تفسير سورة البقرة

التفسير القيم
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

تفسير قوله تعال :﴿ الم ﴾ :
تأمل سر ﴿ الم ﴾ كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة، فالألف إذا بدئ بها أول كانت همزة وهي أول المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط مخارج الحروف وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم، وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف : أعني الحلق واللسان والشفتين وترتيب في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية.
فهذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع منها ستة عشر مخرجا، فيصير منها تسعة وعشرون حرفا عليها مدار كلام الأمم الأولين والآخرين مع تضمنها سرا عجيبا.
وهو أن للألف البداية واللام التوسط والميم النهاية، فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما، وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق ونهايته وتوسطه، فمشتملة على تخليق العالم وغايته، وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر، فتأمل ذلك في «البقرة، وآل عمران، وتنزيل السجدة، وسورة الروم ».
وتأمل اقتران «الطاء بالسين والهاء » في القرآن، فإن «الطاء » جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها وهي : الجهر، والشدة، والاستعلاء، والإطباق، والسين مهموس رخو مستفل صفيري منفتح، فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف.
وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف، فمن ذلك «ق » والسورة مبنية على الكلمات القافية من : ذكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرير القول، ومراجعته مرارا، والقرب من ابن آدم، وتلقى الملكين قول العبد، وذكر الرقيب، وذكر السائق، والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقديم بالوعيد، وذكر المتقين، وذكر القلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وذكر القيل مرتين، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وبسوق النخل، والرزق، وذكر القوم، وحقوق الوعيد، ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة ؛ وسر آخر وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح.
وإذا أردت زيادة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة «ص » من الخصومات المتعددة فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم، ﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا ﴾ [ ص : ٥ ] إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم – وهو الدرجات والكفارات – ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانيا في شأن بنيه، وحلفه ليغوينهم أجمعين – إلا أهل الإخلاص منهم – فليتأمل اللبيب الفطن : هل يليق بهذه السورة غير «ص »، وبسورة «ق » غير حرفها، وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف. . . والله أعلم.
الختم قال الأزهري : أصله التغطية، وختم البذر في الأرض، إذ غطاه، قال أبو إسحاق : معنى ختم وطبع في اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه، فلا يدخله شيء، كما قال تعالى :﴿ أم على قلوب أقفالها ﴾ [ محمد : ٢٤ ] وكذلك قوله :﴿ طبع الله على قلوبهم ﴾ [ النحل : ١٠٨ ].
قلت : الختم والطبع يشتركان فيما ذكر، ويفترقان في معنى آخر، وهو أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق.
وأما «المرض » : فقال تعالى :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ﴾ [ البقرة : ١٠ ].
وقال :﴿ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ﴾ [ الأحزاب : ٣٢ ].
وقال :﴿ ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ﴾ [ المدثر : ٣١ ].
ومرض القلب : خروجه عن صحته واعتداله. فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له، مؤثرا له على غيره، فمرضه إما بالشك فيه، وإما بإيثار غيره عليه.
فمرض المنافقين : مرض شك وريب، ومرض العصاة : مرض غي وشهوة.
وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا.
قال ابن الأنباري : أصل المرض في اللغة : الفساد، مرض فلان : فسد جسمه، وتغيرت حاله، ومرضت بالمرض : تغيرت وفسدت، قالت ليلى الأخيلية :
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة *** تتبع أقصى دائها فشفاها
وقال آخر :
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة *** لفقد الحسين، والبلاد اقشعرت
والمرض يدور على أربعة أشياء : فساد، وضعف، ونقصان، وظلمة. ومنه «مرض الرجل في الأمر »، إذا ضعف فيه، ولم يبالغ، و«عين مريضة النظر » : أي فاترة ضعيفة. و«ريح مريضة » : إذا هب هبوبها، كما قال :
راحت لأربعك الرياح مريضة ***. . .
أي لينة ضعيفة، حتى لا يعفى أثرها.
وقال ابن الأعرابي : أصل المرض النقصان. ومنه :«بدن مريض »، أي ناقص القوة، و«قلب مريض » : ناقص الدين، و«مرض في حاجتي » : إذا نقصت حركته.
وقال الأزهري، عن المنذري عن بعض أصحابه : المرض : إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها، قال : والمرض : الظلمة، وأنشد
وليلة مرضت من كل ناحية *** فما يضيء لها شمس ولا قمر
هذا أصله في اللغة :
ثم الشك، والجهل، والحيرة، والضلال، وإرادة الغي، وشهوة الفجور في القلب : تعود إلى هذه الأمور الأربعة، فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض، فيعاقبه الله بزيادة المرض، لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.
شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم، وينتفعوا بها، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين، فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق، فأوقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث.
أبواب الهدى :
فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب، مما يسمعه بأذنه ويراه بعينه ويعقله بقلبه، وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها.
وقيل : لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نُزَّلوا منزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل. والقولان متلازمان.
وقال في صفتهم ﴿ فهم لا يرجعون ﴾ لأنهم قد رأوا في ضوء النار، وأبصروا الهدى، فلما أطفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا.
وقال سبحانه وتعالى :﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ ولم يقل : ذهب نورهم.
وفيه سر بديع : وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى، فإن الله تعالى مع المؤمنين، و﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ [ البقرة : ١٥٣ ] و﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾ [ النحل : ١٦٨ ].
فذهاب الله بذلك النور انقطاع المعية التي خص بها أولياءه، فقطعها بينه وبين المنافقين فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم، فليس لهم نصيب من قوله :﴿ لا تحزن إن الله معنا ﴾ [ التوبة : ٤٠ ] ولا من ﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ﴾ [ الشعراء : ٦٢ ].
وتأمل قوله تعالى :﴿ أضاءت ما حوله ﴾ كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا ؟ ولو اتصل ضوءها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوءه مجاورة، لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية. فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به، حجة من الله قائمة. وحكمة بالغة، تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده.
وتأمل قوله :﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ ولم يقل «بنارهم » ليطابق أول الآية. فإن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب بما فيها من الإشراق - وهو النور - وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وهو النارية.
وتأمل كيف قال :﴿ بنورهم ﴾ ولم يقل بضوئهم، مع قوله :﴿ فلما أضاءت ما حوله ﴾ لأن الضوء هو زيادة في النور، فلو قال : ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط، دون الأصل. فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته.
وأيضا : فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم من أهل الظلمات، الذين لا نور لهم.
وأيضا : فإن الله تعالى سمى كتابه نورا، ورسوله نورا، ودينه نورا، ومن أسمائه سبحانه وتعالى «النور »، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم : ذهاب بهذا كله.
وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴾ كيف طابق بين هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها، وبدل الهدى في مقابلتها، وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها، بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور، فبدلوا الهدى والنور، وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة، فيا لها من تجارة ما أخسرها ! وصفقة ما أشد غبنها !
طريق الحق واحد :
وتأمل كيف قال الله تعالى :﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ فوحده، ثم قال :﴿ وتركهم في ظلمات ﴾ فجمعها. فإن الحق واحد، وهو «صراط الله المستقيم »، الذي لا صراط يوصل إليه سواه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بالأهواء والبدع، وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الهدى ودين الحق، بخلاف طرق الباطل، فإنها متعددة متشعبة، ولهذا يفرد سبحانه الحق ويجمع الباطل.
كقوله تعالى :{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين
كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } [ البقرة : ٢٥٧ ]، وقال تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ] فجمع سبيل الباطل، ووحد سبيل الحق.
ولا يناقض هذا قوله تعالى :﴿ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ﴾ [ المائدة : ١٦ ] فإن تلك هي طرق مرضاته، التي يجمعها سبيله الواحد، وصراطه المستقيم، فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد، وسبيل واحد وهو سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه : خط خطأ مستقيما، وقال : هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى :﴿ وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ﴾ [ الأنعام : ١٥٣ ].
المثل الناري للمنافقين
وقد قيل : إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام، ويكون بمنزلة قول الله تعالى :﴿ كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ﴾ [ المائدة : ٦٤ ] ويكون قوله تعالى :﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ مطابقا لقوله تعالى :﴿ أطفأها الله ﴾ ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه : هو تركهم في الظلمات والحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه، ولا يبصرون سبيلا، بل هم صم بكم عمي،
وهذا التقدير - وإن كان حقا - ففي كونه مرادا بالآية نظر. فإن السياق إنما قصد لغيره، ويأباه قوله تعالى :﴿ فلما أضاءت ما حوله ﴾ وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا، ويأباه قوله تعالى :﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ وموقد نار الحرب لا نور له ويأباه قوله تعالى :﴿ وتركهم في ظلمات لا يبصرون ﴾ وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر.
قال الحسن : هو المنافق، أبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر. ولهذا قال :﴿ فهم لا يرجعون ﴾ أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه، وقال تعالى في حق الكفار :﴿ صم بكم عمي فهم لا يعقلون ﴾ [ البقرة : ١٧١ ] فسلب العقل عن الكفار، إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان، وسلب الرجوع عن المنافقين، لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان.

فصل [ المثل المائي للمنافقين ]


ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلا آخر مائيا : فقال تعالى :﴿ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين ﴾ [ البقرة : ١٩ ].
فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من النور والحياة بنصيب مستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها. وذهب نوره، وبقي في الظلمات حائرا تائها، لا يهتدي سبيلا، ولا يعرف طريقا، وبنصيب أصحاب الصيب ( وهو المطر الذي يصوب، أي ينزل من علو إلى أسفل ) فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب. لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وشبه نصيب المنافقين من هذا الهدي بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له فيما وراء ذلك، مما هو المقصود بالصيب، من حياة البلاد والعباد، والشجر والدواب، وإن تلك الظلمات التي فيه، وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب.
فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك : من برد شديد وتعطيل مسافر عن سفره، وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام، وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب، وهذه حال أكثر الخلق، إلا من صحت بصيرته.
فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق، والتعرض لإتلاف المهجة والجراحات الشديدة، وملامة اللوام، ومعاداة من يخاف معاداته لم يقدم عليه، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون.
وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر، ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد، وفراق المألوفات، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته. فإنه لا يخرج إليه، ولا يعزم عليه.
وحال هؤلاء حال ضعيف البصيرة والإيمان، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد، والزواجر والنواهي، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات، والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه، والناس كلهم صبيان العقول، إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء، وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق، ويعلم أنه حياة الوجود.
وقال الزمخشري : لقائل أن يقول : شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من تشبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة من الإفزاع من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق، والمعنى : أو كمثل ذوي صيب. والمراد : كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة، فلقوا منها ما لقوا.
قال : والصحيح الذي عليه علماء أهل البيان لا يتخطونه : أن المثلين جميعا من جهة التمثيلات المتركبة، دون المفرقة، لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه فيه.
وهذا القول الفحل، والمذهب الجزل، بيانه : أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها من بعض، لم تأخذ هذا بحجزة ذاك، فتشبهها بنظائره، كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية حاصله من مجموع أشياء قد تضامنت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها. كقوله تعالى :﴿ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ﴾ [ الجمعة : ٥ ] الغرض : تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة، وتساوي الحالين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأحمال ولا يشعر ذلك إلا بما يريد فيه من الكد والتعب، وكقوله تعالى :﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح ﴾ [ الكهف : ٤٥ ] المراد : قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء هذا النبات. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض، وتصييرها شيئا واحدا فلا كذلك، لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، فشبه حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة، مع رعد وبرق وخوف من الصواعق.
قال : فإن قلت أي المثلين أبلغ ؟
قلت : الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر، وفظاعته، وكلذلك أفرادهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ.

فصل : وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة


منها : أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه، وتصديق جازم، كان ما معه من النور كالمستعار.
ومنها : أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله، وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان. فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح، يقوم بها ويدوم بدوامها. فإذا ذهبت مادة الإيمان طفئ كما تطفأ النار بفراغ مادتها.
ومنها : أن الظلمة نوعان، ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور، وظلمة حادثة بعد النور. وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه. فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة، فمثلت حاله بحال المستوقد للنار، الذي حصل في الظلمة بعد الضوء، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط.
ومنها : أن في هذا المثل إيذانا وتنبيها على حالهم في الآخرة، وأنهم يعطون نارا ظاهرا، كما كان نورهم في الدنيا ظاهرا. ثم يطفأ ذلك النور أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله، ويبقون في الظلمة على الجسر، لا يستطيعون العبور، فإنه لا يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر، فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح، وإلا ذهب الله تعالى به أحوج ما كان إليه صاحبه. فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار، وبحالتهم يوم القيامة عندما يقسم النور.
ومن هاهنا يعلم السر في قوله تعالى :﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ ولم يقل : أذهب الله نورهم.
فإن أردت زيادة بيان وإيضاح، فتأمل ما رواه مسلم في «صحيحه » من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وقد سئل عن الورود ؟ فقال :«نجيء نحن يوم القيامة على تل فوق الناس. قال : فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا تبارك وتعالى بعد ذلك، فيقول : من تنتظرون ؟ فيقولون ؟ ننتظر ربنا. فيقول ؟ أنا ربكم فيقولون : حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك قال : فينطلق بهم، فيتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم - منافق أو مؤمن - نورا ثم يتبعونه. وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك، تأخذ من شاء الله تعالى. ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون. فينجو أول زمرة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفا لا يحاسبون ثم الذين يلونهم، كأضواء نجم في السماء، ثم كذلك. ثم تحل الشفاعة، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء - وذكر باقي الحديث ».
فتأمل قوله «فينطلق فيتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم نورا » المنافق والمؤمن ثم تأمل قوله تعالى :﴿ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ﴾ وتأمل حالهم إذا طفئت أنوارهم، فبقوا في الظلمة، وقد ذهب المؤمنون في نور إيمانهم يتبعون ربهم عز وجل.
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة :«لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع كل مشرك إلهه الذي كان يعبده » والموحد حقيق بأن يتبع الإله الحق الذي كل معبود سواه باطل.
وتأمل قوله تعالى :﴿ يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ﴾ [ القلم : ٤٢ ] وذكر هذه الآية في حديث الشفاعة في هذا الموضع، وقوله في الحديث «فيكشف عن ساقه » وهذه الإضافة يتبين المراد بالساق المذكور في الآية.
وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه وتعالى بعد هذا وذلك يفتح لك بابا من أسرار التوحيد، وفهم القرآن، ومعاملة الله سبحانه وتعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحده، ولم يشركوا به شيئا، هذه المعاملة التي عامل بمقابلتها أهل الشرك حيث ذهبت كل أمة مع معبودها، فانطلق بها واتبعته إلى النار، وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه، فسبحان الله رب العالمين، قرت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة، وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم.
ومنها : أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة، التي هي الضلال والحيرة التي ضدها الهدى، والمثل الثاني : متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن فلا أمن ولا هدى ﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾ [ الأنعام : ٨٢ ].
قال ابن عباس وغيره من السلف : مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء ورأى ما حوله، فاتقى مما يخاف، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي في ظلمة خائفا متحيرا، كذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم، وناكحوا المؤمنين ووارثوهم، وقاسموهم الغنائم. فذلك نورهم. فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف.
قال مجاهد : إضاءة النار لهم : إقبالهم إلى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم : إقبالهم إلى المشركين والضلالة. وقد فسرت تلك الإضاءة وذهاب النور : بأنها في الدنيا، وفسرت بأنها في بالبرزخ وفسرت بيوم القيامة. والصواب : أن ذلك شأنهم في الدور الثلاثة، فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جوزوا في البرزخ وفي القيامة بمثل حالهم. جزاء وفاقا ﴿ وما ربك بظلام للعبيد ﴾ [ فصلت : ٤٦ ] فإن المعاد يعود على العبد فيه ما كان حاصلا له في الدنيا. ولهذا يسمى يوم الجزاء ﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ﴾ [ الإسراء : ٧٢ ] ﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ﴾ [ مريم : ٧٦ ].
ومن كان مستوحشا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ يوم المعاد أعظم وأشد. ومن قرت عينه به في هذه الحياة الدنيا قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث، فيموت العبد على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه. ويعود عليه عمله بعينه، فينعم به ظاهرا وباطنا، فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم، وقوة القلب واستبشاره وحياته وانشراحه - ما هو أفضل النعيم، وأجله وأطيبه وألذه، وهل النعيم إلا طيب النفس، وفرح القلب وسروره وانشراحه، واستبشاره ؟
هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه، وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين، ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه، وبلوغه مرتبة الإحسان فيه وبحسب تنوعه، فمن تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار تنوعت الأقسام ا
فتأمل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه، وعظمته وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة، وقدر ما بشرك به، وضمنه لك، على أسهل شيء عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات، وما فيها من الأنهار والثمار، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد، وعدم انقطاعه.
والأزواج : جمع «زوج ». والمرأة زوج للرجل، وهو زوجها هذا هو الأفصح وهو لغة قريش. وبها نزل القرآن كقوله :﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ [ البقرة : ٣٥ ] ومن العرب من يقول : زوجة، وهو نادر، لا يكادون يقولونه.
وأما «المطهرة » : فإن جرت صفة على الواحد، فيجرى صفة على جمع التكثير إجراء له مجرى جماعة، كقوله تعالى :﴿ مساكن طيبة ﴾ [ الصف : ١٢ ] وقولهم : وقوًى ظاهرة، ونظائره.
و«المطهرة » : من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر، وكل أذى يكون من نساء الدنيا، فظهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة، والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها، وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ. قال عبد الله بن المبارك : ثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ لهم فيها أزواج مطهرة ﴾ من القذر، وقال «من الحيض والغائط والنخامة والبصاق »، وقال عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عليه «مطهرة : لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنجسن »، وقال ابن عباس أيضا :«مطهرة من القذر والأذى، لا يبلن، ولا يتغوطن، ولا يمذين، ولا يمنين، ولا يحضن، ولا يبصقن، ولا يتنخمن ولا يلدن ».
وقال قتادة :«مطهرة من الإثم والأذى، طهرهن الله سبحانه من كل بول وغائط وقذر ومأثم »، وقال عبد الرحمن بن زيد :«المطهرة : التي لا تحيض، وأزواج الدنيا لسن بمطهرات، ألا تراهن يدمين، ويتركن الصلاة والصيام ؟ قال : وكذلك خلقت حواء، حتى عصت، فلما عصت قال الله لها : إني خلقتك، مطهرة وسأدميك كما دميت هذه الشجرة ».
فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة. فلما أمرهم بالسجود ظهر ما في قلوب الملائكة من الطاعة والمحبة، والخشية والانقياد، فبادروا إلى الامتثال، وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والحسد فأبى واستكبر وكان من الكافرين.

فصل


وأما الأزواج «فجمع » زوج وقد يقال «زوجة ». والأول أفصح وبها جاء القرآن.
قال تعالى لآدم :﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ [ البقرة : ٣٥ ] وقال تعالى في حق زكريا عليه السلام ﴿ وأصلحنا له زوجه ﴾ [ الأنبياء : ٩٠ ].
ومن الثاني : قول ابن عباس رضي الله عنهما في عائشة رضي الله عنها «إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ».
وقال الفرزدق :
وإن الذي يبغي ليفسد زوجتي كساع إلى أُسْدِ الشَّرَى يستبينها
وقد يجمع على «زوجات ». وهذا إنما هو جمع «زوجة »، وإلا فجمع زوج : أزواج،
قال تعالى :﴿ هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون ﴾ [ يس : ٥٦ ]، وقال تعالى :﴿ أنتم وأزواجكم تحبرون ﴾ [ الزخرف : ٧٠ ] وقد وقع في القرآن الإخبار عن أهل الإيمان بلفظ الزوج، مفردا وجمعا كما تقدم، قال تعالى :﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ﴾ [ الأحزاب : ٦ ]، وقال تعالى :﴿ يا أيها النبي قل لأزواجك ﴾ [ الأحزاب : ٥٩ ]، والإخبار عن أهل الشرك بلفظ المرأة قال تعالى :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ﴾ إلى قوله :﴿ وامرأته حمالة الحطب * في جيدها ﴾ [ المسد : ٤. ١ ] وقال تعالى في فرعون :﴿ ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة لوط ﴾ [ التحريم : ١٠ ] وقال تعالى :﴿ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ﴾ [ التحريم : ١٠ ] فلما كان هو المشرك وهي مؤمنة لم يسمها زوجا له، فلما كانتا مشركتين أوقع عليهما اسم المرأة وقال في
وقال في حق آدم :﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ [ البقرة : ٣٥ ] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ إنا أحللنا لك أزواجك ﴾ [ الأحزاب : ٥٠ ] وقال في حق المؤمنين :﴿ ولهم فيها أزواج مطهرة ﴾ [ البقرة : ٢٥ ].
