تفسير سورة البقرة

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
سورة البقرة
مدنية إلا آية إحدى وثمانين ومائتين، فقد نزلت بمنى في حجة الوداع، وهي آخر القرآن نزولا على ما قيل : وغالب السورة نزل أول الهجرة، وهي أطول سور القرآن، كما أن أقصرها سورة الكوثر، وأطول آية في القرآن هي آية الدين ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ﴾ الخ، وأقصرها قوله والضحى، وقوله والفجر.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الم { ١ ﴾ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ﴿ ٢ ﴾ }.
الإيضاح
﴿ الم ﴾ هي وأمثالها من الحروف المقطعة نحو ﴿ المص و المر ﴾ حروف للتنبيه كألا ويا ونحوها مما وضع لإيقاظ السامع إلى ما يلقى بعدها، فهنا جاءت للفت نظر المخاطب إلى وصف القرآن الكريم والإشارة إلى إعجازه وإقامة الحجة على أهل الكتاب إلى نحو ذلك مما جاء في أثناء السورة.
وتقرأ مقطعة بذكر أسمائها ساكنة الأواخر فيقال : ألف. لام. ميم، كما يقال في أسماء الأعداد. واحد. اثنان. ثلاثة.
﴿ ذلك الكتاب ﴾
الإيضاح :
الكتاب اسم بمعنى المكتوب وهو النقوش والرقوم الدالة على المعاني، والمراد به الكتاب المعروف المعهود للنبي صلى الله عليه وسلم الذي وعده الله به لتأييد رسالته وكفل به هداية طلاب الحق وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم ومعاشهم ومعادهم. وفي التعبير به إيماء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بكتابة شيء سواه.
وعدم كتابة القرآن كله بالفعل حين الإشارة إليه لا يمنع الإشارة، ألا ترى أن من المستفيض الشائع في التخاطب أن يقول إنسان لآخر : هلم أملل عليك كتابا، والكتاب لم يوجد بعد.
﴿ لا ريب فيه ﴾ الريب والريبة : الشك، وحقيقته قلق النفس واضطرابها، سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل منها الطمأنينة، وقد جاء في الحديث :( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة ).
والمعنى –إن هذا الكتاب لا يعتريه ريب في كونه من عند الله، ولا في هدايته وإرشاده، ولا في أسلوبه وبلاغته، فلا يستطيع أحد أن يأتي بكلام يقرب منه بلاغة وفصاحة –وإلى هذا أشار بقوله :﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ﴾.
وارتياب كثير من الناس فيه، إنما نشأ عن جهل بحقيقته، أو عن عمى بصيرتهم، أو عن التعنت عنادا واستكبارا وإتباعا للهوى أو تقليدا لسواهم.
﴿ هدى للمتقين ﴾ الهدى بالنظر إلى المتقين : هو الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة والتوفيق للعمل بأحكامه، إذ هم قد اقتبسوا من أنواره وجنوا من ثماره، وهو لغيرهم هدى ودلالة على الخير وإن لم يأخذوا بهديه وينتفعوا بإرشاده.
وكون بعض الناس لم يهتدوا بهديه لا يخرجه عن كونه هدى، فالشمس شمس وإن لم يرها الأعمى، والعسل عسل وإن لم يجد طعمه ذو المرة.
والمتقين : واحدهم متق، من الاتقاء وهو الحجز بين الشيئين، ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزا بين نفسه ومن يقصده، فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه –حاجزا بينه وبين العقاب الإلهي.
والعقاب الذي يتقى ضربان : دنيوي وأخروي وكل منهما يتقى باتقاء أسبابه.
فعقاب الدنيا يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله في الخليقة، وعدم مخالفة النظم التي وضعها في الكون، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال مثلا يتوقف على معرفة نظم الحرب وفنونها وآلاتها كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ﴾ كما يتوقف على القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة، والصبر والثبات والتوكل على الله واحتساب الأجر عنده.
وعقاب الآخرة يتقى بالإيمان الخالص والتوحيد والعمل الصالح واجتناب ما يضاد ذلك من الشرك واجتناب المعاصي والآثام التي تضر المرء أو تضر المجتمع.
والمتقون في هذه الآية هم الذين سمت نفوسهم، فأصابت ضربا من الهداية واستعدادا لتلقي نور الحق، والسعي في مرضاة الله بقدر ما يصل إليه إدراكهم ويبلغ إليه اجتهادهم.
وقد كان من هؤلاء ناس في الجاهلية، كرهوا عبادة الأصنام، وأدركوا أن خالق الكون لا يرضى بعبادتها، كذلك كان من أهل الكتاب ناس يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين.
﴿ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون { ٣ ﴾ }.
الإيضاح :
﴿ الذين يؤمنون بالغيب ﴾ الإيمان تصديق جازم يقترن بإذعان النفس واستسلامها، وأمارته العمل بما يقتضيه الإيمان، وهو يختلف باختلاف مراتب المؤمنين في اليقين.
والغيب ما غاب عنهم علمه كذات الله وملائكته والدار الآخرة وما فيها من البعث والنشور والحساب.
والإيمان بالغيب هو اعتقاد بموجود وراء المحسات متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم، ومن يعتقد بهذا يسهل عليه التصديق بوجود خالق للسماوات والأرض منزه عن المادة وتوابعها، وإذا وصف له الرسول العوالم التي استأثر الله بعلمها كعالم الملائكة، أو وصف له اليوم الآخر لم يصعب عليه التصديق به بعد أن يستقين صدق النبي الذي جاء به.
أما من لا يعرف إلا ما يدركه الحس فإنه يصعب إقناعه، وقلما تجد الدعوة إلى الحق من نفسه سبيلا.
﴿ ويقيمون الصلاة ﴾ الصلاة في اللغة الدعاء كما قال تعالى :﴿ وصل عليهم ﴾ ودعاء المعبود بالقول أو بالفعل أو بكليهما يشعر العابد بالحاجة إليه استدرارا للنعمة أو دفعا للنقمة.
والصلاة على النحو الذي شرعه الإسلام من أفضل ما يعبر عن الشعور بعظمة المعبود وشديد الحاجة إليه لو أقيمت على وجهها. أما إذا خلت من الخشوع والخضوع فإنها تكون صلاة لا روح فيها، وإن كانت قد وجدت صورتها وهي الكيفيات المخصوصة، ولا يقال للمصلي حينئذ إنه امتثل أمر ربه فأقام الصلاة، لأن الإقامة مأخوذة من أقام العود إذا سواه وأزال اعوجاجه، فلا بد فيها من حضور القلب في جميع أجزائها واستشعار الخشية ومراقبة الخالق كأنك تنظر إليه كما ورد في الحديث ( اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
ولما للصلاة من خطر في تهذيب النفوس والسمو بها إلى الملكوت الأعلى أبان الله تعالى عظيم آثارها بقوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماد الدين فقال :( الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام ).
وقد أمر الله بإقامتها بقوله :﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ وبالمحافظة عليها وإدامتها بقوله :﴿ الذين هم على صلاتهم دائمون ﴾ وبأدائها في أوقاتها لقوله :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾ وبأدائها في جماعة بقوله :﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾ وبالخشوع فيها بقوله :﴿ الذين هم في صلاتهم خاشعون ﴾.
﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ الرزق في اللغة العطاء، ثم شاع استعماله فيما ينتفع به الحيوان وجمهرة المسلمين على أن كل ما ينتفع به حلالا كان أو حراما فهو رزق، وخصه جماعة بالحلال فقط.
والإنفاق والإنفاد أخوان، خلا أن في الثاني معنى الإذهاب التام دون الأول، والمراد بالإنفاق هنا ما يشمل النفقة الواجبة على الأهل والولد وذوي القربى، وصدقة التطوع.
وفي قوله : مما رزقناهم إيماء إلى أن النفقة المشروعة تكون بعض ما يملك الإنسان، لا كل ما يملك، وإلى تعليم الإنسان مبادئ الاقتصاد وحب ادخار المال.
وإن من يجد في نفسه ميلا إلى بذل أحب الأشياء إليه، وهو ماله ابتغاء رضوان الله، وقياما بشكره على أنعمه، رحمة لأهل البؤس والعوز –كان من المتقين المستعدين لهدى القرآن، وكثير من الناس يصلون ويصومون، ولكن إذا عرض لهم ما يدعو إلى إنفاق شيء من المال في سبيل الله، كأن تدعو الحاجة إلى إنفاقه في مصلحة من مصالح المسلمين أو منفعة عامة لا تقوم إلا بالبذل –أعرضوا ونأوا ولم تطوعهم أنفسهم على بذل شيء منه.
وإنما كان القرآن هدى للمتقين الذي هذه أوصافهم، لأن الإيمان بالله والإيمان بحياة أخرى بعد هذه الحياة يوفى فيها كل عامل جزاء عمله –يهيئ النفوس لقبول هديه والاقتباس من أنواره.
وبين ذلك بعضهم بقوله : لأن في الإيمان النجاة، وفي الصلاة المناجاة، وفي الإنفاق زيادة الدرجات، وبعضهم بقوله : لأن في الإيمان البشارة، وفي الصلاة الكفارة، وفي الإنفاق الطهارة.
﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون { ٤ ﴾ }.
الإيضاح
﴿ والذين يؤمنون ﴾ روى ابن جرير عن ابن عباس أن المراد بالمؤمنين هنا من يؤمنون بالنبي والقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمنون من مشركي العرب.
﴿ بما أنزل إليك ﴾ هو القرآن الذي يتلى، والوحي الذي لا يتلى، وهو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أعداد الركعات في الصلاة، ومقادير الزكاة، وحدود الجنايات،
قال تعالى :﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ وقال :﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ﴾.
ولا بد من معرفة ذلك تفصيلا، فلا يسع المؤمن جهل ما علم من الدين بالضرورة.
والإنزال هنا بمعنى الوحي، وسمي إنزالا لما في جانب الألوهية من علو الخالق على المخلوق، أو لإنزال جبريل له على النبي صلى الله عليه وسلم لتبليغه للخلق كما قال :﴿ نزل به الروح الأمين ﴾.
﴿ وما أنزل من قبلك ﴾ هو التوراة والإنجيل وسائر الكتب السالفة، فيؤمنون بها إيمانا إجماليا لا تفصيليا.
﴿ وبالآخرة هم يوقنون ﴾ الدار الآخرة هي دار الجزاء على الأعمال – والإيمان بها يتضمن الإيمان بكل ما ورد فيها بالنصوص المتواترة كالحساب والميزان والصراط، والجنة والنار.
واليقين : هو التصديق الجازم الذي لا شبهة فيه ولا تردد، ويعرف اليقين بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال، فمن يشهد الزور أو يشرب الخمر أو يأكل حقوق الناس يكن إيمانه بهما خيالا يلوح في الذهن لا إيمانا يقوم على اليقين، إذ لم تظهر آثاره في الجوارح واللسان، وهو لا يكون إيمانا حقا إلا إذا حصل مالكا لزمام النفس مصرفا لها في أعمالها.
والإيمان على الوجه الصحيح يحصل من أحد طريقتين :
البحث والتأمل فيما يحتاج إلى ذلك كالعلم بوجود الله ورسالة الرسل.
خبر الرسول بعد أن تقوم الدلائل على صدقه فيما يبلغ عن ربه، أو خبر من سمع منه بطريق لا تحتمل ريبا ولا شكا وهي طريق التواتر، كالعلم بأخبار الآخرة وأحوالها، والعالم العلوي وأوصافه، وعلينا أن نقف عند ذلك فلا نزيد فيه شيئا ولا نخلطه بغيره مما جاء عن طريق أهل الكتاب، أو عن بعض السلف بدون تمحيص ولا تثبت من صحته، وقد دونه المفسرون في كتبهم وجعلوه من صلب الدين، وهو ليس منه في شيء.
﴿ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون { ٥ ﴾ }.
الإيضاح
الفلح : الشق والقطع، ومنه سمي الزارع فلاحا لأنه يشق الأرض، والمفلح : الفائز بالبغية بعد سعي في الحصول عليها، واجتهاد في إدراكها، كأنه انفتحت له وجوه النظر ولم تستغلق عليه.
والمشار إليه بأولئك في الموضعين واحد وهم المؤمنون من غير أهل الكتاب والمؤمنون منهم، وكرر الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بتلك الصفات يقضي نيل كل واحدة من هاتين الفضيلتين الهدى والفلاح، وأن كلا منهما كاف في تميزهم به عن سواهم، فكيف بهما إذا اجتمعتا.
والتعبير بقوله ﴿ على هدى ﴾ يفيد التمكن من الهدى وكمال الرسوخ فيه، كما يتمكن الراكب على الدابة ويستقر عليها، وقد جاء في كلامهم : ركب هواه، وجعل الغواية مركبا.
﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون { ٦ ﴾ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ﴿ ٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
الكفر : ستر الشيء وتغطيته، وقد وصف به الليل كقوله " في ليلة كفر النجوم غمامها " والزرع كقوله تعالى :﴿ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ﴾ من قبل أنهم يغطون الحب بالتراب، ثم استعمل في كفر النعم بعدم شكرها، وفي الكفر بالله ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال المتقين الذي يؤمنون بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله، وبين ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية وهم الكفرة الفجرة، وأبان أنه قد بلغ من أمرهم في الغواية والضلال ألا يجدي فيهم الإنذار والتبشير، وألا تؤثر فيهم العظة والتذكير، فهم عن الصراط السوي ناكبون، وعن الحق معرضون، فالإنذار وعدمه سيان، فماذا ينفع النور مهما سطع، والضوء مهما ارتفع، مع من أغمض عينيه حتى لا يراه بغضا له، وعداوة لمن دعا إليه، لأن الجهل أفسد وجدانه، فأصبح لا يميز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضار.
وقد جرت سنة الله في مثل هؤلاء الذين مرنوا على الكفر أن يختم على قلوبهم فلا يبقي فيها استعدادا لغير الكفر، ويختم على سمعهم فلا يسمعون إلا أصواتا لا ينفذ منها إلى القلب شيء ينتفع به، ويجعل على أبصارهم غشاوة، إذ هم لما ينظروا إلى ما في الكون من آيات وعبر، ولم يبصروا ما به يتقون الخطر، فكأنهم لا يبصرون شيئا، وكأنه قد ضرب على أبصارهم بغشاوة.
وقد حكم الله عليهم بالعذاب الأليم في العقبى، وفقد العز والسلطان والخزي في الدنيا كما قال :﴿ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾
الإيضاح :
المراد بالذين كفروا هنا : من علم الله أن الكفر قد رسخ في قلوبهم حتى أصبحوا غير مستعدين للإيمان، بجحودهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به بعد أن بلغتهم رسالته بلاغا صحيحا وعرضت عليهم الدلائل على صحتها للنظر والبحث، فأعرضوا عنها عنادا واستهزاء.
وسبب كفرهم :
إما عناد الحق بعد معرفته، وقد كان من هذا الصنف جماعة من المشركين واليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود.
وإما إعراض عن معرفته واستكبار عن النظر فيه.
والمعرضون عن الحق يوجدون في كل زمان ومكان، وهؤلاء إذا طاف بهم طائف الحق لووا رءوسهم واستكبروا وهم معرضون، وفيهم يقول تبارك وتعالى :﴿ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون. ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ﴾.
﴿ سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ؟ ﴾ سواء اسم بمعنى مستو كما قال تعالى :﴿ إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾ والإنذار إخبار بشيء مع التخويف من عذاب الله وعقابه على فعل المعاصي.
﴿ لا يؤمنون ﴾ جملة موضحة لتساوي الإنذار وعدمه في حقهم لا في حقه صلى الله عليه وسلم، ولا في حق الدعاة إلى دينه، إذ هم يدعون كل كافر إلى الدين الحق، لا فرق بين المستعد للإيمان وغير المستعد.
تفسير المفردات :
الختم والطبع والرين بمعنى واحد : وهو تغطية الشيء، مع إبعاد ما من شأنه أن يدخله ويمسه، والمراد بالقلوب العقول، وبالسمع الأسماع، وبالأبصار العيون التي تدرك المبصرات من أشكال وألوان، والغشاوة : الغطاء.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال المتقين الذي يؤمنون بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله، وبين ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية وهم الكفرة الفجرة، وأبان أنه قد بلغ من أمرهم في الغواية والضلال ألا يجدي فيهم الإنذار والتبشير، وألا تؤثر فيهم العظة والتذكير، فهم عن الصراط السوي ناكبون، وعن الحق معرضون، فالإنذار وعدمه سيان، فماذا ينفع النور مهما سطع، والضوء مهما ارتفع، مع من أغمض عينيه حتى لا يراه بغضا له، وعداوة لمن دعا إليه، لأن الجهل أفسد وجدانه، فأصبح لا يميز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضار.
وقد جرت سنة الله في مثل هؤلاء الذين مرنوا على الكفر أن يختم على قلوبهم فلا يبقي فيها استعدادا لغير الكفر، ويختم على سمعهم فلا يسمعون إلا أصواتا لا ينفذ منها إلى القلب شيء ينتفع به، ويجعل على أبصارهم غشاوة، إذ هم لما ينظروا إلى ما في الكون من آيات وعبر، ولم يبصروا ما به يتقون الخطر، فكأنهم لا يبصرون شيئا، وكأنه قد ضرب على أبصارهم بغشاوة.
وقد حكم الله عليهم بالعذاب الأليم في العقبى، وفقد العز والسلطان والخزي في الدنيا كما قال :﴿ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾
الإيضاح
﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ﴾ ضرب الله مثلا لحال قلوب أولئك القوم، وقد تمكن الكفر فيها حتى امتنع أن يصل إليها شيء من الأمور الدينية النافعة لها في معاشها ومعادها، وحيل بينها وبينه –بحال بيوت معدة لحلول ما يأتي إليها مما فيه مصالح مهمة للناس، لكنه منع ذلك بالختم عليها، وحيل بينهما وبين ما أعدت لأجله –فقد حدث في كل منهما امتناع دخول شيء بسبب مانع قوي، وكذلك حدث مثل هذا في الأسماع فلا تسمع آيات الله المبصرة في الآفاق والأنفس الدالة على الإيمان، ومن ثم لا يرجى تغيير حالهم ولا أن يدخل الإيمان في قلوبهم.
﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين { ٨ ﴾ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴿ ٩ ﴾ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ﴿ ١٠ ﴾ }.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه أولا من أخلص دينه لله ووافق سره علنه وفعله قوله، ثم ثنى بذكر من محضوا الكفر ظاهرا وباطنا. وهنا ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة، لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء وخداعا وتمويها وتدليسا وفيهم نزل قوله :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ وقوله :﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾.
وقد وصف الله حال الذين كفروا في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، ودعاهم بكما عميا، وضرب لهم شنيع الأمثال.
فنعى عليهم خبثهم في قوله : ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر، ونفى عليهم مكرهم في قوله : يخادعون الله والذين آمنوا : وفضحهم في قوله : وما هم بمؤمنين، وفي قوله : وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي قوله : في قلوبهم مرض، واستجهلهم في قوله : وما يشعرون، وفي قوله : ولكن لا يعلمون، وتهكم بفعلهم في قوله : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، ودعاهم صما بكما عميا في قوله : صم بكم عمي فهم لا يرجعون، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الخ وفي قوله : أو كصيب من السماء الخ
الإيضاح
﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر ﴾ أصل ناس أناس ويشهد له إنسان وإنسي، وسموا بذلك لظهورهم وتعلق الإيناس بهم، كما سمى الجن جنا لاجتنانهم واختفائهم.
من يقول الخ هم أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل كعبد الله ابن أبي بن سلول وأصحابه وأكثرهم من اليهود، ولهم نظراء في كل عصر ومصر.
واليوم الآخر –هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وخصوا بالذكر الإيمان بهما، إشارة إلى أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهم لم يكونوا كذلك، إذا كانوا مشركين بالله لأنهم يقولون عزير ابن الله، وجاحدين باليوم الآخر، إذ قالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، وقد حكى الله عبارتهم ليبين كمال خبثهم، لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق مع ما هم عليه لم يكن ذلك إيمانا لاتخاذهم الولد واعتقادهم أن الجنة لا يدخلها غيرهم، فما بالك بهم وهم قالوه تمويها على المؤمنين واستهزاء بهم.
﴿ وما هم بمؤمنين ﴾ أي وما هم بداخلين في عداد المؤمنين الصادقين الذين يشعرون بعظيم سلطان الله، ويعلمون أنه مطلع على سرهم ونجواهم، إذ هم كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات، ظنا منهم أن ذلك يرضي ربهم، ثم هم بعد ذلك منغمسون في الشرور والمآثم من كذب وغش، وخيانة وطمع إلى نحو ذلك مما حكاه الكتاب الكريم عنهم ونقله الرواة أجمعون.
﴿ يخادعون الله والذين آمنوا ﴾
المعنى الجملي
ذكر سبحانه أولا من أخلص دينه لله ووافق سره علنه وفعله قوله، ثم ثنى بذكر من محضوا الكفر ظاهرا وباطنا. وهنا ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة، لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء وخداعا وتمويها وتدليسا وفيهم نزل قوله :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ وقوله :﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾.
وقد وصف الله حال الذين كفروا في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، ودعاهم بكما عميا، وضرب لهم شنيع الأمثال.
فنعى عليهم خبثهم في قوله : ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر، ونفى عليهم مكرهم في قوله : يخادعون الله والذين آمنوا : وفضحهم في قوله : وما هم بمؤمنين، وفي قوله : وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي قوله : في قلوبهم مرض، واستجهلهم في قوله : وما يشعرون، وفي قوله : ولكن لا يعلمون، وتهكم بفعلهم في قوله : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، ودعاهم صما بكما عميا في قوله : صم بكم عمي فهم لا يرجعون، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الخ وفي قوله : أو كصيب من السماء الخ
الإيضاح :
الخدع : أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه لتحول بينه وبين ما يريد، وأصله من قولهم : خدع الضب إذا توارى في جحره، وضب خادع إذا أوهم حارسه الإقبال عليه ثم خرج من باب آخر.
والخدع هنا من جانب المنافقين لله والمؤمنين، والتعبير بصيغة المخادعة للدلالة على المبالغة في حصول الفعل وهو الخدع، أو للدلالة على حصوله مرة بعد أخرى، كما يقال مارست الشيء وزاولته، إذ هم كانوا مداومين على الخدع، إذ أعمالهم الظاهرة لا تصدقها بواطنهم، وهذا لا يكون إلا من مخادع، لا من تائب خاشع.
وخداعهم للمؤمنين بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، للإطلاع على أسرارهم وإذاعتها إلى أعدائهم من المشركين واليهود، ودفع الأذى عن أنفسهم.
﴿ وما يخدعون إلا أنفسهم ﴾ إذ ضرر عملهم لاحق بهم، فهم يغرون أنفسهم بالأكاذيب ويلقونها في مهاوي الهلاك والردى.
﴿ وما يشعرون ﴾ يقال شعر به يشعر شعورا : علم به وفطن، والفطنة إنما تتعلق بخفايا الأمور، فالشعور لا يكون إلا في إدراك ما دق وخفي من شيء حسي أو عقلي.
وقد نفى الشعور عنهم في مخادعتهم لله، لأنهم لم يحاسبوا أنفسهم على أقوالهم ولم يراقبوه في أفعالهم، ولم يفكروا فيما يرضيه، بل جروا في ريائهم على ما ألفوا وتعودوا فهم يعملون عمل المخادعين وما يشعرون، فإذا عرض لهم زاجر من الدين يحول بينهم وبين ما يشترون –وجدوا لهم من المعاذير ما يسهل أمره، إما بأمل في المغفرة، أو تحريف في أوامر الكتاب، لما رسخ في نفوسهم من عقائد الزيغ التي يسمونها إيمانا، وهم في الحقيقة مخدوعون، وعن الصراط السوي ناكبون.
والمشاهد أن الإنسان إذا هم بعمل وناجى نفسه، وجد كأن في قلبه خصمين مختصمين، أحدهما يميل به إلى اللذة ويسير به في طريق الضلال والغواية، وثانيهما يأمره بالسير في الطريق القويم وينهاه عن إتباع النفس والهوى، ولقد جاء في كلامهم عن المتردد " فلان يشاور نفسيه ".
ولا يترجح عنده جانب الشر إلا إذا خدع نفسه وصرفها عن الحق، وزين لها إتباع الباطل، وإنما يكون ذلك بعد مشاورة ومذاكرة تجول في الخاطر وتهجس في النفس، ربما لا يلتفت الإنسان ولا يشعر بما يجول بين جنبيه.
﴿ في قلوبهم مرض ﴾
المعنى الجملي
ذكر سبحانه أولا من أخلص دينه لله ووافق سره علنه وفعله قوله، ثم ثنى بذكر من محضوا الكفر ظاهرا وباطنا. وهنا ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة، لأنهم ضموا إلى الكفر استهزاء وخداعا وتمويها وتدليسا وفيهم نزل قوله :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ وقوله :﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾.
وقد وصف الله حال الذين كفروا في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، ودعاهم بكما عميا، وضرب لهم شنيع الأمثال.
فنعى عليهم خبثهم في قوله : ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر، ونفى عليهم مكرهم في قوله : يخادعون الله والذين آمنوا : وفضحهم في قوله : وما هم بمؤمنين، وفي قوله : وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي قوله : في قلوبهم مرض، واستجهلهم في قوله : وما يشعرون، وفي قوله : ولكن لا يعلمون، وتهكم بفعلهم في قوله : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، ودعاهم صما بكما عميا في قوله : صم بكم عمي فهم لا يرجعون، وضرب لهم شنيع الأمثال في قوله : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الخ وفي قوله : أو كصيب من السماء الخ
الإيضاح :
القلوب هنا العقول، وهو تعبير معروف عند العرب، كأنهم لاحظوا أن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال كاضطرابه حين الخوف أو اشتداد الفرح.
ومرضها ما يطرأ عليها مما يضعف إدراكها وتعقلها لفهم الدين ومعرفة أسراره وحكمه، وفقدان هذا الإدراك هو الذي عبر عنه القرآن بقوله :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾.
ومن أسباب ذلك الجهل والنفاق والشك والارتياب والحسد والضغينة إلى غير ذلك مما يفسد الاعتقاد والأخلاق ويجعل أحكام العقل في اضطراب.
وقد وجد هذا المرض عند هؤلاء المنافقين حين كانوا في فترة من الرسل فلم يكن لهم حظ من قراءة كتب الدين إلا تلاوتها، ولا من أعماله إلا إقامة صورها دون أن تنفذ أسرارها إلى القلوب، فتهذب النفوس وتسمو بها إلى فضائل الأخلاق والتفقه في الدين.
﴿ فزادهم الله مرضا ﴾ بعد أن جاء النذير البشير ومعه البرهان القاطع، والنور الساطع، وأبوا أن يتبعوه، وزاد تمسكهم بما كانوا عليه، فكان ذلك النور عمى في أعينهم، ومرضا في قلوبهم، وتحرقت قلوبهم حسرة على ما فاتهم من الرياسة، وحسدا على ما يرونه من ثبات أمر الرسول وعلو شأنه يوما بعد يوم.
﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أليم، من ألم يألم فهو أليم بمعنى مؤلم ﴿ بفتح اللام ﴾ إذ يصل ألمه إلى القلوب، وصف به العذاب نفسه لبيان أن الألم بلغ الغاية حتى سرى من المعذب ﴿ بفتح اللام ﴾ إلى العذاب المتعلق به.
﴿ بما كانوا يكذبون ﴾ أي بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فهم لم يصدقوا بأعمالهم ما يزعمونه من حالهم، وقد جعل العذاب جزاء الكذب دون سائر موجباته الأخرى كالكفر وغيره من أعمال السوء، للتحذير منه وبيان فظاعته وعظم جرمه، وللإشعار بأن الكفر من محتوياته، وإليه ينتهي في حدوده وغاياته، ومن ثم حذر منه القرآن أتم التحذير، فما فشا في أمة إلا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل، فهو مصدر كل رذيلة، ومنشأ كل كبيرة، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان ).
﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون { ١١ ﴾ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ﴿ ١٢ ﴾ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ﴿ ١٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
الفساد : خروج الشيء عن حد الاعتدال، والصلاح ضده، والفساد في الأرض : هيج الحروب والفتن التي تؤدي إلى اختلال أمر المعاش والمعاد.
المعنى الجملي
عدد الله في هذه الآيات الثلاث بعض شناعتهم المترتبة على كفرهم ونفاقهم، ففصل بعض خبائثهم وجناياتهم، وذكر بعض هفواتهم، ثم أظهر فسادها وأبان بطلانها، فحكى ما أسداه المؤمنون إليهم من النصائح حين طلبوا منهم ترك الرذائل التي تؤدي إلى الفتنة والفساد، والتمسك بأهداب الفضائل وإتباع ذوي الأحلام الراجحة، والعقول الناضجة، ثم ما أجابوا به مما دل على عظيم جهلهم وتماديهم في سفههم وغفلتهم
الإيضاح
﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ﴾ المنهي عنه هنا الأسباب المؤدية إلى الفساد من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار وإغرائهم بالمؤمنين، وتنفيرهم من إتباع محمد صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء به من الإصلاح، إلى نحو أولئك من فنون الشر وصنوف الفتن، كما يقول إنسان لآخر، لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق بيديك إلى التهلكة، إذا أقدم على ما هذه عاقبته.
﴿ قالوا إنما نحن مصلحون ﴾ أي لا شأن لنا إلا الإصلاح، فنحن بعيدون عن شوائب الإفساد بإتباعنا رؤساءنا الذين استنبطوا تعاليمهم من الأنبياء، فكيف ندع ما تلقيناه منهم ونعتنق دينا جديدا لا عهد لنا به من قبل ؟
وهكذا شأن المفسدين في كل زمان يدعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه، فإن كانوا على بينة من إفسادهم وضلالهم، فهم يدعون ذلك ليبرؤوا أنفسهم من وصمة الإفساد بالتمويه والخداع، وإن كانوا مسوقين إليه تقليدا للرؤساء، فهم يدعونه عن اعتقاد، وإن كان السير على منهاجه مفسدا للأمة في الحقيقة والواقع، إذ هم عطلوا وسائل البحث التي تميز الإصلاح من الإفساد، فهم بصدهم عن سبيل الإسلام الداعي إلى الوحدة والالتئام، يدعون إلى الفرقة والانفصام، وأي إفساد في الأرض أعظم من التنفير من إتباع الحق، والسير على منهاج الباطل ومؤازرة أهله.
﴿ ألا إنهم هم المفسدون ﴾
المعنى الجملي
عدد الله في هذه الآيات الثلاث بعض شناعتهم المترتبة على كفرهم ونفاقهم، ففصل بعض خبائثهم وجناياتهم، وذكر بعض هفواتهم، ثم أظهر فسادها وأبان بطلانها، فحكى ما أسداه المؤمنون إليهم من النصائح حين طلبوا منهم ترك الرذائل التي تؤدي إلى الفتنة والفساد، والتمسك بأهداب الفضائل وإتباع ذوي الأحلام الراجحة، والعقول الناضجة، ثم ما أجابوا به مما دل على عظيم جهلهم وتماديهم في سفههم وغفلتهم
الإيضاح :
أي هم وحدهم هم المفسدون دون من أومأوا إليهم، لأن لهم سلفا صالحا تركوا الإقتداء بهم، وفي هذا الأسلوب مبالغة في الرد عليهم، ودلالة على السخط العظيم.
﴿ ولكن لا يشعرون ﴾ بهذا الإفساد لأنه أصبح غريزة في طباعهم بما تمكن فيها من الشبه بتقليدهم أحبارهم الذين أشربت قلوبهم تعظيمهم والثقة بآرائهم.
﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ﴾
المعنى الجملي
عدد الله في هذه الآيات الثلاث بعض شناعتهم المترتبة على كفرهم ونفاقهم، ففصل بعض خبائثهم وجناياتهم، وذكر بعض هفواتهم، ثم أظهر فسادها وأبان بطلانها، فحكى ما أسداه المؤمنون إليهم من النصائح حين طلبوا منهم ترك الرذائل التي تؤدي إلى الفتنة والفساد، والتمسك بأهداب الفضائل وإتباع ذوي الأحلام الراجحة، والعقول الناضجة، ثم ما أجابوا به مما دل على عظيم جهلهم وتماديهم في سفههم وغفلتهم
الإيضاح :
الذين اتبعوا قضية العقل وسلكوا سبيل الرشاد، وكان للإيمان سلطان على نفوسهم، وعليه بنوا تصاريف أعمالهم كعبد الله ابن سلام وأشباهه من أحبارهم.
﴿ قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ﴾
تفسير المفردات :
والسفه : خفة في العقل وفساد في الرأي، ومنه قيل ثوب سفيه : ردئ النسج.
أرادوا بالسفهاء أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
أما المهاجرون منهم فلا أنهم عادوا قومهم وأقاربهم وهجروا أوطانهم وتركوا ديارهم، ليتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ويسيروا على هديه. وأما الأنصار فلأنهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم.
ولا يستبعد ممن انهمك في السفاهة وتمادى في الغواية، وممن زين له سوء عمله فرآه حسنا وظن الضلال هدى أن يسمى الهدى سفها وضلالا.
﴿ ألا إنهم هم السفهاء ﴾ وحدهم دون ما عرضوا بهم ونسبوهم إلى السفه، إذ هم لهم سلف صالح تركوا الإقتداء بهم واكتفوا بانتظار شفاعتهم، وإن لم يجروا على هديهم وسننهم، خلاف أولئك الذين لا سلف لهم إلا عابدو الأصنام، وقد هداهم الله وصارت قلوبهم مطمئنة بالإيمان.
﴿ ولكن لا يعلمون ﴾ ما الإيمان وما حقيقته ؟ حتى يعلموا أن المؤمنين سفهاء أو عقلاء.
وقد ختمت هذه الآية بلا يعلمون، وسابقتها بلا يشعرون، لأن الإيمان لا يتم إلا بالعلم اليقيني، والفائدة المرجوة منه وهي السعادة في المعاش والمعاد لا يدركها إلا من يعلم حقيقته ويدرك كنهه، فهم قد أخطأوا في إدراك مصلحتهم ومصلحو غيرهم.
أما نفاقهم وإفسادهم في الأرض فقد بلغ من الوضوح مبلغ الأمور المحسوسة، التي تصل إلى الحواس والمشاعر، ولكن لا حس لهم حتى يدركوه.
﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون { ١٤ ﴾ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ﴿ ١٥ ﴾ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴿ ١٦ ﴾ }.
تفسير المفردات
اللقاء المصادفة تقول : لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته، خلوا إما من خلوت بفلان وإلى فلان إذا انفردت به، وإما من خلا بمعنى مضى، ومنه القرون الخالية، واطلب الأمر وخلاك ذم : أي جاوزك ومضى عنك. والشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن كما قال :﴿ شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ والاستهزاء : السخرية، تقول هزأت به واستهزأت كأجبت واستجبت، وأصل المادة تفيد الخفة يقال ناقة تهزأ به : أي تسرع. يمدهم : أي يزيدهم من مد الجيش وأمده إذا زاد عدده وقواه. والطغيان :﴿ بضم الطاء وكسرها ﴾ مجاوزة الحد في كل شيء.
المعنى الجملي
وصف الله في هذه الآيات حال جماعة من المنافقين كانوا في عصر التنزيل قد بلغ من دعارتهم وتمردهم في النفاق وفساد الأخلاق أن كانوا يظهرون بوجهين، ويتكلمون بلسانين، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون، وإذا خلوا إلى شياطينهم دعاة الفتنة والإفساد الذين يصدون عن سبيل الحق قالوا لهم إنما نقول ذلك لهم استهزاء بهم، وقد فضح الله بهتانهم وأوعدهم شديد العقاب على استهزائهم وزادهم حيرة في أمورهم : ثم ذكر أنهم قد اختاروا الضلالة على الهدى، إذ هم أهملوا العقل في فهم الكتاب بعد أن تمكنت منهم التقاليد والعادات، وتحكمت فيهم البدع، فخسروا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين فيها، لأنهم باعوا ما وهبهم الله من النور والهدى، بضلالات البدع والأهواء
الإيضاح
﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ﴾ أي وإذا رأى المنافقون المؤمنين واجتمعوا بهم قالوا كذبا وبهتانا : آمنا كإيمانكم وصدقنا كتصديقكم، وإذا انفردوا بأمثالهم من دعاة الفتنة والإفساد قالوا لهم : إنا على عقيدتكم، وموافقوكم على دينكم، وإنما نظهر لهم الإيمان استهزاء بهم، لنشاركهم في الغنائم، ونحفظ أموالنا وأولادنا ونساءنا من أيديهم ونطلع على أسرارهم.
﴿ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ﴾
تفسير المفردات :
العمه : ظلمة البصيرة كالعمى في البصر وأثره الحيرة والاضطراب بحيث لا يدري الإنسان أين يتوجه، يقال عمه فهو عمه وعامه وجماعة عمه.
المعنى الجملي
وصف الله في هذه الآيات حال جماعة من المنافقين كانوا في عصر التنزيل قد بلغ من دعارتهم وتمردهم في النفاق وفساد الأخلاق أن كانوا يظهرون بوجهين، ويتكلمون بلسانين، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون، وإذا خلوا إلى شياطينهم دعاة الفتنة والإفساد الذين يصدون عن سبيل الحق قالوا لهم إنما نقول ذلك لهم استهزاء بهم، وقد فضح الله بهتانهم وأوعدهم شديد العقاب على استهزائهم وزادهم حيرة في أمورهم : ثم ذكر أنهم قد اختاروا الضلالة على الهدى، إذ هم أهملوا العقل في فهم الكتاب بعد أن تمكنت منهم التقاليد والعادات، وتحكمت فيهم البدع، فخسروا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين فيها، لأنهم باعوا ما وهبهم الله من النور والهدى، بضلالات البدع والأهواء
الإيضاح :
أي الله يجازيهم بالعقاب على استهزائهم ﴿ وسمى هذا الجزء استهزاء للمشاكلة في اللفظ كما سمى جزاء السيئة سيئة ﴾ ويزيدهم في عتوهم وكفرهم، ويجعلهم حائرين مترددين في الضلال عقوبة لهم على استهزائهم.
﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴾
المعنى الجملي
وصف الله في هذه الآيات حال جماعة من المنافقين كانوا في عصر التنزيل قد بلغ من دعارتهم وتمردهم في النفاق وفساد الأخلاق أن كانوا يظهرون بوجهين، ويتكلمون بلسانين، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون، وإذا خلوا إلى شياطينهم دعاة الفتنة والإفساد الذين يصدون عن سبيل الحق قالوا لهم إنما نقول ذلك لهم استهزاء بهم، وقد فضح الله بهتانهم وأوعدهم شديد العقاب على استهزائهم وزادهم حيرة في أمورهم : ثم ذكر أنهم قد اختاروا الضلالة على الهدى، إذ هم أهملوا العقل في فهم الكتاب بعد أن تمكنت منهم التقاليد والعادات، وتحكمت فيهم البدع، فخسروا في تجارتهم، وما كانوا مهتدين فيها، لأنهم باعوا ما وهبهم الله من النور والهدى، بضلالات البدع والأهواء
الإيضاح :
أي هؤلاء قد رغبوا عن الهدى وسلوك الطريق المستقيم، ومالوا إلى الضلال واشتروه، ولكن لم تكن تجارتهم رابحة، إذ هم أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد لإدراك الحقائق ونيل الكمال، فأصبحوا خاسرين آيسين من الربح.
وإن من كانت هذه حالهم فلا علم لهم بطرق التجارة، فإن التاجر إن فاته الربح في صفقة فربما تداركه في أخرى ما دام رأس المال موجودا، أما وقد فقد رأس المال فلا سبيل إلى الربح بحال.
﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون { ١٧ ﴾ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴿ ١٨ ﴾ }.
تفسير المفردات
المثل والمثل والمثيل كالشبه والشبه والشبيه وزنا ومعنى، ثم استعمل في بيان حال الشيء وصفته التي توضحه وتبين حاله كقوله :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون ﴾ الخ، وقوله :﴿ ولله المثل الأعلى ﴾ واستوقد النار : طلب وقودها، أي سطوعها وارتفاع لهبها بفعله أو فعل غيره، ويقال ضاءت النار وأضاءت وأضاءته النار، أي أظهرته بضوئها. وترك : أي صبر.
المعنى الجملي
نهج القرآن الكريم نهج العرب في أساليبها، فضرب الأمثال التي تجلي المعاني أتم جلاء، وتحدث في النفوس من الأثر ما لا يقدر قدره ولا يسبر غوره، لما فيها من إبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجلية، وإظهار ما ينكر في لباس ما يعرف ويشهر، وعلى هذا السنن ضرب الله مثل المنافقين، فصور حالهم حينما أسلموا أولا ودخل نور الإيمان في قلوبهم، ثم داخلهم الشك فيه فكفروا به، إذ لم يدركوا فضائله ولم يفقهوا محاسنه، وصاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية.
ولا يدركون وسيلة من وسائل النجاة، وقد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين –بحال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها في جلب خير أو دفع ضر، فلما أضاءت ما حولهم من الأشياء والأماكن، جاءها عارض خفي أو أمر سماوي كمطر شديد، أو ريح عاصف جرفها وبددها فأصبحوا في ظلام دامس، لا يتسنى لهم الإبصار بحال.
ثم جعلهم مرة أخرى كالصم البكم الذين فقدوا هذه المشاعر والحواس، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنهم فقدوها، فما فائدة السمع إلا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدي الواعظ، وما منفعة اللسان إلا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان، لتتجلى المعقولات، وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلا النظر والاعتبار، لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شيء من ذلك فكأنه فقدها، وأنى لمثله أن يخرج من ضلالة، أو يرجع إلى هدى ؟
الإيضاح :
﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ﴾ أي مثل المنافقين وحالهم كحال الذين استوقدوا نارا، فلما أضاءت ما حولهم من الأمكنة والأشياء، أطفأ الله نارهم التي منها استمدوا نورهم بنحو مطر شديد أو ريح عاصف فصيرهم لا يبصرون شيئا، لأن النور قد زال ولم يبق منه أثر ولا عين.
﴿ صم بكم عمي ﴾
تفسير المفردات :
الصمم آفة تمنع السماع. والبكم : الخرس. والعمى : عدم البصر عما من شأنه أن يبصر.
المعنى الجملي
نهج القرآن الكريم نهج العرب في أساليبها، فضرب الأمثال التي تجلي المعاني أتم جلاء، وتحدث في النفوس من الأثر ما لا يقدر قدره ولا يسبر غوره، لما فيها من إبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجلية، وإظهار ما ينكر في لباس ما يعرف ويشهر، وعلى هذا السنن ضرب الله مثل المنافقين، فصور حالهم حينما أسلموا أولا ودخل نور الإيمان في قلوبهم، ثم داخلهم الشك فيه فكفروا به، إذ لم يدركوا فضائله ولم يفقهوا محاسنه، وصاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية.
ولا يدركون وسيلة من وسائل النجاة، وقد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين –بحال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها في جلب خير أو دفع ضر، فلما أضاءت ما حولهم من الأشياء والأماكن، جاءها عارض خفي أو أمر سماوي كمطر شديد، أو ريح عاصف جرفها وبددها فأصبحوا في ظلام دامس، لا يتسنى لهم الإبصار بحال.
ثم جعلهم مرة أخرى كالصم البكم الذين فقدوا هذه المشاعر والحواس، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنهم فقدوها، فما فائدة السمع إلا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدي الواعظ، وما منفعة اللسان إلا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان، لتتجلى المعقولات، وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلا النظر والاعتبار، لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شيء من ذلك فكأنه فقدها، وأنى لمثله أن يخرج من ضلالة، أو يرجع إلى هدى ؟
الإيضاح :
وصفهم الله بهذه الصفات مع سلامة مشاعرهم، من قبل أنهم فقدوا منفعة السمع، فلا يصغون لعظة واعظ ولا إرشاد مرشد، بل هم لا يفقهون إن سمعوا فكأنهم صم لا يسمعون، كما فقدوا منفعة الاسترشاد وطلب الحكمة، فلا يطلبون برهانا على قضية، ولا بيانا عن مسألة تخفى عليهم، فكأنهم بكم لا يتكلمون وفقدوا منافع الإبصار من النظر والاعتبار، فلا يرون ما يحل بهم من الفتن فينزجروا، ولا يبصرون ما تتقلب به أحوال الأمم فيعتبروا.
﴿ فهم لا يرجعون ﴾ أي فهم لا يعودون من الضلالة إلى الهدى الذي تركوه وأضاعوه، إذ من فقد حواسه لا يسمع صوتا يهتدي به، ولا يصيح لينقذ نفسه، ولا يرى بارقا من النور يتجه إليه ويقصده، ولا تزال هذه حاله، ظلمات بعضها فوق بعض حتى يتردى في مهاوي الهلاك.
﴿ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين { ١٩ ﴾ يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ﴿ ٢٠ ﴾ }.
تفسير المفردات
الصيب : المطر يصوب وينزل، من الصوب وهو النزول. والرعد : هو الصوت الذي يسمع في السحاب أحيانا عند تجمعه. والبرق : هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالبا، وربما لمع في الأفق حيث لا سحاب، وأسباب هذه الظواهر اتحاد كهربية السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات. والصاعقة : نار عظيمة تنزل أحيانا أثناء المطر والبرق، وسببها تفريغ الكهربائية التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض والإحاطة بالشيء : الإحداق به من جميع جهاته، والخطف : الأخذ بسرعة.
المعنى الجملي
ضرب الله مثلا آخر يشرح به حال المنافقين ويبين فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم، زيادة في التنكيل بهم، وهتكا لأستارهم، إذ هم كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، فجعل حالهم وقد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء فأصابهم القلق والاضطراب، واعترضتهم ظلمات الشبه والتقاليد والخوف من ذم الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم، ثم استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي، وتلوح لهم الآيات البينة، والحجج القيمة، فيعزمون على إتباع الحق، وتسير أفكارهم في نوره بعض الخطى، ولكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد، وظلمة الشبهات، فتقيد الفكر وإن لم تقف سيره، بل تعود به إلى الحيرة –كحال قوم في إحدى الفلوات نزل بهم بعد ظلام الليل صيب من السماء، فيه رعود قاصفة، وبروق لامعة، وصواعق متساقطة، فتولاهم الدهش والرعب، فهووا بأصابعهم إلى آذانهم كلما قصف هزيم الرعد ليسدوا منافذ السمع، لما يحذرونه من الموت الزوام، ويخافونه من نزول الحمم، ولكن هل ينجي حذر من قدر ؟ " تعددت الأسباب والموت واحد " بلى إن الله قدير أن يذهب الأسماع والأبصار التي كانت وسيلة الدهش والخوف، ولكن لحكمة غاب عنا سرها، ومصلحة لا نعرف كنهها، لم يشأ ذلك وهو الحكيم الخبير
الإيضاح :
﴿ أو كصيب من السماء ﴾ أي كقوم نزل بهم صيب من السماء، وفي قوله من السماء إيماء إلى أنه شيء لا يمكن دفعه.
﴿ فيه ظلمات ورعد وبرق ﴾ أي فيه ظلمة الليل، وظلمة السحب، وظلمة الصيب نفسه، وفيه رعد وبرق.
﴿ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ﴾ أي يجعلون أنامل أصابعهم في آذانهم كلما حدث قاصف من الرعد ليدفعوا شدة وقعه بسد منافذ السمع، خوفا على أنفسهم من الموت، مع أن سد الآذان ليس من أسباب الوقاية من الصاعقة حتى يدفع عنهم الموت.
﴿ والله محيط بالكافرين ﴾ أي والله مطلع على أسرارهم، عالم بما في ضمائرهم، قادر على أخذهم أينما كانوا، فما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم من الله شيئا إذ لا يغني حذر من قدر، فمن لم يمت بالصاعقة مات بغيرها.
﴿ يكاد البرق يخطف أبصارهم ﴾
تفسير المفردات :
قاموا : أي وقفوا في أماكنهم منتظرين تغير الحال ليصلوا إلى المقصد، أو يلجأوا إلى ملجأ يعصمهم من الخطر.
المعنى الجملي
ضرب الله مثلا آخر يشرح به حال المنافقين ويبين فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم، زيادة في التنكيل بهم، وهتكا لأستارهم، إذ هم كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، فجعل حالهم وقد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء فأصابهم القلق والاضطراب، واعترضتهم ظلمات الشبه والتقاليد والخوف من ذم الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم، ثم استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي، وتلوح لهم الآيات البينة، والحجج القيمة، فيعزمون على إتباع الحق، وتسير أفكارهم في نوره بعض الخطى، ولكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد، وظلمة الشبهات، فتقيد الفكر وإن لم تقف سيره، بل تعود به إلى الحيرة –كحال قوم في إحدى الفلوات نزل بهم بعد ظلام الليل صيب من السماء، فيه رعود قاصفة، وبروق لامعة، وصواعق متساقطة، فتولاهم الدهش والرعب، فهووا بأصابعهم إلى آذانهم كلما قصف هزيم الرعد ليسدوا منافذ السمع، لما يحذرونه من الموت الزوام، ويخافونه من نزول الحمم، ولكن هل ينجي حذر من قدر ؟ " تعددت الأسباب والموت واحد " بلى إن الله قدير أن يذهب الأسماع والأبصار التي كانت وسيلة الدهش والخوف، ولكن لحكمة غاب عنا سرها، ومصلحة لا نعرف كنهها، لم يشأ ذلك وهو الحكيم الخبير
الإيضاح :
أي يكاد البرق يختلس أبصارهم، ويستلبها بسرعة من شدة الضوء المفاجئ.
﴿ كلما أضاء لهم مشوا فيه ﴾ أي كلما أنار البرق الطريق في الليلة المظلمة، مشوا في مطرح نوره خطوات يسيرة.
﴿ وإذا أظلم عليهم قاموا ﴾
أي وإذا خفي البرق واستتر وأظلم الطريق، وقفوا في أماكنهم متحيرين فرصة أخرى عسى أن يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصمهم من الهلاك.
﴿ ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ﴾ أي ولو شاء أن يذهب الأسماع والأبصار بصوت الرعد ونور البرق لفعل، لكنه لم يشأ لحكم ومصالح هو بها عليم.
﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ أي إنه ما شاء كان، إذ لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون { ٢١ ﴾ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ﴿ ٢٢ ﴾ }.
تفسير المفردات
العبادة : خضوع ينشأ عن استشعار القلب بعظمة المعبود، والرب : هو الذي يسوس من يربيه ويدبر شؤونه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أصناف الخلق وبين أن منهم المهتدين، والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية، والمنافقين المذبذبين بين ذلك –دعا إلى دين التوحيد الحق وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنهم ينظرون إليه ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، فإن فعلوا ذلك أعدوا أنفسهم للتقوى، وبلغوا الغاية القصوى.
ثم عدد بعض نعمه المتظاهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب، ثم خلق الأرض مستقرا ومهادا لينتفعوا بخيراتها ويستخرجوا معادنها ونباتها، ثم بنى لهم السماء التي زينها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدي بها الساري في الليل المظلم، وأنزل منها الماء فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها وأشكالها.
أفليس في كل هذا ما يطوح بالنظر، ويهدي الفكر إلى أن خالق هذا الكون البديع المثال لا ند له ولا نظير، وأن ما جعلوه أندادا له يقدرون على إيجاد شيء مما خلق وأنهم يعلمون ذلك حق العلم، فكيف يستغيثون بغر الله، ويدعون غير الله، ويستشفعون به، ويتوسلون إليه، مع أنه لا خالق ولا رازق إلا الله ؟
الإيضاح
﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم ﴾ بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته بعبادة الله وحده، وقد كان هذا صنيع كل نبي كما قال :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾.
والمخاطبون بهذه الدعوة أولا هم العرب واليهود في المدينة وما حولها، وكانوا يؤمنون بالله ويعبدون غيره إما بدعائه مع الله، أو من دون الله.
﴿ الذي خلقكم والذين من قبلكم ﴾ أي إن هذا الرب العظيم المتصف بتلك الصفات التي تعلمونها –هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم، ورباكم وربى أسلافكم، ودبر شئونكم، ووهبكم من طرق الهداية ووسائل المعرفة مثل ما وهبهم، فاعبدوه وحده، ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه.
﴿ لعلكم تتقون ﴾ أي فاعبدوه على تلك الشاكلة، فإن العبادة على هذا السنن هي التي تعدكم للتقوى، ويرجى بها بلوغ درجة الكمال القصوى.
ثم ذكر بعض خصائص الربوبية التي تقتضي الاختصاص به تعالى فقال :﴿ الذي جعل لكم الأرض فراشا ﴾.
تفسير المفردات :
والفراش : واحد الفرش، وفرش الشيء يفرشه بالضم فراشا : بسطه، والبناء : وضع على شيء آخر بحيث يتكون من ذلك شيء بصورة خاصة. والند : الشريك والكفء، يقال فلان ند فلان إذا كان مماثلا له في بعض الشئون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أصناف الخلق وبين أن منهم المهتدين، والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية، والمنافقين المذبذبين بين ذلك –دعا إلى دين التوحيد الحق وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنهم ينظرون إليه ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، فإن فعلوا ذلك أعدوا أنفسهم للتقوى، وبلغوا الغاية القصوى.
ثم عدد بعض نعمه المتظاهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب، ثم خلق الأرض مستقرا ومهادا لينتفعوا بخيراتها ويستخرجوا معادنها ونباتها، ثم بنى لهم السماء التي زينها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدي بها الساري في الليل المظلم، وأنزل منها الماء فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها وأشكالها.
أفليس في كل هذا ما يطوح بالنظر، ويهدي الفكر إلى أن خالق هذا الكون البديع المثال لا ند له ولا نظير، وأن ما جعلوه أندادا له يقدرون على إيجاد شيء مما خلق وأنهم يعلمون ذلك حق العلم، فكيف يستغيثون بغر الله، ويدعون غير الله، ويستشفعون به، ويتوسلون إليه، مع أنه لا خالق ولا رازق إلا الله ؟
الإيضاح :
أي هو الذي مهد لكم الأرض وجعلها صالحة للافتراش والإقامة فيها.
﴿ والسماء بناء ﴾ أي وهو الذي كون السماء بنظام متماسك كنظام البناء، وسوى أجرامها على ما نشاهد وأمسكها بسنة الجاذبية، حتى لا تقع على الأرض ولا يصطدم بعضها ببعض، حتى يأتي اليوم الموعود.
﴿ وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ﴾ أي وهو الذي أنزل من السماء مطرا يسقي به الزرع، ويغذي به النبات، فأخرج به ثمرا نأكل منه، وننتفع به.
﴿ فلا تجعلوا لله أندادا ﴾ الأنداد هم الذين خضع الناس لهم وقصدوهم في قضاء حاجاتهم، وكان مشركو العرب يسمون ذلك الخضوع عبادة، إذ لم يكن عندهم شرع ينهاهم عن عبادة غير الله، وأهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا كانوا يتحاشون هذا اللفظ، فلا يسمون ذلك الاتخاذ عبادة ولا أولئك المعظمين آلهة وأندادا، بل يسمون دعاءهم غير الله والتقرب إليه توسلا واستشفاعا، ويسمون تشريعهم لهم بعض العبادات، وتحليل المنكرات، وتحريم بعض الطيبات، فقها واستنباطا من التوراة، والكل متفقون على أنه لا خالق إلا الله ولا رازق إلا هو.
﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أي وإنكم لتعلمون بطلان ذلك، وإنكم إذا سئلتم من رزقكم من السماوات والأرض ومن يدبر الأمر ؟ تقولون : الله، فلم إذا تدعون غيره، وتستشفعون به ؟
ومن أين أنتم بهذه الوسائط التي لا تضر ولا تنفع ؟ ومن أين جاءكم أن التقرب إلى الله يكون بغير ما شرعه الله حتى قلتم ﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾.
﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين { ٢٣ ﴾ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ﴿ ٢٤ ﴾ }.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة. متقون يهتدون بهديه، وجاحدون معاندون عن سماع حججه وبراهينه، ومذبذبون بين ذلك – طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أن القرآن معجزته –أن يتعرفوا إن كان هو من عند الله كما يدعي، أو هو من عند نفسه كما يدعون، فيروزوا أنفسهم ويحاكوه، لعلهم يأتون بمثل سورة من أقصر سوره، وهم فرسان البلاغة، وعصرهم أرقى عصور الفصاحة، والكلام ديدنهم، وبه تفاخرهم، وكثير منهم حاز قصب السبق في هذا المضمار، ولم يكن محمد من بينهم فهو لم يمرن عليه، ولم يبار أهله ولم ينافسهم فيه.
فإن عجزوا ولم يستطيعوا ذلك، وهم لا يستطيعون وإن تظاهر أنصارهم، وكثر أشياعهم، بل لو اجتمعت الإنس والجن جميعا، فليعلموا أن ما جاءهم به فأعجزهم لم يكن إلا بوحي سماوي وإمداد إلهي لا يسمو إليه محمد بعقله، ولا يصل بيانه إلى مثل أسلوبه ونظمه، وإذا استبان عجزهم ولزمتهم الحجة، فقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما ادعى وكان من ارتاب في صدقه معاندا مكابرا، واستحق العقاب وكان جزاؤه النار التي وقودها العصاة الجاحدون وما عبدوه من أحجار وأصنام، أعدت لكل من جحد الرسل أو استحدث في الدين ما هو منه براء
الإيضاح
﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ﴾ أي وإن ارتبتم في أمر هذا القرآن، وزعمتم أنه من كلام البشر فأتوا بمثله، لأنكم تقدرون على ما يقدر عليه سائر البشر.
﴿ وادعوا شهداءكم من دون الله ﴾ أي وادعوا الحاضرين في مشاهدكم من رؤسائكم وأشرافكم، الذين تفزعون إليهم في الملمات، وتعولون عليهم في المهمات.
وقد يكون المراد بالشهداء الأصنام، أي وادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آهلة وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، وابتعدوا عن الله ناصر محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في أن فيه مجالا للريب والشك، وأن محمدا تقوله من تلقاء نفسه، فلديكم ما يهدي إلى الحق ويجلى الأمر، فها هو القرآن أمامكم فأتوا بسورة من مثله.
وقد نزل في هذا المعنى آيات كثيرة بمكة، أولها ما في سورة الإسراء :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾ ثم ما في سورة هود :﴿ أم يقولون افتراه، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ ثم ما في سورة يونس :﴿ أم يقولون افتراه، قل فاتوا بسورة مثله ﴾ وما جاء في هذه السورة المدنية.
﴿ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا، فتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ﴾
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن الناس بالنظر إلى القرآن أقسام ثلاثة. متقون يهتدون بهديه، وجاحدون معاندون عن سماع حججه وبراهينه، ومذبذبون بين ذلك – طلب هنا إلى الجاحدين المعاندين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أن القرآن معجزته –أن يتعرفوا إن كان هو من عند الله كما يدعي، أو هو من عند نفسه كما يدعون، فيروزوا أنفسهم ويحاكوه، لعلهم يأتون بمثل سورة من أقصر سوره، وهم فرسان البلاغة، وعصرهم أرقى عصور الفصاحة، والكلام ديدنهم، وبه تفاخرهم، وكثير منهم حاز قصب السبق في هذا المضمار، ولم يكن محمد من بينهم فهو لم يمرن عليه، ولم يبار أهله ولم ينافسهم فيه.
فإن عجزوا ولم يستطيعوا ذلك، وهم لا يستطيعون وإن تظاهر أنصارهم، وكثر أشياعهم، بل لو اجتمعت الإنس والجن جميعا، فليعلموا أن ما جاءهم به فأعجزهم لم يكن إلا بوحي سماوي وإمداد إلهي لا يسمو إليه محمد بعقله، ولا يصل بيانه إلى مثل أسلوبه ونظمه، وإذا استبان عجزهم ولزمتهم الحجة، فقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما ادعى وكان من ارتاب في صدقه معاندا مكابرا، واستحق العقاب وكان جزاؤه النار التي وقودها العصاة الجاحدون وما عبدوه من أحجار وأصنام، أعدت لكل من جحد الرسل أو استحدث في الدين ما هو منه براء
الإيضاح :
النار موطن العذاب، ونحن نؤمن بها كما أخبر القرآن، ولا نبحث عن حقيقتها، والوقود ﴿ بفتح الواو ﴾ ما توقد به النار، والمراد بالناس العصاة، والمراد بالحجارة هنا الأصنام كما قال :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ وقوله : أعدت للكافرين، أي هيئت للذين لا يستجيبون دعوة الرسل أو ينحرفون عنها لمخالفتهم هدى الدين وعمل ما تنكره شرائع الأنبياء والمرسلين.
والخلاصة –فإن لم تفعلوا ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد أن بذلتم المجهود، " ولن تفعلوه فليس في استطاعتكم " فاحذروا من العناد واعترفوا بكونه منزلا من عند الله، لئلا تكونوا أنتم وأصنامكم وقودا للنار التي أعدت لأمثالكم من الكافرين.
﴿ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون { ٢٥ ﴾ }.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الكافرين وما أعد لهم من العقاب، قفى على ذلك ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما أعد لهم من نعيم مقيم في الدار الآخرة، وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الترهيب بالترغيب تنشيطا لاكتساب ما يوجب الزلفى عند الله، وتثبيطا عن اقتراف ما يوجب البعد من رضوانه تعالى.
والمأمور بهذا التبشير كل من يسمع الأمر من أهله، وقد وعد الله الذين آمنوا بهذه الجنات، وما فيها من لذات، وإنا لنفوض علم ذلك إلى الله تعالى ونكتفي بما ورد من أن لذات الآخرة أعلى من لذات الدنيا، فقد روي عن ابن عباس أنه قال : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي، وجاء في الصحيحين مرفوعا عن الله عز وجل ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ) وهو في المعنى مفسر لقوله تعالى :﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾.
الإيضاح
﴿ وبشر الذين آمنوا ﴾ البشارة الإخبار بما يسر، وآمنوا : أي بالله وصفاته التي جاء بها النقل وأيدها العقل، وبالنبي وبما جاء به، وبالبعث والجزاء، ولا يتحقق الإيمان إلا باطمئنان القلب وقيام البرهان الذي لا يقبل الشك والارتياب، وأفضل البراهين ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله في الآفاق والأنفس، فقد يبلغ الإنسان علم اليقين بنظرة صادقة في هذا الكون الذي بين يديه، أو في نفسه إذا تجلت له بغرائب خلقها وبدائع صنعها.
﴿ وعملوا الصالحات ﴾ العمل الصالح معروف عند الناس، فقد أودع في فطرتهم ما يميزون به بين الخير والشر، ولكن بعضهم يضل بما يطرأ على نفسه من زيغ يحيد به عن الهدى، ويتبعه آخرون في ضلاله فتتولد التقاليد الضارة، وتكون في ميزان الخير والصلاح لدى الضالين، وإن كانت مخالفة لأصل الفطرة كما ورد في الحديث :( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ).
وقد بين الكتاب الأعمال الصالحة في آي كثيرة كقوله :﴿ قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ﴾.
﴿ أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ قال الفراء : الجنة البستان فيه النخيل، والفردوس البستان فيه الكرم، والمراد بها هنا دار الخلود في الحياة الآخرة أعدها الله للمتقين كما أعد النار للكافرين، ونحن نؤمن بهما ولا نبحث عن حقيقتهما. والأنهار واحدها نهر " بفتح الهاء وسكونها " وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كنيل مصر، وجري الأنهار من تحتها هو كما نشاهد في الأشجار التي على شواطئ الأنهار الجارية.
﴿ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ﴾ أي كلما رزقوا من الجنة رزقا من بعض ثمارها قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان وصالح العمل، فهو من وادي قوله تعالى :﴿ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ﴾.
﴿ وأتوا به متشابها ﴾ أي إن رزق الجنة يتشابه على أهلها في صورته ويختلف في طعمه ولذته.
﴿ ولهم فيها أزواج مطهرة ﴾ أي ولهم في الجنات أزواج تطهرن غاية التطهر، فليس فيهن ما يعبن عليه من خبث جسدي مما عليه النساء في الدنيا كالحيض والنفاس، أو نفسي كالكيد والمكر وسائر مساوئ الأخلاق.
وصحبة الأزواج في الآخرة من الأمور الغيبية التي نؤمن بها كما أخبر الله، ولا نبحث فيما وراء ذلك، فأطوار الآخرة أعلى مما في حياتنا الدنيا، فهي سالمة من المنغصات في الطعام والشراب والمباشرة الزوجية، روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون ولا يتمخطون، قالوا فما بال الطعام، قال جشاء ورشح كرشح المسك، ويلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس ).
﴿ وهم فيها خالدون ﴾ الخلود لغة : المكث الطويل، قال في الأساس : ومن كلامهم خلد فلان في السجن، أي أقام طويلا، ويراد به في لسان الشرع الدوام الأبدي أي وهم لا يخرجون منها ولا هي تفنى وتزول، بل هي حياة أبدية لا تنتهي.
﴿ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم، وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا، يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين { ٢٦ ﴾ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، أولئك هم الخاسرون ﴿ ٢٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم، يقال فلان يستحي أن يفعل كذا، أي إن نفسه تنقبض عن فعله، وكأن الحياء ضعف في الحياة، لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان، وهي قوة الحس والحركة، وفعله استحى واستحيا، ويقال استحييته واستحييت منه، والمثل في اللغة : الشبيه والنظير، وضرب المثل في الكلام أن يذكر لحال ما يناسبها فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم، وهو إحداث أثر خاص فيها، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعا ينفذ أثره إلى قلبه، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلا بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه. والمراد بما فوق البعوضة ما زاد عليها وفاقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلا بالمنظار المكبر، وكانوا قديما يضربون المثل في الصغر بمخ النملة والبعوضة، فقد قالوا : أعز من مخ البعوضة، وجاء في الحديث :( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة ماء ).
والحق : هو الشيء الذي يحق ويجب ثبوته، ولا يجد العقل سبيلا إلى إنكاره، والفسق لغة : الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت.
المعنى الجملي
روي عن ابن عباس أن هذه الآيات جاءت لتنزيه القرآن الكريم من ريب خاص اعترى اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقرات كالذباب والعنكبوت لما نزل قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب ﴾ وقوله :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾ إثر تنزيهه من مطلق الريب بما تحداهم به في الآيات السابقة، إذ طلب إليهم أن يأتوا بسورة مثله، وبه أبان لهم أن ذلك ليس بمطعن في القرآن، بل هو أنصع برهان على أنه من عند خالق القوى والقدر، فإن سنة البلغاء جرت بوجوب التماثل بين المثل وما مثل له، فالعظيم به بالعظيم، والحقير له بالحقير، ألا ترى إلى الإنجيل، وقد مثل غل الصدر بالنخالة، ومعارضة السفهاء بإثارة الزنابير، وجاء في عباراتهم " أجمع من ذرة، وأجرأ من الذباب، وأضعف من بعوضة ".
