تفسير سورة الطارق

اللباب
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية، وهي سبع عشرة آية، واثنتان وسبعون كلمة، ومائتان وإحدى وسبعون حرفا.

مكية، وهي سبع عشرة آية، واثنتان وسبعون كلمة، ومائتان وإحدى وسبعون حرفا. قوله تعالى: ﴿والسمآء والطارق﴾، «السَّماءِ» : قسم، و «الطَّارقِ» : قسم، والطَّارقُ: هو النَّجم الثاقب، كما بينهُ الله تعالى بقوله: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق النجم الثاقب﴾.
والطارق في الأصل: اسم فاعل من: طرق يطرق طروقاً: أي: جاء ليلاً؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
٥١٦٠ - فَمِثْلكِ حُبْلَى قَدْ طَرقتُ ومُرضعٍ فألْهَيْتُهَا عَنِ ذِي تَمائِمَ مُحْولِ
وأصله من الضرب، والطَّارقُ بالحصى: الضارب به؛ قال: [الطويل]
٥١٦١ - لعَمْرُكَ، ما تَدْرِي الطَّوارِقُ بالحَصَى ولا زَاجِراتُ الطَّيْرِ ما اللهُ صَانِعُ
ثم اتُّسعَ فقيل لكل من أتى ليلاً: طارق، سواء كان كوكباً، أو غيره، ولا يكون الطارقُ نهاراً.
وروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «نهى أن يأتي الرجل أهله طروقاً».
259
وقوله: ﴿النجم الثاقب﴾، قال محمد بن الحسين: هو زُحَل.
وقال ابن زيد: هو الثُّريَّا - أيضاً -: أنه زُحَل.
وعن ابن عباس: هو الجديُ، وعن عليٍّ بن أبي طالب والفرَّاء، «النَّجْمُ الثَّاقبُ» : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط، فكان معها، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل، وحين يهبط.
وفي «الصحاح» :«الطَّارقُ: النجم الذي يقال له: كوكب الصبح».
ومنه قول هند: [الرجز]
٥١٦٢ - نَحْنُ بَناتُ طَارق نَمْشِي عَلى النَمارِق
وقيل: هو اسم جنس، فيدخل فيه سائر الكواكب، وسمي ثاقباً؛ لأنه يثقب الظَّلام بضوئه، أي: ينفذ فيه. أي يرمي الشيطان فيحرقه.
قال الماورديُّ: وأصل الطرقِ، الدَّق، ومنه سميت المطرقة، فسمي قاصد الليل: طارقاً، لاحتياجه في الوصول إلى الدق.
ورُوِيَ «أنَّ أبا طالبٍ أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بخبز ولبن، فبينما هو جالس يأكل إذ انحطَّ نجم فامتلأت الأرض نوراً، ففزع أبو طالب، وقال: أيُّ شيءٍ هذا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هَذَا نجمٌ رُمِي بِهِ، وإنَّهُ مِنْ آياتِ اللهِ «فعجب أبو طالب، ونزلت السورة».
وقال مجاهد: «الثاقب» : المتوهِّج.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ﴾ تفخيم لشأن هذا المقسم به.
قوله: ﴿إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾. قد تقدم في سورة «هود» : التخفيف والتشديد في «لما»، فمن خففها - هنا - كانت «إنْ» : مخففة من الثقيلة، و «كل» : مبتدأ، و «عليها» :
260
خبر مقدم، و «حافظ» : مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «كل»، و «ما» : مزيدة بعد اللام الفارقة، ويجوز أن يكون «عليها» : هو الخبر وحده، و «حافظ» : فاعل به، وهو أحسن، ويجوز أن يكون «كل» : مبتدأ، و «حافظ» : خبره، و «عليها» متعلق به، و «ما» : مزيدة أيضاً، هذا كله تفريع على قول البصريين.
وقال الكوفيون: «إنْ» هنا: نافية، واللام بمعنى «إلاّ» إيجاباً بعد النفي، و «ما» : مزيدة وتقدم الكلام في هذا مستوفى.
قال الفارسي: ويستعمل «لما» بمعنى: «إلاَّ» في موضعين:
أحدهما: هذا، والآخر: في باب القسم، تقول: سألتك لما فعلت.
ورُوِيَ عن الكسائيِّ والخفش وأبو عبيدة أنهم قالوا: لم نجد «لما» بمعنى: «إلا» في كلام العرب.
وأما قراءة التشديد: ف «إن» نافية، و «لمَّا» بمعنى: «إلا» وتقدمت شواهد ذلك في سورة «هود».
وحكى هارون: أنه قرئ «إنَّ» بالتشديد، «كُلَّ» بالنصب على أنه اسمها، واللام: هي الدالخة في الخبر، و «ما» : مزيدة، و «حافظ» : خبرها.
وعلى كل تقدير ف «إن» وما في خبرها: جواب القسم سواء جعلها مخففة أو نافية.
وقيل: الجواب: ﴿إِنَّهُ على رَجْعِهِ﴾ [الطارق: ٨] وما بينهما اعتراض؛ وفيه بعد.

فصل في المراد بالحافظ


قال قتادةُ: «حافظ» أي: حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك، قال تعالى: ﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ [الأنعام: ٦١]، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ﴾ [الانفطار: ١٠، ١١]، وقال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ [الرعد: ١١].
وقيل: الحافظ: هو الله تعالى.
وقيل: الحافظ: هو العقل يرشد الإنسان إلى مصالحه، ويكفّه عن مضارِّه.
قال القرطبي: العقل وغيره وسائط، والحافظ في الحقيقة هو الله تعالى، قال الله
261
تعالى: ﴿فالله خَيْرٌ حَافِظاً﴾ [يوسف: ٦٤]، وقال تعالى: ﴿قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن﴾ [الأنبياء: ٤٢] وما كان مثله.
قال ابن الخطيب: المعنى: لما كانت كل نفس عليها حافظ، وجب أن يجتهد كل واحد، ويشتغل بالمهم، وأهم الأشياء معرفة المبدأ والمعاد والمبدأ يقدم.
262
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ ﴾ تفخيم لشأن هذا المقسم به.
وقوله :﴿ النجم الثاقب ﴾، قال محمد بن الحسين : هو زُحَل.
وقال ابن زيد : هو الثُّريَّا - أيضاً - : أنه زُحَل١.
وعن ابن عباس : هو الجديُ٢، وعن عليٍّ بن أبي طالب والفرَّاء، «النَّجْمُ الثَّاقبُ » : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط، فكان معها، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل، وحين يهبط٣.
وفي «الصحاح »٤ :«الطَّارقُ : النجم الذي يقال له : كوكب الصبح ».
