبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَدْ مَالَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ قَرَابَتِهِمْ وَشَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، وَكَانَ يَنْفِرُ طَبْعُهُ عَنِ الْأَعْمَى بِسَبَبِ عَمَاهُ وَعَدَمِ قَرَابَتِهِ وَقِلَّةِ شَرَفِهِ، فَلَمَّا وَقَعَ التَّعْبِيسُ وَالتَّوَلِّي لِهَذِهِ الدَّاعِيَةِ وَقَعَتِ الْمُعَاتَبَةُ، لَا عَلَى التَّأْدِيبِ بَلْ عَلَى التَّأْدِيبِ لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّاعِيَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ ذِكْرَهُ بِلَفْظِ الْأَعْمَى لَيْسَ لِتَحْقِيرِ شَأْنِهِ، بَلْ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ بِسَبَبِ عَمَاهُ اسْتَحَقَّ مَزِيدَ الرِّفْقِ وَالرَّأْفَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَخُصَّهُ بِالْغِلْظَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا فِي تَأْدِيبِ أَصْحَابِهِ لَكِنْ هَاهُنَا لَمَّا أُوهِمَ تَقْدِيمُ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُ تَرْجِيحَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جَاءَتْ هَذِهِ الْمُعَاتَبَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَائِلُونَ بِصُدُورِ الذَّنْبِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: لَمَّا عَاتَبَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ مَعْصِيَةً، وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُتَعَيَّنُ لَا بِحَسَبِ هَذَا الِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوهِمُ تَقْدِيمَ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِصَلَابَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى تَرْكِ الِاحْتِيَاطِ، وَتَرْكِ الْأَفْضَلِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ذَنْبًا الْبَتَّةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَبَسَ وَتَوَلَّى، هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَجْمَعُوا [عَلَى] أَنَّ الْأَعْمَى هُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَقُرِئَ عَبَّسَ بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ وَنَحْوُهُ كَلَّحَ فِي/ كَلَحَ، أَنْ جَاءَهُ مَنْصُوبٌ بِتَوَلَّى أَوْ بِعَبَسَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي إِعْمَالِ الْأَقْرَبِ أَوِ الْأَبْعَدِ وَمَعْنَاهُ عَبَسَ، لِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَأَعْرَضَ لِذَلِكَ، وَقُرِئَ أَنْ جَاءَهُ بِهَمْزَتَيْنِ، وَبِأَلِفٍ بَيْنَهُمَا وُقِفَ عَلَى عَبَسَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ابْتُدِأَ عَلَى مَعْنَى أَلِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا فَرَطَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِنْكَارِ، كَمَنْ يَشْكُو إِلَى النَّاسِ جَانِيًا جَنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى الْجَانِي إِذَا حَمِيَ فِي الشِّكَايَةِ مُوَاجِهًا بِالتَّوْبِيخِ وَإِلْزَامِ الْحُجَّةِ.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣ الى ٤]
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)
فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ دَارِيًا بِحَالِ هَذَا الْأَعْمَى لَعَلَّهُ يَتَطَهَّرُ بِمَا يَتَلَقَّنُ مِنْكَ، مِنَ الْجَهْلِ أَوِ الْإِثْمِ، أَوْ يَتَّعِظُ فَتَنْفَعَهُ ذِكْرَاكَ أَيْ مَوْعِظَتُكَ، فَتَكُونَ لَهُ لُطْفًا فِي بَعْضِ الطَّاعَاتِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَعَلَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَلَقَّفُهُ عَنْكَ يُطَهِّرُهُ عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْمَعْصِيَةُ، أَوْ يَشْغَلُهُ ببعض ما ينبغي وهو الطاعة أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَعَلَّهُ لِلْكَافِرِ، بِمَعْنَى أَنْتَ طَمِعْتَ فِي أَنْ يَزَّكَّى الْكَافِرُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ يَذَّكَّرَ فَتُقَرِّبَهُ الذِّكْرَى إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ: وَما يُدْرِيكَ أَنَّ مَا طَمِعْتَ فِيهِ كَائِنٌ، وَقُرِئَ فَتَنْفَعُهُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَذَّكَّرُ، وَبِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلَعَلَّ، كَقَوْلِهِ: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى [غَافِرٍ: ٣٧] وقد مر. ثم قال:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٥]
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥)
قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَغْنَى أَثْرَى وَهُوَ فَاسِدٌ هَاهُنَا، لِأَنَّ إِقْبَالَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لِثَرْوَتِهِمْ وَمَالِهِمْ حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَمَّا مَنْ أَثْرَى، فَأَنْتَ تُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى [عبس: ٨، ٩] ولم يقل: وهو فقير عديم، وَمَنْ قَالَ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنِ الْإِيمَانِ والقرآن، بماله من المال. وقوله تعالى:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٦]
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ أَنْتَ تُقْبِلُ عَلَيْهِ وَتَتَعَرَّضُ لَهُ وَتَمِيلُ إِلَيْهِ، يُقَالُ تَصَدَّى فُلَانٌ لِفُلَانٍ، يَتَصَدَّى إِذَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ تَصَدَّدَ يَتَصَدَّى مِنَ الصَّدَدِ، وَهُوَ مَا اسْتَقْبَلَكَ وَصَارَ قُبَالَتَكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَالِ: ٣٥] وَقُرِئَ: (تَصَّدَّى) بِالتَّشْدِيدِ بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: تُصْدِي، بِضَمِّ التَّاءِ، أَيْ تُعْرِضُ، وَمَعْنَاهُ يَدْعُوكَ دَاعٍ إِلَى التَّصَدِّي لَهُ مِنَ الْحِرْصِ، وَالتَّهَالُكِ عَلَى إِسْلَامِهِ. ثُمَّ قَالَ تعالى:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٧]
وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧)
الْمَعْنَى لَا شَيْءَ عَلَيْكَ فِي أَنْ لَا يُسْلِمَ مَنْ تَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، أَيْ لَا يَبْلُغَنَّ بِكَ الْحِرْصُ عَلَى إِسْلَامِهِمْ إِلَى أَنْ تُعْرِضَ عَمَّنْ أَسْلَمَ لِلِاشْتِغَالِ بِدَعْوَتِهِمْ. / ثم قال:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٨ الى ٩]
وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
أَنْ يُسْرِعَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ، كَقَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَةِ: ٩].
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَخْشى فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ يَخْشَى اللَّهَ وَيَخَافُهُ فِي أَنْ لَا يَهْتَمَّ بِأَدَاءِ تَكَالِيفِهِ، أَوْ يَخْشَى الْكُفَّارَ وَأَذَاهُمْ فِي إِتْيَانِكَ، أَوْ يَخْشَى الْكَبْوَةَ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْمَى، وَمَا كَانَ لَهُ قَائِدٌ. [ثم قال] :
[سورة عبس (٨٠) : آية ١٠]
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)
أَيْ تَتَشَاغَلُ مِنْ لَهِيَ عَنِ الشَّيْءِ وَالْتَهَى وَتَلَهَّى، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. تَتَلَهَّى، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ تَلَهَّى أَيْ يُلْهِيكَ شَأْنُ الصَّنَادِيدِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى... فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَانَ فِيهِ اخْتِصَاصًا، قُلْنَا نَعَمْ،
وَمَعْنَاهُ إِنْكَارُ التَّصَدِّي وَالتَّلَهِّي عَنْهُ، أَيْ مِثْلُكَ، خُصُوصًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّى لِلْغَنِيِّ، وَيَتَلَهَّى عن الفقير.
[سورة عبس (٨٠) : آية ١١]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١)
ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَهُوَ رَدْعٌ عَنِ الْمُعَاتَبِ عَلَيْهِ وَعَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا تلا جبريل عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَادَ وَجْهُهُ، كَأَنَّمَا أُسِفَّ الرَّمَادَ فِيهِ يَنْتَظِرُ مَاذَا يَحْكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالَ: كَلَّا سُرِّيَ مِنْهُ، أَيْ لَا تَفْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَحْنُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّها تَذْكِرَةٌ وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّها ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [عبس: ١٢] ضَمِيرُ الْمُذَكَّرِ، وَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ الْقَوْلُ فِيهِ؟ الْجَوَابُ: وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّها ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي هَذِهِ السُّورَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ عَائِدٌ إِلَى التَّذْكِرَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ فِي مَعْنَى الذِّكْرِ وَالْوَعْظِ الثَّانِي: قال صاحب «النظم» :