وما الأمثال إلا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء المحسوسة لتأنس بها النفس وتستنزل الوهم عن معارضة العقل، والحكيم علام الغيوب يعلم حكمة هذا، فلا يترك ضرب المثل بالبعوضة وما دونها حين تدعو المصلحة إلى ذلك.
والناس إزاء هذا فريقان : مؤمنون يقولون إن الله خالق الأشياء حقيرها وعظيمها فالكل لديه سواء، وكافرون يستهزئون بالأمثال احتقارا لها، فحقت عليهم كلمة ربهم فأصبحوا من الخاسرين
الإيضاح
﴿ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ﴾ أي إن الله حلت قدرته لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنه هو الخالق لكل شيء جليلا كان أو حقيرا.
﴿ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ﴾ أي فالمؤمنون يقولون ما ضرب الله هذا المثل إلا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهي تقرير الحق والأخذ به، فهو إنما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصل المجمل لبسطه وإيضاحه.
﴿ وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ﴾ الذين كفروا هم اليهود والمشركون وكانوا يجادلون بعد أن استبانت لهم الحجة وحصحص الحق، ويقولون ماذا أراد الله بهذه المثل الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك وما أعرضوا وانصرفوا، ﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ﴾.
ثم أجاب عن سؤالهم بقوله :
﴿ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ﴾ أي إن غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقابلوه بالإنكار، فكان ذلك سببا في ضلالهم، ومن عادتهم الإنصاف والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به، لأنهم يقدرون الأشياء بحسب فائدتها.
ومن المعلوم أن أنفع الكلام ما تجلت به الحقائق، واهتدى به السامع إلى سواء السبيل، وأجله في ذلك الأمثال كما قال :﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾ والعالمون هم المؤمنون المهتدون بهدى الحق.
وقد جعل الله المهتدين في الكثرة كالضالين، مع أن هؤلاء أكثر كما قال :
﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ إشارة إلى أن المؤمنين المهتدين على قلتهم أكثر نفعا وأجل فائدة من أولئك الكفرة الفاسقين.
إن الكرام كثير في البلاد وإن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
ثم أكمل الجواب وزاد في البيان فقال :
﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾ أي وما يضل بضرب المثل إلا الذين خرجوا عن سنة الله في خلقه وعما هداهم إليه بالعقل والمشاعر والكتب المنزلة على من أوتوها.
وفي هذا إيماء إلى أن علة إضلالهم ما كانوا عليه من الخروج عن السنن الكونية التي جعلها عبرة لمن تذكر، فقد انصرفت أنظارهم عن التدبر في حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه.
ثم زاد في ذم الفاسقين بذكر أوصاف مستقبحة لهم فقال :﴿ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ﴾.
تفسير المفردات :
والنقض : فك الحبل والغزل ونحوهما، والميثاق ما يوثق به الشيء ويكون محكما يعسر نقضه، وعهد الله ما أخذه على عباده من فهم السنن الكونية بالنظر والاعتبار بما أوتوه من نعمة العقل والحواس المرشدة إلى الفهم، ونقضه عدم استعمال تلك المواهب فيما خلقت له حتى كأنهم فقدوها.
المعنى الجملي
روي عن ابن عباس أن هذه الآيات جاءت لتنزيه القرآن الكريم من ريب خاص اعترى اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقرات كالذباب والعنكبوت لما نزل قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب ﴾ وقوله :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾ إثر تنزيهه من مطلق الريب بما تحداهم به في الآيات السابقة، إذ طلب إليهم أن يأتوا بسورة مثله، وبه أبان لهم أن ذلك ليس بمطعن في القرآن، بل هو أنصع برهان على أنه من عند خالق القوى والقدر، فإن سنة البلغاء جرت بوجوب التماثل بين المثل وما مثل له، فالعظيم به بالعظيم، والحقير له بالحقير، ألا ترى إلى الإنجيل، وقد مثل غل الصدر بالنخالة، ومعارضة السفهاء بإثارة الزنابير، وجاء في عباراتهم " أجمع من ذرة، وأجرأ من الذباب، وأضعف من بعوضة ".
وما الأمثال إلا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء المحسوسة لتأنس بها النفس وتستنزل الوهم عن معارضة العقل، والحكيم علام الغيوب يعلم حكمة هذا، فلا يترك ضرب المثل بالبعوضة وما دونها حين تدعو المصلحة إلى ذلك.
والناس إزاء هذا فريقان : مؤمنون يقولون إن الله خالق الأشياء حقيرها وعظيمها فالكل لديه سواء، وكافرون يستهزئون بالأمثال احتقارا لها، فحقت عليهم كلمة ربهم فأصبحوا من الخاسرين
الإيضاح :
أي الذين يستعملون المواهب التي خلقها الله لعباده من عقل ومشاعر وحواس ترشدهم إلى النظر والاعتبار في غير ما خلقت له حتى كأنهم فقدوها كما قال :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون ﴾.
وهذا العهد الذي نقضوه هو العهد الفطري، وهناك عهد آخر جاءت به الشرائع وهو العهد الديني، وقد وثق الله الأول بجعل العقول قابلة لإدراك السنن الإلهية التي في الكون، كما وثق الثاني بما أيد به الأنبياء من الحجج والبراهين الدالة على صدقهم، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم فهو ناقض لعهد الله، فاسق عن سننه في إبلاغ القوى البشرية والنفسية حد الكمال الإنساني الممكن لها.
﴿ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ﴾ أمر الله ضربان، أمر تكوين وهو ما عليه الكون من بديع الصنع ودقيق النظام كإفضاء الأسباب إلى مسبباتها والمقدمات إلى نتائجها، ومعرفة المنافع والمضار بغاياتها، وأمر تشريع وهو ما جاء به الأنبياء من الشرائع لتبليغه للناس ليعملوا به.
فمن أنكر الإله وصفاته بعد أن شهدت بوجوده الآثار المنبتة في الكون، أو أنكر نبوة نبي بعد أن أقام الدليل على صدقه فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى العهد الفطري، لأنه قطع الصلة بين الدليل والمدلول.
ومن أنكر شيئا مما علم أن الرسول قد جاء به من الأوامر والنواهي، فقد قطع ما أمر الله به في كتبه أمر تشريع وتكليف، وهو لا يأمر إلا بما أثبتت التجربة منفعته، ولا ينهى إلا عما ثبتت مضرته.
ومشركو العرب بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم نقضوا عهد الفطرة، وأهل الكتاب نقضوا العهدين معا، فإن الله بشرهم في الكتب المنزلة على أنبيائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بذكر صفاته، فحرفوا وأولوا متعمدين كما قال تعالى :﴿ وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ﴾.
﴿ ويفسدون في الأرض ﴾ بصدهم عن سبيل الله يبغونها عوجا، وبالاستهزاء بالحق بعد ما تبين، وبإهمالهم هداية العقل وهداية الدين، فوجودهم في الأرض مفسدة لأنفسهم ومفسدة لأهلها.
﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ لأن إفسادهم لما عم العقائد والأخلاق بفقد هداية الفطرة وهداية الدين، استحقوا الخزي في الدنيا بحرمان السعادة الجسمية والعقلية والخلقية.
والعذاب الأليم في الآخرة، ومن خسر السعادتين كان في خسران مبين.
﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون { ٢٨ ﴾ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ﴿ ٢٩ ﴾ }.
المعنى الجملي
وجه سبحانه الخطاب في هاتين الآيتين إلى أولئك الفاسقين الذي ضلوا بالمثل بعد أن وصفهم بالصفات الشنيعة من نقض الموثق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وجاء على طريق التوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادة عن الكفر، وهي النعم المتظاهرة الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق، إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، وتركيب صورهم من الذرات المتناثرة، والنطف الحقيرة المهينة، وخلق لهم ما في الأرض جميعا ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتى وطرق مختلفة، وخلق سبع سماوات مزينة بمصابيح ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.
أفبعد هذا كله يكفرون به وينكرون عليه أن يبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويضرب لهم الأمثال ليهتدوا في إيضاح ما أشكل عليهم مما فيه أمر سعادتهم في دينهم ودنياهم ؟
الإيضاح
﴿ كيف تكفرون بالله ﴾ أي على أي حال تكفرون بالله، وعلى أي شبهة تعتمدون وحالكم في موتتيكم وحياتيكم لا تدع عذرا في الكفران به، والاستهزاء بما ضر به من المثل وإنكار نبوة نبيه.
﴿ وكنتم أمواتا فأحياكم ﴾ أي والحال أنكم كنتم قبل هذه النشأة في الحياة الدنيا أمواتا، أجزاؤكم متفرقة في الأرض، بعض منها في الطبقات الجامدة، وأخرى في الطبقات السائلة، وقسم في الطبقات الغازية، تشركون سائر أجزاء الحيوان والنبات في ذلك، ثم خلقكم في أحسن تقويم وفضلكم على غيركم بنعمة العقل والإدراك والفهم، وتسخير جميع الكائنات الأرضية لكم.
﴿ ثم يميتكم ﴾ حين انقضاء آجالكم بقبض الأرواح التي بها نظام حياتكم، وحينئذ تنحل أبدانكم وتعود سيرتها الأولى، وتنبث في طبقات الأرض وينعدم هذا الوجود الخاص الذي لها.
﴿ ثم يحييكم ﴾ حياة أخرى أرقى من هذه الحياة، وأكمل لمن زكى نفسه وعمل صالحا، ودونها لمن أفسد فطرته، وأهمل التدبر في سنن الكون، وأنكر الإله والرسل وفسق عن أمر ربه.
﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ للحساب والجزاء على ما قدمتم من عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وبعد أن عدد آياته في الأنفس بذكر المبدأ والمنتهى –ذكر آياته في الآفاق الدالة على قدرته المحيطة بكل شيء، وعلى نعمه المتظاهرة على عباده بجعل ما في الأرض مهيأ لهم لمنافعهم فقال :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ﴾.
المعنى الجملي
وجه سبحانه الخطاب في هاتين الآيتين إلى أولئك الفاسقين الذي ضلوا بالمثل بعد أن وصفهم بالصفات الشنيعة من نقض الموثق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض، وجاء على طريق التوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادة عن الكفر، وهي النعم المتظاهرة الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق، إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، وتركيب صورهم من الذرات المتناثرة، والنطف الحقيرة المهينة، وخلق لهم ما في الأرض جميعا ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتى وطرق مختلفة، وخلق سبع سماوات مزينة بمصابيح ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.
أفبعد هذا كله يكفرون به وينكرون عليه أن يبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويضرب لهم الأمثال ليهتدوا في إيضاح ما أشكل عليهم مما فيه أمر سعادتهم في دينهم ودنياهم ؟
الإيضاح :
وهذا الانتفاع يكون بإحدى وسيلتين :
إما بالانتفاع بأعيانه في الحياة الجسدية ليكون غذاء للأجسام أو متعة لها في الحياة المعيشية.
وإما بالنظر والاعتبار فيما لا تصل الأيدي فيستدل به على قدرة مبدعه ويكون غذاء للأرواح.
وبهذا نعلم أن الأصل إباحة الانتفاع بكل ما خلق في الأرض، فليس لمخلوق حق في تحريم شيء أباحه الله إلا بإذنه كما قال :﴿ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل الله أذن لكم أم على الله تفترون ﴾.
﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾ السماء كل ما في الجهة العليا فوق رءوسنا، واستوى إليها أي قصدها قصدا مستويا بلا عاطف يثنيه من إرادة خلق شيء آخر في أثناء خلقها.
﴿ فسواهن سبع سماوات ﴾ أي أتم خلقهن فجعلهن سبع سماوات تامات الخلق والتكوين.
وفي الآية إيماء إلى أن خلق الأرض وما فيها كان سابقا على تسوية السماوات سبعا، وهذا لا يخالف قوله تعالى :﴿ أأنتم أشد خلقا أم السماء ؟ بناها، ورفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها ﴾ لأن كلمة ﴿ بعد ﴾ فيها بعدية في الذكر لا في الزمان، فمن استعمالاتهم أن يقولوا : أحسنت إلى فلان بكذا، وقدمت إليه المعونة وبعد ذلك ساعدته في عمله، على معنى وزيادة على ذلك ساعدته، أو أن الذي كان بعد خلق السماء هو دحو الأرض : أي تمهيدها للسكنى والاستعمار، لا مجرد خلقها وتقدير الأقوات فيها.
﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ أي إن هذا النظام المحكم لا يكون إلا من لدن حكيم عليم بما خلق، فلا عجب أن يرسل رسولا يوحي إليه بكتاب لهداية من يشاء من عباده يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته، جل أو حقر، عظم أو صغر.
﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون { ٣٠ ﴾ }.
تفسير المفردات
خليفة : أي عن نوع آخر، أو خليفة عن الله في تنفيذ أوامره بين الناس، السفك والسفح والسكب : الصب، تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والتقديس : إثبات ما يليق من صفات الكمال.
المعنى الجملي
هذه الآية كالتي قبلها تعداد للنعم الصارفة عن العصيان والكفر، الداعية إلى الإيمان والطاعة، فإن خلق آدم على تلك الصورة، وما أوتيه من نعمة العلم وحسن التصرف في الكون، وجعله خليفة الله في أرضه – لمن أجل النعم التي يجب على ذريته أن يشكروه عليها بحسن طاعته، والبعد عن كفرانه ومعصيته.
وفيها وفيما بعدها قصص لأخبار النشأة الإنسانية أبرز فيه حكما وأسرارا جاءت في صورة مناظرة وحوار – وهو من المتشابه الذي لا يمكن حمله على المعنى الظاهر منه، لأنه إما استشارة من الله لعباده، وذلك محال، وإما إخبار منه للملائكة فاعتراض منهم ومحاجة، وذلك لا يليق بالله ولا بملائكته بحسب ما جاء في وصفهم في قوله :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ ومن ثم كان للعلماء في هذا وأمثاله رأيان :
رأي المتقدمين منهم، وهو تفويض الأمر إلى الله في بيان المراد من كلامه، مع العلم بأنه لا يخبرنا بشيء إلا لنستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا، بذكر ما يقرب المعاني إلى عقولنا.
فهذا الحوار المصور بصورة القول والمراجعة والسؤال والجواب لا ندرك حقيقة المراد منه، وإن كنا نجزم بأن هناك مقاصد أريد إفادتها بهذه العبارات، وأن الله كان يعد لآدم هذا الكون، وأن لذلك المخلوق كرامة لديه بما أودعه فيه من فضائل ومزايا، وفائدة ذكر ذلك لنا من نواح عدة :
بيان أن لا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، فالملائكة وهم أولى منا بعلمها عجزوا عن معرفتها.
أن الله هدى الملائكة بعد حيرتهم، وأجابهم عن سؤالهم، بأن أرشدهم إلى الخضوع والتسليم أولا بقوله :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ ثم بالدليل ثانيا بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة.
أن الله جلت قدرته رضي لخلقه أن يسألوه عما خفي عليهم من أسراره في الخليقة، والسؤال كما يكون بالمقال يكون بالحال بالتوجه إلى الله أن يفيض عليهم العلم بمعرفة ما أشكل عليهم.
تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المشركين له ومحاجتهم بلا برهان يستندون إليه – بأنه لا بدع في ذلك، فالملائكة طلبوا الدليل والبرهان من ربهم فيما لا يعلمون، فالأنبياء يجدر بهم أن يصبروا على المكذبين ويعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، ويأتوهم بالبراهين الساطعة، والحجج الدامغة.
رأي المتأخرين منهم – وهو تأويل ما اشتبه علينا من قواعد الدين، لأنها إنما وضعت على أساس العقل، فإذا ورد في النقل شيء يخالف حكم العقل، حمل النقل على غير الظاهر منه بتأويله حتى يتفق مع حكم العقل.
وعلى هذا – فالقصة وردت مورد التمثيل ليقربها سبحانه من أذهان خلقه بإفهامهم حال النشأة الآدمية وما لها من ميزة خاصة – بأن أخبر ملائكته بأنه جاعل في الأرض خليفة – فعجبوا وسألوه بلسان المقال إن كانوا ينطقون، أو بلسان الحال بالتوجه إليه تعالى أن يفيض عليهم المعرفة – كيف تخلق هذا النوع ذا الإرادة المطلقة والاختيار الذي لا حد له، وربما اتجه بإرادته إلى خلاف المصلحة والحكمة، وذلك هو الفساد، فألقى عليهم بطريق الإلهام وجوب الخضوع والتسليم لمن هو عليم، فما يضيق عنه علم أحد يتسع له علم من هو أعلم منه، وهذا الجواب ربما لا يذهب بالحيرة، ومن تم تفضل على الملائكة وأبان لهم الحكمة في خلق هذا النوع، فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فعلموا أن في فطرة هذا النوع استعدادا لعلم ما لم يعلموا، وأنه أهل للخلافة في الأرض، وأن سفك الدماء لا يذهب بحكمة الاستخلاف وفائدته.
وخلاصة هذا – إن الملائكة تشوفوا لمعرفة الحكمة في استخلاف ذلك المخلوق الذي من شأنه ما قالوا، ومعرفة السر في تركهم وهم المجبولون على تسبيحه وتقديمه – فأعلمهم أنه أودع فيه من السر ما لم يودعه فيهم، هذا مجمل ما جلى به الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله هذا البحث حين تفسيره للآية ونقله عنه صاحب المنار في تفسيره.
الإيضاح
﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ أي واذكر لقومك مقال ربك للملائكة : إني جاعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض، وانقرض بعد أن أفسد في الأرض وسفك الدماء وسيحل هو محله، يرشد إلى ذلك قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون ﴿ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ﴾ ومن ثم استنبط الملائكة سؤالهم بالقياس عليه، وعلى هذا فليس آدم أول أصناف العقلاء من الحيوان في الأرض.
ويرى جمع من المفسرين أن المراد بالخلافة الخلافة عن الله في تنفيذ أوامره بين الناس، ومن ثم اشتهر " الإنسان خليفة الله في الأرض " ويشهد له قوله تعالى :﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ﴾.
وهذا الاستخلاف يشمل استخلاف بعض أفراد الإنسان على بعض، بأن يوحي بشرائعه على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه، واستخلاف هذا النوع على غيره من المخلوقات بما ميزه به من قوة العقل، وإن كنا لا نعرف سرها ولا ندرك كنهها، وهو بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود العلم، يتصرف في الكون تصرفا لا حد له، فهو يبتدع ويفتن في المعدن والنبات، وفي البر والبحر والهواء، ويغير شكل الأرض فيجعل الماحل خصبا، والحزن سهلا، ويولد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن، ويتصرف في أنواع الحيوان كما شاء بضروب التوليد، ويسخر كل ذلك لخدمته.
ولا أدل على حكمة الله من جعل الإنسان الذي اختص بهذه المواهب خليفة في الأرض يظهر عجائب صنعه وأسرار خليقته.
﴿ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ﴾ أي أتجعل من يقتل النفوس المحرمة بغير حق خليفة في الأرض ؟
﴿ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ﴾ أي أتستخلف من هذه صفته ونحن المعصومون ؟
﴿ قال إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ أي قال لهم ربهم : إني أعلم من المصلحة في استخلافه ما هو خفي عليكم، وفي هذا إرشاد للملائكة أن يعلموا أن أفعاله كلها بالغة غاية الحكمة والكمال وإن عمى ذلك عليهم.
﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين { ٣١ ﴾ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ﴿ ٣٢ ﴾ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ﴿ ٣٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
الأسماء : واحدها اسم، وهو في اللغة ما به يعلم الشيء، والإنباء : الإخبار وقد يستعمل في الإخبار بما فيه فائدة عظيمة وهو المراد هنا، إيذانا برفعة شأن الأسماء وعظيم خطرها.
المعنى الجملي
قد علمت مما سبق أن هذه المراجعات والمناظرات إما أن نفوض أمر معرفتها إلى الله كما هو رأي السلف، وإما أن نلجأ فيها إلى التأويل، وأحسن طرقه أن يكون الكلاء ضربا من التمثيل بإبراز المعاني المعقولة بالصور المحسوسة تقريبا للأفهام.
وبهذا القصص نعرف ما امتاز به النوع الإنساني عن غيره من المخلوقات، وأنه مستعد لبلوغ الكمال العلمي إلى أقصى الغايات، دون الملائكة، ومن ثم كان أجدر بالخلافة منهم
الإيضاح
﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ﴾ اسم الله هو ما به عرفناه في أذهاننا بحيث يقال إنا نؤمن بوجوده، وهو بهذا الإطلاق يتقدس ويتبارك ويتعالى كما جاء قوله تعالى :﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾﴿ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ﴾.
أو يقال المراد من الأسماء المسميات، وعبر بها عنها للصلة الوثيقة بين الدال والمدلول وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر، وأيا كان فإن العلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات، أما الألفاظ الدالة عليها فهي تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح.
والله تعالى علم آدم الأجناس التي خلقها، وألهمه معرفة ذواتها وخواصها وصفاتها وأسمائها، ولا فارق بين أن يكون هذا العلم في آن واحد أو آنات متعددة، فالله قادر على كل شيء، وإن كان لفظ ﴿ علم ﴾ يشعر بالتدريج كما يشهد له نظائره من نحو :﴿ وعلمك ما لم تكن تعلم ﴾﴿ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾ إلى نحو ذلك من الآيات التي فيها لفظ التعليم، لكن المتبادر هنا أنه كان دفعة واحدة.
﴿ ثم عرضهم على الملائكة ﴾ أي ثم أطلعهم على مجموعة تلك الأشياء إطلاعا إجماليا بالإلهام أو غيره مما يليق بحالهم، وربما كان بعرض نماذج من كل نوع يتعرف منها أحوال البقية وأحكامها.
والحكمة في التعليم والعرض تشريف آدم واصطفاؤه، كي لا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم، وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده.
﴿ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ﴾ أمر الملائكة بهذا الإنباء إظهارا لعجزهم عن معرفتها، وإشارة إلى أن الخلافة في الكون والتصرف فيه وتدبير شؤونه وإقامة العدل فيه تكون بعد الوقوف على مراتب الاستعداد ومعرفة من يكون أهلا للخلافة.
﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي إن كان هناك مجال للدهشة في كون الخليفة من البشر، وفي أن ما اختلج في خواطركم من الشبهة أصاب الصواب، وحل محله من القبول، فأنبئوني بأسماء ما عرضته عليكم.
وإنا لنسترشد بهذه الآية إلى أن المدعي لشيء يطالب بالحجة والبرهان تأييدا لما ادعى، فالملائكة قد بحثوا عن سر الغيب فقرعوا بالعيان، فكأنه قيل لهم : أنتم لا تعلمون أسرار ما تعاينون، فكيف تتكلمون في أسرار ما لا تعاينون ؟
وفي قوله ﴿ هؤلاء ﴾ إشارة إلى أنه سمى الأشياء التي وقع عليها حسه كالطيور والبهائم وأنواع الحيوان التي أمامه.
﴿ قالوا سبحانك ﴾
تفسير المفردات :
سبحانك : أي تقديسا وتنزيها لك، والعليم : هو الذي لا تخفى عليه خافية، والحكيم : هو المحكم لمبتدعاته، الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة البالغة.
المعنى الجملي
قد علمت مما سبق أن هذه المراجعات والمناظرات إما أن نفوض أمر معرفتها إلى الله كما هو رأي السلف، وإما أن نلجأ فيها إلى التأويل، وأحسن طرقه أن يكون الكلاء ضربا من التمثيل بإبراز المعاني المعقولة بالصور المحسوسة تقريبا للأفهام.
وبهذا القصص نعرف ما امتاز به النوع الإنساني عن غيره من المخلوقات، وأنه مستعد لبلوغ الكمال العلمي إلى أقصى الغايات، دون الملائكة، ومن ثم كان أجدر بالخلافة منهم
الإيضاح :
أي نقدسك عما لا يليق بك من قصور العلم فتخلق الخليفة عبثا خاليا من الحكمة والفائدة، أو تسألنا عن شيء نفيده، وأنت تعلم أن علمنا لا يحيط به ولا نقدر على الإنباء به.
وكلمة ﴿ سبحانك ﴾ تقدم في معرض التوبة كما قال موسى عليه السلام :﴿ سبحانك تبت إليك ﴾ وقال يونس :﴿ سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾.
﴿ لا علم لنا إلا ما علمتنا ﴾ وهو علم محدود لا يتناول جميع الأشياء، ولا يحيط بكل المسميات، وهذا منهم اعتراف بالعجز عما كلفوه، وإشعار بأن سؤالهم كان سؤال مستفسر لا سؤال معترض، وفيه ثناء على الله بما أفاض عليهم من العلم مع تواضع وأدب، فكأنهم قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا بحسب استعدادنا، ولو كنا مستعدين لأكثر من ذلك لأفضت علينا.
ثم أكدوا ما تقدم بقولهم :
﴿ إنك أنت العليم الحكيم ﴾ وفي هذا الجواب منهم إيذان بأنهم رجعوا إلى ما كان يجب عليهم ألا يغفلوا عن مثله، من التفويض لواسع علم الله وعظيم حكمته، بعد أن تبين لهم ما تبين، وإيماء إلى أن الإنسان ينبغي له ألا يغفل عن نقصانه، وعن فضل الله عليه وإحسانه، ولا يأنف أن يقول لا أعلم إذا لم يكن يعلم، ولا يكتم الشيء الذي يعلم.
﴿ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ﴾
المعنى الجملي
قد علمت مما سبق أن هذه المراجعات والمناظرات إما أن نفوض أمر معرفتها إلى الله كما هو رأي السلف، وإما أن نلجأ فيها إلى التأويل، وأحسن طرقه أن يكون الكلاء ضربا من التمثيل بإبراز المعاني المعقولة بالصور المحسوسة تقريبا للأفهام.
وبهذا القصص نعرف ما امتاز به النوع الإنساني عن غيره من المخلوقات، وأنه مستعد لبلوغ الكمال العلمي إلى أقصى الغايات، دون الملائكة، ومن ثم كان أجدر بالخلافة منهم
الإيضاح :
أي أعلمهم بأسمائهم التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها.
وقال " أنبئهم " دون أنبئني، للإشارة إلى أن علمه عليه السلام بها ظاهر لا يحتاج إلى ما يجري مجرى الامتحان، وإلى أنه جدير أن يعلم غيره، فتكون له من المعلم المفيد، ولهم مقام المتعلم المفيد، ولئلا تستولي عليه الهيبة، فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره.
﴿ فلما أنبأهم بأسمائهم قال : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ﴾ أي فلما أنبأهم بأسمائهم وبين لهم أحوال كل منهم وخواصه وأحكامه، قال تعالى للملائكة : قد قلت لكم إني أعلم ما غاب في السماوات والأرض فلا أخلق شيئا سدى، ولا أجعل الخليفة في الأرض عبثا وأعلم ما تظهرون من نحو قولكم :﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ﴾ وما كنتم تكتمون من نحو قولكم : لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا، فنحن أحق بالخلافة في الأرض.
وفي هذه الآيات دلالة على شرف الإنسان على غيره من المخلوقات، وعلى فضل العلم على العبادة، فإن الملائكة أكثر عبادة من آدم ولم يكونوا أهلا لاستحقاق الخلافة، وعلى أن شرط الخلافة العلم بل هو العمدة فيها، وعلى أن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم، والأفضل هو الأعلم بدليل قوله تعالى :﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾.
وفي استخلاف آدم في الأرض معنى سام من الحكمة الإلهية خفي على الملائكة، فإنه لو استخلفهم فيها لما عرفوا أسرار هذا الكون وما أودع فيه من الخواص، فإنهم ليسوا بحاجة إلى شيء مما في الأرض، إذ هم على حال يخالف حال الإنسان، فما كانت الأرض لتزرع بمختلف الزروع، ولا تستخرج المعادن من باطنها، ولا تعرف خواصها الكيميائية والطبيعية، ولا تعرف الأجرام الفلكية ولا المستحدثات الطبية، ولا شيء من العلوم التي تفنى السنون ولا يدرك الإنسان لها غاية.
﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين { ٣٤ ﴾ }.
المعنى الجملي
بعد أن أعلم الله تعالى الملائكة مكانة آدم وأنه جعله خليفة في الأرض، أمرهم بالسجود له سجود خضوع لا سجود عبادة اعترافا بفضله، واعتذارا عما قالوه في شأنه، من قولهم :﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ﴾.
الإيضاح :
﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ السجود لغة الخضوع والانقياد، ومن أعظم مظهره وضع الجبهة على التراب، وكان تحية للملوك عند بعض القدماء كما ورد من سجود يعقوب وأولاده ليوسف.
والسجود لله قسمان : سجود العقلاء تعبدا على الوجه المعروف شرعا، وسجود المخلوقات كلها بانقيادها وخضوعها لمقتضى إرادته كما قال :﴿ والنجم والشجر يسجدان ﴾ وقال :﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ﴾.
والملائكة من عالم الغيب لا نعرف حقيقتهم، والكتاب الكريم يرشد إلى أنهم أصناف، لكل صنف عمل، وقد جاء في لسان الشرع إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة كما يستفاد من خطابهم لمريم عليها السلام، وإسناد الوسوسة إلى الشياطين وهو مشهور في الكتاب والسنة، فقد روى الترمذي ( إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الآخر فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾ ) واللمة : الإلمام والإصابة.
فالملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بأرواح الناس لا نعرف حقيقته، بل نؤمن بما ورد فيه ولا نزيد عليه شيئا آخر.
ويرى بعض المفسرين أن ما ورد من أن الملائكة موكلون بالأعمال من إنماء نبات وخلق حيوان وحفظ إنسان، فمعناه أن هذا النمو في النبات إنما هو بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان. فكل شيء قائم بنظام خاص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهي سمى في لسان الشرع ملكا، ومن لا يعترف بالغيب يسميه قوة طبيعية أو ناموسا طبيعيا، فالمؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودا لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن به يقول أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، وإذا فلا خلاف بين الناس في وجود شيء غير ما يرى ويحس، لا يفهم حق الفهم ولا يصل العقل إلى إدراك كنهه.
وكلنا نشعر إذا هممنا بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفوسنا تنازعا وكأن الأمر قد عرض على مجلس للشورى، فواحد يقول افعل وآخر يقول لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين على الآخر، فهذا الذي أودع في نفوسنا ونسميه قوة وفكرا هو في الحقيقة معنى لا ندرك كنهه، ولا يبعد أن نسميه أو نسمي سببه ملكا، انتهى كلامه ملخصا.
قال الأستاذ الإمام محمد عبده : فإذا جرينا على هذا التفسير فليس ببعيد أن تكون في الآية إشارة إلى أن الله لما خلق الأرض ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصا بنوع من المخلوقات لا يتعداه، خلق الإنسان وأعطاه قوة بها يتصرف في جميع القوى ويسخرها في عمارة الأرض، وهذا التسخير هو المعبر عنه بالسجود الذي يفيد معنى الخضوع، وبهذه القوة التي لا حد لها جعله الله خليفة في أرضه، لأنه أكمل الموجودات، واستثنى من هذه القوى قوة واحدة تميل بالكامل إلى النقص، وتصده عن عمل الخير، وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتم بها خلافته، تلك القوة ضللت آثارها قوما فزعموا أن في العالم إلها يسمى إله الشر، ما هي بإله ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلا هو، تلك القوة هي المعبر عنها بإبليس.
ولو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق، انتهى كلامه رحمه الله.
﴿ فسجدوا إلا إبليس ﴾ أي سجد الملائكة جميعا إلا إبليس.
وللعلماء في حقيقة إبليس رأيان :
أحدهما أنه كان جنيا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم متصفا بصفاتهم، ودليل ذلك قوله تعالى :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ﴾ ولأن الملائكة لا يستكبرون، وهو قد استكبر، وهو قد خلق مما خلق منه الجن، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه :﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾.
ثانيهما : أنه كان من الملائكة، لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، ولأن الظاهر من هذه الآية وأمثالها أنه منهم، قال البغوي وهو الأصح، وقال في التيسير : إن وصف الملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم دليل على تصور العصيان منهم، ولولا ذلك ما مدحوا به، لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف، وطاعة البشر تكلف ومتابعة الهوى منهم طبع، ولا يستنكر من الملائكة تصور العصيان، فقد ذكر عن هاروت وماروت ما ذكر، وليس هناك دليل على أن بين الملائكة والجن فروقا جوهرية بها يمتاز أحدهما من الآخر، بل هي فروق في الأوصاف فقط، والجميع من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نضيف إليها شيئا إلا إذا ورد به نص عن المعصوم.
﴿ أبى واستكبر ﴾ أي امتنع عما أمر به من السجود، وأظهر كبره وترفع عن الحق زعما منه أنه خير من الخليفة عنصرا، وأزكى جوهرا كما قص ذلك عنه ﴿ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ فهو الأحق بالرياسة.
﴿ وكان من الكافرين ﴾ أي وصار من الكافرين برفض الإذعان لأمر الله لزعمه أنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يخضع لمن دونه.
﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين { ٣٥ ﴾ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴿ ٣٦ ﴾ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ﴿ ٣٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
الرغد : الهنيء الذي لا عناء فيه، أو الواسع، يقال رغد عيش القوم إذا كانوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم : أخصبوا وصاروا في رغد من العيش.
المعنى الجملي
علمت مما سلف أن الحكمة الإلهية اقتضت إيجاد النوع الإنساني في الأرض واستخلافه فيها، وأن الملائكة فهموا أنه يفسد نظامها ويسفك الدماء، فأعلمهم المولى بأن علمهم لا يرقى إلى الإحاطة بمعرفة حكمته، وأن الله أوجد آدم وفضله بتعليم الأسماء كلها، وأنه تعالى أخضع له الملائكة إلا إبليس فقد أبى واستكبر عن السجود، لما في طبيعته من الاستعداد للعصيان، وهنا ذكر أنه تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها ونهاهما أن يأكلا من شجرة معينة، وأعلمهما أن القرب منها ظلم لأنفسهما وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما من ذلك النعيم، وأن آدم أناب إلى الله من معصيته فقبل توبته، وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، فالضعف غريزة فيهم ينتهي إلى أول سلف منهم وهو أبوهم آدم عليه السلام، فقد تغلبت عليه الوساوس، فلا تأس أيها الرسول الكريم على القوم الكافرين، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات
الإيضاح
﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ أي وقلنا له : اتخذ الجنة مسكنا لك ولزوجك. واختلفت آراء العلماء في الجنة المرادة هنا، فمن قائل إنها دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في هذه السورة، وفي ظواهر السنة ما يدل عليه، فهي إذا في السماء حيث شاء الله منها.
ومن قائل إنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام، وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل بفلسطين وليست هي الجنة المعروفة، وعلى هذا جرى أبو حنيفة وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمى بالتأويلات، فقال : نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين، أو غيضة من الغياض كان آدم وزوجه منعمين فيها، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها، وهذا هو مذهب السلف ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرهم اه.
قال الألوسي في تفسيره روح المعاني : ومما يؤيد هذا الرأي :
أن الله خلق آدم في الأرض ليكون خليفة فيها هو وذريته، فالخلافة منهم مقصودة بالذات، فلا يصح أن يكون وجودهم فيها عقوبة عارضة.
أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلق آدم في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم.
أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المتقون المؤمنون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة.
أنها دار للنعيم والراحة، لا دار للتكليف، وقد كلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة.
أنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها.
أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة لأنها دار طهر، لا دار رجس.
وعلى الجملة فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها، ومنها أن عطاءها غير مجذوذ ولا مقطوع لا تنطبق على جنة آدم اه.
﴿ وكلا منها رغدا حيث شئتما ﴾ أي كلا منها أكلا هنيئا من أي مكان من بين أشجارها التي لا حصر لها.
﴿ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ﴾ لم يبين لنا ربنا هذه الشجرة، فلا نستطيع أن نعينها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع، ولأن المقصود يحصل بدون التعيين، ولكنا نقول عن النهي كان لحكمة كأن يكون في أكلها ضرر أو يكونه ذلك ابتلاء من الله واختبارا له، ولو كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر.
وقوله : من الظالمين، أي لأنفسنا بالوقوع فيما يترتب على الأكل منها من المعصية أو بنقصان حظوظكما بفعل ما يمنع الكرامة والنعيم، أو يتعدى حدود الله.
وقد علق النهي بالقرب منها وهو مقدمة الأكل، تنبيها إلى أن القرب من الشيء يورث ميلا إليه يلهي القلب عما يوجب العقل والشرع.
﴿ فأزلهما الشيطان عنها ﴾
تفسير المفردات :
والزلل : السقوط يقال زل في طين أو منطق يزل بالكسر زليلا، وقال الفراء : زل يزل بالفتح زلالا، والهبوط كما قال الراغب الانحدار على سبيل القهر، ولا يبعد أن تكون تلك الجنة في ربوة فسمى الخروج منها هبوطا أو سمى بذلك لأن ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه، أو هو كما يقال هبط من بلد إلى بلد كقوله لبني إسرائيل ﴿ اهبطوا مصرا ﴾ والعدو : هو المجاوز حده في مكروه صاحبه وهو يصلح للواحد والجمع، ومن ثم لم يقل أعداء، والمستقر : الاستقرار والبقاء، والمتاع : الانتفاع الذي يمتد وقته، والحين : مقدار من الزمن قصيرا كان أو طويلا.
المعنى الجملي
علمت مما سلف أن الحكمة الإلهية اقتضت إيجاد النوع الإنساني في الأرض واستخلافه فيها، وأن الملائكة فهموا أنه يفسد نظامها ويسفك الدماء، فأعلمهم المولى بأن علمهم لا يرقى إلى الإحاطة بمعرفة حكمته، وأن الله أوجد آدم وفضله بتعليم الأسماء كلها، وأنه تعالى أخضع له الملائكة إلا إبليس فقد أبى واستكبر عن السجود، لما في طبيعته من الاستعداد للعصيان، وهنا ذكر أنه تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها ونهاهما أن يأكلا من شجرة معينة، وأعلمهما أن القرب منها ظلم لأنفسهما وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما من ذلك النعيم، وأن آدم أناب إلى الله من معصيته فقبل توبته، وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، فالضعف غريزة فيهم ينتهي إلى أول سلف منهم وهو أبوهم آدم عليه السلام، فقد تغلبت عليه الوساوس، فلا تأس أيها الرسول الكريم على القوم الكافرين، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات
الإيضاح :
أي حملهما على الزلة بسبب الشجرة، وقد وسوس لهما بقوله :﴿ هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ﴾ وقوله :﴿ وما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ﴾ وقسمه لهما :﴿ إني لكما من الناصحين ﴾.
﴿ فأخرجهما مما كانا فيه ﴾ أي من الجنة أو من النعيم الذي كانا فيه، فاتصلت العقوبة بالذنب اتصال المسبب بسببه المباشر.
﴿ وقلنا اهبطوا ﴾ المأمور بالهبوط آدم وزوجه وإبليس، وهو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وكثير من السلف، ويشهد له قوله ﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ إذ العداوة بين الشيطان والإنسان.
﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ أي اهبطوا متعادين يبغي بعضكم على بعض بتضليله.
﴿ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾ أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها ينتهيان إلى وقت محدود وليسا بدائمين كما زعم إبليس حين وسوس لآدم، وسمى الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد.
وفي هذا إشارة إلى أن الإخراج من جنة الراحة إلى الأرض للعمل فيها لا للفناء ولا للمعاقبة بالحرمان من التمتع بخيراتها ولا للخلود فيها.
﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات ﴾
تفسير المفردات :
وتلقى الكلمات : هو أخذها بالقبول والعمل بها حين علمها.
المعنى الجملي
علمت مما سلف أن الحكمة الإلهية اقتضت إيجاد النوع الإنساني في الأرض واستخلافه فيها، وأن الملائكة فهموا أنه يفسد نظامها ويسفك الدماء، فأعلمهم المولى بأن علمهم لا يرقى إلى الإحاطة بمعرفة حكمته، وأن الله أوجد آدم وفضله بتعليم الأسماء كلها، وأنه تعالى أخضع له الملائكة إلا إبليس فقد أبى واستكبر عن السجود، لما في طبيعته من الاستعداد للعصيان، وهنا ذكر أنه تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها ونهاهما أن يأكلا من شجرة معينة، وأعلمهما أن القرب منها ظلم لأنفسهما وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما من ذلك النعيم، وأن آدم أناب إلى الله من معصيته فقبل توبته، وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، فالضعف غريزة فيهم ينتهي إلى أول سلف منهم وهو أبوهم آدم عليه السلام، فقد تغلبت عليه الوساوس، فلا تأس أيها الرسول الكريم على القوم الكافرين، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات
الإيضاح :
أي إن الله تعالى ألهمه كلمات فعمل بها فأناب إليه. وهي كما روي عن ابن عباس :﴿ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ﴾ وروي عن ابن مسعود أنها : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله إلا أنت، ظلمت نفسي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
﴿ فتاب عليه ﴾ التوب الرجوع، فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية إلى الطاعة، وإذا وصف به الباري تعالى أريد به الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة.
ولا تكون التوبة مقبولة من العبد إلا بالندم على ما كان، وبترك الذنب الآن، وبالعزم على ألا يعود إليه في مستأنف الزمان، وبرد مظالم العباد، وبإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه والاعتذار له باللسان.
والخلاصة – إنه تعالى قبل توبته وعاد إليه بفضله ورحمته.
﴿ إنه هو التواب الرحيم ﴾ التواب هو الذي يقبل التوبة عن عباده كثيرا، فمهما اقترف العبد من الذنوب وندم على ما فرط منه وتاب الله عليه، والرحيم هو الذي يحف عباده برحمته إذا هم أساءوا ورجعوا إليه تائبين.
وقد جمع بين الوصفين ﴿ التواب الرحيم ﴾ للإشارة إلى عدة الله تعالى للعبد التائب بالإحسان إليه مع العفو عنه والمغفرة له.
وهاهنا مسائل ثلاث أطال المفسرون الكلام فيها، ونحن نوجز القول فيها.
ما أوردوه في هبوط آدم وحواء من الجنة ووصف ذلك، وقد نقلوا أكثره من الإسرائيليات التي لا يصح شيء منها عند النقدة من أهل العلم ورجال الدين.
خلق حواء من ضلع آدم أخذا بظاهر قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ﴾ وقوله :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ﴾ ومن حديث أبي هريرة في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم :( واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع أعوج ) ومما ورد في سفر التكوين في التوراة مبينا خلق آدم وحواء.
وجوابنا عن ذلك :
أن كثيرا من المفسرين قالوا عن المراد في الآيتين بقوله " منها " أي من جنسها ليوافق في قوله في سورة الروم :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ إذ المراد دون شك أنه خلق أزواجا من جنسكم، لا أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها.
أن الحديث قد جاء على طريق تمثيل حال المرأة واعوجاج أخلاقها، باعوجاج الضلوع، ويؤيد هذا قوله آخر الحديث :( وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا ) فهو على حد قوله تعالى :﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾.
عصيان آدم ثم توبته، مع أن الأنبياء معصومون من ارتكاب الذنوب، ولنا في الجواب عن هذه المسألة ثلاث طرق :
أن المخالفة التي صدرت كانت قبل النبوة، والعصمة إنما تكون عن مخالفة الأوامر بعدها.
أن الذي وقع منه كان نسيانا، فسمي عصيانا تعظيما لأمره، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة.
أن ذلك من المتشابه كسائر ما جاء في القصة، مما لا يمكن حمله على ظاهره، ويجب تفويض أمره إلى الله كما هو رأي سلف الأمة، أو هو من باب التمثيل كما هو رأي الخلف.
وقد أجاد الأستاذ الإمام محمد عبده بيانه قال :
إن إخبار الله تعالى الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها ويكون به كمال الوجود في هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه باختياره ويعطى استعدادا في العلم والعمل لا حد لهما، تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك، وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في الأرض وانتفاعه به في استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك، وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون أفراده فيه كالملائكة، بل أعظم أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري، ويراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ما يلذ له من مأكول ومشروب، ومشموم ومسموع، في ظل ظليل، وهواء عليل، وماء سلسبيل، ويراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة فيقال : كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، ويراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة وفسرت بكلمة الكفر.
والمعنى على هذا – إن الله تعالى كون النوع البشري في أطوار ثلاثة :
طور الطفولة وهو طور لا هم فيه ولا كدر، بل هو لهو ولعب كأنه في جنة ملتفة الأشجار يانعة الثمار.
طور التمييز الناقص، وفيه يكون الإنسان عرضة لإتباع الهوى بوسوسة الشيطان.
طور الرشد، وهو الذي يعتبر فيه المرء بنتائج الحوادث، ويلتجئ فيه حين الشدة إلى القوة الغيبية العليا التي منها كل شيء وإليها يرجع الأمر كله.
والإنسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه، فقد كان الإنسان في ابتداء حياته الاجتماعية ابتداء ساذجا سليم الفطرة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون، وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالعصر الذهبي.
ولكن لم يكفه هذا النعيم العظيم، فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم طاعة للشهوة وميلا مع خيال اللذة، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم، فثار النزاع وعظم الخلاف، وهذا هو الطور الثاني المعروف في تاريخ الأمم.
ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر، ووزن الخير والشر بميزان النظر الرغبات، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله.
وبقي طور آخر أعلى من هذه الأطوار، وهو منتهى الكمال، وهو طور الدين الإلهي والوحي السماوي الذي به كمال الهداية الإنسانية. انتهى كلامه ملخصا.
﴿ قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون { ٣٨ ﴾ والذين كفروا وكذبوا بآياته أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴿ ٣٩ ﴾ }.
تفسير المفردات
الهدى : الرشد بإرسال رسول بشريعة يأتي بها، وكتاب ينزله ويبلغه لكم، الخوف : ألم الإنسان مما قد يصيبه من مكروه، أو حرمانه من محبوب يتمتع به أو يطلبه. والحزن : ألم يلم به إذا فقد ما يحب.
المعنى الجملي
أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرتين، الأولى للإشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء، وتعاد واستقرار في الأرض إلى حين للتمتع بخيراتها، والثانية لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وأنهم ينقسمون فريقين : فريق يهتدي بهدى الله الذي أنزله وبلغه للناس على لسان رسله، وأولئك هم الفائزون ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وفريق سار في طريق الضلال وكذب بالآيات، وأولئك جزاؤهم جهنم خالدين فيها أبدا
الإيضاح
﴿ قلنا اهبطوا منها جميعا ﴾ هذا الأمر لبيان أن طور النعيم والراحة قد انتهى وجاء طور العمل، وفيه طريقان : هدى وإيمان، وكفر وخسران.
﴿ فإما يأتينكم مني هدى ﴾ الخطاب لآدم وزوجه وإبليس، والمراد ذريته.
﴿ فمن تبع هداي ﴾ أي فمن استمسكوا بالشرائع التي أتى بها الرسل، وراعوا ما يحكم العقل بصحته بعد النظر في الأدلة التي في الآفاق والأنفس.
﴿ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي عن المهتدين بهدى الله لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، فإن من سلك سبيل الهدى سهل عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الصبر والتسليم مما يرضي ربه، ويوجب مثوبته، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأحسن عزاء عما فقده، فمثله مثل التاجر الذي يكد ويسعى وتنسيه لذة الربح آلام التعب.
والأديان قد حرمت بعض اللذات التي كان في استطاعة الإنسان أن يتمتع بها، لضررها إما بالشخص أو بالمجتمع، فمن تمثلت له المضار التي تعقب اللذة المحرمة وتصور مالها من تأثير في نفسه أو في الأمة فر منها فرار السليم من الأجرب، إلى أن المؤمن بالله واليوم الآخر، يرى في انتهاك حرمات الدين ما يدنس النفس ويبعدها عن الكرامة، يوم تبيض وجود وتسود وجوه.
والخلاصة – إن من جاءه الهدى على لسان رسول بلغه إياه واتبعه، فقد فاز بالنجاة وبعد عنه الحزن والخوف يوم الحساب والجزاء والعرض على الملك الديان، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
﴿ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾
تفسير المفردات :
والآيات : واحدتها آية وهي العلامة الظاهرة، والمراد بها كل ما يدل على وجود الخالق ووحدانيته مما أودعه في الكون ونشاهده في الأنفس، وتطلق على كل قسم من أقسام القرآن التي تتألف منها سور القرآن، ويقف القارئ عندها في تلاوته، والعمدة في معرفة ذلك على التوقيف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسميت بذلك لأنها دلائل لفظية على الأحكام والآداب التي شرعها الله لعباده، وأصحاب النار : ملازموها فكأنهم ملكوها فصاروا أصحابها، والخلود : الدوام.
المعنى الجملي
أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرتين، الأولى للإشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء، وتعاد واستقرار في الأرض إلى حين للتمتع بخيراتها، والثانية لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وأنهم ينقسمون فريقين : فريق يهتدي بهدى الله الذي أنزله وبلغه للناس على لسان رسله، وأولئك هم الفائزون ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وفريق سار في طريق الضلال وكذب بالآيات، وأولئك جزاؤهم جهنم خالدين فيها أبدا
الإيضاح :
أي وأما الذين لم يتبعوا هداي وهم الذين كفروا بآياتنا اعتقادا وكذبوا بها لسانا، فجزاؤهم الخلود في النار بسبب جحودهم بها وإنكارهم إياها إتباعا لوسوسة الشيطان، وهذا مقابل قوله قبل ﴿ فمن تبع هداي ﴾ الخ.
والتكذيب كفر سواء كان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول، أو مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد، وفي مثلهم يقول الله تعالى لنبيه :﴿ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ وقد يوجد الكفر بالقلب مع تصديق اللسان كما هي حال المنافقين.
﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون { ٤٠ ﴾ وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ﴿ ٤١ ﴾ ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ﴿ ٤٢ ﴾ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ﴿ ٤٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
إسرائيل : لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعناه صفي الله، وقيل الأمير المجاهد، وبنوه : ذريته وهم الأسباط الاثنا عشر، والذكر " بالضم " بمعنى الحفظ الذي هو ضد النسيان ويكون بالقلب خاصة، و " بالكسر " يقع على الذكر باللسان وبالقلب. وعهد الله نوعان : عهد نظري، وهو الذي أخذه على جميع البشر، وهو وزن الأمور بميزان العقل والتدبر، والنظر المؤدي إلى جلاء الحقائق توصلا إلى معرفة الخالق، كما يرشد على ذلك قوله تعالى :﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾. وعهد ديني وهو أن يعبدوا الله وحده لا شريك له وأن يعملوا بشرائعه وأحكامه، وأن يؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم، والرهبة : خوف مع التحرز من الفعل.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه هذه السورة بذكر الكتاب وأنه لا ريب فيه، ثم ثنى بذكر اختلاف الناس فيه : من مؤمن به، وكافر بهديه، ومنافق مذبذب بين ذلك، ثم طالب الناس بعبادته، ثم أقام الدليل على أن الكتاب منزل من عند الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين بما أعجزهم وحذرهم وأنذرهم، ثم حاج الكافرين وجاءهم بأوضح البراهين، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين، ثم ذكر خلق السماوات والأرض لمنافعهم وخلق الإنسان في أطواره المختلفة، وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة، فبدأ بذكر اليهود لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس ضغنا للمؤمنين، ولأن دخولهم في الإسلام حجة قوية على النصارى وغيرهم، لأنهم أقدم منهم عهدا
الإيضاح
﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ﴾ أي احفظوا بقلوبكم نعمي بالتفكر في شكرها باللسان.
وفي هذا إشارة إلى أنهم نسوها ولم يخطروها ببالهم، ولم تعين الآية هذه النعمة المراد بها نعمة النبوة التي اصطفاهم بها زمنا طويلا، حتى كانوا يسمون شعب الله.
وهذه المكرمة التي أوتوها، والنعمة التي اختصوا بها وكانوا مفضلين على الأمم والشعوب تقتضي ذكرها وشكرها، ومن شكرها الإيمان بكل نبي يرسله الله لهداية البشر، لكنهم جعلوا هذه النعمة حجة للإعراض عن النبي صلى الله عليه وسلم والإزدراء به، زعما منهم أن فضل الله محصور فيهم، فلا يبعث الله نبيا إلا منهم.
﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ﴾ لو نظر بنو إسرائيل إلى العهد العام أو إلى العهود الخاصة المعروفة في كتابهم الذي أنزل إليهم، ومنها أنه سيرسل إليهم نبيا من بني إخوتهم " إسماعيل " يقيم شعبا جديدا لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، واتبعوا النور الذي أنزل معه وكانوا من الفائزين.
أما عهد الله لهم فأن يمكن لهم في الأرض المقدسة، ويرفع من شأنهم، ويخفض لهم العيش فيها، وينصرهم على أعدائهم الكفرة، ويكتب لهم السعادة في الآخرة.
ولما كان من موانع الوفاء بالعهد خوف بعضهم من بعض، ذكر هنا أن الخوف يجب أن يكون من الله وحده فقال :
﴿ وإياي فارهبون ﴾ أي لا ترهبوا ولا تخافوا إلا من بيده مقاليد الأمور كلها وهو الله الذي أنعم عليكم بتلك النعمة الكبرى، وهو القادر على سلبها منكم، وعلى عقوبتكم على ترك الشكر عليها، ولا يرهب بعضكم بعضا خوف فوت بعض المنافع ونزول بعض الأضرار إذا أنتم اتبعتم الحق، وخالفتم غيركم من الرؤساء.
وبعد أن ذكر الوفاء بالعهد العام انتقل إلى العهد الخالص المقصود من السياق فقال :﴿ وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ﴾.
تفسير المفردات :
والآيات : هي الأدلة التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وأعظمها القرآن الكريم.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه هذه السورة بذكر الكتاب وأنه لا ريب فيه، ثم ثنى بذكر اختلاف الناس فيه : من مؤمن به، وكافر بهديه، ومنافق مذبذب بين ذلك، ثم طالب الناس بعبادته، ثم أقام الدليل على أن الكتاب منزل من عند الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين بما أعجزهم وحذرهم وأنذرهم، ثم حاج الكافرين وجاءهم بأوضح البراهين، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين، ثم ذكر خلق السماوات والأرض لمنافعهم وخلق الإنسان في أطواره المختلفة، وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة، فبدأ بذكر اليهود لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس ضغنا للمؤمنين، ولأن دخولهم في الإسلام حجة قوية على النصارى وغيرهم، لأنهم أقدم منهم عهدا
الإيضاح
أمركم بالإيمان بالقرآن مع دخوله في قوله :﴿ وأوفوا بعهدي ﴾ إشارة إلى أن الوفاء به أهم إذ هو العمدة القصوى والمقصد الأول، وهو قد نزل مصدقا لما جاء في التوراة وما قبلها من كتب الأنبياء، فالأوامر التي جاء بها : من الدعوة إلى التوحيد وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى نحو ذلك مما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، هي مثل ما دعاكم إليه موسى والأنبياء قبله، إذ مقصد الجميع واحد، وهو تقرير الحق، وهداية الخلق، وإزالة ما طرأ على العقائد من الضلال.
﴿ ولا تكونوا أول كافر به ﴾ أي ولا تسارعوا إلى الكفر به، مع أن الأجدر بكم أن تكونوا أول من يؤمن به، إذ أنتم تعرفون حقيقته مما معكم من الكتب الإلهية وقد كنتم تبشرون بزمانه، وقد جاء في كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فكذبه يهودها، ثم بنو قريظة، وبنو النضير، ثم خيبر، ثم تتابعت على ذلك سائر اليهود.
﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ أي ولا تعرضوا عن التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل الذي يستفيده الرؤساء من مرءوسيهم من مال وجاه، ويرجوه المرءوسون من الحظوة بإتباع الرؤساء ويخشونه من سطوتهم إذا هم خالفوهم.
وسمي هذا البدل قليلا لأن صاحبه يخسر رضوان الله وتحل به عقوبته في الدنيا والآخرة، ويخسر عز الحق، ويخسر عقله لإعراضه عن واضح البراهين وبين الآيات.
﴿ وإياي فاتقون ﴾ بالإيمان وإتباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة.
وليس في هذا تكرار مع قوله : وإياي فارهبون، لأن استبدال الباطل بالحق إنما كان لاتقاء الرئيس خوف منفعة تفوته من المرءوس، واتقاء المرءوس خوف غضب الرئيس، فطلب إليهم أن يتقوا الله وحده، إذ بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، وإليه المصير.
﴿ ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ﴾
تفسير المفردات :
اللبس بالفتح : الخلط.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه هذه السورة بذكر الكتاب وأنه لا ريب فيه، ثم ثنى بذكر اختلاف الناس فيه : من مؤمن به، وكافر بهديه، ومنافق مذبذب بين ذلك، ثم طالب الناس بعبادته، ثم أقام الدليل على أن الكتاب منزل من عند الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين بما أعجزهم وحذرهم وأنذرهم، ثم حاج الكافرين وجاءهم بأوضح البراهين، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين، ثم ذكر خلق السماوات والأرض لمنافعهم وخلق الإنسان في أطواره المختلفة، وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة، فبدأ بذكر اليهود لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس ضغنا للمؤمنين، ولأن دخولهم في الإسلام حجة قوية على النصارى وغيرهم، لأنهم أقدم منهم عهدا
الإيضاح :
أي ولا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى لا يتميزا، ولا تكتموا الحق الذي تعرفونه، فالنهي الأول عن التغيير، والنهي الثاني عن الكتمان.
وقد أبانت الآية طريقهم في الغواية والإغواء، فقد جاء في كتبهم :
التحذير من أنبياء كذبة يبعثون فيهم، وتكون لهم عجائب وأفاعيل تدهش الألباب.
أن الله يبعث فيهم نبيا من ولد إسماعيل يقيم به أمة، وأنه يكون من ولد الجارية ﴿ هاجر ﴾ وبين علامات واضحة له لا لبس فيها ولا اشتباه.
فأخذ الأحبار والرهبان يلبسون على العامة الحق بالباطل، ويوهمونهم أن النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك الأنبياء الذين وصفوا في التوراة بالكذب، ويكتمون ما يعرفونه من أوصاف لا تنطبق إلا عليه، وما يعرفونه من نعوت الأنبياء الصادقين وسبيل دعوتهم إلى الله، إلى أنهم كانوا يصدونهم عن السبيل القويم بعدم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم بزيادات يستحدثونها، وتقاليد يبتدعونها بضروب من التأويل والاستنباط من كلام بعض سلفهم وأفعالهم ويحكمونها في الدين ويحتجون بأن الأقدمين كانوا أعلم بكلام الأنبياء وأشد إتباعا لهم، فعلى من بعدهم أن يأخذ بكلامهم دون كلام الأنبياء الذي يصعب علينا فهمه بزعمهم.
لكن هذه المعذرة لم يتقبلها الله منهم، ونسب إليهم اللبس والكتمان للحق الذي في التوراة إلى يومنا هذا، كما لم يتقبل ممن بعدهم من العلماء في أي شريعة ودين أن يتركوا كتابه ويتبعوا كلام العلماء بتلك الحجة عينها، فكل ما يعلم من كتاب الله يجب علينا أن نعمل به، وما لا يعلم يسأل عنه أهل الذكر، ومتى فهمناه وعلمناه عملنا به.
قال في التيسير : ويجوز صرف الخطاب إلى المسلمين وإلى كل صنف منهم، وبيانه أن يقال : أيها السلاطين لا تخلطوا العدل بالجور، ويأيها القضاة لا تخلطوا الحكم بالرشوة، وهكذا كل فريق. فهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغيير حق وإبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه، وقد تعين عليه أداؤه حتى يأخذ عليه أجرا، فقد دخل في حكم الآية اه.
﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ﴾
تفسير المفردات :
الزكاة لغة : الطهارة، إذ فيها تطهير المال من الخبث والنفس من الشح والبخل.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه هذه السورة بذكر الكتاب وأنه لا ريب فيه، ثم ثنى بذكر اختلاف الناس فيه : من مؤمن به، وكافر بهديه، ومنافق مذبذب بين ذلك، ثم طالب الناس بعبادته، ثم أقام الدليل على أن الكتاب منزل من عند الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين بما أعجزهم وحذرهم وأنذرهم، ثم حاج الكافرين وجاءهم بأوضح البراهين، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين، ثم ذكر خلق السماوات والأرض لمنافعهم وخلق الإنسان في أطواره المختلفة، وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة، فبدأ بذكر اليهود لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس ضغنا للمؤمنين، ولأن دخولهم في الإسلام حجة قوية على النصارى وغيرهم، لأنهم أقدم منهم عهدا
الإيضاح :
تقدم أن قلنا إن في الصلاة إظهار الحاجة إلى المعبود، والافتقار إليه بالقول أو بالفعل أو بكليهما، وإقامتها هي التوجه إلى الله بقلب خاشع والإخلاص له في الدعاء، وهذا هو روح الصلاة الذي شرعت لأجله، أما الصورة فليست مقصودة لذاتها، ومن ثم اختلفت في الشرائع بحسب الأديان والأزمان، ولكن الروح لا تغيير فيه ولا تبديل باختلاف الأنبياء.
والخلاصة – إنه بعد أن دعا بني إسرائيل إلى الإيمان أمرهم بصالح العمل على الوجه المقبول عند الله، فطلب إليهم إقامة الصلاة لتطهر نفوسهم كما طلب إليهم إيتاء الزكاة التي هي مظهر شكر الله على نعمه والصلة العظيمة بين الناس، لما فيها من بذل المال لمواساة عيال الله وهم الفقراء، والفقير في حاجة إلى الغني كما ورد في الحديث :( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ).
وبعدئذ أمرهم بالركوع مع الراكعين، أي أن يكونوا في جماعة المسلمين ويصلوا صلاتهم، وقد حث على صلاة الجماعة لما فيها من تظاهر النفوس عند مناجاة الله، وإيجاد الألفة بين المؤمنين، ولأنه عند اجتماعهم يتشاورون في دفع ما ينزل بهم من البأساء أو يجلب لهم السراء، ومن ثم جاء في الخبر :( صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ).
وعبر عن الصلاة بالركوع ليبعدهم عن الصلاة التي كانوا يصلونها قبلا، إذ لا ركوع فيها.
﴿ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون { ٤٤ ﴾ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ﴿ ٤٥ ﴾ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ﴿ ٤٦ ﴾ }.
تفسير المفردات
البر : سعة الخير، ومنه البر والبرية للفضاء الواسع.
المعنى الجملي
الخطاب هنا لبني إسرائيل كما كان فيما قبله، وقد وبخهم على اعوجاج سيرتهم وفساد أعمالهم، وهداهم على المخرج من هذه الضلالات، ذاك أن اليهود كانوا يدعون الإيمان بكتابهم والعمل به والمحافظة عليه وتلاوته، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته، إذ حق تلاوته هو الإيمان به على الوجه الذي يرضاه الله تعالى، ولكن الأحبار والرهبان كانوا الآمرين الناهين لا يذكرون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إذا عارض شهواتهم.
فقد جاء في التوراة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم :( أنه يقيم من إخوتهم نبيا يقيم الحق ) وجاء في سفر تثنية الاشتراع ﴿ ١٧ ﴾ قال لي الرب : أحسنوا فيما تكلموا. ﴿ ١٨ ﴾ سوف أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ﴿ ١٩ ﴾ ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أكون المنتقم منه.
فحرفوا هذه البشارة به وأولوها بما يوافق أهواءهم.
وكانت لهم مواسم دينية تذكرهم بنعم الله عليهم، وتكون باعثا على إقامة الدين والعمل به، لكن طول العهد جعل القلوب قاسية فخرجت عن تعاليم الدين، واتباع الخير وسلوك طريق الرشاد، واستمسك الأحبار بالظواهر وقلدهم في ذلك العامة، فما كانوا يعرفون من الدين إلا العبادات العامة، والمراسم الدينية، ما عدا ذلك مما لا فائدة لهم فيه ولا هوى، يلجئون فيه إلى التأويل والتحريف حتى لا يصادم أهواءهم وشهواتهم
الإيضاح
﴿ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ﴾ الخطاب موجه إلى حملة الكتاب من الأحبار والرهبان، فقد روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في أحبار المدينة، كانوا يأمرون من نصحوه سرا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يؤمنون به، وقال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم يفعلون ما ينهون عنه.
والمراد من النسيان هنا الترك، لأن من شأن الإنسان ألا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، وعبر به عنه للمبالغة في عدم المبالاة والغفلة عما ينبغي أن يفعله، أي إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البر ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم ؟
ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من التوبيخ والتأنيب الذي ليس بعده زيادة لمستزيد، فإن الآمر بما لا يأتمر به تكون الحجة عليه قائمة بلسانه.
﴿ وأنتم تتلون الكتاب ﴾ فتعرفون منه ما لا يعرفه من تأمرونهم بإتباعه، والفرق عظيم بين من يفعل وينقصه العلم بفوائد ما يفعل، ومن يترك وهو عليم بمزايا ما يترك.
﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه، ويحذركم وخامة عاقبته، فإن من عنده أدنى مسكة من العقل لا يدعي كمال العلم بالكتاب، ويقوم بالإرشاد إلى هديه، ويبين للناس سبيل السعادة بإتباعه، ثم هو بعد لا يعمل به ولا يستمسك بأوامره ونواهيه.
وهذا الخطاب وإن كان موجها إلى اليهود فهو عبرة لغيرهم، فلتنظر كل أمة أفرادا وجماعات في أحوالها، ثم لتحذر أن يكون حالها كحال أولئك القوم فيكون حكمها عند الله حكمهم، فالجزاء إنما هو على أعمال القلوب والجوارح لا على صنف خاص من الشعوب والأفراد.
وبعد أن بين سبحانه سوء حالهم وذكر أن العقل لم ينفعهم والكتاب لم يذكرهم، أرشدهم إلى الطريق المثلى، وهي الاستعانة بالصبر والصلاة فقال :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾.