فقالت طائفة منهم السهيلي وغيره : إنما لم يقل في حق هؤلاء الأزواج لأنهن لسن بأزواج لرجالهم في الآخرة. ولأن التزويج حلية شرعية، وهو من أمر الدين، فجرد الكافرة منه، كما جرد منها امرأة نوح وامرأة لوط.
ثم أورد السهيلي على نفسه قول زكريا عليه السلام :﴿ وكانت امرأتي عاقرا ﴾ [ مريم : ٥ ] وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام :﴿ فأقبلت امرأته في صرة ﴾ [ الذاريات : ٢٩ ]. وأجاب : بأن ذكر المرأة أليق في هذه المواضع، لأنه في سياق ذكر الحمل والولادة، فذكر المرأة أولى به، لأن الصفة التي هي الأنوثة هي المقتضية للحمل والوضع، لا من حيث كانت زوجا.
قلت : ولو قيل : إن السر في ذكر المؤمنين ونسائهم بلفظ الأزواج أن هذا اللفظ مشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران، كما هو المفهوم من لفظه : لكان أولى. فإن الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان، أو المتساويان ومنه قوله تعالى :﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ﴾ [ الصافات : ٢٢ ] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :«أزواجهم : أشباههم ونظراؤهم » وقاله الإمام أحمد أيضا. ومنه قوله تعالى :﴿ وإذا النفوس زوجت ﴾ [ التكوير : ٧ ] أي قرن بين كل شكل وشكله في النعيم والعذاب. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الآية :«الصالح مع الصالح في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار »، وقاله الحسن وقتادة والأكثرون وقيل : زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين. وهو راجع إلى القول الأول. قال تعالى :﴿ ثمانية أزواج ﴾ [ الأنعام : ١٤٣ ] ثم فسرها بقوله :( من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين - ومن البقر اثنين ومن الإبل اثنين ) فجعل الزوجين هما الفردان من نوع واحد. ومنه قولهم «زوجا خف، وزوجا حمام » ونحوه. ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى قطع المشابهة والمشاكلة بين الكافر والمؤمنين، قال تعالى :﴿ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ﴾ [ الحشر : ٢٠ ] وقال تعالى في حق مؤمني أهل الكتاب وكافرهم :﴿ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ﴾ الآية [ آل عمران : ١١٣ ] وقطع سبحانه المقارنة بينهما في أحكام الدنيا، فلا يتوارثان ولا يتناكحان، ولا يتولى أحدهما صاحبه فكما انقطعت الوصلة بينهما في المعنى انقطعت في الاسم. فأضاف فيها المرأة بلفظ الأنوثة المجرد، دون لفظ المشاكلة والمشابهة.
فتأمل هذا المعنى تجده أشد مطابقة لألفاظ القرآن ومعانيه ولهذا وقع على المسلمة امرأة الكافر، وعلى الكافرة امرأة المؤمن : لفظ المرأة دون لفظ الزوجة تحقيقا لهذا المعنى، والله أعلم.
وهذا أولى من قول من قال : إنما سمى صاحبة أبي لهب ﴿ امرأته ﴾ ولم يقل لها «زوجته » لأن أنكحة الكفار لا يثبت لها حكم الصحة، بخلاف أنكحة أهل الإسلام.
فإن هذا باطل بإطلاقه اسم المرأة على امرأة نوح وامرأة لوط، مع صحة ذلك النكاح.
وتأمل في هذا المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث بلفظ الزوجة دون المرأة كما في قوله تعالى :﴿ ولكم نصف ما ترك أزواجكم ﴾ [ النساء : ١٢ ] إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب. فلا يقع بينهما التوارث.
وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين.
وقد ظن الزمخشري أن قوله :﴿ اهبطوا منها جميعا ﴾ خطاب لآدم وحواء خاصة، وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما. قال : والدليل عليه قوله تعالى :﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ﴾ [ طه : ١٢٣ ] قال : ويدل على ذلك قوله :﴿ فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ [ البقرة ٣٩. ٣٨ ] وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم.
ومعنى قوله :﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم بعضا.
وهذا الذي اختاره أضعف الأقوال في الآية. فإن العداوة التي ذكرها الله تعالى إنما هي بين آدم وإبليس وذريتهما، كما قال الله تعالى :﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ﴾ [ فاطر : ٦ ]، وهو سبحانه قد أكد أمر العداوة بين الشيطان والإنسان، وأعاد وأبدى ذكرها في القرآن لشدة الحاجة إلى التحرز من هذا العدو، وأما آدم وزوجته فإنه إنما أخبر في كتابه أنه خلقها ليسكن إليها وجعل بينهما مودة ورحمة. فالمودة والرحمة بين الرجل وامرأته والعداوة بين الإنسان والشيطان. وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس، وهو ثلاثة، فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور، مع منافرته لطريق الكلام دون جميعه ؟ مع أن اللفظ والمعنى يقتضيه فلم يصنع الزمخشري شيئا.
وأما قوله تعالى في سورة طه :﴿ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ﴾ [ طه : ١٢٣ ] وهذا خطاب لآدم وحواء. وقد جعل بعضهم لبعض عدوا، فالضمير في قوله ( اهبطا منها ) إما أن يرجع إلى آدم وزوجته، أو إلى آدم وإبليس، ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له.
وعلى هذا فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالإهباط، وهما آدم وإبليس فالأمر ظاهر.
وأما على الأول – وهو رجوعه لآدم وزوجه - فتكون الآية قد اشتملت على أمرين :
أحدهما : أمره تعالى لآدم عليه السلام وزوجه بالهبوط.
والثاني : إخباره بالعداوة بين آدم وزوجه، وبين إبليس. ولهذا أتى الضمير الجمع في الثاني، دون الأول. ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى :﴿ إن هذا عدو لك ولزوجك ﴾ [ طه : ١١٧ ] وقال لذريته :﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ﴾ [ فاطر : ٦ ].
وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع، دون التثنية.
وأما الإهباط : فتارة يذكره بلفظ الجمع، وتارة بلفظ التثنية. وتارة بلفظ الإفراد، كقوله في سورة الأعراف :﴿ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ﴾ [ الأعراف : ٢٤ ] وكذلك في سورة ص، وهذا لإبليس وحده.
وحيث ورد بصيغة الجمع، فهو لآدم وزوجه وإبليس، إذ مدار القصة عليهم. وحيث ورد بلفظ التثنية، فأما أن يكون لآدم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية. وإما أن يكون لآدم وإبليس، إذ هما أبوا الثقلين، وأصلا الذرية، فذكر حالهما ومآل أمرهما، ليكون عظة وعبرة لأولادهما. وقد حكيت القولين في ذلك.
والذي يوضح أن الضمير في قوله :﴿ اهبطا منها جميعا ﴾ [ طه : ١٢٣ ] لآدم وإبليس : إن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم، دون زوجه. فقال :﴿ وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا ﴾ [ طه : ١٢٣. ١٢١ ] وهذا يدل على أن المخاطب بالإهباط هو آدم وإبليس الذي زين له المعصية. ودخلت الزوجة تبعا. فإن المقصود إخبار الله تعالى الثقلين بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر، فذكر أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط، وقد أخبر سبحانه عن الزوجة بأنها أكلت مع آدم، وأخبر أنه أهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة. فعلم أن حكم الزوجة كذلك، وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم، وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريدها إلى ذكر أبي الإنس وأمهم، فتأمله.
وبالجملة : فقوله :﴿ اهبطوا بعضكم لبعض عدو ﴾ ظاهر في الجمع، فلا يسوغ حمله على الاثنين في قوله :﴿ اهبطا ﴾ من غير موجب.
وقد اختلف في معنى قولهم :﴿ قلوبنا غلف ﴾.
فقالت طائفة : المعنى قلوبنا أوعية للحكمة والعلم. فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به ؟ أو لا تحتاج إليك ؟ وعلى هذا فيكون ( غلف ) جمع غلاف.
والصحيح : قول أكثر المفسرين : أن المعنى قلوبنا لا تفقه، ولا تفهم ما تقول. وعلى هذا فهو جمع أغلف، كأحمر وحمر، وقال أبو عبيدة : كل شيء في غلاف فهو أغلف، كما يقال :«سيف أغلف »، و«قوس أغلف »، و«رجل أغلف »، غير مختون، وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة : على قلوبنا غشاوة، فهي في أوعية، فلا تعي ولا تفقه ما تقول.
وهذا هو الصواب في معنى الآية لتكرر نظائره في القرآن. كقولهم :﴿ قلوبنا في أكنة ﴾ [ فصلت : ٥ ] وقوله تعالى :﴿ كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ﴾ [ الكهف : ١٠١ ] ونظائر ذلك.
وأما قول من قال : هي أوعية للحكمة، فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة. وليس له في القرآن نظير يحمل عليه، ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة، فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل : قلبي غلاف، وقلوب المؤمنين العالمين غلف، أي أوعية للعلم.
والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء، فلا يلزم من كون القلب غلافا أن يكون داخله العلم والحكمة. وهذا ظاهر جدا.
فإن قيل : فالإضراب ب ( بل ) على هذا القول الذي قويتموه، ما معناه ؟
وأما على القول الآخر فظاهر، أي ليست قلوبكم محلا للعلم والحكمة، بل مطبوع عليها.