ومنه قول هند :[ الرجز ]
٥١٦٢- نَحْنُ بَناتُ طَارق نَمْشِي عَلى النَمارِق٥
وقيل : هو اسم جنس، فيدخل فيه سائر الكواكب، وسمي ثاقباً ؛ لأنه يثقب الظَّلام بضوئه، أي : ينفذ فيه. أي يرمي الشيطان فيحرقه.
قال الماورديُّ : وأصل الطرقِ، الدَّق، ومنه سميت المطرقة، فسمي قاصد الليل : طارقاً، لاحتياجه في الوصول إلى الدق.
ورُوِيَ أنَّ أبا طالبٍ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز ولبن، فبينما هو جالس يأكل إذ انحطَّ نجم فامتلأت الأرض نوراً، ففزع أبو طالب، وقال : أيُّ شيءٍ هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«هَذَا نجمٌ رُمِي بِهِ، وإنَّهُ مِنْ آياتِ اللهِ » فعجب أبو طالب، ونزلت السورة٦.
وقال مجاهد :«الثاقب » : المتوهِّج٧.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٣)، عن ابن زيد..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٣)..
٣ ينظر المصدر السابق..
٤ ينظر الصحاح ٤/١٥١٥..
٥ نسب البيت إلى هند بنت عتبة، وإلى هند بنت بياضة بن رباح بن طارق الإيادي، ولهند بنت الفند الزماني، وللقرشية.
ينظر أدب الكاتب ٩٠، الأغاني ١٢/٣٤٣، ١٥/١٤٧، وشرح شواهد المغني ٢/٨٩، واللسان (طرق)، ومعجم ما استعجم ص ٧٠، وجمهرة اللغة ص ٧٥٦، ومغني اللبيب ٢/٣٨٧، وهمع الهوامع ١/١٧١..

٦ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٤٧٢)، عن الكلبي، والقرطبي (٢٠/٣)..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٣)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٦٠)، وعزاه إلى عبد بن حميد عن مجاهد..
قوله :﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾. قد تقدم في سورة «هود » : التخفيف والتشديد في «لما »، فمن خففها - هنا - كانت «إنْ » : مخففة من الثقيلة، و«كل » : مبتدأ، و«عليها » : خبر مقدم، و«حافظ » : مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «كل »، و«ما » : مزيدة بعد اللام الفارقة، ويجوز أن يكون «عليها » : هو الخبر وحده، و«حافظ » : فاعل به، وهو أحسن، ويجوز أن يكون «كل » : مبتدأ، و«حافظ » : خبره، و«عليها » متعلق به، و«ما » : مزيدة أيضاً، هذا كله تفريع على قول البصريين.
وقال الكوفيون :«إنْ » هنا : نافية، واللام بمعنى «إلاّ » إيجاباً بعد النفي، و«ما » : مزيدة وتقدم الكلام في هذا مستوفى.
قال الفارسي : ويستعمل «لما » بمعنى :«إلاَّ » في موضعين :
أحدهما : هذا، والآخر : في باب القسم، تقول : سألتك لما فعلت.
ورُوِيَ عن الكسائيِّ والأخفش وأبي عبيدة أنهم قالوا : لم نجد «لما » بمعنى :«إلا » في كلام العرب.
وأما قراءة التشديد : ف «إن » نافية، و«لمَّا » بمعنى :«إلا » وتقدمت شواهد ذلك في سورة «هود »١.
وحكى هارون : أنه٢ قرئ «إنَّ » بالتشديد، «كُلَّ » بالنصب على أنه اسمها، واللام : هي الدالخة في الخبر، و«ما » : مزيدة، و «حافظ » : خبرها.
وعلى كل تقدير ف «إن » وما في خبرها : جواب القسم سواء جعلها مخففة أو نافية.
وقيل : الجواب :﴿ إِنَّهُ على رَجْعِهِ ﴾ [ الطارق : ٨ ] وما بينهما اعتراض ؛ وفيه بعد.

فصل في المراد بالحافظ٣


قال قتادةُ :«حافظ » أي : حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك، قال تعالى :﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً ﴾ [ الأنعام : ٦١ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ﴾ [ الانفطار : ١٠، ١١ ]، وقال تعالى :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ [ الرعد : ١١ ].
وقيل : الحافظ : هو الله تعالى.
وقيل : الحافظ : هو العقل يرشد الإنسان إلى مصالحه، ويكفّه عن مضارِّه.
قال القرطبي٤ : العقل وغيره وسائط، والحافظ في الحقيقة هو الله تعالى، قال الله تعالى :﴿ فالله خَيْرٌ حَافِظاً ﴾ [ يوسف : ٦٤ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمان ﴾ [ الأنبياء : ٤٢ ] وما كان مثله.
قال ابن الخطيب٥ : المعنى : لما كانت كل نفس عليها حافظ، وجب أن يجتهد كل واحد، ويشتغل بالمهم، وأهم الأشياء معرفة المبدأ والمعاد والمبدأ يقدم.
١ آية ١١١..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٤٩، والدر المصون ٦/٥٠٦..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٤)، وذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٢٤٦)، وينظر تفسير القرطبي (٢٠/٤)..
٤ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٤..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١١٧..
قوله: ﴿فَلْيَنظُرِ الإنسان﴾، أي: ابن آدم، «مَمَّ خُلِقَ»، وجه الاتصال بما قبله وصية الإنسان بالنظر في أول أمره حتى يعلم أنَّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فليعمل ليوم الإعادة والحشر والجزاء، ولا يملي على الحافظ إلا ما يسرُّه في عاقبه أمره.
وقوله تعالى: ﴿مِمَّ خُلِقَ﴾، استفهام، أي: من أيِّ شيء خلق، وهو جواب الاستفهام.
قوله: ﴿مِن مَّآءٍ دَافِقٍ﴾. فاعل بمعنى مفعول [كعكسه في قولهم: سيل مفعم]، كقوله تعالى: ﴿حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإسراء: ٤٥] على وجه.
وقيل: «دافِق» على النسب، أي: ذو دفق أو اندفاقٍ.
وقال ابنُ عطية: يصح أن يكون الماء دافقاً؛ لأن بعضه يدفق بعضاً، أي: يدفقه، فمنه دافق، ومنه مدفوق انتهى.
والدَّفقُ: الصَّبُّ، ففعله متعدٍّ.
وقرأ زيد بن علي: «مَدْفُوقٍ» وكأنَّه فسر المعنى.