تفسير المفردات :
والصبر : حبس النفس على ما تكره، أو هو احتمال المكروه بنوع من الرضى والاختيار والتسليم، كبيرة : أي ثقيلة شديدة الوقع، والخاشعين : هم المخبتون الخائفون المتطامنة جوارحهم وقلوبهم لله تعالى
المعنى الجملي
الخطاب هنا لبني إسرائيل كما كان فيما قبله، وقد وبخهم على اعوجاج سيرتهم وفساد أعمالهم، وهداهم على المخرج من هذه الضلالات، ذاك أن اليهود كانوا يدعون الإيمان بكتابهم والعمل به والمحافظة عليه وتلاوته، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته، إذ حق تلاوته هو الإيمان به على الوجه الذي يرضاه الله تعالى، ولكن الأحبار والرهبان كانوا الآمرين الناهين لا يذكرون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إذا عارض شهواتهم.
فقد جاء في التوراة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم :( أنه يقيم من إخوتهم نبيا يقيم الحق ) وجاء في سفر تثنية الاشتراع ﴿ ١٧ ﴾ قال لي الرب : أحسنوا فيما تكلموا. ﴿ ١٨ ﴾ سوف أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ﴿ ١٩ ﴾ ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أكون المنتقم منه.
فحرفوا هذه البشارة به وأولوها بما يوافق أهواءهم.
وكانت لهم مواسم دينية تذكرهم بنعم الله عليهم، وتكون باعثا على إقامة الدين والعمل به، لكن طول العهد جعل القلوب قاسية فخرجت عن تعاليم الدين، واتباع الخير وسلوك طريق الرشاد، واستمسك الأحبار بالظواهر وقلدهم في ذلك العامة، فما كانوا يعرفون من الدين إلا العبادات العامة، والمراسم الدينية، ما عدا ذلك مما لا فائدة لهم فيه ولا هوى، يلجئون فيه إلى التأويل والتحريف حتى لا يصادم أهواءهم وشهواتهم
الإيضاح :
الصبر الحقيقي إنما يكون بتذكر وعد الله بحسن الجزاء لمن صبر عن الشهوات المحرمة التي تميل إليها النفس، وعمل أنواع الطاعات التي تشق عليها، والتفكر في أن المصايب بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع له والتسليم لأمره، والاستعانة به تكون بإتباع الأوامر واجتناب النواهي بقمع النفس عن شهواتها وحرمانها لذاتها، وتكون بالصلاة لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، ولما فيها من مراقبة الله في السر والنجوى، وناهيك بعبادة يناجي فيها العبد ربه في اليوم خمس مرات، وقد روى أحمد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وروي أن ابن عباس نعيت له بنت وهو في سفر فاسترجع ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾ أي وإن الصلاة لشاقة صعبة الاحتمال إلا على المخبتين لله الخائفين من شديد عقابه، وإنما لم تثقل على هؤلاء، لأنهم مستغرقون في مناجاة ربهم فلا يشعرون بشيء من المتاعب والمشاق، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم :( وقرة عيني في الصلاة ) لأن اشتغاله بها كان راحة له، وكان غيرها من أعمال الدنيا تعبا له.
ولأنهم مترقبون ما ادخروا من الثواب فتهون عليهم المشاق، ومن ثم قيل للربيع ابن خيثم وقد أطال صلاته : أتعبت نفسك، قال راحتها أطلب، وقيل : من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية.
ثم وصف الخاشعين بأوصاف تقربهم إلى ربهم وتدعوهم للإخبات إليه. فقال :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ﴾.
تفسير المفردات :
يظنون : أي يستيقنون، ولقاء الله : هو الحشر إليه، والرجوع إليه : هو المجازاة ثوابا أو عقابا.
المعنى الجملي
الخطاب هنا لبني إسرائيل كما كان فيما قبله، وقد وبخهم على اعوجاج سيرتهم وفساد أعمالهم، وهداهم على المخرج من هذه الضلالات، ذاك أن اليهود كانوا يدعون الإيمان بكتابهم والعمل به والمحافظة عليه وتلاوته، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته، إذ حق تلاوته هو الإيمان به على الوجه الذي يرضاه الله تعالى، ولكن الأحبار والرهبان كانوا الآمرين الناهين لا يذكرون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إذا عارض شهواتهم.
فقد جاء في التوراة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم :( أنه يقيم من إخوتهم نبيا يقيم الحق ) وجاء في سفر تثنية الاشتراع ﴿ ١٧ ﴾ قال لي الرب : أحسنوا فيما تكلموا. ﴿ ١٨ ﴾ سوف أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ﴿ ١٩ ﴾ ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أكون المنتقم منه.
فحرفوا هذه البشارة به وأولوها بما يوافق أهواءهم.
وكانت لهم مواسم دينية تذكرهم بنعم الله عليهم، وتكون باعثا على إقامة الدين والعمل به، لكن طول العهد جعل القلوب قاسية فخرجت عن تعاليم الدين، واتباع الخير وسلوك طريق الرشاد، واستمسك الأحبار بالظواهر وقلدهم في ذلك العامة، فما كانوا يعرفون من الدين إلا العبادات العامة، والمراسم الدينية، ما عدا ذلك مما لا فائدة لهم فيه ولا هوى، يلجئون فيه إلى التأويل والتحريف حتى لا يصادم أهواءهم وشهواتهم
الإيضاح :
أي لا تثقل الصلاة على الخاشعين الذين يتوقعون لقاء ربهم يوم الحساب والجزاء، وأنهم راجعون إليه بعد البعث فيجازيهم بما قدموا من صالح العمل.
وعبر بالظن للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا تشق عليه الصلاة، فما ظنك بمن يتيقنه، ومن ثم كان الاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ، فكأن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم لم يصل إيمانهم بكتابهم إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالأحوط في أعماله.
﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين { ٤٧ ﴾ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ﴿ ٤٨ ﴾ }.
المعنى الجملي
كرر تذكيرهم بالنعم لكمال غفلتهم عما يجب عليهم من شكرها، وقد ذكرت فيما سبق مقترنة بوعد الله لهم بالنصر على الأعداء وسكنى الأرض المقدسة، واقترنت هنا بالوعيد، واتقاء عقاب الله في ذلك اليوم الشديد الهول الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، فكأنه قد قيل لهم إن لم تطيعوا الله لنعمه السالفة فأطيعوه للخوف من عقابه اللاحق.
وفي هذا التقريع والتوبيخ ما يدل على قساوة قلوبهم، فإن من شعر بقدر نفسه إذا خلا ونفسه وتذكر أنه ألم بنقيصة يتألم، ولم ير من اللائق به أن يدنسها مرة أخرى برذيلة
الإيضاح
﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ﴾ هذا تأكيد لما تقدم وتمهيد لما عطفه عليه من التذكير بالتفضيل الذي هو من أجل النعم.
﴿ وأني فضلتكم على العالمين ﴾ أي وأعطيتكم الفضل والزيادة على غيركم من الشعوب حتى الأمم ذات الحضارة والمدنية كالمصريين وسكان الأراضي المقدسة.
وقد ناداهم باسم أبيهم لأنه منشأ فخارهم وأصل عزهم، وأسند النعمة والفضل إليهم، جميعا لشمولها إياهم، والتفضيل إنما لتمسكهم بالفضائل وتركهم للرذائل، إذ من يرى نفسه مفضلا شريفا يترفع عن الدنايا.
وذكرهم بهذا الفضل لينبههم إلى أن الذي فضلهم على غيرهم له أن يفضل غيرهم كمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وإلى أنهم أجدر من جميع الشعوب بالتأمل فيما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات، فإن المفضل أولى بالسبق على الفضائل ممن فضل عليه.
وهذا الفضل إن كان بكثرة الأنبياء فلا مزاحم لهم فيه، ولا تقتضي هذه الفضيلة أن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، ولا تمنع أن يفضلهم أخس الشعوب إذا انحرفوا عن جادة الحق وتركوا سنة أنبيائهم واهتدى بهديها غيرهم، وإن كان بالقرب من الله بإتباع شرائعه، فذلك إنما يتحقق في أولئك الأنبياء والمهتدين من أهل زمانهم ومن تبعهم بإحسان ما داموا على الاستقامة وسلكوا الطريق الذي استحقوا به التفضيل.
﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ﴾
تفسير المفردات
الشفاعة : من الشفع ضد الوتر لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب فيصير معه شفعا بعد أن كان وترا، والعدل الفدية، وأصل العدل ( بالفتح ) ما يساوي
الشيء قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه، ( وبالكسر ) المساوي في الجنس والحجم، والنصرة : أخص من المعونة لأنها مختصة بدفع الضرر.
ام٤٧
الإيضاح :
أي واخشوا يوما يقع فيه من الأهوال ما لا قدرة لكم على دفعه، ولا مناجاة لكم منه إلا بتقوى الله في السر والعلن، يوم لا تحمل نفس أوزار نفس أخرى كما قال تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ وقال :﴿ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ﴾ وقال :﴿ يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ﴾ وقال :﴿ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾.
﴿ ولا يقبل منها شفاعة ﴾ أي إنها إذا جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها.
﴿ ولا يؤخذ منها عدل ﴾ أي ولا يؤخذ منها إن هي استطاعت أن تأتي بذلك.
﴿ ولا هم ينصرون ﴾ أي يمنعون من العذاب.
والخلاصة – إن ذلك يوم تتقطع فيه الأسباب، وتبطل منفعة الأنساب، وتتحول فيه سنة الحياة الدنيا من دفع المكروه عن النفس بالفداء أو بشفاعة الشافعين، عند الأمراء والسلاطين، أو بأنصار ينصرونها بالحق والباطل على سواها، وتضمحل فيه جميع الوسائل إلا ما كان من إخلاص في العمل قبل حلول الأجل، ولا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الله.
وقد كان اليهود كغيرهم من الأمم الوثنية يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا، فيتوهمون أنه يمكن تخليص المجرمين من العذاب بفداء يدفع، أو بشفاعة بعض المقربين إلى الحاكم فيغير رأيه وينقض ما عزم عليه.
فجاء الإسلام ومحا هذه العقيدة ليعلم المؤمنون أنه لا ينفع في ذلك اليوم إلا مرضاة الله بالعمل الصالح والإيمان الذي يبلغ قرارة النفس ويتجلى في أعمال الجوارح.
[ تنبيه ] : هناك مسألة كثر خوض الناس فيها وأطالوا الجدل والأخذ والرد، وهي مسألة الشفاعة العظمى، شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة وهاك بيانها :
جاء في القرآن الكريم آيات تفيد نفيها مطلقا، ومن ذلك قوله تعالى في وصف يوم القيامة ﴿ لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ﴾ وآيات تفيد ثبوتها متى أذن الله، ومن ذلك قوله :﴿ يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه ﴾ وقوله :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾.
من أجل هذا افترق العلماء فرقتين : أولاهما تثبت الشفاعة وتحمل ما جاء من الآيات في نفيها مطلقا على ما جاء منها مقيدا فلا تكون شفاعة إلا إذا أذن الله. وثانيهما تنفيها مطلقا وتقول عن معنى ﴿ إلا بإذنه ﴾ هنا النفي، وهذا أسلوب معروف لدى العرب في النفي القطعي كقوله :﴿ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ﴾ وقوله :﴿ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ﴾.
وإذا فليس في القرآن الكريم نص قاطع في ثبوتها، ولكن جاء في السنة الصحيحة ما يؤيد وقوعها كقوله صلى الله عليه وسلم :( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فمن كذب بها لم ينلها ).
فيجب علينا أن نحدد معناها والمراد منها، وهل تكون في الآخرة كما هي في الدنيا.
الشفاعة المعروفة في دنيانا أن يحمل الشفيع من يشفع عنده على فعل أو ترك كان يريد غيره، فلا تتحقق فائدة إلا بترك ما أراده المشفوع لديه، وفسخ ما عزم عليه لأجل الشفيع، والحاكم العادل لا يقبل الشفاعة بهذا المعنى، ولكن يقبلها الحاكم الظالم المستبد فيقضي بما يعلم أنه ظلم وأن العدل خلافه، ويفضل ارتباطه بأواصر القربى أو الصداقة للشافع على العدالة، ومثل هذا محال في الآخرة على المولى جل وعلا، لأن إرادته بحسب علمه الأزلي الذي لا تغيير فيه ولا تبديل، وإذا فما ورد من الأحاديث يكون من المتشابه الذي يرى السلف تفويض الأمر فيه إلى الله دون أن نحيط بحقيقته ونكشف المراد منه وننزه الله عن الشفاعة التي نشاهد مثالها في الحياة الدنيا، وغاية ما نستطيع أن نقول : إنها مزية يختص الله بها من يشاء من عباده عبر عنها بلفظ ﴿ الشفاعة ﴾ ولا ندرك حقيقتها.
ويرى المتأخرون ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، أنها دعاء يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم فيستجيبه المولى جل وعلا كما يفهم من رواية الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم يسجد يوم القيامة ويثني على الله بثناء يلهمه يومئذ، فيقال له ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع، وليس في الشفاعة بهذا المعنى رجوع المولى عن إرادته لأجل الشافع، وإنما هي إظهار كرامة للشافع بتنفيذ ما أراده الله أزلا عقب دعائه، فليس فيها ما يسد نهم المغرورين الذين يتهاونون في أوامر الدين ونواهيه اعتمادا منهم على الشفاعة كما قال :﴿ فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين ﴾.
﴿ وإذ نجيناهم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم { ٤٩ ﴾ }.
تفسير المفردات
النجو : المكان العالي من الأرض، لأن من صار إليه يخلص وينجو، ثم سمي كل فائز ناجيا لخروجه من الضيق إلى السعة، والآل : من آل يئول بمعنى رجع، لأنه يرجع إليك في قرابة أو رأي أو مذهب، ولا يضاف إلا لذوي القدر والخطر، وفرعون : لقب لمن ملك مصر قبل البطالسة ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتبع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة، وسامه : كلفه، والسوء : الشيء القبيح، وسوء العذاب، أشده وأفظعه، والبلاء : الاختبار والامتحان وهو تارة يكون بما يسر ليشكر العبد ربه، وتارة بما يضر ليصبر، وتارة بهما ليرغب ويرهب.
المعنى الجملي
فصل في هذه الآية نعمة مما أنعم به على هذا الشعب العظيم، ذكر فيها ما حل بهم من العذاب والبلاء جزاء ما صنعوا من جرائم وارتكبوا من آثام، ثم ما كان من لطف الله بهم، إذ رفع عنهم البلاء ليتوبوا ويعرفوا قدر نعمته عليهم كما قال :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾.
وقد امتن على اليهود الذين كانوا عصر التنزيل بنعمة كانت لآبائهم، لأن الإنعام على أمة إنعام شامل لأفرادها سواء منهم من أصابه ذلك ومن لم يصبه، لما يكون له من الأثر في مجموع الأفراد يرثه الخلف عن السلف، فصنوف البلاء التي ذكر بها اليهود في القرآن كانت للشعب من جراء جرائم وقعت من مجموعه.
وقد روى المؤرخون أن أول من دخل مصر من بني إسرائيل يوسف عليه السلام وانضم إليه إخوته بعد، وتكاثر نسلهم حتى بلغوا في مدى أربعمائة سنة نحو ستمائة ألف حين خرجوا من مصر باضطهاد فرعون وقومه لهم، إذ قد رأى تبسط اليهود في البلاد ومزاحمتهم للمصريين، فراح يستذلهم ويكلفهم شاق الأعمال في مختلف المهن والصناعات، وهم مع ذلك يزدادون نسلا، ويحافظون على عاداتهم وتقاليدهم لا يشركون المصريين في شيء ولا يندمجون في غمارهم، إلى مالهم من أنانية وإباء وترفع على سواهم، اعتقادا منهم بأنهم شعب الله وأفضل خلقه، فهال المصريين ما رأوا وخافوا إذا هم كثروا أن يغلبوهم على بلادهم، ويستأثروا بخيراتها وينتزعوها من بين أيديهم، وهم ذلك الشعب النشيط المجد العامل المفكر، فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء بناتهم، فأمر فرعون القوابل أن يقتلن كل ذكر إسرائيلي حين ولادته.
والعبرة من هذا القصص أنه كما أنعم على اليهود، ثم اجترحوا الآثام فعاقبهم، بصنوف البلاء، ثم تاب عليهم وأنجاهم، أنعم على الأمة الإسلامية بضروب من النعم، فقد كانوا أعداء فألف بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا، وكانوا مستضعفين في الأرض، فمكن لهم وأورثهم أرض الشعوب القوية، وجعل لهم فيها السلطان والقوة، وجعلهم أمة وسطا لا تفريط لديها ولا إفراط، ليكونوا شهداء على من أفرطوا أو قصروا.
ثم لما كفروا بهذه النعم أذاقهم الله ألوانا من العذاب على يد التتار في بغداد، وفي الحروب الصليبية، إذ جاس الغربيون خلال الديار الإسلامية، ولا يزالون يتنقصون بلادهم من أطرافها ويصبون عليهم العذاب وهم لاهون ساهون، وكلما حلت بهم كارثة أو أصابتهم جائحة أحالوا الأمر فيها على القضاء والقدر دون أن يتعرفوا أسبابها ويبادروا إلى علاجها، ويكونوا يدا واحدة على رفع ما يحل بهم من النكبات ويدهمهم من الويلات.
الإيضاح
﴿ وإذ نجيناكم من آل فرعون ﴾ أي واذكروا وقت تنجيتنا إياكم أي تنجية آبائكم، وتنجيتهم تنجية لأعقابهم، وهو استعمال تعهده العرب في كلامها، يقولون قتلناكم يوم عكاظ أي قتل آباؤنا آباءكم.
﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾ أي يكلفونكم ما يسوءكم ويذلكم من العذاب.
ثم فصل هذا العذاب بقوله :
﴿ يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ﴾ أي يقتلون الذكور ويستبقون البنات إذلالا لكم حتى ينقرض شعبكم من البلاد.
﴿ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾ أي وفي ذلكم العذاب والتنجية منه امتحان عظيم من ربكم كما قال تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير ﴾ وقوله : من ربكم : أي من جهته تعالى بتسليطهم عليكم، وبعث موسى وتوفيقه لخلاصكم.
﴿ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون { ٥٠ ﴾ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴿ ٥١ ﴾ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ﴿ ٥٢ ﴾ وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ﴿ ٥٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
الفرق : الفصل بين الشيئين، والبحر : هو بحر القلزم فرقه الله اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباط بني إسرائيل، والسبط : ولد الولد، وهو من بني إسرائيل كالقبائل من العرب.
المعنى الجملي
في الآية الأولى تفصيل لمجمل ما ذكر في الآية السالفة من الإنجاء، وتصوير لحصوله وعظيم هوله، وكونه من خوارق العادات، وفي تضاعيف ذلك التي تلتها وهي العدة بإعطاء التوراة وكفرهم بها باتخاذهم عجلا من ذهب وعبادتهم إياه، ثم عفوه عنهم بعد ذلك، ثم قفى على ذلك بذكر إيتائهم الكتاب وهي المنة الكبرى مع الآيات التي أيد بها موسى لتصديق نبوته.
روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلي، وترك تعذيبه والعسف به، زاد فرعون في تعذيبهم وسامهم الخسف، وشدد عليهم النكال والتعذيب.
ويؤيد هذا ما جاء في سفر الخروج من التوراة : إن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل، ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته.
فبعد أن دعاه موسى إلى الإيمان زاد ظلما وعتوا، فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم، وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ﴿ الطوب ﴾ ويكلفوهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم منه شيء.
فأعطى الله موسى وأخاه هارون الآيات، فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة، فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون، ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا.
وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه.
وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها ومدبرها، بل هو الحاكم المتصرف فيها، وهي أيضا سنة أخرى في الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
وزعم بعض الناس أن عبور بني إسرائيل البحر كان وقت الجزر، وفي بحر القلزم [ البحر الأحمر ] رقارق يتيسر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا، وكانوا لاستعجالهم واتصال بعضهم ببعض، قد جعلوا الماء الرقارق فرقين عظيمين ممتدين كالطود العظيم، يرشد على ذلك قوله :﴿ وإذ فرقنا بكم البحر ﴾ ولم يقل فرقنا لكم البحر.
وقوله :﴿ فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ تشبيه معروف معهود مثله في مقام المبالغة كقوله :﴿ وهي تجري بهم في موج كالجبال ﴾ وقوله :﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ﴾ ألا ترى أن الأمواج والسفن الجواري لا تكون كشواهق الجبال، لكنه يراد بمثل هذا التعبير زيادة البيان، وإرادة التأثير في نفس السامع.
ولما أتبعهم فرعون وجنوده ورآهم قد عبروا البحر مشى إثرهم، وكان المد قد بدأ، ولم يتم خروج بني إسرائيل إلا وقد علا المد، وطغى حتى أغرق المصريين جميعا، وتحققت نعمة الله على بني إسرائيل، وتم لهم التوفيق ولعدوهم الخذلان، ونعم الله بغير طريق المعجزات أتم وأكثر، فليس بلازم أن نجعل الامتنان في كونه معجزة موسى عليه السلام اه.
ومثل هذا التأويل ليس بضائر إذا كان أربابه يثبتون صدور خوارق العادات على يد الأنبياء تأييدا من الله لهم، أما إذا أنكروها فلا حاجة إلى الكلام معهم، إذ لا بد أن نثبت لهم قدرة الله وإرادته، ثم نثبت لهم إمكان الوحي وإرسال الرسل وتأييدهم بالمعجزات
الإيضاح
﴿ وإذ فرقنا بكم البحر ﴾ أي واذكروا من نعمتنا عليكم نعمة فرق البحر بكم وجعلنا لكم فيه طرقا تسلكونها حين هربكم من فرعون.
﴿ فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ﴾ أي فأنجيناكم من الغرق وأخرجناكم إلى الشاطئ الآخر، وأغرقنا فرعون ومن معه حين عبروا وراءكم، وأنتم تشاهدون ذلك بأبصاركم ولا تشكون في حصوله، ولولا ذلك لكان لكم وجه للريبة والشك في وقوعه، والفائدة من قوله :﴿ وأنتم تنظرون ﴾ بيان تمام النعمة، فإن هلاك العدو نعمة، ومشاهدة هلاكه نعمة أخرى فيها سرور لا يقدر قدره.
﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتهم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾
المعنى الجملي
في الآية الأولى تفصيل لمجمل ما ذكر في الآية السالفة من الإنجاء، وتصوير لحصوله وعظيم هوله، وكونه من خوارق العادات، وفي تضاعيف ذلك التي تلتها وهي العدة بإعطاء التوراة وكفرهم بها باتخاذهم عجلا من ذهب وعبادتهم إياه، ثم عفوه عنهم بعد ذلك، ثم قفى على ذلك بذكر إيتائهم الكتاب وهي المنة الكبرى مع الآيات التي أيد بها موسى لتصديق نبوته.
روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلي، وترك تعذيبه والعسف به، زاد فرعون في تعذيبهم وسامهم الخسف، وشدد عليهم النكال والتعذيب.
ويؤيد هذا ما جاء في سفر الخروج من التوراة : إن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل، ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته.
فبعد أن دعاه موسى إلى الإيمان زاد ظلما وعتوا، فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم، وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ﴿ الطوب ﴾ ويكلفوهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم منه شيء.
فأعطى الله موسى وأخاه هارون الآيات، فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة، فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون، ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا.
وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه.
وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها ومدبرها، بل هو الحاكم المتصرف فيها، وهي أيضا سنة أخرى في الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
وزعم بعض الناس أن عبور بني إسرائيل البحر كان وقت الجزر، وفي بحر القلزم [ البحر الأحمر ] رقارق يتيسر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا، وكانوا لاستعجالهم واتصال بعضهم ببعض، قد جعلوا الماء الرقارق فرقين عظيمين ممتدين كالطود العظيم، يرشد على ذلك قوله :﴿ وإذ فرقنا بكم البحر ﴾ ولم يقل فرقنا لكم البحر.
وقوله :﴿ فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ تشبيه معروف معهود مثله في مقام المبالغة كقوله :﴿ وهي تجري بهم في موج كالجبال ﴾ وقوله :﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ﴾ ألا ترى أن الأمواج والسفن الجواري لا تكون كشواهق الجبال، لكنه يراد بمثل هذا التعبير زيادة البيان، وإرادة التأثير في نفس السامع.
ولما أتبعهم فرعون وجنوده ورآهم قد عبروا البحر مشى إثرهم، وكان المد قد بدأ، ولم يتم خروج بني إسرائيل إلا وقد علا المد، وطغى حتى أغرق المصريين جميعا، وتحققت نعمة الله على بني إسرائيل، وتم لهم التوفيق ولعدوهم الخذلان، ونعم الله بغير طريق المعجزات أتم وأكثر، فليس بلازم أن نجعل الامتنان في كونه معجزة موسى عليه السلام اه.
ومثل هذا التأويل ليس بضائر إذا كان أربابه يثبتون صدور خوارق العادات على يد الأنبياء تأييدا من الله لهم، أما إذا أنكروها فلا حاجة إلى الكلام معهم، إذ لا بد أن نثبت لهم قدرة الله وإرادته، ثم نثبت لهم إمكان الوحي وإرسال الرسل وتأييدهم بالمعجزات
الإيضاح :
أي واذكروا نعمة أخرى كفرتم بها وظلمتم أنفسكم، ذاك أنهم بعد أن اجتازوا البحر سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من ربهم، فواعده ربه أن يعطيه التوراة وضرب له ميقاتا لذلك، يقولون إنه ذو القعدة وعشر ذي الحجة، فاستبطئوه واتخذوا عجلا من ذهب، له خوار فعبدوه وظلموا أنفسهم بإشراكهم ووضعهم للشيء في غير موضعه بعبادة العجل بدل عبادة خالقهم وخالقه.
وفي ذكر هذا تعجيب من حالهم، فإن مواعدة الله موسى بإنزال التوراة إليه نعمة وفضيلة لبني إسرائيل قابلوها بأقبح أنواع الكفر والجهل.
﴿ ثم عفونا عنكم بعد ذلك لعلكم تشكرون ﴾
تفسير المفردات :
العفو : محو الجريمة بالتوبة.
المعنى الجملي
في الآية الأولى تفصيل لمجمل ما ذكر في الآية السالفة من الإنجاء، وتصوير لحصوله وعظيم هوله، وكونه من خوارق العادات، وفي تضاعيف ذلك التي تلتها وهي العدة بإعطاء التوراة وكفرهم بها باتخاذهم عجلا من ذهب وعبادتهم إياه، ثم عفوه عنهم بعد ذلك، ثم قفى على ذلك بذكر إيتائهم الكتاب وهي المنة الكبرى مع الآيات التي أيد بها موسى لتصديق نبوته.
روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلي، وترك تعذيبه والعسف به، زاد فرعون في تعذيبهم وسامهم الخسف، وشدد عليهم النكال والتعذيب.
ويؤيد هذا ما جاء في سفر الخروج من التوراة : إن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل، ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته.
فبعد أن دعاه موسى إلى الإيمان زاد ظلما وعتوا، فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم، وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ﴿ الطوب ﴾ ويكلفوهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم منه شيء.
فأعطى الله موسى وأخاه هارون الآيات، فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة، فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون، ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا.
وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه.
وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها ومدبرها، بل هو الحاكم المتصرف فيها، وهي أيضا سنة أخرى في الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
وزعم بعض الناس أن عبور بني إسرائيل البحر كان وقت الجزر، وفي بحر القلزم [ البحر الأحمر ] رقارق يتيسر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا، وكانوا لاستعجالهم واتصال بعضهم ببعض، قد جعلوا الماء الرقارق فرقين عظيمين ممتدين كالطود العظيم، يرشد على ذلك قوله :﴿ وإذ فرقنا بكم البحر ﴾ ولم يقل فرقنا لكم البحر.
وقوله :﴿ فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ تشبيه معروف معهود مثله في مقام المبالغة كقوله :﴿ وهي تجري بهم في موج كالجبال ﴾ وقوله :﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ﴾ ألا ترى أن الأمواج والسفن الجواري لا تكون كشواهق الجبال، لكنه يراد بمثل هذا التعبير زيادة البيان، وإرادة التأثير في نفس السامع.
ولما أتبعهم فرعون وجنوده ورآهم قد عبروا البحر مشى إثرهم، وكان المد قد بدأ، ولم يتم خروج بني إسرائيل إلا وقد علا المد، وطغى حتى أغرق المصريين جميعا، وتحققت نعمة الله على بني إسرائيل، وتم لهم التوفيق ولعدوهم الخذلان، ونعم الله بغير طريق المعجزات أتم وأكثر، فليس بلازم أن نجعل الامتنان في كونه معجزة موسى عليه السلام اه.
ومثل هذا التأويل ليس بضائر إذا كان أربابه يثبتون صدور خوارق العادات على يد الأنبياء تأييدا من الله لهم، أما إذا أنكروها فلا حاجة إلى الكلام معهم، إذ لا بد أن نثبت لهم قدرة الله وإرادته، ثم نثبت لهم إمكان الوحي وإرسال الرسل وتأييدهم بالمعجزات
الإيضاح :
أي ثم محونا تلك الجريمة بقبول التوبة ولم نعاجلكم بالإهلاك، بل أمهلناكم حتى جاءكم موسى وأخبركم بكفارة ذنوبكم، ليعدكم بهذا العفو للاستمرار على الشكر، فإن الإنعام يوجب الشكر على النعم.
﴿ وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ﴾
تفسير المفردات :
الكتاب : التوراة، والفرقان : الآيات التي أيد الله بها موسى ودلت على صدق نبوته، وبها يفرق بين الحق والباطل، والشكر يكون لمن فوقك بطاعته، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان إليه.
المعنى الجملي
في الآية الأولى تفصيل لمجمل ما ذكر في الآية السالفة من الإنجاء، وتصوير لحصوله وعظيم هوله، وكونه من خوارق العادات، وفي تضاعيف ذلك التي تلتها وهي العدة بإعطاء التوراة وكفرهم بها باتخاذهم عجلا من ذهب وعبادتهم إياه، ثم عفوه عنهم بعد ذلك، ثم قفى على ذلك بذكر إيتائهم الكتاب وهي المنة الكبرى مع الآيات التي أيد بها موسى لتصديق نبوته.
روى المؤرخون أن الله لما أرسل موسى إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الإيمان به ويطلب إليهم إطلاق الشعب الإسرائيلي، وترك تعذيبه والعسف به، زاد فرعون في تعذيبهم وسامهم الخسف، وشدد عليهم النكال والتعذيب.
ويؤيد هذا ما جاء في سفر الخروج من التوراة : إن الله تعالى أنبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل، ويزيد في النكال بهم ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته.
فبعد أن دعاه موسى إلى الإيمان زاد ظلما وعتوا، فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة أن يزيدوا في القسوة عليهم، وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ﴿ الطوب ﴾ ويكلفوهم أن يجمعوه ويعملوا كل ما يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم منه شيء.
فأعطى الله موسى وأخاه هارون الآيات، فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة، فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون، ورأى من الآيات ما رأى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا.
وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب بعد أن أقاموا بمصر ثلاثين وأربعمائة سنة من عهد يوسف عليه السلام، ثم أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه.
وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم لترشد الناس إلى أن السنن والنواميس الكونية لا تحكم على واضعها ومدبرها، بل هو الحاكم المتصرف فيها، وهي أيضا سنة أخرى في الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
وزعم بعض الناس أن عبور بني إسرائيل البحر كان وقت الجزر، وفي بحر القلزم [ البحر الأحمر ] رقارق يتيسر للإنسان أن يعبر بها البحر إذا كان الجزر شديدا، وكانوا لاستعجالهم واتصال بعضهم ببعض، قد جعلوا الماء الرقارق فرقين عظيمين ممتدين كالطود العظيم، يرشد على ذلك قوله :﴿ وإذ فرقنا بكم البحر ﴾ ولم يقل فرقنا لكم البحر.
وقوله :﴿ فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ تشبيه معروف معهود مثله في مقام المبالغة كقوله :﴿ وهي تجري بهم في موج كالجبال ﴾ وقوله :﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ﴾ ألا ترى أن الأمواج والسفن الجواري لا تكون كشواهق الجبال، لكنه يراد بمثل هذا التعبير زيادة البيان، وإرادة التأثير في نفس السامع.
ولما أتبعهم فرعون وجنوده ورآهم قد عبروا البحر مشى إثرهم، وكان المد قد بدأ، ولم يتم خروج بني إسرائيل إلا وقد علا المد، وطغى حتى أغرق المصريين جميعا، وتحققت نعمة الله على بني إسرائيل، وتم لهم التوفيق ولعدوهم الخذلان، ونعم الله بغير طريق المعجزات أتم وأكثر، فليس بلازم أن نجعل الامتنان في كونه معجزة موسى عليه السلام اه.
ومثل هذا التأويل ليس بضائر إذا كان أربابه يثبتون صدور خوارق العادات على يد الأنبياء تأييدا من الله لهم، أما إذا أنكروها فلا حاجة إلى الكلام معهم، إذ لا بد أن نثبت لهم قدرة الله وإرادته، ثم نثبت لهم إمكان الوحي وإرسال الرسل وتأييدهم بالمعجزات
الإيضاح :
أي واذكروا نعمة إيتاء التوراة والآيات التي أيدنا بها موسى، لتهتدوا بالتدبر فيها، والعمل بما تحويه من الشرائع ليعدكم للاسترشاد بها حتى لا تقعوا في وثنية أخرى.
وإن من كمال الاستعداد لفهم الكتاب أن تعرفوا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم دليل على صحة نبوته، فتؤمنوا به وتهتدوا بهديه وتتبعوا سبيل الرشاد الذي سلكه.
﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم { ٥٤ ﴾ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ﴿ ٥٥ ﴾ ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ﴿ ٥٦ ﴾ وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴿ ٥٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
برأه : ذرأه وأوجده، والصاعقة نار محرقة تنزل من السماء، وسببها اتحاد كهربية السحاب المختلفة النوع سالبها بموجبها، أو اتحادها مع كهربية الأرض السالبة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلها مصدر فخار لهم، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم، فبين في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهي اتخاذهم العجل إلها، ثم ختمها بذكر العفو عنهم، ثم قفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرا وطغيانا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به، فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأي العين، ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما، أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المن والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
وفي ذكر النعمة يتخللها سوق ما يفرط من أصحابها من السيئات وما يجعل النفوس قلقة مضطربة يتجاذبها عاملان : عامل الاعتراف لها بالشرف، وعامل رميها بالظلم والسرف، وهذا مما يورث في النفوس المخاوف، وتتملكها منه الوساوس.
الإيضاح
﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ﴾ أي واذكر أيها الرسول الكريم فيما تلقيه على بني إسرائيل وغيرهم من العظات قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجي ربه : يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها قد أضررتم بأنفسكم وأنقصتم ما لها من الأجر والثواب عند ربكم لو أنكم أقمتم على عهدي واتبعتم شريعتي، وقد فصلت هذه القصة في سورتي الأعراف وطه.
﴿ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾ أي فاعزموا على التوبة إلى من خلقكم وميز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة، وفي قوله إلى بارئكم إيماء إلى أنهم بلغوا غاية الجهل، إذ تركوا عبادة البارئ وعبدوا أغبى الحيوان وهو البقر، وليقتل البريء منكم المجرم، وإنما جعلهم أنفسهم للإشارة إلى أن المؤمنين إخوة، فأخو الرجل كأنه نفسه كما قال تعالى :﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ أي لا تغتابوا إخوانكم من المسلمين.
وقصة القتل مذكورة في التوراة التي يتدارسونها إلى اليوم، ففيها دعا موسى : من للرب فإلي، فأجابه بنو لاوي، فأمرهم أن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا ففعلوا، فقتل في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل، والعبرة من القصة لا تتوقف على عدد معين فلنمسك عنه ما دام القرآن لم يتعرض له.
﴿ ذلكم خير لكم عند بارئكم ﴾ أي ما ذكر من التوبة والقتل أنفع لكم عند الله من العصيان والإصرار على الذنوب لما فيه من العذاب، إذ إن القتل يطهركم من الرجس الذي دنستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا للثواب.
﴿ فتاب عليكم ﴾ أي ففعلتم ما أمركم به موسى فقبل توبتكم وتجاوز عن سيئاتكم.
﴿ إنه هو التواب الرحيم ﴾ أي إنه هو الذي يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويقبلها منهم، وهو الرحيم بمن ينيب إليه ويرجع، ولولا ذلك لعجل بإهلاككم، على ما اجترحتم من عظيم الآثام.
﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلها مصدر فخار لهم، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم، فبين في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهي اتخاذهم العجل إلها، ثم ختمها بذكر العفو عنهم، ثم قفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرا وطغيانا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به، فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأي العين، ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما، أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المن والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
وفي ذكر النعمة يتخللها سوق ما يفرط من أصحابها من السيئات وما يجعل النفوس قلقة مضطربة يتجاذبها عاملان : عامل الاعتراف لها بالشرف، وعامل رميها بالظلم والسرف، وهذا مما يورث في النفوس المخاوف، وتتملكها منه الوساوس.
الإيضاح :
أي واذكروا قول السبعين من أسلافكم الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه إلى الطور، للاعتذار عن عبادة العجل : لن نصدقك في قولك إن هذا كتاب الله، وإنك سمعت كلامه، وإن الله أمر بقبوله والعمل به حتى نرى الله عيانا لا ساتر بيننا وبينه، فيكون كالجهر في الوضوح " والجهر في المسموعات كالمعاينة في المبصرات ".
﴿ فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ﴾ أي فأخذت الصاعقة من قال ذلك، والباقون ينظرون بأعينهم، وقد فصل ذلك في سورة الأعراف، وفي التوراة : عن طائفة منهم قالوا لماذا اختص موسى وهارون بكلام الله من دوننا، وشاع ذلك في بني إسرائيل وقالوا لموسى بعد موت هارون : إن نعمة الله على شعب إسرائيل لأجل إبراهيم وإسحاق فتعم الشعب جميعه، وأنت لست أفضل منه، فلا يحق لك أن تسودنا بلا مزية، وإنا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذهم إلى خيمة العهد فانشقت الأرض وابتلعت طائفة منهم وجاءت نار من الجانب الآخر فأخذت الباقين.
وهكذا كان حال بني إسرائيل مع موسى يتمردون ويعاندون، وسوط العذاب يصب عليهم صبا، فأصيبوا بالأوبئة وأنواع الأمراض وسلطت عليهم هوام الأرض وحشراتها حتى فتكت بالعدد العديد والخلق الكثير، فليس ببدع منهم أن يجحدوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ويعاندوها.
﴿ ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ﴾
تفسير المفردات :
بعثناكم : أي أكثرنا نسلكم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلها مصدر فخار لهم، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم، فبين في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهي اتخاذهم العجل إلها، ثم ختمها بذكر العفو عنهم، ثم قفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرا وطغيانا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به، فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأي العين، ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما، أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المن والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
وفي ذكر النعمة يتخللها سوق ما يفرط من أصحابها من السيئات وما يجعل النفوس قلقة مضطربة يتجاذبها عاملان : عامل الاعتراف لها بالشرف، وعامل رميها بالظلم والسرف، وهذا مما يورث في النفوس المخاوف، وتتملكها منه الوساوس.
الإيضاح :
يرى بعض المفسرين أن الله أحياهم بعد أن وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة القلبية لغيرهم. ويرى آخرون أن المراد بالبعث كثرة النسل، أي إنه بعد أن وقع فيهم الموت بشتى الأسباب وظن أنهم سينقرضون، بارك الله في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها.
وإنما قص الله علينا هذا القصص ووجهه إلى من كان من اليهود في عصر التنزيل لبيان وحدة الأمة، وأن ما يبلوها به من الحسنات والسيئات وما يجازيها به من النعم والنقم إنما هو لمعنى فيها يسوغ أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق كأنه وقع منه، ليعلم الناس أن الأمم متكافلة، سعادة الفرد منها مرتبطة بسعادة سائر الأفراد، وشقاؤه بشقائهم، وبتوقع نزول العقوبة به إذا فشت الذنوب في الأمة وإن لم يفعلها هو كما قال :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾.
وفي هذا التكافل رقي الأمة وتقدمها في المدنية والحضارة، إذ يحملها على التعاون في البأساء والضراء، فتحوز قصب السبق بين الأمم.
﴿ وظللنا عليكم الغمام ﴾
تفسير المفردات :
والمن : مادة حلوة لزجة تشبه العسل تقع على الحجر وورق الشجر وتنزل سائلة كالندى، ثم تجمد وتجف فيجمعها الناس، والسلوى : السماني ﴿ السمان ﴾ الطائر المعروف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السالفة أنواعا من النعم التي آتاها بني إسرائيل، كلها مصدر فخار لهم، ولها تهتز أعطافهم خيلاء وكبرا، لما فيها من الشهادة بعناية الله بهم، فبين في أولاها كبرى سيئاتهم التي بها كفروا أنعم ربهم وهي اتخاذهم العجل إلها، ثم ختمها بذكر العفو عنهم، ثم قفى على ذلك بذكر سيئة أخرى لهم ابتدعوها تعنتا وتجبرا وطغيانا، وهي طلبهم من موسى أن يريهم الله عيانا حتى يؤمنوا به، فأخذتهم الصاعقة وهم يرون ذلك رأي العين، ثم أردف ذلك ذكر نعمتين أخريين كفروا بهما، أولاهما تظليل الغمام لهم في التيه إلى أن دخلوا الأرض المقدسة، وإنزال المن والسلوى عليهم مدة أربعين سنة.
وفي ذكر النعمة يتخللها سوق ما يفرط من أصحابها من السيئات وما يجعل النفوس قلقة مضطربة يتجاذبها عاملان : عامل الاعتراف لها بالشرف، وعامل رميها بالظلم والسرف، وهذا مما يورث في النفوس المخاوف، وتتملكها منه الوساوس.
الإيضاح :
ذاك أنهم حين خرجوا من مصر وجاوزوا البحر، وقعوا في صحراء فأصابهم حر شديد، فشكوا إلى موسى فأرسل الله إليهم الغمام يظللهم حتى دخلوا أرض الميعاد.
﴿ وأنزلنا عليكم المن والسلوى ﴾ ما منحه الله لعباده يسمى إيجاده إنزالا كما جاء في قوله :﴿ وأنزلنا الحديد ﴾ وقد قالوا عن المن كان ينزل عليهم نزول الضباب من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتأتيهم السماني فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه إلى الغد.
﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ أي وقلنا لهم كلوا من ذلك الرزق الطيب، وفي سفر الخروج – أنهم أكلوا المن أربعين سنة وأن طعمه كالرقاق بالعسل، وكان لهم بدل الخبز إذ كانوا محرومين من البقول والخضر.
﴿ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ أي فكفروا تلك النعم الجزيلة، وما عاد ضرر ذلك إلا عليهم باستيجابهم عذابي وانقطاع ذلك الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مئونة ولا مشقة.
وفي هذا إيماء إلى أن كل ما يطلبه الله من عباده فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم عنه فإنما ذلك لدفع ضر يقع عليهم، وقد جاء في الحديث القدسي :( فكل عمل ابن آدم له أو عليه ) وهو بمعنى قوله :﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ وقوله :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾.
﴿ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين { ٥٨ ﴾ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ﴿ ٥٩ ﴾ }.
تفسير المفردات
القرية لغة : مجتمع الناس ومسكن النمل، ثم غلب استعمالها في البلاد الصغيرة، وليس ذلك بالمراد هنا بل المراد المدينة الكبيرة، لأن الرغد لا يتسنى إلا فيها، والرغد : الهنئ ذو السعة، والباب هو أحد أبواب بيت المقدس ويدعى الآن [ باب حطة ]، وسجدا : أي ناكسي الرءوس، والمحسن : من فعل ما يجمل في نظر العقل ويحمد في لسان الشرع.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض ما اجترحوه من السيئات، فقد أمرهم أن يدخلوا قرية من القرى خاشعين لله، فعصى بعضهم وخالف أمر ربه، فأنزل عليهم عذابا من السماء جزاء ما ارتكبوه من المعاصي واقترفوه من الآثام.
الإيضاح
﴿ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ﴾ لم يعين الكتاب الكريم هذه القرية فلا حاجة إلى تعيينها، وهم قد دخلوا بلادا كثيرة، وإن كان المروي عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم أنها بيت المقدس.
﴿ فكلوا منها حيث شئتم رغدا ﴾ أي فكلوا منها أكلا هنيئا ذا سعة في أي مكان شئتم.
﴿ وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ﴾ أي وادخلوا باب حطة خشعا ناكسي الرءوس تواضعا لله، وقد يكون المعنى : إذا دخلتم الباب فاسجدوا لله شكرا على ما أنعم عليكم، إذ أخرجكم من التيه، ونصركم على عدوكم، وأعادكم إلى ما تحبون، وقولوا نسألك ربنا أن تحط عنا ذنوبنا وخطايانا التي من أهمها كفران النعم.
﴿ نغفر لكم خطاياكم ﴾ أي إذا فعلتم ما ذكر استجبنا دعاءكم وكفرنا خطاياكم.
﴿ وسنزيد المحسنين ﴾ أي وسنزيد المحسنين ثوابا من فضلنا، وقد أمرهم بشيئين : عمل يسير، وقول صغير، ووعدهم بغفران السيئات، وزيادة الحسنات.
﴿ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ﴾
تفسير المفردات :
وتقول بدلت قولا غير الذي قيل : أي جئت بذلك القول مكان القول الأول، والرجز : العذاب.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض ما اجترحوه من السيئات، فقد أمرهم أن يدخلوا قرية من القرى خاشعين لله، فعصى بعضهم وخالف أمر ربه، فأنزل عليهم عذابا من السماء جزاء ما ارتكبوه من المعاصي واقترفوه من الآثام.
الإيضاح :
أي فخالفوا الأمر ولم يتبعوه، وجعل المخالفة تبديلا إشارة إلى أن الذي يؤمر بالشيء فيخالفه كأنه أنكر أنه أمر به وادعى أنه أمر بغيره، وليس المراد أنهم أمروا بحركة يأتونها وكلمة يقولونها على سبيل التعبد، وجعل ذلك سببا لغفران الذنوب عنهم، فقالوا غيرها وخالفوا الأمر وكانوا من الفاسقين، فما أسهل الكلام على الناس يحركون به ألسنتهم، وإنما يعصى العاصي ربه إذا كلف ما يثقل عليه، وحمل غير ما اعتاد، لما في ذلك من ترك النفس ما ألفت، واستيحاشها من غير ما عرفت.
﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ﴾ لم يعين الكتاب هذا الرجز فنتركه مبهما، وإن كان كثير من المفسرين قالوا إنه الطاعون، وقد ابتلى الله بني إسرائيل بضروب من النقم عقب كل نوع من أنواع الفسوق والظلم، فأصيبوا بالطاعون كثيرا، وسلط عليهم أعداؤهم، وقوله بما كانوا يفسقون : أي بسبب تكرار فسقهم وعصيانهم ومخالفتهم أوامر دينهم.
﴿ وإذ استسقى موسى لقومه، فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم، كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين { ٦٠ ﴾ }.
تفسير المفردات
استسقى : طلب السقيا عند عدم الماء أو قلته، قال أبو طالب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
والانفجار، والانبجاس، والسكب بمعنى، والمشرب مكان الشرب، والعثى : مجاوزة الحد في كل شيء ثم غلب استعماله في الفساد.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هذه الآية نعمة أخرى آتاها بني إسرائيل فكفروا بها، ذلك أنهم حين خرجوا من مصر إلى التيه أصابهم من لفح الشمس، فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه أن يسقيهم فأجاب دعوته.
وقد كان من دأب بني إسرائيل أن يعودوا باللوم على موسى إذا أصابهم الضيق، ويمنون عليه بالخروج معه من مصر، ويصارحونه بالندم على ما فعلوا، فقد روى أنهم قالوا من لنا بحر الشمس ؟ فظلل عليهم الغمام، وقالوا من لنا بالطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن والسلوى، وقالوا من لنا بالماء ؟ فأمر موسى بضرب الحجر.
الإيضاح
﴿ وإذ استسقى موسى لقومه ﴾ أي طلب لهم السقيا من الله تعالى بأن يسعفهم بماء يكفيهم حاجاتهم في هذه الصحراء المحرقة.
﴿ فقلنا اضرب بعصاك الحجر ﴾ أي فأجبناه إلى ما طلب، وأوحينا إليه أن اضرب الحجر بعصاك، وقد أمره أن يضرب بعصاه التي ضرب بها البحر حجرا من أحجار الصحراء، قال الحسن لم يكن حجرا معينا، بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء، وهذا أظهر في حجة موسى عليه السلام، وأدل على قدرة الله تعالى وقد سماه في سفر الخروج الصخرة.
﴿ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ﴾ أي فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بقدر عدد الأسباط، فاختص كل منهم بعين حتى لا تقع بينهم الشحناء، كما يرشد إلى ذلك قوله.
﴿ قد علم كل أناس مشربهم ﴾ أي قد صار لكل سبط منهم مشرب يعرفه، لا يتعداه إلى مشرب غيره.
قال النطاسي البارع المرحوم عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه، [ الإسلام والطب الحديث ] ما خلاصته :
إن الله تعالى كان قادرا على تفجير الماء وفلق البحر بلا ضرب عصا، ولكنه جلت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها ليسعوا في الحصول على تلك الأسباب بقدر الطاقة.
إلى أنه تعالى خلق الإنسان محدود الإدراك والحواس، لا يفهم إلا ما كان في متناول يده ويقع تحت إدراكه وحسه، فإن رأى شيئا فوق طاقته اجتهد في رده إلى ما يعرف، فإذا لم يستقم له ذلك وقف حائرا مدهوشا، ولا سيما إذا تكرر ذلك أمامه، فكان من لطف الله بعباده أن تظهر المعجزات على يد الأنبياء على طريق التدرج حتى لا تصطدم بها عقول معاصريها دفعة واحدة.
حكى القرآن في معجزات عيسى عليه السلام قوله :﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ﴾.
كان الله قديرا على أن يخلق الطير من الطين ومن غير الطين سواء كان في شكل الطير أم لكم يكن، وكذلك لم يكن هناك من داع للنفخ، لأن طريق القدرة ﴿ كن فيكون ﴾.
ولكن شاء الله أن تظهر قدرته بطريق التدرج، لأن الطين إذا كان على شكل الطير يشتبه بالطير الحقيقي ولا يكون بينهما فارق إلا بالحياة، وعملية النفخ تجعل الرائي ينتظر تغييرا في الجسم كما يحدث ذلك في الكرة ونحوها إذا نفخ فيها، فإذا وجدت الروح في هذا الهيكل الطيني تكون حدة الصدمة قد خفت، لأن النفس كانت ترقب ما حدث، وجميع المقدمات لا دخل لها مطلقا في وجود الحياة والروح.
وكذلك خلق عيسى من نطفة الأم فقط، مع أن الحيوان في عالمنا لا يخلق إلا من نطفتي الأب والأم، ونظام الكائنات يجري على سنن واحد إلا حيث يريد الله.
وقد لطف الله بمريم فأراها ملكا في صورة بشر، وقال لها سأهب لك غلاما زكيا، فأجابته :﴿ أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ﴾ فرؤية الملك والأحوال التي أحاطت به أوجدت عندها بعض الشك في أنها ربما حملت بطريق غير عادي، وبهذا تهيأ احتمالها صدمة الحمل عند ما حصل.
وكأن الله تعالى جعل النفخ يأخذ مكان نطفة الرجل، وكان تمثل الملك بصورة البشر كتمثل الطين بصورة الطير، والنفخ في مريم كالنفخ في الطين، وكل ذلك تقريب لفهم المعجزة، وإلا فعيسى خلق من نطفة مريم، والجزء الآخر بإذن الله وقدرته ﴿ كن فيكون ﴾ وسنن الله التي أوجدها في الكون وكفل لها الاستمرار وعدم التبدل والتي قام عليها نظام العالم ﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾ قد بدلت في المعجزات بالقدرة الإلهية التي تضع جميع السنن، وكأن المعجزة سنة جديدة.
والخلاصة – إن المعجزات كلها من صنع الله، وهي سنة جديدة غير ما نشاهد كل يوم، فحركة الشمس وطلوعها من المشرق مع عظمها لا تحدث دهشة لتعودنا إياها، ولكن إن طلعت من المغرب دون المشرق كان معجزة وأحدث غرابة ودهشة مع أن الحركتين من صنع الله لا فارق بينهما، ولكي لا تحدث الصدمة حين حصول المعجزة يهيئ الله الظروف لتحملها، ويهيئ النبي لقبولها، ويهيئ الحاضرين لمشاهدتها وقبولها، فأمر الله موسى بإدخال يده في جيبه وإخراجها بيضاء تهيئة لمعجزاته الأخرى، وليس للعقل أن يحكم أن أي المعجزات أعظم من الأخرى، لأنه يتكلم عن مجهول هو من صنع الله لا يعرفه، فلا يمكن الإنسان مهما ارتقى عقله أن يصل إلى صنعها، بل هي فوق قدرته.
أما المخترعات العلمية فهي مبنية على السنن العلمية، مهما ظهرت مدهشة كالكهرباء والمسرة ﴿ التليفون ﴾ وغاية ما هناك أن العلماء سخروها لأغراضهم، فالذي يتكلم في أوربا ويسمع صوته في مصر بوساطة ﴿ الراديو ﴾ إنما استطاع ذلك، لأنه قد استخدم الهواء الذي يحمل أمواج الصوت إلى العالم كله، وهكذا حال سائر المخترعات، إنما هي كشف لناموس إلهي يتكرر دائما على يد كل إنسان، لكن المعجزات تجري على طراز آخر، فهي خلق سنة جديدة في الكون، ولا تتكرر إلا بإذن الله، ولا يعرف الإنسان لها قاعدة ولا يدرك طريقا لصنعها اه كلامه رحمه الله.
﴿ كلوا واشربوا من رزق الله ﴾ أي وقلنا لهم كلوا مما رزقناكم من المن والسلوى واشربوا مما فجرنا لكم من الماء من الحجر الصلد، وقد عبر عن الحال الماضية بالأمر ليستحضر السامع صورة أولئك القوم في ذهنه مرة أخرى حتى كأنهم حاضرون الآن والخطاب موجه إليهم.
﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ أي ولا تنشروا فسادكم في الأرض وتكونوا قدوة لغيركم فيه، وقد جاء هذا النهي عقب الإنعام عليهم بطيب المأكل والمشرب خيفة أن ينشأ الفساد بزيادة التبسط فيهما، ولئلا يقابلوا النعم بالكفران.
وقد أراد موسى أن يجتث أصول الشرك التي تغلغلت جذورها في نفوس قومه، ويربأ بهم عن الذل الذي ألفته نفوسهم بتقادم العهد واستعباد المصريين إياهم، ويعودهم العزة والشمم والإباء بعبادة الله وحده.
وكانوا لا يخطون خطوة إلا اجترحوا خطيئة، وكلما عرض لهم من مشاق السفر برموا بموسى وتحسروا على فراق مصر وتمنوا الرجوع إليها، واستبطئوا وعد الله فطلبوا منه أن يجعل لهم إلها غير الله، وصنعوا عجلا وعبدوه.
وحينما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي وعدوا بها، اعتذروا بالخوف من أهلها الجبارين، كما قصه الله علينا :﴿ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها ﴾ فضرب الله عليهم التيه أربعين سنة حتى ينقرض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية، ويخرج جيل جديد يتربى على العقائد الحقة وفضائل الأخلاق، فتاهوا هذه المدة، وقضى الله أمرا كان مفعولا.
﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ٦١ ﴾.
تفسير المفردات
الصبر : حبس النفس وكفها عن الشيء، والطعام : هو المن والسلوى وجعلوهما طعاما واحدا، لأنهما طعام كل يوم، والعرب تقول لمن يجعل على مائدته كل يوم ألوانا الطعام لا تتغير : إنه يأكل من طعام واحد، والبقل : النبات الرطب مما يأكله الناس والأنعام، والمراد به هنا ما يطعمه الإنسان من أطايب الخضر كالكرفس والنعناع ونحوهما، والقثاء : ما تسميه العامة ﴿ القتة ﴾ والفوم : الحنطة، وقال جماعة منهم الكسائي إنه الثوم ويرجح هذا ذكر العدس والبصل. والاستبدال : طلب شيء بدلا من آخر، وأصل الأدنى الأقرب ثم استعمل للأخس الدون، والهبوط : الانحدار والنزول، والمصر : البلد العظيم، وضربت : أي أحاطت بهم كما تحيط القبة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم كما تطبع الطغرى على السكة، والذلة الذل والهوان، والمسكنة : الفقر، وسمي الفقير مسكينا لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، والمراد بها هنا فقر النفس وشحها، وباءوا بغضب : أي استحقوا الغضب، يعتدون : أي يتعدون حدود الله.
المعنى الجملي
ذكر هنا جرما آخر من جرائم أسلافهم التي تدل على كفرانهم بأنعم الله، وترشد إلى أنهم دأبوا على إعنات موسى، وأنهم أكثروا من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع حتى ييأس منهم ويرتد لهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة، ومع صادق وعده لهم بأن يمكن لهم الدخول في الأرض الموعودة، ويرفع عنهم الخسف الذي كانوا فيه، ومع كثرة ما شاهدوا من الآيات الدالة على صدقه، كانوا في ريب من تحقيق ما قال لهم، ويظنون أنه خدعهم حين أخرجهم من مصر وجاء بهم إلى البرية.
وقد بلغ من إعناتهم له أن قالوا :﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ وأن قالوا :﴿ لن نصبر على طعام واحد ﴾ وهم يريدون بذلك أنه لا أمل لك في بقائنا معك على هذه الحال من التزام طعام واحد، وربما لم يكن صدر منهم هذا القول عن سأم وكراهية لوحدة الطعام، بل صدر عن بطر وطلب للخلاص مما يخشون.
الإيضاح
﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ﴾ أي وإذ قال أسلافكم من قبل إعناتا لموسى وبطرا بما هم فيه، لن نصبر على أن يكون طعامنا الذي لا يتغير أبدا هو المن والسلوى.
﴿ فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ﴾ أي سل ربك لأجلنا بدعائك إياه أن يخرج لنا كذا وكذا، وإنما سألوه أن يدعو لهم، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم، وقالوا ربك ولم يقولوا ربنا لأنه اختصه بما لم يعط مثله لهم، من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة، فكأنهم قالوا ادع لنا من أحسن إليك بما لم يحسن به إلينا، فكما أحسن إليك من قبل، نرجو أن يحسن إليك بإجابة هذا الدعاء.
﴿ قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ ﴾ أي قال لهم موسى على سبيل التوبيخ والاستهجان : أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المن الذي فيه حلاوة تألفها الطباع، والسلوى الذي هو أطيب لحوم الطير، وهما غذاء كامل لذيذ وليس فيما طلبوا ما يساويهما ؟
﴿ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ﴾ أمرهم موسى أن ينزلوا من التيه ويسكنوا مصرا من الأمصار إن كانوا يريدون ما سألوه، لأن هذه الأرض التي كتب الله عليهم أن يقيموا فيها إلى أجل محدود ليس من شأنها أن تنبت هذه البقول، والله تعالى لم يقض عليهم بالبقاء فيها إلا لضعف عزائمهم وخور هممهم عن أن يغالبوا من سواهم من أهل الأمصار، فهم الذين قضوا على أنفسهم بأكل الطعام الواحد، ولا سبيل للخلاص مما كرهوا إلا بالإقدام على محاربة من يليهم من سكان الأرض الموعودة، والله كفيل بنصرهم، فليطلبوا ما فيه الفوز والفلاح لهم.
﴿ وضربت عليهم الذلة والمسكنة ﴾ أي إن الله عاقبهم على كفران تلك النعم بالذل الذي يهون على النفس قبول الضيم والاستكانة والخضوع في القول والعمل، وتظهر آثار ذلك في البدن، فالذليل يستحذى ويسكن إذا طاف بخياله يد تمتد إليه، أو قوة قاهرة تريد أن تستذله وتقهره، وترى الذل والصغار يبدو في أوضاع أعضائه وعلى ظاهر وجهه.
﴿ وباءوا بغضب من الله ﴾ أي واستحقوا غضب الله بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
﴿ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ﴾ أي إن ما حل بهم من ضروب الذلة والمسكنة واستحقاق الغضب الإلهي، كان بسبب ما استمرأته نفوسهم من الكفر بآيات الله التي آتاها موسى وهي معجزاته الباهرة التي شاهدوها، فإن إعناتهم له، وإحراجهم إياه دليل على أنه لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم لها جاحدون منكرون.
﴿ ويقتلون النبيين بغير الحق ﴾ فهم قتلوا أشعيا وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق : أي بغير شبهة عندهم تسوغ هذا القتل، فإن من يأتي الباطل قد يعتقد أنه حق لشبهة تعن له، وكتابهم يحرم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عن الأنبياء إلا بحق يوجب ذلك.
وفي قوله : بغير الحق مع أن قتل النبيين لا يكون إلا كذلك، مزيد تشنيع بهم، وتصريح بأنهم ما كانوا مخطئين في الفهم ولا متأولين للحكم، بل هم ارتكبوه عامدين مخالفين لما شرع الله لهم في دينهم.
﴿ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ أي إن كفرهم بآيات الله وجرأتهم على النبيين بالقتل، إنما كانا بسبب عصيانهم وتعديهم حدود دينهم، فإن للدين هيبة في النفس تجعل المتدين به يحذر مخالفة أمره، حتى إذا تعدى حدوده مرة ضعف ذلك السلطان الديني في نفسه، وكلما عاد إلى المخالفة كان ضعفه أشد، إلى أن تضير المخالفة طبعا وعادة وكأنه ينسى حدود الدين ورسومه، ولا يصبح للدين ذلك الأثر العميق الذي كان متغلغلا في قرارة نفسه.
﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون { ٦٢ ﴾ }.
المعنى الجملي
بعد أن أنحى باللائمة على اليهود في الآيات السالفة، وبين ما حاق بهم من الذل والمسكنة، وما نالهم من غضب الله جراء ما اجترحوه من السيئات من كفر بآيات الله، وقتل للنبيين، وعصيان لأوامر الدين، وترك لحدوده، ومخالفة لشرائعه، وذكر هنا حال المستمسكين بحبل الدين المتين من كل أمة وكل شعب ممن اهتدى بهدى نبي سابق، وانتسب إلى شريعة من الشرائع الماضية، وصدق في الإيمان بالله واليوم الآخر، وسطع على قلبه نور اليقين، وأرشد إلى أنهم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة.
الإيضاح
﴿ إن الذين آمنوا ﴾ أي إن المصدقين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من الحق من عند الله.
﴿ والذين هادوا ﴾ أي والذين دخلوا في اليهودية، يقال هاد القوم يهودون هودا وهادة : صاروا يهودا.
﴿ والنصارى ﴾ واحدهم نصران، وسموا بذلك من أجل أن مريم نزلت بعيسى في قرية يقال لها الناصرة.
﴿ والصابئين ﴾ هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء.
﴿ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ﴾ أي من تحلى منهم بالإيمان الخالص بالله والبعث والنشور وعمل صالح الأعمال.
﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وزينتها إذا عاينوا ما أعد الله لهم من نعيم مقيم عنده.
والخلاصة – إن المؤمن إذا ثبت على إيمانه ولم يبدله، واليهودي والنصراني والصابئي إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وباليوم الآخر وعملوا صالحا ولم يغيروا حتى ماتوا على ذلك، فلهم ثواب عملهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا يعتريهم حزن، فمدار الفلاح هو الإيمان الصحيح الذي له سلطان على النفوس والعمل الصالح الذي به تتم سعادتها ويكتب لها به الفوز في الدنيا والآخرة. قال الإمام الغزالي : إن الناس في شأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أصناف ثلاثة :
من لم يعلم بها بالمرة، وهذا ناج حتما.
من بلغته الدعوة على وجهها ولم ينظر في أدلتها إهمالا أو عنادا واستكبارا، وهذا مؤاخذ حتما.
صنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته ووصفه، بل سمعوا منذ الصبا أن كذابا مدلسا اسمه محمد ادعى النبوة كما سمع صبياننا أن كذابا يقال له المقفع تحدى بالنبوة كاذبا، فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإن أولئك مع أنهم لم يسمعوا اسمه لم يسمعوا ضد أوصافه، وهؤلاء سمعوا ضد أوصافه وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب اه.
﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون { ٦٣ ﴾ ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ﴿ ٦٤ ﴾ }.
تفسير المفردات
الطور : هو الجبل المعروف الذي ناجى فيه الله موسى عليه السلام، ورفعه قد فسره في سورة الأعراف فقال :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم ﴾ والنتق : الهز والزعزعة والجذب، فالنتق : في الجبل كان بما يشبه الزلزال فيه، والخسران : ذهاب رأس المال أو نقصه.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هاتين الآيتين جناية أخرى حدثت من أسلاف المخاطبين وقت التنزيل، ذاك أنه بعد أن أخذ الله عليهم المواثيق التي ذكرها بقوله :﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ﴾ الخ فقبلوها وأراهم من الآيات ما فيه مقنع لهم، رفع الجبل فوقهم كالظلة حتى ظنوا أنه واقع بهم، وطلب إليهم التمسك بالكتاب والعمل بما فيه بالجد والنشاط، كي يعدوا أنفسهم لتقوى الله ورضوانه، ثم كان منهم أن أعرضوا عن ذلك وانصرفوا عن طاعته، ولولا لطف الله بهم لاستحقوا العقاب في الدنيا وخسروا سعادة الآخرة وهي خير ثوابا وخير أملا، لكن وفقهم الله بعد ذلك فتابوا ورحمهم فقبل توبتهم.
الإيضاح
﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ﴾ أي واذكروا يا بني إسرائيل وقت أخذنا العهد على أسلافكم بالعمل بما في التوراة وقبولهم ذلك.
﴿ ورفعنا فوقكم الطور ﴾ وكانت هذه الآية بعد أخذ الميثاق لكي يأخذوا ما أوتوه من الكتاب بقوة واجتهاد، لأن رؤية ذلك مما يقوي الإيمان ويحرك الشعور والوجدان.
ثم بين الميثاق فقال :
﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ أي وقلنا لهم خذوا الكتاب وهو التوراة بجد وعزيمة، ومواظبة على العمل بما فيه.
﴿ واذكروا ما فيه ﴾ أي وادارسوه ولا تنسوا تدبر معانيه واعملوا بما فيه من الأحكام فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها، كما أثر عن علي أنه قال : يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل.
فحال التارك للشريعة المضيع لأحكامها أشبه بحال الجاحد المعاند لها، وهو جدير بأن يحشره الله يوم القيامة أعمى عن طريق الفلاح والسعادة حتى إذا لقي ربه ﴿ قال : رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ فالجاحد للشريعة والناسي لها المضيع لأحكامها، لا يكون لها أثر في نفوسهما لا ظاهرا ولا باطنا.