إِنَّها تَذْكِرَةٌ يعني به الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ مُذَكَّرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقُرْآنَ تَذْكِرَةً أَخْرَجَهُ عَلَى لَفْظِ التَّذْكِرَةِ، وَلَوْ ذَكَرَهُ لَجَازَ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ «١» [المدثر: ٥٤] وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّها تَذْكِرَةٌ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ قَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا؟ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا التَّأْدِيبُ الَّذِي أَوْحَيْتُهُ إِلَيْكَ وَعَرَّفْتُهُ لَكَ فِي إِجْلَالِ الْفُقَرَاءِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا أُثْبِتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي قَدْ وُكِّلَ بِحِفْظِهِ أَكَابِرُ الْمَلَائِكَةِ الثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَا الْقُرْآنُ قَدْ بَلَغَ فِي الْعَظَمَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إِلَى أَنْ يَقْبَلَهُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ، فَسَوَاءٌ قَبِلُوهُ أَوْ لَمْ يَقْبَلُوهُ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ وَلَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِمْ، وَإِيَّاكَ وَأَنْ تُعْرِضَ عَمَّنْ آمَنَ بِهِ تطييبا لقلب أرباب الدنيا.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٢ الى ١٤]
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ تِلْكَ التَّذْكِرَةَ بِأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أَيْ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ بَيِّنَةٌ ظَاهِرَةٌ بِحَيْثُ لَوْ أَرَادُوا فَهْمَهَا وَالِاتِّعَاظَ بِهَا وَالْعَمَلَ بِمُوجِبِهَا لَقَدَرُوا عَلَيْهِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أَيْ تِلْكَ التَّذْكِرَةُ مُعَدَّةٌ «٢» فِي هَذِهِ الصُّحُفِ الْمُكَرَّمَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمُ حَالِ الْقُرْآنِ وَالتَّنْوِيهُ بِذِكْرِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ فِي صُحُفٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الصُّحُفِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا صُحُفٌ مُنْتَسَخَةٌ مِنَ اللَّوْحِ مُكَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَرْفُوعَةٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ أَوْ مَرْفُوعَةُ الْمِقْدَارِ مطهر عَنْ أَيْدِي الشَّيَاطِينِ، أَوِ الْمُرَادُ مُطَهَّرَةٌ بِسَبَبِ أَنَّهَا لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. ثم قال تعالى:
(١) في الأصل (كلا إنها) وحينئذ فلا معنى للاستشهاد بها.
(٢) في الأصل (موعدة) وهو تحريف واضح ولعل ما ذكرته الصواب ويحتمل أن يكون موجودة.

[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١٥ الى ١٦]

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ سَفَرَةٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: هُمُ الْكَتَبَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: السَّفَرَةُ الْكَتَبَةُ وَاحِدُهَا سَافِرٌ مِثْلُ كَتَبَةٌ وَكَاتِبٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكَتَبَةِ: سَفَرَةٌ وَلِلْكَاتِبِ سَافِرٌ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الَّذِي يُبَيِّنُ الشَّيْءَ وَيُوَضِّحُهُ يُقَالُ: سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَشَفَتْ عَنْ وَجْهِهَا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ أَنَّ السَّفَرَةَ هَاهُنَا هُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَسْفَرُونَ بِالْوَحْيِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ، وَاحِدُهَا سَافِرٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سَفَرْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ إِذَا أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ، فَجُعِلَتِ الْمَلَائِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ بِوَحْيِ اللَّهِ وَتَأْدِيَتِهِ، كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلَحُ بِهِ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَأَنْشَدُوا:
وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي وَمَا أَمْشِي بِغِشٍّ إِنْ مَشَيْتُ
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ السِّفَارَةِ مِنَ الْكَشْفِ، وَالْكَاتِبُ إِنَّمَا يُسَمَّى سَافِرًا لِأَنَّهُ يَكْشِفُ، وَالسَّفِيرُ إِنَّمَا سُمِّيَ سَفِيرًا أَيْضًا لِأَنَّهُ يَكْشِفُ، وَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا كَانُوا وَسَائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْبَشَرِ فِي الْبَيَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ، لَا جَرَمَ سُمُّوا سَفَرَةً.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: لِهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ: أَنَّهُمْ كِرَامٌ قَالَ مُقَاتِلٌ: كِرَامٌ عَلَى رَبِّهِمْ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَتَكَرَّمُونَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ ابْنِ آدَمَ إِذَا خَلَا مَعَ زَوْجَتِهِ لِلْجِمَاعِ وعند قضاء الحاجة.