قال القرطبيُّ: الصبُّ: دفقُ الماء، دفقت الماء، أدفقُه دفقاً، أي: صببته فهو ماء دافق، أي: مدفوق، كما قالوا: سرٌّ كاتم، أي: مكتوم؛ لأنه من قولك: دُفق الماء على ما لم يسم فاعله، ولا يقال: دَفق الماء، ويقال: دفق الله روحه: إذا دعى عليه بالموت.
قال الفرَّاء والأخفش: «ماءٍ دافقٍ» : أي مصبوب في الرَّحمِ.
وقال الزجاج: «مِن ماءٍ ذي انْدفاقٍ»، يقال: دَارع، وفَارِس، ونَابِل، أي ذو فَرسٍ ودِرعٍ ونَبلٍ، وهذا مذهب سيبويه.
والدَّافق: هو المندفق بشدة قوته، وأراد ماءين: ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماءً واحداً لامتزاجهما.
262
وقال ابن عباس: «دافق» لزج.
قوله: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب﴾، أي: هذا الماء من بين الصلب، أي: الظَّهر وقرأ العامة: «يَخْرجُ» مبنياً للفاعل، وابنُ أبي عبلة وابن مقسم: مبنياً للمفعول. وقرأ - أيضاً -: وأهل «مكة» :«الصُّلُبِ» بضم الصاد واللام.
وقرأ اليماني: بفتحها؛ ومنه قول العجَّاج: [الرجز]
٥١٦٣ - فِي صَلبٍ مِثلِ العِنانِ المُؤدَمِ... [وفيه أربع لغات: «صُلْب، وصُلُبٌ، وصَلَبٌ، وصَالب، ومنه قوله] :[المنسرح]
٥١٦٤ - تُنْقَلُ من صَالَبٍ إلى رحِمٍ.....................................
والترائب: جميع تريبة، وهي موضع القلادة من عظام الصَّدر؛ لأن الولدَ مخلوق من مائهما؛ فماء الرجل في صلبه، وماء المرأة في ترائبها، وهو معنى قوله تعالى: ﴿مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ [الإنسان: ٢] ؛ وقال امرؤ القيس: [الطويل]
٥١٦٥ - مُهْفَهَفةٌ بَيْضاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ تَرَائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
وقال آخر: [الكامل]
263
وقال المثقب العبديُّ: [الوافر]
٥١٦٦ - والزَّعْفرَانُ على تَرائِبهَا شَرِقٌ بِهِ اللّبَّاتُ والنَّحرُ
٥١٦٧ - ومنْ ذَهَبٍ يَلوحُ عَلى تَريبٍ كَلوْنِ العَاجِ لَيْسَ لَهُ غُضُونُ
وقال الشاعر: [الرجز]
٥١٦٨ - أشْرَفَ ثَدْيَاهَا على التَّريبِ... وعن ابن عباسٍ وعكرمة: الترائب: ما بين ثدييها.
وقيل: التَّرائب: التراقي.
وقيل: أضلاع الرجل التي أسفل الصلب.
وحكى الزجاجُ: أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر.
وعن ابن عبَّاسٍ: أطراف المرء، يداه ورجلاه وعيناه، وهو قول الضحاك.
وقيل: عصارة القلب، وهو قول معمر بن أبي حبيبة.
قال ابنُ عطية: وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: هو الجيد.
وقال مجاهد: ما بين المنكبين والصدر.
وقال القرطبيُّ: والمشهور من كلام العرب أنها عظام الصَّدْر والنَّحْر.
جاء في الحديث: أن الولد يخلقُ من ماء الرجل، يخرج من صلبه العظم والعصب، وماء المرأة التي يخرج من ترائبها اللحم والدم.
حكى القرطبيُّ: أنَّ ماء الرجل يخرج من الدِّماغ، ثم يجتمع في الأنثيين، وهذا لا يعارض: «مِنْ بَيْنِ الصُّلبِ والتَّرائبِ» ؛ لأنه إن نزل من الدِّماغ، فإنما يمرُّ بين الصلب والترائب.
قال قتادةُ: المعنى: يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة.
264
وحكى الفراء: أنَّ مثل هذا يأتي عن العرب، فيكون معنى ما بين الصلب: من الصلب.
والمعنى من صلب الرجل وترائب المرأة، ثم إنَّا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن، ولذلك يشبه الرجل والديه كثيراً، وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني، وأيضاً فالمكثر من الجماع يجد وجعاً في صلبه وظهره، وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبساً من الماء.
قال المهدويُّ: من جعل المنيَّ يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، فالضمير في «يخرج» للماء، ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة، فالضمير للإنسان.
قوله: ﴿إِنَّهُ﴾. الضمير للخالق المدلول عليه بقوله تعالى: ﴿خُلِقَ﴾ ؛ لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه.
قوله: ﴿على رَجْعِهِ﴾، في الهاء وجهان:
أحدهما: أنه ضمير الإنسان أي على بعثه بعد موته، وهو قول ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة، وهو اختيار الطبري، لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تبلى السرآئر﴾.
والثاني: أنه ضمير الماء، أي: يرجع المنيّ في الإحْليل أو الصلب.
قاله الضحاكُ ومجاهدٌ، والأول قول الضحاك أيضاً وعكرمة.
[وعن الضحاك أيضاً أن المعنى أنه رد الإنسان من الكِبَرِ إلى الشباب، ومن الشباب إإلى الكبر. حكاه المهدوي.
وفي الماوردي والثعلبي: إلى الصِّبا ومن الصِّبا إلى النُّطفة.
وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى يخرج لقادر.
وقال الماوردي: يحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعثه إلى الآخرة؛ لأن الكفار يسألون فيها الرجعة، والرجع مصدر رجعت الشيء أي: رددته].
265
قوله: ﴿يَوْمَ تبلى السرآئر﴾. فيه أوجه، وقد رتبها أبو البقاءِ على الخلاف في الضمير، فقال: على القول بكون الضمير للإنسان، فيه أوجه:
أحدها: أنه معمول ل «قادر».
إلاَّ أنَّ ابن عطية قال - بعد أن حكى أوجهاً عن النحاة -: «وكل هذه الفرق فرَّت من أن يكون العامل» لقادر «، لئلاَّ يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحدهُ».
ثم قال: «وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل» لقادر «، وذلك أنه قال:» إنَّه على رجعهِ لقادرٌ «؛ لأنه إذا قدر على ذلك في هذا الوقت كان في غيره أقدر بطريق الأولى.
الثاني: أن يكون العامل مضمر على التبيين، أي: يرجعه يوم تبلى.
الثالث: تقديره: اذكر، فيكون مفعولاً به، وعلى عوده على الماء يكون العامل فيه: اذكر»
انتهى ملخصاً.