ومن ذلك تعلم أن الحجة قائمة على من ليس لهم حظ من القرآن إلا التغني بألفاظه وأفئدتهم هواء من عظاته، وأعمالهم لا تنطبق على ما جاء به، فما المقصد من الكتب الإلهية إلا العمل بما فيها لا تلاوتها باللسان وترتيلها بالأنغام، فإن ذلك نبذ لها، قال الغزالي : وما مثل ذلك إلا مثل ملك أرسل كتابا إلى أحد أمرائه، وأمره أن يبني له قصرا في ناحية من مملكته، فلم يكن حظ الكتاب منه إلا أن يقرأه كل يوم دون أن يبني القصر، أفلا يستحق هذا الأمير بعدئذ العقاب من الملك الذي أرسل به إليه ؟
ثم ذكر لهم فائدة ذكره فقال :
﴿ لعلكم تتقون ﴾ أي ليعد نفوسكم لتقوى الله عز وجل : ذاك أن المواظبة على العمل تطبع في النفس سجية المراقبة لله، وبها تصير تقية نقية من أدران الرذائل راضية مرضية عند ربها ﴿ والعاقبة للتقوى ﴾.
﴿ ثم توليتم من بعد ذلك ﴾
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هاتين الآيتين جناية أخرى حدثت من أسلاف المخاطبين وقت التنزيل، ذاك أنه بعد أن أخذ الله عليهم المواثيق التي ذكرها بقوله :﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ﴾ الخ فقبلوها وأراهم من الآيات ما فيه مقنع لهم، رفع الجبل فوقهم كالظلة حتى ظنوا أنه واقع بهم، وطلب إليهم التمسك بالكتاب والعمل بما فيه بالجد والنشاط، كي يعدوا أنفسهم لتقوى الله ورضوانه، ثم كان منهم أن أعرضوا عن ذلك وانصرفوا عن طاعته، ولولا لطف الله بهم لاستحقوا العقاب في الدنيا وخسروا سعادة الآخرة وهي خير ثوابا وخير أملا، لكن وفقهم الله بعد ذلك فتابوا ورحمهم فقبل توبتهم.
الإيضاح :
أي ثم أعرضتم وانصرفتم عن الطاعة بعد أن أخذ عليكم الميثاق وأراكم من الآيات ما فيه عبرة لمن ادكر.
﴿ فلولا فضل الله عليكم ورحمته، لكنتم من الخاسرين ﴾ أي فلولا لطف الله بكم وإمهاله إياكم إذ لم يعاملكم بما تستحقون، لكنتم من الهالكين بالانهماك في المعاصي.
والخلاصة – إنكم بتوليكم استحققتم العقاب، ولكن فضل الله عليكم ورحمته أبعده عنكم، ولولا ذلك لخسرتم سعادتي الدنيا والآخرة.
﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين { ٦٥ ﴾ فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ﴿ ٦٦ ﴾ }.
تفسير المفردات
الاعتداء : تجاوز الحد في كل شيء، وواحد القردة قرد، وواحد الخاسئين خاسئ وهو المبعد المطرود من رحمة الله.
المعنى الجملي
في هاتين الآيتين وما يتلوهما بعد – تعداد لنكث العهود والمواثيق التي أخذت على بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام، وحل بهم جزاء ما عملوا من مسخهم قردة وخنازير فأجدر بسلائلهم الذين كانوا في عصر التنزيل تتخلل دورهم دور الأنصار ألا يجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وألا يصروا على كفرهم وعدم التصديق بما جاء به، خوفا من أن يحل بهم ما حل بأسلافهم مما لا قبل لهم به من غضب الله.
فمن عهودهم التي نكثوها أنهم اعتدوا يوم السبت، ذاك أن موسى عليه السلام حظر عليهم العمل في هذا اليوم، وفرض عليهم فيه طاعة ربهم والاجتهاد في الأعمال الدينية، إحياء لسلطان الدين في نفوسهم، وإضعافا لشرههم في التكالب على جمع حطام الدنيا وادخاره، وأباح العمل في ستة الأيام الأخرى.
لكنهم عصوا أمره، وتجاوزوا حدود الدين، واعتدوا في السبت، فجازاهم الله بأشد أنواع الجزاء، فخرج بهم من محيط النوع الإنساني وأنزلهم أسفل الدركات، فجعلهم يرتعون في مراتع البهائم، وليتهم كانوا في خيارها، بل جعلهم في أخس أنواعها، فهم كالقردة في نزواتها، والخنازير في شهواتها، مبعدين من الفضائل الإنسانية، يأتون المنكرات جهارا عيانا بلا خجل ولا حياء، حتى احتقرهم كرام الناس، ولم يروهم أهلا لمعاشرة ولا معاملة.
الإيضاح
﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ﴾ أي ولقد عرفتم نبأ الذين تجاوزوا منكم الحد الذي رسمه لهم الكتاب، وركبوا ما نهاهم عنه من ترك العمل الدنيوي، والتفرغ للعمل الأخروي يوم السبت، وسيأتي إيضاح هذا في سورة الأعراف.
﴿ فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ أي فصيرناهم مبعدين عن الخير أذلاء صاغرين، روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، فلا تقبل وعظا، ولا تعي زجرا.
وقد مثل الله حالهم بحال القردة كما مثلوا بالحمار في قوله :﴿ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها[ { لم يعملوا بما فيها ] كمثل الحمار يحمل أسفارا ﴾.
وذهب جمهور العلماء إلى أنهم مسخت صورهم فصارت القردة، وروى أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
ونظير الآية قوله تعالى :﴿ وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ﴾ الطاغوت : الشيطان.
قال الأستاذ الإمام : والآية ليست نصا في رأي الجمهور ولم يبق إلا النقل، ولو صح ما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة، لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سنته في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله في الذين خلوا من قبل – أن من يفسق عن أمره ويتنكب الصراط الذي شرعه له ينزله عن مرتبة الإنسان ويلحقه بعجماوات الحيوان، وسنة الله واحدة، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية اه.
وفي هذا تأييد لرأي مجاهد وتفضيل له على رأي الجمهور.
قال ابن كثير : والصحيح أن المسخ معنوي كما قال مجاهد لا صوري كما قال غيره.
﴿ فجعلناها نكالا لمن بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ﴾
تفسير المفردات :
والنكال ما يفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر غيره، والموعظة : ما يلقى من الكلام لاستشعار الخوف من الله بذكر ثوابه وعقابه.
المعنى الجملي
في هاتين الآيتين وما يتلوهما بعد – تعداد لنكث العهود والمواثيق التي أخذت على بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام، وحل بهم جزاء ما عملوا من مسخهم قردة وخنازير فأجدر بسلائلهم الذين كانوا في عصر التنزيل تتخلل دورهم دور الأنصار ألا يجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وألا يصروا على كفرهم وعدم التصديق بما جاء به، خوفا من أن يحل بهم ما حل بأسلافهم مما لا قبل لهم به من غضب الله.
فمن عهودهم التي نكثوها أنهم اعتدوا يوم السبت، ذاك أن موسى عليه السلام حظر عليهم العمل في هذا اليوم، وفرض عليهم فيه طاعة ربهم والاجتهاد في الأعمال الدينية، إحياء لسلطان الدين في نفوسهم، وإضعافا لشرههم في التكالب على جمع حطام الدنيا وادخاره، وأباح العمل في ستة الأيام الأخرى.
لكنهم عصوا أمره، وتجاوزوا حدود الدين، واعتدوا في السبت، فجازاهم الله بأشد أنواع الجزاء، فخرج بهم من محيط النوع الإنساني وأنزلهم أسفل الدركات، فجعلهم يرتعون في مراتع البهائم، وليتهم كانوا في خيارها، بل جعلهم في أخس أنواعها، فهم كالقردة في نزواتها، والخنازير في شهواتها، مبعدين من الفضائل الإنسانية، يأتون المنكرات جهارا عيانا بلا خجل ولا حياء، حتى احتقرهم كرام الناس، ولم يروهم أهلا لمعاشرة ولا معاملة.
الإيضاح :
أي فجعلنا هذه العقوبة عبرة ينكل من يعلم بها أي يمتنع من الاعتداء على حدود الله، سواء منهم من وقعت في زمانه أو من بعدهم إلى يوم القيامة.
وهي أيضا موعظة للمتقين، لأن المتقي يتعظ بها ويتباعد عن الحدود التي يخشى اعتداءها كما قال :﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها ﴾ فيتعظ بها غيره أيضا، ولن يتم الاتعاظ بها وتكون عقوبة للمتقدم والمتأخر إلا إذا جرت على سنن الله المطردة في تهذيب النفوس وتربية الشعوب، فرأي مجاهد بالقبول ولا سيما أنه ليس في الآية نص على كون المسخ في الصور والأجساد.
﴿ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزؤا ؟ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين { ٦٧ ﴾ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟، قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون ﴿ ٦٨ ﴾ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ﴿ ٦٩ ﴾ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟، إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ﴿ ٧٠ ﴾ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها، قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون ﴿ ٧١ ﴾ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها، والله مخرج ما كنتم تكتمون ﴿ ٧٢ ﴾ فقلنا اضربوه ببعضها، كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ﴿ ٧٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
البقرة : اسم الأنثى، والثور : اسم الذكر، والهزؤ : السخرية، والجهل : هنا فعل ما لا ينبغي أن يفعل، وقد يطلق على اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه.
المعنى الجملي
في هذا القصص بيان نوع آخر من مساويهم لنعتبر به ونتعظ، وفيه من وجوه العبرة :
أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال مما يقضي التشديد في الإحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ وبما جاء في صحيح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم :( وكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ).
أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من حب عبادته.
استهزاؤهم بأوامر الأنبياء.
أن يحيا القتيل بقتل حي فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها.
وأول القصة معنى قوله :﴿ وإذ قتلتم نفسا ﴾ الخ إذ هي المخالفة التي صدرت منهم : ثم ذكر المنة في الخلاص منها في قوله :﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك وسيلة الخلاص منها وهي ذبح البقرة.
وهذا الأسلوب أدعى لتشويق السامع وأبعث له على البحث عن معرفة السبب في ذبح البقرة والمفاجأة بحكاية ما كان من الجدل بين موسى وقومه، فإن الحكمة في أمر الله أمة بأن تذبح بقرة قد تخفى فيحرص السامع على طلبها.
والكتاب الكريم لا يراعي ترتيب المؤرخين في تنسيق الكلام بحسب الوقائع، وإنما ينسق الكلام على الطريق الذي يستثير اللب، ويأخذ بمجامع القلب، ويستوحي شغف السامع بما يدور حوله الحديث
الإيضاح
﴿ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ روى في سبب الذبح أنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر قتله بنو عمه طمعا في ميراثه، وحملوه إلى قرية أخرى وألقوه بفنائها، ثم جاءوا يطالبون بديته وادعوا على ناس منهم أنهم قتلوه، فسألهم موسى فجحدوا فاشتبه الأمر، فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ما خفي من أمر القاتل، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها فيحيا ويخبر بقاتله.
﴿ قالوا أتتخذنا هزؤا ؟ ﴾ أي قالوا : أتجعلنا موضع سخرية وتهزأ بنا ؟ نسألك عن أمر القتيل فتأمرنا بذبح بقرة، وهذا غاية في الغرابة، وبعيد كل البعد عما نريد، وقد كان الواجب عليهم أن يمتثلوا أمره ويقابلوه بالتجلة والاحترام، ثم ينتظروا ما يحدث بعد، فهذا القول منهم دليل على السفه وخفة الأحلام، وجفاء الطبع والجهل بقدرة الله تعالى.
﴿ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ﴾ أي ألتجئ إلى الله من الهزؤ والسخرية بالناس، إذ هو في مقام تبليغ أحكام الله دليل السفه والجهل.
﴿ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ﴾
تفسير المفردات :
البقرة : اسم الأنثى، والثور : اسم الذكر.
والفارض : المسنة التي انقطعت ولادتها، والبكر : الصغيرة التي لم تحمل بعد، والعوان : النصف في السن من النساء والبهائم.
المعنى الجملي
في هذا القصص بيان نوع آخر من مساويهم لنعتبر به ونتعظ، وفيه من وجوه العبرة :
أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال مما يقضي التشديد في الإحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ وبما جاء في صحيح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم :( وكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ).
أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من حب عبادته.
استهزاؤهم بأوامر الأنبياء.
أن يحيا القتيل بقتل حي فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها.
وأول القصة معنى قوله :﴿ وإذ قتلتم نفسا ﴾ الخ إذ هي المخالفة التي صدرت منهم : ثم ذكر المنة في الخلاص منها في قوله :﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك وسيلة الخلاص منها وهي ذبح البقرة.
وهذا الأسلوب أدعى لتشويق السامع وأبعث له على البحث عن معرفة السبب في ذبح البقرة والمفاجأة بحكاية ما كان من الجدل بين موسى وقومه، فإن الحكمة في أمر الله أمة بأن تذبح بقرة قد تخفى فيحرص السامع على طلبها.
والكتاب الكريم لا يراعي ترتيب المؤرخين في تنسيق الكلام بحسب الوقائع، وإنما ينسق الكلام على الطريق الذي يستثير اللب، ويأخذ بمجامع القلب، ويستوحي شغف السامع بما يدور حوله الحديث
الإيضاح :
أي سله لأجلنا أن يكشف لنا عن الصفات المميزة لها، وقد سألوا عن صفتها لما قرع أسماعهم بما لم يعهدوه، فإن بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا موضع العجب والغرابة والحيرة والدهشة، ومن ثم أكثروا من الأسئلة فأجيبوا بأجوبة فيها تغليظ عليهم.
﴿ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ﴾ أي ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة، بل هي وسط بينهما.
﴿ فافعلوا ما تؤمرون ﴾ أي فامتثلوا الأمر ولا تتوانوا في نفاذه، ولا يخفى ما في هذا من التحذير والتنبيه على ترك التعنت، وكان يجب عليهم الاكتفاء به والمبادرة إلى الامتثال، لكنهم أبوا إلا تنطعا واستقصاء فأعادوا الطلب.
﴿ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ﴾
تفسير المفردات :
البقرة : اسم الأنثى، والثور : اسم الذكر.
المعنى الجملي
في هذا القصص بيان نوع آخر من مساويهم لنعتبر به ونتعظ، وفيه من وجوه العبرة :
أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال مما يقضي التشديد في الإحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ وبما جاء في صحيح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم :( وكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ).
أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من حب عبادته.
استهزاؤهم بأوامر الأنبياء.
أن يحيا القتيل بقتل حي فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها.
وأول القصة معنى قوله :﴿ وإذ قتلتم نفسا ﴾ الخ إذ هي المخالفة التي صدرت منهم : ثم ذكر المنة في الخلاص منها في قوله :﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك وسيلة الخلاص منها وهي ذبح البقرة.
وهذا الأسلوب أدعى لتشويق السامع وأبعث له على البحث عن معرفة السبب في ذبح البقرة والمفاجأة بحكاية ما كان من الجدل بين موسى وقومه، فإن الحكمة في أمر الله أمة بأن تذبح بقرة قد تخفى فيحرص السامع على طلبها.
والكتاب الكريم لا يراعي ترتيب المؤرخين في تنسيق الكلام بحسب الوقائع، وإنما ينسق الكلام على الطريق الذي يستثير اللب، ويأخذ بمجامع القلب، ويستوحي شغف السامع بما يدور حوله الحديث
الإيضاح
سألوا عن لونها فأجيبوا بما فيه الكفاية في بيان مميزاتها، لكنهم ما قنعوا بهذا، بل زادوا في الإلحاف وإعادة السؤال مرة أخرى.
هذا سؤال لطلب إيضاح زيادة على ما تقدم ككونها عاملة أو سائمة، وإظهار، لأنه لم يحصل لهم تمام البيان.
المعنى الجملي
في هذا القصص بيان نوع آخر من مساويهم لنعتبر به ونتعظ، وفيه من وجوه العبرة :
أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال مما يقضي التشديد في الإحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ وبما جاء في صحيح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم :( وكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ).
أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من حب عبادته.
استهزاؤهم بأوامر الأنبياء.
أن يحيا القتيل بقتل حي فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها.
وأول القصة معنى قوله :﴿ وإذ قتلتم نفسا ﴾ الخ إذ هي المخالفة التي صدرت منهم : ثم ذكر المنة في الخلاص منها في قوله :﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك وسيلة الخلاص منها وهي ذبح البقرة.
وهذا الأسلوب أدعى لتشويق السامع وأبعث له على البحث عن معرفة السبب في ذبح البقرة والمفاجأة بحكاية ما كان من الجدل بين موسى وقومه، فإن الحكمة في أمر الله أمة بأن تذبح بقرة قد تخفى فيحرص السامع على طلبها.
والكتاب الكريم لا يراعي ترتيب المؤرخين في تنسيق الكلام بحسب الوقائع، وإنما ينسق الكلام على الطريق الذي يستثير اللب، ويأخذ بمجامع القلب، ويستوحي شغف السامع بما يدور حوله الحديث
الإيضاح :
ثم ذكروا السبب في إعادة السؤال.
﴿ إن البقر تشابه علينا ﴾ أي لأن وجوه البقر تتشابه، وفي الحديث إنه ذكر فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر – أي يشبه بعضها بعضا.
﴿ وإنا إن شاء الله لمهتدون ﴾ إلى البقرة المأمور بذبحها، أو لما خفي من أمر القاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( لو لم يستثنوا ويقولوا إن شاء الله لما تبينت لهم آخر الأبد ).
﴿ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها ﴾
تفسير المفردات :
والذلول : الريض الذي زالت صعوبته، يقال دابة ذلول : بينة الذل ﴿ بالكسر ﴾ ورجل ذلول بين الذل ﴿ بالضم ﴾ والإثارة : قلب الأرض للزراعة، والحرث : الأرض المهيأة للزرع، والمسلمة : التي سلمت من العيوب، والشية : العلامة أي لا لون فيها يخالف لونها، من وشى الثوب يشيه إذا زينه بخطوط مختلفة الألوان.
المعنى الجملي
في هذا القصص بيان نوع آخر من مساويهم لنعتبر به ونتعظ، وفيه من وجوه العبرة :
أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال مما يقضي التشديد في الإحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ وبما جاء في صحيح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم :( وكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ).
أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من حب عبادته.
استهزاؤهم بأوامر الأنبياء.
أن يحيا القتيل بقتل حي فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها.
وأول القصة معنى قوله :﴿ وإذ قتلتم نفسا ﴾ الخ إذ هي المخالفة التي صدرت منهم : ثم ذكر المنة في الخلاص منها في قوله :﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك وسيلة الخلاص منها وهي ذبح البقرة.
وهذا الأسلوب أدعى لتشويق السامع وأبعث له على البحث عن معرفة السبب في ذبح البقرة والمفاجأة بحكاية ما كان من الجدل بين موسى وقومه، فإن الحكمة في أمر الله أمة بأن تذبح بقرة قد تخفى فيحرص السامع على طلبها.
والكتاب الكريم لا يراعي ترتيب المؤرخين في تنسيق الكلام بحسب الوقائع، وإنما ينسق الكلام على الطريق الذي يستثير اللب، ويأخذ بمجامع القلب، ويستوحي شغف السامع بما يدور حوله الحديث
الإيضاح :
أي إنها بقرة لم تذلل بالعمل في الحراثة والسقي، وهي سالمة من العيوب، ولا لون فيها غير الصفرة الفاقعة.
﴿ قالوا الآن جئت بالحق ﴾ أي إنك الآن أظهرت حقيقة ما أمرنا به بعد ذكر هذه المميزات التي ذكرتها لنا.
﴿ فذبحوها ﴾ أي فطلبوا البقرة الحاوية لكل الأوصاف السالفة، حتى وجدوها فذبحوها.
﴿ وما كادوا يفعلون ﴾ وما قاربوا أن يذبحوها إلا بعد أن انتهت أسئلتهم، وانقطع ما كان من تنطعهم وتعنتهم.
والخلاصة – فذبحوها بعد توقف وبطء، روى ابن جرير عن ابن عباس :( لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ).
﴿ وإذ قتلتم نفسا ﴾
تفسير المفردات :
ادارأتم : أي تدارأتم من الدرء وهو الدفع، ويقال علقت نفسي عن كذا : أي منعتها منه.
المعنى الجملي
في هذا القصص بيان نوع آخر من مساويهم لنعتبر به ونتعظ، وفيه من وجوه العبرة :
أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال مما يقضي التشديد في الإحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ وبما جاء في صحيح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم :( وكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ).
أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من حب عبادته.
استهزاؤهم بأوامر الأنبياء.
أن يحيا القتيل بقتل حي فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها.
وأول القصة معنى قوله :﴿ وإذ قتلتم نفسا ﴾ الخ إذ هي المخالفة التي صدرت منهم : ثم ذكر المنة في الخلاص منها في قوله :﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك وسيلة الخلاص منها وهي ذبح البقرة.
وهذا الأسلوب أدعى لتشويق السامع وأبعث له على البحث عن معرفة السبب في ذبح البقرة والمفاجأة بحكاية ما كان من الجدل بين موسى وقومه، فإن الحكمة في أمر الله أمة بأن تذبح بقرة قد تخفى فيحرص السامع على طلبها.
والكتاب الكريم لا يراعي ترتيب المؤرخين في تنسيق الكلام بحسب الوقائع، وإنما ينسق الكلام على الطريق الذي يستثير اللب، ويأخذ بمجامع القلب، ويستوحي شغف السامع بما يدور حوله الحديث
الإيضاح :
هذا مؤخر لفظا مقدم معنى، لأنه أول القصة – أي وإذ قتلتم نفسا وأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو الله تعالى، فقال موسى إن الله يأمركم إلى آخر الآيات ولم يقدم لفظا، لأن الغرض إنما هو ذبح البقرة للكشف عن القاتل، وأسند القتل إلى اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم سلائل أولئك، وهم راضون بفعلهم، أسنده إلى الأمة والقاتل واحد، لأن الأمة في مجموعها كالشخص الواحد، فيؤخذ المجموع بجريرة الواحد كما قال أبو الطيب :
وجرم جره سفهاء قوم فحل بغير جارمه العقاب
﴿ فادارأتم فيها ﴾ أي تدافعتم وتخاصمتم في شأنها، وكل واحد يدرأ عن نفسه، ويدعي البراءة ويتهم سواه.
﴿ والله مخرج ما كنتم تكتمون ﴾ أي والله مظهر لا محالة ما كتمتم وسترتم من أمر القتل، فمن كان يعرف أمره يكتمه لهوى في نفسه وأغراض تبعد عنه الضغن والعداوة.
﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾
تفسير المفردات :
والآيات : هي الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور الغريبة.
المعنى الجملي
في هذا القصص بيان نوع آخر من مساويهم لنعتبر به ونتعظ، وفيه من وجوه العبرة :
أن التنطع في الدين والإلحاف في السؤال مما يقضي التشديد في الإحكام، ومن ثم نهينا عن ذلك بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ وبما جاء في صحيح الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم :( وكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ).
أنهم أمروا بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليهون عندهم ما كانوا يرون من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من حب عبادته.
استهزاؤهم بأوامر الأنبياء.
أن يحيا القتيل بقتل حي فيكون أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها.
وأول القصة معنى قوله :﴿ وإذ قتلتم نفسا ﴾ الخ إذ هي المخالفة التي صدرت منهم : ثم ذكر المنة في الخلاص منها في قوله :﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك وسيلة الخلاص منها وهي ذبح البقرة.
وهذا الأسلوب أدعى لتشويق السامع وأبعث له على البحث عن معرفة السبب في ذبح البقرة والمفاجأة بحكاية ما كان من الجدل بين موسى وقومه، فإن الحكمة في أمر الله أمة بأن تذبح بقرة قد تخفى فيحرص السامع على طلبها.
والكتاب الكريم لا يراعي ترتيب المؤرخين في تنسيق الكلام بحسب الوقائع، وإنما ينسق الكلام على الطريق الذي يستثير اللب، ويأخذ بمجامع القلب، ويستوحي شغف السامع بما يدور حوله الحديث
الإيضاح :
أي اضربوا المقتول ببعض البقرة، أي بعض كان، وقيل بلسانها، وقيل بفخذها.
﴿ كذلك يحيي الله الموتى ﴾ أي فضربوه فحيي، وقلنا : كذلك يحيي الله الموتى، أي مثل ذلك الإحياء العجيب يحيي الله الموتى يوم القيامة، وقد روى أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما، وقال قتلني فلان وفلان وهما ابنا عمه، ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا.
وإنما أمرهم بالضرب ولم يضرب بنفسه نفيا للتهمة، كيلا ينسب إلى السحر والشعوذة.
﴿ ويريكم آياته ﴾ وهي الإحياء وما اشتمل عليه من الأمور البديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت، وإخبار الميت بقاتله، مما ترتب عليه الفصل في الخصومة وإزالة أسباب الفتن والعداوة.
﴿ لعلكم تعقلون ﴾ أي لعلكم تفقهون أسرار الشريعة وفائدة الخضوع لها، وتمنعون أنفسكم من إتباع أهوائها، وتطيعون الله فيما يأمركم به.
﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافل عما تعملون { ٧٤ ﴾ }.
تفسير المفردات
القسوة : اليبس والصلابة، يتفجر : ينتفخ ويتشقق بكثرة وسعة، ويهبط : يتردى وينزل، والخشية : الخوف.
المعنى الجملي
وصف الله حال بني إسرائيل بعد أن رأوا من آياته التي آتاها موسى عليه السلام ما رأوا، كانفجار الماء ورفع الجبل، ومسخهم قردة وخنازير، وإحياء القتيل إلى نحو ذلك – وصفهم بقساوة القلوب، وضعف الوازع الديني فيها، حتى أصبحت كالصم الصلاد، بل أشد منها قسوة، فلا أثر فيها لعاطفة عبرة، ولا شعور لها بعظة، فقد فقدت التأثر والانفعال، وكأن أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى دركات الجماد كالحجارة، بل نزلوا إلى ما دونها، فإن من الحجارة ما يتأثر فيشقه الماء العذب الزلال الذي يسيل أنهارا وجداول وعيونا يستقي منها الإنسان والحيوان، ويحيي الأرض، وينفع النبات، ومنها ما ينحط من أعلى الجبل، أو من أثنائه بحادث من حوادث الكون الهائلة كالبراكين والزلازل والصواعق التي تدك الصخور وتدمر الحصون.
أما هذه القلوب فلم تتأثر بالعظات والعبر، ولم تستطع تلك النذر أن تشقها وتنفذ إلى أعماق الوجدان فيها، وصارت لا تهزها الآيات الكونية والرهيبة التي أظهرها الله على يد نبيه، فقد كانوا مع كل ما يرونه لا يزدادون إلا عنادا، وعتوا في الأرض وفسادا.
الإيضاح
﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ﴾ أي إن قلوبكم صلبت بعد إذ رأيتم الحق وعرفتموه، واستكبرت عن الخضوع والإذعان لأمر الدين، فهي كالحجارة صلابة ويبسا، بل أشد منها.
والسر في تشبيه القلوب بالحجارة د ون غيرها من نحو الحديد والصفر، أن كلا منهما يسيل بالإحماء بالنار بخلاف الحجر.
﴿ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله ﴾ أي إن هذه الحجارة تارة تتأثر تأثرا يعود بمنفعة للناس، وقلوب هؤلاء لا تتأثر بحال، فلا تجدي فيها الحكم والمواعظ التي من شأنها أن تنفذ في الوجدان وتصل إلى الجنان.
﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ أي إن الله لكم بالمرصاد، فهو حافظ لأعمالكم ومحصيها عليكم ثم يجازيكم بها، وهو يربيكم بصنوف النقم إذا لم تجد فيكم ضروب النعم، ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.
﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون { ٧٥ ﴾ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم، أفلا تعقلون ﴿ ٧٦ ﴾ أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴿ ٧٧ ﴾ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ﴿ ٧٨ ﴾ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ﴿ ٧٩ ﴾ }.
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه، فهم يشركونهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدق لما معهم.
فقص الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى صلوات الله عليه بين آن وآخر من تمرد وعناد، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تلو الآية، ويحل بهم من العقاب ما هم له أهل، فيطلبون من موسى أن يدعو الله ليرفع عنهم العذاب، ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له : لا نصدق بك ولا نطيع أوامرك، حتى نسمع كلام الله ومناجاته ربه إياك. فاختار موسى بأمر الله سبعين رجلا منهم لسماع الوحي، ومصاحبته إلى حيث يناجي ربه، فسمعوا كلامه بطريق نحن لا نعرفها ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربه وسمعوا أوامره ونواهيه – ثم كان منهم أن حرفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبت عندهم في التوراة، وهي كتابهم المقدس.
فلا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئت به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدي موسى عليه السلام، فأحرى بهم أن يجحدوا دينا دلائله عقلية وآيته الكبرى معنوية، وهي القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس، وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عن محاكاته، لجأوا إلى السيف والسنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان، ثم ذكر حالا أخرى لهم هي أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيئ الدين الجديد، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقل أنصاره، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب تخلو به، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين ريح السفينة.
أما عامتهم فلا علم لهم بشيء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمى علما، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان
الإيضاح
﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه وهم يعلمون ﴾ الطمع تعلق النفس بإدراك ما تحب تعلقا قويا، وهو أشد من الرجاء، أن يؤمنوا لكم، أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم إياهم، والفريق الجماعة لا واحد له من لفظه، من بعد ما عقلوه : أي ضبطوه وفهموه ولم تشتبه عليهم صحته، وفي ذلك إيماء إلى تعمدهم وسوء قصدهم، وإبطال لما عساه أن يعتذر لهم به من سوء الفهم، وقوله : وهم يعلمون، أي وكانوا في حال العلم بالصواب لا ناسين ولا ذاهلين، وفي هذين الوصفين نعي عليهم وتسجيل لتعمق الفسوق والعصيان فيهم.
وخلاصة المعنى – استبعاد الطمع في إيمان هؤلاء، فقد كان لهم سلف من الأحبار والرؤساء على تلك الحال الشنيعة من تحريف لكلام الله بعد سماعه وتأويله بحسب ما يشاءون، وليس هؤلاء بأحسن حال من أولئك.
﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ﴾
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه، فهم يشركونهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدق لما معهم.
فقص الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى صلوات الله عليه بين آن وآخر من تمرد وعناد، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تلو الآية، ويحل بهم من العقاب ما هم له أهل، فيطلبون من موسى أن يدعو الله ليرفع عنهم العذاب، ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له : لا نصدق بك ولا نطيع أوامرك، حتى نسمع كلام الله ومناجاته ربه إياك. فاختار موسى بأمر الله سبعين رجلا منهم لسماع الوحي، ومصاحبته إلى حيث يناجي ربه، فسمعوا كلامه بطريق نحن لا نعرفها ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربه وسمعوا أوامره ونواهيه – ثم كان منهم أن حرفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبت عندهم في التوراة، وهي كتابهم المقدس.
فلا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئت به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدي موسى عليه السلام، فأحرى بهم أن يجحدوا دينا دلائله عقلية وآيته الكبرى معنوية، وهي القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس، وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عن محاكاته، لجأوا إلى السيف والسنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان، ثم ذكر حالا أخرى لهم هي أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيئ الدين الجديد، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقل أنصاره، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب تخلو به، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين ريح السفينة.
أما عامتهم فلا علم لهم بشيء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمى علما، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان
الإيضاح :
أي وإذا لقي اليهود أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال المنافقون منهم : إنا آمنا كإيمانكم وإن محمدا هو الرسول المبشر به.
﴿ وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ ﴾ قوله : فتح الله عليكم، أي بينه لكم خاصة في التوراة من الأحكام والبشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتعبير عنه بالفتح للإشارة إلى أنه سر مكتوم وباب مغلق لا يقف عليه أحد، وقوله :
﴿ ليحاجوكم به ﴾ أي ليحتجوا عليكم به فيقطعوكم بالحجة ويبكتوكم وقوله :﴿ عند ربكم ﴾ أي في حكمه وكتابه، وقوله :﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي أفلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش وأن ذلك يكون حجة عليكم.
أي إذا اجتمع بعض ممن لم ينافق إلى بعض ممن نافق، قال الأولون عاتبين على الآخرين من المنافقين وعاذلين لهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما بينت لهم التوراة من الإيمان بالنبي الذي يجئ مصدقا لما معهم كي يقيموا عليهم الحجة من كتاب ربهم، من قبل أن ما حدثوا به موافق لما في القرآن، ولولا أن محمدا نبي لما علم بهذا الذي حكاه عنهم.
﴿ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه، فهم يشركونهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدق لما معهم.
فقص الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى صلوات الله عليه بين آن وآخر من تمرد وعناد، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تلو الآية، ويحل بهم من العقاب ما هم له أهل، فيطلبون من موسى أن يدعو الله ليرفع عنهم العذاب، ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له : لا نصدق بك ولا نطيع أوامرك، حتى نسمع كلام الله ومناجاته ربه إياك. فاختار موسى بأمر الله سبعين رجلا منهم لسماع الوحي، ومصاحبته إلى حيث يناجي ربه، فسمعوا كلامه بطريق نحن لا نعرفها ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربه وسمعوا أوامره ونواهيه – ثم كان منهم أن حرفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبت عندهم في التوراة، وهي كتابهم المقدس.
فلا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئت به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدي موسى عليه السلام، فأحرى بهم أن يجحدوا دينا دلائله عقلية وآيته الكبرى معنوية، وهي القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس، وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عن محاكاته، لجأوا إلى السيف والسنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان، ثم ذكر حالا أخرى لهم هي أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيئ الدين الجديد، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقل أنصاره، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب تخلو به، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين ريح السفينة.
أما عامتهم فلا علم لهم بشيء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمى علما، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان
الإيضاح :
أي أيقول اللائمون ما قالوا، ويكتمون من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ما كتموا، ويحرفون من كتابهم ما حرفوا ؟ ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد، وما يعلنون من إظهار إيمان وود، فإن كانوا يؤمنون بأن الله محيط بكل شيء علما فلم لا يخشون بأسه، وهو المطلع على الظاهر، والعالم بما يجول في الضمائر، والمجازي على ذلك بالخزي في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة ؟
﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ﴾
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه، فهم يشركونهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدق لما معهم.
فقص الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى صلوات الله عليه بين آن وآخر من تمرد وعناد، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تلو الآية، ويحل بهم من العقاب ما هم له أهل، فيطلبون من موسى أن يدعو الله ليرفع عنهم العذاب، ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له : لا نصدق بك ولا نطيع أوامرك، حتى نسمع كلام الله ومناجاته ربه إياك. فاختار موسى بأمر الله سبعين رجلا منهم لسماع الوحي، ومصاحبته إلى حيث يناجي ربه، فسمعوا كلامه بطريق نحن لا نعرفها ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربه وسمعوا أوامره ونواهيه – ثم كان منهم أن حرفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبت عندهم في التوراة، وهي كتابهم المقدس.
فلا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئت به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدي موسى عليه السلام، فأحرى بهم أن يجحدوا دينا دلائله عقلية وآيته الكبرى معنوية، وهي القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس، وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عن محاكاته، لجأوا إلى السيف والسنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان، ثم ذكر حالا أخرى لهم هي أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيئ الدين الجديد، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقل أنصاره، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب تخلو به، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين ريح السفينة.
أما عامتهم فلا علم لهم بشيء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمى علما، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان
الإيضاح :
الأميون واحدهم أمي، وهم من لا يقرأ ولا يكتب، أي إنه يكون كما ولدته أمه، ومنه الحديث :( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب )، والأماني : واحدها أمنية وهي التلاوة كما قال كعب ابن زهير :
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخره لاقى حمام المقادر
أي إنه لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الألفاظ من غير فهم للمعنى ولا تدبر له بحيث يظهر أثرها في العمل، وهذا على حد قوله :﴿ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ﴾.
﴿ وإن هم إلا يظنون ﴾ أي وما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم المبني على البرهان القاطع الذي لا شك فيه.
وقد كانوا أكثر الناس جدلا ومراء في الحق وإن كان بينا ظاهرا، وأشدهم كذبا وغرورا وأكلا لأموال غيرهم بالباطل من ربا فاحش وغش وتدليس، وهم مع ذلك يعتقدون أنهم أفضل كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان.
﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ﴾
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شديدي الحرص على دخول اليهود في ساحة الدين الجديد، طامعين في انضوائهم تحت لوائه، لأن دينهم أقرب الأديان إلى دينهم في تعاليمه ومبادئه وأغراضه، فهم يشركونهم في الاعتقاد بالتوحيد والتصديق بالبعث والنشور، وكتابهم مصدق لما معهم.
فقص الله في هذه الآيات على المؤمنين من أنبائهم ما أزال به أطماعهم، وأيأسهم من إيمانهم بذكر ما كان يحدث من أسلافهم مع نبيهم موسى صلوات الله عليه بين آن وآخر من تمرد وعناد، وجحود وإنكار، فتأتيهم الآية تلو الآية، ويحل بهم من العقاب ما هم له أهل، فيطلبون من موسى أن يدعو الله ليرفع عنهم العذاب، ويستجيبوا لدعوته، حتى إذا ما رفعه عنهم عادوا سيرتهم الأولى معاندين جاحدين، وقد بلغ من عنادهم أن قالوا له : لا نصدق بك ولا نطيع أوامرك، حتى نسمع كلام الله ومناجاته ربه إياك. فاختار موسى بأمر الله سبعين رجلا منهم لسماع الوحي، ومصاحبته إلى حيث يناجي ربه، فسمعوا كلامه بطريق نحن لا نعرفها ولا ندرك كنهها، واستيقنوا مناجاته ربه وسمعوا أوامره ونواهيه – ثم كان منهم أن حرفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وصرفوه عن وجهه بالتأويل والتحريف، وهذا مثبت عندهم في التوراة، وهي كتابهم المقدس.
فلا عجب إذا في إعراض الحاضرين عن هدى الله الذي جئت به، فالمعارضة والاستكبار دأبهم ورثوهما من أسلافهم الذين كانوا يحرفون ويبدلون ويكابرون وهم يشاهدون الدلائل الحسية تترى بين يدي موسى عليه السلام، فأحرى بهم أن يجحدوا دينا دلائله عقلية وآيته الكبرى معنوية، وهي القرآن الكريم بما اشتمل عليه من تشريع فيه سهولة وتيسير للناس، وفيه فصاحة أعجزت فصحاء العرب عن محاكاته، لجأوا إلى السيف والسنان بعد أن أعجزتهم الحجة والبرهان، ثم ذكر حالا أخرى لهم هي أن علماءهم وقعوا في الحيرة والاضطراب حين مجيئ الدين الجديد، أيتبعونه ولكن ربما خذله أتباعه، أم يحتفظون بالقديم ولكن ربما كسدت سوقه وقل أنصاره، وقالوا من الخير كل الخير أن نوافق كل حزب تخلو به، ونعتذر إلى الحزب الآخر إذا عرف ما كان منا حتى يتبين ريح السفينة.
أما عامتهم فلا علم لهم بشيء من الكتاب، وما عندهم من الدين إلا ظنون أخذوها عن أسلافهم دون أن يكون لديهم دليل على صحتها أو فسادها، ومثل هذا لا يسمى علما، إنما العلم ما كان عن حجة وبرهان، ولا يقبل الله إلا العلم الصحيح في عقائد الأديان
الإيضاح :
الويل كلمة يقولها من يقع في هلكة، وهي دعاء على النفس بالعذاب كما جاء في قوله تعالى حكاية عن الكافرين ﴿ يا ويلتنا ما لهذا الكتاب ﴾
أي هلاك عظيم لأولئك العلماء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون لعوامهم، هذا المحرف من عند الله في التوراة.
﴿ ليشتروا به ثمنا قليلا ﴾ أي ليأخذوا لأنفسهم في مقابلة هذا المحرف ثمنا وهي الرشى التي كانوا يأخذونها جزاء ما صنعوا، ووصف الثمن بالقلة وقد يكون كثيرا، لأن كل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل، لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها.
وقد روي أن الآية نزلت في أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي في التوراة فغيروها.
ثم كرر الوعيد فقال :
﴿ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ﴾ أي فلهم عقوبة عظيمة من أجل كتابتهم هذا المحرف، وويل لهم من أخذهم الرشوة وفعلهم للمعاصي.
وقد جنى اليهود الكاتبون ثلاث جنايات : تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة، فهددوا على كل جناية بالويل والثبور.
قال الأستاذ الإمام محمد عبده : من شاء أن يرى نسخة مما كان عليه اليهود من قبل فلينظر فيما بين يديه فإنه يراها واضحة جلية، يرى كتبا ألفت في عقائد الدين وأحكامه، حرفت فيها مقاصده وحولت إلى ما يغر الناس ويمنيهم ويفسد عليهم دينهم ويقولون هي من عند الله وما هي من عند الله، وإنما هي صادة عن النظر في كتاب الله والاهتداء به – ولا يعمل هذا إلا أحد رجلين : رجل مارق من الدين يتعمد إفساده، ويتوخى إضلال أهله، فيلبس لباس الدين ويظهر بمظهر أهل الصلاح، يخادع الناس بذلك ليقبلوا ما يكتب ويقول، ورجل يتحرى التأويل ويستنبط الحيل، ليسهل على الناس مخالفة الشريعة ابتغاء المال والجاه اه.
﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، قل اتخذتهم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون { ٨٠ ﴾ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴿ ٨١ ﴾ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴿ ٨٢ ﴾ }.
تفسير المفردات
المس واللمس بمعنى، والمراد بالنار نار الآخرة، والمعدودة : المحصورة القليلة، والعرب تقول : شيء معدود، أي قليل، وغير معدود : أي كثير، والعهد : الوحي وخبر الله الصادق.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هذه الآيات ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهو لا يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم
الإيضاح
﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾ أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام، لأن عمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة، فمن لم تدركه النجاة ويلحقه الفوز والسعادة يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم، وقيل إنها تمسهم أربعين يوما، وهي المدة التي عبدوا فيها العجل.
﴿ قل اتخذتهم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ﴾ أي أعهد إليكم ربكم بذلك ووعدكم به وعدا حقا ؟ إن كان كما تقولون فلن يخلف الله وعده.
﴿ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ أي أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به، فإن مثله لا يكون إلا بوحي يبلغه الرسل عنه، وبدون هذا يكون افتياتا على الله وجراءة عليه، لأنه قول بلا علم فهو كفر صراح.
وخلاصة هذا – إن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن أحد أمرين : إما اتخاذ عهد من الله، وإما افتراء وتقول عليه، وإذ كان اتخاذ العهد لم يحصل فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون بأنسابكم حين تدعون أنكم أبناء الله وأحباؤه.
﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾
تفسير المفردات :
بلى : لفظ يجاب به بعد كلام منفي سابق ومعناه إبطاله وإنكاره، والكسب : جلب النفع، فاستعماله في السيئة من باب التهكم، والسيئة : الفاحشة الموجبة للنار، والإحاطة الشمول كأن السيئة تحصر صاحبها وتأخذ جوانب قلبه.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هذه الآيات ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهو لا يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم
الإيضاح :
أي ليس الأمر كما ذكرتم، بل تمسكم النار وتمس غيركم دهرا طويلا } فكل من أحاطت به خطيئاته وأخذت بجوانب إحساسه ووجدانه واسترسل في شهواته، وأصبح
سجين آثامه، فجزاؤه النار خالدا فيها أبدا لما اقترف من أسبابها بانغماسه في الشهوات التي استوجبت ذلك العقاب.
والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله، وصاحبه مخلد في النار، وبعض العلماء حمل السيئة على معناها العام، وقال عن الخلود هنا المكث الطويل بمقدار ما يشاء الله، فالعاصي مرتكب الكبائر يمكث فيها ردحا من الزمان ثم يخرج منها متى أراد الله تعالى، وإذا أحدث المرء لكل سيئة توبة نصوحا، وإقلاعا صحيحا عن الذنب فلا تحيط به الخطايا، ولا ترين على قلبه السيئات، روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزغ واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر في القرآن :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ ).
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في هذه الآيات ضربا من ضروب غرورهم وصلفهم وادعائهم أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، فهو لا يعذبهم دوما بل يعذبهم تعذيب الأب ابنه والحبيب حبيبه وقتا قصيرا ثم يرضى عنهم
الإيضاح :
أي وأما الذين صدقوا الله ورسله، وآمنوا باليوم الآخر وعملوا صالح الأعمال فأدوا الواجبات، وانتهوا عن المعاصي فأولئك جديرون بدخول الجنة جزاء وفاقا على إخباتهم لربهم وإنابتهم إليه وإخلاصهم له في السر والعلن.
وفي هذا دليل على أن دخول الجنة منوط بالإيمان الصحيح والعمل الصالح معا، كما روي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسفيان بن عبد الله الثقفي، وقد قال له يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال : قل آمنت بالله، ثم استقم ). رواه مسلم.
وقد جرت سنة الله في القرآن أن يشفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة، وإرشاد العباد من الترغيب مرة والترهيب أخرى، والتبشير طورا والإنذار طورا آخر، إذ باللطف والقهر يرقى الإنسان إلى درجة الكمال، ويفوز برضوان الله وحسن توفيقه ﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾.
﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون { ٨٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
الميثاق : العهد الشديد المؤكد، وهو قسمان : عهد خلقة وفطرة، وعهد نبوة ورسالة وهو المراد هنا، وهذا العهد أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم، واليتيم : من الحيوان ما لا أم له، ومن الإنسان من لا أب له، وأصل المادة يفيد الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة لانفرادها في العقد، والمسكين : هو العاجز عن الكسب.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه في الآيات السابقة بني إسرائيل الذين كانوا في عصر التنزيل بما أنعم الله به على آبائهم من النعم كتفضيلهم على العالمين، وإنجائهم من الغرق وإنزال المن والسلوى عليهم، ثم ما كان يحصل إثر كل نعمة من مخالفة، فحلول عقوبة، فتوبة من الذنب بعد ذلك.
وفي هذه الآية ذكرهم بأهم ما أمر به أسلافهم من عبادات ومعاملات، ثم ما كان منهم من إهمالها وترك إتباعها، وسيعاد الكلام فيها أيضا بعد، لأن المقام يحتاج إلى الإطناب والبسط، ولأن القلوب مستحجرة لا ينفذ شعاع الحق في أكنافها، وأذهانهم كليلة فهي في حاجة إلى التكرار بين آن وآخر، لعلها ترجع على رشدها.
وقد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا ليؤديهم التأمل في أحوالهم، إلى قطع الطمع في إيمانهم، لأن قبائح أسلافهم تمنعهم من الهدى والرشاد كما قال :
*إذا طاب أصل المرء طابت فروعه*
الإيضاح
﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ﴾ أي واذكر أيها الرسول حين أخذنا عليهم الميثاق.
ثم بين هذا الميثاق فقال :
﴿ لا تعبدون إلا بالله ﴾ يقال أخذت عليك عهدا تفعل كذا، وأن تفعل كذا، ويرد مثل هذا الخبر في كلامهم متضمنا معنى النهي أو الأمر كما تقول : تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت، على معنى اذهب وقل له، وفيه مبالغة وتوكيد كأن المخاطب سيمثل النهي حتما ويسارع إلى الترك فيخبر به الناهي، أي لا تعبدوا إلا الله.
وقد نهوا عن عبادتهم غير الله مع أنهم كانوا يعبدون الله خوفا من أن يشركوا به سواه من ملك أو بشر أو صنم بدعاء أو غيره من أنواع العبادات.
ودين الله على ألسنة الرسل جميعا فيه الحث على عبادة الله وعدم الشرك بعبادة أحد سواه ﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ فالتوحيد عماده الأمران معا.
﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ أي أحسنوا إليهما، بأن تعطفوا عليهما وترعوهما حق الرعاية، وتنزلوا عند أمرهما فيما لا يخالف أوامر الله، وقد جاء في التوراة أن من يسب والديه يقتل.
والحكمة في البر بهما أنهما قد بذلا للولد وهو صغير كل عناية وعطف بتربيته والقيام بشؤونه، حين كان عاجزا ضعيفا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، مع الشفقة التي لا مزيد عليها، أفلا يجب عليه بعدئذ مكافأتهما جزاء وفاقا لما صنعا ؟ ﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾.
ولحب الوالدين لولدهما أسباب :
الحنان الفطري الذي أودعه الله فيهما إتماما لحكمته في بقاء الأنواع إلى الأمد الذي قدره في سابق علمه.
التفاخر بالأبناء كما قال ابن الرومي :
وكم من أب قد علا بابن ذرا شرف كما علت برسول الله عدنان
الأمل في الاستفادة منهما مالا وعونا على المعيشة.
وهذا الحب لا يحتاج إلى ما يقويه ويوثق صلته، ومن ثم ترك القرآن النص عليه.
﴿ وذي القربى ﴾ لأن الإحسان إليهم مما يقوي الروابط بينهم.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان الإحسان
فما الأمة إلا مجموعة الأسر والبيوت، فصلاحها بصلاحها وفسادها بفسادها، ومن لا بيت له لا أمة له، ومن قطع لحمة النسب فكيف يصل ما دونها، وكيف يكون جزاء من الأمة، يسره ما يسرها ويؤلمه ما يؤلمها، ويرى في منفعتها منفعته، وفي مضرتها مضرته.
ونظام الفطرة قاض بأن صلة القرابة أمتن الصلات، وجاء الدين حاثا عليها مؤكدا لأواصرها، مقويا لأركانها، مقدما لحقوقها على سائر الحقوق بحسب درجات القرابة.
﴿ واليتامى والمساكين ﴾ فالإحسان إلى اليتيم بحسن تربيته وحفظ حقوقه من الضياع، والكتاب والسنة مليئان بالوصية به، وحسبك من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين ) وأشار بالسبابة والوسطى.
والسر في هذا أن اليتيم لا يجد في الغالب من تبعثه العاطفة على تربيته والقيام بشؤونه وحفظ أمواله، والأم وإن وجدت تكون في الغالب عاجزة عن تنشئته وتربيته التربية المثلى، إلى أن الأيتام أعضاء في جسم الأمة، فإذا فسدت أخلاقهم وساءت أحوالهم، تسرب الفساد إلى الأمة جمعاء، إذ يصبحون قدوة سيئة بين نشئها، فيدب فيها الفساد ويتطرق إليها الانحلال، وتأخذ في الفناء.
والإحسان على المساكين يكون بالصدقة عليهم ومواساتهم حين البأساء والضراء، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( الساعي على الأرملة
والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ﴿ وأحسبه قال ﴾ وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر ).
وقدم اليتيم على المسكين، لأن هذا يمكنه أن يسعى بنفسه للحصول على قوته، بخلاف الأول فإن الصغر مانع له من ذلك.
﴿ وقولوا للناس حسنا ﴾ أمر الله أولا بالإحسان بالمال لأقوام مخصوصين، وهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين، إذ لا يمكن الشخص أن يحسن به إلى الناس جميعا، لأنه لا يسع كل الأمة، ومن ثم اكتفى في حقوق سائر أفرادها بحسن العشرة والقول الجميل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما هو نافع لهم في الدين والدنيا.
وفي القيام بهذه الفرائض إصلاح لحال المجتمع وسعي في رقيه وتقدمه حتى يبلغ ذروة المجد والشرف.
وبعد أن أمرهم سبحانه بعبادته وحده على سبيل الإجمال، فصل بعضا من ذلك مما لا يهتدى إليه إلا بهدي إلهي ووحي سماوي فقال :
﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ لأن الصلاة هي التي تصلح النفوس وتنقيها من أدران الرذائل، وتحليها بأنواع الفضائل، وروحها هو الإخلاص لله والخشوع لعظمته وسلطانه، فإن فقدته كانت صورا ورسوما لا تغني فتيلا، وهم ما تولوا ولا أعرضوا عن تلك الصور والرسوم إلى عصر التنزيل، بل إلى يومنا هذا.
ثم الزكاة لما فيها من إصلاح شئون المجتمع، وقد كان لهم ضروب من الزكاة منها مال خاص يؤدى لآل هارون، وهو إلى الآن في اللاويين
﴿ سبط من أسباطهم ﴾ ومنها مال للمساكين، ومنها ما يؤخذ من ثمرات الأرض، ومنها سبت الأرض وهو تركها في كل سبع سنين مرة بلا حرث ولا زرع، وكل ما يخرج منها في تلك السنة فهو صدقة.
﴿ ثم توليتم إلا قليلا وأنتم معرضون ﴾ أي ثم كان من أمركم أن توليتم عن العمل بالميثاق ورفضتموه وأنتم في حال الإعراض عنه وعدم الاهتمام بشأنه.
وفي قوله :﴿ وأنتم معرضون ﴾ مبالغة في الترك المستفاد من التولي، لأن الإنسان قد يتولى عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويؤدي ما يجب له، فليس كل من تولى عن شيء يكون معرضا عنه.
وقد كان من توليهم وإعراضهم أن اتخذوا الأحبار والرهبان أربابا مشرعين يحلون ويحرمون، ويبيحون ويحظرون، ويزيدون ما شاءوا من الشعائر والمناسك الدينية، فكأنهم شركاء لله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله، كما كان من توليهم أن بخلوا بالمال في الواجبات الدينية كالنفقة على ذوي القربى وأداء الزكاة، وتركوا النهي عن المنكر على نحو ذلك مما يدل على الاستهتار بأمور الدين، وقوله :﴿ إلا قليلا منهم ﴾ أخرج بعض من كانوا في عهد موسى عليه السلام ممن أقام اليهودية على وجهها، ومن كان في عصر التنزيل أو بعده وأسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه من المخلصين المحافظين على الحق بقدر الطاقة، وفائدة ذكره عدم بخس العاملين حقهم، والإشادة بذكرهم، والإشارة إلى أن وجود القليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد وعم البلاء، وقد جرت سنة الله بأن بقاء الأمة عزيزة مرهوبة الجانب ذات سطوة وبأس، إنما يكون بمحافظة السواد الأعظم فيها على الأخلاق الفاضلة والدأب على العمل الذي به تستحق العز والشرف.
بعد هذا لا عجب فيما ترى من حلول الكرب والبلاء بالمسلمين الذين فتنوا في دينهم ودنياهم وهم غافلون لاهون، لا يعتبرون ولا يذكرون.
﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون { ٨٤ ﴾ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ﴿ ٨٥ ﴾ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ﴿ ٨٦ ﴾ }.
تفسير المفردات
السفك : الصب والإراقة.
المعنى الجملي
ذكر الله بني إسرائيل في الآية السابقة بأهم ما أمروا به من إفراده تعالى بالعبادة والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى، ثم بين أنهم لم يأتمروا بذلك.
وفي هذه الآيات ذكرهم بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق ولم ينتهوا، والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل، وإرشادا إلى أن الأمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ما داموا على سنتهم، يحتذون حذوهم ويجرون على نهجهم، كما أن ما يفعله الشخص حين الصغر يؤثر في قواه العقلية وأخلاقه النفسية حين الكبر، والمشاهدة أكبر برهان على ذلك
الإيضاح
﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ﴾ أي وإذا أخذنا عليكم العهد : لا يريق بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضا من ديارهم وأوطانهم، وقد جعل غير الرجل كأنه نفسه، ودمه إذا اتصل به دينا أو نسبا، إشارة إلى وحدة الأمة وتضامنها، وأن ما يصيب واحدا منها فكأنما يصيب الأمة جمعا، فيجب أن يشعر كل فرد منها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم، فالروح الذي يحيا به والدم الذي ينبض في عرقه هو كدم الآخرين وأرواحهم، لا فرق بينهم في الشريعة التي وحدت بينهما في المصالح العامة، وهذا ما يومئ إليه الحديث :
( إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ).
وقد يجوز أن يكون المعنى لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل قصاصا، أو بالإخراج من الديار فتكونون كأنكم قد قتلتم أنفسكم، لأنكم فعلتم ما تستحقون به القتل، كما يقول الرجل لآخر قد فعل ما يستحق به العقوبة : أنت الذي جنى على نفسه.
﴿ ثم أقررتم وأنتم تشهدون ﴾ أي ثم أقررتم بهذا الميثاق أيها الحاضرون المخاطبون واعترفتم به ولم تنكروه بألسنتكم، بل شهدتم به وأعلنتموه، فالحجة عليكم قائمة – وقد يراد- وأنتم أيها الحاضرون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق وقبوله، وشهودهم الوحي الذي نزل به على موسى عليه السلام.
﴿ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ﴾
تفسير المفردات :
التظاهر : التعاون، والإثم : هو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم، والعدوان : تجاوز الحد في الظلم.
المعنى الجملي
ذكر الله بني إسرائيل في الآية السابقة بأهم ما أمروا به من إفراده تعالى بالعبادة والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى، ثم بين أنهم لم يأتمروا بذلك.
وفي هذه الآيات ذكرهم بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق ولم ينتهوا، والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل، وإرشادا إلى أن الأمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ما داموا على سنتهم، يحتذون حذوهم ويجرون على نهجهم، كما أن ما يفعله الشخص حين الصغر يؤثر في قواه العقلية وأخلاقه النفسية حين الكبر، والمشاهدة أكبر برهان على ذلك
الإيضاح :
أي ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق تنقضون العهد فتقتلون أنفسكم : أي يقتل بعضكم بعضا كما كان يفعل من قبلكم، مع أنكم معترفون بأن الميثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم.
ومن حديث ذلك أن بني قينقاع من اليهود كانوا حلفاء الأوس وأعداء لإخوانهم في الدين بني قريظة، كما كان بنو النضير حلفاء الخزرج، وكان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء يقتتلون، ومع كل حلفاؤه، وهذا ما نعاه الله على اليهود بقوله :﴿ تقتلون أنفسكم ﴾.
﴿ وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ﴾ كان كل من اليهود يظاهر حلفاءه من العرب ويعاونهم على إخوانه من اليهود بالإثم كالقتل والسلب، والعدوان كالإخراج من الديار.
﴿ وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ﴾ أي وكانوا إذا أسر بعض العرب وحلفاؤهم من اليهود بعضا من اليهود أعدائهم واتفقوا على فداء الأسرى، يفدى كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه، ثم يعتذرون عن هذا بأن الكتاب أمرهم بفداء أسرى ذلك الشعب المقدس، فإن كانوا مؤمنين حقا بما يقولون، فلم قاتلوهم وأخرجوهم من ديارهم والكتاب ينهاهم عن ذلك ؟ أفليس هذا إلا لعبا واستهزاء بالدين ؟
﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ ﴾ أي أتفعلون ما ذكر فتؤمنون الخ وذلك أن الله أخذ على بني إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وقال : أيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه وأعتقوه – لكنهم قتلوا وأخرجوا من الديار مخالفين العهد، وافتدوا الأسرى على مقتضى العهد، أفليس هذا إلا إيمانا ببعض الكتاب، وكفرا ببعضه الآخر ؟ وذلك منتهى ما يكون من الحماقة، فإن الإيمان لا يتجزأ، فالكفر ببعضه كالكفر بكله.
قال الأستاذ الإمام : في التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على أن من يقدم على الذنب لا يتألم ولا يندم بعد وقوعه، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله عنه وتحريمه له فهو كافر به، وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة، نحو :( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن ).
ثم توعدهم على نقضهم الميثاق الذي جعلهم أمة واحدة، ذات شريعة هي رباط وحدتهم بخزي عاجل في هذه الحياة، وعذاب آجل في الآخرة فقال :
﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ﴾ فقد دلت المشاهدة على أن كل أمة تفسق عن أمر ربها وتطرح أوامر دينها وراءها ظهريا يتفرق شملها، وينزل بها عذاب الهون جزاء فساد أخلاقها وكثرة شرورها.
أما من استقاموا على الطريقة، وزكت نفوسهم وصلحت أحوالهم فلهم عند ربهم نعيم مقيم، يرشد إلى ذلك قوله :﴿ قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها ﴾.
ثم زاد في الوعيد والتهديد والزجر الشديد فقال :
﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ فهو مجازيكم على ما اجترحتم من السيئات.
ثم أكد عظيم حماقتهم وسيء إجرامهم، ثم شديد نكالهم على ما اجترحوا فقال :﴿ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ﴾.
المعنى الجملي
ذكر الله بني إسرائيل في الآية السابقة بأهم ما أمروا به من إفراده تعالى بالعبادة والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى، ثم بين أنهم لم يأتمروا بذلك.
وفي هذه الآيات ذكرهم بأهم المنهيات التي أخذ عليهم العهد باجتنابها، ثم نقضوا الميثاق ولم ينتهوا، والخطاب هناك للذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، وهو هنا للحاضرين في عصر التنزيل، وإرشادا إلى أن الأمة كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ما داموا على سنتهم، يحتذون حذوهم ويجرون على نهجهم، كما أن ما يفعله الشخص حين الصغر يؤثر في قواه العقلية وأخلاقه النفسية حين الكبر، والمشاهدة أكبر برهان على ذلك
الإيضاح :
أي أولئك الذين آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة، فقدموا حظوظهم في هذه الحياة على حظوظهم في الحياة الأخرى، بما أهملوا من الشرائع، وتركوا من أوامرها التي يعرفونها كما يعرفون أبناءهم كالانتصار للحليف المشرك، ومظاهرته على قومه الذين تجمعهم وإياه رابطة الدين والنسب، وإخراج أهله من دياره ابتغاء مرضاته.
﴿ فلا يخفف عنهم العذاب ﴾ يوم القيامة ﴿ ولا هم ينصرون ﴾ لأن أعمالهم قد سجلت عليهم الشقاء، وأحاطت بهم الخطايا من كل جانب، فسدت عليهم باب الرحمة، وقطعت عنهم الفيض الإلهي، فلا يجدون شافعا ينصرهم، ولا وليا يدفع عنهم ما حل بهم من النكال والوبال في جهنم وبئس القرار.
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس، أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم، ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون { ٨٧ ﴾ وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم، فقليلا ما يؤمنون ﴿ ٨٨ ﴾ }.
تفسير المفردات
قفاه به : إذا أتبعه إياه، وعيسى بالسريانية، يسوع ومعناه السيد أو المبارك، ومريم بالعبرية : الخادم لأن أمها نذرتها لخدمة بين المقدس، والبينات : الحجج الواضحة التي أوتيها عليه السلام من المعجزات، وأيدناه : أي قويناه، وروح القدس : أي الروح المقدس المطهر، وهو جبريل عليه السلام الذي ينزل على الأنبياء ويقدس نفوسهم ويزكيها، ويطلق عليه الروح الأمين كما قال :﴿ نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ﴾.
المعنى الجملي
جرت سنة الله في البشر أنه إذا طال عليهم الأمد بعد أن تأتيهم الرسل تقسو منهم القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، ويفسقون عن ربهم، ويحرفون ما جاءهم من الشرائع بضروب من التأويل، وينسون ما أنذروا به من قبل، يرشد إلى هذا قوله تعالى :﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ﴾.
من أجل هذا كان سبحانه يرسل الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسوا القلوب، وقد كان الشعب الإسرائيلي أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، فليس لهم من العذر ما يسوغ نسيان الشرائع أو تحريفها وتأويلها، ولكن كانوا يطيعون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم، ويعصون رسلهم، فمنهم من كذبوه، ومنهم من قتلوه
الإيضاح
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ﴾ أي ولقد أعطينا موسى الكتاب المقدس وهي التوراة، ثم أتبعنا من بعده رسولا بعد رسول مقتفين أثره، فلم يمض زمن إلا كان فيه نبي أو أنبياء يأمرون وينهون، فلا عذر لهم في نسيان الشرائع أو تحريفها وتغيير أوضاعها.
ثم خص من أولئك الرسل عيسى عليه السلام فقال :
﴿ وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ﴾ أي وأعطينا عيسى المعجزات الباهرة التي تدل على صدق نبوته وأنه موحى إليه من ربه، وأيدناه بروح الوحي الذي يؤيد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم كما قال :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ﴾ الآية، وأرسلناه بعد ظهور كثير من الرسل ولم يكن حظه بينهم أحسن من حظ سابقيه.
ثم بين ماذا كان حظ الرسل من بني إسرائيل فقال :
﴿ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ؟ ﴾ أي أبلغ الأمر بكم أنكم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهوى نفوسكم استكبرتم عليه تجبرا وبغيا في الأرض ؟
﴿ ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ﴾ أي فبعضا منهم تكذبون كعيسى ومحمد عليهما السلام، وبعضا تقتلون كزكريا ويحيى عليهما السلام، فلا عجب بعد هذا إن لم تؤمنوا بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن العناد والجحود من طبعكم، وسجية عرفت عنكم، ولا غرابة في صدور ما صدر منكم.
﴿ وقالوا قلوبنا غلف ﴾
تفسير المفردات :
الغلف : واحدها أغلف وهو الذي لا يفقه ما يقال له.
المعنى الجملي
جرت سنة الله في البشر أنه إذا طال عليهم الأمد بعد أن تأتيهم الرسل تقسو منهم القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، ويفسقون عن ربهم، ويحرفون ما جاءهم من الشرائع بضروب من التأويل، وينسون ما أنذروا به من قبل، يرشد إلى هذا قوله تعالى :﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ﴾.
من أجل هذا كان سبحانه يرسل الرسل بعضهم إثر بعض حتى لا يطول الإنذار فتقسوا القلوب، وقد كان الشعب الإسرائيلي أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، فليس لهم من العذر ما يسوغ نسيان الشرائع أو تحريفها وتأويلها، ولكن كانوا يطيعون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم، ويعصون رسلهم، فمنهم من كذبوه، ومنهم من قتلوه
الإيضاح :
أي وقالوا قلوبنا مغطاة بأغشية خلقية مانعة من تفهم ما جئت به، ونحو هذا قولهم :﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ﴾ القائلون هم الذين كانوا منهم عصر التنزيل.
ثم رد عليهم وكذبهم فيما زعموا فقال :
﴿ بل لعنهم الله بكفرهم ﴾ أي ليس الأمر كما يدعون، بل قلوبهم خلقت مستعدة بحسب الفطرة للنظر الذي يوصل إلى الحق، لكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرفوه إتباعا لأهوائهم.