قيل : وجه الإضراب في غاية الظهور. وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفته، بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه. فكيف تقوم به عليه الحجة ؟ وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف، فهم معذورون في عدم الإيمان، فأكذبهم الله وقال :﴿ بل لعنهم الله بكفرهم ﴾ وفي الآية الأخرى ﴿ بل طبع الله عليها بكفرهم ﴾ [ النساء : ١٥٥ ] فاخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم، وآثروه على الإيمان، فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة.
والمعنى : لم نخلق قلوبهم غلفا لا تعي ولا تفقه، ثم أمرهم بالإيمان، وهم لا يفقهونه، بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها.
هذه الآية فيها للناس كلام معروف.
قالوا : إنها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، أعجز بها اليهود، ودعاهم إلى تمني الموت، وأخبر أنهم لا يتمنونه أبدا. وهذا علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بإخبار عالم الغيب، ولن ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا.
وقالت طائفة : لما ادعت اليهود أن لهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس، وأنهم أبناؤه وأحباؤه وأهل كرامته، كذبهم الله في دعواهم. وقال : إن كنتم صادقين فتمنوا الموت. لتصلوا إلى الجنة دار النعيم. فإن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه.
ثم أخبر سبحانه أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الأوزار والذنوب الحائلة بينهم وبين ما قالوه. فقال :﴿ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ﴾.
وقالت طائفة - منهم محمد بن إسحاق وغيره - : هذه من جنس آية المباهلة وأنهم لما عاندوا، ودفعوا الهدى عيانا، وكتموا الحق دعاهم إلى أمر يحكم بينهم وبينه. وهو أن يدعوا بالموت على الكاذب المفتري. والتمني : سؤال ودعاء، فتمنوا الموت : أي سلوه، وادعوا به على المبطل الكاذب المفترى.
وعلى هذا : فليس المراد تمنوه لأنفسكم خاصة - كما قاله أصحاب القولين الأولين - بل ادعوا بالموت وتمنوه للمبطل. وهذا أبلغ في إقامة الحجة، وبرهان الصدق، وأسلم من أن يعارضوا رسول الله بقولهم : فتمنوه أنتم أيضا إن كنتم محقين في دعواكم : أنكم أهل الجنة، لتقدموا على ثواب الله وكرامته، كانوا أحرص شيء على معارضته. فلو فهموا منه ما ذكره أولئك لعارضوه بمثله.
وأيضا فإنا نشاهد كثيرا منهم يتمنى الموت لفقره وبلائه، وشدة حاله، ويدعو به، وهذا بخلاف تمنيه والدعاء به على الفرقة الكاذبة. فإن هذا لا يكون أبدا، ولا وقع من أحد منهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم البتة. وذلك لعلمهم بصحة نبوته وصدقه، وكفرهم به حسدا وبغيا، فلا يتمنوه أبدا، لعلمهم أنهم هم الكاذبون وهذا القول هو الذي نختاره. والله أعلم بما أراد من كتابه.
تفسير قوله تعالى :﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ﴾ وليس له مثل.
والجواب من أوجه :
الأول : أن المراد به التبكيت، والمعنى : حصلوا دينا آخر مثله، وهو لا يمكن.
الثاني : أن كلمة ( المثل ) صلة.
الثالث : أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف ولا تحريف. فإن آمنوا بالتوراة من غير تصحيف ولا تحريف فقد اهتدوا.
الرابع : أن المراد إن آمنوا بمثل ما صرتم به مؤمنين.
روى ابن جرير أن ابن عباس قال : قولوا فإن آمنوا بالله فإن آمنوا بالذي آمنتم به. قال عبد الجبار : ولا يجوز ترك القراءة المتواترة.
تفسير قول الله تعالى ذكره :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ﴾.
أخبر تعالى : أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى، فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا فهذا ند في المحبة، لا في الخلق والربوبية. فإن أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند. بخلاف ند المحبة. فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم.
ثم قال :﴿ والذين آمنوا أشد حبا لله ﴾ وفي تقدير الآية قولان :
أحدهما : والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم، وآلهتهم التي يحبونها، ويعظمونها من دون الله.
والثاني : والذين آمنوا أشد حبا لله من محبة المشركين بالأنداد لله. فإن محبة المؤمنين خالصة ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها. والمحبة الخالصة أشد من المحبة المشركة.
والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى :﴿ يحبونهم كحب الله ﴾ فإن فيها قولان :
أحدهما : يحبونهم كما يحبون الله. فيكون قد أثبت لهم محبة الله : ولكنها محبة يشركون فيها مع الله أندادا.
والثاني : أن المعنى يحبون أندادهم، كما يحب المؤمنون الله، ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يرجح القول الأول، ويقول : إنما ذموا بأن أشركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله، كمحبة المؤمنين له.
وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم - وهم في النار – لأنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم، وهي محضرة معهم في العذاب :﴿ تالله إن كنا لفي ضلال مبين - إذ نسويكم برب العالمين ﴾ [ الشعراء : ٩٨. ٩٧ ] ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم.
هذا حال قلب المؤمن : توحيد الله وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم مكتوبان فيه، لا يتطرق إليهما محو ولا إزالة، ولما كانت كثرة ذكر الشيء موجبة لدوام محبته، ونسيانه سببا لزوال محبته أو ضعفها. وكان الله سبحانه هو المستحق من عبادة نهاية الحب مع نهاية التعظيم، بل الشرك الذي لا يغفره الله لعبده : هو أن يشرك به في الحب والتعظيم، فيحب غيره ويعظم من المخلوقات غيره كما يحب الله تعالى ويعظمه قال تعالى :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا اشد حبا لله ﴾ [ البقرة : ١٦٥ ] فأخبر سبحانه أن المشرك يحب الند كما يحب الله تعالى، وان المؤمن اشد حبا لله من كل شيء. وقال أهل النار في النار :﴿ تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين ﴾ [ الشعراء : ٩٨. ٩٧ ].
ومن المعلوم : أنهم إنما سووهم به سبحانه في الحب والتأله والعبادة، وألا فلم يقل أحد قط : أن الصنم أو غيره من الأنداد مساو لرب العالمين في صفاته وفي أفعاله، وفي خلق السماوات والأرض، وفي خلق عباده أيضا. وإنما كانت السوية في المحبة والعبادة.
وأضل من هؤلاء وأسوأ حالا من سوى كل شيء بالله سبحانه في الوجود، وجعله وجود كل موجود، كامل أو ناقص. فإذا كان الله قد حكم بالضلال والشقاء لمن سوى بينه وبين الأصنام في الحب، مع اعتقاد تفاوت ما بين الله وبين خلقه في الذات والصفات والأوصاف والأفعال، فكيف بمن سوّى الله بالموجودات في جميع ذلك، بل كيف بمن جعل ربه كل هذه الموجودات ؟ وزعم أن ما عبد حجرا أو شجرا، أو حيوانا فما عبد غير الله في كل معبود.
تضمن هذا المثل : ناعقا، أي مصوتا بالغنم وغيرها، ومنعوقا به، وهو الدواب.
فقيل : الناعق العابد، وهو الداعي للصنم والصنم : هو المنعوق به المدعو، وأن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه. هذا قول طائفة، منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره.
واستشكل صاحب الكشاف وجماعة معه هذا القول وقالوا قوله :﴿ إلا دعاء ونداء ﴾ لا يساعد عليه. لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء.
وقد أجيب عن هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة :
أحدها : أن ( إلا ) زائدة والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء.
قالوا : وقد ذكر ذلك الأصمعي في قول الشاعر :
حراجيح ما تنفك إلا مناخة ***. . .
أي ما تنفك مناخة. وهذا جواب فاسد. فإن ( إلا ) لا تزاد في الكلام المثبت.
الجواب الثاني : أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء، لا في خصوصيات المدعو.
الجواب الثالث : أن المعنى : أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه هو في دعاء ونداء. وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته وليه الميت إلا العناء.
وقيل : المعنى : ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت، فالراعي هو داعي الكفار، والكفار هم البهائم المنعوق بها.
قال سيبويه : المعنى : ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به.
وعلى قوله : فيكون المعنى : ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها
ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب، وأن تجعله من التشبيه المفرق.
فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار - في عدم فقههم وانتفاعهم - بالغنم التي ينعق بها الراعي، فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد، الذي هو الدعاء والنداء.
وإن جعلته من التشبيه المفرق، فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة البهائم التي ينعق بها ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق، وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق.
وفي ضمن هذا الخطاب : ما هو كالجواب لسؤال مقدر، أن في إعدام هذه البنية الشريفة، وإيلام هذه النفس وإعدامها في عدم مقابلة إعدام المقتول تكثير لمفسدة القتل، فلأية حكمة صدر هذا ممن وسعت رحمته كل شيء، وبهرت حكمته العقول ؟ فتضمن الخطاب جواب ذلك بقوله تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾.
وذلك لأن القاتل إذا توهم أنه يقتل قصاصا بمن قتله كفّ عن القتل وارتدع، وآثر حب حياته ونفسه، فكان فيه حياة له ولمن أراد قتله.
ومن وجه آخر : وهو أنهم كانوا إذا قتل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم قتلوا به كل من وجدوه من عشيرة القاتل وحيه وقبيلته. وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما يعم ضرره، وتشتد مؤنته، فشرع الله تعالى القصاص، وأن لا يقتل بالمقتول غير قاتله، ففي ذلك حياة عشيرته وحيه وأقاربه، ولم تكن الحياة في القصاص من حيث إنه قتل، بل من حيث كونه قصاصا، يؤخذ القاتل وحده بالمقتول لا غيره، فتضمن القصاص الحياة في الوجهين.
وتأمل ما تحت هذه الألفاظ الشريفة من الجلالة والإيجاز. والبلاغة والفصاحة، والمعنى العظيم.
فصدر الآية بقوله :﴿ ولكم ﴾ المؤذن بأن منفعة القصاص مختصة بكم، عائدة إليكم، فشرعه إنما كان رحمة بكم، وإحسانا إليكم، فمنفعته ومصلحته لكم، لا لمن لا يبلغ العباد ضره ونفعه.
ثم عقبه بقوله :﴿ في القصاص ﴾ إيذانا بأن الحياة الحاصلة إنما هي في العدل، وهو أن يفعل به كما فعل بالمقتول.