وجوَّز بعضهم أن يكون العامل فيه «نَاصِرٍ»، وهو فاسد؛ لأن ما بعد «ما» النافية وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلهما.
وقيل: العامل «رَجْعِهِ» وهو فاسدٌ؛ لأنه قد فصل بين المصدر ومعموله بأجنبي، وهو خبر «إنَّ». وبعضهم يقتصره في الظرف.
قوله: «تُبلَى» تختبر وتعرف؛ قال الراجز: [الرجز]
٥١٦٩ - قَدْ كُنْتَ قَبْلَ اليَوْم تَزْدَرينِي فاليَومَ أبْلُوكَ وتَبْتَلِينِي
أي: أعرفك وتعرفني.
وقيل: ﴿تبلى السرآئر﴾ تخرج من مخبآتها وتظهر، وهو كل ما استسرّه الإنسان من خير، أو شر، وأضمره من إيمان، أو كفر.
قال ابن الخطيب: والسرائرُ: ما أسر في القلوب، والمراد هنا: عرض الأعمال، ونشر الصحف، أو المعنى: اختبارها، وتمييز الحسن منها من القبيح لترتيب الثواب والعقاب.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ائْتَمَنَ اللهُ - تعَالَى - خَلقهُ على أرْبَع: الصَّلاةِ، والزَّكاةِ والصِّيام، والغُسْلِ، وهُنَّ السَّرائِرُ الَّتي يَختبِرُهَا اللهُ - عزَّ وجلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ» ذكره المهدوي.
وروى الماورديُّ عن زيدٍ بن أسلم، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الأمَانَةُ ثلاثٌ:
266
الصَّلاةُ، والصَّومُ، والجنَابةُ، اسْتأمَنَ اللهُ - تعالى - ابْنَ آدمَ على الصَّلاةِ، فإن شاء قال: صلَّيْتُ، ولمْ يُصَلِّ، واسْتأمنَ اللهُ تعالى ابْنَ آدَم على الصَّوم، فإنْ شَاءَ قَالَ: [صُمْتُ ولَمْ يَصُمْ واسْتَأمنَ اللهُ تعالى ابْن آدمَ على الجَنابةِ فإنْ شَاءَ قَال:] اغْتسَلت ولمْ يَغْتسِلْ، اقْرَأوا إن شِئْتُم: ﴿يَوْمَ تبلى السرآئر﴾ ».
[وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الوضوء من السرائر، والسرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد].
وقال ابن العربيِّ: قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يغفر للشهيد إلاَّ الأمانة، والوضوء من الأمانة، والصلاة والزكاة من الأمانة، والوديعة من الأمانة، وأشد ذلك الوديعة، تمثل له على هيئتها يوم أخذها، فيرمى بها في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها، فيتبعها، فيجعلها في عنقه، وإذا أراد ان يخرج بها زلت، فيتبعها، فيجعلها في عنقه، فهو كذلك دهر الداهرين.
وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرآة على فرجها.
وقال سفيان: الحيضة والحمل من الأمانة، إن قالت: لم أحضْ وأنا حامل صدقت ما لم يأت ما يعرف فيه أنها كاذبة.
قوله: ﴿فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾، أي: فما الإنسان من قوَّة، أي: منعةٍ تمنعه، ولا ناصرٍ ينصره عن ما نزل به.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يتمسك بهذه الآية على نفي الشفاعة، لقوله تعالى: ﴿واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً﴾ [البقرة: ٤٨] الآية.
والجواب ما تقدم.
267
قوله :﴿ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ ﴾. فاعل بمعنى مفعول [ كعكسه في قولهم : سيل مفعم ]١، كقوله تعالى :﴿ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾ [ الإسراء : ٤٥ ] على وجه.
وقيل :«دافِق » على النسب، أي : ذو دفق أو اندفاقٍ.
وقال ابنُ عطية٢ : يصح أن يكون الماء دافقاً ؛ لأن بعضه يدفق بعضاً، أي : يدفقه، فمنه دافق، ومنه مدفوق انتهى.
والدَّفقُ : الصَّبُّ، ففعله متعدٍّ.
وقرأ زيد٣ بن علي :«مَدْفُوقٍ » وكأنَّه فسر المعنى.
قال القرطبيُّ٤ : الصبُّ : دفقُ الماء، دفقت الماء، أدفقُه دفقاً، أي : صببته فهو ماء دافق، أي : مدفوق، كما قالوا : سرٌّ كاتم، أي : مكتوم ؛ لأنه من قولك : دُفق الماء على ما لم يسم فاعله، ولا يقال : دَفق الماء، ويقال : دفق الله روحه : إذا دعى عليه بالموت.
قال الفرَّاء والأخفش :«ماءٍ دافقٍ » : أي مصبوب في الرَّحمِ.
وقال الزجاج :«مِن ماءٍ ذي انْدفاقٍ »، يقال : دَارع، وفَارِس، ونَابِل، أي ذو فَرسٍ ودِرعٍ ونَبلٍ، وهذا مذهب سيبويه.
والدَّافق : هو المندفق بشدة قوته، وأراد ماءين : ماء الرجل وماء المرأة ؛ لأن الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماءً واحداً لامتزاجهما.
وقال ابن عباس :«دافق » لزج٥.
١ سقط من: ب..
٢ المحرر الوجيز ٥/٤٦٥..
٣ ينظر : البحر المحيط ٨/٤٤٩، والدر المصون ٦/٥٠٧..
٤ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٥..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٤)، عن ابن عباس..
قوله :﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب ﴾، أي : هذا الماء من بين الصلب، أي : الظَّهر وقرأ العامة :«يَخْرجُ » مبنياً للفاعل، وابنُ أبي عبلة وابن مقسم١ : مبنياً للمفعول. وقرأ - أيضاً٢ - : وأهل «مكة » :«الصُّلُبِ » بضم الصاد واللام.
وقرأ اليماني٣ : بفتحها ؛ ومنه قول العجَّاج :[ الرجز ]
٥١٦٣- *** فِي صَلبٍ مِثلِ العِنانِ المُؤدَمِ٤ ***
[ وفيه أربع لغات :«صُلْب، وصُلُبٌ، وصَلَبٌ، وصَالب، ومنه قوله ]٥ :[ المنسرح ]
٥١٦٤- تُنْقَلُ من صَالَبٍ إلى رحِمٍ٦***. . .