وقد ذكر اللعن وعلته جريا على سنة الله في ربط المسببات بأسبابها، وبيان أن الله لم يظلمهم بهذا، بل هم ظلموا أنفسهم بالتمادي في الكفر والعصيان.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سبق فقال :
﴿ فقليلا ما يؤمنون ﴾ أي فهم يؤمنون إيمانا قليلا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب وتحريف بعضه الآخر أو ترك العمل به، والذي آمنوا به كان قولا باللسان تكذبه الأعمال إذ لم يكن للإيمان سلطان على قلوبهم، فيكون هو المحرك لإرادتهم، وإنما يحركها الهوى والشهوة، ويصرفها عامل اللذة.
وقد يكون المعنى كما قال ابن جرير : إنه لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به إلا قليل منهم، فالمخالفة لم تغمر كل الشعب، بل غمرت الأكثر منهم ونجا نفر قليل.
﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين { ٨٩ ﴾ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين ﴿ ٩٠ ﴾ وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم، قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ﴿ ٩١ ﴾ }.
تفسير المفردات
يستفتحون : أي يستنصرون.
الإيضاح
﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين ﴾ هذا مرتبط معنى بقوله :﴿ وقالوا قلوبنا غلف ﴾ أي وقالوا قلوبنا غلف وكذبوا لما جاءهم كتاب الخ وقوله :﴿ مصدق لما معهم ﴾ أي موافق له في التوحيد وأصول الدين ومقاصده، وقوله :﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ﴾ أي وكانوا يستنصرون به على مشركي العرب وكفار مكة ويقولون إن كتابه سينصر التوحيد الذي جاء به موسى، ويخذل الوثنية التي تنتحلونها.
روى ابن جرير عن قتادة الأنصاري عن شيوخ منهم أنهم قالوا فينا وفيهم ﴿ في الأنصار واليهود ﴾ نزلت هذه القصة، كنا علوناهم دهرا في الجاهلية ونحن أهل الشرك وهم أهل الكتاب، وكانوا يقولون إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم قتل عاد وإرم، فلما بعث رسول الله اتبعناه وكفروا به.
وسبب هذا أنهم حسدوا العرب على أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم من بينهم فحملهم ذلك على الكفر به جحودا وعنادا، فسجل الله عليهم الطرد والإبعاد من رحمته، لجحودهم بالحق بعد أن تبين لهم.
﴿ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ﴾
تفسير المفردات :
وشرى واشترى يستعملان حينا بمعنى باع، وأخرى بمعنى ابتاع وأخذ، والمراد هنا المعنى الأول، والبغي في الأصل : الفساد من قولهم بغى الجرح إذا فسد، ثم أطلق على مجاوزة الحد في كل شيء، وباء : رجع، وهين : أي فيه إهانة وإذلال.
الإيضاح :
أي بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم وبذلوها – الكفر بما أنزل الله، وهو الكتاب المصدق لما معهم، أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه، وكأنهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع.
ثم بين علة ذلك فقال :
﴿ بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ﴾ أي إنهم كفروا لمحض العناد الذي هو نتيجة الحسد، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يختاره من عباده، ولا بغي أقبح من بغي من يريد الحجر على الله، فلا يرضى أن يجعل الوحي في آل إسماعيل كما جعله من قبل في آل إسحاق.
ثم ذكر مقدار ما نالهم من غضبه فقال :
﴿ فباءوا بغضب على غضب ﴾ أي فرجعوا وهم مستوجبون لغضبين : غضب الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فوق الغضب الذي استحقوه من قبل بإعنات موسى عليه السلام والكفر به.
ثم بين عاقبة أمرهم فقال :
﴿ وللكافرين عذاب مهين ﴾ أي ولهم بسبب كفرهم عذاب يصحبه إهانة وإذلال في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا من الخزي والنكال وسوء الحال، ليكونوا عبرة لمن يخلفهم من بعدهم، وأما في الآخرة فبخلودهم في جهنم وبئس المصير.
ثم ذكر ما يكون منهم لدى الحوار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ﴾.
تفسير المفردات :
وراء بمعنى سوى كما يقول لمن يتكلم بجيد الكلام : ما وراء هذا الكلام شيء.
الإيضاح :
أي وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليهود المدينة وما حولها : آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله قالوا نحن دائبون على الإيمان بما أنزل على أنبياء بني إسرائيل كالتوراة وغيرها.
﴿ ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ﴾ أي وهم يكفرون بما سوى التوراة وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها، وهو الحق الذي لا شك فيه، وكيف يكفرون به وهو مؤيد عندهم بالعقل والنقل ؟
﴿ قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ؟ ﴾ أي قل لهم إلزاما للحجة بعدما اقترفوا من فحش المخالفة لما أنزل إليهم والفسوق عنه : إن كنتم صادقين حقا في إتباعكم ما أنزل الله على أنبيائكم، فلم قتلتموهم ؟ وليس في دينكم الأمر بالقتل، بل فيه شديد العقاب على القتل مطلقا، فضلا عن قتل الأنبياء، فما هذا منكم إلا تناقض بين الأقوال والأفعال.
وقد نسب القتل إليهم والقاتل أسلافهم لما تقدم غير مرة من أن مثل هذا يقصد به بيان وحدة الأمة وتكافلها، وأنها في الطبائع والأخلاق المشتركة كالشخص الواحد، فما يصيبها من حسنة أو سيئة، فإنما مصدره الأخلاق الغالبة عليها، فما حدث منهم كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع فيها الآخرون والأولين : إما بالعمل بها، وإما بترك الإنكار لها، فالحجة تقوم على الحاضرين بأن أسلافهم الغائرين قتلوا الأنبياء، فأقروهم على ذلك ولم يعدوه خروجا من الدين، ولا رفضا للشريعة، وفاعل الكفر ومجيزه سواء.
﴿ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون { ٩٢ ﴾ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا، قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم، قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ﴿ ٩٣ ﴾ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴿ ٩٤ ﴾ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ﴿ ٩٥ ﴾ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون ﴿ ٩٦ ﴾ }.
تفسير المفردات
البينات : هي الآيات والدلائل التي تدل على صدق النبي والمعجزات التي تؤيد نبوته كالعصا واليد، العجل : هو الذي صنعه لهم السامري من حليهم وجعلوه إلها وعبدوه.
المعنى الجملي
عدد سبحانه في الآيات السالفة ما أنعم به على بني إسرائيل من النعم، وذكر ما قابلوها به من الكفران، وهنا ذكر أن الآيات البينات الدالة على صدق دعوة موسى
ووحدانية الله وعظيم قدرته لم تزدهم إلا انهماكا في الشرك وتوغلا في ضروب الوثنية، فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلا اتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل إليهم ؟.
وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل فيهم لهداية، ولا مطمع لفكر وتأمل بعد أن اختل الوجدان، وضعف الجنان. وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وما ذكر من النعم هناك كان في أرض الميعاد
الإيضاح
﴿ ولقد جاءكم موسى بالبينات، ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ﴾ أي ومن عظيم كفرانكم للنعم أن موسى قد جاء بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة على توحيد الله وعظيم قدرته، فخالفتم ذلك وعصيتم أمره وعبدتم عجل السامري من بعد ذلك، فهذا ظلم ووضع للشيء في غير موضعه اللائق به، وأي ظلم أعظم من الإشراك بالله بعبادة من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ؟.
﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا ﴾
تفسير المفردات :
وأشرب قلبه كذا : أي حل محل الشراب العذب كأن الشيء المحبوب شراب يساغ فهو يسري في قلب المحب ويمازجه كما يسري الشراب العذب البارد في اللهات، وحقيقة أشربه كذا : جعله شاربا له، والمراد من الدار الآخرة ثوابها ونعيمها.
المعنى الجملي
عدد سبحانه في الآيات السالفة ما أنعم به على بني إسرائيل من النعم، وذكر ما قابلوها به من الكفران، وهنا ذكر أن الآيات البينات الدالة على صدق دعوة موسى
ووحدانية الله وعظيم قدرته لم تزدهم إلا انهماكا في الشرك وتوغلا في ضروب الوثنية، فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلا اتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل إليهم ؟.
وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل فيهم لهداية، ولا مطمع لفكر وتأمل بعد أن اختل الوجدان، وضعف الجنان. وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وما ذكر من النعم هناك كان في أرض الميعاد
الإيضاح :
قد سبق شرح مثل هذا من قبل سوى أنه قال هناك :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ﴾ وهنا قال :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا ﴾ فأمرهم هناك بالحفظ، وأمرهم هنا بالفهم والطاعة، والعبارتان متقاربتان في المراد.
﴿ قالوا سمعنا وعصينا ﴾ أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه، لكنهم لم يعملوا به وخالفوه، وليس المراد أنهم نطقوا بقولهم ﴿ سمعنا وعصينا ﴾ بل كانوا بمثابة من قال ذلك، والعرب تعبر عن حال الإنسان وغيره من الحيوان والجماد بقول تحكيه عنه يومئ إلى ما يجول في قرارة نفسه ويدور فيكون هذا القول ترجمانا عنه.
﴿ وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ﴾ أي صار حب العجل نافذا فيهم نفوذ الماء فيما يدخل فيه، وقوله : بكفرهم، أي إن سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فرسخ الكفر في قلوبهم بتمادي الأيام وورثه الخلف عن السلف.
﴿ قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ﴾ أي قل توبيخا لليهود الحاضرين، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين الذين يقتدون بهم، ويحتذون حذوهم في كل ما يأتون وما يذرون : إن كنتم مؤمنين بالتوراة حقا، فبئس هذا الإيمان الذي يأمر بهذه الأعمال التي أنتم تفعلونها كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق، فهذه دعوى لا تقبل منكم، بل يجب القطع بعدم وجودها، بدليل ما يصدر عنكم من الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا للإيمان.
وقد سيقت هاتان الآيتان ردا على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها، فهي حجة عليهم تشرح طبيعة الإيمان وأثره في المؤمن.
ثم أمر رسوله أن يتحداهم في ادعائهم صادق الإيمان وكامل اليقين فقال :﴿ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴾
تفسير المفردات :
خالصة : أي خاصة بكم، تمنوا الموت : أي تشرفوا له واجعلوا نفوسكم ترتاح إليه وتود المصير إليه، بمزحزحه أي بمنجيه من العذاب.
المعنى الجملي
عدد سبحانه في الآيات السالفة ما أنعم به على بني إسرائيل من النعم، وذكر ما قابلوها به من الكفران، وهنا ذكر أن الآيات البينات الدالة على صدق دعوة موسى
ووحدانية الله وعظيم قدرته لم تزدهم إلا انهماكا في الشرك وتوغلا في ضروب الوثنية، فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلا اتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل إليهم ؟.
وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل فيهم لهداية، ولا مطمع لفكر وتأمل بعد أن اختل الوجدان، وضعف الجنان. وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وما ذكر من النعم هناك كان في أرض الميعاد
الإيضاح :
أي إن صدق قولكم، وصحت دعواكم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وفي أنكم شعب الله المختار، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودات، فتمنوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. وقد روى عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم تمني الموت عند القتال معبرين بألسنتهم عما يجول في صدورهم من صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الآخرة، فقد جاء في الأخبار أن عبد الله بن رواحة كان ينشد وهو يقاتل الروم :
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
وأن عمار بن ياسر في حرب صفين قال :
غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه
فإن لم تتمنوه، بل كنتم شديدي الحرص على هذه الحياة، فما أنتم بصادقي الإيمان.
وهذه حجة تنطبق على الناس عامة، فيجب على المسلمين أن يجعلوها ميزانا يزنون به دعواهم اليقين بالإيمان والقيام بحقوق الله، فإن ارتاحت نفوسهم لبذل أرواحهم في سبيل الله والذود عن الدين كانوا مؤمنين حقا، وإن ضنوا بها وكانوا شديدي الحرص على الحياة إذا جد الحد ودعا الداعي كانوا بعكس ما يدعون.
﴿ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ﴾
المعنى الجملي
عدد سبحانه في الآيات السالفة ما أنعم به على بني إسرائيل من النعم، وذكر ما قابلوها به من الكفران، وهنا ذكر أن الآيات البينات الدالة على صدق دعوة موسى
ووحدانية الله وعظيم قدرته لم تزدهم إلا انهماكا في الشرك وتوغلا في ضروب الوثنية، فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلا اتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل إليهم ؟.
وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل فيهم لهداية، ولا مطمع لفكر وتأمل بعد أن اختل الوجدان، وضعف الجنان. وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وما ذكر من النعم هناك كان في أرض الميعاد
الإيضاح
أي ولن يقع منهم هذا التمني بحال، لأنهم يعرفون ما اجترحته أنفسهم من المعاصي والذنوب التي يستحقون بها العقوبة كتحريف التوراة، والكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع البشارة به في كتابهم.
والعرب تسند الفعل إلى الأيادي لأن أكثر الأعمال تزاول بها، ويجعلون المراد بها الشخص.
﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ أي والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد.
﴿ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ﴾
تفسير المفردات :
البصير العالم بكنه الشيء الخبير به.
المعنى الجملي
عدد سبحانه في الآيات السالفة ما أنعم به على بني إسرائيل من النعم، وذكر ما قابلوها به من الكفران، وهنا ذكر أن الآيات البينات الدالة على صدق دعوة موسى
ووحدانية الله وعظيم قدرته لم تزدهم إلا انهماكا في الشرك وتوغلا في ضروب الوثنية، فالنعم التي أسبغها عليهم لم يكن لها من شكر إلا اتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، فكيف يعتذرون عن عدم الإيمان بمحمد بأنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل إليهم ؟.
وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل فيهم لهداية، ولا مطمع لفكر وتأمل بعد أن اختل الوجدان، وضعف الجنان. وهذه الآيات البينات التي ذكرت هنا كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وما ذكر من النعم هناك كان في أرض الميعاد
الإيضاح :
أي إنهم يحبون الإخلاد إلى الأرض، ويعملون كل ما يوصلهم إلى البقاء فيها، فلا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، وتلك سيرتهم في كل زمان وإن كان الكلام مع من كان في عصر التنزيل.
وهكذا القرآن يرسل عليهم سيلا من الحجاج، فيشاغبون ويعاندون، اعتزازا بشعبهم، واغترارا بكتابهم.
﴿ ومن الذين أشركوا ﴾ أي إنهم أحرص من جميع الناس حتى من الذين أشركوا، وفي هذا توبيخ وإيلام عظيم لهم، إذ إن المشركين لا يؤمنون ببعث ولا يعرفون إلا هذه الحياة، فحرصهم عليها ليس بالغريب، أما من يؤمن بكتاب ويقر بالجزاء فمن حقه ألا يكون شديد الحرص عليها.
﴿ يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ﴾ أي يتمنى كل منهم أن يبقى على قيد الحياة ألف سنة أو أكثر، لأنه يتوقع سخط الله وعقابه، فيرى أن الدنيا على ما فيها من الآلام والأكدار خير له مما يستيقن وقوعه في الآخرة، والعرب تضرب الألف مثلا للمبالغة في الكثرة.
﴿ وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ﴾ أي وما بقاؤه فيها بمنجيه ولا بمبعده من العذاب المعد له، فإن العمر مهما طال فهو منته لا محالة.
﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ أي والله عليم بخفيات أعمالهم، وبجميع ما يصدر منهم وهو مجازيهم به، فطول العمر لا يخرجهم من قبضته، ولا ينجيهم من عقابه، فالمرجع إليه، والأمر كله بيده.
﴿ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين { ٩٧ ﴾ من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ﴿ ٩٨ ﴾ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ﴿ ٩٩ ﴾ أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ بل أكثرهم لا يؤمنون ﴿ ١٠٠ ﴾ }.
تفسير المفردات
العدو : ضد الصديق يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع.
المعنى الجملي
ذكر قبل هذه الآيات معاذير لليهود اعتذروا بها عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الآيات البينات، كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم، فلا حاجة لهم بهداية غيره، فنقض دعواهم وألزمهم الحجة، وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة، لأنهم شعب الله وأبناؤه فأبطل مزاعمهم ودحض حججهم.
وهنا ذكر تعلة أخرى هي أعجب من كل ما تقدم وفندها كما فند ما قبلها، تلك هي قولهم : عن جبريل الذي ينزل على محمد بالوحي عدوهم، فلا يؤمنون بما يجيئ به منه، وقد أثر عنهم عدة روايات تشرح هذه المقالة.
منها أن أحد علمائهم وهو عبد الله بن صوريا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي، فقال : هو جبريل، فقال ابن صوريا : هو عدو اليهود لأنه أنذرهم بخراب بيت المقدس فكان ما أنذر به.
ومنها أن عمر بن الخطاب دخل مدارسهم فذكر جبريل فقالوا ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وأن ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء.
ولا شك أن هذا منهم دليل على خطل الرأي وعدم التدبر، وإنما ذكره الكتاب الكريم ليستبين للناس حجج أهل الكتاب ويعرفوا مقدار مرائهم وسخفهم في جدلهم وأنهم ضعاف الأحلام قليلو التبصر في عواقب ما يقولون
الإيضاح
﴿ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ﴾ أي قل لهم أيها النبي حاكيا لهم عن الله : من كان عدوا لجبريل، فإن من أحوال جبريل أنه نزل القرآن على قلبك، أي فهو عدو لوحي الله الذي يشمل التوراة وغيرها، ولهدى الله لخلقه، ولبشراه للمؤمنين، وقوله : بإذن الله يرشد إلى أن مناجاته لروحك ومخاطبته قلبك، إنما كان بأمر الله لا افتياتا منه، فعداوته لا تمنع من الإيمان بك، ولا تصلح أن تكون عذرا لهم، إذ القرآن من عند الله لا من عنده.
﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ أي هو موافق للكتب التي تقدمته فيما يدعو إليه من توحيد الله والسير على السنن القويم.
﴿ وهدى ﴾ أي أنزله الله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان.
﴿ وبشرى للمؤمنين ﴾ أي إنه بشرى لمن آمن به، فليس لكم أن تتركوها لأجل أن جبريل جاء منذرا بخراب بيت المقدس، لأنه إنما أنذر المفسدين.
وكل هذه الحجج أقامها لبيان سخفهم وكمال حمقهم، وللإرشاد إلى أنها لا تصلح أن تكون مانعة من الإيمان بكتاب أنزله الله جامع لكل هذه الصفات الشريفة.
﴿ من كان عدوا لله ﴾
المعنى الجملي
ذكر قبل هذه الآيات معاذير لليهود اعتذروا بها عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الآيات البينات، كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم، فلا حاجة لهم بهداية غيره، فنقض دعواهم وألزمهم الحجة، وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة، لأنهم شعب الله وأبناؤه فأبطل مزاعمهم ودحض حججهم.
وهنا ذكر تعلة أخرى هي أعجب من كل ما تقدم وفندها كما فند ما قبلها، تلك هي قولهم : عن جبريل الذي ينزل على محمد بالوحي عدوهم، فلا يؤمنون بما يجيئ به منه، وقد أثر عنهم عدة روايات تشرح هذه المقالة.
منها أن أحد علمائهم وهو عبد الله بن صوريا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي، فقال : هو جبريل، فقال ابن صوريا : هو عدو اليهود لأنه أنذرهم بخراب بيت المقدس فكان ما أنذر به.
ومنها أن عمر بن الخطاب دخل مدارسهم فذكر جبريل فقالوا ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وأن ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء.
ولا شك أن هذا منهم دليل على خطل الرأي وعدم التدبر، وإنما ذكره الكتاب الكريم ليستبين للناس حجج أهل الكتاب ويعرفوا مقدار مرائهم وسخفهم في جدلهم وأنهم ضعاف الأحلام قليلو التبصر في عواقب ما يقولون
الإيضاح :
عداوة لله مخالفة أوامره وعدم القيام بطاعته، والكفر بما ينزله لهداية الناس على لسان رسله.
﴿ وملائكته ﴾ بكراهة العمل بما يعهد إليهم ربهم من رسالات يبلغونها للناس.
﴿ ورسله ﴾ بتكذيبهم في دعوى الرسالة مع قيام الأدلة على صدقها، و بقتل بعضهم كما فعلوا مع زكريا ويحيى.
﴿ وجبريل وميكال ﴾ بادعاء أن الأول يأتي بالآيات والنذر، ومن عاداه فقد عادى ميكائيل، لأن الداعي إلى محبتهم وعداوتهم واحد.
﴿ فإن الله عدو للكافرين ﴾ أي من عادى الله وعادى هؤلاء المقربين عنده، فالله عدو له، لأنه كافر به ومعاد له، وهو الظالم لنفسه حين دعاءه فلم يجب.
وفي هذا من شديد الوعيد ما لا يخفى، إذ فيه تصريح بأنهم أعداء الحق وأعداء كل من يدعو إليه، ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب السماوية، لأن المقصد من الجميع واحد وهو هداية الناس وإرشادهم إلى سبل الخير، ومعاداة محمد صلى الله عليهم وسلم كمعاداة سائر الأنبياء، لأن رسالتهم واحدة والمقصد منها متحد.
﴿ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ﴾
المعنى الجملي
ذكر قبل هذه الآيات معاذير لليهود اعتذروا بها عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الآيات البينات، كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم، فلا حاجة لهم بهداية غيره، فنقض دعواهم وألزمهم الحجة، وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة، لأنهم شعب الله وأبناؤه فأبطل مزاعمهم ودحض حججهم.
وهنا ذكر تعلة أخرى هي أعجب من كل ما تقدم وفندها كما فند ما قبلها، تلك هي قولهم : عن جبريل الذي ينزل على محمد بالوحي عدوهم، فلا يؤمنون بما يجيئ به منه، وقد أثر عنهم عدة روايات تشرح هذه المقالة.
منها أن أحد علمائهم وهو عبد الله بن صوريا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي، فقال : هو جبريل، فقال ابن صوريا : هو عدو اليهود لأنه أنذرهم بخراب بيت المقدس فكان ما أنذر به.
ومنها أن عمر بن الخطاب دخل مدارسهم فذكر جبريل فقالوا ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وأن ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء.
ولا شك أن هذا منهم دليل على خطل الرأي وعدم التدبر، وإنما ذكره الكتاب الكريم ليستبين للناس حجج أهل الكتاب ويعرفوا مقدار مرائهم وسخفهم في جدلهم وأنهم ضعاف الأحلام قليلو التبصر في عواقب ما يقولون
الإيضاح :
لاقتران نظرياتها الاعتقادية بأدلتها، وأحكامها العملية بوجوه منافعها، فلا تحتاج إلى دليل آخر يوضحها، فهي كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى ما يظهره.
﴿ وما يكفر بها إلا الفاسقون ﴾ الذين ظهر لهم الحق فاستحبوا العمى على الهدى حسدا لمن ظهر الحق على يديه، وعنادا ومكابرة منهم.
﴿ أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ ﴾
تفسير المفردات :
والنبذ : طرح الشيء وإلقاؤه، والفريق : العدد القليل.
المعنى الجملي
ذكر قبل هذه الآيات معاذير لليهود اعتذروا بها عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الآيات البينات، كقولهم إنهم مؤمنون بكتاب من ربهم، فلا حاجة لهم بهداية غيره، فنقض دعواهم وألزمهم الحجة، وقولهم إنهم ناجون حتما في الآخرة، لأنهم شعب الله وأبناؤه فأبطل مزاعمهم ودحض حججهم.
وهنا ذكر تعلة أخرى هي أعجب من كل ما تقدم وفندها كما فند ما قبلها، تلك هي قولهم : عن جبريل الذي ينزل على محمد بالوحي عدوهم، فلا يؤمنون بما يجيئ به منه، وقد أثر عنهم عدة روايات تشرح هذه المقالة.
منها أن أحد علمائهم وهو عبد الله بن صوريا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي، فقال : هو جبريل، فقال ابن صوريا : هو عدو اليهود لأنه أنذرهم بخراب بيت المقدس فكان ما أنذر به.
ومنها أن عمر بن الخطاب دخل مدارسهم فذكر جبريل فقالوا ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وأن ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء.
ولا شك أن هذا منهم دليل على خطل الرأي وعدم التدبر، وإنما ذكره الكتاب الكريم ليستبين للناس حجج أهل الكتاب ويعرفوا مقدار مرائهم وسخفهم في جدلهم وأنهم ضعاف الأحلام قليلو التبصر في عواقب ما يقولون
الإيضاح :
العهود هنا هي عهودهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان لفظ الفريق يوهم قلة العدد مع أن الناقضين للعهد هم الأكثر أضرب عنه وقال :
﴿ بل أكثرهم لا يؤمنون ﴾ لأنهم لا عهود لهم، وهذا من أخبار الغيب، إذ أن أكثر اليهود ما آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولن يؤمنوا به، فمثل هذا الحكم لا يصدر إلا ممن يعلم خفيات الأمور.
والخلاصة – إن الله سبحانه بين في هذه الآية حالين لأهل الكتاب : أولاهما أنه لا يوثق بهم في شيء، لما عرف عن كثير منهم من نقض العهود في كل زمان، ثانيهما أنه لا يرجى إيمان أكثرهم، لأن الضلال قد استحوذ عليهم وجعلهم في طغيانهم يعمهون.
﴿ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون { ١٠١ ﴾ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ﴿ ١٠٢ ﴾ ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ﴿ ١٠٣ ﴾ }.
المعنى الجملي :
بين سبحانه في هذه الآيات حالا من أحوالهم هي علة ما يصدر عنهم من جحود وعناد ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم، هي أن فريقا منهم نبذوا كتاب الله الذي به يفخرون، حين جاء الرسول بكتاب مصدق لما بين يديه، فإن ما في كتابهم من البشارة بنبي يجيء من ولد إسماعيل لا ينطبق إلا على هذا النبي الكريم.
وليس المراد أنهم نبذوا الكتاب جملة وتفصيلا، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به وإتباعه، ولا شك أن ترك بعضه كترك كله، إذ أنه يذهب باحترام الوحي ويفتح الباب لترك الباقي.
وهذا الجحود لم يكن بضائر للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لدعوته فقد قبلها واهتدى بها كثير من اليهود ومن غيرهم.
وحين نبذوه اشتغلوا بصناعات وأعمال صادة عن الأديان من صنع شياطين الإنس والجن، فاشتغلوا بالسحر والشعوذة والطلسمات التي نسبوها إلى سليمان وزعموا أن ملكه كان قائما عليها.
وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين فصدقوهم فيما زعموا منها، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر، ولا يزال حال الدجالين من المسلمين إلى اليوم يتلون العزائم ويخطون خطوطا ويعملون طلسمات يسمونها خاتم سليمان، وعهودا يزعمون أنها تحفظ من يحملها من اعتداء الجن ومس العفاريت.
وإنما قص القرآن علينا هذا القصص للذكرى، وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر فكان صادا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود، ومن ثم لم يهتدوا بالنبي الذي بشر به كتابهم
الإيضاح
﴿ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ﴾ أي إنه حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب مصدق للتوراة التي بين أيديهم بما فيه من أصول التوحيد، وقواعد التشريع، وروائع الحكم والمواعظ، وأخبار الأمم الغابرة – نبذ فريق من اليهود كتابهم وهو التوراة، لأنهم حين كفروا بالرسول المصدق لما معهم فقد نبذوا التوراة التي فيها أن محمدا رسول الله، وأهملوها إهمالا تاما كأنهم لا يعلمون أنها من عند الله.
وقد جعل تركهم إياها وإنكارهم لها إلقاء لها وراء الظهر، لأن من يلقي الشيء وراء ظهره لا يراه فلا يتذكره.
﴿ واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ﴾
تفسير المفردات
كفر : أي سحر، والسحر : لغة كل ما لطف مأخذه وخفي سببه، وسحره : خدعه، وجاء في كلامهم : عين ساحرة وعيون سواحر، وفي الحديث :( إن من البيان لسحرا ) والإنزال : الإلهام، وسمي بذلك لأنهما ألهماه واهتديا إليه من غير معلم، والملكان : رجلان صاحبا هيبة ووقار يجلهما الناس ويحترمونهما، وبابل : بلد بالعراق لها شهرة تاريخية قديمة، والخلاق : النصيب والحظ، وشروا : أي باعوا.
المعنى الجملي :
بين سبحانه في هذه الآيات حالا من أحوالهم هي علة ما يصدر عنهم من جحود وعناد ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم، هي أن فريقا منهم نبذوا كتاب الله الذي به يفخرون، حين جاء الرسول بكتاب مصدق لما بين يديه، فإن ما في كتابهم من البشارة بنبي يجيء من ولد إسماعيل لا ينطبق إلا على هذا النبي الكريم.
وليس المراد أنهم نبذوا الكتاب جملة وتفصيلا، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به وإتباعه، ولا شك أن ترك بعضه كترك كله، إذ أنه يذهب باحترام الوحي ويفتح الباب لترك الباقي.
وهذا الجحود لم يكن بضائر للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لدعوته فقد قبلها واهتدى بها كثير من اليهود ومن غيرهم.
وحين نبذوه اشتغلوا بصناعات وأعمال صادة عن الأديان من صنع شياطين الإنس والجن، فاشتغلوا بالسحر والشعوذة والطلسمات التي نسبوها إلى سليمان وزعموا أن ملكه كان قائما عليها.
وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين فصدقوهم فيما زعموا منها، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر، ولا يزال حال الدجالين من المسلمين إلى اليوم يتلون العزائم ويخطون خطوطا ويعملون طلسمات يسمونها خاتم سليمان، وعهودا يزعمون أنها تحفظ من يحملها من اعتداء الجن ومس العفاريت.
وإنما قص القرآن علينا هذا القصص للذكرى، وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر فكان صادا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود، ومن ثم لم يهتدوا بالنبي الذي بشر به كتابهم
الإيضاح :
أي واتبع فريق من أحبار اليهود وعلمائهم الذين نبذوا التوراة تجاهلا منهم بما هم عالمون –اتبعوا السحر الذي تلته الشياطين في عهد سليمان بن داود وعملوا به، وذلك هو الخسران المبين.
وقد زعموا أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه ثم استخرجها الناس وتناقلوها، وهذا من مفتريات أهل الأهواء نسبوها إليه كذبا وبهتانا.
﴿ وما كفر سليمان ﴾ أي وما سحر، لأنه لو فعل ذلك فقد كفر، إذ كونه نبيا ينافي كونه ساحرا، فالسحر خداع وتمويه، والأنبياء مبرءون من ذلك.
﴿ ولكن الشياطين كفروا ﴾ أي ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إليه ما انتحلوه من السحر ودونوه وعلموه الناس هم الذين كفروا.
﴿ يعلمون الناس السحر ﴾ قد جاء ذكر السحر في القرآن في مواضع كثيرة ولا سيما في قصص موسى وفرعون، ووصفه بأنه خداع وتخييل للأعين حتى ترى ما ليس بكائن كائنا كما قال :﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ وقال في آية أخرى ﴿ فسحروا أعين الناس واسترهبوهم ﴾.
والآية نص صريح على أن السحر كان يعلم ويلقن، والتاريخ يؤيد هذا.
والسحر إما حيلة وشعوذة، وإما صناعة وعلم خفي يعرفه بعض الناس ويجهله الكثير منهم، ومن ثم يسمون العمل به سحرا لخفاء سببه عليهم. وقد روى المؤرخون أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصور الحيات والثعابين حتى خيل إلى الناس أنها تسعى.
وقد اعتاد الذين اتخذوه صناعة للمعاش أن يتكلموا بأسماء غريبة وألفاظ مبهمة، اشتهر بين الناس أنها من أسماء الشياطين وملوك الجن، ليوهموهم أن الجن يستجيبون دعاءهم ويسخرون لهم، وهذا هو منشأ اعتقاد العامة أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب.
ولمثل هذا تأثير في إثارة الوهم دلت التجربة على وجوده، وهو يغني منتحل السحر عن توجيه همته وتأثير إرادته فيمن يعمل له السحر.
﴿ وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ﴾ في الملكين قراءتان فتح اللام وكسرها، وهما رجلان شبها، إما بالملائكة لانفرادهما بصفات محمودة، وقد جرت العادة أن يقولوا هذا ملك وليس بإنسان، وإما بالملوك كما يقال لمن كان سيدا عزيزا يظهر الغنى عن الناس : هذا من الملوك، وكان الناس في عهد هاروت وماروت كحالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شئونهم الروحية إلا أهل السمت والوقار الذين يلبسون لباس أهل الصلاح والتقوى.
وظاهر الآية يدل على أن ما أنزل على الملكين غير السحر لكنه من جنسه، وقد ألهماه واهتديا إليه بلا أستاذ ولا معلم، وقد يسمى مثل هذا وحيا كما في قوله :﴿ وأوحى ربك إلى النحل ﴾ وقوله :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ﴾.
﴿ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ﴾ أي وما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له : إنما نحن ابتلاء من الله عز اسمه، فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم ولم يعمل به ثبت على الإيمان، فلا تكفر باعتقاده وجواز العمل به. وفي هذا إيماء إلى أن تعلم السحر وكل ما لا يجوز إتباعه والعمل به ليس محظورا، وإنما الذي يحظر ويمنع هو العمل به فحسب.
وإنما كانا يقولان ذلك إبقاء على حسن اعتقاد الناس فيهما، إذ كانا يقولان إنهما ملكان، كما نسمع الآن من الدجالين الذين يحترفون مثل ذلك لمن يعلمونهم الكتابة للحب والبغض، نوصيك بألا تكتب هذا لجلب امرأة إلى حب غير زوجها ولا تكتب لأحد الزوجين أن يبغض الآخر، بل تجعل ذلك للمصلحة العامة كالحب بين الزوجين، والتفريق بين عاشقين فاسقين، وهذا منهم إيهام بأن علومهم إلهية وصناعتهم روحية.
﴿ فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ﴾ أي كانوا يتعلمون منهما ما وضع لأجل التفريق بين الزوجين، مما يسمى الآن [ كتاب البغضة ].
والآية لا ترشد إلى حقيقة ما يتعلمونه من السحر – أمؤثر بطبعه أو بسبب خفي أو بخارق من خوارق العادات، أم غير مؤثر ؟ كما أنها لم تبين نوع ما يتعلمونه، أتمائم وكتابة هو، أم تلاوة رقى وعزائم، أم أساليب سعاية، أم دسائس تنفير ونكاية، أم تأثير نفساني، أم وسواس شيطاني ؟ فأي ذلك أثبته العلم كان تفصيلا لما أجمله القرآن ولا نتحكم في حمله على نوع منها، ولو علم الله الخير في بيانه لبينه، ولكنه وكل ذلك إلى بحوث الناس وارتقائهم في العلم، فهو الذي يجلي الغامض، ويكشف الحقائق.
﴿ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ﴾ أي إن هذين لم يعطيا شيئا من القوى الغيبية فوق ما أعطى سائر الناس، بل هي أسباب ربط الله بها مسبباتها، فإذا أصيب أحد بضرر بعمل من أعمالهم، فإنما ذلك بإذنه تعالى، فهو الذي يوجد المسببات حين حصول الأسباب :
﴿ ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ﴾ من قبل أنه سبب في إضرار الناس، وهذا مما يعاقب الله عليه، ومن عرف بإيذاء الناس أبغضوه واجتنبوه ولا نفع لهم فيه، فإنا نرى منتحلي هذه المهن من أفقر الناس وأحقرهم، وذلك حالهم في الدنيا، فما بالك بهم في الآخرة يوم يجزى كل عامل بما عمل.
﴿ ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ﴾ أي إنهم عالمون بأن من اختار هذا وقدمه على العلم بأصول الدين وأحكام الشريعة التي توصل إلى السعادة في الدارين فليس له حظ في الآخرة، لأنه قد خالف حكم التوراة التي حظرت تعلم السحر، وجعلت عقوبة من اتبع الجن والشياطين والكهان كعقوبة عابدي الأصنام والأوثان.
﴿ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ﴾ أي ولبئس ما باعوا به أنفسهم السحر، وعبر عن بيع الإيمان يبيع النفس، لأنها إنما خلقت لمعرفة الدين والعمل به، أي أنهم لو كانوا يعلمون حرمة السحر علما يصدر عن اعتقاد له أثر في النفس ويصدقون بما توعد به مرتكبه من العقوبة – لما ارتكبوه ولا أصروا عليه، لكنهم خانهم هذا النوع من العلم واكتفوا بعلم مبهم لا أثر له في النفس، فتسرب إليهم كثير من التأويل والتحريف لنصوص التوراة.
وهذا هو ما يفعل مثله بعض المسلمين اليوم، إذ ينتهكون بعض حرمات الدين بمثل تلك التأويلات، فيمنعون الزكاة بحيلة، ويأكلون أموال الناس بحيلة أخرى، ويشهدون الزور بحيلة ثالثة وهكذا.
﴿ ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ﴾
المعنى الجملي :
بين سبحانه في هذه الآيات حالا من أحوالهم هي علة ما يصدر عنهم من جحود وعناد ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم، هي أن فريقا منهم نبذوا كتاب الله الذي به يفخرون، حين جاء الرسول بكتاب مصدق لما بين يديه، فإن ما في كتابهم من البشارة بنبي يجيء من ولد إسماعيل لا ينطبق إلا على هذا النبي الكريم.
وليس المراد أنهم نبذوا الكتاب جملة وتفصيلا، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به وإتباعه، ولا شك أن ترك بعضه كترك كله، إذ أنه يذهب باحترام الوحي ويفتح الباب لترك الباقي.
وهذا الجحود لم يكن بضائر للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لدعوته فقد قبلها واهتدى بها كثير من اليهود ومن غيرهم.
وحين نبذوه اشتغلوا بصناعات وأعمال صادة عن الأديان من صنع شياطين الإنس والجن، فاشتغلوا بالسحر والشعوذة والطلسمات التي نسبوها إلى سليمان وزعموا أن ملكه كان قائما عليها.
وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين فصدقوهم فيما زعموا منها، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر، ولا يزال حال الدجالين من المسلمين إلى اليوم يتلون العزائم ويخطون خطوطا ويعملون طلسمات يسمونها خاتم سليمان، وعهودا يزعمون أنها تحفظ من يحملها من اعتداء الجن ومس العفاريت.
وإنما قص القرآن علينا هذا القصص للذكرى، وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر فكان صادا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود، ومن ثم لم يهتدوا بالنبي الذي بشر به كتابهم
الإيضاح :
أي ولو أنهم آمنوا الإيمان الحق بكتابهم، وفيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر بإتباعه، واتقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه – لكان هذا الثواب العظيم الذي ينتظرونه من الله جزاء على أعمالهم الصالحة خيرا لهم من كل ما يتوقعون من المنافع والمصالح الدنيوية.
﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ أي إنهم ليسوا على شيء من العلم الصحيح، إذ لو كان كذلك لظهرت نتائجه في أعمالهم، ولآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوه وصاروا من المفلحين لكنهم يتبعون الظن ويعتمدون على التقليد، ومن جراء هذا خالفوا الكتاب وساروا وراء أهوائهم وشهواتهم فوقعوا في الضلال البعيد.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم { ١٠٤ ﴾ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴿ ١٠٥ ﴾ }.
تفسير المفردات
راعنا : أي راعنا سمعك أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه، وانظرنا : أي وأمهلنا وانتظر ما يكون من شأننا.
المعنى الجملي
هذا خطاب وجه إلى المؤمنين في شأن له اتصال باليهود، وبه انتقل من الأحاديث الخاصة بهم إلى حديث مشترك بينهم وبين المؤمنين والنصارى في أمر من أمور الدين
الإيضاح
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا، وقولوا انظرنا واسمعوا ﴾ نهى سبحانه الصحابة عن كلمة كانت تدور على ألسنتهم، حين خطابهم النبي صلى الله عليه وسلم وهي كلمة ﴿ راعنا ﴾ ومعناها راعنا سمعك : أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه ونراجعك القول لنفهمه عنك، وانظرنا : أي راقبنا وانتظر ما يكون من شأننا في حفظ ما تلقيه علينا وفهمه.
وسبب نهيهم عنها أن اليهود لما سمعوها افترصوها وصاروا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم لاوين بها ألسنتهم لموافقة جرسها العربي لكلمة ﴿ راعينو ﴾ العبرية التي معناها ﴿ شرير ﴾ فأرشد الله نبيه الكريم لذلك، وأمر أصحابه أن يقولوا ﴿ انظرنا ﴾ وهي خير منها وأخف لفظا، وتفيد معنى الإنظار والإمهال، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين، إذ تقول : نظرت الشيء ونظرت إليه إذا وجهت إليه بصرك ورأيته.
﴿ وللكافرين عذاب أليم ﴾ الكافرون هنا هم اليهود، وفي التعبير به إيماء إلى أن ما صدر منهم من سوء الأدب في خطابه صلى الله عليه وسلم كفر لا شك فيه، لأن من يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شرير، فقد أنكر نبوته وأنه موحى إليه من قبل ربه، ومتى فعل ذلك فقد كفر واستحق العذاب الأليم.
قال الأستاذ الإمام : إن هذا التأديب ليس خاصا بمن في عصره من المؤمنين بل يعم من جاء بعدهم أيضا، فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم وكان يجب عليهم الاستماع له والإنصات لتدبره – هو الذي يتلى علينا بعينه لم يذهب منه شيء، وهو كلام الله الذي به كان الرسول رسولا تجب طاعته والاهتداء بهديه – فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون ؟ إنهم يلغطون في مجلس القرآن فلا يستمعون ولا ينصتون ومن أنصت واستمع فإنما ينصت طربا بالصوت واستلذاذا بتوقيع نغمات القارئ، وإنهم ليقولون في استحسان ذلك واستجادته ما يقولون في مجالس الغناء، ويهتزون للتلاوة ويصوتون بأصوات مخصوصة كما يفعلون عند سماع الغناء بلا فرق، ولا يلتفتون إلى شيء من معانيه إلا ما يرونه مدعاة لسرورهم في مثل قصة يوسف عليه السلام، مع الغفلة عما فيها من العبرة وإعلاء شأن الفضيلة، ولا سيما العفة والأمانة، أليس هذا أقرب إلى الاستهانة بالقرآن منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة وأمثالها ؟ ﴿ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ﴾ اه.
﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ﴾
تفسير المفردات :
والمودة : محبة الشيء وتمني حصوله.
المعنى الجملي
هذا خطاب وجه إلى المؤمنين في شأن له اتصال باليهود، وبه انتقل من الأحاديث الخاصة بهم إلى حديث مشترك بينهم وبين المؤمنين والنصارى في أمر من أمور الدين
الإيضاح :
أي إن الذين عرفتم شأنهم مع أنبيائهم من أهل الكتاب حسدة لكم لا يودون أن ينزل عليكم خير من ربكم، والكتاب الكريم أعظم الخيرات فهو الهداية العظمى، به جمع الله شملكم ووحد شعوبكم وقبائلكم، وطهر عقولكم من زيغ الوثنية، وأقامكم على سنن الفطرة، وكذلك المشركون إذ يرون في نزول القرآن على طريق التتابع الوقت بعد الوقت قوة للإسلام ورسوخا لقواعده، وتثبيتا لأركانه وانتشارا لهديه، وهم يودون أن تدور عليكم الدوائر، وينتهي أمركم ويزول دينكم من صفحة الوجود.
﴿ والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾ أي إن حسد الحاسد يدل على أنه ساخط على ربه معترض عليه، لأنه أنعم على المحسود بما أنعم، والله لا يضيره سخط الساخطين، ولا يحول مجاري نعمته حسد الحاسدين، فهو يختص من يشاء برحمته متى شاء، وهو ذو الفضل العظيم على من اختاره للنبوة، وهو صاحب الإحسان والمنة وكل عباده غارق في بحار نعمته، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا على خير أصابه، وفضل أوتيه من عند ربه.
﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير { ١٠٦ ﴾ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴿ ١٠٧ ﴾ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ؟ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ﴿ ١٠٨ ﴾ }.
تفسير المفردات
النسخ في اللغة الإزالة، يقال نسخت الشمس الظل : أي أزالته، والإنساء : إذهاب الآية من ذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد تبليغها إياه.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له جملة – بين سر نسخه وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يعلم فيه من المصلحة، ثم ينهى عنه لما يرى في ذلك من الخير حينئذ، فأطيعوا أمره واتبعوا رسله في تصديق ما به أخبروا، وترك ما عنه زجروا.
روى أن هذه الآيات نزلت حين قال المشركون أو اليهود، ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فقد أمر في حد الزاني بإيذاء الزانيين باللسان حيث قال :﴿ فآذنوهما ﴾ ثم غيره وأمر بإمساكهن في البيوت حيث قال :
﴿ فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ﴾ ثم غيره بقوله :﴿ فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾.
فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضا، ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين ليضعفوا عزيمة من يريد الدخول فيه وينضوي تحت لوائه
الإيضاح
﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ﴾ النسخ في لسان الشرع : بيان انتهاء الحكم المستفاد من الآية المتلوة، وحكمته أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا شرع حكم في وقت كانت الحاجة إليه ماسة، ثم زالت الحاجة فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته للعباد، وما مثل ذلك إلا مثل الطبيب الذي يغير الأغذية والأدوية باختلاف الأزمنة والأمزجة، والأنبياء صلوات الله عليهم هم مصلحو النفوس، يغيرون الأعمال الشرعية، والأحكام الخلقية، التي هي للنفوس بمثابة العقاقير والأدوية للأبدان، فما يكون منها مصلحة في وقت قد يكون مفسدة في وقت آخر.
وخلاصة المعنى – ما نغير حكم آية أو ننسيكه إلا أتينا بما هو خير منه لمصلحة العباد بكثرة الثواب أو مثله فيه.
قال الأستاذ الإمام : والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق أن الآية هنا ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم، أي ما ننسخ من آية نقيمها دليلا على نبوة نبي من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها، أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها، فإنا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك، ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه اه وقد سبقه إلى مثله محيي الدين بن العربي في تفسيره.
ونسخ الحكم إما أن يكون بأيسر منه في العمل، كما نسخت عدة المتوفى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، وإما بمساو له كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة عند الصلاة، وإما بأشق منه ويكون ثوابه أكثر، كما نسخ ترك القتال بإيجابه على المسلمين.
ثم أقام الدليل على إمكان النسخ فقال :
﴿ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره من المؤمنين الذين ربما كان يؤذيهم ما كان يعترض به اليهود وغيرهم على النسخ، وضعيف الإيمان يؤثر في نفسه أن يعاب ما يأخذ به، فيخشى عليه من الركون إلى الشبهة أو تدخل في قلبه الحيرة، فجاء ذلك تثبيتا لهم وتقوية لإيمانهم، ببيان أن القادر على كل شيء لا يستنكر عليه نسخ الأحكام، لأنها مما تتناولها قدرته.
ثم أقام دليلا آخر فقال :﴿ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ﴾.
تفسير المفردات :
الولي : القريب والصديق، والنصير : المعين، والفارق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير : قد يكون أجنبيا عمن ينصره.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له جملة – بين سر نسخه وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يعلم فيه من المصلحة، ثم ينهى عنه لما يرى في ذلك من الخير حينئذ، فأطيعوا أمره واتبعوا رسله في تصديق ما به أخبروا، وترك ما عنه زجروا.
روى أن هذه الآيات نزلت حين قال المشركون أو اليهود، ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فقد أمر في حد الزاني بإيذاء الزانيين باللسان حيث قال :﴿ فآذنوهما ﴾ ثم غيره وأمر بإمساكهن في البيوت حيث قال :
﴿ فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ﴾ ثم غيره بقوله :﴿ فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾.
فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضا، ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين ليضعفوا عزيمة من يريد الدخول فيه وينضوي تحت لوائه
الإيضاح :
أي إن الله تعالى له ملك السماوات والأرض وهما تحت قبضته والعباد أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام، ويقرر ما شاء منها بحسب ما يرى من الفائدة.
﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ أي ناصركم ومعينكم هو الله وحده فلا تبالوا بمن ينكر النسخ أو يعيبكم به، وليس في استطاعته أن يلحق بكم أذى.
﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ﴾
تفسير المفردات :
السؤال : الاقتراح المقصود به التعنت، وبدل وتبدل واستبدل جعل شيئا موضع آخر، وضل : عدل وجار، والسواء : من كل شيء الوسط، ومنه قوله :﴿ في سواء الجحيم ﴾ والسبيل : الطريق.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له جملة – بين سر نسخه وأبطل مقال الطاعنين فيه، بأنه تعالى يأمر بالشيء لما يعلم فيه من المصلحة، ثم ينهى عنه لما يرى في ذلك من الخير حينئذ، فأطيعوا أمره واتبعوا رسله في تصديق ما به أخبروا، وترك ما عنه زجروا.
روى أن هذه الآيات نزلت حين قال المشركون أو اليهود، ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فقد أمر في حد الزاني بإيذاء الزانيين باللسان حيث قال :﴿ فآذنوهما ﴾ ثم غيره وأمر بإمساكهن في البيوت حيث قال :
﴿ فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ﴾ ثم غيره بقوله :﴿ فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾.
فما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، يناقض بعضه بعضا، ومقصدهم من ذلك الطعن في الدين ليضعفوا عزيمة من يريد الدخول فيه وينضوي تحت لوائه
الإيضاح :
أي تريدون أن تسألوا رسولكم أن يجيئكم بآيات بينات فوق ما جاءكم به، فيكون مثلكم مثل اليهود الذين سألوا موسى ما لا يجوز سؤاله تبرما وتعنتا كقولهم :﴿ أرنا الله جهرة ﴾.
وفي هذا نصح للمسلمين أن يعملوا بما يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وينتهوا عما نهاهم عنه ولا يطلبوا منه غير ما جاءهم به.
ثم أتبع التحذير بالوعيد فقال :
﴿ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ﴾ أي ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح ويطلب غيرها تعنتا وعنادا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختار الكفر على الإيمان، واستحب العمى على الهدى، وبعد عن الحق والخير، ومن حاد عن الحق وقع في الضلال ﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾.
وسبب نزول هذه الآية أن رافع بن خزيمة ووهب بن زيد قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب من السماء نقرؤه، وفجر الأنهار نتبعك.
﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره، إن الله على كل شيء قدير { ١٠٩ ﴾ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير ﴿ ١١٠ ﴾ }.
تفسير المفردات
العفو : ترك العقاب على الذنب كما قال :﴿ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ﴾ والصفح : الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وهو يشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب، وأمر الله : نصره ومعونته.
المعنى الجملي
بعد أن نهى عز اسمه المؤمنين في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود وعدم قبول آرائهم في شيء من أمور دينهم – ذكر هنا وجه العلة في ذلك، وهي أن كثيرا منهم يودون لو ترجعون كفارا حسدا لكم ولنبيكم، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والكيد له بنقض ما عاهدهم عليه، بل يحسدونكم على نعمة الإسلام ويتمنون أن تحرموا منها.
وقد كان لأهل الكتاب حيل في تشكيك المسلمين في دينهم، فقد طلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره كي يتأسى بهم بعض ضعاف الإيمان من المسلمين، وكانوا يلقون بعض الشبه على المؤمنين ليشككوهم في دينهم
الإيضاح
﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ﴾ أي تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يصرفوكم عن توحيد الله والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويرجعوكم كفارا كما كنتم، حسدا لكم.
وفي هذا إشارة إلى أن النصح الذي يشيرون به منشؤه الحسد وخبث النفوس وسوء الطوية والجمود على الباطل – لا الغيرة على الحق وصرف الهمة في الدفاع عنه.
﴿ من بعد ما تبين لهم الحق ﴾ أي من بعد أن ظهر لهم بساطع الأدلة أن محمدا على الحق بما جاء به من الآيات التي تنطبق على ما يحفظونه من بشارات كتبهم بنبي يأتي آخر الزمان.
﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ أي فعاملوهم بأحاسن الأخلاق من العفو عن مذنبهم بترك عقابه، والصفح عنه بترك لومه وتعنيفه حتى يأتي نصر الله لكم بمعونته وتأييده.
وقد يكون المعنى – حتى يأتي أمر الله ونصره، وقد تحقق ذلك بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير من المدينة بعد أن غدروا ونقضوا العهد بموالاة المشركين بعد أن عفا عنهم وصفح مرات كثيرات.
وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر، فكأنه يقول لهم : لا تغرنكم كثرة أهل الكتاب مع باطلهم، فأنتم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، وأهل الحق مؤيدون بعناية الله، ولهم العزة ما ثبتوا عليه.
﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ أي فالله هو القادر على أن يهبكم من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، ويثبتكم بما أنتم عليه من الحق فتتغلبوا على من يناوئكم ويظهر لكم العدوان اغترارا بكثرته، واعتزازا بقوته :﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾.
ثم ذكر سبحانه بعض الوسائل التي تحقق النصر الذي وعدوا به فقال :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾.
المعنى الجملي
بعد أن نهى عز اسمه المؤمنين في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود وعدم قبول آرائهم في شيء من أمور دينهم – ذكر هنا وجه العلة في ذلك، وهي أن كثيرا منهم يودون لو ترجعون كفارا حسدا لكم ولنبيكم، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والكيد له بنقض ما عاهدهم عليه، بل يحسدونكم على نعمة الإسلام ويتمنون أن تحرموا منها.
وقد كان لأهل الكتاب حيل في تشكيك المسلمين في دينهم، فقد طلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره كي يتأسى بهم بعض ضعاف الإيمان من المسلمين، وكانوا يلقون بعض الشبه على المؤمنين ليشككوهم في دينهم
الإيضاح :
لما في الصلاة من توثيق عرا الإيمان، وإعلاء الهمة، ورفعة النفس بمناجاة الله، وتأليف قلوب المؤمنين حين الاجتماع لأدائها، وتعارفهم في المساجد، وبهذا ينمو الإيمان، وتقوى الثقة بالله، وتتنزه النفس أن تأتي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتكون أقوى نفاذا في الحق، فتكون جديرة بالنصر، ولما في الزكاة من توكيد الصلة بين الأغنياء والفقراء، فتتحقق وحدة الأمة وتكون كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تألم باقي الأعضاء بالحمى والسهر.
وقد جرت سنة القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع، إلى أن المال شقيق الروح، فمن جاد به ابتغاء مرضاة الله سهل عليه بذل نفسه في سبيل الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته.
وبعد أن أبان أن الصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا أردف هذا ببيان أنهما من أسباب السعادة في الآخرة أيضا فقال :
﴿ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ﴾ أي وما تعملوا من خير تجدوا جزاءه عند ربكم يوم توفى كل نفس جزاء عملها بالقسطاس المستقيم.
ونحو الآية قوله :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ﴾.
ونسب إلى العمل والذي يوجد هو جزاؤه، لما للعمل من أثر في نفس العامل، فكأن الجزاء بمثابة العمل نفسه.
ثم ختم الآية بما يحث المرء على الإحسان في العمل فقال :
﴿ إن الله بما تعملون بصير ﴾ فهو عالم بجميع أعمالكم كثيرها وقليلها، لا تخفى عليه خافية من أمركم، خيرا كانت أو شرا وهو مجازيكم عليها.
ولا يخفى ما في هذا من الترغيب والترهيب.
ومن مواعظ علي كرم الله وجهه أنه كان إذا دخل المقبرة قال : السلام عليكم أهل هذه الديار الموحشة، والمحال المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات – ثم قال : أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما عندكم ؟ والذي نفسي بيده لو أن لهم في الكلام لقالوا : إن خير الزاد التقوى.
وفي الحديث الصحيح :( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) والأول يشمل بناء المساجد ومعاهد العلم والمستشفيات والملاجئ، والأحباس على المعوزين والمحتاجين، والثاني : ينضوي تحته ما يخلفه الإنسان من تصنيف نافع، أو تعليم للعلوم الدينية.
وقيد الولد بكونه صالحا، لأن الأجر لا يحصل من غيره، أما الوزر فلا يلحق الأب سيئة ابنه.
﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين { ١١١ ﴾ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴿ ١١٢ ﴾ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴿ ١١٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
الأماني : واحدها أمنية وهي ما يتمناه المرء ولا يدركه، والعرب تسمي كل ما لا حجة عليه ولا برهان له تمنيا وغرورا، وضلالا وأحلاما.
المعنى الجملي
ذكر عز اسمه في هذه الآية حالين من أحوال اليهود، أولاهما : تضليل من عداهم وادعائهم أن الحق لا يعدوهم، وأن النبوة مقصورة عليهم، وثانيتهما : تضليل اليهود للنصارى وتضليل النصارى لهم كذلك، مع أن كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمم لكتاب اليهود.
والعبرة من هذا القصص – أنهم قد صاروا إلى حال من إتباع الأهواء لا يعتد معها بقول أحد منهم لا في نفسه ولا في غيره، فطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن الإيمان به لا يثبت دعواهم في أنه مخالف للحق، فاليهود قد كفروا بعيسى وقد كانوا ينتظرونه، والنصارى كفروا بموسى ورفضوا التوراة وهي حجتهم على دينهم، فكيف بعدئذ يعتد برأيهم في محمد صلى الله عليه وسلم وهو من غير شعبهم، وجاء بشريعة نسخت شرائعهم.
وسبب نزول الآيات أن يهود المدينة تماروا مع وفد نصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم وكذب بعضهم بعضا، فقال اليهود لبني نجران : لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت بنو نجران لليهود : لن يدخل الجنة إلا النصارى – وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح – فعقيدة كل من الفريقين في الآخر كذلك
الإيضاح
﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ أي وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى كذلك، وهذه آراء الفريقين إلى يومنا هذا.
﴿ تلك أمانيهم ﴾ أي هذه الأمنية السالفة التي تشمل أماني كثيرة، كنجاتهم من العذاب ووقوع أعدائهم فيه، وحرمانهم من النعيم.
﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ أي قل لكلا الفريقين هاتوا البرهان على ما تزعمون، وهذا وإن كان ظاهره طلب الدليل على صدق المدعى، فهو في عرف التخاطب تكذيب له، لأنه برهان لهم عليه.
وفي هذا إيماء إلى أنه لا يقبل من أحد قول لا برهان عليه، والقرآن ملئ بالاستدلال على القدرة والإرادة والوحدانية بالآيات الكونية والأدلة العقلية، كقوله :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾.
﴿ بلى ﴾
المعنى الجملي
ذكر عز اسمه في هذه الآية حالين من أحوال اليهود، أولاهما : تضليل من عداهم وادعائهم أن الحق لا يعدوهم، وأن النبوة مقصورة عليهم، وثانيتهما : تضليل اليهود للنصارى وتضليل النصارى لهم كذلك، مع أن كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمم لكتاب اليهود.
والعبرة من هذا القصص – أنهم قد صاروا إلى حال من إتباع الأهواء لا يعتد معها بقول أحد منهم لا في نفسه ولا في غيره، فطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن الإيمان به لا يثبت دعواهم في أنه مخالف للحق، فاليهود قد كفروا بعيسى وقد كانوا ينتظرونه، والنصارى كفروا بموسى ورفضوا التوراة وهي حجتهم على دينهم، فكيف بعدئذ يعتد برأيهم في محمد صلى الله عليه وسلم وهو من غير شعبهم، وجاء بشريعة نسخت شرائعهم.
وسبب نزول الآيات أن يهود المدينة تماروا مع وفد نصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم وكذب بعضهم بعضا، فقال اليهود لبني نجران : لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت بنو نجران لليهود : لن يدخل الجنة إلا النصارى – وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح – فعقيدة كل من الفريقين في الآخر كذلك
الإيضاح :
كلمة تذكر جوابا لإثبات نفي سابق، وردا لما زعموه فهي مبطلة لقولهم :﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ أي بلى إنه يدخلها من لم يكن هودا ولا نصارى، إذ رحمة الله لا تختص بشعب دون شعب، بل كل من عمل لها وأخلص في عمله، فهو من أهلها.
﴿ من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ﴾
تفسير المفردات :
وإسلام الوجه لله هو الانقياد والإخلاص له في العمل بحيث لا يجعل العبد بينه وبين ربه وسطاء يقربونه إليه زلفى.
الإيضاح :
أي كل من انقاد لله وأخلص في عمله، فله أجران على ذلك عند ربه الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.
والآية ترشد إلى أن الإيمان الخالص لا يكفي وحده للنجاة، بل لا بد أن يقرن بإحسان العمل، وقد جرت سنة القرآن إذا ذكر الإيمان أردفه عمل الصالحات كقوله :﴿ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ﴾ وقوله :﴿ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ﴾.
﴿ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي إن الذين أسلموا وجوههم لله وأحسنوا العمل لا تساور نفوسهم مخاوف ولا أحزان، كما تختلج صدور الذين أشرب قلوبهم حب الوثنية، وأعرضوا عن الهداية، إذ من طبيعة المؤمن أنه إذا أصابه مكروه بحث عن سببه واجتهد في تلافيه، فإن لم يمكنه دفعه فوض أمره إلى ربه، ولم يضطرب ولم تهن له عزيمة، علما منه بأنه قد ركن إلى القوة القادرة على دفع كل مكروه، وتوكل على من بيده دفع كل محظور.
أما عابدو الأوثان والأصنام فهم في خوف مما يستقبلهم، وحزن مما ينزل بهم، فإذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم داخلهم الهلع ولم يستطيعوا صبرا على البأساء، وهم يستخذون للدجالين والمشعوذين، ويعتقدون بسلطة غيبية لكل من يعمل عملا لا يهتدون إلى معرفة سببه.
ثم ذكر مقال كل من الفريقين في الآخر :﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ﴾
تفسير المفردات :
يقال فلان ليس على شيء من كذا : أي ليس على شيء منه يعتد به ويؤبه به.
المعنى الجملي
ذكر عز اسمه في هذه الآية حالين من أحوال اليهود، أولاهما : تضليل من عداهم وادعائهم أن الحق لا يعدوهم، وأن النبوة مقصورة عليهم، وثانيتهما : تضليل اليهود للنصارى وتضليل النصارى لهم كذلك، مع أن كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمم لكتاب اليهود.
والعبرة من هذا القصص – أنهم قد صاروا إلى حال من إتباع الأهواء لا يعتد معها بقول أحد منهم لا في نفسه ولا في غيره، فطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن الإيمان به لا يثبت دعواهم في أنه مخالف للحق، فاليهود قد كفروا بعيسى وقد كانوا ينتظرونه، والنصارى كفروا بموسى ورفضوا التوراة وهي حجتهم على دينهم، فكيف بعدئذ يعتد برأيهم في محمد صلى الله عليه وسلم وهو من غير شعبهم، وجاء بشريعة نسخت شرائعهم.
وسبب نزول الآيات أن يهود المدينة تماروا مع وفد نصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم وكذب بعضهم بعضا، فقال اليهود لبني نجران : لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت بنو نجران لليهود : لن يدخل الجنة إلا النصارى – وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح – فعقيدة كل من الفريقين في الآخر كذلك
الإيضاح :
أي ليسوا على شيء من الدين يعتد به، فهم قد كفروا بالمسيح مع أنهم يتلون التوراة التي تبشر به وتذكر من الأوصاف ما لا ينطبق إلا عليه، ولا يزالون إلى اليوم يدعون أن المسيح المبشر به فيها لما يأت بعد، وينتظرون ظهوره وإعادته الملك إلى شعب إسرائيل.
﴿ وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ﴾ أي ليسوا على شيء من الدين الصحيح، ومن ثم أنكروا نبوة المسيح المتمم لشريعتهم.
﴿ وهم يتلون الكتاب ﴾ أي قالوا ذلك وكتاب كل من الفريقين ينطق بغير ما يعتقدون، فالتوراة تبشر برسول منهم يأتي بعد موسى، لكنهم خالفوها ولم يؤمنوا به، والإنجيل يقول : إنه ﴿ المسيح ﴾ جاء متمما لناموس موسى لا ناقضا له، وهم قد نقضوه.
والخلاصة – إن دينهم واحد ترك بعضهم أوله، وبعضهم آخره ولم يؤمن به كله أحد منهم، والكتاب الذي يتلونه حجة عليهم شاهد على كذبهم.
ثم بين أنهم ليسوا ببدع فيما يقولون، بل قبلهم أمم قالت مثل مقالتهم.
﴿ كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ﴾ أي مثل هذا القول الذي لم يكن على برهان، قال الجهلة من عبدة الأوثان لأهل كل دين : لستم على شيء، والحق وراء هذه المزاعم، فهو إيمان خالص وعمل صالح لو عرفه الناس حق المعرفة لما تفرقوا ولا اختلفوا في أصوله، لكنهم تعصبوا لأهوائهم فاختلفوا فيه وتفرقوا طرائق قددا.
﴿ فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ فهو العليم بما عليه كل فريق
من حق أو باطل، فيحق الحق ويجعل أهله في النعيم ويبطل الباطل، ويلقي أهله في سواء الجحيم.
﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ؟ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم { ١١٤ ﴾ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ﴿ ١١٥ ﴾ وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض، كل له قانتون ﴿ ١١٦ ﴾ بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴿ ١١٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
الاستفهام هنا للإنكار ويفيد النفي، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه كما تقدم، والمسجد : موضع العبادة لله تعالى، والمراد بخزي الدنيا الهوان والذل فيها
المعنى الجملي
يشير سبحانه في هذه الآيات إلى ما وقع من تيطس الروماني إذ دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة وخربها حتى لم يبق منها حجرا على حجر، وهدم هيكل سليمان عليه السلام حتى لم يترك إلا بعض جدران مبعثرة وأحرق بعض نسخ التوراة، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك، وكان هذا بإيعاز وتحريض من المسيحيين انتقاما منهم إذ أخرجوهم من ديارهم، وتحقيقا لوعيد المسيح، فتسللوا لواذا على قلتهم حتى وصلوا إلى رومية، فحرضوا تيطس على غزوهم في بلادهم وكان له هوى في ذلك، فأجابهم إلى ما طلبوا وكان منه ما علمت
الإيضاح
﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ﴾ أي وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله ومخالفة لأمره، من امرئ منع من العبادة في المساجد، وسعى في خرابها بهدمها أو تعطيل شعائر الدين فيها، لما في ذلك من انتهاك حرمة الأديان المؤدي إلى نسيان الخالق، وفشو المنكرات بين الناس، ونشر الفساد في الأرض.
﴿ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ﴾ أي أولئك المانعون ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع، فكيف بهم دخلوها مفسدين ومخربين، فما كانت عبادة الله إلا نافعة للبشر، وما كان تركها إلا ضارا لهم.
وقد توعدهم الله على ظلمهم بقوله :
﴿ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ فخزي الدنيا بما يعقبه الظلم من الفساد المؤدي إلى الذل والهوان، ولا ظلم أكبر من إبطال العبادة من المساجد والسعي في خرابها، وقد تحق ما أوعد به الله فحل بالرومانيين الخزي في الدنيا فتقسمت دولتهم، وتشتت ملكهم، ولحقهم الذل والهوان على يد غيرهم من الأمم القوية الفاتحة، وعذاب الآخرة هو ما أعده الله للفجار في جهنم وبئس القرار.