و«القصاص » في اللغة : المماثلة، وحقيقته راجعة إلى الإتباع، ومنه قوله تعالى :﴿ وقالت لأخته قصيه ﴾ [ القصص : ١١ ] أي اتبعي أثره. ومنه قوله :﴿ فارتدا على آثارهما قصصا ﴾ [ الكهف : ٦٤ ] أي يقصان الأثر ويتبعانه.
ومنه :«قص الحديث » و«اقتصاصه » ؛ لأنه يتبع بعضه بعضا في الذكر، فسمى جزاء الجاني قصاصا، لأنه يتبع أثره، فيفعل به كما فعل، وهذا أحد ما يستدل به على أن يفعل بالجاني كما فعل، فيقتل بمثل ما قتل به، لتحقيق معنى القصاص.
روى شعبة عن الحكم عن مجاهد قال : هو الولد، وقاله الحكم، وعكرمة، والحسن البصري، والسدي، والضحاك.
وأرفع ما فيه : ما رواه محمد بن سعد عن أبيه حدثني عمي عن أبيه حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :«هو الولد ».
وقال ابن زيد : هو الجماع. وقال قتادة : ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما رواية أخرى : قال : ليلة القدر.
والتحقيق أن يقال : لما خفف الله عن الأمة بإباحة الجماع ليلة الصوم إلى طلوع الفجر، وكان المجامع يغلب عليه حكم الشهوة وقضاء الوطر، حتى لا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك، أرشدهم سبحانه إلى أن يطلبوا رضاه في مثل هذه اللذة. ولا يباشروهن بحكم مجرد الشهوة، بل يبتغوا بها ما كتب الله لهم من الأجر والولد الذي يخرج من أصلابهم يعبد الله لا يشرك به شيئا، ويبتغوا ما أباح الله لهم من الرخصة بحكم محبته لقبول رخصه. فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته. ومما كتب الله لهم : ليلة القدر، فأمروا أن يبتغوها.
لكن يبقى أن يقال : فما تعلق ذلك بإباحة مباشرة أزواجهم ؟
فيقال : فيه إرشاد إلى أن لا يشغلهم ما أبيح لهم من المباشرة عن طلب هذه الليلة التي هي خير من ألف شهر. فكأنه سبحانه يقول : اقضوا وطركم من نساءكم ليلة الصيام، ولا يشغلكم ذلك عن ابتغاء ما كتب الله لكم من هذه الليلة التي فضلكم الله بها. والله أعلم.
في هذه الآية عدة حكم وأسرار، ومصالح للعبد. فان العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة، لعدم علمه بالعواقب. فإن الله يعلم منها مالا يعلمه العبد ؛ وأوجب ذلك للعبد أمورا :
منها : أنه لا انفع له من امتثال أمر ربه وإن شق عليه في الابتداء. لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات، ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه، فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهى، وان هويته نفسه، ومالت إليه. وأن عواقبه كلها آلام وأحزان، وشرور ومصائب.
وخاصة العاقل : تحمل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة، والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل.
فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها، والعاقل الكيس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مبادئها. فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة. فيرى المناهى كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل. فكلما دعنه لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من السم. ويرى الأوامر كدواء مر المذاق مفض إلى العافية والشفاء، وكلما نهاه مرارة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول، ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم، تدرك به الغايات من مبادئها، وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق، لما يؤمل عند الغاية من حسن العاقبة. فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك. وإذا قوى يقينه وصبره هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة.
ومن أسرار هذه الآية : أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له ويقضيه له، لما يرجو فيه من حسن العاقبة.
ومنها : أنه لا يقترح على ربه، ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم. فلعل مضرته وهلاكه فيه. وهولا يعلم. فلا يختار على ربه شيئا، بل يسأله حسن الاختيار له، وأن يرضيه بما يختاره. فلا أنفع له من ذلك.
ومنها : أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له بالقوة عليه، والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه. وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
ومنها : أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات، التي يصعد منه في عقبة، وينزل في أخرى. ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه، مع اختياره لنفسه.
ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه اللطف به. فيصير بين عطفه ولطفه. فعطفه يقيه ما يحذره. ولطفه يهون عليه ما قدره.
إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه : تحيله في رده. فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميت. فان السبع لا يرضى أن يأكل الجيف.
فختم حكم الفيء، الذي هو الرجوع والعود إلى رضى الزوجة، والإحسان إليها : بأنه غفور رحيم، يعود على عبده بمغفرته ورحمته، إذا رجع إليه. والجزاء من جنس العمل. فكما رجع العبد إلى التي هي أحسن، رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة.
﴿ وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ﴾ فإن الطلاق لما كان لفظا يسمع، ومعنى يقصد، عقبه باسم ( السميع ) لما نطق به ( العليم ) بمضمونه.
لما ذكر سبحانه وتعالى التعريض بخطبة المرأة الدال على أن المعرض في قلبه رغبة فيها ومحبة لها، وأن ذلك يحمله على الكلام الذي يتوصل به إلى نكاحها، ورفع الجناح عن التعريض، وانطواء القلب على ما فيه من الميل والمحبة. ونفى مواعدتهن سرا.
فقيل : هو النكاح. والمعنى لا تصرحوا لهن بالتزويج، إلا أن تعرضوا تعريضا. وهو القول المعروف.
وقيل : هو أن يتزوجها في عدتها سرا. فإذا انقضت العدة أظهر العقد ويدل على هذا قوله :﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ﴾ وهو انقضاء العدة. ومن رجح القول الأول قال : دلت الآية على إباحة التعريض بنفي الجناح، وتحريم التصريح بنفي المواعدة سرا، وتحريم عقد النكاح قبل انقضاء العدة. فلو كان معنى مواعدة السر : هو إسرار العقد. كان تكرارا.
ثم عقب ذلك بقوله :﴿ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ﴾ أن تتعدوا ما حد لكم. فإنه مطلع على ما تسرون وما تعلنون.
ثم قال :﴿ واعلموا أن الله غفور حليم ﴾ لولا مغفرته وحلمه لعنتم غاية العنت، فإنه سبحانه مطلع عليكم، يعلم ما في قلوبكم، ويعلم ما تعملون، فإن وقعتم في شيء مما نهاكم عنه فبادروا إليه بالتوبة والاستغفار. فإنه الغفور الحليم.
تفسير قول الله تعالى :
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون ﴾ وقوله :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ﴾ [ الحديد : ١١ ].
صدر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب، وهو الاستفهام المتضمن لمعنى الطلب، وهو أبلغ في الطلب من صيغة الأمر.
والمعنى : هل [ من ] أحد يبذل هذا القرض الحسن، فيجازى عليه أضعافا مضاعفة ؟ وسمى ذلك الإنفاق قرضا حسنا حثا للنفوس، وبعثا لها على البذل. لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوعت له نفسه بذله، وسهل عليه إخراجه. فإن علم أن المستقرض مليء وفي محسن، كان أبلغ في طيب فعله وسماحة نفسه.
فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه، وينميه له ويُثمره حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح.
فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجرا آخر من غير جنس القرض، فإن ذلك الأجر حظ عظيم، وعطاء كريم، فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشح، أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه، ولهذا كانت الصدقة برهانا لصاحبها.
وهذه الأمور كلها تحت هذه الألفاظ التي تضمنتها الآية، فإنه سبحانه وتعالى سماه قرضا وأخبر أنه هو المقترض لا قرض حاجة، ولكن قرض إحسان إلى المقرض واستدعاء لمعاملته، وليعرف مقدار الربح، فهو الذي أعطاه ماله واستدعى منه معاملته به.
ثم أخبر عما يرجع إليه بالقرض، وهو الأضعاف المضاعفة.
ثم أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة، وهو الأجر الكريم.
[ شروط الصدقة المقبولة ]
وحيث جاء هذا القرض في القرآن قيده بكونه حسنا. وذلك يجمع أمورا ثلاثة.
أحدها : أن يكون من طيب ماله، لا من رديئه وخبيثه.
الثاني : أن يخرجه طيبة به نفسه، ثابتة عند بذله، ابتغاء مرضاة الله.
الثالث : أن لا يمن به ولا يؤذي.
فالأول يتعلق بالمال. والثاني يتعلق بالمنفق بينه وبين الله. والثالث بينه وبين الآخذ.
شبه الله سبحانه نفقة المنفق في سبيله – سوء كان المراد به الجهاد أو جميع سبل الخير، من كل – بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة حبة. والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك، بحسب حال المنفق وأيمانه وإخلاصه وإحسانه، ونفع نفقته وقدرها. ووقوعها موقعها.
فإن ثوات الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من اليمان والإخلاص، والتثبيت عند النفقة، وإخراج المال بقلت ثابت، قد انشرح صدره بإخراجه، وسمحت به نفسه، وخرج من قلبه قبل خروجه من يده، فهو ثابت القلب عند إخراجه، غير ولا هلع، ولا مُتْبِعُهُ نفسه، ترجف يده وفؤاده.
ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق بحسب مصادفته لموقعه، وبحسب طيب المنفق وزكائه.
وتحت هذا المثل من الفقه : أنه سبحانه شبه الإنفاق بالبذر، فالمنفق ماله الطيب لله، لا لغيره، باذر ماله في أرض زكية، فملغلُّه بحسب بذره، وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقى، ونفى الدغل، والنبات الغريب عنه، فإذا اجتمعت هده الأمور ولم يحرق الزرع نار، ولا لحقته جائحة جاء أمثال الجبال، وكان مثله كمثل جنة بربوة. وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنة فيه نصب الشمس والرياح فتربى الأشجار هناك أتم تربية. فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر، متتابع، فرواها ونماها. فأتت أكلها ضعفى ما يؤتيه غيرها، لسبب ذلك الوابل فإن لم يصبها وابل فطل، أي مطر صغير القطر يكفيها، لكرم منبتها، تزكو على الطل، وتنمو عليه، مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل، فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا، ومنهم من يكون إنفاقه طلا، والله لا يضيع مثقال ذرة.
فإن عرض لهذا العامل ما يحرق أعماله، ويبطل حسناته، كان بمنزلة رجل له ﴿ جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ﴾ [ التقرة : ٢٦٦ ] فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور، وجد هذا العامل عمله قد أصابه ما أصال صاحب هذه الجنة. فحسرته حينئذ أضد من حسرة هذا على جنته.