والترائب : جميع تريبة، وهي موضع القلادة من عظام الصَّدر ؛ لأن الولدَ مخلوق من مائهما ؛ فماء الرجل في صلبه، وماء المرأة في ترائبها، وهو معنى قوله تعالى :﴿ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ [ الإنسان : ٢ ] ؛ وقال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٥١٦٥- مُهْفَهَفةٌ بَيْضاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ تَرَائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَلِ٧
وقال آخر :[ الكامل ]
٥١٦٦- والزَّعْفرَانُ على تَرائِبهَا شَرِقٌ بِهِ اللّبَّاتُ والنَّحرُ٨
وقال المثقب العبديُّ :[ الوافر ]
٥١٦٧- ومنْ ذَهَبٍ يَلوحُ عَلى تَريبٍ كَلوْنِ العَاجِ لَيْسَ لَهُ غُضُونُ٩
وقال الشاعر :[ الرجز ]
٥١٦٨- *** أشْرَفَ ثَدْيَاهَا على التَّريبِ١٠ ***
وعن ابن عباسٍ وعكرمة : الترائب : ما بين ثدييها١١.
وقيل : التَّرائب : التراقي.
وقيل : أضلاع الرجل التي أسفل الصلب.
وحكى الزجاجُ : أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر.
وعن ابن عبَّاسٍ : أطراف المرء، يداه ورجلاه وعيناه١٢، وهو قول الضحاك.
وقيل : عصارة القلب١٣، وهو قول معمر بن أبي حبيبة.
قال ابنُ عطية١٤ : وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : هو الجيد١٥.
وقال مجاهد : ما بين المنكبين والصدر١٦.
وقال القرطبيُّ١٧ : والمشهور من كلام العرب أنها عظام الصَّدْر والنَّحْر.
جاء في الحديث : أن الولد يخلقُ من ماء الرجل، يخرج من صلبه العظم والعصب، وماء المرأة التي يخرج من ترائبها اللحم والدم١٨.
حكى القرطبيُّ١٩ : أنَّ ماء الرجل يخرج من الدِّماغ، ثم يجتمع٢٠ في الأنثيين، وهذا لا يعارض :«مِنْ بَيْنِ الصُّلبِ والتَّرائبِ » ؛ لأنه إن نزل من الدِّماغ، فإنما يمرُّ بين الصلب والترائب.
قال قتادةُ : المعنى : يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة٢١.
وحكى الفراء : أنَّ مثل هذا يأتي عن العرب، فيكون معنى ما بين الصلب : من الصلب.
والمعنى من صلب الرجل وترائب المرأة، ثم إنَّا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن، ولذلك يشبه الرجل والديه كثيراً، وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني، وأيضاً فالمكثر من الجماع يجد وجعاً في صلبه وظهره، وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبساً من الماء.
قال المهدويُّ : من جعل المنيَّ يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، فالضمير في «يخرج » للماء، ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة، فالضمير للإنسان.
١ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٤٩، والدر المصون ٦/٥٠٧..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٦٥، والبحر المحيط ٨/٤٤٩، والدر المصون ٦/٥٠٧..
٣ السابق..
٤ عجز بيت وصدره:
*** ريا العظام فخمة المخدم ***
ينظر اللسان (صلب)، والقرطبي ١٩/٦، والبحر ٨/٤٤٩، والدر المصون ٦/٥٠٧..

٥ في أ ما يلي:
وتقدمت لغاته في سورة "النساء" عند قوله تعالى: ﴿والذين من أصلابكم﴾ وأعرفها صالب، كقول ابن عباس- رضي الله عنهما-..

٦ تقدم..
٧ ينظر ديوان امرىء القيس (١١٥)، وشرح المعلقات للزرزني (٣٠)، وإعراب القرآن ٥/٢٠٠، ومعاني القرآن وإعرابه ٥/٣١٢، واللسان (ترب)، والقرطبي ٢٠/٥، والبحر ٨/٤٤٧، والدر المصون ٦/٥٠٧..
٨ هو للمخبل السعدي، ينظر اللسان (ترب)، والطبري ٣٠/٦٣، ومجمع البيان ١٠/٧١٤، والقرطبي ٢٠/٦، والبحر المحيط ٨/٤٤٧، والدر المصون ٦/٥٠٧..
٩ ينظر شعر المثقب العبدي ص (٣٢)، والمفضليات ص ٥٧٩، والطبري ٣٠/٩٣، وإعراب القرآن ٥/١٩٩، واللسان (ترب) والقرطبي ٢٠/٦، والبحر ٨/٤٤٧، والدر المصون ٦/٥٠٧..
١٠ ينظر ابن الشجري ٢/٣٤١، والقرطبي ٢٠/٦..
١١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٤)..
١٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٥)..
١٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٦)..
١٤ ينظر المحرر الوجيز ٥/٤٦٥..
١٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٥)..
١٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٥)..
١٧ ينظر الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٥)..
١٨ تقدم تخريجه..
١٩ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٦..
٢٠ في أ: ينزل..
٢١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٥)..
قوله :﴿ إِنَّهُ ﴾. الضمير للخالق المدلول عليه بقوله تعالى :﴿ خُلِقَ ﴾ ؛ لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه.
قوله :﴿ على رَجْعِهِ ﴾، في الهاء وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الإنسان أي على بعثه بعد موته، وهو قول ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة١، وهو اختيار الطبري٢، لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تبلى السرآئر ﴾.
والثاني : أنه ضمير الماء، أي : يرجع المنيّ في الإحْليل أو الصلب٣.
قاله الضحاكُ ومجاهدٌ، والأول قول الضحاك أيضاً وعكرمة.
[ وعن الضحاك أيضاً أن المعنى أنه رد الإنسان من الكِبَرِ إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكبر. حكاه المهدوي٤.
وفي الماوردي والثعلبي : إلى الصِّبا ومن الصِّبا إلى النُّطفة٥.
وقال ابن زيد : إنه على حبس ذلك الماء حتى يخرج لقادر.
وقال الماوردي : يحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعثه إلى الآخرة ؛ لأن الكفار يسألون فيها الرجعة، والرجع مصدر رجعت الشيء أي : رددته ]٦.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٧) عن قتادة..
٢ ينظر: جامع البيان ١٢/٥٣٧..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٦١)، عن مجاهد وعكرمة والضحاك.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٦١)، عن مجاهد وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وذكره أيضا عن عكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..

٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٧)..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٣٧)، عن ابن زيد..
٦ سقط من: ب..
قوله :﴿ يَوْمَ تبلى السرآئر ﴾. فيه أوجه، وقد رتبها أبو البقاءِ على الخلاف في الضمير، فقال١ : على القول بكون الضمير للإنسان، فيه أوجه :
أحدها : أنه معمول ل «قادر ».
إلاَّ أنَّ ابن عطية قال٢ - بعد أن حكى أوجهاً عن النحاة - :«وكل هذه الفرق فرَّت من أن يكون العامل «لقادر »، لئلاَّ يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحدهُ ».