﴿ ولله المشرق والمغرب ﴾
تفسير المفردات :
الوجه : الجهة : فثم : أي هناك، واسع : أي لا يحصر ولا يتحدد.
المعنى الجملي
يشير سبحانه في هذه الآيات إلى ما وقع من تيطس الروماني إذ دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة وخربها حتى لم يبق منها حجرا على حجر، وهدم هيكل سليمان عليه السلام حتى لم يترك إلا بعض جدران مبعثرة وأحرق بعض نسخ التوراة، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك، وكان هذا بإيعاز وتحريض من المسيحيين انتقاما منهم إذ أخرجوهم من ديارهم، وتحقيقا لوعيد المسيح، فتسللوا لواذا على قلتهم حتى وصلوا إلى رومية، فحرضوا تيطس على غزوهم في بلادهم وكان له هوى في ذلك، فأجابهم إلى ما طلبوا وكان منه ما علمت
الإيضاح :
أي له هاتان الجهتان المعلومتان لكل أحد، والمراد رب الأرض كلها، فهو كقوله :﴿ رب المشرقين ورب المغربين ﴾.
﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ أي أي مكان تستقبلونه في صلاتكم، فهناك القبلة التي يرضاها الله لكم ويأمركم بالتوجه إليها، فأينما توجه المصلي في صلاته فهو متوجه إلى الله لا يقصد بصلاته غيره، والله تعالى راض عنه مقبل عليه.
والحكمة في استقبال القبلة – أنه لما كان من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود، وهو بهذه الطريقة محال على الله – شرع للناس مكانا مخصوصا يستقبلونه في عبادتهم إياه، وجعل استقباله كاستقبال وجهه تعالى.
﴿ إن الله واسع عليم ﴾ أي إنه تعالى لا يحصر ولا يتحدد، فيصح أن يتوجه إليه في كل مكان، وهو عليم بالمتوجه إليه أينما كان، فاعبدوه حيثما كنتم، وتوجهوا إليه أينما حللتم، ولا تتقيدوا بالأمكنة، والمعبود غير مقيد.
وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالتوجه إلى استقبال الكعبة في الصلاة، وفيها إبطال لما كان يعتقده أرباب الملل السابقة من أن العبادة لا تصح إلا في الهياكل والمعابد، وإزالة لما قد يتوهم من أن الوعيد إنما كان على إبطالها في الأماكن المخصوصة، فأبان بها أن الوعيد إنما كان لإبطالها مطلقا، لأن الله لا تحدده الجهات، ولا تحصره الأمكنة.
﴿ وقالوا اتخذ الله ولدا ﴾
تفسير المفردات :
سبحان : كلمة تفيد التنزيه والتعجب مما يقوله أولئك الجاهلون، والقنوت : الخضوع والانقياد.
المعنى الجملي
يشير سبحانه في هذه الآيات إلى ما وقع من تيطس الروماني إذ دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة وخربها حتى لم يبق منها حجرا على حجر، وهدم هيكل سليمان عليه السلام حتى لم يترك إلا بعض جدران مبعثرة وأحرق بعض نسخ التوراة، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك، وكان هذا بإيعاز وتحريض من المسيحيين انتقاما منهم إذ أخرجوهم من ديارهم، وتحقيقا لوعيد المسيح، فتسللوا لواذا على قلتهم حتى وصلوا إلى رومية، فحرضوا تيطس على غزوهم في بلادهم وكان له هوى في ذلك، فأجابهم إلى ما طلبوا وكان منه ما علمت
الإيضاح :
فقالت اليهود : عزير ابن الله، وقالت النصارى : المسيح ابن الله، وقال المشركون : الملائكة بنات الله، ولا فارق بين أن يكون هذا القول قد صدر من جميع أفراد الأمة أو من بعضها، فإن أفرادها متكافلون في كل ما يعملون وما يقولون، مما يعود أثره من خير أو شر إلى الجميع.
﴿ سبحانه ﴾ تنزيها له تعالى أن يكون له ولد، إذ هذا الولد إما من العالم العلوي وهو السماء أو من العالم السفلي وهو الأرض، وليس شيء منهما بمجانس له عز اسمه، إلى أن السبب المقتضي للولد هو الاحتياج إلى المعونة في الحياة والقيام مقامه بعد الموت والله منزه عن ذلك.
﴿ بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ﴾ أي ليس الأمر كما زعموا، بل جميع ما في السماوات والأرض ملك له قانت لعزته، خاضع لسلطانه، منقادا لإرادته، فما وجه تخصيص واحد منهم بالإنتساب إليه وجعله ولدا مجانسا له :﴿ إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمان عبدا ﴾.
نعم إن الله يختص من يشاء من عباده بما شاء من الفضل كالأنبياء صلوات الله عليهم ولكن هذا لا يرتقي بالمخلوق إلى أن يصل إلى مرتبة الخالق.
﴿ بديع السماوات والأرض ﴾
تفسير المفردات :
البديع : بمعنى المبدع، والإبداع : هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سابق.
المعنى الجملي
يشير سبحانه في هذه الآيات إلى ما وقع من تيطس الروماني إذ دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة وخربها حتى لم يبق منها حجرا على حجر، وهدم هيكل سليمان عليه السلام حتى لم يترك إلا بعض جدران مبعثرة وأحرق بعض نسخ التوراة، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك، وكان هذا بإيعاز وتحريض من المسيحيين انتقاما منهم إذ أخرجوهم من ديارهم، وتحقيقا لوعيد المسيح، فتسللوا لواذا على قلتهم حتى وصلوا إلى رومية، فحرضوا تيطس على غزوهم في بلادهم وكان له هوى في ذلك، فأجابهم إلى ما طلبوا وكان منه ما علمت
الإيضاح :
أي موجدهما اختراعا وابتكارا لا على مثال سابق، وإذا كان هو المبدع لهما والموجد لجميع من فيهما فكيف يصح أن ينسب إليه شيء منهما على أنه مجانس له، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
﴿ وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ أي وإذا أراد إحداث أمر وإيجاده فإنما يكون موجودا فيكون، والكلام تمثيل وتشبيه لتعلق إرادته بإيجاد الشيء فيعقبه وجوده، بأمر يصدر فيعقبه الامتثال.
والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية عبر عنهما بما يقربهما من الفهم وهو أن يقول للشيء كن فيكون.
﴿ وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم، قد بينا الآيات لقوم يوقنون { ١١٨ ﴾ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴿ ١١٩ ﴾ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير ﴿ ١٢٠ ﴾ }.
تفسير المفردات
لولا : كلمة لحض الفاعل على الفعل وطلبه منه، والآية : الحجة والبرهان، والتشابه : التماثل، واليقين : هو العلم بالدليل والبرهان.
المعنى الجملي
كان الكلام فيما سلف في الرد على من أنكر الوحدانية واتخذ لله شريكا – والكلام هنا فيمن أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وطعن في الآيات التي جاء بها وتجنى بطلب آيات أخرى تعنتا وعنادا كما جاء في نحو قوله حكاية عنهم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ﴾ وقوله :﴿ لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ﴾
الإيضاح
﴿ وقال الذين لا يعلمون ﴾ من المشركين، لأنه لا كتاب لهم ولا هم أتباع نبي من الأنبياء حتى يتجلى لهم ما يليق بمقام الألوهية، وما يصح أن يعطاه الأنبياء من الآيات.
﴿ لولا يكلمنا الله ﴾ أي هلا يكلمنا الله بأنك رسوله حقا كما يكلم الملائكة، أو يرسل إلينا ملكا فيخبرنا بذلك، كما كلمك على هذا الوجه مع أنك بشر مثلنا.
وما مقصدهم من هذا إلا العناد والاستكبار وبيان أنه ليس بأحسن منهم حالا، فلم اختص بهذا الفضل من بيننا ؟
﴿ أو تأتينا آية ﴾ أي أو تأتينا ببرهان على صدقك في دعواك النبوة، ومرادهم بذلك ما حكاه الله عنهم بنحو قوله :﴿ وقالوا لن نؤمن لك ﴾ الآية.
وهذا منهم جحود لأن يكون ما أوتيه من القرآن وغيره من المعجزات آيات كافيات في إثبات ما ادعى من النبوة.
﴿ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ﴾ أي ومثل هذه الأسئلة التي يراد بها التعنت لإجلاء الحقيقة، قد قالها من قبلهم من الأمم الماضية، فقد قال اليهود لموسى :﴿ أرنا الله جهرة ﴾، ﴿ ولن نصبر على طعام واحد ﴾ إلى نحو ذلك، وقالت النصارى :﴿ هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ﴾ فهذه أقوال صدرت عنهم للتشهي واتباع الهوى تعنتا وعنادا لا للوصول إلى كشف غامض وجلاء حقيقة كما قال تعالى :﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ﴾.
ثم ذكر السبب في اتحاد مقالهم ومقال من سبقهم فقال :
﴿ تشابهت قلوبهم ﴾ أي تماثلت قلوب هؤلاء وقلوب من قبلهم في العمى والقسوة والعناد، والألسنة ترجمان القلوب، والقلب إذا استحكم فيه الكفر والعمى لا يجري على لسان صاحبه إلا ما ينبئ بالتباعد عن الإيمان من معاذير لا تجدي، وتعلات لا تفيد.
فالحق واحد، ومخالفته هي الضلال وهو واحد وإن تعددت طرقه واختلفت وجوهه، وآثاره تتشابه حين تصدر عن الضالين حتى كأنهم متواصون به فيما بينهم كما قال تعالى :﴿ أتواصوا به بل هم قوم طاغون ﴾.
﴿ قد بينا الآيات لقوم يوقنون ﴾ أي إننا لم نتركك بلا آية، بل بينا للناس الآيات على يديك بما لا يدع مجالا للريب لدى طالبي الحق بالدليل والبرهان، ولديهم الاستعداد للعلم واليقين، ولن يكون هذا إلا لمن صفت نفوسهم، وسلموا من العناد والمكابرة اللذين يمنعان من وصول نور الحق إلى القلوب، وقد كان كبار الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يظهر لهم دليله، لأنهم طبعوا على معرفة الحق بالبينة.
﴿ إنا أرسلناك بالحق ﴾
تفسير المفردات :
الحق : هو الشيء الثابت المتحقق الذي لا شك فيه.
المعنى الجملي
كان الكلام فيما سلف في الرد على من أنكر الوحدانية واتخذ لله شريكا – والكلام هنا فيمن أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وطعن في الآيات التي جاء بها وتجنى بطلب آيات أخرى تعنتا وعنادا كما جاء في نحو قوله حكاية عنهم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ﴾ وقوله :﴿ لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ﴾
الإيضاح :
أي إنا أرسلناك بالشيء الثابت الذي لا تضل فيه الأوهام، يسعد من أخذ به، ويثلج قلبه بروح اليقين، وهذا شامل للعقائد المطابقة للواقع، وللشرائع التي توصل صاحبها إلى سعادة المعاش والمعاد.
﴿ بشيرا ونذيرا ﴾ أي لتبشر من أطاع، وتنذر من عصى، لا لتجبر على الإيمان، فلا عليك إن أصروا على الكفر والعناد ﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾.
﴿ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾ أي فلا يضرك تكذيب المكذبين الذين يساقون بجحودهم إلى الجحيم، فأنت لم تبعث ملزما ولا جبارا، فتكون مقصرا إن لم يؤمنوا، بل بعثت معلما وهاديا بالدعوة وحسن الأسوة، كما قال :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾.
وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يضيق صدره كما قال تعالى :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ﴾.
﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ﴾
المعنى الجملي
كان الكلام فيما سلف في الرد على من أنكر الوحدانية واتخذ لله شريكا – والكلام هنا فيمن أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وطعن في الآيات التي جاء بها وتجنى بطلب آيات أخرى تعنتا وعنادا كما جاء في نحو قوله حكاية عنهم ﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ﴾ وقوله :﴿ لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ﴾
الإيضاح :
الطريقة المشروعة للعباد تسمى ملة، لأن الأنبياء أملوها وكتبوها لأمتهم، وتسمى دينا، لأن العباد انقادوا لمن سنها، وتسمى شريعة لأنها مورد للمتعطشين إلى ثواب الله ورحمته.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجو أن يبادر أهل الكتاب إلى الإيمان به، ومن ثم كبر عليه إعراضهم عن إجابة دعوته، وإلحافهم في مجاحدته، مع موافقتهم له في أصل دينهم، من توحيد الله وتقويم ما اعوج من الفطرة الإنسانية، بما طرأ عليها من التقاليد الفاسدة بالمعارف الدينية الصالحة إلى أقصى حد مستطاع.
وفي الآية تيئيس له عليه السلام من طمعه في إسلامهم، إذ علق رضاهم عنه بما هو مستحيل أن يكون، وهو اتباع ملتهم والدخول في دينهم، لأنهم اتخذوا الدين جنسية لا يرضون عن أحد إلا إذا دخل في حظيرتها، وانضوى تحت لوائها.
وكلامهم هذا يتضمن أن ملتهم هي الهدى لا ما سواها، ومن ثم رد الله عليهم بقوله آمرا نبيه.
﴿ قل إن هدى الله هو الهدى ﴾ أي إن الهدى هو ما أنزل الله على أنبيائه، لا ما أضافه إليه اليهود والنصارى بالهوى والتشهي، ففرقوا وكانوا شيعا، كل شيعة تكفر الأخرى وتقول إنها ليست على شيء.
﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ﴾ أي ولئن اتبعت ما أضافوه إلى دينهم وجعلوه أصلا من أصول شريعتهم بعد ما حصل لك من اليقين والطمأنينة بالوحي الإلهي الذي نزل عليك، ومنه علمت أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويل، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به.
﴿ مالك من الله من ولي ولا نصير ﴾ أي فالله لا ينصرك ولا يساعدك على ذلك، إذ أن اتباع الهوى لا يكون طريقا موصلا إلى الهدى، وإذا لم ينصرك الله ويتول شئونك فمن ذا الذي ينصرك من بعده ؟
وهذا الإنذار الشديد والوعيد والتهديد وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي عصمه الله من الزيغ والزلل وأيده بالكرامة، هو في الحقيقة خطاب للناس كافة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جرى العرف في خطاب الملوك أن يقال للملك : إذا فعلت كذا كانت العاقبة كذا، ويراد إذا فعلته دولتك أو أمتك.
والكلام هنا جاء على هذا لأسلوب ليرشد من يأتي بعده أن يصدع بالحق، وينتصر له ولا يبالي بمن خالفه مهما قوى حزبه واشتد أمره، فمن عرف الحق وعرف أن الله ولي أمره وناصره لا يخاف في تأييده لوم اللائمين، ولا إنكار المعاندين.
﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون { ١٢١ ﴾ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ﴿ ١٢٢ ﴾ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ﴿ ١٢٣ ﴾ }.
المعنى الجملي
هذه الآيات سيقت استدراكا على ما قبلها، فإن ما تقدم كان تيئيسا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من إيمان أهل الكتاب وسلب ما كان يخالج نفوسهم من الرجاء، وهنا أرشد إلى أن فريقا منهم يرجى إيمانهم وهم الذين يتدبرون كتابهم ويميزون بين الحق والباطل ويفهمون أسرار الدين ويعلمون أن ما جئت به هو الحق الذي يتفق مع مصالح البشر، فهو الذي يهذب نفوسهم، ويصفي أرواحهم، وينظم معايشهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وبعد أن أقام عليهم الحجة دعاهم وناداهم وطلب إليهم أن يتركوا الغرور المانع لهم من الإيمان، إذ لا ينبغي لمن كرمه الله وفضله على غيره من الشعوب أن يكون حظه من كتابه كحظ الحمار يحمل أسفارا
الإيضاح
﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ﴾ أي ومن أهل الكتاب طائفة تقرأ التوراة قراءة تأخذ بمجامع قلوبهم، وتدخل في شغاف أفئدتهم، فيراعون ضبط لفظها ويتدبرون معناها، ويفقهون أسرارها وحكمها، أولئك هم الذين يعقلون أن ما جئت به هو الحق، فيؤمنون به ويهتدون بهديه إلى سواء السبيل كعبد الله بن سلام وأضرابه ممن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ﴾ أي ومن يكفر بما أنزل إليك بعد أن تبين له أنه الحق من الرؤساء المعاندين، والجهال المقلدين ﴿ وكثير ما هم ﴾ فأولئك هم الذين خسروا سعادة الدنيا والمجد والسيادة التي يعطيها الله من ينصر دينه، كما قال تعالى :﴿ ولينصرن الله من ينصره ﴾ وخسروا نعيم الآخرة، وحق عليهم العذاب الذي أعده الله لكافرين.
وكفرانهم به آت إما بتحريف كتابهم المبشر به حتى لا تنطبق البشارة عليه، ليوافق أهواءهم، وإما بإهماله اكتفاء بقول علمائهم الذين أضافوا إلى التوراة ما شاءوا ليشتروا به ثمنا قليلا.
وفي الآية إيماء إلى أن الذين يتلون الكتاب دون أن يتدبروا معانيه، لا حظ لهم من الإيمان، لأنهم لا يفقهون هداية الله فيه، ولا تصل العظة إلى أفئدتهم بتلاوته.
وفي هذا عبرة لنا كما قال :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ فينبغي أن يكون ذلك حافزا لنا في تدبر القرآن وفهمه، لا قراءته لمجرد التلاوة كما قال تعالى :﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ﴾ وقال :﴿ ليتدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ﴾.
ولكن وا أسفا إن كل هذه الآيات والعبر لم حل بين هذه الأمة وتقليدها من قبلها وحذوها حذوهم شبرا فشبرا وباعا فباعا، والقرآن حجة عليها كما جاء في الحديث ( والقرآن حجة لك أوعليك ).
ومن يتله وهو معرض عن تدبره والتأمل في العبرة منه يكن كالمستهزئ بربه، وما مثله إلا مثل من يرسل كتابا إلى آخر لغرض خاص فيقرؤه المرسل إليه مثنى وثلاث ورباع، ويترنم به ولا يلتفت إلى معناه، ولا يكلف نفسه إجابة ما طلب فيه، أيرضى المرسل بمثل هذا ويكتفي به عن إجابة طلبه أم يعده استهزاء به ؟
فعلى المؤمن في كل زمان ومكان أن يتلو القرآن بالتدبر والفهم والعمل بما فيه، فإن كان أميا أو أعجميا فإنه ينبغي أن يطلب من أهل الذكر أن يفهموه معناه ويشرحوا له مغزاه.
﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ﴾
المعنى الجملي
هذه الآيات سيقت استدراكا على ما قبلها، فإن ما تقدم كان تيئيسا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من إيمان أهل الكتاب وسلب ما كان يخالج نفوسهم من الرجاء، وهنا أرشد إلى أن فريقا منهم يرجى إيمانهم وهم الذين يتدبرون كتابهم ويميزون بين الحق والباطل ويفهمون أسرار الدين ويعلمون أن ما جئت به هو الحق الذي يتفق مع مصالح البشر، فهو الذي يهذب نفوسهم، ويصفي أرواحهم، وينظم معايشهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وبعد أن أقام عليهم الحجة دعاهم وناداهم وطلب إليهم أن يتركوا الغرور المانع لهم من الإيمان، إذ لا ينبغي لمن كرمه الله وفضله على غيره من الشعوب أن يكون حظه من كتابه كحظ الحمار يحمل أسفارا
الإيضاح :
هذا عظة لليهود الذين كانوا في عصر التنزيل، وتذكير لهم بما سلف من نعمة الله على آبائهم بإنقاذهم من أيدي عدوهم وإنزاله المن والسلوى عليهم، وتمكينه لهم في البلاد بعد أن كانوا أذلاء مقهورين، وإرساله الرسل منهم وتفضيلهم على غيرهم ممن كانوا بين ظهرانيهم حين كانوا مطيعين للرسل مصدقين لما جاءهم من عند ربهم – حتى يتركوا التمادي في الغي والضلال ويثوبوا إلى رشدهم.
ومن أجل ما أنعم به عليهم التوراة التي أنزلت عليهم، وذكرها يكون بشكرها، وشكرها يكون بالإيمان بجميع ما جاء فيها، ومن جملته وصف النبي صلى الله عليه وسلم فهو المبشر به فيها.
﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ﴾
المعنى الجملي
هذه الآيات سيقت استدراكا على ما قبلها، فإن ما تقدم كان تيئيسا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من إيمان أهل الكتاب وسلب ما كان يخالج نفوسهم من الرجاء، وهنا أرشد إلى أن فريقا منهم يرجى إيمانهم وهم الذين يتدبرون كتابهم ويميزون بين الحق والباطل ويفهمون أسرار الدين ويعلمون أن ما جئت به هو الحق الذي يتفق مع مصالح البشر، فهو الذي يهذب نفوسهم، ويصفي أرواحهم، وينظم معايشهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وبعد أن أقام عليهم الحجة دعاهم وناداهم وطلب إليهم أن يتركوا الغرور المانع لهم من الإيمان، إذ لا ينبغي لمن كرمه الله وفضله على غيره من الشعوب أن يكون حظه من كتابه كحظ الحمار يحمل أسفارا
الإيضاح :
تقول جزى عني هذا الأمر يجزى كما تقول قضى يقضي، زنة ومعنى، أي واتقوا يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي، المحرفين له عن وجهه، المكذبين برسولي محمد صلى الله عليه وسلم – عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا من الحقوق التي لزمتها، فلا تؤخذ نفس بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئا كما ورد في الصحيحين " يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا ".
﴿ ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ﴾ العدل الفدية : أي لا يؤخذ من نفس فدية تنجو بها من النار، إذ هي لا تجد لتفتدي به، ولا يشفع فيما وجب عليها من حق شافع، وقد كانوا يعتقدون بالمكفرات تؤخذ فدية عما فرطوا فيه، وبشفاعة أنبيائهم لهم، فأخبرهم الله أنه لا يقوم مقام الاهتداء به شيء آخر.
﴿ ولا هم ينصرون ﴾ أي إنه لا يأتيهم ناصر ينصرهم فيمنع عذاب الله عنهم إذا نزل بهم.
وهذا ترهيب لمن سلفت عظتهم في الآية قبلها.
﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين { ١٢٤ ﴾ }.
تفسير المفردات
الابتلاء : الاختبار، أي معرفة حال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه فعله أو تركه.
والكلمات : واحدها كلمة وتطلق على اللفظ المفرد وعلى الكلام المفيد، والمراد هنا معناها من أمر ونهي، وأتمهن : أي قام بهن خير قيام وأداهن أحسن التأدية بلا تفريط ولا توان، وإماما : أي رسول.
المعنى الجملي
بعد أن حاج سبحانه أهل الكتاب وبين كفرهم بالنبي الذي كانوا ينتظرونه لبشارة كتبهم به، ذكر هنا الأساس الذي بني عليه الإسلام والنسب الذي يمت به ويحترمه أهل الكتاب ومشركو العرب، وهو ملة إبراهيم، فلا فضل إذا لليهود على العرب بأنهم يمتنون بالنسب إلى إبراهيم، إذ النسب واحد والملة واحدة.
فالقرآن حاج أهل الكتاب الذين جاء لإصلاح دينهم بما أدخلوه عليه من تحريف لبعضه ونسيان لبعضه الآخر، وأثبت التوحيد والتنزيه لله تعالى، وحاج أهل الشرك والوثنية التي جاء لمحوها، تارة بالبراهين العقلية وتارة بالأدلة الكونية في كثير من السور ولا سيما السور المكية.
الإيضاح
﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ﴾ أي واذكر لقومك المشركين وغيرهم حين اختبر إبراهيم ربه ببعض الأوامر والنواهي، فأداها خير الأداء، وأتى بها على وجه الكمال كما قال :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾.
والمراد من ذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من الحوادث، لأن الوقت محتو عليها، فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا.
والقرآن الكريم لم يعين الكلمات، ومن ثم اختلفوا فيها، فقيل هي مناسك الحج، وقيل إنها الكواكب والشمس والقمر التي رآها واستدل بأفولها على وحدانية الله تعالى والعرب التي خوطبت به كانت تعرف المراد منها.
﴿ قال إني جاعلك للناس إماما ﴾ أي قال إني جاعلك للناس رسولا يؤتم بك، ويقتدى بهديك إلى يوم القيامة، فدعا الناس إلى الحنيفية السمحة وهي الإيمان بالله وتوحيده والبراءة من الشرك، وما زال هذا جاريا في ذريته، فلم ينقطع منها دين التوحيد، ولأجل هذا وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم.
﴿ قال ومن ذريتي ﴾ أي قال واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم، وقد جرى إبراهيم على سنة الفطرة، فتمنى لذريته الخير في أجسامهم وعقولهم وأخلاقهم، ولا غرو فالإنسان يرجو أن يكون ابنه أحسن منه في جميع ذلك.
﴿ قال لا ينال عهدي الظالمين ﴾ أي قال أجبتك إلى ما طلبت، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن عهدي بالإمامة لا يناله الظالمون، إذ هم لا يصلحون أن يكونوا قدوة للناس.
وفي ذكر الظلم مانعا من الإمامة تنفير لذرية إبراهيم منه وتبغيض لهم فيه، ليتحاموه وينشئوا أولادهم على كراهته، كيلا يقعوا فيه ويحرموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها، كما هو تنفير من الظالمين وعدم مخالطتهم.
فالإمامة الصالحة لا تكون إلا لذوي النفوس الفاضلة التي تسوق صاحبها إلى خير العمل، وتزعه عن الشرور والآثام، ولا حظ للظالمين في شيء من هذا.
والخلاصة – إن الإمامة والنبوة لا ينالها من دنس نفسه ودساها بالظلم وقبيح الخلال، وإنما ينالها من شرفت خلاله، وكملت أخلاقه، وصفت نفسه، لأن أهم أعمال الإمام رفع الظلم والفساد حتى ينتظم العمران، وتسود السكينة بين الناس.
﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود { ١٢٥ ﴾ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ﴿ ١٢٦ ﴾ }.
تفسير المفردات
البيت : غلب استعماله في بيت الله الحرام بمكة، مثابة : أي مرجعا يثوب إليه هؤلاء الزوار وأمثالهم، وأمنا : أي موضع أمن، ومقام إبراهيم : هو الحجر الذي كان يقوم عليه حين بناء الكعبة، والمصلى : موضع الصلاة أي الدعاء والثناء على الله تعالى وعهد إليه بكذا إذا وصاه به.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه العرب في هذه الآيات بنعم أسبغها عليهم ومنن قلدها جيدهم، وهي جعل البيت الحرام مرجعا للناس يقصدونه ثم يثوبون إليه، وجعله مّأمنا لهم في هذه البلاد بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب، ودعوة إبراهيم للبيت وأهله المؤمنين، وفي التذكير بهذا فائدة في تقرير دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأنها مبنية على أصول ملة إبراهيم الذي يحترمه العرب جميعا
الإيضاح
﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ﴾ أي واذكروا حين أن جعلنا البيت الحرام مرجعا للناس يثوبون إليه للعبادة، ويقصدونه لأداء المناسك فيه، وجعلناه أمنا لاحترام الناس له وتعظيمهم إياه بعدم سفك دم فيه، حتى كان يرى الرجل قاتل أبيه في الحرام فلا يتعرض له بسوء.
ونحو الآية قوله في سورة العنكبوت :﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم، أفالبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ؟ ﴾
﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ أي وقلنا لهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وفائدة ذكر هذا الأمر أن يستحضر السامع أو التالي المأمورين، وكأن الأمر يوجه إليهم، ليقع في نفوس المخاطبين به أن الأمر يتناولهم وأنه موجه إليهم كما وجه إلى سلفهم في عهد أبيهم إبراهيم، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ له، فنحن مأمورين بالدعاء في مقام إبراهيم، كما أمر به من كان في عصره من المؤمنين.
﴿ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ﴾ أي ووصينا إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت من كل رجس معنوي كالشرك بالله وعبادة الأصنام، أو رجس حسي كاللغو والرفث والتنازع فيه، حين أداء العبادات كالطواف به والسعي بين الصفا والمروة والعكوف فيه والركوع والسجود.
وفي الآية إيماء إلى أن إبراهيم كان مأمورا هو ومن بعده بهذه العبادات، ولكن لا دليل على معرفة الطريق التي كانوا يؤدونها بها، وسماه الله بيته لأنه جعله معبدا للعبادة الصحيحة، وأمر المصلين بأن يتوجهوا في عبادتهم إليه.
والحكمة في ذلك أن الخلق في حاجة إلى التوجه إلى خالقهم لشكره والثناء عليه والتوسل إليه لاستمداد رحمته ومعونته، وهم يعجزون عن التوجه إلى موجود غيبي لا يتقيد بمكان ولا ينحصر في جهة، فعين لهم مكانا نسبه إليه رمزا إلى أن ذاته المقدسة تحضره، والحضور الحقيقي محال عليه، فالمراد أن رحمته الإلهية تحضره، ومن ثم كان التوجه إلى هذا المكان كالتوجه إلى تلك الذات العلية لو وجد العبد إلى ذلك سبيلا.
﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا ﴾
تفسير المفردات :
الثمرات : المأكولات مما يخرج من الأرض والشجر، والاضطرار : الإكراه، يقال اضطررت فلانا إلى كذا : أي ألجأته إليه وحملته عليه.
المعنى الجملي
ذكر سبحانه العرب في هذه الآيات بنعم أسبغها عليهم ومنن قلدها جيدهم، وهي جعل البيت الحرام مرجعا للناس يقصدونه ثم يثوبون إليه، وجعله مّأمنا لهم في هذه البلاد بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب، ودعوة إبراهيم للبيت وأهله المؤمنين، وفي التذكير بهذا فائدة في تقرير دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأنها مبنية على أصول ملة إبراهيم الذي يحترمه العرب جميعا
الإيضاح :
أي قال : رب اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة، وهذا دعاء منه أن يكون البيت آمنا في نفسه من الجبابرة وغيرهم أن يسلطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان من خسف وزلزال وغرق ونحو ذلك مما ينبئ عن سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد.
وقد استجاب الله دعاءه فلم يقصده أحد بسوء إلا قصم ظهره، ومن تعدى عليه لم يطل زمن تعديه، بل يكون تعديا عارضا ثم يزول.
﴿ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ﴾ أي وارزق أهله من أنواع الثمار إما بزرعها بالقرب منه، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابة لدعوة إبراهيم كما هو مشاهد، وقد جاء في سورة القصص :﴿ أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ﴾.
وخص إبراهيم بدعائه المؤمنين، وإن كان سبحانه لواسع رحمته جعل رزق الدنيا عاما للمؤمنين والكافرين ﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ﴾ لأن تمتيع الكافرين قصير محدود بذلك العمر القصير، ثم إلى النار وبئس المصير، وهذا ما بينه عز اسمه بقوله :
﴿ قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ﴾ أي قال يا إبراهيم قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات، ورزقت كفارهم أيضا، وأمتعهم بهذا الرزق أمدا قليلا وهو مدة وجودهم في الدنيا، ثم أسوقهم إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا اختيار لهم فيه، ولا يعلمون أن عملهم ينتهي بهم إليه.
ذاك أن أعمال البشر التي تقع باختيارهم، لها آثار وغايات اضطرارية تنتهي بهم إليها وتكون نتيجة لها بحسب ما وضعه الله في نظام الكون من وجود المسببات عقب وجود أسبابها، فالإسراف في الشهوات يفضي إلى بعض الأمراض في الدنيا، كذلك الكفار والفساق مختارون في كفرهم وفسوقهم، وستكون نتيجة ذلك سوقهم إلى عذاب النار بمقتضى السنن الموضوعة.
وكل أعمال الإنسان النفسية والبدنية لها الأثر الذي يفضي بصاحبها إلى السعادة أو الشقاء، وهي أعمال كسيبة اختيارية، فالإنسان متمكن من اختيار الحق وترك الباطل وترك الخبيث وفعل الطيب بما أعطاه الله من العقل وبما نزل عليه من الوحي، فإذا حاد عن ذلك يكون قد ظلم نفسه وعرضها للعذاب والشقاء بأعماله التي مبدؤها كسبي وأثرها اضطراري.
وهذه السنن بقضاء الله وتقديره، ومن ثم يصح أن يقال إن الله قد اضطر الكافر إلى العذاب وألجأه إليه، وجعل الأرواح المدنسة بالأخلاق الذميمة أو بالعقائد الفاسدة محل سخطه وموضع انتقامه في الآخرة، كما جعل أصحاب الأمراض القذرة عرضة للأمراض في الدنيا.
﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم { ١٢٧ ﴾ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ﴿ ١٢٨ ﴾ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ﴿ ١٢٩ ﴾ }.
تفسير المفردات
القواعد : واحدها قاعدة، وهي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من السافات [ طاقات البناء ] ورفعها إعلاء البناء عليها، وتقبل الله العمل : قبله ورضي به.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت وجعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطني هذا البلد الحرام باستجابته تعالى دعاءه، إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار ليتمتع بها أهله، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، تنبيها لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة.
انتقل بهم إلى التذكير بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم بمعونة ابنه إسماعيل، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدعي أنها على ملة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تبع لقريش
الإيضاح
﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ﴾ أي واذكروا إذ رفع إبراهيم قواعد البيت وأساسه، وهذا نص في أنهما هما اللذان بنياه لعبادة الله في تلك البلاد الوثنية، وجعلاه موضعا لضروب من العبادة التي لا تكون في غيره، وذلك هو مصدر شرفه لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع، ولا بأنه نزل من السماء، فكل ما روي بصدد هذا فهو من الإسرائيليات التي لا يعول عليها ولا ينبغي تصديقها، ولا يقبلها العلماء الذين يفقهون أسرار الدين ويفهمون مراميه، ومن ثم قال عمر بن الخطاب عند استلام الحجر الأسود :" أما والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك، ثم دنا فقبله " رواه أحمد والبخاري ومسلم.
وفي هذا الأثر إيماء إلى أن الحجر لا مزية له في ذاته، بل هو كسائر الأحجار، وإنما استلامه أمر تعبدي كاستقبال الكعبة في الصلاة، وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحده مكان، ولا تحصره جهة.
﴿ ربنا تقبل منا ﴾ أي إن إبراهيم وإسماعيل كانا يقولان في دعائهما وهما يرفعان قواعد البيت :﴿ ربنا تقبل منا ﴾.
﴿ إنك أنت السميع العليم ﴾ أي ربنا أنت السميع لدعائنا، العليم بنياتنا في جميع أعمالنا.
وفي الآية إشارة إلى أن كل مأمور بعبادة إذا فرغ منها وأداها كما أمر وبذل أقصى الوسع في ذلك – فعليه أن يتضرع إلى الله ويبتهل، ليتقبل منه ما عمل ولا يرده خائبا ولا يضيع سعيه سدى، كما أنه لا ينبغي أن يجزم بأن عبادته متقبلة، ولولا ذلك لما كان لهذا التضرع فائدة.
﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ﴾
تفسير المفردات :
مسلمين أي منقادين لك، يقال أسلم واستسلم إذا خضع وانقاد، والأمة الجماعة، والمناسك : واحدها منسك ﴿ بفتح السين ﴾ من النسك وهو غاية الخضوع والعبادة، وشاع استعماله في عبادة الحج خاصة، كما شاع استعمال المناسك في معالم الحج وأعماله، وتاب العبد إلى ربه إذا رجع إليه، لأن اقتراف الذنب إعراض عن الله وعن موجبات رضوانه، وتاب الله على العبد : رحمه وعطف عليه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت وجعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطني هذا البلد الحرام باستجابته تعالى دعاءه، إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار ليتمتع بها أهله، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، تنبيها لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة.
انتقل بهم إلى التذكير بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم بمعونة ابنه إسماعيل، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدعي أنها على ملة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تبع لقريش
الإيضاح :
أي ربنا واجعلنا مخلصين لك في الاعتقاد بألا نتوجه بقلبنا إلا إليك، ولا نستعين بأحد إلا بك، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك لا إتباع الهوى ولا إرضاء الشهوة.
﴿ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ أي واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة، وقد أجاب الله دعاءهما وجعل في ذريتهما الأمة الإسلامية وبعث فيها خاتم النبيين.
ومما سلف تعلم أن المراد بالإسلام الانقياد والخضوع لخالق السماوات والأرض، وليس المراد منه الأمة الإسلامية خاصة حتى يكون كل من يولد فيها ويلقب بهذا اللقب ينطبق عليه اسم الإسلام الذي نطق به القرآن ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم صلوات الله عليه.
﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ أي عرفنا مواضع نسكنا أي أفعال الحج كالمواقيت التي يكون منها الإحرام، وموضع الوقوف بعرفة، وموضع الطواف إلى نحو ذلك من أفعاله وأقواله.
﴿ وتب علينا ﴾ أي ووفقنا للتوبة، لنتوب ونرجع إليك من كل عمل يشغلنا عنك، وهذا نظير قوله تعالى :﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا ﴾.
وهذا منهما إرشاد لذريتهم، وتعليم منهما لهم بأن البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله.
﴿ إنك أنت التواب الرحيم ﴾ أي إنك أنت وحدك كثير التوبة على عبادك بتوفيقهم لحسن العمل وقبول ذلك منهم، الرحيم بالتائبين المنجي لهم من عذابك وسخطك.
﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ﴾
تفسير المفردات :
الكتاب القرآن، والحكمة أسرار الأحكام الدينية ومعرفة مقاصد الشريعة، قال ابن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة
أو نهتك عن قبيح فهي حكمة، ويزكيهم : أي يطهر نفوسهم من دنس الشرك وضروب المعاصي، العزيز : أي القوي الغالب، الحكيم : أي الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت وجعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطني هذا البلد الحرام باستجابته تعالى دعاءه، إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار ليتمتع بها أهله، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود، تنبيها لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة.
انتقل بهم إلى التذكير بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم بمعونة ابنه إسماعيل، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدعي أنها على ملة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تبع لقريش
الإيضاح :
أي ربنا وأرسل في الأمة المسلمة لك رسولا من أنفسهم ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به، وأقرب لإجابة دعوته، إذ أنهم يكونون قد خبروه وعرفوا منشأه ودرسوا فاضل أخلاقه من صدق وأمانه وعفة ونحو ذلك مما هو شرط في صحة نبوة النبي.
وقد أجاب الله دعوته، وأرسل خاتم النبيين محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا منهم، ومن ثم روى الإمام أحمد قوله صلى الله عليه وسلم :( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ).
﴿ يتلو عليهم آياتك ﴾ أي يقرأ عليهم ما توحي إليه من الآيات التي تنزلها عليه، متضمنة تفصيل الآيات الكونية الدالة على وحدانيتك، ومشتملة على إمكان البعث والجزاء، بالثواب على صالح الأعمال والعقاب على سيئها، فيكون في ذلك عبرة لمن هداه الله ووفقه للخير والسعادة.
﴿ ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴾ أي ويعلمهم القرآن وأسرار الشريعة ومقاصدها بسيرته بين المسلمين قدوة لهم في أقواله وأفعاله.
﴿ ويزكيهم ﴾ أي ويطهر نفوسهم من الشرك وضروب المعاصي التي تدسيها وتفسد الأخلاق وتقوض نظم المجتمع، ويعودها الأعمال الحسنة التي تطبع فيها ملكات الخير التي ترضي المولى جل وعلا.
﴿ إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ أي إنك أنت القوي الذي لا يغلب ولا ينال بضيم من توكل عليك، الحكيم في أفعالك في عبادك، فلا تفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
وقد ختم إبراهيم بالثناء على ربه، وذكر له من الأوصاف ما يشاكل مطالبه، فوصفه بأنه العزيز الذي لا يرد له أمر، وأنه الحكيم الذي لا معقب لحكمه، فمن الهين عليه أن يجيبه إلى ما طلب، مما هو متنافر مع طباع العرب، بعيد من معايشهم وأحوالهم، فهم بعيدون عن ورود مناهل العلم، وفيهم خشونة في الطباع، وغلظ في الأكباد، ليس لديهم استعداد لحضارة ولا مدنية، وقد أجاب الله دعاءه وكون منهم أمة كانت خير الأمم، سادت العالم وملكت المشارق والمغارب ردحا من الزمان، وكان فيها رجال حفظ لهم التاريخ صادق بلائهم، وعظيم سياستهم للشعوب، التي انضوت تحت لوائهم، بما لم تجارهم فيه أرقى الأمم مدنية في عصرنا، عصر الرقي والحضارة.
﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين { ١٣٠ ﴾ إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين ﴿ ١٣١ ﴾ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴿ ١٣٢ ﴾ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي، قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ﴿ ١٣٣ ﴾ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴿ ١٣٤ ﴾ }.
تفسير المفردات
رغب في الشيء : أحبه، ورغب عنه كرهه، وسفه نفسه : أذلها واحتقرها، واصطفيناه : أي اخترناه وأصل الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وهي خالصه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره لعبادة، فصدع بما أمر، أردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهي التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل، لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذل نفسه واحتقرها، وبها وصى يعقوب بنيه، ووصى بها من قبله إبراهيم بنيه، ثم رد على شبهة لليهود إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن يعقوب كان يهوديا، وكذبهم بمقال لبنيه له حين موته : نعبد إلهك وإله آبائك الإله الواحد.
وقد روي في سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، قال لهما : قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر
الإيضاح
﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ أي إن ملتكم هي ملة أبيكم إبراهيم الذي إليه تنتسبون، وبه تفخرون، فكيف ترغبون عنها وتحتقرون عقولكم وتدعون أولياء من دون الله لا يملكون لكم ضرا ولا نفعا.
﴿ ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ أي ولقد اجتبيناه من بين خلقنا، وجعلنا في ذريته أئمة يهدون بأمرنا، وجعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير والصلاح وإرشاد الناس للعمل بهذه الملة.
ولا شك أن ملة هذا شأنها، وبها كانت له المكانة عند ربه، لا يرغب عنها إلا سفيه يعرض عن التأمل في ملكوت السماوات والأرض، ورؤية الآثار الكونية والنفسية الدالة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته.
وفي الآية بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة وعدة له بذلك.
﴿ إذ قال له ربه أسلم ﴾
تفسير المفردات :
أسلم : أي أخلص لي العبادة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره لعبادة، فصدع بما أمر، أردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهي التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل، لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذل نفسه واحتقرها، وبها وصى يعقوب بنيه، ووصى بها من قبله إبراهيم بنيه، ثم رد على شبهة لليهود إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن يعقوب كان يهوديا، وكذبهم بمقال لبنيه له حين موته : نعبد إلهك وإله آبائك الإله الواحد.
وقد روي في سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، قال لهما : قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر
الإيضاح :
أي اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من الآيات ونصب له من الأدلة على وحدانيته، فلبى الدعوة.
﴿ قال أسلمت لرب العالمين ﴾ أي قال أخلصت ديني لله الذي فطر الخلق جميعا، ونحو هذا قوله :﴿ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ﴾.
وقد نشأ إبراهيم في قوم عبدة أصنام وكواكب، فأنار الله بصيرته، وألهمه الحق والصواب، فأدرك أن للعالم ربا واحدا يدبره ويتصرف في شئونه وإليه مصيره، وحاج قومه في ذلك وبهرهم بحجته فقال :﴿ أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به ﴾ إلى آخر الآيات التي جاءت في سورة الأنعام.
﴿ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ﴾
تفسير المفردات :
التوصية : إرشاد غيرك إلى ما فيه خير وإصلاح له من قول أو فعل على جهة التفضل والإحسان في أمر ديني أو دنيوي، مسلمون : أي مخلصون بالتوحيد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره لعبادة، فصدع بما أمر، أردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهي التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل، لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذل نفسه واحتقرها، وبها وصى يعقوب بنيه، ووصى بها من قبله إبراهيم بنيه، ثم رد على شبهة لليهود إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن يعقوب كان يهوديا، وكذبهم بمقال لبنيه له حين موته : نعبد إلهك وإله آبائك الإله الواحد.
وقد روي في سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، قال لهما : قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر
الإيضاح :
أي ووصى بهذه الملة التي ذكرت في قوله :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم ﴾ إبراهيم أولاده ووصى بها يعقوب من بعده أولاده أيضا، قائلين لهم : إن الله اصطفى لكم دين الإسلام الذي لا يتقبل الله سواه.
﴿ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ أي فحافظوا على الإسلام لله ولا تفارقوه برهة واحدة، فربما تأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم.
وفي هذا النهي إيماء إلى أن من كان منحرفا عن الجادة لا ييأس، بل عليه أن يبادر بالرجوع إلى الله ويعتصم بحبل الدين، خيفة أن يموت وهو على غير هدى، فالمرء مهدد في كل آن بالموت.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
ثم أكد أمر الوصية وزاده تقريرا، وأقام الحجة على أهل الكتاب فوجه إليهم الخطاب وقال :﴿ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ﴾.
تفسير المفردات :
والشهداء : واحدهم شهيد، أي حاضر، وحضور الموت : حضور أمارته وأسبابه وقرب الخروج من الدنيا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره لعبادة، فصدع بما أمر، أردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهي التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل، لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذل نفسه واحتقرها، وبها وصى يعقوب بنيه، ووصى بها من قبله إبراهيم بنيه، ثم رد على شبهة لليهود إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن يعقوب كان يهوديا، وكذبهم بمقال لبنيه له حين موته : نعبد إلهك وإله آبائك الإله الواحد.
وقد روي في سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، قال لهما : قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر
الإيضاح :
أي أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذبين محمدا الجاحدين نبوته – شهودا حين حضر يعقوب الموت، فتدعون أنه كان يهوديا أو نصرانيا، فقد روى أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية ؟
وخلاصة ذلك – أنتم لم تحضروا ذلك فلا تدعوا عليه الأباطيل وتنسبوه إلى اليهودية أو النصرانية، فإني ما أرسلت إبراهيم وبنيه إلا بالحنيفية المسلمة، وبها وصوا بنيهم وعهدوا إلى أولادهم من بعدهم.
﴿ إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ﴾ أي أكنتم شهداء حين قال لبنيه : أي معبود تعبدون من بعدي ؟ ومراده من هذا السؤال أخذ الميثاق عليهم بثباتهم على الإسلام والتوحيد، وأن يكون مقصدهم في جميع أعمالهم وجه الله ومرضاته، وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان، كما قال في دعائه :﴿ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ﴾.
﴿ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ﴾ أي قالوا : نعبد الإله الذي قامت الأدلة العقلية والحسية على وجوده ووجوب عبادته لا نشرك به سواه، ونحن له منقادون خاضعون معترفون له بالعبودية متوجهون إليه عند الملمات، وقد كانوا في عصر فشت فيه عبادة الأصنام والكواكب، والحيوان وغيرها.
وجعلوا إسماعيل [ وهو عمه ] أبا تشبيها له بالأب، وقد روى الشيخان قوله عليه السلام " عم الرجل صنو أبيه ".
وقد أرشدت الآية الكريمة إلى أن دين الله واحد في كل أمة، وعلى لسان كل نبي، وروحه التوحيد والاستسلام لله، والإذعان لهدى الأنبياء، وبهذا كان يوصي النبيون أممهم كما قال :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾.
فالقرآن يحث الناس على الاتفاق في الدين الذي أساسه أمران : أولهما التوحيد والبراءة من الشرك بأنواعه، وثانيهما الاستسلام لله والخضوع له في جميع الأعمال، فمن لم يتصف بذلك فليس بالمسلم أي ليس على الدين القيم الذي كان عليه الأنبياء.
والناس يطلقون الإسلام اليوم لقبا على طوائف من الناس لهم ميزات دينية، وعادات تميزهم من سائر الناس الذين يلقبون بألقاب دينية أخرى، وقد يكون من بعض أهله من لم يكن مستسلما مخلصا لله في أعماله، بل قد يكون مبتدعا ما ليس منه، أو فاسقا عنه قد اتخذ إلهه هواه.
والإسلام الذي دعا إليه القرآن هو الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدع إلى الإسلام بمعنى ذلك اللقب المعروف اليوم.
﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾
تفسير المفردات :
الأمة : الجماعة، وخلت : مضت وذهبت، لها ما كسبت : أي ما عملت، ولكم ما كسبتم : أي أنتم مجزيون بأعمالكم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره لعبادة، فصدع بما أمر، أردف ذلك بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهي التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص له في العمل، لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذل نفسه واحتقرها، وبها وصى يعقوب بنيه، ووصى بها من قبله إبراهيم بنيه، ثم رد على شبهة لليهود إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن يعقوب كان يهوديا، وكذبهم بمقال لبنيه له حين موته : نعبد إلهك وإله آبائك الإله الواحد.
وقد روي في سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، قال لهما : قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، من آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر
الإيضاح :
أي إن سنة الله في عباده ألا يجزى أحد إلا بكسبه وعمله، ولا يسأل إلا عن كسبه وعمله كما جاء في قوله :﴿ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ وجاء في الحديث :( يا بني هاشم، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ).
وقال الغزالي : إذا كان الجائع يشبع إذا أكل والده دونه، والظمآن يروى بشرب والده وإن لم يشرب، فالعاصي ينجو بصلاح والده.
ومن هذا تعلم أن من يخاطب أصحاب القبور حين الاستغاثة بنحو قوله :
[ المحسوب منسوب ] فقد ضل ضلالا بعيدا، وخالف ما تظاهر من نصوص الدين التي تدل على خلاف ما يقول :﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين { ١٣٥ ﴾ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴿ ١٣٦ ﴾ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ﴿ ١٣٧ ﴾ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ﴿ ١٣٨ ﴾ }.
﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين { ١٣٥ ﴾ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴿ ١٣٦ ﴾ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ﴿ ١٣٧ ﴾ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ﴿ ١٣٨ ﴾ }.
تفسير المفردات
الحنيف : المائل، وأطلق على إبراهيم لأنه خالف الناس جميعا، ومال عن الكفر إلى الإيمان.
المعنى الجملي
بعد أن دعا سبحانه العرب إلى الإسلام وأشرك معهم أهل الكتاب، لأنهم أجدر بإجلال إبراهيم واتباعه، وفي أثناء ذلك بين حقيقة ملة إبراهيم على الوجه الحق لا كما يعتقده اليهود والنصارى، ثم بين أن دين الله واحد على لسان النبيين جميعا، والفوارق في الجزئيات والتفاصيل لا تغير من جوهر الدين في شيء، وقد جهل أهل الكتاب هذه الحقيقة، فقصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين من التفاصيل والتقاليد التي أضافوها إلى التوراة والإنجيل، فبعد كل من الفريقين من الآخر أشد البعد، وصار كل منهما يحتكر الإيمان لنفسه، ويرمي الآخر بالكفر والإلحاد
الإيضاح
﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ﴾ أي وقالت اليهود : لا دين إلا اليهودية ولا يتقبل الله سواها، لأن نبيهم موسى أفضل الأنبياء، وكتابهم أفضل الكتب، ودينهم خير الأديان، ويكفرون بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى : لا يتقبل الله إلا النصرانية لأن الهداية خاصة بها، إذ عيسى أفضل الأنبياء وكتابهم أجل الكتب، ودينهم خير الأديان، وقد كفروا بموسى والتوراة ومحمد والقرآن، ولو صح ما تقولون : لما كان إبراهيم مهتديا لأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وأنتم جميعا متفقون على أنه سيد المهتدين وإمامهم، ومن ثم رد الله عليهم بقوله :
﴿ قل بل ملة إبراهيم حنيفا ﴾ أي قل لهم : بل نتبع ملة إبراهيم الذي لا تنازعون في هداه، فهي الملة التي لا انحراف فيها ولا زيغ.
﴿ وما كان من المشركين ﴾ أي ولم يكن إبراهيم ممن يشرك بالله سواه من وثن أو صنم.
وفي هذا تعريض بأهل الكتاب وبيان بطلان دعواهم اتباع إبراهيم مع إشراكهم لقولهم عزير ابن الله، والمسيح ابن الله.
ودين إبراهيم الحنيف هو الدين الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنون به.
وبعد أن أمر الله نبيه أن يدعو الناس إلى اتباع ملة إبراهيم، أمر المؤمنين بمثل ذلك فقال :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ﴾.
﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ﴾
تفسير المفردات :
والأسباط : واحدهم سبط، وسبط الرجل ولد ولده، والأسباط : من بني إسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم، وما أوتي موسى : هو التوراة، وما أوتي عيسى : هو الإنجيل.
المعنى الجملي
بعد أن دعا سبحانه العرب إلى الإسلام وأشرك معهم أهل الكتاب، لأنهم أجدر بإجلال إبراهيم واتباعه، وفي أثناء ذلك بين حقيقة ملة إبراهيم على الوجه الحق لا كما يعتقده اليهود والنصارى، ثم بين أن دين الله واحد على لسان النبيين جميعا، والفوارق في الجزئيات والتفاصيل لا تغير من جوهر الدين في شيء، وقد جهل أهل الكتاب هذه الحقيقة، فقصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين من التفاصيل والتقاليد التي أضافوها إلى التوراة والإنجيل، فبعد كل من الفريقين من الآخر أشد البعد، وصار كل منهما يحتكر الإيمان لنفسه، ويرمي الآخر بالكفر والإلحاد
الإيضاح :
أي قولوا آمنا بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الخضوع والطاعة لرب العالمين، فلا نكذب أحدا منهم فيما دعاه ودعا إليه في عصره، بل نصدق بذلك تصديقا جمليا ولا يضيرنا تحريف بعض وضياع بعض، فإن التصديق التفصيلي إنما يكون لما أنزل إلينا فحسب.
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة بالعبرية ويفسروها بالعربية للمسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله. الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن معقل مرفوعا " آمنوا بالتوراة والإنجيل وليسعكم القرآن ".
﴿ لا نفرق بين أحد منهم ﴾ أي لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، كما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرت بغيرهما من الأنبياء، وتبرأت النصارى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرت بغيره، بل نشهد أن الجميع رسل الله بعثوا بالحق والهدى.
﴿ ونحن له مسلمون ﴾ أي ونحن خاضعون له بالطاعة مدعنون له بالعبودية، وذلك هو الإيمان الصحيح، وأنتم لستم كذلك، بل أنتم متبعون أهواءكم لا تحولون عنها.
﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ﴾
تفسير المفردات :
والشقاق : مأخوذ من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد في شق غير شق صاحبه لما بينهما من عداوة.
المعنى الجملي
بعد أن دعا سبحانه العرب إلى الإسلام وأشرك معهم أهل الكتاب، لأنهم أجدر بإجلال إبراهيم واتباعه، وفي أثناء ذلك بين حقيقة ملة إبراهيم على الوجه الحق لا كما يعتقده اليهود والنصارى، ثم بين أن دين الله واحد على لسان النبيين جميعا، والفوارق في الجزئيات والتفاصيل لا تغير من جوهر الدين في شيء، وقد جهل أهل الكتاب هذه الحقيقة، فقصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين من التفاصيل والتقاليد التي أضافوها إلى التوراة والإنجيل، فبعد كل من الفريقين من الآخر أشد البعد، وصار كل منهما يحتكر الإيمان لنفسه، ويرمي الآخر بالكفر والإلحاد
الإيضاح :
أي فإن آمنوا الإيمان الصحيح بالله وبما أنزل على النبيين والمرسلين، كما نؤمن به نحن وتركوا ما هم عليه من ادعاء حلول الله في بعض البشر وكون رسولهم إلها أو ابن إلله، فقد اهتدوا إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم.
ذاك أنه قد طرأ على إيمانهم بالله نزعات الوثنية وأضاعوا لباب ما أنزل على الأنبياء وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس، وتمسكوا برسوم العبادات ونقصوا منها وزادوا عليها مما بعدوا به عن مقاصد الأديان من حيث يدعون العمل بها كاملة غير منقوصة.
﴿ وإن تولوا فإنما هم في شقاق ﴾ أي وإن أعرضوا عما تدعوهم إليه من الرجوع إلى أصل الدين ولبه، وفرقوا بين رسل الله فصدقوا ببعض وكفروا ببعض، فإن أمرهم يكون محصورا في المشاقة والعداوة وكل ما يوسع مسافة الخلف بينكم وبينهم.
﴿ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ﴾ أي فسيكفيك الله إيذاءهم وسيء مكرهم ويؤيد دعوتك وينصرك عليهم نصرا مؤزرا.
وقد أنجز الله وعده للنبي والمؤمنين، فقتل وسبى بني قريظة، ونفى بني النضير إلى الشام، وضرب الجزية على نصارى نجران، وهو سميع لما يقولون بألسنتهم ويبدو بأفواههم من الدعوة إلى الكفر والضلال، عليم بما يبطنون لك، ولأصحابك المؤمنين من الحسد والبغضاء.
﴿ صبغة الله ﴾
تفسير المفردات :
الصبغة : في اللغة اسم لهيئة صبغ الثوب وجعله بلون خاص.
المعنى الجملي
بعد أن دعا سبحانه العرب إلى الإسلام وأشرك معهم أهل الكتاب، لأنهم أجدر بإجلال إبراهيم واتباعه، وفي أثناء ذلك بين حقيقة ملة إبراهيم على الوجه الحق لا كما يعتقده اليهود والنصارى، ثم بين أن دين الله واحد على لسان النبيين جميعا، والفوارق في الجزئيات والتفاصيل لا تغير من جوهر الدين في شيء، وقد جهل أهل الكتاب هذه الحقيقة، فقصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين من التفاصيل والتقاليد التي أضافوها إلى التوراة والإنجيل، فبعد كل من الفريقين من الآخر أشد البعد، وصار كل منهما يحتكر الإيمان لنفسه، ويرمي الآخر بالكفر والإلحاد
الإيضاح :
أي صبغنا الله وفطرنا على الاستعداد للحق والإيمان بما جاء به الأنبياء والمرسلون، ولا نتبع آراء الرؤساء وأهواء الزعماء وتقاليدهم الوضعية، وهو زينتنا التي بها نتحلى كما يتحلى الثوب بالصبغ.
﴿ ومن أحسن من الله صبغة ﴾ أي لا أحد تكون صبغته أحسن من صبغة الله، فإنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم به من أدران الكفر، وينجيهم من الشرك، فهي جماع كل خير وبها تتآلف القلوب والشعوب، وتزكو النفوس.
أما ما أضافه الأحبار والرهبان من أهل الكتاب إلى الدين، فهو من الصبغة البشرية، والصبغة الإنسانية، التي تجعل الدين الواحد مذاهب متفرقة، والأمة شيعا متنافرة.
﴿ ونحن له عابدون ﴾ ولا نعبد سواه، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون في ديننا وينقصون، ويحلون ويحرمون، ويمحون من نفوسنا صبغة التوحيد ويثبتون مكانها صبغة البشر التي تفضي إلى الإشراك بالله واتخاذ الأنداد له.
وفي الآية إيماء إلى أن الإسلام لم يشرع أعمالا خاصة يتميز بها المسلم من سواه، كما شرع النصارى المعمودية، بل المعول عليه ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص وحب الخير والاعتدال كما قال تعالى :﴿ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾.
﴿ قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون { ١٣٩ ﴾ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى، قل أأنتم أعلم أم الله ؟ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ؟ وما الله بغافل عما تعملون ﴿ ١٤٠ ﴾ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴿ ١٤١ ﴾ }.
تفسير المفردات
المحاجة : المجادلة بدعوى الحق لدى كل من المتخاصمين مع إقامة الحجة على ذلك، في الله : أي في دينه.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن الملة الصحيحة هي ملة إبراهيم وليست هي باليهودية ولا النصرانية، بل هي صبغة الله التي لا دخل لأحد فيها، وهي بعيدة عن اصطلاحات الناس وأوضاعهم، ولكن نشأت بعد ذلك أوضاع الرؤساء فطمست ما جرى عليه الأنبياء حتى خفيت أوامرهم فيها إلى أن أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى الرجوع إليها، وأرشد إلى الحق الذي عليه صلاح المجتمع في دينه ودنياه، شرع هنا يبطل الشبهات التي تعترض سبيل الحق، فلقن نبيه الحجج التي يدفع بها تلك المفتريات.
روي أن سبب نزول هذه الآيات أن اليهود والنصارى قالوا : يجب أن يكون الناس لنا تبعا في الدين، لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع، فرد الله عليهم بما ستعلم بعد
الإيضاح
﴿ قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ؟ ﴾ أي أتدعون أن الدين الحق هو اليهودية والنصرانية، وتقولون حينا :﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ وحينا آخر تقولون :﴿ كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ﴾ ومن أين جاءكم هذا القرب من الله دوننا، والله ربنا وربكم ورب العالمين، فهو الخالق وجميعنا خلقه، وإنما يتفاضل الناس بأعمالهم، وآثار أعمالنا عائدة إلينا خيرا كانت أو شرا، وآثار أعمالكم كذلك لكم على هذا النحو، ونحن له مخلصون في أعمالنا لا نبتغي إلا وجهه، أما أنتم فقد اتكلتم على أسلافكم من الصالحين، وزعمتم أنهم شفعاء لكم عند ربكم مع انحرافكم عن سيرتهم، إذ هم ما كانوا يتقربون إلا بصالح العمل وصادق الإيمان، فاجعلوهم رائدكم وانهجوا نهجهم، تنالوا الفوز والسعادة.
وخلاصة ما سبق – إن روح الدين التوحيد، وملاك أمره الإخلاص المعبر عنه بالإسلام، فإذا زال هذا المقصد وحفظت الأعمال الصورية لم يغن ذلك شيئا، وأهل الكتاب أزهقوا هذا الروح وحفظوا الرسوم والتقاليد، فهم ليسوا على شيء من الدين، ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بما أحيا ذلك الروح الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين، فهو الذي كمل شريعتهم بشرعيته التي تصلح لجميع البشر في كل زمان ومكان،
﴿ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ﴾ أي تقولون : إن اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله وهو ربنا وربكم، أم أتقولون إن امتيازكم باليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها إنما كان بأن هؤلاء الأنبياء كانوا عليها، فإن كان هذا ما تدعون فأنتم كاذبون فيما تقولون، فإن هذين الإسمين إنما حدثا فيما بعد. فما حدث اسم اليهودية إلا بعد موسى، وما حدث اسم النصرانية إلا بعد عيسى، فكيف تزعمون أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا، وقصية العقل شاهدة بكذبكم ؟
﴿ قل أأنتم أعلم أم الله ؟ ﴾ أي أأنتم أعلم بالمرضي عند الله، أم الله أعلم بما يرضيه وما يتقبله ؟ لا شك أن الله هو العليم بذلك دونكم، وقد ارتضى للناس ملة إبراهيم وأنتم تعترفون بذلك، وكتبكم تصدقه قبل أن تجيء اليهودية والنصرانية، فلماذا لا ترضون لأنفسكم هذه الملة ؟
﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ﴾ أي لا أحد أشد ظلما ممن يكتم شهادة مثبتة في كتاب الله تبشر بأن الله يبعث فيهم نبيا من بني إخوتهم وهم العرب أبناء إسماعيل.
وهم لا يزالون يكتمون ذلك، فينكرون على غير المطلع على التوراة، ويحرفون على المطلع عليها.
وخلاصة ما سلف – أنه أقام ثلاث حجج تدحض ما ادعوا :
قوله :﴿ وهو ربنا وربكم ﴾.
قوله :﴿ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل ﴾ الخ..
قوله :﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة ﴾ الخ..
﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ أي إن الله لا يترك أمركم سدى، بل يعذبكم أشد العذاب، وهو محيط بما تأتون وما تذرون.
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد والتهديد عقب التقريع والتوبيخ.
﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن الملة الصحيحة هي ملة إبراهيم وليست هي باليهودية ولا النصرانية، بل هي صبغة الله التي لا دخل لأحد فيها، وهي بعيدة عن اصطلاحات الناس وأوضاعهم، ولكن نشأت بعد ذلك أوضاع الرؤساء فطمست ما جرى عليه الأنبياء حتى خفيت أوامرهم فيها إلى أن أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى الرجوع إليها، وأرشد إلى الحق الذي عليه صلاح المجتمع في دينه ودنياه، شرع هنا يبطل الشبهات التي تعترض سبيل الحق، فلقن نبيه الحجج التي يدفع بها تلك المفتريات.
روي أن سبب نزول هذه الآيات أن اليهود والنصارى قالوا : يجب أن يكون الناس لنا تبعا في الدين، لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع، فرد الله عليهم بما ستعلم بعد
الإيضاح :
أي إن جماعة الأنبياء قد مضت بالموت، ولها ما كسبت من الأعمال، ولكم ما كسبتم منها، ولا يسأل أحد عن عمل غيره، بل يسأل عن عمل نفسه، ويجازى به، فلا يضره ولا ينفعه سواه، وهذه قاعدة أقرتها الأديان جميعا وأيدها العقل كما قال :﴿ أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾.
لكن غلبة الجهل جعلت الناس يعتمدون في طلب سعادة الآخرة، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين، وساعدهم على ذلك رؤساء الأديان فأولوا لهم نصوص الدين اتباعا للهوى، ومن تم جاء القرآن يقرر ارتباط السعادة بالكسب والعمل، وينفي الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يقتدي بهم في صالح أعمالهم، وقد حاج بذلك أهل الكتاب الذين يفتخرون بأسلافهم ويعتمدون على شفاعتهم وجاههم ليقطع أطماعهم في تلك الشفاعة.
وعلينا معشر المسلمين أن نجعل نصب أعيننا ورائدنا في أعمالنا تلك القاعدة – الجزاء على العمل- ولا نغتر بشفاعة سلفنا الصالح، ونجعلها وسيلة لنا في النجاة إذا نحن قصرنا في عملنا، فكل من السلف والخلف مجزى بعمله، ولا ينفع أحدا عمل غيره.
وفقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه :﴿ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، والأمر يومئذ لله ﴾.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تم تصنيف هذا الجزء في الثامن والعشرين من صفر سنة إحدى وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان. في مدينة حلوان من أرياض القاهرة بالديار المصرية.
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ١٤٢ ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٣ ) ﴾
تفسير المفردات
السفه والسفاهة : اضطراب في الرأي والفكر والأخلاق، ويسمى اضطراب العقل طيشا وجهلا، واضطراب الأخلاق فسادا، وولاه عن الشيء : صرفه، والقبلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل، ثم خصت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة، والصراط الطريق، والمستقيم المستوي المعتدل من الأفكار والأعمال والأخلاق، وهو ما فيه الحكمة والمصلحة.
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة يستقبل الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس في الصلاة، كما كان أنبياء بني إسرائيل قبله يفعلون ذلك، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ويتمنى لو حول الله القبلة إليها، ومن ثم كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة، فيصلي جهة جنوب الكعبة مستقبلا الشمال.