فهذا مثل ضربه الله سبحانه للحسرة بسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها، مع عظم قدرها ومنفعتها. والذي ذهب عنه قد أصابه الكبر والضعف، فهو أحوج ما كان إلى نعمته. ومع هذا فله ذرية ضعفاء، لا يقدرون على نفقته. والقيام بمصالحه بل هم في عياله، فحاجته إلى جنته أضد ما كانت لضعفه وضعف ذريته. فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر، وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها، وهو ثمر النخيل والأعناب، فمغله يقوم بكفايته وكفاية ذريته، فأصبح يوما وقد وجده محترقاً كله كالصريم. فأي حسرة أعظم من حسرته ؟
قال ابن عباس رضي الله عنه : هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره. وقال مجاهد : هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت. وقال السدي : هذا مثل المرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله، ينقطع عنه أحوج ما يكون إليه.
وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال : قولوا : نعلم أو لا نعلو. فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال : قل يا ابن أخي، ولا تحقر نفسك. قال : ضرب مثلا لعمل. قال : لأي عمل ؟ قال : لرجل غني يعمل بالحسنات، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها.
قال الحسن : هذا مثل، قل والله من يعقله من الناس : شيخ كبير ضعف جسمه، زكثر صبيانه، فقد جنته أحوج ما كان إليها، وإن أحدكم والله لأفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.

فصل


فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن والأذى والرياء. فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب، والمن والأذى : يبطل الثواب التي سببا له فمثل صاحبها، وبطلان عمله ﴿ كمثل صفوان ﴾ وهو الحجر الأملس عليه تراب ﴿ فأصابه وابل ﴾ وهو المطر الشديد ﴿ فتركه صلدا ﴾ لا شيء عليه.
وتأمل أجزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء المثل به، تعرف عمة القرآن وجلالته.
فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي المان والمؤذي. فقلبه في قسوة عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر.
والعمل الذي عمله لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر. فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من النبات والثبات عند نزول الوابل. فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ.
وكذلك المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي، والقضاء والقدر. فإذا نزل عليه وابل الوحي تكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه : فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه. وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه، أحوج ما كان إليه وبالله التوفيق.
وهذه الآية كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرض، ومثل سبحانه بهذا المثل إحضارا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التي غيبت في الأرض فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي من الحبة الواحدة فينضاف الشاهد العياني إلى الشاهد الإيماني القرآني فيقوى إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق.
وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه الآية على «سنابل »، وهي من جموع الكثرة إذ المقام مقام تكثير وتضعيف وجمعها على «سنبلات » في قوله تعالى :﴿ وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ﴾ [ يوسف : ٤٣ ]. فجاء بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير.
وقوله تعالى :﴿ والله يضاعف لمن يشاء ﴾.
قيل المعنى : والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاءا، لا لكل منفق، بل يختص برحمته من يشاء وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه ولصفات المنفق وأحواله، في شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع.
وقيل :﴿ والله يضاعف لمن يشاء ﴾ فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة.
واختلف في تفسير الآية.
فقيل : مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة.
وقيل : مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة، ليطابق الممثل للممثل به.
فهاهنا أربعة أمور :( منفق، ونفقة، وباذر، وبذر )، فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه فذكر من شق الممثل «المنفق »، إذ المقصود ذكر حاله وشأنه وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها، وذكر من شق الممثل به «البذر » إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة، وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره، فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان.
وهذا كثير في أمثال القرآن، بل عامتها ترد على هذا النمط.
ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها وهما «الواسع » و«العليم » فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة ولا يضيق عنها عطنه فإن المضاعف ( سبحانه ) واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل، ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها، فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه.
هذا بيان للقرض الحسن ما هو ؟ وهو أن يكون في سبيله سبحانه، أي : في مرضاته، والطريق الموصلة إليه، ومن أنفعها : سبيل الجهاد.
وسبيل الله خاص وعام، والخاص جزء من السبيل العام، وأن لا يتبع صدقته بمن ولا أذى.
[ أنواع المن ]
فالمن نوعان :
أحدهما : من بقلبه من غير أن يصرح به بلسانه وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان شهود منة الله عليه في عطائه المال وحرمان غيره وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه فلله المنة عليه من كل وجه. فكيف يشهد قلبه منة لغيره ؟
والنوع الثاني : أن يمن عليه بلسانه فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه، وأنه أوجب عليه حقا وطوقه منة في عنقه فيقول : أما أعطيتك كذا وكذا ؟ ويعدد أياديه عنده.
قال سفيان : يقول : أعطيتك فما شكرت.
وقال عبد الرحمن بن زياد : كان أبي يقول : إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه، وكانوا يقولون : إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها، وإذا أسدى إليكم صنيعة فلا تنسوها، وفي ذلك قيل :
وإن امرأ أهدى إلي صنيعة *** وذكرنيها مرة لبخيل
وقيل : صنوان : من منح سائله ومن، ومن منع نائله وضن.
وحظر الله على عباده المن بالصنيعة واختص به صفة لنفسه لأنه من العباد تكدير وتعيير، ومن الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير.
وأيضا : فإنه هو المنعم في نفس الأمر، والعباد وسائط فهو المنعم على عبده في الحقيقة، وأيضا فالامتنان استعباد، وكسر، وإذلال لمن يمن عليه ولا تصلح العبودية والذل إلا لله.
وأيضا : فالمنة أن يشهد المعطي أنه هو رب الفضل، والإنعام، وأنه ولي النعمة، ومسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا الله.
وأيضا : فالمان بعطائه يشهد نفسه، مترفعا على الآخذ مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته ولا ينبغي ذلك للعبد.
وأيضا : فإن المعطي قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى فبقي عوض ما أعطى عند الله. فأي حق بقي له قبل الآخذ ؟ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلما بينا، وادعى أن حقه في قلبه.
ومن هنا - والله أعلم - بطلت صدقته بالمن فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله وعوض تلك الصدقة عنده فلم يرض به، ولاحظ العوض من الآخذ والمعاملة عنه فمن عليه بما أعطاه بطلت معاوضته مع الله ومعاملته له.
فتأمل هذه النصائح من الله لعباده ودلالته على ربوبيته، وألُهيته وحده، وأنه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته، وإلهيته لا إله غيره، ولا رب سواه.
ونبه بقوله :﴿ ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ﴾ على أن المن والأذى، ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه، ولم يحصل له مقصود الإنفاق، ولو أتى بالواو، وقال :«ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى » لأوهمت تقييد ذلك بالحال، وإذا كان المن، والأذى المتراخي مبطلا لأثر الإنفاق مانعا من الثواب. فالمقارن أولى، وأحرى.
وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاء فقال :﴿ لهم أجرهم عند ربهم ﴾ وقرنه بالفاء في قوله تعالى :﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ [ البقرة : ٢٧٤ ] فإن الفاء الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشرط والجزاء، وأنه مستحق بما تضمنه المبتدأ من الصلة أو الصفة، فلما كان هنا يقتضي بيان حصر المستحق للجزاء دون غيره جرد الخبر عن الفاء.
فإن المعنى : أن الذي ينفق ماله لله، ولا يمن ولا يؤذي هو الذي يستحق الأجر المذكور لا الذي ينفق لغير الله، ويمن ويؤذي بنفقته، فليس المقام مقام شرط وجزاء.
بل مقام بيان للمستحق دون غيره.
وفي الآية الأخرى : ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرا وعلانية. فذكر عموم الأوقات، وعموم الأحوال فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وجد من ليل أو نهار، وعلى أي حالة وجد من سر وعلانية، فإنه سبب للجزاء على كل حال فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر، ولا بنفقة السر وقت العلانية، فإن نفقته في أي وقت وعلى أي حال وجدت سبب لأجره وثوابه.
فتدبر هذه الأسرار في القرآن فلعلك لا تظفر بها تمر بك في التفاسير، والمنة والفضل لله وحده لا شريك له.
ثم قال تعالى :﴿ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ﴾، فأخبر سبحانه أن القول المعروف ( وهو الذي تعرفه القلوب ولا تنكره ) والمغفرة ( وهي العفو عمن أساء إليك ) خير من الصدقة بالأذى. فالقول المعروف إحسان. وصدقة بالقول والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة فهما نوعان من أنواع الإحسان.
والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقرونة بما يبطلها ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة.
[ ويدخل في هذا : القول المعروف، والرد الجميل عى السائل، والعدة الحسنة، والدعاء الصالح، ونحو ذلك ].
ويدخل في المغفرة : مغفرته للسائل إذا وجد منه بعض الجفوة والأذى له بسبب رده فيكون عفوه عنه خيرا من أن يتصدق عليه ويؤذيه. هذا على المشهور من القولين في الآية.
والقول الثاني : أن المغفرة من الله، أي : مغفرة لكم من الله بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من صدقة يتبعها أذى.
وفيها قول ثالث : أي مغفرة وعفو من السائل إذا رد وتعذر المسئول خير من
أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى.
وأوضح الأقوال : هو الأول، ويليه الثاني، والثالث ضعيف جدا، لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسئول لا للسائل الآخذ.
والمعنى : أن قول المعروف له، والتجاوز والعفو خير لك من أن تتصدق عليه وتؤذيه، ثم ختم الآية بصفتين مناسبتين لما تضمنته فقال :﴿ والله غني حليم ﴾ [ البقرة : ٢٦٣ ].
وفيه معنيان :
أحدهما : إن الله غني عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم وإنما الحظ الأوفر لكم في الصدقة فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى، فكيف يمن بنفقته ويؤذي مع غنى الله التام عنها وعن كل ما سواه، ومع هذا فهو حليم إذ لم يعاجل المان بالعقوبة وفي ضمن هذا : الوعيد والتحذير.
والمعنى الثاني : أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز، والصفح مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة، فكيف يؤذي أحدكم بمنه، وأذاه مع قلة ما يعطي ونزارته وفقره.