ثم قال :«وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل «لقادر »، وذلك أنه قال :«إنَّه على رجعهِ لقادرٌ » ؛ لأنه إذا قدر على ذلك في هذا الوقت كان في غيره أقدر بطريق الأولى.
الثاني : أن يكون العامل مضمر على التبيين، أي : يرجعه يوم تبلى.
الثالث : تقديره : اذكر، فيكون مفعولاً به، وعلى عوده على الماء يكون العامل فيه : اذكر » انتهى ملخصاً.
وجوَّز بعضهم أن يكون العامل فيه «نَاصِرٍ »، وهو فاسد ؛ لأن ما بعد «ما » النافية وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلهما.
وقيل : العامل «رَجْعِهِ » وهو فاسدٌ ؛ لأنه قد فصل بين المصدر ومعموله بأجنبي، وهو خبر «إنَّ ». وبعضهم يقتصره في الظرف.
قوله :«تُبلَى » تختبر وتعرف ؛ قال الراجز :[ الرجز ]
٥١٦٩- قَدْ كُنْتَ قَبْلَ اليَوْم تَزْدَرينِي فاليَومَ أبْلُوكَ وتَبْتَلِينِي٣
أي : أعرفك وتعرفني.
وقيل :﴿ تبلى السرآئر ﴾ تخرج من مخبآتها وتظهر، وهو كل ما استسرّه الإنسان من خير، أو شر، وأضمره من إيمان، أو كفر.
قال ابن الخطيب٤ : والسرائرُ : ما أسر في القلوب، والمراد هنا : عرض الأعمال، ونشر الصحف، أو المعنى : اختبارها، وتمييز الحسن منها من القبيح لترتيب الثواب والعقاب.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ائْتَمَنَ اللهُ - تعَالَى - خَلقهُ على أرْبَع : الصَّلاةِ، والزَّكاةِ والصِّيام، والغُسْلِ، وهُنَّ السَّرائِرُ الَّتي يَختبِرُهَا اللهُ - عزَّ وجلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ »٥ ذكره المهدوي.
وروى الماورديُّ عن زيدٍ بن أسلم، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الأمَانَةُ ثلاثٌ : الصَّلاةُ، والصَّومُ، والجنَابةُ، اسْتأمَنَ اللهُ - تعالى - ابْنَ آدمَ على الصَّلاةِ، فإن شاء قال : صلَّيْتُ، ولمْ يُصَلِّ، واسْتأمنَ اللهُ تعالى ابْنَ آدَم على الصَّوم، فإنْ شَاءَ قَالَ :[ صُمْتُ ولَمْ يَصُمْ واسْتَأمنَ اللهُ تعالى ابْن آدمَ على الجَنابةِ فإنْ شَاءَ قَال :] ٦ اغْتسَلت ولمْ يَغْتسِلْ، اقْرَأوا إن شِئْتُم :﴿ يَوْمَ تبلى السرآئر ﴾٧.
[ وقال مالك - رضي الله عنه - : الوضوء من السرائر، والسرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد ]٨.
وقال ابن العربيِّ : قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : يغفر للشهيد إلاَّ الأمانة، والوضوء من الأمانة، والصلاة والزكاة من الأمانة، والوديعة من الأمانة، وأشد ذلك الوديعة، تمثل له على هيئتها يوم أخذها، فيرمى بها في قعر جهنم، فيقال له : أخرجها، فيتبعها، فيجعلها في عنقه، وإذا أراد أن يخرج بها زلت، فيتبعها، فيجعلها في عنقه، فهو كذلك دهر الداهرين٩.
وقال أبي بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرآة على فرجها١٠.
وقال سفيان : الحيضة والحمل من الأمانة، إن قالت : لم أحضْ وأنا حامل صدقت ما لم يأت ما يعرف فيه أنها كاذبة١١.
١ ينظر: الإملاء ٢/٢٨٥..
٢ المحرر الوجيز ٥/٤٦٦..
٣ ينظر القرطبي ٢٠/٧..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١١٩..
٥ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٦١)، وعزاه إلى البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي الدرداء مرفوعا..
٦ سقط من ب..
٧ ينظر: تفسير القرطبي (٢٠/٨)، وعزاه إلى الثعلبي..
٨ سقط من: ب..
٩ ينظر: تفسير القرطبي (٢٠/٨)، وعزاه إلى الثعلبي..
١٠ ينظر : المصدر السابق..
١١ ينظر: المصدر السابق..
قوله :﴿ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ ﴾، أي : فما الإنسان من قوَّة، أي : منعةٍ تمنعه، ولا ناصرٍ ينصره عن ما نزل به.
قال ابن الخطيب١ : ويمكن أن يتمسك بهذه الآية على نفي الشفاعة، لقوله تعالى :﴿ واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾ [ البقرة : ٤٨ ] الآية.
والجواب ما تقدم.
١ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٢٠..
قوله: ﴿والسمآء ذَاتِ الرجع﴾.
قيل: الرَّجْعُ: مصدر، بمعنى رجوع الشمس والقمر إليها، والنجوم تطلع من ناحيته، وتغيب في أخرى.
267
وقيل: الرَّجْعُ: المطر؛ قال: المتنخِّل، يصف سيفاً يشبههُ بالماء: [السريع]
٥١٧٠ - أبْيَضُ كالرَّجْعِ رَسُوبٌ إذَا ما ثَاخَ في مُحْتفلٍ يَخْتَلِي
وقال: [البسيط]
٥١٧١ - رَبَّاءُ شَمَّاءُ لا يَأوِي لقُلَّتِهَا إلاَّ السَّحَابُ وإلاَّ الأوبُ والسَّبلُ
وقال الخليل: المطر نفسه، وهذا قول الزجاج.
قال ابن الخطيب: واعلم أن كلام الزجاج، وسائر علماء اللغة «صريح» في أن الرجع ليس اسماً موضوعاً للمطر، بل سمي رجعاً مجازاً، وحسن هذا المجاز وجوه:
أحدها: قال القفال: كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته، ووصل الحروف به، وكذا المطر، لكونه يعود مرة بعد أخرى سمِّي رجعاً.
وثانيها: أن العرب كانوا يزعمون أنَّ السَّحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم يرجعه إلى الأرض.
والرجع - أيضاً - نبات الربيع.
وقيل: «ذَاتِ الرَّجْعِ» أي: ذات النفع.
وقيل: ذات الملائكة، لرجوعهم فيها بأعمال العباد، وهذا قسم.