الصفة الثالثة: أَنَّهُمْ: بَرَرَةٍ قَالَ مُقَاتِلٌ: مُطِيعِينَ، وَبَرَرَةٌ جَمْعُ بار، قال الْفَرَّاءُ: لَا يَقُولُونَ فَعَلَةٌ لِلْجَمْعِ إِلَّا وَالْوَاحِدُ مِنْهُ فَاعِلٌ مِثْلُ كَافِرٌ وَكَفَرَةٌ، وَفَاجِرٌ وَفَجَرَةٌ الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الصُّحُفِ: أَنَّهَا هِيَ صُحُفُ الْأَنْبِيَاءِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الْأَعْلَى: ١٨] يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ التَّذْكِرَةَ مُثْبَتَةٌ فِي صُحُفِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالسَّفَرَةُ الْكِرَامُ الْبَرَرَةُ هُمْ أَصْحَابِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ هُمُ الْقُرَّاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ يَقْتَضِي أَنَّ طَهَارَةَ تِلْكَ الصُّحُفِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ السَّفَرَةِ، فَقَالَ الْقَفَّالُ فِي تَقْرِيرِهِ: لَمَّا كَانَ لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمَلَائِكَةُ الْمُطَهَّرُونَ أُضِيفَ التَّطْهِيرُ إِلَيْهَا لطهارة من يمسها. قوله تعالى:
[سورة عبس (٨٠) : آية ١٧]
قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَدَأَ بِذِكْرِ الْقِصَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تَرَفُّعِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ عَلَى فقراء المسلمين، عجب عباده المؤمنين مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَيُّ سَبَبٍ فِي هَذَا الْعَجَبِ وَالتَّرَفُّعِ مَعَ أَنَّ أَوَّلَهُ نُطْفَةٌ
قذوة وَآخِرَهُ جِيفَةٌ مَذِرَةٌ، وَفِيهَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ حَمَّالُ عَذِرَةٍ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَاجًا لِعَجَبِهِمْ، وَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَاجًا لِكُفْرِهِمْ، فَإِنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ تَصْلُحُ لِأَنْ يُسْتَدُلَّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَلِأَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الَّذِينَ أَقْبَلَ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ بِسَبَبِهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ ذَمُّ كُلِّ غَنِيٍّ تَرَفَّعَ عَلَى فَقِيرٍ بِسَبَبِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّهُمْ لِتَرَفُّعِهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَعُمَّ الْحُكْمُ بِسَبَبِ عُمُومِ الْعِلَّةِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى زَيَّفَ طَرِيقَتَهُمْ بِسَبَبِ حَقَارَةِ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ عَلَى مَا قَالَ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ... ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس: ١٩- ٢١] وَعُمُومُ هَذَا الزَّجْرِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ وَثَالِثُهَا: وَهُوَ أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُتِلَ الْإِنْسانُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ أَشْنَعِ دَعَوَاتِهِمْ، لِأَنَّ الْقَتْلَ غَايَةُ شَدَائِدِ الدُّنْيَا وَمَا أَكْفَرَهُ تَعَجُّبٌ مِنْ إِفْرَاطِهِ فِي كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ: قُتِلَ الْإِنْسانُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَقَوْلُهُ: مَا أَكْفَرَهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَإِنْ قِيلَ الدُّعَاءُ عَلَى الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْعَاجِزِ وَالْقَادِرُ عَلَى الْكُلِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ ذَاكَ؟ وَالتَّعَجُّبُ أَيْضًا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْجَاهِلِ بِسَبَبِ الشَّيْءِ، فَالْعَالِمُ بِالْكُلِّ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ ذَاكَ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ عَلَى أُسْلُوبِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَتَحْقِيقُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ مُحْدَثٍ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ أَوَّلَهُ وَوَسَطَهُ وَآخِرَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةَ لِلْإِنْسَانِ. أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: فَهِيَ قَوْلُهُ:
[سورة عبس (٨٠) : آية ١٨]
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)
وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ وَغَرَضُهُ زيادة التقرير في التحقير.