فتضمنت هذه الآية : الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة، وهذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ﴾ [ الحجرات : ٢ ]. وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في أول هذه الرسالة فلا حاجة إلى إعادته.
وقد يقال : إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها إلا أنه ليس في اللفظ ما يدل على هذا التقييد، والسياق يدل على إبطالها به مطلقا.
وقد يقال : تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان فإن الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله.
ويجاب عن هذا بجوابين :
أحدهما : أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل، وهي حال المرائي، والمان المؤذي، في أن كل واحد منهما يحبط العمل.
الثاني : أن الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل لأنه فعال من الرؤية التي صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيا. وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا ومتراخيا، وتراخيه أكثر من مقارنته.
وقوله تعالى :﴿ كالذي ينفق ﴾ إما أن يكون المعنى : كإبطال الذي ينفق، فيكون شبه الإبطال بالإبطال.
والمعنى : لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق.
وقوله :﴿ فمثله ﴾ أي مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته ﴿ كمثل صفوان ﴾ وهو الحجر الأملس وفيه قولان :
أحدهما : أنه واحد. والثاني : جمع صفوة. ﴿ عليه تراب فأصابه وابل ﴾ وهو المطر الشديد ﴿ فتركه صلدا ﴾ وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره.
وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر بالحجر، لشدته وصلابته وعدم الانتفاع به وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر، والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر، فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدا فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله.
وفيه معنى آخر : وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه، كما أن تحت التراب حجرا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه. فلا ينبت ولا يخرج شيئا.
هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق. فإن ابتغاء مرضاته سبحانه : هو الإخلاص، والتثبيت من النفس : هو الصدق في البذل، فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية :
إحداهما : طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين.
والآفة الثانية : ضعف نفسه بالبذل وتقاعسها وترددها. هل يفعل أم لا ؟
فالآفة الأولى : تزول بابتغاء مرضاة الله والآفة. الثانية تزول : بالتثبيت، فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل. وهذا هو صدقها.
وطلب مرضاة الله : إرادة وجهه وحده، وهذا إخلاصها.
فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة ( وهي البستان الكثير الأشجار ) فهو مجتن بها – أي : مستتر ليس قاعا فارغا.
والجنة بربوة : وهو المكان المرتفع، لأنها أكمل من الجنة التي بالوهاد والحضيض، لأنها إذا ارتفعت كانت بدرجة الأهوية والرياح، وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها. فكانت أنضج ثمرا وأطيبه وأحسنه وأكثره، فإن الثمار تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس، بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال، وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الماء والشراب فقال تعالى :﴿ أصابها وابل ﴾ وهو المطر الشديد العظيم القدر، فأدت ثمرتها وأعطت بركتها، فأخرجت ثمرها ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل. فهذا حال السابقين المقربين ﴿ فإن لم يصبها وابل فطل ﴾ فهو دون الوابل فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها فتكتفي في إخراج بركتها بالطل، وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة وهم درجات عند الله فأصحاب الوابل أعلاهم درجة. وهم ﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ﴾ [ البقرة : ٢٧٤ ]، ﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ [ الحشر : ٩ ]. وأصحاب الطل : مقتصدوهم.
فمثل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة ( والقليلة ) بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاء ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف، فكذلك نفقتهم - كثيرة كانت أو قليلة - بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم، فهي زاكية عند الله نامية مضاعفة.
واختلف في الضعفين :
فقيل : ضعفا الشيء مثلاه زائدا عليه، وضعفه مثله.
وقيل : ضعفه مثلاه، وضعفاه ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفا زاد مثلا، والذي حمل هذا القائل ذلك فراره من استواء دلالة المفرد والتثنية فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه فإذا زاد إلى المثل صار مثلين، وهما الضعف، فلو قيل : لها ضعفان. لم يكن فرق بين المفرد والمثنى.
فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل، ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعاف ثلاثة أمثاله مضافة إلى الأصل. وهكذا أبداً.
والصواب : أن الضعفين هما المثلان فقط : الأصل ومثله.
وعليه يدل قوله تعالى :﴿ فآتت أكلها ضعفين ﴾ أي مثلين، وقوله تعالى :﴿ يضاعف لها العذاب ضعفين ﴾ [ الأحزاب : ٣٠ ] أي مثلين. ولهذا قال في الحسنات :﴿ نؤتها أجرها مرتين ﴾ [ الأحزاب : ٣١ ].
وأما ما توهموه من استواء دلالة المفرد والتثنية فوهم منشؤه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل، وليس كذلك، بل المثل له اعتباران : إن اعتبر وحده فهو ضعف، وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان. والله أعلم.
واختلف في رافع قوله :﴿ فطل ﴾.
فقيل : هو مبتدأ خبره محذوف، أي : وطله يكفيها.
وقيل : خبر مبتدأه محذوف تقديره. فالذي يرويها ويصيبها طل، والضمير في ﴿ أصابها ﴾ إما أن يرجع إلى «الجنة »، أو إلى «الربوة »، وهما متلازمان.
قال الحسن : هذا مثل، قل والله من يعقله من الناس : شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته. وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.
وفي «صحيح البخاري » عن عبيد بن عمير قال : قال عمر رضي الله عنه يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم :«فيم ترون هذه الآية نزلت :﴿ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل ﴾ الآية ؟ قالوا : الله أعلم. فغضب عمر وقال : قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس رضي الله عنه : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر : قم يا ابن أخي، [ قل ] ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل. قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لعمل ! قال عمر : لرجل عمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله ».
فقوله تعالى :﴿ أيود أحدكم ﴾ أخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري، وهو من النفي والنهي وألطف موقعا، كما ترى غيرك يفعل فعلا قبيحا، فتقول له : يفعل هذا عاقل، أيفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة ؟
وقال تعالى :﴿ أيود أحدكم ﴾ بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام، كما تقول : أيفعل هذا أحد فيه خير ؟ وهو أبلغ في الإنكار من أن يقول : أيودون.
وقوله :﴿ أيود ﴾ أبلغ في الإنكار من لو قيل :﴿ أيريد ﴾ ؛ لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها.
وقوله تعالى :﴿ أن تكون له جنة من نخيل وأعناب ﴾ خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار، وأكثرها نفعا ؛ فإن منهما القوت والغذاء. والدواء والشراب والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطبا، ويابسا، منافعهما كثيرة جدا.
وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما ؟
فرجحت طائفة النخيل، ورجحت طائفة العنب، وذكرت كل طائفة حججا لقوله، فذكرناها في غير هذا الموضع.
وفصل الخطاب : أن هذا يختلف باختلاف البلاد. فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر.
فالأرض التي يكون فيها سلطان النخيل لا يكون العنب بها طائلا ولا كثيرا. لأنه إنما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السبخة، فينمو فيها ويكثر، وأما النخيل فنموه وكثرته في الأرض الحارة السبخة، وهي لا تناسب العنب.
فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها. والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها. والله أعلم.
والمقصود : أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها. فالجنة المشتملة عليهما من أفضل الجنان، ومع هذا فالأنهار تجري تحت هذه الجنة. وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها، ومع ذلك فلم تعدم شيئا من أنواع الثمار المشتهاة، بل فيها من كل الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب، فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب، و﴿ فيها من كل الثمرات ﴾.
ونظير هذا قوله تعالى :﴿ واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا * كلتا الجنتين آتت أكلها ولم نظلم منه شيئا وفجرنا خلالها نهرا * وكان له ثمرا ﴾ [ الكهف : ٣٤. ٣٢ ].
وقد قيل : إن الثمار في آية الكهف وفي آية البقرة المراد بها المنافع والأموال، والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها، لقوله في البقرة :﴿ وله فيها من كل الثمرات ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ فأصابها ﴾ أي الجنة ﴿ إعصار فيه نار فاحترقت ﴾، وفي الكهف ﴿ وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ﴾ [ الكهف : ٤٢ ] وما ذلك إلا ثمار الجنة.
ثم قال تعالى :﴿ وأصابه الكبر ﴾ هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه :
أحدها : أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها.
الثاني : أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه.
الثالث : أن له ذرية، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته.
الرابع : أنهم ضعفاء، فهم كل عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم.
الخامس : أن نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم.
وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة، لخطرها في نفسها، وشدة حاجته وذريته إليها.
فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار، وهي الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيه نار، مرت بتلك الجنة فأحرقتها، وصيرتها رمادا، فصدق والله الحسن في قوله :«هذا مثل قل من يعقله من الناس ».
ولهذا نبه الله سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل، وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه. فقال تعالى :﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ﴾.
فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه، فكذلك العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويحرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح.
[ ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده - من ذكر مجرد الطبقات - لم نذكرها، ولكنها من أهم المهم، والله المستعان الموفق لمرضاته ].
فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية، ولهذا استحق اسم الجهل. فكل من عصى الله فو جاهل.
فإن قيل : الواو في قوله تعالى :﴿ وأصابه الكبر ﴾ واو الحال أم واو العطف ؟ وإذا كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها ؟
قلت : فيه وجهان :
أحدهما : أنها واو الحال، اختاره الزمخشري، والمعنى : أيود أحدكم أن تكون له جنة شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته.
والثاني : أن تكون للعطف على المعنى. فإن فعل التمني وهو قوله :﴿ أيود أحدكم ﴾ لطلب الماضي كثيرا. فكان المعنى : أيود لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر فجرى عليها ما ذكر.
وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان : بالصفوان الذي عليه التراب، فإنه لم ينبت شيئا أصلا، بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه، ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصا بنيته لله، ثم عرض له ما أبطل ثوابه بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهرها، ثم سلط عليها الإعصار الناري فأحرقها. فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله، ثم أحرقه، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق.
فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
أضاف سبحانه الكسب إليهم، وإن كان هو الخالق لأفعالهم، لأنه فعلهم القائم بهم، وأسند الإخراج إليه لأنه ليس فعلا لهم، ولا هو مقدور لهم، فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف مفعوله الذي لا قدرة لهم عليه إليه.