﴿والأرض ذَاتِ الصدع﴾ قسمٌ آخر، أي: تتصدع عن النبات، والشجر، والثمار، والأنهار، نظيره: ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً﴾ [عبس: ٢٦].
والصَّدعُ: بمعنى الشق؛ لأنه يصدع الأرض، فتصدع به، وكأنَّه قال: والأرض ذات النبات الصادع للأرض.
وقال مجاهد: الأرض ذات الطريق التي تصدعها المشاة.
وقيل: ذات الحرث لأنه يصدعها.
وقيل: ذات الأموات لانصداعها للنشور.
وقيل: هما الجبلان بينهما شق وطريق نافذ لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً﴾ [الأنبياء: ٣١].
268
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّه تعالى، كما جعل كيفية خلقه الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، ذكر في هذا القسم كيفية خلقه النبات.
فقال تعالى: ﴿والسمآء ذَاتِ الرجع﴾ أي: كالأب، «والأرض ذات الصدع» كالأم، وكلاهما من النعم العظام؛ لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء متكرراً، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك، ثم أردف هذا القسم بالمقسم عليه، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾. وهذا جواب القسم، والضمير في «إنَّه» للقرآن، أي: إن القرآن يفصل بين الحق والباطل.
وقال القفالُ: يعود إلى الكلام المتقدم والمعنى: ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم يوم تبلى سرائركم قول فصل، وحق، والفصل: الحكم الذي ينفصل به الحق عن الباطل، ومنه فصل الخصومات، وهو قطعها بالحكم الجزم، [ويقال: هذا قول فصل قاطع للشر والنزاع.
وقيل: معناه جد] لقوله: ﴿وَمَا هوَ بالهزل﴾. أي: باللعب، والهزل: ضد الجد والتشمير في الأمر، يقال: هزل يهزل.
قال الكميتُ: [الطويل]
٥١٧٢ - تَجُدُّ بِنَا فِي كُلِّ يَومٍ وتهْزِلُ... قوله: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً﴾، أي: أنَّ أعداء الله يكيدون كيداً، أي: يمكرون بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه مكراً.
قيل: الكَيْدُ: إلقاء الشبهات، كقولهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾
[المؤمنون: ٣٧] ﴿مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: ٧٨] ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً﴾ [ص: ٥] ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] ﴿فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ [الفرقان: ٥].
وقيل: الطعن فيه بكونه ساحراً، أو شاعراً، او مجنوناً، حاشاه من ذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: قصدهم قتله، لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ﴾ [الأنفال: ٣٠] الآية.
وأما قوله: ﴿وَأَكِيدُ كَيْداً﴾. أي: أجازيهم جزاء كيدهم.
269
وقيل: هو ما أوقع الله - تعالى - بهم يوم «بدر» من القتل، والأسر.
وقيل: استدراجهم من حيث لا يعلمون.
وقيل: كيد الله تعالى، بنصره وإعلاء درجته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسمية لأحد المقتابلين باسم الآخر، كقوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] ؛ وقول الشاعر: [الوافر]
٥١٧٣ - ألاَ لاَ يجْهلَنْ أحَدٌ عليْنَا فَنجهَلَ فوْقَ جَهْلِ الجَاهِلينَا
وقوله تعالى: ﴿نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ [الحشر: ١٩] ﴿يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢]. قوله: ﴿فَمَهِّلِ الكافرين﴾. أي: لا تدع بهلاكهم، ولا تستعجل، وارض بما تريده في أمورهم، ثم نسخت بقوله تعالى: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
قوله: ﴿أَمْهِلْهُمْ﴾. هذه قراءة العامة، لما كرر الأمر توكيداً خالف بين اللفظين.
وعن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «مَهِّلهُمْ» كالأول، ومهَّل وأمْهَل بمعنى مثل: نزل وأنزل، والإمهال والتَّمهيل: الانتظار، يقال: أمهلتك كذا، أي: انتظرتك لتفعله، والاسم: المهلة والاستمهال: الانتظار، والمَهْل: الرِّفقُ والتُّؤدةُ، وتمهل في أمره: أي: أتاه، وتمهَّلَ تمهيلاً: اعتدل وانتصب، والامتهال: سكون وفتور، ويقال: مهلاً يا فلان، اي رفقاً وسكوناً.
قوله: ﴿رُوَيْداً﴾. مصدر مؤكد لمعنى العامل، وهو تصغير إرواد على الترخيم، وقيل: بل هو تصغير «رود» كذا قال أبو عبيد.
وأنشد: [البسيط]
٥١٧٤ - كَأنَّهُ ثَمِلٌ يَمْشِي على رَوَدِ... أي: على مهل. واعلم أن «رويداً» : يستعمل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعله، فيضاف تارة، كقوله تعالى: ﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾ [محمد: ٤]، ولا يضاف أخرى، نحو: رويداً زيداً ويقع حالاً، نجو: ساروا رويداً، أي: متمهلين، ونعت المصدر، نحو: «ساروا رويداً»، أي: سيراً رويداً، وتفسير «رويداً» مهلاً، وتفسير «رويدك» أمهل؛ لأن الكاف إنمت تدخله إذا كان بمعنى: «افعل» دون غيره، وإنَّما حُرِّكت الدال لالتقاء الساكنين، ونصب نصب
270
المصادر، وهو مصغَّر مأمور به؛ لأنه تصغير الترخيم من «إرواد» : وهو مصدر: «أرود، يرود» وله أربعة أوجه: اسماً للفعل، وصفة، وحالاً، ومصدراً، وقد تقدم ذكرها.
قال ابن عباس: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «رويداً» أي: قريباً.
وقال قتادةُ: قليلاً.
وقيل: ﴿أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً﴾ إلى يوم القيامة، وإنما صغِّر ذلك من حيث إن كل آت قريب.
وقيل: «أمهلهم رويداً» إلى يوم يرد.
روى الثعلبي عن أبي بن كعبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ ﴿والسمآء والطارق﴾ اعطاهُ اللهُ تعَالى مِنَ الأجْرِ بعَددِ كُلِّ نجمٍ في السَّماءِ عَشْرَ حَسَناتٍ» والله تعالى أعلم.
271
سورة الأعلى
مكية في قول الجمهور.
272
﴿ والأرض ذَاتِ الصدع ﴾ قسمٌ آخر، أي : تتصدع عن النبات، والشجر، والثمار، والأنهار، نظيره :﴿ ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً ﴾ [ عبس : ٢٦ ].
والصَّدعُ : بمعنى الشق ؛ لأنه يصدع الأرض، فتصدع به، وكأنَّه قال١ : والأرض ذات النبات الصادع للأرض.
وقال مجاهد : الأرض ذات الطريق التي تصدعها المشاة.