[سورة عبس (٨٠) : آية ١٩]
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ النُّطْفَةَ شَيْءٌ حَقِيرٌ مَهِينٌ/ وَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُهُ [مِنْ] مِثْلِ هَذَا الشَّيْءِ الْحَقِيرِ، فَالنَّكِيرُ وَالتَّجَبُّرُ لَا يَكُونُ لَائِقًا بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: فَقَدَّرَهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: قَدَّرَهُ أَطْوَارًا نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً إِلَى آخِرِ خَلْقِهِ وَذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَسَعِيدًا أَوْ شَقِيًّا وَثَانِيهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى قَدَّرَهُ عَلَى الِاسْتِوَاءِ كَمَا قَالَ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الْكَهْفِ: ٣٧]، وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَقَدَّرَ كُلَّ عُضْوٍ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ بِالْقَدْرِ اللَّائِقِ بِمَصْلَحَتِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفُرْقَانِ: ٢]. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ فَهِيَ قوله تعالى:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٠]
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نُصِبَ السَّبِيلَ بِإِضْمَارِ يَسَّرَهُ، وَفَسَّرَهُ بِيَسَّرَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ أَقْوَالًا أَحَدُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ تَسْهِيلُ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، قَالُوا:
إِنَّهُ كَانَ رَأْسُ الْمَوْلُودِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ فَوْقُ وَرِجْلَاهُ مِنْ تَحْتُ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْخُرُوجِ انْقَلَبَ، فَمَنِ الَّذِي أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْإِلْهَامَ إِلَّا اللَّهُ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ خُرُوجَهُ حَيًّا مِنْ ذَلِكَ الْمَنْفَذِ الضَّيِّقِ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ وَثَانِيهَا:
قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [الْبَلَدِ: ١٠] فَهُوَ يَتَنَاوَلُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَبَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ أَيْ جَعَلْنَاهُ مُتَمَكِّنًا مِنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّيْسِيرُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِقْدَارُ وَالتَّعْرِيفُ وَالْعَقْلُ وَبَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِأَمْرِ الدِّينِ، لِأَنَّ لَفْظَ السَّبِيلِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَحْوَالُ الدُّنْيَا [لَا] أُمُورٌ تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ:
وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الأخيرة، فهي قوله تعالى:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ الثَّالِثَةَ مُشْتَمِلَةٌ أَيْضًا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، الْإِمَاتَةُ، وَالْإِقْبَارُ، وَالْإِنْشَارُ، أَمَّا الْإِمَاتَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَنَافِعَهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا هِيَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ حَالِ التَّكْلِيفِ وَالْمُجَازَاةِ، وَأَمَّا الْإِقْبَارُ فَقَالَ الْفَرَّاءُ:
جَعَلَهُ اللَّهُ مَقْبُورًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّنْ يُلْقَى لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، لِأَنَّ الْقَبْرَ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الْمُسْلِمَ «١» قَالَ: وَلَمْ يَقُلْ فَقَبَرَهُ، لِأَنَّ الْقَابِرَ هُوَ الدَّافِنُ بِيَدِهِ، وَالْمُقْبِرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، يُقَالُ قَبَرَ الْمَيِّتَ إِذَا دَفَنَهُ وَأَقْبَرَ الْمَيِّتَ، إِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْقَبْرِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: بَتَرْتُ ذَنَبَ الْبَعِيرِ، وَاللَّهُ أَبْتَرَهُ وَعَضَبْتُ قَرْنَ الثَّوْرِ، وَاللَّهُ أَعْضَبَهُ، وَطَرَدْتُ فُلَانًا عَنِّي، وَاللَّهُ أَطْرَدَهُ. أَيْ صَيَّرَهُ طَرِيدًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحْيَاءُ [وَ] الْبَعْثُ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِذَا شَاءَ إِشْعَارًا بِأَنَّ وَقْتَهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا، فَتَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْوَالِ/ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَوْقَاتُهَا من بعض الوجوه، إذا الْمَوْتُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْإِنْسَانُ وَقْتَهُ فَفِي الْجُمْلَةِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ فِيهِ إِلَّا حدا معلوما.
[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٣]
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (٢٣)
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: كَلَّا رَدْعٌ لِلْإِنْسَانِ عَنْ تَكَبُّرِهِ وَتَرَفُّعِهِ، أَوْ عَنْ كُفْرِهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى إِنْكَارِهِ الْبَعْثَ وَالْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَقْضِي أَحَدٌ جَمِيعَ مَا كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ أَبَدًا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَقْصِيرٍ الْبَتَّةَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمَّا يَقْضِ الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ فِي قَوْلِهِ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ هَاهُنَا جَمِيعَ النَّاسِ بَلِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ فَقَوْلُهُ: لَمَّا يَقْضِ كَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُتَرَفِّعَ الْمُتَكَبِّرَ لَمْ يَقْضِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ تَرْكِ التَّكَبُّرِ، إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لما يَقْضِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي دَلَائِلِ اللَّهِ، وَالتَّدَبُّرِ فِي عَجَائِبِ خَلْقِهِ وَبَيِّنَاتِ حِكْمَتِهِ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ: كَلَّا لَمْ يَقْضِ اللَّهُ لِهَذَا الْكَافِرِ ما أمره به من الإيمان وترك التكبر،
(١) الأولى أن يقال: (ربما أكرم به الإنسان) لأن الإقبار ليس خاصا بالمسلم بل هو عام يشمل المسلم والكافر. لا سيما والإنسان المتحدث عنه في صدر الآية المراد به الكافر فقط.