فلما هاجر إلى المدينة صلى مستقبلا بيت المقدس فحسب لتعذر الجمع بينهما، وبقي على ذلك ستة عشرة شهرا كان في أثنائها يتوجه إلى الله أن يجعل الكعبة هي القبلة لأنها قبلة أبيه إبراهيم فأمره الله بذلك ونزل قوله :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ إلخ فقال اليهود والمشركون والمنافقون : ما الذي دعاهم إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ؟
وقد بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به قبل وقوعه، ولقنه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطن نفسه عليه، فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس، وليعد الجواب قبل الحاجة إليه، والجواب المعد أقطع لحجة الخصم، وقد قالوا في أمثالهم ( قبل الرمي يراش السهم ) وليكون الوقوع بعد الإخبار به معجزة له صلى الله عليه وآله وسلم.
ويتضمن هذا الجواب سرا من أسرار الدين كان أهل الكتاب في غفلة عنه وجهل به، وهي أن الجهات كلها لله، فلا فضل لجهة على أخرى، فلله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة منها ويجعلها قبلة، وعلى العبد أن يمتثل أمر ربه ﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾
الإيضاح
﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليه ؟ ﴾ أي سيقول الذين خفت أحلامهم، وامتهنوا عقولهم بالتقليد والإعراض عن النظر، والتأمل من المنكرين تغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين على جهة الإنكار والتعجب : أي شيء جرى لهؤلاء المسلمين، فصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهي قبلة النبيين والمرسلين من قبلهم ؟
﴿ قل لله المشرق والمغرب ﴾ أي أجبهم بأن الجهات كلها لله، فليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في جوهرها، وليس فيها من المنافع ما لا يوجد في غيرها، وكذلك الكعبة والبيت الحرام، وإنما يجعل الله تعالى للناس قبلة، لتكون جامعة لهم في عبادتهم، لكن سفهاء الأحلام يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هي الصخرة المعينة أو البناء المعين، وقد بلغ الأمر باليهود أن قالوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك، وما أرادوا بذلك إلا فتنته صلى الله عليه وآله وسلم والطعن في الدين، ببيان أن كلا من التوجه إليها والإنصراف عنها، حدث بلا داع يدعو إليه، حتى قالوا : إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، وليرجعن إلى دينهم أيضا.
﴿ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ أي يرشد الله من يشاء إرشاده وهدايته إلى الطريق القويم الموصل إلى سعادة الدارين، ويلهمهم ما فيه الخير لهم، وهو تارة يكون في التوجه إلى بيت المقدس، وأخرى في التوجه إلى الكعبة..
﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ﴾
تفسير المفردات :
الوسط العدل والخيار، والزيادة على ذلك إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير. وكلاهما مذموم، والفضيلة في الوسط كما قيل :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
يقال انقلب على عقبيه عن كذا إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء وهو طريق العقبين ؛ الرأفة رفع المكروه وإزالة الضرر، والرحمة أعم إذ تشمل دفع الضرر، وفعل الإحسان.
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة يستقبل الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس في الصلاة، كما كان أنبياء بني إسرائيل قبله يفعلون ذلك، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ويتمنى لو حول الله القبلة إليها، ومن ثم كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة، فيصلي جهة جنوب الكعبة مستقبلا الشمال.
فلما هاجر إلى المدينة صلى مستقبلا بيت المقدس فحسب لتعذر الجمع بينهما، وبقي على ذلك ستة عشرة شهرا كان في أثنائها يتوجه إلى الله أن يجعل الكعبة هي القبلة لأنها قبلة أبيه إبراهيم فأمره الله بذلك ونزل قوله :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ إلخ فقال اليهود والمشركون والمنافقون : ما الذي دعاهم إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ؟
وقد بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به قبل وقوعه، ولقنه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطن نفسه عليه، فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس، وليعد الجواب قبل الحاجة إليه، والجواب المعد أقطع لحجة الخصم، وقد قالوا في أمثالهم ( قبل الرمي يراش السهم ) وليكون الوقوع بعد الإخبار به معجزة له صلى الله عليه وآله وسلم.
ويتضمن هذا الجواب سرا من أسرار الدين كان أهل الكتاب في غفلة عنه وجهل به، وهي أن الجهات كلها لله، فلا فضل لجهة على أخرى، فلله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة منها ويجعلها قبلة، وعلى العبد أن يمتثل أمر ربه ﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾
الإيضاح :
أي وقد جعلنا المسلمين خيارا وعدولا، لأنهم وسط فليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرطين.
وقد كان الناس قبل الإسلام قسمين : مادي لا هم له إلا الحظوظ الجثمانية كاليهود والمشركين، وقسم تحكمت فيه تقاليده الروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمية، كالنصارى والصائبة وطوائف من وثني الهنود أصحاب الرياضات.
فجاء الإسلام جامعا بين الحقين حق الروح وحق الجسم، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية، فالإنسان جسم وروح، وإن شئت فقل : الإنسان حيوان وملك، فكماله بإعطائه الحقين معا.
﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ أي لتشهدوا على الماديين الذين فرطوا في جنب الله، وأخلدوا إلى اللذات : وحرموا أنفسهم من المزايا الروحية، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، وتشهدوا على من غلا في الدين وتخلى عن جميع اللذات الجثمانية وعذب جسمه، وهضم حقوق نفسه، وحرمها من جميع ما أعده الله لها في هذه الحياة، فخرجوا بها عن جادة الاعتدال، وجنى على روحه بجنايته على جسمه، تشهدون على هؤلاء وهؤلاء وتكونون سابقين للأمم جميعا باعتدالكم وتوسطكم في جميع شؤونكم، وذلك هو منتهى الكمال الإنساني الذي يعطي كل ذي حق حقه، فيؤدي حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه، وحقوق ذوي القربى، وحقوق الناس جميعا.
( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) إذ هو المثل الأعلى لمرتبة الوسط، فنحن إنما نستحق هذا الوصف إذا اتبعنا سيرته وشريعته، وهو الذي يحكم على من اتبعها، ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أخرى، وانحرف عن الجادة، وحينئذ يكون الرسول بدينه وسيرته حجة عليه، بأنه ليس من أمته التي وصفها الله في كتابه بقوله :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين.
﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ أي وما جعلنا القبلة فيما مضى هي الجهة التي كنت عليها إلى اليوم، ثم أمرناك بالتحول عنها إلى الكعبة إلا ليتبين الثابت على إيمانه ممن لا ثبات له، فهو عرضة لرياح الشبهات، تطير به وتغدو وتروح.
والخلاصة – إن الله يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين، وريب المرتابين، فيثبت من فقه الدين وعرف سره وحكمته، وتتخطف الشبهات والشكوك من أخذ الدين تقليدا من غير فقه ولا عرفان، وهكذا سبحانه يختبر ما في القلوب بما يبتلى به الناس من الفتن كما قال :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾.
وقد جاء في الكتاب الكريم ( لنعلم – وليعلم ) وعلم الله تعالى قديم لا يتجدد، ومن ثم قال العلماء : المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع، ذلك أنه يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت، ويترتب على ذلك الجزاء من ثواب وعقاب.
﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ﴾ أي وكانت القبلة المحولة شاقة ثقيلة على من ألف التوجه إلى القبلة الأولى، فإن الإنسان ألوف لما يتعوده ويثقل عليه الانتقال منه، إلا على الذين هداهم الله بمعرفة أحكام دينه وسر شريعته، فعلموا أن العبد باستقبالها إنما يكون بطاعة الله بها، لا بسر في ذاتها أو مكانها، وأن الحكمة في اختيار قبلة ما، هو اجتماع الأمة عليها، وهو من أسباب اتحادهم وجمع كلمتهم.
( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) أي وما كانت حكمة الله ورحمته تقتضي بإضاعة إيمانكم الباعث لكم على اتباع الرسول في الصلاة وفي القبلة، فلو كان تحويل القبلة مما يضيع الإيمان بتفويت ثواب كان قبله لما حولها، وفي هذا بشرى للمؤمنين المتتبعين للرسول بأن الله يجزيهم الجزاء الأوفى، ولا يضيع أجرهم ولا ينقصهم منه شيئا.
ثم ذكر سبب ما تقدم بقوله :
( إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) أي إن الله رءوف بعباده، لأنه ذو الرحمة الواسعة، فلا يضيع عمل عامل منهم، ولا يبتليهم بما يظهر صدق إيمانهم وإخلاصهم ليضيع عليهم هذا الإيمان والإخلاص، بل ليجزيهم أحسن الجزاء.
والخلاصة – إنه لا يكتفي بدفع البلاء عنهم برأفة، بل يعاملهم بعد ذلك بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل، ويزيدهم من فضله.
﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٤٤ ) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( ١٤٥ ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( ١٤٦ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( ١٤٧ ) ﴾
تفسير المفردات :
تقلب الوجه في السماء : تردده المرة بعد المرة فيها، وهي مصدر الوحي وقبلة الدعاء.
نولينك، من وليه وليا إذا قرب منه، وتوليه الوجه المكان جعله قبالته وأمامه، والشطر هنا الجهة، والمراد بالوجه جملة البدن.
المعنى الجملي :
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتشوق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإيحاء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا، ولأن اليهود كانوا يقولون : ويخالفنا في ديننا ويتبعنا في قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبلتهم حتى روي أنه قال لجبريل : وددت لو أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي كان يرجوه، فأنزل الله هذه الآيات
الإيضاح :
( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ) أي قد نرى تردد نظرك جهة السماء حينا بعد حين، تطلعا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة.
﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ أي فلنجعلنك تلي جهة تحبها وتتشوق لها غير جهة بيت المقدس.
( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي فاجعل وجهك بحيث يلي جهة المسجد الحرام، وفي ذكر ( الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدا عنها بحيث لا يراها. ولا يجب استقبالها عينها إلا لمن يراها بعينه.
﴿ وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ أي وفي أي مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم في الصلاة، وهذا يقتضي أن يصلوا في بقاع الأرض المختلفة إلى سائر الجهات، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب.
وقد وجب لهذا أن يعرف المسلمون موقع البيت الحرام وجهته حيث كانوا، ومن ثم عنوا عناية عظيمة بعلم تقويم البلدان بقسميه الفلكي والأرضي ( الجغرافية الفلكية والأرضية ).
والأوامر التي جاءت في الكتاب الكريم موجهة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هي له ولأمته، إلا إذا دل دليل على أنها خاصة به كقوله :( خالصة لك من دون المؤمنين ) وقوله ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك ).
وإنما أكد الأمر باستقباله، ووجهه إلى المؤمنين بعد أن أمر به نبيه، وشرفهم بالخطاب بعد خطاب رسوله، لتشتد عزيمتهم وتطمئن قلوبهم، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب واليهود بعزيمة صادقة وثبات على اتباع الرسول، ثم عاد إلى بيان حال السفهاء مثيري الفتنة في تحويل القبلة فقال :
( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) أي وإن أهل الكتاب يعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام، هو الحق المنزل من الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهم مع هذا يفتنون ضعاف المؤمنين في دينهم ويتقبلون ذلك منهم، إذ يذكرون للناس أقوالا على أنها من كتبهم، وما هي من كتبهم، ولكنت يريدون بذلك الخداع والفتنة والتهويش على الذين في قلوبهم مرض، بإثارة الشكوك في نفوسهم، ومن ثم كذب الله هؤلاء المخادعين، وبين أنهم يقولون ما لا يعتقدون، إذ هم يعلمون أن أمر القبلة كغيره من أمور الدين – حق لا محيص عنه، إذ جاء به الوحي الذي لا شك في صدقه.
﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ فهو العليم بالظاهر والباطن ؛ والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.
﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ﴾
تفسير المفردات :
بكل آية أي بكل برهان وحجة، وواحد الأهواء هوى وهو الإرادة والمحبة، والامتراء الشك.
المعنى الجملي :
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتشوق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإيحاء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا، ولأن اليهود كانوا يقولون : ويخالفنا في ديننا ويتبعنا في قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبلتهم حتى روي أنه قال لجبريل : وددت لو أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي كان يرجوه، فأنزل الله هذه الآيات
الإيضاح :
أي ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة، على أن الحق هو ما جئتهم به من وجوب التحول من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام – ما صدقوا به ولا اتبعوك عنادا منهم ومكابرة.
وقصارى ذلك – إنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تدفعها بحجة، بل خالفوك عنادا وصلفا، فلا يجدي معهم برهان ؛ ولا تقنعهم حجة. وكما أيأسه من اتباعهم قبلته، أيأسهم من إتباعه قبلتهم فقال :
﴿ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ﴾ أي إن ذلك لا يكون منك، فإنك على قبلة إبراهيم الذي يجلونه جميعا، فهي الأجدر بالإتباع. وإذا كان اتباع إبراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا والتقليد يحول بينهم وبين النظر في حكمة القبلة، وسر اجتماع الناس عليها، وكون الجهات كلها لله – أي آية ترجعهم عن قبلتهم ؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها ؟
﴿ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ﴾ أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق، والنصارى لا تغير قبلتها وتتجه إلى المغرب. لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه، محقا كان أو مبطلا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان، إذ التقليد أعمى بصيرته، فلا يبحث في فائدة ما هو فيه، ولا يوازن بينه وبين غيره، ليتبع أصلح الأمور وأكثرها نفعا.
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) أي ولئن وافقتهم فيما يريدون، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصا على إتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين، والعلم الذي لا شك فيه – لتكونن من جملة الظالمين – وحاشاك أن تفعل ذلك.
وتقدم أن مثل هذا من باب ( إياك أعني واسمعي يا جاره ) فالمراد أنه لا ينبغي لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في اتباع أهواء القوم استمالة لهم، فإن الحق قوي بذاته، فمن عدل عنه وجارى أهل الأهواء، رجاء منفعة أو اتقاء مضرة فهو ظالم لنفسه، ولمن سلك بهم هذا السبيل الجائر.
وإذا كان هذا الوعيد توجه لأعلى الناس مقاما عند ربه لو حاول اتباع الهوى استرضاء للناس بمجاراتهم على الباطل، فما ظنك بغيره ممن يتبع الهوى ويجاري الناس على شيء نهاهم الله عنه، فليعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح من الظلم العظيم الذي يوقع في مهاوي الهلاك، فكأنه قيل : إن هذا ظلم عظيم لا هوادة فيه مع أحد، فلو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله لسجل عليه الظلم ﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾ فكيف بمن دونه ممن لا يقاربه منزلة عند ربه ؟
ولا شك أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يوجب على المؤمن أن يفكر طويلا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم، وكيف إن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين، ولا يكون لهم وازع من نواهيه، وقوارعه الشديدة. وزواجره التي تخر لها الجبال سجدا.
وأعجب من هذا مجاراتهم لأهواء الملوك والأمراء، حتى إنهم ليلفقون لهم من الحيل والفتاوى ما يسترضونهم به، ويكون فيه إشباع لشهواتهم واتباع لأهوائهم.
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ﴾
المعنى الجملي :
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتشوق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإيحاء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا، ولأن اليهود كانوا يقولون : ويخالفنا في ديننا ويتبعنا في قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبلتهم حتى روي أنه قال لجبريل : وددت لو أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي كان يرجوه، فأنزل الله هذه الآيات
الإيضاح :
هذا كالدليل لما ذكر في قوله :﴿ ليعلمون أنه الحق من ربهم ﴾ فكأنه قال : إن سبب العلم بأنه الحق.
أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، كما يعرفون أبناءهم الذين يربونهم ويحوطونهم بعنايتهم، فلا يفوتهم شيء من أمرهم، حتى لقد قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه – وقد كان من أحبار اليهود – ثم أسلم : أنا أعلم به مني بابني، فقال له عمر رضي الله عنه : ولمه ؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي، أما ولدي فلعل والدته خانت، فقبل عمر رضي الله عنه رأسه، فهذا اعتراف من حبر من أحبارهم هداه الله، كما اعترف بمثله تميم الداري من علماء النصارى.
﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أي وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا الحق الذي يعرفونه، من أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نبي، وأن الكعبة قبلة، وأضاف الكتمان إلى فريق منهم، لأنهم لم يكونوا كلهم كذلك، إذ منهم من اعترف بالحق وآمن به واهتدى، ومنهم من كان يجحده عن جهل، لأنهم كفروا به تقليدا، ولو علموا به حق العلم لجاز أن يقبلوه.
﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾
المعنى الجملي :
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتشوق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإيحاء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا، ولأن اليهود كانوا يقولون : ويخالفنا في ديننا ويتبعنا في قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبلتهم حتى روي أنه قال لجبريل : وددت لو أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي كان يرجوه، فأنزل الله هذه الآيات
الإيضاح :
أي إن الحق هو ما أتاك من ربك من الوحي، لا ما يقول لك اليهود والنصارى، فالقبلة التي وجهك نحوها هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده الأنبياء، فاعمل بما أمرك ربك ولا تلتفت إلى أوهام الجاحدين، فتمترى في الحق بعد ما تبين.
والنهي في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة، موجه فيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد من كانوا غير راسخي الإيمان من أمته، من يخشى عليهم أن يغتروا بزخرف القول من أولئك المخادعين الذين جعلوا همهم إشعال نار الفتنة بين المؤمنين.
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٤٨ ) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ١٤٩ ) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( ١٥٠ ) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ( ١٥١ ) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ( ١٥٢ ) ﴾.
المعنى الجملي :
بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب ؛ فذكر أنهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نبي حقا، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن جحدهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنه متى ثبتت نبوته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه – ذكر هنا أن كل أمة لها قبلة خاصة توجه إليها، والواجب التسليم فيها لأمر الوحي، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس، وأن الواجب التسابق إلى فعل الخيرات، والله يجازي كل عامل بما عمل، وأن استقبال الكعبة واجب في الصلاة في أي جهة كان المصلي، في البر أو في البحر، وأنه ينبغي لكم ألا تخشوا محاجة المشركين في القبلة بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا
الإيضاح :
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ أي ولكل أمة جهة توليها في صلاتها، فإبراهيم وإسماعيل كانا يوليان نحو الكعبة، وبنو إسرائيل كانوا يستقبلون صخرة بيت المقدس، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فأي شبهة تتجه من المشاغبين في أمر تحويل القبلة وكيف يكون ذلك مسوغا للطعن في النبي وشرعه، فالقبلة إذا من المسائل التي اختلفت باختلاف الأمم، فليست الجهة أساسا من أسس الدين كتوحيد الله والإيمان بالبعث والجزاء، فالواجب فيها التسليم لأمر الوحي كما هو الشأن في أمثالها كعدد الركعات، ومقدار النصيب الواجب في الزكاة.
﴿ فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ﴾ أي فبادروا إلى فعل كل نوع من أنواع الخير، وليحرص كل منكم أن يكون سباقا إليه، وأن يتبع أمر المرشد لا أمر المكابر المستكبر الذي يتبع الهوى، ويلقي الحق وراءه ظهريا، فإنه إنما يستبق إلى الشر والضلال ( وماذا بعد الحق إلا الضلال ).
﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا ﴾ أي ففي أي مكان تقيمون فيه، فالله يأتي بكم ويجمعكم للحساب، فعليكم أن تستبقوا إلى فعل الخيرات، فالبلاد والجهات لا شأن لها في أمر الدين، وإنما الشأن لعمل البر، وفي هذا وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية.
ثم أقام الدليل على ما قبله بقوله :
﴿ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات. وتناءت بهم الديار والجهات.
والأمر باستباق الخيرات هنا مجمل يفصله ذكر أنواع البر التي ذكرت في آية ﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين، وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ﴾.
وستأتي، وكأنه يقول للفاتنين والمفتونين في مسألة القبلة : إن جوهر الدين ولبه في المسارعة إلى الخيرات، فهل رأيتم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه قصروا في ذلك أو كانوا السباقين إلى مكرمة، المتصفين بكل فضيلة، فدعوا الجدال واتبعوا فضائل الدين، فالدين هو السبيل الموصل إلى السعادة المنجي من كل سوء.
( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )
المعنى الجملي :
بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب ؛ فذكر أنهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نبي حقا، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن جحدهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنه متى ثبتت نبوته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه – ذكر هنا أن كل أمة لها قبلة خاصة توجه إليها، والواجب التسليم فيها لأمر الوحي، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس، وأن الواجب التسابق إلى فعل الخيرات، والله يجازي كل عامل بما عمل، وأن استقبال الكعبة واجب في الصلاة في أي جهة كان المصلي، في البر أو في البحر، وأنه ينبغي لكم ألا تخشوا محاجة المشركين في القبلة بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا
الإيضاح :
أي ومن أي مكان خرجت، وفي أي بقعة حللت، فول وجهك في صلاتك شطر المسجد الحرام، وقد أعاد الأمر مرة أخرى ليبين أن هذا التولي عام في كل زمان ومكان، ولا يختص ببلاد دون أخرى، ولا بحضر دون سفر، ولا بالصلاة التي كان يصليها وقد نزل عليه التحويل فيها، بل هو شريعة عامة في كل حين وفي كل مكان.
وأصحاب هذه القبلة يصلون إلى جميع الجهات بتوليهم إياها في بقاع الأرض المختلفة شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا.
ثم وثق ذلك ووكده بقوله :
﴿ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ أي وإن توليك إياه لهو الحق الثابت الموافق للحكمة والمصلحة.
﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ أي فالله ليس بغافل عن أعمالكم وإخلاصكم في متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل ما يجيء به من أمر الدين، وسيجازيكم بذلك خير الجزاء.
ولا يخفى ما في هذا من الوعد والبشارة للمؤمنين بنيل المكافأة على ما يفعلون.
﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾
المعنى الجملي :
بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب ؛ فذكر أنهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نبي حقا، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن جحدهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنه متى ثبتت نبوته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه – ذكر هنا أن كل أمة لها قبلة خاصة توجه إليها، والواجب التسليم فيها لأمر الوحي، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس، وأن الواجب التسابق إلى فعل الخيرات، والله يجازي كل عامل بما عمل، وأن استقبال الكعبة واجب في الصلاة في أي جهة كان المصلي، في البر أو في البحر، وأنه ينبغي لكم ألا تخشوا محاجة المشركين في القبلة بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا
الإيضاح :
أي ومن حيث خرجت في أسفارك في المنازل القريبة أو البعيدة، فول وجهك جهة المسجد الحرام، وحيثما كنتم من الأقطار أو مسافرين وصليتم فولوا وجوهكم شطره.
وأعاد الأمر ( فَوَلِّ وَجْهَكَ ) مرة ثالثة عناية بأمر هذا التولي، وليرتب عليه الحكم والمنافع الثلاث الآتية :
﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾ أي لئلا يكون لأولئك المحاجين في أمر القبلة وهم أهل الكتاب والمشركون وتبعهما المنافقون – حجة وسلطان عليكم.
ووجه انتفاء حجتهم على طعنهم في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، أن أهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم أن النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يكون على قبلته وهي الكعبة، فبقاء بيت المقدس قبلة دائمة له، حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به، فلما جاء هذا التحويل عرفوا أنه الحق من ربهم.
وأن المشركين كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم جاء لإحياء ملة أبيه، ينبغي ألا يستقبل غير بيت ربه الذي كان أبوه قد بناه، وكان يصلي هو وإسماعيل إليه. وبذلك دحضت حجة الفريقين، ومن ورائهم المنافقون.
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ أي لكن الذين ظلموا منهم بالعناد، فإن لهم عليكم حجة، إذ يقول اليهود : ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه، وحبا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله، ويقول المشركون : رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا، ويقول المنافقون : إنه متردد مضطرب لا يثبت على قبلة، إلى نحو هذا من الآراء التي سداها ولحمتها الهوى، ولا مرجع فيها لحجة وبرهان، بل هي جدل في دين الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير، ومثل هؤلاء لا يقام لقولهم وزن.
﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ ﴾ أي فلا تخشوا الظالمين في توجهكم إلى الكعبة، لأن كلامهم لا يستند إلى حجة من برهان عقلي ولا هدى سماوي.
﴿ وَاخْشَوْنِي ﴾ فلا تخالفوا ما جاءكم به رسولي عني، فأنا القادر على جزائكم بما وعدتكم.
وفي هذا إيماء إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه، وأن المبطل ينبغي ألا يؤبه به، فإن الحق دائما يعلوا، وما آفة الحق إلا ترك أهله له، وخوفهم من أهل الباطل.
﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ﴾ بإعطائكم قبلة مستقلة في بيت ربكم الذي وضع قواعده جدكم، وجعل الأمم الأخرى تبعا لكم فيه، وطهره من عبادة الأوثان والأصنام، ووجه شعوب العالم جميعا إلى بلادكم، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما يجل حصره.
وفي الحق أن كل أمر من الله فامتثاله نعمة، وتكون النعمة أتم، والمنة أكمل، إذا كان فيه حكمة ظاهرة، وشرف للأمة، وأثر حميد نافع لها.
﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ أي وليعدكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق، فإن الفتن التي أثارها السفهاء على المؤمنين في أمر القبلة أظهرت قوة الحق وثباته، وضعف الباطل وخنوعه، ومحصت المؤمنين، ومحقت الكافرين ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾.
﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ﴾
المعنى الجملي :
بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب ؛ فذكر أنهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نبي حقا، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن جحدهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنه متى ثبتت نبوته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه – ذكر هنا أن كل أمة لها قبلة خاصة توجه إليها، والواجب التسليم فيها لأمر الوحي، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس، وأن الواجب التسابق إلى فعل الخيرات، والله يجازي كل عامل بما عمل، وأن استقبال الكعبة واجب في الصلاة في أي جهة كان المصلي، في البر أو في البحر، وأنه ينبغي لكم ألا تخشوا محاجة المشركين في القبلة بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا
الإيضاح :
أي ولأتم نعمتي عليكم باستيلائكم على البيت الذي جعلته قبلة لكم، وتطهيركم له من عبادة الأصنام، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالقبلة في بلادكم، والرسول من أمتكم، وهو يتلوا عليكم آياتنا التي ترشدكم إلى الحق، وتهديكم إلى سبيل الرشاد، وهي تشمل آيات الكتاب الكريم، وغيرها من الدلائل والبراهين التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته، وبديع تصرفه في السماوات والأرض.
ووجه المنة في ذلك، أنه يهديهم إلى الحق مصحوبا بالدليل والبرهان، دون التقليد والتسليم بلا تبصر وفهم، وبذا يكون العقل مستقلا، والدين له مرشدا وهاديا.
﴿ وَيُزَكِّيكُمْ ﴾ أي يطهر نفوسكم من أدران الرذائل التي كانت فاشية في العرب من وأد البنات، وقتل الأولاد تخلصا من النفقة، وسفك الدماء لأوهن الأسباب، ويغرس فيها فاضل الأخلاق وحميد الآداب.
وبهذه الزكاة التي زكوا بها أنفسهم فتحوا الممالك الكبرى، وكانوا أئمة الأمم التي كانت تحتقر هذا الجنس، وعرفوا لهم فضلهم بعدلهم وسياستهم للأمم سياسة حكيمة أنستهم الأمم التي قبلهم، وجعلت لذلك الدين أثرا عميقا في نفوسهم، فدنوا لحكمه خاضعين، واهتدوا بهديه راشدين.
﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ ﴾ أي ويعلمكم القرآن الكريم ويبين لكم ما انطوى عليه من الحكم الإلهية، والأسرار الربانية التي لأجلها وصف بأنه هدى ونور، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلوه عليهم ليحفظوا نظمه ولفظه، حتى يبقى مصونا من التحريف والتصحيف، ويرشدهم إلى ما فيه من أسرار وحكم ليهتدوا بهديه، ويستضيئوا بنوره.
( وَالْحِكْمَةَ ) وهي العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها ؛ الباعث على العمل بها.
ذاك أن سنة الرسول العملية وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، ومع أصحابه في السلم والحرب، والسفر والإقامة، في القلة والكثرة، جاءت مفصلة لمجمل القرآن، مبينة لمبهمه، كاشفة لما في أحكامه من الأسرار والمنافع.
ولولا هذا الإرشاد العملي لما كان البيان القولي كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء، والجهل إلى الائتلاف والاتحاد، والتآخي، والعلم وسياسة الأمم.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف أصحابه على فقه الدين، ونفذ بهم إلى سره، فكانوا حكماء علماء عدولا أذكياء، حتى إن أحدهم كان يحكم المملكة العظيمة ويقيم فيها العدل ويحسن السياسة، وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه، لكنه فقهه وعرف أسراره وأحكامه.
﴿ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُون ﴾ أي ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما ليس مصدر علمه النظر والفكر، بل طريق معرفته الوحي كأخبار عالم الغيب وسير الأنبياء و أحوال الأمم التي كانت مجهولة عندكم، وأكثرها كان مجهولا عند أهل الكتاب أيضا، وقد بلغوا في هذا النوع من العلم مبلغا فاقوا به سائر الأمم.
﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾
المعنى الجملي :
بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب ؛ فذكر أنهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نبي حقا، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن جحدهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنه متى ثبتت نبوته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه – ذكر هنا أن كل أمة لها قبلة خاصة توجه إليها، والواجب التسليم فيها لأمر الوحي، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس، وأن الواجب التسابق إلى فعل الخيرات، والله يجازي كل عامل بما عمل، وأن استقبال الكعبة واجب في الصلاة في أي جهة كان المصلي، في البر أو في البحر، وأنه ينبغي لكم ألا تخشوا محاجة المشركين في القبلة بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا
الإيضاح :
أي اذكروني بالطاعة بألسنتكم بالحمد والتسبيح، وقراءة كتابي الذي أنزلته على عبدي، وبقلوبكم بالفكر في الأدلة التي نصبتها في الكون لتكون علامة على عظمتي، وبرهانا على قدرتي ووحدانيتي، وبجوارحكم بالقيام بما أمرتكم به، واجتنابكم ما نهيتكم عنه، أجازكم بالثواب والإحسان وإفاضة الخير وفتح أبواب السعادة ودوام النصر والسلطان.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله عز وجل :( أنا عند ظن عبدي وأنا معه، إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ) الحديث.
وهذه أفضل تربية من الله تعالى لعباده، إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل.
وبعد أن أعلمهم بما يحفظ النعم، أرشدهم إلى ما يوجب المزيد منها بمقتضى الجود والكرم فقال :
﴿ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ أي واشكروا لي هذه النعم بالعمل بها وتوجيهها إلى ما وجدت لأجله، والثناء علي بالقلب واللسان، والاعتراف بإحساني إليكم، ولا تكفروا هذه المنن التي أوليتكموها في غير ما يبيحه الشرع والسنن الإلهية.
وهذا تحذير من الله لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعت فيه الأمم السابقة، إذ كفرت بأنعم الله فلم تستعمل العقل والحواس فيما خلقت لأجله، فسلبها ما كان قد وهبها تأديبا لها ولغيرها.
وقد امتثل المسلمون هذه الأوامر حينا من الدهر ثم تركوها بالتدرج فحل بهم ما ترى من النكال الوبال، كما قال تعالى :﴿ وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ١٥٣ ) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ( ١٥٤ ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( ١٥٥ ) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ( ١٥٦ ) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( ١٥٧ ) ﴾
تفسير المفردات :
الصبر : توطين النفس على احتمال المكاره.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه افتتان الناس بتحويل القبلة، وأقام الحجة على المشاغبين، وبين فوائد التحويل للمؤمنين، ومن أهمها البشارة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما في الفتن من تمييز الخبيث من الطيب، والمسلم من المنافق، ثم قفى على ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم، ليستبين للناس أن تحويل القبلة الذي صوره السفهاء بصورة النقمة هو نعمة كبرى، ومنة عظمى.
بين في هذه الآيات أن هذه النعم التي يجب ذكرها وشكرها تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب، من أعظمها ما يلاقيه أهل الحق من مقارعة أشياع الباطل كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد تناوئهم الأمم جمعاء، وقد تألب عليهم المشركون حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتا وكيدا ؛ لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كله بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تربية ملكة الثبات وتعود تحمل المشاق، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة، ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حق أو إزالة باطل، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك، وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه عليهم الرحمة والرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر، ونصرهم الله نصرا مؤزرا على قلتهم وضعفهم عن جميع الأمم التي حواليهم.
وفي الصلاة التوجه إلى الله سبحانه ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه، واستشعار المصلي للهيبة والجلال وهو واقف بين يدي ربه كما جاء في الحديث ( اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
وهو بهذا الشعور المالك للبه المالئ لقلبه، يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخف بكل كرب، ويحتمل كل بلاء، ويقاوم كل عناء. فلا تتوق نفسه إلا لما يرضي ربه الذي يلجأ إليه في الملمات، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات.
وليست الصلاة التي عناها الكتاب الكريم هي مجرد القيام والركوع والسجود، والتلاوة باللسان خاصة، والتي نشاهد من معتاديها الإصرار على الفواحش والمنكرات واجتراح السيئات، إذ لا أثر لها مما وصفه الله بقوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ وقوله :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ﴾ ومن ثم نرى الذين يصلون هذه الصلاة أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يرمون، وما كان للمصلي أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله، والله يبرئه من ذلك ويقول :﴿ إلا المصلين ﴾
الإيضاح :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾ أي استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه، وعلى سائر ما يشق عليكم من مصائب الحياة، بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عز اسمه، وتصغر بمناجاته فيها كل المشاق.
وإنما خص الصبر والصلاة بالذكر، لأن الصبر أشد الأعمال الباطنة على البدن، والصلاة أشد الأعمال الظاهرة عليه، إذ فيها خضوع واستسلام لله، وتوجه بالقلب إليه، واستشعار لعظمة الخالق، وقد روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا حز به أمر ( اشتد عليه ) فزع إلى الصلاة وتلا هذه الآية.
﴿ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ أي إن الله ناصرهم ومجيب دعوتهم، ومن كان الله ناصره فلا غالب له، أما الجازع فقلبه لاه عن ذكر الله، والقلب اللاهي ممتلئ بهموم الدنيا وأكدارها، وإن حاز الدنيا بحذافيرها.
وقد جرت سنة الله أن الأعمال العظيمة لا تنجح إلا بالثبات والدأب عليها، ومدار ذلك كله الصبر، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه، فيسهل له العسير من أمره، ويجعل له فرجا من ضيقة، ومن لم يصبر فليس الله معه، لأنه تنكب عن سنته، فلن يبلغ قصده وغايته.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه افتتان الناس بتحويل القبلة، وأقام الحجة على المشاغبين، وبين فوائد التحويل للمؤمنين، ومن أهمها البشارة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما في الفتن من تمييز الخبيث من الطيب، والمسلم من المنافق، ثم قفى على ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم، ليستبين للناس أن تحويل القبلة الذي صوره السفهاء بصورة النقمة هو نعمة كبرى، ومنة عظمى.
بين في هذه الآيات أن هذه النعم التي يجب ذكرها وشكرها تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب، من أعظمها ما يلاقيه أهل الحق من مقارعة أشياع الباطل كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد تناوئهم الأمم جمعاء، وقد تألب عليهم المشركون حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتا وكيدا ؛ لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كله بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تربية ملكة الثبات وتعود تحمل المشاق، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة، ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حق أو إزالة باطل، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك، وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه عليهم الرحمة والرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر، ونصرهم الله نصرا مؤزرا على قلتهم وضعفهم عن جميع الأمم التي حواليهم.
وفي الصلاة التوجه إلى الله سبحانه ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه، واستشعار المصلي للهيبة والجلال وهو واقف بين يدي ربه كما جاء في الحديث ( اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
وهو بهذا الشعور المالك للبه المالئ لقلبه، يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخف بكل كرب، ويحتمل كل بلاء، ويقاوم كل عناء. فلا تتوق نفسه إلا لما يرضي ربه الذي يلجأ إليه في الملمات، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات.
وليست الصلاة التي عناها الكتاب الكريم هي مجرد القيام والركوع والسجود، والتلاوة باللسان خاصة، والتي نشاهد من معتاديها الإصرار على الفواحش والمنكرات واجتراح السيئات، إذ لا أثر لها مما وصفه الله بقوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ وقوله :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ﴾ ومن ثم نرى الذين يصلون هذه الصلاة أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يرمون، وما كان للمصلي أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله، والله يبرئه من ذلك ويقول :﴿ إلا المصلين ﴾
الإيضاح :
أي ولا تتحدثوا في شأنهم، فتقولوا : إنهم أموات، بل هم أحياء في عالم غير عالمكم، ولكن لا تشعرون بحياتهم، إذ ليست في عالم الحس الذي يدرك بالمشاعر، بل هي حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس وفيها يرزقون وينعمون، ولا نعرف حقيقة هذه الحياة ولا الرزق الذي يكون فيها، ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب.
فنفوض أمره إلى الله، وقيل إنها حياة روحانية محضة لا ندرك سرها.
وقد أبان سبحانه في هذه الآية جزاء ما يلاقيه المؤمن في تأييد الدعوة إلى دينه مما يصل به أحيانا إلى القتل في التغلب على من يصد الناس عن الدعوة ويقاتل في الدفاع عن الباطل، فذكر ما أعد له من النعيم المقيم، والرزق المتواصل، والحياة التي لا يعرف كنهها إلا علام الغيوب، جزاء ما فعل لتأييد حجة الله البالغة، والجهر بالحق، والصدع بأمر ربه، فكان له ما كان مما لم تره عين، ولا سمعت به أذن، ولا خطر على قلب بشر.
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ﴾
تفسير المفردات :
والابتلاء : الاختبار والامتحان، والمراد بالأموال : الأنعام التي كانت معظم ما يتموله العرب، والمصيبة كل ما يؤذي الإنسان في نفس أو مال أو أهل، قل أو كثر.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه افتتان الناس بتحويل القبلة، وأقام الحجة على المشاغبين، وبين فوائد التحويل للمؤمنين، ومن أهمها البشارة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما في الفتن من تمييز الخبيث من الطيب، والمسلم من المنافق، ثم قفى على ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم، ليستبين للناس أن تحويل القبلة الذي صوره السفهاء بصورة النقمة هو نعمة كبرى، ومنة عظمى.
بين في هذه الآيات أن هذه النعم التي يجب ذكرها وشكرها تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب، من أعظمها ما يلاقيه أهل الحق من مقارعة أشياع الباطل كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد تناوئهم الأمم جمعاء، وقد تألب عليهم المشركون حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتا وكيدا ؛ لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كله بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تربية ملكة الثبات وتعود تحمل المشاق، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة، ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حق أو إزالة باطل، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك، وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه عليهم الرحمة والرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر، ونصرهم الله نصرا مؤزرا على قلتهم وضعفهم عن جميع الأمم التي حواليهم.
وفي الصلاة التوجه إلى الله سبحانه ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه، واستشعار المصلي للهيبة والجلال وهو واقف بين يدي ربه كما جاء في الحديث ( اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
وهو بهذا الشعور المالك للبه المالئ لقلبه، يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخف بكل كرب، ويحتمل كل بلاء، ويقاوم كل عناء. فلا تتوق نفسه إلا لما يرضي ربه الذي يلجأ إليه في الملمات، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات.
وليست الصلاة التي عناها الكتاب الكريم هي مجرد القيام والركوع والسجود، والتلاوة باللسان خاصة، والتي نشاهد من معتاديها الإصرار على الفواحش والمنكرات واجتراح السيئات، إذ لا أثر لها مما وصفه الله بقوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ وقوله :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ﴾ ومن ثم نرى الذين يصلون هذه الصلاة أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يرمون، وما كان للمصلي أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله، والله يبرئه من ذلك ويقول :﴿ إلا المصلين ﴾
الإيضاح :
أي والله لنمتحننكم ببعض ضروب الخوف من الأعداء وبعض المصايب المعتادة في المعاش، كالجوع ونقص الثمرات، إذ كان أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج صفر اليدين، حتى لقد بلغ من جوعهم أن كانوا يتبلعون بتمرات يسيرات، ولا سيما في غزوتي الأحزاب وتبوك، وبنقص الأنفس بالقتل والموت من اجتواء المدينة، فقد كانت حين الهجرة بلد وباء ثم حسن مناخها.
وفي الآية إيماء إلى أن الانتساب إلى الإيمان لا يقتضي سعة الرزق وبسط النفوذ وانتفاء المخاوف، بل كل ذلك يجزى بحسب السنن التي سنها الله لخلقه، فتقع المصايب متى وجدت أسبابها، وكامل الإيمان يتأدب بمقاومة الشدائد، ويتهذب بوقوع الكوارث.
﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه افتتان الناس بتحويل القبلة، وأقام الحجة على المشاغبين، وبين فوائد التحويل للمؤمنين، ومن أهمها البشارة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما في الفتن من تمييز الخبيث من الطيب، والمسلم من المنافق، ثم قفى على ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم، ليستبين للناس أن تحويل القبلة الذي صوره السفهاء بصورة النقمة هو نعمة كبرى، ومنة عظمى.
بين في هذه الآيات أن هذه النعم التي يجب ذكرها وشكرها تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب، من أعظمها ما يلاقيه أهل الحق من مقارعة أشياع الباطل كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد تناوئهم الأمم جمعاء، وقد تألب عليهم المشركون حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتا وكيدا ؛ لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كله بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تربية ملكة الثبات وتعود تحمل المشاق، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة، ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حق أو إزالة باطل، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك، وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه عليهم الرحمة والرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر، ونصرهم الله نصرا مؤزرا على قلتهم وضعفهم عن جميع الأمم التي حواليهم.
وفي الصلاة التوجه إلى الله سبحانه ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه، واستشعار المصلي للهيبة والجلال وهو واقف بين يدي ربه كما جاء في الحديث ( اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
وهو بهذا الشعور المالك للبه المالئ لقلبه، يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخف بكل كرب، ويحتمل كل بلاء، ويقاوم كل عناء. فلا تتوق نفسه إلا لما يرضي ربه الذي يلجأ إليه في الملمات، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات.
وليست الصلاة التي عناها الكتاب الكريم هي مجرد القيام والركوع والسجود، والتلاوة باللسان خاصة، والتي نشاهد من معتاديها الإصرار على الفواحش والمنكرات واجتراح السيئات، إذ لا أثر لها مما وصفه الله بقوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ وقوله :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ﴾ ومن ثم نرى الذين يصلون هذه الصلاة أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يرمون، وما كان للمصلي أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله، والله يبرئه من ذلك ويقول :﴿ إلا المصلين ﴾
الإيضاح :
أي وبشر الصابرين الذين يقولون هذه المقالة المعبرة عن الإيمان بالقضاء والقدر – بالظفر بحسن العاقبة في أمورهم كلها بحسب ما وضع من السنن في الكون. والصبر لا ينافي ما يحدث من الحزن حين حلول المصيبة، فإن ذلك من الرقة والرحمة الطبيعيين في الإنسان، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكى عندما حضر ولده إبراهيم الموت، فقيل له : أليس قد نهيتنا عن ذلك ؟ قال : إنها الرحمة، ثم قال : إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
والجزع المذموم هو الذي يدعوا صاحبه إلى فعل ما يمجه العقل وينهى عنه الشرع، مما نرى مثله عند الجماهير إذا حلت بهم المصايب، ونزلت بهم الكوارث.
روى مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرا منها ).
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عاقبته، وجعل له خلفا صالحا يرضاه ).
وفي قوله :( إنا لله ) إقرار بالعبودية والملك، وفي قوله :﴿ وإنا إليه راجعون ﴾ إقرار بالفناء والبعث من القبور، واليقين بأن مرجع الأمر كله لله تعالى.
﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾
تفسير المفردات :
والصلاة : من الله التعظيم وإعلاء المنزلة عنده وعند الناس، والرحمة : اللطف بما يكون لهم من حسن العزاء، والرضا بالقضاء.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه افتتان الناس بتحويل القبلة، وأقام الحجة على المشاغبين، وبين فوائد التحويل للمؤمنين، ومن أهمها البشارة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما في الفتن من تمييز الخبيث من الطيب، والمسلم من المنافق، ثم قفى على ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم، ليستبين للناس أن تحويل القبلة الذي صوره السفهاء بصورة النقمة هو نعمة كبرى، ومنة عظمى.
بين في هذه الآيات أن هذه النعم التي يجب ذكرها وشكرها تقرن بضروب من البلاء وألوان من المصايب، من أعظمها ما يلاقيه أهل الحق من مقارعة أشياع الباطل كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد تناوئهم الأمم جمعاء، وقد تألب عليهم المشركون حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتا وكيدا ؛ لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كله بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تربية ملكة الثبات وتعود تحمل المشاق، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة، ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حق أو إزالة باطل، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك، وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه عليهم الرحمة والرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر، ونصرهم الله نصرا مؤزرا على قلتهم وضعفهم عن جميع الأمم التي حواليهم.
وفي الصلاة التوجه إلى الله سبحانه ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه، واستشعار المصلي للهيبة والجلال وهو واقف بين يدي ربه كما جاء في الحديث ( اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
وهو بهذا الشعور المالك للبه المالئ لقلبه، يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخف بكل كرب، ويحتمل كل بلاء، ويقاوم كل عناء. فلا تتوق نفسه إلا لما يرضي ربه الذي يلجأ إليه في الملمات، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات.
وليست الصلاة التي عناها الكتاب الكريم هي مجرد القيام والركوع والسجود، والتلاوة باللسان خاصة، والتي نشاهد من معتاديها الإصرار على الفواحش والمنكرات واجتراح السيئات، إذ لا أثر لها مما وصفه الله بقوله :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ وقوله :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ﴾ ومن ثم نرى الذين يصلون هذه الصلاة أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يرمون، وما كان للمصلي أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله، والله يبرئه من ذلك ويقول :﴿ إلا المصلين ﴾
الإيضاح :
أي أولئك الصابرون لهم من ربهم مغفرة ومدح على ما فعلوا، ورحمة يجدون أثرها في برد القلوب عند نزول المصيبة. وهذه الرحمة يحسد عليها الكافرون المؤمنين، فإن الكافر الذي حرم من هذه الرحمة، إذا نزلت به المصيبة تضيق به الأرض بما رحبت، حتى لقد يقضي على نفسه بيده إذا لم يجد وسيلة للخلاص مما حل به.
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ إلى الحق والصواب، ومن ثم أسلموا للقضاء، فلم يستحوذ الجزع على نفوسهم، ففازوا بخير الدنيا والراحة فيها، وسعادة الآخرة بتزكية النفس، وتحليها بمكارم الأخلاق وصالح الأعمال.
﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( ١٥٨ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الصفا والمروة : جبلان بمكة بينهما من المسافة مقدار ٧٦٠ ذراعا، والصفا : تجاه البيت الحرام، والآن علتهما المباني وصار ما بينهما سوقا، وواحدة الشعائر شعيرة وهي العلامة، وتسمى المشاعر أيضا وواحدها مشعر، وهي تطلق حينا على معالم الحج ومواضع النسك، وحينا آخر على العبادة والنسك نفسه. والحج لغة القصد، وشرعا قصد البيت الحرام لأداء المناسك المعروفة. والعمرة لغة : الزيارة، وشرعا زيارة مخصوصة للبيت الحرام مفصلة في كتب العبادات، والاعتمار : أداء مناسك العمرة، والجناح :( الضم ) الميل، ومنه :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ والمراد هنا الميل إلى الإثم، ويطوف أصله يتطوف : أي يكرر الطواف، وهذا التطوف هو الذي عرف في كتب الدين بالسعي بين الصفا والمروة، وهو من مناسك الحج بالإجماع والعمل المتواتر ؛ والتطوع : لغة الإتيان بالفعل طوعا لا كرها، ثم أطلق على التبرع بالخير لأنه طوع لا كره، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب، شاكرا : أي مجاز على الإحسان إحسانا.
المعنى الجملي :
علمت مما سلف أن في قول تحويل القبلة إلى البيت الحرام توجيها لقلوب المؤمنين إلى الاستيلاء عليه لتطهيره من الشرك والآثام، وأن في قوله : ولأتم نعمتي عليكم بشارة بهذا الاستيلاء، وأنه أرشد المؤمنين إلى ما يستعينون به على الوصول إلى ذلك وإلى سائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة، وأنه أشعرهم بما سيلاقون في سبيل ذلك من المصايب والكوارث، وهنا ذكر ما يؤكد تلك البشارة ويتمم لهم النعمة باستيلائهم على مكة وإقامة مناسك الحج فيها، فساق الكلام في الصفا والمروة على أنها شعيرة من شعائر الحج وقربة يتقرب بها إلى الله، وأنه من المناسك التي كان عليها إبراهيم الذي أحيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملته، وجعلت الصلاة إلى قبلته.
الإيضاح :
( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ ) أي إن هذين الموضعين من علامات دين الله، وكذلك الأعمال والمناسك التي تعمل بينهما وهي السعي بينهما هي أيضا من الشعائر، لأن القيام بها علامة الخضوع لله والإيمان به وعبادته إذعانا وتسليما.
والأحكام الشرعية قسمان :
نوع يسمى بالشعائر وهي ما تعبدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه الخصوص، والتوجه فيها إلى مكان معين سماه بيته، مع أنه من خلقه كسائر العالم، وكمناسك الحج وأعماله، فمثل هذا شرعه الله لنا لمصلحة لا نفهم سرها تمام الفهم، ولا نزيد فيه ولا ننقص، ولا يؤخذ فيه برأي أحد ولا باجتهاده، إذ لو أبيح لهم ذلك لزادوا فيه، فلا يفرق بين الأصل المشترع والدخيل المبتدع، ويصبح المسلمون كالنصارى ويصدق عليهم قوله :﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾.
ما لا يسمى بالشعائر كالأحكام والمعاملات من بيع وإجارة وهبة ونحوها، وهذه قد شرعت لصالح البشر، ولها علل وأسباب يسهل على الإنسان فهمها.
( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) أي فمن أدى فريضة الحج أو اعتمر فلا يتخوفن من الطواف بهما، من أجل أن المشركين كانوا يطوفون بهما، فإن هؤلاء يطوفون بهما كفرا، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وتصديقا لرسولي وطاعة لأمري.
والسر في التعبير بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح، مع أن السعي بينهما إما فرض كما هو رأي مالك والشافعي أو واجب كما هو رأي أبي حنيفة، الإشارة إلى بيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا والمروة من الشعائر، وأن السعي بينهما من مناسك إبراهيم، وذلك لا ينافي الطلب الجازم.
﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ أي ومن أكثر من الطاعة بالزيادة على الواجب – فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا، وهو العليم بمن يستحق هذا الجزاء.
وفي التعبير عن إحسان الله على عباده بالشكر – تعويدهم الآداب العالية والأخلاق السامية، إذ أن منفعة عملهم عائدة عليهم، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه. أفبعد هذا ينبغي للإنسان أن يرى نعم الله تترى عليه، ولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما خلقت لأجله ؟ وهل يليق به ألا يشكر نعمة من أسدى إليه المعروف وغمره بالنعمة ؟
وشكر المنعم ما يسديه من النعم ركن عظيم من أركان العمران، فهو يشحذ عزائم العاملين، ويوجد التنافس بين ذوي الهمم المخلصين لوطنهم وأممهم، بل للعالم أجمع.
كما أن ترك شكر الناس وتقدير أعمالهم جناية على الناس وعلى أنفسنا، فإن صانع المعروف إن لم يلق من الناس إلا الكفران، ترك عمل الخير يائسا منه في الفائدة أو حذرا من سوء النية، إذ الحاسدون من الأشرار يسعون في إيذاء الأخيار.
ويرون في ذلك حديثا يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسر بمديحه إذا ذكرت أعماله الشريفة وسعيه في حب الخير، مع أنه من أخلص المخلصين لله لا يبغي بعمله غير مرضاته، وهو ( عجبت لمحمد كيف يسمن من أذنيه ).
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( ١٥٩ ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٦٠ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( ١٦١ ) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ( ١٦٢ ) ﴾
تفسير المفردات :
الكتمان تارة يكون بستر الشيء وإخفائه، وتارة أخرى بإزالته ووضع آخر مكانه، واليهود فعلوا في التوراة كليهما، فقد أخفوا حكم رجم الزاني، وأنكروا بشارة التوراة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعسفوا في تأويل ما ورد فيها من ذلك على وجه لا ينطبق على محمد عليه السلام، وكذلك فعلوا بالدلائل الدالة على نبوة عيسى عليه السلام وزعموا أنها لغيره، وأنهم لا يزالون إلى الآن ينتظرونه، والبينات : هي الأدلة الواضحة الدالة على أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الرجم، وتحويل القبلة، والهدى هو ضروب الإرشاد التي فيها، والكتاب يراد به الكتب المنزلة جميعا، واللعن : الإبعاد والطرد، ولعن الله الإبعاد من رحمته التي تشمل المؤمنين جميعا في الدنيا والآخرة، واللاعنون : هم الملائكة والناس أجمعون، ولعنهم لهم دعاؤهم عليهم بالإبعاد من رحمة الله، تابوا : أي رجعوا عن الكتمان، المعنى الجملي :
لا يزال الكلام في عناد الكفار للنبي صلى الله عيه وآله وسلم ومعاداتهم إياه، ولا سيما اليهود، فقد ذكر فيما سلف جحودهم، وعنادهم له في مسألة القبلة. وجاء في سياق ذلك أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون.
وهنا ذكر أن أهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم :
إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه كالبشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته مع وجودها في سفر التثنية، فقد جاء فيه : وسوف أقيم لهم نبيا مثلك من بني إخوتهم، وأجعل كلامي في فمه، ويكلمهم بكل شيء آمره به. ولا شك أن بني إخوتهم هم العرب أبناء إسماعيل، وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره في سورة المائدة.
وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة، أو بحمله على غير معانيه بالتأويل إتباعا لأهوائهم.
وقد فضحهم الله بهذه الآيات، وسجل عليهم اللعنات الدائمات.
الإيضاح :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) أي إن أهل الكتاب الذين يكتمون أمر الإسلام وأمر محمد صلى الله عيه وآله وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بينا واضحا، يستحقون الطرد والبعد من رحمة الله، ويستوجبون بأعمالهم الدعاء عليهم باللعن من الملائكة والناس أجمعين.
وحكم هذه الآية شامل لكل من كتم علما فرض الله بيانه للناس، كما روى في الخبر أنه عليه السلام قال :( من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ).
وروي أن أبا هريرة قال :( لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم، وتلا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا ﴾ ) الآية.
ومن هنا ترى أن الذي يرى حرمات الله تنتهك أمام عينيه، والدين يداس جهارا بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشي الهدى، ثم هو لا ينتصر بيد ولا لسان، يكون ممن يستحق وعيد الآية، وقد لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل وبين سبب لعنهم بقوله :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ﴾ فمنه ترى أن الأمة كلها قد لعنت لتركها التناهي عن المنكر، فيجب إذا أن تكون في الأمة جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ﴾.
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
تفسير المفردات :
وأصلحوا : أي أصلحوا أعمالهم وأرشدوا قومهم إلى تلك الآيات البينات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودينه والهدى الذي جاء به، وبينوا : أي جاهروا بعلمهم الصالح وأظهروه للناس حتى يمحوا عن أنفسهم سمة الكفر ويكونوا قدوة لغيرهم.
سورة البقرة
مدنية إلا آية إحدى وثمانين ومائتين، فقد نزلت بمنى في حجة الوداع، وهي آخر القرآن نزولا على ما قيل : وغالب السورة نزل أول الهجرة، وهي أطول سور القرآن، كما أن أقصرها سورة الكوثر، وأطول آية في القرآن هي آية الدين ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ﴾ الخ، وأقصرها قوله والضحى، وقوله والفجر.
الإيضاح :
أي إلا من أناب عن كتمانه، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأقر بنبوته ؛ وصدق ما جاء به من عند الله، وأصلح حال نفسه بالتقرب إلى الله بصالح الأعمال، وبين ما علم من وحي الله إلى أنبيائه، وما عهد إليهم في كتبه، فلم يكتمه ولم يخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويفيض عليهم مغفرته تفضلا منه ورحمة، وهو الذي يرجع قلوب عباده المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته، وهو الرحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات.
وفي الآية ترغيب للقلوب التي تخاف سخط الله وشديد عقابه، في التوبة عما فرط من الذنوب، وطرد اليأس من رحمة الله مهما ثقلت الذنوب وكثرت الآثام كما قال :﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾
سورة البقرة
مدنية إلا آية إحدى وثمانين ومائتين، فقد نزلت بمنى في حجة الوداع، وهي آخر القرآن نزولا على ما قيل : وغالب السورة نزل أول الهجرة، وهي أطول سور القرآن، كما أن أقصرها سورة الكوثر، وأطول آية في القرآن هي آية الدين ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ﴾ الخ، وأقصرها قوله والضحى، وقوله والفجر.
الإيضاح :
بعد أن ذكر في الآية السالفة أن الكافرين الذين كتموا الحق يستحقون اللعن، ثم أخرج من بينهم جماعة التائبين، ذكر في هذه الآية وما بعدها أن اللعن الأبدي الذي يلزمه الخلود في دار الذل والهوان، لا يكون إلا إذا مات صاحبه على الكفر، وحينئذ تسجل عليه اللعنة من الله والملائكة والناس جميعا، ومن بينهم أهل مذهبه، فإنهم إذا شرحت لهم أحوال كفره وإصراره على غيه، وكيف يعاند الداعي إلى الحق، رأوه محلا للعن ومستحقا أشد العقوبة.
والسر في التعبير بلعن الملائكة والناس، مع أن لعن الله وحده يكفي في خزيه، الدلالة على أن جميع من يعلم أحواله من العوالم العلوية والسفلية يراه أهلا للعن الله ومقته، فلا يشفع له شافع ولا يرحمه راحم، فهو قد استحق اللعن لدى جميع من يعقل ويعلم، ومن استحق النكال من الرب الرءوف الرحيم، فماذا يرجو من سواه من عباده ؟
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾
تفسير المفردات :
خالدين : أي ماكثين في تلك اللعنة على طريق الدوام، ومتى خلد فيها فقد خلد في عذاب النار الدائم، ينظرون : أي يمهلون.
سورة البقرة
مدنية إلا آية إحدى وثمانين ومائتين، فقد نزلت بمنى في حجة الوداع، وهي آخر القرآن نزولا على ما قيل : وغالب السورة نزل أول الهجرة، وهي أطول سور القرآن، كما أن أقصرها سورة الكوثر، وأطول آية في القرآن هي آية الدين ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ﴾ الخ، وأقصرها قوله والضحى، وقوله والفجر.
الإيضاح :
أي ماكثين في هذه اللعنة على طريق الدوام، ومتى خلدوا فيها فقد خلدوا في عذاب النار الدائم لا يخلصون منه، ولا يخفف عنه شيء منه، ولا هم ينظرون ويمهلون ليتوبوا ويعملوا صالح الأعمال، لأن الكفر الذي استحقوا به هذا العذاب هو غاية ما يكتسبه المرء في ظلمات الروح، ومتى مات انقطع عمله وتعذر عليه أن يجلي تلك الظلمة، ويرجع إلى الحق، ويزكي نفسه، ولا يمهل إذ هو الجاني على نفسه، فأي شيء يرجو من غيره ؟
﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( ١٦٣ ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ١٦٤ ) ﴾.
المعنى الجملي :
حكم الله في الآية السابقة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة والطرد من رحمته إلا إن تابوا، فإن هم ماتوا على كتمانهم كانوا خالدين في اللعنة لا يخفف عنهم العذاب شيء ولا يقبل منهم فدية ولا تنفعهم شفاعة.
وهنا ذكر أن شارع الدين واحد لا معبود سواه، ولا ينبغي أن تكتم هدايته للبشر وهو مفيض الرحمة والإحسان، ليتذكر أولئك الذين يكتمون البينات، المؤثرون آراء رؤسائهم وأحبارهم، ثقة بهم، واعتمادا على شفاعتهم، إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا وإنهم مخطئون في كتمان الحق ومعاداة أهله
الإيضاح :
( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) أي وإلهكم الحقيق بالعبادة إله واحد، فلا تشركوا به أحدا.
والشرك به ضربان :
شرك في الألوهية، والعبادة، بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصده عن بعض، فيتوجه إليه في الدعاء عندما يتوجه إلى الله، ويدعوه معه، أو يدعوه من دون الله، ليكشف عنه ضرا أو يجلب له نفعا.
شرك به في الربوبية، بأن يسند الخلق إلى غيره معه، أو أخذ أحكام الدين من عبادة وتحليل وتحريم من غير كتبه ووحيه الذي بلغه عن الرسل، استنادا إلى أن من يؤخذ عنهم الدين، هم أعلم بمراد الله، وهذا هو المراد بقوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾.
فواجب علماء الدين أن يبينوا للناس ما نزله الله ولا يكتموه، لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، كما فعل من قبلهم من أهل الكتب المنزلة، حين زادوا على الوحي أحكاما كثيرة من تلقاء أنفسهم، وخالفوا ما نزل بتأويلات وتعسفات بعيدة عن روح الدين وسره.
والله هو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فحسب المرء أن يرجوها، ولا يعتمد على رحمة سواه، ممن يظن أنهم مقربون إذ كل ما يعتمد عليه من دونه فليس أهلا للاعتماد عليه، بل الاعتماد عليه من قبيل الشرك.
والإله الذي بيده أزمة المنافع، والقادر على دفع المضار، واحد لا سلطان لأحد على إرادته، ولا مبدل لكلماته، ولا أوسع من رحمته.
وإنما ذكر الوحدة والرحمة دون غيرهما من صفاته، لأن الواحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق، بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده.
ثم ذكر – عزت قدرته – بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته لتكون برهانا على ما ذكر في الآية قبلها فقال :﴿ إن في خلق السماوات والأرض ﴾ الآية.
المعنى الجملي :
حكم الله في الآية السابقة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة والطرد من رحمته إلا إن تابوا، فإن هم ماتوا على كتمانهم كانوا خالدين في اللعنة لا يخفف عنهم العذاب شيء ولا يقبل منهم فدية ولا تنفعهم شفاعة.
وهنا ذكر أن شارع الدين واحد لا معبود سواه، ولا ينبغي أن تكتم هدايته للبشر وهو مفيض الرحمة والإحسان، ليتذكر أولئك الذين يكتمون البينات، المؤثرون آراء رؤسائهم وأحبارهم، ثقة بهم، واعتمادا على شفاعتهم، إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا وإنهم مخطئون في كتمان الحق ومعاداة أهله
الإيضاح :
وهذه الظواهر والآيات ضروب منوعة :
السماوات التي تتألف أجرامها من طوائف، لكل طائفة منها نظام محكم وللمجموع نظام واحد، يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، والحكمة والتدبير، وأقرب تلك الطوائف إلينا المجموعة الشمسية التي تفيض شمسها على أرضنا أنوارها، فتكون سببا في حياة الحيوانات والنبات، ويتبعها جملة كواكب تختلف مقاديرها وأبعادها، استقر كل منها في مداره، وحفظت النسبة بين بعضها وبعض بسنة إلهية محكمة يعبرون عنها بالجاذبية، ولولا ذلك لتفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم جميعا.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
الأرض، ففي جرمها ومادتها وشكلها والعوالم المختلفة التي عليها من الجماد والنبات والحيوان، وفي منافعها المختلفة باختلاف أنواعها، ما يدل على إبداع الحكيم العليم { وفي الأرض آيات للموقنين ).
﴿ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ أي تعاقبهما بمجيء أحدهما وذهاب الآخر واختلافهما في الطول والقصر باختلاف الأقطار والبلدان ومواقع الطول والعرض واختلاف الفصول، وفي ذلك من المنافع والمصالح للناس آيات بينات دالة على وحدة مبدع هذا النظام ورحمته بعباده، وقد أشار إلى ذلك الكتاب الكريم في آيات أخرى فقال :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة، لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شيء فصلناه تفصيلا ﴾ وقال أيضا :﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ﴾.
﴿ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ الفلك اسم للسفينة الواحدة وللكثير.
ودلالتها على الوحدانية يحتاج إلى معرفة طبيعة الماء وقانون النقل في الأجسام، وطبيعة الهواء والريح والبخار والكهرباء التي هي العمدة في سير السفن الكبرى في هذا العصر.
وكل ذلك يجري على سنن مطردة تدل على أنها صادرة عن قوة بديعة النظام، هي قوة الإله الواحد العليم، كما قال :﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ﴾.
ودلالتها على الرحمة قد بينه سبحانه بقوله :{ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَج أي ينفعهم في أسفارهم وتجارتهم، فهي تحمل أصناف المتاجر من صقع إلى صقع، ومن قطر إلى آخر، فتجعل العالم كله مشتركا في المطاعم والمشارب والملابس وأصناف الأدوية وغيرها.
وجاءت هذه المنة عقب اختلاف الليل والنهار لاحتياج المسافرين إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، ومن احتياج ربابنة السفن إلى معرفة علم النجوم ( الجغرافية الفلكية ) ومن ثم قال تعالى :
﴿ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ﴾.
﴿ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء ﴾ وقد وصف الله تعالى في آية أخرى كيف ينزل المطر فقال :﴿ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ﴾ وهذا الوصف الموجز هو ما بينه العلماء بقولهم : إن المطر يتوالد من تصاعد بخار الماء بواسطة حرارة الهواء التي تنشأ في مياه البحار من احتكاك بعض ذراتها ببعض، ومن احتكاك الهواء بسطح البحر، وحين تصعد في الجو تتكاثف وتكون سحب يسقط الماء من خلالها وينزل إلى الأرض لثقله.
( فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ) أي وبهذا الماء تحدث حياة الأرض بالنبات، وبه أمكن معيشة الحيوان على سطحها، وهذا هو الإيحاء الأول الذي أشير إليه بقوله في آية أخرى ﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾ أي أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة متصلا بعض أجزائها ببعض ففتقناهما فانفصل جرم الأرض من جرم السماء وصارت الأرض قطعة مستقلة ملتهبة وكانت مادة الماء ( الأوكسجين والإيدروجين ) تبخر من الأرض فتلاقى في الجو طبقة بادرة تحيلها سحابا فتنزل على الأرض فتبرد حرارتها، ومازالت هذه حالها حتى صارت كلها ماء، وتكونت بعد ذلك الأرض اليابسة وخرج النبات وعاش الحيوان.