ففي ضمنه الرد على من سوى بين النوعين وسلب قدرة العبد وفعله وتأثيره عنها بالكلية.
وخص سبحانه هذين النوعين :( وهما الخارج من الأرض والحاصل بكسب التجارة ). دون غيرهما من المواشي : إما بحسب الواقع فإنهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك، فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب، والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع.
فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما، وإما لأنهما أصول الأموال وما عداهما فعنهما يكون ومنهما ينشأ، فإن الكسب يدخل فيه التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة، والخارج من الأرض يتناول حبها وثمارها وركازها ومعدنها، وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض، فكان ذكرهما أهم،
ثم قال :﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾ فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء، كما هو عادة أكثر النفوس، تمسك الجيد لها وتخرج الرديء للفقير.
ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم، بل عن اتفاق إذا كان هو الحاضر إذ ذاك، أو كان ماله من جنسه، فإن هذا لم يتيمم الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما من الله عليه.
وموقع قوله :﴿ منه تنفقون ﴾ موقع الحال، أي لا تقصدوه منفقين منه.
ثم قال تعالى :﴿ ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ﴾.
أي لو كنتم أنتم المستحقين له وبذل لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه، من قولهم :«أغمض فلان عن بعض حقه » ويقال للبائع :( أغمض )، أي لا تستقص. كأنك لا تبصر.
وحقيقته : من إغماض الجفن، فكأن الرأي لكراهته له لا يملأ عينه منه بل يغمض من بصره، ويغمض عنه بعض نظره بغضا، ومنه قول الشاعر :
لم يفتنا بالوتر قوم وللضيم رجال يرضون بالإغماض
وفيه معنيان :
أحدهما : كيف تبذلون لله وتهدون له مالا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له ؟ والله أحق من يختار له خيار الأشياء وأنفسها.
والثاني : كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم، وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا ؟
ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما، فقال :﴿ واعلموا أن الله غني حميد ﴾ فغناه وحمده يأبيان قبوله الرديء، فإن قبل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه، وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها، وأما الغني عنه الشريف القدر الكامل الأوصاف فإنه لا يقبله.
هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق، والحث عليه، بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني.
فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل، والداعي إلى البذل، والإنفاق، وبيان ما يدعو إليه داعي البخل، وما يدعو إليه داعي الإنفاق، وبيان ما يدعو به داعي
الأمرين.
فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم.
وهذا هو الداعي الغالب على الخلق. فإنه أحدهم يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه داعيا يقول له : متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه. وافتقرت إليه بعد إخراجه، وإمساكه خير لك، حتى لا تبقى مثل الفقير، فغناك خير لك من غناه. فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش.
وهذا إجماع من المفسرين : أن الفحشاء هنا : البخل، فهذا وعده وهذا أمره.
وهو الكاذب في وعده، الغار الفاجر في أمره. فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون. فإنه يدلي من يدعوه بغروره. ثم يورده شر الموارد. كما قيل :
دلاهم بغرور، ثم أوردهم إن الخبيث لمن والاه غرار
هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه، ولا نصيحة له، كما ينصح الرجل أخاه، ولا محبة في بقائه غنيا، بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته. وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه، ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه، فيستوجب منه الحرمان.
وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة.
فهذا وعد الله، وذاك وعد الشيطان، فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق ؟ وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه ؟
والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء. وهو الواسع العليم.
وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الاسمين ﴿ والله واسع عليم ﴾ فإنه واسع العطاء، عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله، فيعطي هذا بفضله، ويمنع هذا بعدله. وهو بكل شيء عليم.
فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده ﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٣ ].
وتأمل ختم هذه السورة، التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام الأغنياء وأحوالهم. وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام :
[ القسم الأول ] ( محسن ) : وهم المتصدقون فذكر جزاءهم ومضاعفته، وما لهم في قرض أموالهم للمليء الوفي سبحانه، ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد استوائها وكمالها من المن والأذى، وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداء من الرياء. ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأطيبها، ولا يتيمموا أردأها وخبيثها.
ثم حذرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش، وأخبر أن استجابتهم لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم.
وأخبر أن هذا من حكمته التي يؤتيها من يشاء من عباده، وأن من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا، أوتي ما هو خير وأفضل من الدنيا كلها، لأنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة، فقال تعالى :﴿ قل متاع الدنيا قليل ﴾ [ النساء : ٧٧ ]، وقال تعالى :﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ]، فدل على أن ما يؤتيه عبده من حكمته خير من الدنيا وما عليها، ولا يعقل هذا كل أحد، بل لا يعقله إلا من له لب وعقل ذكي. فقال تعالى :﴿ وما يذكر إلا أولو الألباب ﴾ [ البقرة : ٢٦٩. آل عمران : ٧ ].
ثم أخبر أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من نذر فإنه يعلمه، فلا يضيع لديه، بل يعلم ما كان منه لوجهه فيتولى هو سبحانه مجازاته من واسع فضله، ويكل جزاء من عمل لغيره إلى من عمل له فإنه ظالم لنفسه وما له من نصير.
ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم، وأنه يثيبهم عليها، إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصة لوجهه : فقال :﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي ﴾.
أي فنعم شيء هي، وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية، فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه، فيمنعه ذلك من إخراجها، وينتظر بها الإخفاء، فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه، أو بينه وبين إخراجها، فلا يؤخر صدقتة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر، وهذه كانت حال الصحابة رضوان الله عليهم.
ثم قال :﴿ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها.
وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل : وإن تخفوها فهو خير لكم، فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش، وبناء قنطرة، وإجراء نهر، أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد.
الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس، وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى، وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته.
وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة، مع تضمنه الإخلاص، وعدم المراءاة وطلبهم المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيرا من إظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم صدقة السر وأثنى على فاعلها، وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق، وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته، ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم، فإنه بما تعملون خبير.
ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما نفعه لأنفسهم، يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها ؟
وإن نفقة المؤمنين إنما تكون ابتغاء وجهه خالصا. لأنها صادرة عن إيمانهم، وأن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة، ولا يظلم منها مثقال ذرة.
وصدر هذا الكلام بأن الله سبحانه هو الهادي الموفق لمعاملته. وإيثار مرضاته وأنه ليس على رسوله صلى الله عليه وسلم هداهم، بل عليه إبلاغهم. وهو سبحانه الذي يوفق من يشاء لمرضاته.
ثم ذكر سبحانه المصرف الذي توضع فيه الصدقة، فقال تعالى :﴿ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ﴾.
فوصفهم بست صفات :
إحداها : الفقر.
الثانية : حبسهم أنفسهم في سبيله تعالى وجهاد أعدائه، ونصر دينه، وأصل الحصر :«المنع »، فمنعوا أنفسهم من تصرفها في أشغال الدنيا، وقصروها على بذلها لله في سبيله.
الثالثة : عجزهم عن الأسفار للتكسب، ( والضرب في الأرض ) : هو السفر. قال تعالى :﴿ علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ﴾ [ المزمل : ٢٠ ] وقال تعالى :﴿ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ﴾ [ النساء : ١٠١ ].
الرابعة : شدة تعففهم. وهو حسن صبرهم، وإظهارهم الغنى. حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من تعففهم، وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم.
الخامسة : أنهم يعرفون بسيماهم. وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم الله بها. وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنهم أغنياء، لأن الجاهل له ظاهر الأمر، والعارف : هو المتوسم المتفرس الذي يعرف الناس بسيماهم. فالمتوسمون خواص للمؤمنين، كما قال تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات للمتوسمين ﴾ [ الحجر : ٧٥ ].
السادسة : تركهم مسألة الناس، فلا يسألونهم شيئا، والإلحاف : هو الإلحاح والنفي متسلط عليهما معا، أي لا يسألون ولا يلحفون، فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف. وهذا كقوله.
على لاحب لا يهتدي لمناره ***. . .
أي : ليس فيه منار فيهتدي به.
وفيه : كالتنبيه على أن المذموم من السؤال : هو سؤال الإلحاف. فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم.
فهذه ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غير حقيقته.
وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعز. والله يختص بتوفيقه من يشاء، فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم.
القسم الثاني :( الظالمون )، وهم ضد هؤلاء، وهم الذين يذبحون المحتاج المضطر، فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له. وهم أهل الربا.
فذكرهم تعالى بعد هذا فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ﴾ [ البقرة : ٢٧٨ ].
فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا، وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية، وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم، وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم. والمعلق على شرط منتف عند انتفائه.
فهذه ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غير حقيقته.
وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعز. والله يختص بتوفيقه من يشاء، فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم.
القسم الثاني :( الظالمون )، وهم ضد هؤلاء، وهم الذين يذبحون المحتاج المضطر، فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له. وهم أهل الربا.
فذكرهم تعالى بعد هذا فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ﴾ [ البقرة : ٢٧٨ ].
فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا، وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية، وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم، وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم. والمعلق على شرط منتف عند انتفائه.
ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده. وهي محاربة المرابي لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ففي ضمن هذا الوعيد : أن المرابي محارب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قد آذنه الله بحربه، ولم يجيء هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا، وقطع الطريق، والسعي في الأرض بالفساد، لأن كل واحد منهما مفسد في الأرض قاطع الطريق على الناس : هذا بقهره لهم وتسلطه عليهم، وهذا بامتناعه من تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها، فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال :﴿ وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم ﴾ يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه، وقد عاقدتم عليه. فإنما لكم رؤوس أموالكم لا تزدادون عليها فتظلمون الآخذ، ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها.
فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة، وإن تصدقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم. فإن أبت نفوسكم وشحت بالعدل الواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوما ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم، فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه.
فذكر سبحانه المحسن وهو «المتصدق »، ثم عقبه بالظالم وهو «المرابي ». ثم ذكر العادل في آية التداين فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ﴾ الآية.
ولولا أن هذه الآية تستدعي سِفرًا وحدها لذكرت بعض تفسيرها. والغرض : إنما هو التنبيه والإشارة، وقد ذكر أيضا العادل، وهو آخذ رأس ماله من غريمه لا بزيادة ولا نقصان.
Icon