بَلْ أَمَرَهُ بِمَا لَمْ يَقْضِ لَهُ بِهِ.
وأعم أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَارِيَةٌ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْأَنْفُسِ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ عَقِيبَهَا الدَّلَائِلَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْآفَاقِ فَجَرَى هَاهُنَا عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ وَذَكَرَ دَلَائِلَ الْآفَاقِ وَبَدَأَ بِمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَيْهِ. فَقَالَ:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٤]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤)
الَّذِي يَعِيشُ بِهِ كَيْفَ دَبَّرْنَا أَمْرَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَوْضِعُ الاعتبار، فإن الطعام الذي يتناول الْإِنْسَانُ لَهُ حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا: مُتَقَدِّمَةٌ وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا حَتَّى يَدْخُلَ ذَلِكَ الطَّعَامُ فِي الْوُجُودِ وَالثَّانِيَةُ: مُتَأَخِّرَةٌ، وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ الْمَأْكُولِ، وَلَمَّا كَانَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ أَظْهَرَ لِلْحُسْنِ «١» وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ، لَا جَرَمَ اكْتَفَى اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِهِ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الْقُرْآنِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهَا كُلُّ الْخَلْقِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ اللَّبْسِ وَالشُّبْهَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبْتَ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنَ الْقَطْرِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاقِعِ فِي الْأَرْضِ، فَالسَّمَاءُ كَالذَّكَرِ، وَالْأَرْضُ كَالْأُنْثَى فَذُكِرَ في بيان نزل القطر. قوله:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٥]
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: صَبَبْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْغَيْثُ، ثُمَّ انْظُرْ فِي أَنَّهُ كَيْفَ حَدَثَ الْغَيْثُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ، وَكَيْفَ بَقِيَ مُعَلَّقًا فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَعَ غَايَةِ ثِقَلِهِ، وَتَأَمَّلْ فِي أَسْبَابِهِ الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ، حَتَّى يَلُوحَ لَكَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ نُورِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفِي تَدْبِيرِ خِلْقَةِ هَذَا الْعَالَمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ (إِنَّا) بِالْكَسْرِ، وَهُوَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَأَنَّا بِالْفَتْحِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالتَّقْدِيرُ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى أَنَّا كَيْفَ صَبَبْنَا الْمَاءَ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ إِنَّا كَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلنَّظَرِ إِلَى طَعَامِهِ كَمَا أن قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ [الأنفال: ٧٤] تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ، وَمَنْ فَتَحَ فَعَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَشْتَمِلُ عَلَى كون الطعام وحدوثه، فهو كقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [الْبَقَرَةِ:
٢١٧] وَقَوْلُهُ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ [البروج: ٤، ٥]. قوله تعالى:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٦]
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)
وَالْمُرَادُ شَقُّ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ النَّبَاتِ: أَوَّلُهَا: الْحَبُّ: وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٧]
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧)
وَهُوَ كُلُّ مَا حُصِدَ مِنْ نَحْوِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذلك لأنه كالأصل في الأغذية.
[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٨]
وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨)
(١) في الأصل (أظهر للجنس) ولعل ما ذكرته هو الصواب ولا سيما إذا قورن بما يأتي في السطر التالي.
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنَباً وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ الْحَبِّ لِأَنَّهُ غِذَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَفَاكِهَةٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَضْباً وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الرُّطَبَةُ وَهِيَ الَّتِي إِذَا يَبِسَتْ سُمِّيَتْ بِالْقَتِّ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يُسَمُّونَهَا بِالْقَضْبِ وَأَصْلُهُ مِنَ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقْضَبُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْقَضِيبُ لِأَنَّهُ يُقْضَبُ أَيْ يُقْطَعُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضِّحَاكِ.
وَمُقَاتِلٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ.