وقيل : ذات الحرث لأنه يصدعها.
وقيل : ذات الأموات لانصداعها للنشور.
وقيل : هما الجبلان بينهما شق وطريق نافذ لقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً ﴾٢ [ الأنبياء : ٣١ ].
قال ابن الخطيب٣ : واعلم أنَّه تعالى، كما جعل كيفية خلقه الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، ذكر في هذا القسم كيفية خلقه النبات.
فقال تعالى :﴿ والسمآء ذَاتِ الرجع ﴾ أي : كالأب، «والأرض ذات الصدع » كالأم، وكلاهما من النعم العظام ؛ لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء متكرراً، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك.
١ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٢٤٩)، والقرطبي (٢٠/٩)..
٢ سقط من: ب..
٣ ينظر الفخر الرازي ٣١/١٢١..
ثم أردف هذا القسم بالمقسم عليه، وهو قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾. وهذا جواب القسم، والضمير في «إنَّه » للقرآن، أي : إن القرآن يفصل بين الحق والباطل.
وقال القفالُ : يعود إلى الكلام المتقدم والمعنى : ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم يوم تبلى سرائركم قول فصل، وحق، والفصل : الحكم الذي ينفصل به الحق عن الباطل، ومنه فصل الخصومات، وهو قطعها بالحكم الجزم، [ ويقال : هذا قول فصل قاطع للشر والنزاع.
وقيل : معناه جد ]١ لقوله :﴿ وَمَا هوَ بالهزل ﴾.
١ سقط من: ب..
﴿ وَمَا هوَ بالهزل ﴾ أي : باللعب، والهزل : ضد الجد والتشمير في الأمر، يقال : هزل يهزل.
قال الكميتُ :[ الطويل ]
٥١٧٢- *** تَجُدُّ بِنَا فِي كُلِّ يَومٍ وتهْزِلُ١***
١ عجز بيت وصدره:
*** أرانا على حب الحياة وطولها ***
ينظر الكميت وقصائده الهاشميات ص ١٤١، واللسان (هزل)، والقرطبي ٢/٩، والبحر ٨/٤٤٨، والدر المصون ٦/٥٠٨..

قوله :﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً ﴾، أي : أنَّ أعداء الله يكيدون كيداً، أي : يمكرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكراً.
قيل : الكَيْدُ : إلقاء الشبهات، كقولهم :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا ﴾ [ المؤمنون : ٣٧ ] ﴿ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] ﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً ﴾ [ ص : ٥ ] ﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] ﴿ فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ].
وقيل : الطعن فيه بكونه ساحراً، أو شاعراً، أو مجنوناً، حاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم.
وقيل : قصدهم قتله، لقوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] الآية.
وأما قوله :﴿ وَأَكِيدُ كَيْداً ﴾. أي : أجازيهم جزاء كيدهم.
وقيل : هو ما أوقع الله - تعالى - بهم يوم «بدر » من القتل، والأسر.
وقيل : استدراجهم من حيث لا يعلمون.
وقيل : كيد الله تعالى، بنصره وإعلاء درجته صلى الله عليه وسلم تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر، كقوله تعالى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ] ؛ وقول الشاعر :[ الوافر ]
٥١٧٣- ألاَ لاَ يجْهلَنْ أحَدٌ عليْنَا فَنجهَلَ فوْقَ جَهْلِ الجَاهِلينَا١
وقوله تعالى :﴿ نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ [ الحشر : ١٩ ] ﴿ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٢ ].
١ ينظر سمط اللآلىء ١/٥٨٠، والمحرر الوجيز ١/١٥٩، وشرح شواهد الكشاف ص ٥٥١..
قوله :﴿ فَمَهِّلِ الكافرين ﴾. أي : لا تدع بهلاكهم، ولا تستعجل، وارض بما تريده في أمورهم، ثم نسخت بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ].
قوله :﴿ أَمْهِلْهُمْ ﴾. هذه قراءة العامة، لما كرر الأمر توكيداً خالف بين اللفظين.
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما :«مَهِّلهُمْ » كالأول، ومهَّل وأمْهَل بمعنى مثل : نزل وأنزل، والإمهال والتَّمهيل : الانتظار، يقال : أمهلتك كذا، أي : انتظرتك لتفعله، والاسم : المهلة والاستمهال : الانتظار، والمَهْل : الرِّفقُ والتُّؤدةُ، وتمهل في أمره : أي : أتاه، وتمهَّلَ تمهيلاً : اعتدل وانتصب، والامتهال : سكون وفتور، ويقال : مهلاً يا فلان، أي رفقاً وسكوناً.
قوله :﴿ رُوَيْداً ﴾. مصدر مؤكد لمعنى العامل، وهو تصغير إرواد على الترخيم، وقيل : بل هو تصغير «رود » كذا قال أبو عبيد.
وأنشد :[ البسيط ]
٥١٧٤- *** كَأنَّهُ ثَمِلٌ يَمْشِي على رَوَدِ١ ***
أي : على مهل. واعلم أن «رويداً » : يستعمل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعله، فيضاف تارة، كقوله تعالى :﴿ فَضَرْبَ الرقاب ﴾ [ محمد : ٤ ]، ولا يضاف أخرى، نحو : رويداً زيداً ويقع حالاً، نجو : ساروا رويداً، أي : متمهلين، ونعت المصدر، نحو :«ساروا رويداً »، أي : سيراً رويداً، وتفسير «رويداً » مهلاً، وتفسير «رويدك » أمهل ؛ لأن الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى :«افعل » دون غيره، وإنَّما حُرِّكت الدال لالتقاء الساكنين، ونصب نصب المصادر، وهو مصغَّر مأمور به ؛ لأنه تصغير الترخيم من «إرواد » : وهو مصدر :«أرود، يرود » وله أربعة أوجه : اسماً للفعل، وصفة، وحالاً، ومصدراً، وقد تقدم ذكرها.
قال ابن عباس :- رضي الله عنهما - :«رويداً » أي : قريباً٢.
وقال قتادةُ : قليلاً٣.
وقيل :﴿ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ إلى يوم القيامة، وإنما صغِّر ذلك من حيث إن كل آت قريب.
وقيل :«أمهلهم رويداً » إلى يوم يرد.
١ عجز بيت للجموح الظفري، وصدره:
*** تكاد لا تكلم البطحاء وطأتها ***
ينظر ابن يعيش ٤/١٩، واللسان (ورد)، والقرطبي ٢٠/٩، وشرح القصائد السبع لابن الأنباري ٤٠٣، والدر المصون ٦/٥٠٨..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٤١)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٦٢)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٤١)، عن قتادة..
Icon