وَالثَّانِي: قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْقَضْبُ هُوَ الْعَلَفُ بِعَيْنِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ أَنَّهُ يُقْضَبُ أَيْ يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالرَّابِعُ والخامس: قوله تعالى:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٢٩]
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩)
وَمَنَافِعُهُمَا قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذَا الكتاب. وسادسها: قوله تعالى:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٣٠]
وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠)
الْأَصْلُ فِي الْوَصْفِ بِالْغُلْبِ الرِّقَابُ فَالْغُلْبُ الْغِلَاظُ الْأَعْنَاقُ الْوَاحِدُ أَغْلَبُ يُقَالُ أَسَدٌ أَغْلَبُ، ثُمَّ هَاهُنَا قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ كُلِّ حَدِيقَةٍ بِأَنَّ أَشْجَارَهَا مُتَكَاثِفَةٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ قَالَا:
الْغُلْبُ الملتفة الشجر بعضه في بَعْضٍ، يُقَالُ اغْلَوْلَبَ الْعُشْبُ وَاغْلَوْلَبَتِ الْأَرْضُ إِذَا الْتَفَّ عُشْبُهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْجَارِ بِالْغِلَظِ وَالْعِظَمِ، قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الشَّجَرَ الْعِظَامَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْغُلْبُ مَا غَلُظَ مِنَ النَّخْلِ.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَفاكِهَةً وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْفَاكِهَةَ مَعْطُوفَةً عَلَى الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالنَّخْلِ وَجَبَ أَنْ لَا تَدْخُلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْفَاكِهَةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَثَامِنُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَبًّا وَالْأَبُّ هُوَ الْمَرْعَى، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» لِأَنَّهُ يُؤَبُّ أَيْ يُؤَمُّ وَيُنْتَجَعُ، وَالْأَبُّ وَالْأَمُّ أَخَوَانِ قَالَ الشَّاعِرُ:
جِذْمُنَا قَيْسٌ وَنَجْدٌ دَارُنَا لَنَا الْأَبُّ بِهِ وَالْمَكْرَعُ
وقيل الأب الفاكهة اليابسة لأنها تؤدب لِلشِّتَاءِ أَيْ تُعَدُّ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَغْتَذِي بِهِ النَّاسُ وَالْحَيَوَانُ.
قَالَ: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: خَلَقْنَاهُ مَنْفَعَةً وَمُتْعَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ:
فَأَنْبَتْنا لِأَنَّ إِنْبَاتَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ إِمْتَاعٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا أُمُورًا ثَلَاثَةً: أَوَّلُهَا: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَثَانِيهَا: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى القدرة على المعادو ثالثها: أَنَّ هَذَا الْإِلَهَ الَّذِي أَحْسَنَ إِلَى عَبِيدِهِ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْإِحْسَانِ، لَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَرَّدَ عَنْ طَاعَتِهِ وَأَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى عَبِيدِهِ أَتْبَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِمَا يَكُونُ مُؤَكِّدًا لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ وَهُوَ شَرْحُ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَهَا خَافَ فَيَدْعُوهُ ذَلِكَ الْخَوْفُ إِلَى التَّأَمُّلِ فِي الدَّلَائِلِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْكُفْرِ، وَيَدْعُوهُ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَى تَرْكِ التَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ، وَإِلَى إِظْهَارِ التَّوَاضُعِ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَلَا جَرَمَ ذَكَرَ الْقِيَامَةَ: فقال:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٣٣]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَعْنِي صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ الصَّخِّ فِي اللُّغَةِ الطَّعْنُ وَالصَّكُّ، يُقَالُ صَخَّ رَأْسَهُ بِحَجَرٍ أَيْ شَدَخَهُ وَالْغُرَابُ يَصُخُّ بِمِنْقَارِهِ فِي دُبُرِ الْبَعِيرِ أَيْ يَطْعَنُ، فَمَعْنَى الصَّاخَّةِ الصَّاكَّةِ بِشِدَّةِ صَوْتِهَا لِلْآذَانِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ: يُقَالُ صَخَّ لِحَدِيثِهِ مِثْلُ أَصَاخَ لَهُ، فَوُصِفَتِ النَّفْخَةُ بِالصَّاخَّةِ مَجَازًا لِأَنَّ النَّاسَ يَصِخُّونَ لَهَا أَيْ يَسْتَمِعُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِرَارِ مَا يُشْعِرُ بِهِ ظَاهَرُهُ وَهُوَ التَّبَاعُدُ وَالِاحْتِرَازُ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ الْفِرَارِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّبِعَاتِ. يَقُولُ الْأَخُ: مَا وَاسَيْتَنِي بِمَالِكَ، وَالْأَبَوَانِ يَقُولَانِ قَصَّرْتَ فِي بِرِّنَا، وَالصَّاحِبَةُ تَقُولُ أَطْعَمْتَنِي الْحَرَامَ، وَفَعَلْتَ وَصَنَعْتَ، وَالْبَنُونَ يَقُولُونَ: مَا عَلَّمْتَنَا وَمَا أَرْشَدْتَنَا، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ يَفِرُّ مِنْ أَخِيهِ هَابِيلُ، وَمِنْ أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيمُ، وَمِنْ صَاحَبَتِهِ نُوحٌ وَلُوطٌ، وَمِنِ ابْنِهِ نُوحٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِرَارِ لَيْسَ هُوَ التَّبَاعُدُ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ مُوَالَاةِ أَخِيهِ لِاهْتِمَامِهِ بِشَأْنِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [الْبَقَرَةِ: ١٦٦] وَأَمَّا الْفِرَارُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً [الدُّخَانِ: ٤١] وَأَمَّا تَرْكُ السُّؤَالِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [الْمَعَارِجِ: ١٠].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِينَ كَانَ الْمَرْءُ فِي دَارِ الدُّنْيَا يَفِرُّ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَجِيرُ بِهِمْ، فَإِنَّهُ يَفِرُّ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْآخِرَةِ، ذَكَرُوا فِي فَائِدَةِ التَّرْتِيبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ بَلْ مِنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُمَا أَقْرَبُ مِنَ الْأَخَوَيْنِ بَلْ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِهِمَا أشد من تعلقه بالأبوين. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْفِرَارَ أتبعه بذكر سببه فقال تعالى:
[سورة عبس (٨٠) : آية ٣٧]
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
وَفِي قَوْلِهِ: يُغْنِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُغْنِيهِ أَيْ يَصْرِفُهُ وَيَصُدُّهُ عَنْ قَرَابَتِهِ وَأَنْشَدَ:
سَيُغْنِيكَ حَرْبُ بَنِي مَالِكٍ عَنِ الْفُحْشِ وَالْجَهْلِ فِي الْمَحْفِلِ
أَيْ سَيَشْغَلُكَ، وَيُقَالُ أَغْنِ عَنِّي وَجْهَكَ أَيِ اصْرِفْهُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: يُغْنِيهِ أَيْ ذَلِكَ الْهَمُّ الَّذِي بِسَبَبِ خَاصَّةِ نَفْسِهِ قَدْ مَلَأَ صَدْرَهُ، فَلَمْ يَبْقَ فيه متسع لهم آخر، فصارت شَبِيهًا بِالْغَنِيِّ فِي أَنَّهُ حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَمْلُوكِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْهَوْلِ، بَيَّنَ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمُ السُّعَدَاءُ، وَمِنْهُمُ الْأَشْقِيَاءُ فَوَصَفَ السُّعَدَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)
مُسْفِرَةٌ مُضِيئَةٌ مُتَهَلِّلَةٌ، مِنْ أَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذَا أَضَاءَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ، مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَقِيلَ: مِنْ طُولِ مَا اغْبَرَّتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ بِسَبَبِ الْخَلَاصِ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَالِاتِّصَالِ بِعَالَمِ الْقُدْسِ وَمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ وَالرَّحْمَةِ ضَاحِكَةٌ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي بِالْفَرَاغِ مِنَ الْحِسَابِ مُسْتَبْشِرَةٌ فَرِحَةٌ بِمَا نَالَتْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: مُسْفِرَةٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْخَلَاصِ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ وَتَبِعَاتِهِ/ وَأَمَّا الضَّاحِكَةُ وَالْمُسْتَبْشِرَةُ، فَهُمَا مَحْمُولَتَانِ عَلَى الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، أَوْ عَلَى وجدان المنفعة ووجدان التعظيم.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْغَبَرَةُ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْغُبَارِ، وَقَوْلُهُ: تَرْهَقُها أَيْ تُدْرِكُهَا عَنْ قُرْبٍ، كَقَوْلِكَ رَهِقْتُ الْجَبَلَ إِذَا لَحِقْتُهُ بِسُرْعَةٍ، وَالرَّهَقُ عَجَلَةُ الْهَلَاكِ، وَالْقَتَرَةُ سَوَادٌ كَالدُّخَانِ، وَلَا يُرَى أَوْحَشُ مِنَ اجْتِمَاعِ الْغَبَرَةِ وَالسَّوَادِ فِي الْوَجْهِ، كَمَا تَرَى وُجُوهَ الزُّنُوجِ إِذَا اغْبَرَّتْ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ فِي وُجُوهِهِمْ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ، كَمَا جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ وَالْخَوَارِجَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْقِيَامَةِ قِسْمَانِ: أَهْلُ الثَّوَابِ، وَأَهْلُ الْعِقَابِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَهِلَ الْعِقَابِ هُمُ الْكَفَرَةُ، وَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسُوا بِكَفَرَةٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْكَفَرَةِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسَ لَهُ عِقَابٌ، وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: دَلَّتْ سَائِرُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُعَاقَبُ، وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يُعَاقَبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مُذْنِبٍ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَالْجَوَابُ: أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا هُوَ هَذَا الْفَرِيقَانِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
Icon