وأما الإحياء المستمر المشاهد في جميع بقاع الأرض فهو المشار إليه بقوله :﴿ وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ﴾ فكل أرض لا ينزل عليها المطر ولا تجري فيها المياه من الأرضين الممطورة تكون خالية من النبات والحيوان.
فنزول الماء على هذا النحو المشاهد، وكونه سببا في حياة الحيوان والنبات من أعظم الأدلة على وحدانية المبدع، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع يدل على الرحمة الإلهية الشاملة.
﴿ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ﴾ أي توجيه الرياح وتصريفها بحسب الإرادة ووفق النظام على السنن الحكيمة، فمنها الملحقة للنبات كما قال تعالى :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح ﴾ ومنها العقيم، وهي الأغلب تهب من جهة الجهات الأربع، وقد تكون متناوحة : أي تهب من كل ناحية، وتارة تأتي نكباء بين بين، يدل على وحدة مصدرها ورحمة مدبرها.
﴿ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾ أي الغيم الذي ذلل وسحب في الجواء لإنزال الأمطار في مختلف البلاد، وتكون بنظام، واعترض بين السماء والأرض بسحب السنة الإلهية في اجتماع الأجسام اللطيفة وافتراقها وعلوها وهبوطها، مما يدهش لرؤية الناظر قبل أن يألف ويأنس به.
﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ أي في كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر في الأسباب، ليدرك الحكم والأسرار، ويميز بين النافع والضار، ويستدل بما فيها من الإتقان والإحكام، على قدرة مبدعها وحكمته، وعظيم رحمته، وأنه المستحق للعبادة دون غيره من خلقه.
وفي الحديث ( ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها ) المج : قذف الريق ونحوه من الفم، والمراد عدم الاعتبار والاعتداد بها، إذ من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه.
وقال بعض العلماء : إن لله كتابين كتابا مخلوقا هو الكون، وكتابا منزلا هو القرآن، ويرشدنا إلى طرق العلم بذلك، بما أوتيناه من العقل، فمن اعتبر بهما فاز، ومن أعرض عنهما خسر الدنيا والآخرة.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( ١٦٥ ) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ( ١٦٦ ) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( ١٦٧ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الأنداد واحدها ند وهو المماثل، والتبرؤ المبالغة في البراءة وهي التنصل والتباعد ممن يكره قربه وجواره، والأسباب واحدها سبب وهو الحبل الذي يصعد به النخل وأمثاله، ثم غلب في كل ما يتوصل به إلى مقصد من المقاصد المعنوية.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر فيما تقدم ظواهر الكون الدالة على توحيد الخالق ورحمته، ذكر هنا حال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامها برهانا على وحدانيته، ومن ثم جعلوا لله أندادا يلتمسون منهم الخير، ويدفعون بهم النقمة، ويأخذون عنهم الدين والشرعة
الإيضاح :
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ﴾ أي ومن الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذي ذكرت أوصافه الجليلة أندادا وأمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، يحبونهم كحب الله ويسوون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم، ويتقربون إليهم كما يتقربون إليه، إذ هم لا يرجون من الله شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم ضربا من التوسط الغيبي فيه، فهم مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحد.
وللمشرك أنداد متعددون، وأرباب متفرقون، فإذا حز به أمر، أو نزل به ضر لجأ إلى بشر أو صخر، أو توسل بحيوان أو قبر ؟ أو استشفع بزيد أو عمرو، لا يدري أيهم يسمع ويسمع، ويشفع فيشفع، فهو دائما مبلبل البال، لا يستقر من القلق على حال.
وقد عظمت فتنة متخذي الأنداد بهم، حتى كان حبهم إياهم من نوع حبهم لله، إذ أنهم لا يرجون منه شيئا إلا وقد جعلوا لأندادهم مثله، فهم يلتجئون إليهم عند الحاجة كما يلتجئون إلى الخالق سبحانه.
وليس من اتخاذ الأنداد طلب المسببات من أسبابها، وقد تخفى علينا أحيانا ويعمى علينا طريق معرفتها، فعلينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ إلى الله، لعله برحمته يلهمنا إلى طريقها، مع بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب، حتى لا يبقى في الإمكان شيء بعد ذلك.
فالدين يحظر علينا أن ننفر إلى الحرب والدفاع عن الأوطان ونحن عزل أو حاملوا سلاح دون سلاح العدو المعتدي اتكالا على الله واعتمادا على أن النصر بيده، بل يأمرنا بإعداد العدة، ثم الاتكال بعد ذلك في الهجوم والإقدام على عناية الله، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله، كما أن من التجأ إلى ما ليس بسبب كإنسان مكرم أو ملك مقرب، أو ما دون ذلك كصنم أو تمثال فهو مشرك بالله ولا يرغب عن الأسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب، أو طالبا ما هو أعجل منه، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى لأحد أقاربه أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية طلبا للتعجيل بالشفاء.
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ﴾ من كل ما سواه ؛ إذ حبهم له خاص به ولا يشركون فيه غيره، إذ هم يعتقدون أن ملكوت السماوات والأرض بيده، وهو الذي له القدرة والسلطان على جميع الأكوان، فما ينالهم من خير كسبي فهو بهدايته وتوفيقه، وما يجيئهم بغير حساب فهو بعنايته وفضله، وما تعذر عليهم من الأمور يفوضونه إليه، ولا يعولون إلا عليه.
ثم ذكر بعد هذا وعيد متخذي الأنداد فقال :
﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ أي لو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك، وظلم الناس وغشهم، بحملهم على أن يحذو حذوهم، ويتخذوا الأنداد مثلهم، حين يرون العذاب في الآخرة، فتقطع بهم الأسباب، ولا تغني عنهم الأنداد والأرباب، أن القوة لله وحده، بها يتصرف في كل موجود، لعلموا أن هذه القوة التي تدبر عالم الآخرة هي عين القوة التي تدبر عالم الدنيا، وأنهم كانوا ضالين حين لجئوا إلى سواها. وأشركوا معها غيرها، وكان ذلك منشأ عقابهم وعذابهم.
وأمثال هذا العذاب على من يشوب إيمانه بأدنى شائبة من الشرك كثير في القرآن والسنة الصحيحة، وعليه جرى السلف الصالح، وهو حجة على من يعمل بأقوال أناس من الموتى ممن لا يعرف له تاريخ يوثق به، ولا رواية يصح الاعتماد عليها، مع تركهم لكلام الله ورسوله وكلام أئمة السلف.
ثم بين حال التابعين والمتبوعين يوم القيامة حتى ينكشف الغطاء، ويرى الناس بأعينهم العذاب، فقال :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴾.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر فيما تقدم ظواهر الكون الدالة على توحيد الخالق ورحمته، ذكر هنا حال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامها برهانا على وحدانيته، ومن ثم جعلوا لله أندادا يلتمسون منهم الخير، ويدفعون بهم النقمة، ويأخذون عنهم الدين والشرعة
الإيضاح :
أي حين يتبرأ الرؤساء المضلون الذين اتبعوا من أتباعهم الذين أغووهم في الدنيا ويتنصلون من إضلالهم، لأنه قد ضاعف عذابهم وحملهم أوزار فوق أوزارهم، وتقطع الروابط التي كانت بينهم في الدنيا ؛ ولكن ذلك لا يجديهم نفعا ؛ فهو إنما حصل لرؤيتهم العذاب ماثلا أمام أعينهم، بما اقترفوا من السيئات وجنوه من الآثام، فأنى يفيدهم التبرؤ مما صنعوا ؟
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا ﴾
تفسير المفردات :
والكرة العودة والرجوع إلى الدنيا، والحسرة شدة الندم والكمد بحيث يتألم القلب ويتحسر مما يؤلمه.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر فيما تقدم ظواهر الكون الدالة على توحيد الخالق ورحمته، ذكر هنا حال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامها برهانا على وحدانيته، ومن ثم جعلوا لله أندادا يلتمسون منهم الخير، ويدفعون بهم النقمة، ويأخذون عنهم الدين والشرعة
الإيضاح :
أي وقال التابعون : ليست لنا رجعة إلى الدنيا فنتبع سبيل الحق، ونأخذ بالتوحيد الخالص، ونهتدي بكتاب الله وسنة رسوله : ثم نعود إلى موضع الحساب، من هؤلاء الضالين كما تبرؤوا منا، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم.
﴿ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ أي إنه كما أراهم العذاب، سيريهم أعمالهم حسرات عليهم، والمراد من إراءتهم ذلك، أنه يظهر لهم أن أعمالهم قد كان لها أسوأ الآثار في نفوسهم، حتى جعلتها مستعبدة لغير الله، فيورثهم ذلك حسرة وشقاء، فالأعمال هي التي كونت هذه الحسرات في النفوس، ولكن ذلك لا يظهر إلا في الدار الآخرة التي تسعد فيها النفوس أو تشقى.
﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ إلى الدنيا وهم على صحة العقيدة وصلاح الأعمال، فيشفوا غليلهم من رؤسائهم وأندادهم، ولا إلى الجنة، لأن سبب دخولهم هو ما طبعوا عليه من خرقات الشرك وحب الأنداد.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( ١٦٨ ) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( ١٦٩ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ( ١٧٠ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الحلال هو ما أباحه الشارع، والحرام ضده، والخطوات واحدها خطوة ( بالضم ) وهي ما بين قدمي الماشي، يقال اتبع خطواته، ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته، ومبين أي ظاهر العداوة لذوي البصائر.
المعنى جملي :
بعد أن بين في الآية قبلها حال متخذي الأنداد يوم القيامة وذكر ما سيلاقونه من العذاب، وأن الذين اتبعوا سيتبرءون ممن اتبعوهم حين رؤية العذاب، وتقطع الأسباب بينهم، وهي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض، وقد علمت فيما سلف أن الأنداد قسمان :
قسم يتخذ شارعا يؤخذ رأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا من الله ورسوله.
قسم يعتمد عليه في دفع المضار وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب.
بين في هذه الآيات أن تلك الأسباب محرمة، لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان، وأن سبب جمودهم على الباطل والضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى
الإيضاح :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾ أي كلوا بعض ما في الأرض من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرمتموه افتراء على الله من الحرث والأنعام أكلا حلالا طيبا.
قال ابن عباس : نزلت في قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حرموا على أنفسهم ما حرموا من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام.
وقد بين ما حرم من المآكل في الآية الكريمة ﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ﴾ فما عدا هذا فهو مباح بشرط أن يكون طيبا وهو ما لا يتعلق به حق الغير، وبيانه أن المحرم قسمان :
محرم لذاته لا يحل إلا للمضطر.
محرم لعارض، وهو ما يؤخذ بغير وجه صحيح كما يأخذه الرؤساء من المرءوسين بلا مقابل، أو يأخذه المرءوسون بجاه الرؤساء، وكأخذ الربا والرشوة والغصب والسرقة والغش، فكل هذا خبيث غير طيب.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي ولا تتبعوا سيرته في الإغواء ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء فهو عدو لكم بين العداوة، إذ هو منشأ الخواطر الرديئة، والمحرض على ارتكاب الجرائم والآثام قال تعالى :﴿ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ فهذا نهي عن اتباع وحي الباطل والشر، لأنه من إغواء الشيطان، فإذا عرض للإنسان داعي البذل لمعاونة بائس فقير، فهمت نفسه بالعمل، ثم جاش في صدره خاطر الاقتصاد والتوفير، فليعلم أن هذا من وحي الشيطان. ولا ينخدع لما يسوله له من إرجاء هذا العطاء ووضعه في موضع أنفع، أو بذله لفقير أحوج.
ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال :﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء ﴾.
تفسير المفردات :
والسوء ما يسوئك وقوعه أو عاقبته، والفحشاء كل ما يفحش قبحه في أعين الناس من المعاصي والآثام وهي أقبح وأشد من السوء، ويأمركم أي يوسوس لكم ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع، وأتم في انقيادكم له، كأنكم مأمورون، ألقينا وجدنا.
المعنى جملي :
بعد أن بين في الآية قبلها حال متخذي الأنداد يوم القيامة وذكر ما سيلاقونه من العذاب، وأن الذين اتبعوا سيتبرءون ممن اتبعوهم حين رؤية العذاب، وتقطع الأسباب بينهم، وهي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض، وقد علمت فيما سلف أن الأنداد قسمان :
قسم يتخذ شارعا يؤخذ رأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا من الله ورسوله.
قسم يعتمد عليه في دفع المضار وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب.
بين في هذه الآيات أن تلك الأسباب محرمة، لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان، وأن سبب جمودهم على الباطل والضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى
الإيضاح :
أي إنما يوسوس الشيطان ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بأن تفعلوا ما يسوءكم في دنياكم وآخرتكم وأن تجترحوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
فالذين يتركون الأسباب الطبيعية التي قضت سنة الله بربط المسببات بها، اعتمادا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظنون أن لهم نصيبا من السلطة الغيبية، والتصرف في الأكوان بدون اتخاذ الأسباب – قد ضلوا ضلالا بعيدا واتبعوا أمر الشيطان، ومثلهم من اتخذ رأي الرؤساء حجة في الدين من غير أن يكون بيانا أو تبليغا لما جاء عن الله، فهؤلاء قد أعرضوا عن سنن الله وأهملوا نعمة العقل، واتخذوا من دون الله الأنداد ﴿ ومن يضلل الله فلا هادي له ﴾.
﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففي كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع.
ومن هذا زعم الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه، لا يفعل شيئا إلا بوساطتهم، فحولوا قلوب عبادة عنه وعن سننه في خلق، ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ويسمون مثل هذا توسلا : أي تقربا إلى الله تعالى، وحاشى أن يتقبل التقرب إليه بالشرك به، ودعاء غيره معه وهو يقول :﴿ فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾.
ثم سجل عليهم كمال ضلالهم وعدد جناياتهم فقال :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا ﴾.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا ﴾
تفسير المفردات :
وعقل الشيء عرفه بدليل، وفهمه بأسبابه ونتائجه.
المعنى جملي :
بعد أن بين في الآية قبلها حال متخذي الأنداد يوم القيامة وذكر ما سيلاقونه من العذاب، وأن الذين اتبعوا سيتبرءون ممن اتبعوهم حين رؤية العذاب، وتقطع الأسباب بينهم، وهي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض، وقد علمت فيما سلف أن الأنداد قسمان :
قسم يتخذ شارعا يؤخذ رأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا من الله ورسوله.
قسم يعتمد عليه في دفع المضار وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب.
بين في هذه الآيات أن تلك الأسباب محرمة، لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان، وأن سبب جمودهم على الباطل والضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى
الإيضاح :
أي وإذا قيل لمن اتبع خطوات الشيطان من المشركين : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحي ولا تتبعوا من دونه أولياء – جنحوا إلى التقليد، وقالوا نحن لا نعرف إلا ما وجدنا عليه آباءنا، استئناسا بما ألفه آباؤهم من قبل.
ثم رد عليهم سبحانه مقالتهم الحمقاء وأظهر بطلان آرائهم فقال :
﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ أي أيتبعون ما ألقوا عليه آباءهم في كل حال وفي كل شيء، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين وعباداته :
أي حتى لو تجردوا من دليل عقلي أو نقلي في عقائدهم وعباداتهم.
وفي الآية إرشاد إلى منع التقليد لمن قدر على الاجتهاد.
فإذا اتبع المرء في الدين ممن علم أنه على حق كالأنبياء والمجتهدين فهذا ليس فيه تقليد، - بل اتباع لما أنزل الله، كما قال تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ فأقرب الناس إلى معرفة الحق هم الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح، فإنهم إذا أخطئوا يوما أصابوا في آخر. وأبعدهم عن معرفة الحق المقلدون لأنهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم وسجلوا على عقولهم الحرمان من الفهم وهم لا يوصفون بإصابة الصواب، لأن المصيب من يعرف أن هذا هو الحق، والمقلد إنما يعرف أن فلانا قال هذا هو الحق، فهو عارف بالقول فقط.
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ( ١٧١ ) ﴾.
تفسير المفردات :
المثل الصفة والحال، ونعق الراعي والمؤذن صاح، وما لا يسمع أي لا يدرك بالاستماع إلا دعاء ونداء، والفارق بينهما أن الدعاء للقريب والنداء للبعيد، والفارق بين الكافر والضال أن الأول يرى الحق ويعرض عنه، ويصرف نفسه عن دلائله، فهو كالحيوان يرضى بأن يقوده غيره ويصرفه كيف يشاء، والثاني يخطئ الطريق مع طلبه أو جهله بمعرفته بنفسه أو بدلالة غيره.
المعنى الجملي :
بعد أن نهى سبحانه وتعالى على المقلدين من الكفار سوء حالهم من اتباعهم لآبائهم وساداتهم من الرؤساء دون استنادهم إلى برهان يعتمدون عليه، أو حجة يركنون إليها.
أعقبه بمثل يبين خطل آرائهم، وسخف عقولهم، فذكر أنهم كالغنم التي تقبل بدعاء راعيها، وتنزجر بزجره، مسخرة لإرادته، ولا تفهم لماذا دعا، ولماذا زجر، وهكذا شأن من يسلمون معتقدا بلا دليل، ويقبلون تكليفا بلا فهم ولا تعليل، فهم كالصم لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم، وكالبكم الذين لا يستجيبون لما دعوا إليه، وكالعمي في الإعراض عن الأدلة حتى كأنهم لم يشاهدوها، فهم لا يصلون إلى معرفة الحق، لأن اكتسابه إنما يكون بالنظر والاستدلال، وأنى لمن فقد هذه الحواس أن يصل إلى الحق ويقبله ؟ ومن ثم قالوا : من فقد حسا فقد فقد علما.
الإيضاح :
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء ﴾ أي إن مثل الكافرين في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلال، وعدم تأملهم فيما يلقى إليهم من الأدلة، مثل البهائم التي ينعق عليها الراعي، ويسوقها إلى المرعى، ويدعوها إلى الماء، ويزجرها عن الحمى، فتستجيب دعوته وتنزجر بزجره، وهي لا تعقل مما يقول شيئا، ولا تفهم له معنى، وإنما تسمع أصواتا تقبل لسماع بعضها وتدبر لسماع بعض آخر بالتعود، ولا تعقل سببا للإقبال والإدبار.
وفي الآية إرشاد إلى أن التقليد بلا عقل ولا فهم من شأن الكافر، وأما المؤمن فمن شأنه أن يعقل دينه، ويعرفه بنفسه، ويقتنع بصحته، إذ ليس القصد من الإيمان أي يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل المقصد منه أن يرتقي عقله وتتزكى نفسه بالعلم والعرفان، فهو يعمل الخير لأنه نافع يرضي الله، ويترك الشر لأنه يضره في دينه ودنياه.
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ أي إنهم يتصامون عن سماع الحق، فكأنهم صم ولا يستجيبون لما يدعون إليه فكأنهم خرس، ولا ينظرون في آياته تعالى في الآفاق وفي أنفسهم فكأنهم عمي، لا يعقلون لعملهم مبدأ ولا غاية، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان، ومن ثم اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( ١٧٢ ) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٧٣ ) ﴾.
المعنى الجملي :
بعد أن بين سبحانه وتعالى حال الذين يتخذون الأنداد من دونه، ثم خاطب الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبا، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنه لا استقلال لهم برأي ولا يهتدون بعقل.
هنا وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأحرى بالاهتداء، فطلب إليهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم، فمن الحق أن يكون الشكران غدوا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى، والنعم التي لا تحصر ولا تعد
الإيضاح :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ كان المشركون وأهل الكتاب قبل مجيء الإسلام فرقا وأصنافا، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة عند العرب، وبعض الحيوان عند غيرهم، وكان الشائع لدى النصارى أن أقرب القربات تعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات، واحتقار الجسد وما يلزمه، وأن الله لا يرضى إلا بإحياء الروح، وافتنوا في الحرمان من الطيبات، فمنها ما خصصوه بالقديسين أو الرهبان والقسيسين، ومنها ما هو عام كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصوم كصوم العذراء والقديسين، والحرمان من السمك واللبن والبيض في بعض آخر منها.
وكل هذه الأحكام وضعها الرؤساء، ولا وجود لها في التوراة، ولا نقلت عن المسيح عليه السلام، ولكن نقلوها عن الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات، اعتقادا منهم أن التقرب إلا الله لا يكون إلا بتعذيب النفس وترك حظوظ الجسد.
وقد جعل الله هذه الأمة وسطا تعطي الجسد حقه والروح حقها، فأحل لنا الطيبات وأمرنا بالشكر عليها، ولم يجعلنا جاثمين خلصا كالأنعام، ولا روحانيين خلصا كالملائكة، بل جعلنا أناسى كملة.
وقصارى ذلك – إن الله أباح لنا أن نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نمتنع عنه........ ولا تعذيب للنفس ولا نحرم بعضا ونحل بعضا تقليدا للرؤساء ووساوس الشياطين.
وأمرنا بشكره على خلقها لنا وتيسير أسباب الحصول عليها، ونهانا أن نجعل له ندا نطلب منه الرزق، أو نرجع إليه في التحليل والتحريم، وإلا كنا مشركين به، كافرين لنعمه، كما فعل من اتخذ وسطاء بينه وبين ربه، يطلب منهم الرزق، ويشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه الله.
وبعد أن ذكر إباحة الطيبات، بين ما حرم من الأطعمة فقال :﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾.
تفسير المفردات :
الإهلال رفع الصوت، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها، ويقولون : باسم اللات. أو باسم العزى. ثم قيل لكل ذابح ( مهل ) وإن لم يجهر بالتسمية، والباغي الطالب للشيء الراغب فيه كما ورد في الحديث ( يا باغي الخير هلم ) والعادي المتجاوز قدر الضرورة كما جاء في التنزيل :﴿ ولا تعد عيناك عنهم ﴾ أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم، والإثم الذنب والمعصية.
المعنى الجملي :
بعد أن بين سبحانه وتعالى حال الذين يتخذون الأنداد من دونه، ثم خاطب الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبا، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنه لا استقلال لهم برأي ولا يهتدون بعقل.
هنا وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأحرى بالاهتداء، فطلب إليهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم، فمن الحق أن يكون الشكران غدوا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى، والنعم التي لا تحصر ولا تعد
الإيضاح :
أي إنه تعالى حرم الميتة لما يتوقع من ضررها، لأنها إما أن تكون قد ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة، وكلاهما لا يؤمن ضرره، ولأن الطباع تستقذرها.
﴿ وَالدَّمَ ﴾ أي الدم المسفوح، لأنه قذر وضار كالميتة.
﴿ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ ﴾ لأنه ضار ولا سيما في البلاد الحارة كما دلت على ذلك التجربة.
﴿ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ﴾ أي وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه لصنم وغيره مما يعبد من دون الله، لأنه من أعمال الوثنية، وفيه إشراك واعتماد على غير الله، وقد نص الفقهاء على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم، ومثل ذلك ما يفعله العامة في القرى إذ يقولون عند الذبح : باسم الله الله أكبر، يا سيد يا بدوي، يريدون بذلك أن يتقبل منهم النذر ويقضي حاجة صاحبه.
﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ أي فمن ألجئ إلى أكل شيء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه، ولم يكن راغبا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون، كما أن من أكل ما أهل به لغير الله مضطرا، لم يقصد إجازة عمل الوثنية، ولا استحسانه.
وإنما ذكر قوله : غير باغ ولا عاد، لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا وكل إليهم تحديده، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة.
﴿ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر، وجعل الضرورة تقدر بقدرها.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١٧٤ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( ١٧٥ ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( ١٧٦ ) ﴾.
المعنى الجملي :
بعد أن بين فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى، وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم، ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله، وشرعوا لهم ما لم يشرعه، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك، فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب، ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة كما قال :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾
الإيضاح :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ﴾ أي إن الذين يخفون ما أنزل الله من وحيه على رسله، أو يؤولونه ويحرفونه ويضعونه في غير موضعه برأيهم واجتهادهم، في مقابل الثمن القليل من حطام الدنيا كالرشوة على ذلك أو الجعل ( الأجر ) على الفتاوى الباطلة أو نحو ذلك مما يستفيده الرؤساء من المرءوسين، وسمي قليلا لأن كل عوض عن الحق فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الدائمة بدوام المحافظة عليه، والمبطل وإن تمتع بثمن الباطل فذاك إلى أمد الحياة القصير كما قال :﴿ وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ﴾.
﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ﴾ أي إن أولئك الكاتمين لكتاب الله المتجرين به، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار، وانتهاء مطامعهم بعذابها، وقد يكون المعنى : إنه لا تملأ بطونهم إلا النار أي لا يشبع جشعهم إلا النار التي يصيرون إليها على نحو ما جاء في الحديث ﴿ ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ﴾ وهذا الحكم عام يصدق على المسلمين كما يصدق على غيرهم، فسنة الله مطردة في تأييد أنصار الحق وخذلان أهل الباطل.
﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ أي إن الله يعرض عنهم ويغضب عليهم، وقد جرت عادة الملوك إذا غضبوا أعرضوا عن المغضوب عليهم ولم يكلموهم، كما أنهم حين الرضا يلاطفون من يرضون عنه، ويقابلونه بالبشاشة والبشر.
﴿ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ﴾ أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح عنهم إذا ماتوا وهم مصرون على كفرهم.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي ولهم عذاب شديد الألم موجع.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾
تفسير المفردات :
الضلالة : هي العماية التي لا يهتدي فيها الإنسان لمقصده، والهدى : الشرائع التي أنزلها على لسان أنبيائه.
المعنى الجملي :
بعد أن بين فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى، وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم، ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله، وشرعوا لهم ما لم يشرعه، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك، فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب، ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة كما قال :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾
الإيضاح :
أي إن أولئك الذين جزاؤهم ما تقدم، هم الذين تركوا الهدى الواضح البين الذي لا خلاف فيه، وهو ما جاء به الرسل عن ربهم، واتبعوا آراء الناس في الدين وهي لا ضابط لها، وهي مشتبه الأعلام يضل بها الفهم، ومن ثم كان أهلها في خلاف وشقاق.
﴿ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾ أي إن متبع الضلال استحق العذاب بدل المغفرة، وهو باختياره إياه بعد قيام الحجة قد اشترى العذاب بالمغفرة، وكان هو الجاني على نفسه حين اغتر بالعاجل واستهان بالآجل.
﴿ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ أي إن انهماكهم في العمل الذي يوصلهم إلى النار المبين في الآيتين السالفتين هو مثار العجب، فسيرهم في الطريق التي يجرهم إليها، وعدم مبالاتهم بمآل أعمالهم، دليل على أنهم يطيقون الصبر عليها، وتلك حال تستحق العجب أشد العجب، وأعجب من ذلك أن يرضاها عاقل لنفسه.
ومثل هذا الأسلوب ما يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب ملك من الملوك : ما أصبرك على القيد والسجن ! أي إنه لا يتعرض لمثل هذا إلا من هو شديد الصبر على العذاب.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾
تفسير المفردات :
والشقاق : هو العداء والتنازع وهو أثر الاختلاف، وحقيقته أن يكون كل من الخصمين في شق أي جانب غير ما فيه الآخر.
المعنى الجملي :
بعد أن بين فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى، وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم، ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله، وشرعوا لهم ما لم يشرعه، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك، فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب، ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة كما قال :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾
الإيضاح :
أي ذلك العذاب الذي تقرر لهم بسبب أن الكتاب جاء بالحق ؛ والحق لا يغالب، فمن غالبه غلب.
﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ أي وإن الذين اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله لجمع الكلمة على اتباع الحق وإزالة الاختلاف، لفي شقاق بعيد عن سبيل الحق، فلا يهتدون إليه، إذ كل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من رأي ومذهب، وينأى بجانبه عن الآخر، فيكون الشقاق بينهما بعيدا.
وهذا وعيد آخر بعد الوعيد الأول على كتمان الحق، فالمختلفون لا يسلكون سبيلا واحدة كما يدعو إلى ذلك القرآن ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ فلا يجوز لأهل الكتاب الإلهي أن يكونوا شيعا ومذاهب شتى كما قال :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾.
فإذا وجد خلاف في الفهم ( وهو ضروري في طباع البشر ) وجب التحاكم إلى الكتاب والسنة حتى يزول كما قال :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ وليس هناك عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم، لأن الله أوجد لكل مشكل مخرجا، على أن ما تختلف فيه الأفهام لا يقتضي الشقاق والنزاع، بل يسهل على جماعة المسلمين من أهل العلم أن ينظروا فيما اختلف فيه، وما يرون أنه الراجح يعتمدون عليه، إذا تعلق بمصلحة الأمة والأحكام المشتركة بينها.
﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( ١٧٧ ) ﴾.
تفسير المفردات :
البر : لغة التوسع في الخير، وأصله من البر المقابل للبحر، وفي لسان الشرع كل ما يتقرب به إلى الله من الإيمان به وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق، قبل المشرق والمغرب أي ناحيتهما، وآتى المال أي أعطاه، والمسكين هو الدائم السكون لأن الحاجة أسكنته، والعجز قد أقعده عن طلب ما يكفيه، وابن السبيل هو المسافر البعيد عن ماله ولا يمكنه الاتصال بأهل أو بذي قرابة، والسائل من ألجأته الحاجة إلى السؤال وتكفف الناس، والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة يجب على السائل ألا يتعداها، وفي الرقاب أي وفي تحرير الرقاب وعتقها، وأقام الصلاة أي أداها على أقوم وجه، وأحسنه، والعهد ما يلتزم به إنسان لآخر والبأساء من البئوس وهو الفقر والشدة، والضراء كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد حبيب من أهل ومال، صدقوا أي في دعوى الإيمان، والتقوى هي الوقاية من سخط الله وغضبه بالبعد عن الآثام والذنوب.
المعنى الجملي :
لما أمر الله تعالى بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، طال خوض أهل الكتاب في ذلك، واحتدم الجدل بينهم وبين المسلمين حتى بلغ أشده، وكانوا يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا يقبلها الله تعالى، ولا يكون صاحبها متبعا دين الأنبياء، كما كان المسلمون يرون أن الصلاة لا يرضى عنها الله إلا إذا كانت إلى المسجد الحرام قبلة إبراهيم أبي الأنبياء جميعا.
من قبل هذا بين الله في تلكم الآيات أن تولية الوجوه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين، لأنه إنما شرع لتذكير المصلي بأنه يناجي ربه، ويدعوه وحده، ويعرض عن كل ما سواه، وليكون شعارا لاجتماع الأمة على مقصد واحد، فيكون في ذلك تعويدهم الاتفاق في سائر شئونهم وأغراضهم وتوحيد جهودهم.
الإيضاح :
﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ أي ليس توجيه الوجه إلى المشرق والمغرب لذاته نوعا من أنواع البر، فهو في نفسه ليس عملا صالحا.
﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ أي ولكن البر هو الإيمان وما يتبعه من الأعمال باعتبار اتصاف البار بها وقيامه بعملها.
فالإيمان بالله أساس البر، ولن يكون كذلك إلا إذا كان متمكنا من النفس مصحوبا بالإذعان والخضوع واطمئنان القلب بحيث لا تبطره نعمة، ولا تؤيسه نقمة، كما قال تعالى :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾.
والإيمان به يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، ودعوى الوساطة عند الله، ودعوى التشريع والقول على الله بلا إذنه، فلا يرضى مؤمن أن يكون عبدا ذليلا لأحد من البشر، وإنما يخضع لله وشرعه.
والإيمان باليوم الآخر يعلم الإنسان أنه له حياة أخرى في عالم غيبي غير هذا العالم، فلا يقصر سعيه وعمله على ما يصلح الجسد، ولا يجعل أكبر همه لذات الدنيا وشهواتها فحسب.
والإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي والنبوة واليوم الآخر، فمن أنكرها أنكر كل ذلك، لأن ملك الوحي هو الذي يفيض العلم بإذن الله على النبي بأمور الدين كما قال تعالى :﴿ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ﴾ وقال :﴿ نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين ﴾.
والإيمان بالكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء يستدعي امتثال ما فيها من أوامر ونواه، إذ من أيقن أن هذا الشيء حسن نافع توجهت نفسه لعمله، ومن اعتقد أنه ضار ابتعد عنه ونفرت منه نفسه.
والإيمان بالنبيين يستدعي الاهتداء بهديهم والتخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم.
وقد ران الجهل على قلوب كثير من الناس فظنوا أن صياحهم بالأدعية والصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمثل ما في كتاب دلائل الخيرات والمدائح الشعرية، مع الجهل بأخلاقه الشريفة، وسيرته الكاملة، والتأسي به إذا دعوا إلى ذلك أو نهوا عن البدع في دينه، والزيادة في شريعته، فيها غناء لهم أيما غناء، وقد ضلوا ضلالا بعيدا.
فقد جاء في الصحيحين ( أن جماعة من أمته صلى الله عليه وآله وسلم يردون الحوض يوم القيامة فيذادون عنه ( يطردون دونه ) فيقول أمتي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول. سحقا لمن بدل بعدي ).
﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾ أي وأعطى المال مع حبه له الأصناف الآتية من ذوي الحاجة، رحمة بهم وشفقة عليهم وهم :
ذوو القربى المحتاجون : وهم أحق الناس بالبر، إذ المركوز في الفطرة أن الإنسان يألم لفاقة ذوي رحمه وعدمهم أشد مما يألم لغيرهم، فهو يرى أن هوانه بهوانهم، وعزه بعزهم، فمن قطع رحمه وامتنع عن مساعدتهم، وهم بائسون وهو في نعمة من الله وفضل، فقد بعد عن الدين والفطرة، وجاء في الحديث الصحيح ( صدقتك على المسلمين صدقة، وعلى ذي رحمك اثنتان ) أي لأنها صدقة وصلة رحم.
اليتامى، لأن صغار الفقراء الذين لا والد لهم ولا كاسب، في حاجة إلى معونة ذوي اليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم وتفسد تربيتهم، فيكونوا ضررا على أنفسهم وعلى الناس.
المساكين : الذين أقعدهم العجز عن طلب ما يكفيهم، فيجب على المسلمين أن يساعدوهم ويقدموا لهم المعونة، إذ هم أعضاء من جسم الأمة، ومن مصلحة أفرادها التعاون والتآزر حفاظا لكيانها، وإبقاء على بنيانها من التداعي إلى الهدم والزوال.
ابن السبيل : وفي أمر الشارع بمواساته وإعانته في سفره ترغيب منه في السياحة والضرب في الأرض.
السائلون : الذين اضطروا إلى تكفف الناس، لشدة عوزهم.
في تحرير الرقاب وعتقها، ويشمل ذلك ابتياع الأرقاء وعتقهم، ومساعدة الأسرى على الافتداء، وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم ( االمكاتب هو الرقيق يشتري نفسه من مولاه بثمن يجعله نجوما ( أقساطا ) ).
وفي جعل هذا نوعا من البذل واجبا على المسلمين، دليل على رغبة الشارع في فك الرقاب، واعتباره أن الإنسان خلق ليكون حرا إلا في أحوال عارضة تقضي المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقا.
والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين، ولا بامتلاك نصاب محدود من المال ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة، بل هو موكول إلى أريحية المعطي وحال المعطى.
وقد أغفل الناس أداء هذه الحقوق التي حث عليها الكتاب الكريم، مع ما فيها من التكافل العام بين المسلمين، ولو أدوها لكانوا في معايشهم من خير الأمم، ولدخل كثير من الناس في الإسلام، لما يرون فيه من جميل العناية بالفقراء، وأن لهم حقوقا في أموال الأغنياء، فتوثق الصلة بين الطوائف المختلفة من المسلمين.
﴿ وَأَقَامَ الصَّلاةَ ﴾ أي أداها على أقوم وجه، ولا يتحقق ذلك بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فحسب، بل إنما يكون بوجود سر الصلاة وروحها، ومن آثاره تحلي المصلي بالأخلاق الفاضلة، وتباعده من الرذائل، فلا يفعل فاحشة ولا منكرا، كما قال تعالى مبينا فوائدها :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ ولا يكون هلوعا جزوعا إذا مسه الضر، ولا بخيلا منوعا إذا ناله الخير كما قال عز اسمه :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ﴾ كما لا يخشى في الحق لوم اللائمين، ولا يبالي في سبيل الله ما يلقى من الشدائد، ولا بما ينفق من فضله ابتغاء مرضاته.
﴿ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾ أي أعطى الزكاة المفروضة، وقلما تجيء الصلاة في القرآن الكريم، إلا وهي مقترنة بالزكاة ؛ ذاك أن الصلاة تهذب الروح، والمال قرين الروح، فبذله ركن عظيم من أعمال البر، ومن ثم أجمع الصحابة على محاربة مانعي الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن مانعها يهدم ركنا من أركان الإسلام، وينقض أساس الإيمان.
وقد افتن الناس في منعها بما سموه حيلا شرعية، وهي ليست من الشرع في شيء، فكيف يؤكد الله علينا الزكاة ويذكرها في كتابه سبعين مرة، ثم يرضى أن نحتال عليه ونخادعه في تركها، فلم إذا فرض وأوجب، ورغب ورهب ؟ وأحرى بمثل هذه الحيل أن تسمى حيلا شيطانية لا حيلا شرعية، لأن فيها احتيالا على الله في إبطال فريضته.
ومن ذلك أن يأتي المزكي قبل تمام الحول ( وهو شرط في وجوب الزكاة ) بيوم أو يومين ويهب ماله لامرأته على أن ترده إليه بعد ذلك الميقات المضروب، وهو بهذا يدك صرح الكتاب والسنة، ويزعم مع هذا أنه مسلم مؤمن بالله ورسوله وكتابه.
وقد بينت السنة العملية والقولية قدر المأخوذ وحددته بمقدار ١/٤٠ من رأس المال، وسبيل الأخذ، وسائر أحكام الزكاة.
وبعد أن ذكر البر في الأعمال ذكر البر في الأخلاق، فقال :
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ﴾ أي والذين يوفون بعهودهم إذا عاهدوا عليها، وهذا شامل لما يعاهد عليه الناس بعضهم بعضا، ولما يعاهد عليه المؤمنون ربهم من السمع والطاعة لكل ما جاء به في دينه، ولا يجب الوفاء به إذا كان في معصية.
ومثل العهود العقود، فيجب علينا الوفاء بها ما لم تكن مخالفة لقواعد الدين العامة.
وفي الوفاء بالعهود والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينفرط عقده، كما أن العذر والإخلاف فيها هادم للنظام، مفسد للعمران ؛ فما من أمة فقدت الوفاء بالعهد ( وهو ركن الأمانة وقوام الصدق ) إلا حل بها العقاب الإلهي، فانتزعت الثقة من بين أفرادها حتى بين الأهل والعيال، فيعيشون متخاذلين وكأنهم وحوش مفترسة، ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه، إذا أمكن يده أن تصل إليه، ومن ثم يضطر أفرادها إلى الاستيثاق في عقودهم بكل ما يقدرون عليه، ويحترس كل منهم من غدر الآخر، فلا يكون هناك تعاون ولا تناصر، بل تباغض وتحاسد، ولا سيما بين الأقارب، ولو شمل الناس الوفاء لسلموا من هذا البلاء.
﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ أي والصابرين لدى الفقر والشدة، وعند الضر من مرض وفقد أهل وولد ومال، وفي ميادين القتال، ولدى الضرب والطغيان ومنازلة الأقران.
وخص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال، لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر، فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر، وكاد يفضي إلى الكفر، والضر إذا برح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنية والظفر مقرون بالصبر، وبالصبر يحفظ الحق الذي يناضل صاحبه دونه، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الفرار من الزحف من أكبر الكبائ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١٧٨ ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٧٩ ) ﴾.
تفسير المفردات :
كتب : فرض ولزم عند مطالبة صاحب الحق به، والقصاص : لغة يفيد العدل والمساواة، ومنه سمي المقص لتعادل جانبيه، والقصة قصة لأن الحكاية تساوي المحكى، وشرعا أن يقتل القاتل، لأنه متساو للمقتول في نظر الشارع، فإتباع بالمعروف : أي مطالبة للدية بالمعروف بلا تعسف، وأداء إليه بإحسان : أي أداء بلا مماطلة ولا بخس حق، اعتدى : انتقم من القاتل بعد العفو.
المعنى الجملي :
كان القصاص على القتل أمرا محتوما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج، وكانت الدية أمرا مقضيا عند النصارى، وكانت العرب تتحكم في ذلك بحسب قوة القبائل وضعفها، فكثيرا ما كانت القبيلة تأبى أن تقتص من القاتل، بل تقتص من رئيس القبيلة، وربما طلبوا بالواحد عشرة، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرا، فإن أجيبوا فيها ونعمت، وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة، وهذا ظلم عظيم، وقسوة شديدة، وقتل القاتل فحسب وهو ما جاء في التوراة إصلاح لهذا الظلم.
ولكن قد تقع أحيانا بعض جرائم يكون الحكم فيها بقتل القاتل ضارا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل المرء أخاه أو أحد أقاربه لغضب فجائي اضطره إلى قتله، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت. فإذا قتل يفقدون بفقده النصير والمعين، بل قد يكون في قتل القاتل مفسدة ومضار، وإن كان القاتل أجنبيا من المقتول فيكون من الخير لوليه عدم قتله دفعا للضرر أو استفادة للدية، ففي أمثال هذه الحالات يجوز لأولياء المقتول العفو مع أخذ الدية أو تركها.
وإذا ارتقت عاطفة الرحمة لدى شعب أو بلد وصار يستنكر القتل ويرى أن العفو أفضل، فالأمر موكول إليهم والشريعة ترغبهم فيه، وهذا هو الإصلاح الكامل، الذي جاء به الكتاب الكريم في القصاص.
وقد يجول بخاطر بعض الناس ولا سيما في عصرنا الحاضر، أن عقوبة القاتل بالقتل انتقام لا تربية، والواجب أن تعلم الحكومة الجمهور التراحم في العقوبات، لأنهم ما ارتكبوا هذه الجريمة إلا لمرض في عقولهم، فيجب أن يوضعوا في المستشفيات حتى يبرءوا إلى كلام كثير كهذا وأشباهه، ولو أنا دققنا النظر وتأملنا لعلمنا أن مثل هذا إن ساغ في التشريع فلن يكون إلا في الأمم الراقية التي قطعت شوطا بعيدا في الحضارة، وكان أفرادها على حظ عظيم من الأخلاق الفاضلة، ولا يصلح أن يكون تشريعا عاما، فالقصاص بالعدل والمساواة هو الذي يربي الأمم والشعوب، وتركه يغري الأشقياء، ويجرئهم على سفك الدماء، فإن عقوبة السجن لا تزجر كثيرا من الناس، بل يرون السجون خيرا لهم من بيوتهم
الإيضاح :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ أي فرض عليكم المساواة، والعدل في القصاص، لا كما كان يفعله الأقوياء مع الضعفاء من المغالاة في قتل الكثير بالقليل، وقتل السيد البريء بالمسود تعنتا وظلما.
ثم فسر هذه المساواة بقوله :
( الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ) أي يؤخذ الحر ويقتل بقتل الحر بلا إبطاء ولا جور، فإذا قتل حر حرا قتل هو به لا غيره من سادة القبيلة، ولا عدد كثير منها، وإذا قتل عبد عبدا قتل به لا سيده ولا أحد من قبيلته، وكذلك تقتل المرأة إذا قتلت ولا يقتل أحد فداء منها.
والخلاصة – إن القصاص على القاتل أيا كان لا على أحد من قبيلته، ولا فرد من أفراد عشيرته.
قال البيضاوي : في تفسيره : كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما طول ( فضل وشرف ) على الآخر. فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية وأمرهم أن يتبارءوا ( يتساووا ).
وقد جرى العمل من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قتل الرجل بالمرأة، والحر بالعبد إذا لم يكن سيده، فإن كان هو عزر بشدة تمنع أمثال هذا الاعتداء، ولا يقتل الوالد بولده، لأن المقصد من القصاص ردع الجاني عن الاستمرار في مثل هذه الجناية، والوالد بفطرته مجبول على الشفقة على ولده حتى ليبذل ماله وروحه في سبيله، وقلما يقسوا عليه، ولكن كثيرا ما يقسوا الولد على والده، وللحاكم أن يعزر قاتل ولده بما يراه زاجرا لأمثاله ومربيا لهم.
وبعد أن ذكر وجوب القصاص وهو أساس العدل، ذكر وجوب القصاص وهو أساس العدل، ذكر هنا العفو وهو مقتضى التراحم والفضل قال :
﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ أي فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه ولي الدم، ولو كان العافي واحدا إن تعددوا وجب إتباعه وسقط القصاص، وقد جعل هذا الحق لأولياء المقتول وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده، ويهانون بفقده، ويحرمون من رفده وعونه، فمن أزهق روحه كان لهم أن يطلبوا إزهاق روحه، إذا تحفزهم إلى ذلك النعرة القومية والمصلحة، فإذا طلبوا ولم يقتص الحاكم، فربما احتالوا للإنتقام، وفشا التشاحن والخصام، ولكن إن جاء العفو من جانبهم أمنت الفتنة، وليس للحاكم أن يمتنع من العفو إذا رضوا به، ولا أن يستقل بالعفو إذا طلبوا القصاص حتى لا تحملهم الضغينة على الانتقام، بأيديهم إذا قدروا، فيكثر الاعتداء ويعيشون في تباغض وفوضى تستباح فيها الدماء.
﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ أي فإتباع العفو بالمعروف واجب على العافي وغيره، وعليه ألا يرهق القاتل من أمره عسرا، بل يطلب منه الدية بالرفق والمعروف الذي لا يستنكره الناس، وكذلك لا يمطل القاتل ولا ينقص ولا يسيء في كيفية الأداء، ويجوز العفو عن الدية أيضا كما قال :﴿ ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ﴾.
﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ أي ذلك الحكم الذي شرعنا لكم من العفو عن القاتل والاكتفاء بقدر من المال، تخفيف ورخصة من ربكم ورحمة لكم، وأي رحمة أفضل من العطف والعفو والامتناع عن سفك الدماء.
﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي فمن اعتدى وانتقم من القاتل بعد العفو والرضى بالدية، فله عذاب أليم من ربه يوم القيامة، يوم لا تغني نفس عن نفس شيئا.
وبعد أن ذكر حكمة العفو والرغبة فيه، وذكر الوعيد على الغدر، أرشد إلى بيان الحكمة في القصاص، إذ أن ذلك أدعى إلى ثبات الحكم في النفس، وأدعى إلى الرغبة في العمل به فقال :﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾
تفسير المفردات :
والألباب : واحدها لب وهو العقل.
المعنى الجملي :
كان القصاص على القتل أمرا محتوما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج، وكانت الدية أمرا مقضيا عند النصارى، وكانت العرب تتحكم في ذلك بحسب قوة القبائل وضعفها، فكثيرا ما كانت القبيلة تأبى أن تقتص من القاتل، بل تقتص من رئيس القبيلة، وربما طلبوا بالواحد عشرة، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرا، فإن أجيبوا فيها ونعمت، وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة، وهذا ظلم عظيم، وقسوة شديدة، وقتل القاتل فحسب وهو ما جاء في التوراة إصلاح لهذا الظلم.
ولكن قد تقع أحيانا بعض جرائم يكون الحكم فيها بقتل القاتل ضارا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل المرء أخاه أو أحد أقاربه لغضب فجائي اضطره إلى قتله، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت. فإذا قتل يفقدون بفقده النصير والمعين، بل قد يكون في قتل القاتل مفسدة ومضار، وإن كان القاتل أجنبيا من المقتول فيكون من الخير لوليه عدم قتله دفعا للضرر أو استفادة للدية، ففي أمثال هذه الحالات يجوز لأولياء المقتول العفو مع أخذ الدية أو تركها.
وإذا ارتقت عاطفة الرحمة لدى شعب أو بلد وصار يستنكر القتل ويرى أن العفو أفضل، فالأمر موكول إليهم والشريعة ترغبهم فيه، وهذا هو الإصلاح الكامل، الذي جاء به الكتاب الكريم في القصاص.
وقد يجول بخاطر بعض الناس ولا سيما في عصرنا الحاضر، أن عقوبة القاتل بالقتل انتقام لا تربية، والواجب أن تعلم الحكومة الجمهور التراحم في العقوبات، لأنهم ما ارتكبوا هذه الجريمة إلا لمرض في عقولهم، فيجب أن يوضعوا في المستشفيات حتى يبرءوا إلى كلام كثير كهذا وأشباهه، ولو أنا دققنا النظر وتأملنا لعلمنا أن مثل هذا إن ساغ في التشريع فلن يكون إلا في الأمم الراقية التي قطعت شوطا بعيدا في الحضارة، وكان أفرادها على حظ عظيم من الأخلاق الفاضلة، ولا يصلح أن يكون تشريعا عاما، فالقصاص بالعدل والمساواة هو الذي يربي الأمم والشعوب، وتركه يغري الأشقياء، ويجرئهم على سفك الدماء، فإن عقوبة السجن لا تزجر كثيرا من الناس، بل يرون السجون خيرا لهم من بيوتهم
الإيضاح :
أي في القصاص الحياة الهنيئة، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض، إذ من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها، يرتدع عن القتل فيحفظ حياة من أراد قتله وحياة نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، إذ من الناس من يبذل المال الكثير للإيقاع بعدوه.
وقد أثر عن العرب كلمات تفيد معنى الآية كقولهم : القتل أنفى للقتل، وقولهم : قتل البعض إحياء للجميع، وقولهم : أكثروا القتل ليقل القتل، ولكن الآية أخصر من هذا كله، وفيها من الفوائد ما لا يوجد فيما أثر عنهم، إذ أن القتل ظلما لا يكون نافيا للقتل بل هو سبب في زيادته، وإنما النافي للقتل هو القتل قصاصا، وأمرهم بالقتل ليقل القتل أو ينتفي، يصدق باعتداء قبيلة على أخرى والإسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على الأخذ بالثأر، ويكون المراد أن قتلنا لعدونا إحياء لنا وتقليل أو نفي لقتله إيانا.
﴿ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ﴾ وخص أرباب العقول بالنداء للدلالة على أن الذي يفهم قيمة الحياة ويحافظ عليها هم العقلاء، كما أنهم هم الذين يفقهون سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من المصلحة والحكمة، فعليكم أن تستعملوا عقولكم في فهم دقائق الأحكام.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ أي ولما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعنا لكم لعلكم تتقون الاعتداء وتكفون عن سفك الدماء، إذ العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من غوائل القصاص.
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( ١٨٠ ) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ١٨١ ) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٨٢ ) ﴾.
تفسير المفردات :
كتب : أي فرض، وخيرا : أي مالا كثيرا، والوصية : الإيصاء والتوصية، وتطلق على الموصى به من عين أو عمل، والمعروف : مالا يستنكره الناس لقلته بالنسبة إلى ذلك الخير أو لكثرته التي تضر الورثة، وتقدر الكثرة باعتبار العرف ففي القرى غيرها في الأمصار، فهي تقاس بحسب حال الشخص لدى الناس، وإنما يكون ذلك بعدم الزيادة على ثلث المتروك للوارثين.
المعنى الجملي :
كان الكلام في الآية السابقة في القصاص في القتل، وهو ضرب من ضروب الموت، فناسب أن يذكر ما يطلب مما يحضره الموت من الوصية، والخطاب عام موجه إلى الناس كلهم، بأن يوصوا بشيء من الخير، ولا سيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته، لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وقد تقدم أن قلنا إن الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتم إلا بالتعاون والتكافل والإئتمار بأوامرها والتناهي عن نواهيها، فإن لمن يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على ذلك
الإيضاح :
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي فرض عليكم معشر المؤمنين إذا حضرت أسباب الموت وعلله والأمراض المخوفة، وتركتم مالا كثيرا لورثتكم، أن توصوا للوالدين وذوي القربى بشيء من هذا الخير لا يعد في نظر الناس قليلا ولا كثيرا، وقد قدروه بعدم الزيادة على ثلث المتروك للوارثين، وجمهرة العلماء وأئمة السلف. وروي عن بعض الصحابة أن هذه الوصية إنما تكون لهم ما لم يكونوا وارثين لقوله عليه الصلاة والسلام :( إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث ).
وجوز بعض الأئمة للوارث، بأن يخص بها بعض من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنيا وبعضهم فقيرا عاجزا عن الكسب، فمن الخير والمصلحة ألا يسوى بين الغني والفقير، والقادر على الكسب ومن يعجز عنه.
وإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فله أن يوصي لهما بما يؤلف به قلوبهما، وقد أوصى الله بحسن معاملتهما وإن كانا كافرين، كما قال :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا، وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ﴾.
﴿ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ أي أوجب ذلك حقا على المتقين لي المؤمنين بكتابي.
﴿ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾
المعنى الجملي :
كان الكلام في الآية السابقة في القصاص في القتل، وهو ضرب من ضروب الموت، فناسب أن يذكر ما يطلب مما يحضره الموت من الوصية، والخطاب عام موجه إلى الناس كلهم، بأن يوصوا بشيء من الخير، ولا سيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته، لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وقد تقدم أن قلنا إن الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتم إلا بالتعاون والتكافل والإئتمار بأوامرها والتناهي عن نواهيها، فإن لمن يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على ذلك
الإيضاح :
أي فمن غير الإيصاء من شاهد ووصي، فإنما إثم التبديل على من بدل، وقد برئت منه ذمة الموصي وثبت له الأجر عند ربه.
والتغيير إما بإنكار الوصية، أو بالنقص فيها بعد أن علمها حق العلم.
( إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي إنه سميع لأقوال المبدلين والموصين، ويعلم نياتهم ومجازيهم وفقها.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد للمبدلين، والوعد بالخير للموصين.
وهذه الوصية واجبة عند بعض علماء السلف كما ترشد إلى ذلك هذه الآية والحديث ( ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته عند رأسه )، وعند جمهور العلماء مندوبة.
ثم استثنى من إثم التبديل حالة ما إذ كان للإصلاح وإزالة التنازع فقال :﴿ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾.
تفسير المفردات :
وخاف : أي علم، والجنف : الخطأ، والإثم : تعمد الإجحاف والظلم.
سورة البقرة
مدنية إلا آية إحدى وثمانين ومائتين، فقد نزلت بمنى في حجة الوداع، وهي آخر القرآن نزولا على ما قيل : وغالب السورة نزل أول الهجرة، وهي أطول سور القرآن، كما أن أقصرها سورة الكوثر، وأطول آية في القرآن هي آية الدين ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ﴾ الخ، وأقصرها قوله والضحى، وقوله والفجر.
الإيضاح :
أي إذا خرج الموصي في وصيته عن نهج الشرع والعدل خطأ أو عمدا، فتنازع الموصى لهم في المال أو تنازعوا مع الورثة، فتوسط بينهم من يعلم بذلك، وأصلح بتبديل هذا الجنف والحيف، فلا إثم عليه في هذا التبديل، لأنه تبديل باطل بحق، وإزالة مفسدة بمصلحة، وقلما يكون الإصلاح إلا بترك الخصوم شيئا مما يرونه حقا لهم.
﴿ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي فمن خالف وبدل للإصلاح، فالله يغفر له ويثيبه على عمله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٨٣ ) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ١٨٤ ) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ١٨٥ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الصيام في اللغة : الإمساك والكف عن الشيء، وفي الشرع : الإمساك عن الأكل والشرب وغشيان النساء من الفجر إلى المغرب، احتسابا لله، وإعدادا للنفس وتهيئا لها لتقوى الله بمراقبته في السر والعلن، والإطاقة : القدرة على الشيء مع تحمل المشقة الشديدة.
المعنى الجملي :
فرض الله علينا الصوم كما فرضه على من قبلنا، لأنه من أعظم الذرائع لتهذيب النفوس، وأقوى العبادات في كبح جماح الشهوات ومن ثم كان مشروعا في جميع الملل حتى الوثنية فهو معروف لدى قدماء المصريين، ومنه انتقل إلى اليونان والرومان، ولا يزال اليهود والوثنيون إلى الآن، وفي التوراة مدحه ومدح الصائمين وليس فيها ما يدل على أنه فرض، وثبت أن موسى صام أربعين يوما كما أنه ليس بالإنجيل نص على الفريضة، بل فيها مدحه وعده عبادة، وأشهر صيام النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى والحواريون، وقد وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام تختلف فيها المذاهب والطوائف
الإيضاح :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ أي فرض عليكم الصيام كما فرض على المؤمنين من أهل الملل قبلك من لدن آدم عليه السلام.
وفي هذا تأكيد له وترغيب فيه، وتطييب لأنفس المخاطبين فإنه عبادة شاقة، وأمور شاقة إذا عمت كثيرا من الناس سهل تحملها ورغب كل أحد على عملها.
ثم بين فائدة الصوم وحكمته فقال :
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ أي إنه فرضه عليكم ليعدكم لتقوى الله لترك الشهوات المباحة الميسورة وامتثالا لأمره واحتسابا لأجره عنده، فتتربى بذلك العزيمة والإرادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، فقد جاء في الحديث :( الصيام نصف الصبر ) وبهذا نعلم أنه ما كتب علينا الصيام إلا لمنفعتنا، لا كما يعتقد الوثنيون أن القصد منه تسكين غضب الآلهة إذا علموا ما يغضبهم، أو استمالتهم في بعض الشئون والأغراض، لأن الآلهة لا ترضى إلا بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد، وشاع هذا الاعتقاد، بين أهل الكتاب فجاء الإسلام وحل كل هذا.
وإعداد الصوم لتقوى الله يظهر وجوه كثيرة أعظمها شأنا :
أنه يعود الإنسان الخشية من ربه في السر والعلن، وإذ أن الصائم لا رقيب عليه إلا ربه، فإذا ترك الشهوات التي تعرض له من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة وزوجة جميلة، امتثالا لأمر ربه، وخضوعا لإرشاد دينه مدة الصيام شهرا كاملا، ولولا ذلك لما صبر عليها وهو في أشد الشوق إليه، لا جرم أنه بتكراره ذلك يتعود الحياء من ربه، والمراقبة له في أمره ونهيه وفي ذلك تكميل له وضبط للنفس عن شهواتها، وشدة مراقبتها لبارئها.
ومن كملت لديه هذه الخلة لا يقدم على غش الناس ومخادعتهم، ولا على أكل أموالهم بالباطل، ولا على هدم ركن من أركان الدين كالزكاة، ولا على اقتراف المنكرات واجتراح السيئات، وإذا ألم بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة كما قال تعالى :{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا إذا هم مبصرون ).
ولما للصوم من جليل الأثر في تهذيب النفس جاء في الحديث :( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) أي من صغائر ذنوبه وكبائرها إذا تاب منها قبل الصوم، وقد جاء في الحديث القدسي :( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به ).
أنه يكسر حدة الشهوة، ويجعل النفس مصرفة لشهواتها بحسب الشرع، كما جاء في الحديث :( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه وجاء ) الوجاء : رض الأنثيين، وهو كالخصاء مضعف للشهوة الزوجية.
أنه يعود الشفقة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، فهو عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتا من أولئك البائسين، فيرق قلبه لهم ويشفق عليهم، وفي ذلك تكافل للأمة وشعور بالأخوة الدينية.
أن فيه المساواة بين الأغنياء والفقراء، والملوك والسوقة، في أداء فريضة دينية واحدة.
تعويد الأمة النظام في المعيشة، فهم يفطرون في وقت واحد، لا يتقدم واحد على آخر.
أنه يفني المواد الراسبة في البدن، ولا سيما في أجسام المترفين أولي النهم قليلي العمل، ويجفف الرطوبات الضارة، ويطهر الأمعاء من السموم التي تحدثها البطنة، ويذيب الشحم الذي هو شديد الخطر على القلب، وقد أثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( صوموا تصحوا ) وقال بعض علماء أوروبا : إن صيام شهر واحد في السنة يذهب الفضلات الميتة في البدن مدة سنة، ومن يصم على هذا الوجه يكن راضيا مرضيا مطمئنا لا يجد في نفسه اضطرابا ولا قلقا من مزعجات الحوادث، ولا عظيم المصايب والكوارث، نعم إن وجد شيء من هذا كان جثمانيا لا روحانيا.
وأين هذا من الصوم الذي عليه أكثر المسلمين اليوم من إثارة للسخط والغضب لأدنى سبب حتى صاروا يعتقدون أنه أثر طبيعي للصوم، وهو وهم استحوذ على النفوس حتى صار كأنه حقيقة واقعة.
وهذا الأثر في نفوسهم مناف للتقوى التي شرع الصيام لأجلها، ومخالف لما جاء من الآثار من نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم :( الصيام جنة ) أي ستر ووقاية من المعاصي والآثام.
ويرى الأوزاعي أن الغيبة تفطر الصائم، وقال ابن حزم يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه، وقال الغزالي : من يعصى الله وهو صائم كمن يبني قصرا، ويهدم مصرا.
وأين هذا مما نرى عليه الناس من الاستعداد لمآكل رمضان وشرابه، حتى لينفقون فيه ما يكاد يساوي نفقة السنة كلها، فكأن رمضان موسم أكل، وكأن الإمساك عن الطعام في النهار لأجل الاستكثار منه في الليل.
﴿ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ﴾
تفسير المفردات :
والفدية : هي طعام مسكين من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة عن كل يوم يفطرونه.
المعنى الجملي :
فرض الله علينا الصوم كما فرضه على من قبلنا، لأنه من أعظم الذرائع لتهذيب النفوس، وأقوى العبادات في كبح جماح الشهوات ومن ثم كان مشروعا في جميع الملل حتى الوثنية فهو معروف لدى قدماء المصريين، ومنه انتقل إلى اليونان والرومان، ولا يزال اليهود والوثنيون إلى الآن، وفي التوراة مدحه ومدح الصائمين وليس فيها ما يدل على أنه فرض، وثبت أن موسى صام أربعين يوما كما أنه ليس بالإنجيل نص على الفريضة، بل فيها مدحه وعده عبادة، وأشهر صيام النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى والحواريون، وقد وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام تختلف فيها المذاهب والطوائف
الإيضاح :
أي أياما معينات بالعدد وهي أيام رمضان، فالله لم يفرض علينا صوم الدهر كله ولا أكثره تخفيفا ورحمة بالمكلفين.
﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ أي فمن كان على إحدى الحالين فالواجب عليه –إذا أفطر- القضاء بقدر عدد الأيام التي لم يصمها لأن كلتيهما عرضة لاحتمال المشقة بالصوم، وأكثر الأئمة على اشتراط أن يكون المرض شديدا يصعب معه الصوم بدليل قوله :{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ).
ويرى جماعة منهم ابن سيرين وعطاء والبخاري أن أي مرض هو رخصة في الإفطار، فرب مرض لا يشق معه الصوم يضر فيه الصوم المريض، ويكون سببا في زيادة مرضه وطول مدته، وضبط المشقة عسر، ومعرفة الضرر أعسر.
والسفر الذي يباح فيه الفطر هو الذي يباح في قصر الصلاة، روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين - يريد أنه يقصر الصلاة – وهذه المسافة وإن قطعت الآن في دقائق معدودات مبيحة للفطر، إذ العبرة بقطع مثل هذه المسافة لا بالزمن الذي تقطع فيه.
ومن صام رمضان وهو مريض أو مسافر فقد أدى الفريضة، ومن أفطر وجب عليه القضاء، وبذلك كان عمل كل الصحابة فقد ورد في الصحيح أنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم المفطر ومنهم الصائم لا يعيب أحد على الآخر، وأنه كان يأمرهم بالإفطار عند توقع المشقة فيفطرون جميعا، روى مسلم وأحمد عن أبي سعيد قال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ) فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا ممن أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال :( إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطرنا ) فكانت عزمة فأفطرنا.
وروي عن عائشة أن حمزة الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أأصوم في السفر ؟ وكان كثير الصيام، فقال له :( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر ) وفي رواية مسلم أنه أجابه بقوله :( هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه ) وأكثر الأئمة كمالك وأبي حنيفة والشافعي على أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق، ويرى أحمد والأوزاعي أن الفطر أفضل عملا بالرخصة.
﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ والذين لا يطيقون هم الشيوخ والضعفاء والزمنى الذين لا يرجى برء أمراضهم، والعمال الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة كاستخراج الفحم من المناجم، والمجرمون الذين يحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا كان الصيام يشق عليهم، والحبلى والمرضع إذا خافتا على ولديهما، فكل هؤلاء يفطرون وعليهم الفدية، وهي طعام مسكين من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة بقدر شبع المعتدل الأكل، عن كل يوم يفطرونه.
وخلاصة ما تقدم : أن المؤمنين في صيامهم ثلاثة أقسام :
١ – المقيم الصحيح القادر على الصيام بلا ضرر ولا مشقة، والصوم حتم واجب عليه، وتركه من الكبائر.
٢ - المريض والمسافر ويباح لهما الإفطار مع وجوب القضاء، لما في المرض والسفر من التعرض للمشقة، فإذا علما أو ظنا ظنا قويا أن الصوم يضرهما وجب الإفطار.
٣ – من يشق عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله كهرم وضعف بنية ومرض مزمن لا يرجى برؤه، وأشغال شاقة دائمة، وحمل وإرضاع، وهؤلاء لهم أن يفطروا ويطعموا مسكينا عوضا من كل يوم بقدر ما يشبع الرجل المعتدل الأكل.
﴿ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ﴾ أي فمن زاد في الفدية فذلك خير له، لأن ثوابه عائد إليه ومنفعته له، وهذا التطوع شامل لأصناف ثلاثة :
١ – أن يزيد في الإطعام على مسكين واحد، فيطعم بدل كل يوم مسكينين أو أكثر.
٢ – أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
٣ – أن يصوم مع الفدية.
﴿ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي وصومكم أيها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه، خير لكم من الفدية، لما فيه من رياضة الجسد والنفس وتفدية الإيمان بالتقوى ومراقبة الله، وروي أن أبا أمامة قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : امرني بأمر آخذه عنك قال :( عليك بالصوم فإنه لا مثل له ).
﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ وجه الخير فيه وكونه لمصلحة المكلفين، لأن الله غني عن العالمين، وما روي من قوله عليه الصلاة والسلام :( ليس من البر الصوم في السفر ) فقد خصص بمن يجهده الصوم ويشق عليه حتى يخاف عليه الهلاك.
ثم بين الأيام المعدودات التي كتبت علينا فقال :( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ).
تفسير المفردات :
اليسر : السهولة والتخفيف، وضده العسر.
المعنى الجملي :
فرض الله علينا الصوم كما فرضه على من قبلنا، لأنه من أعظم الذرائع لتهذيب النفوس، وأقوى العبادات في كبح جماح الشهوات ومن ثم كان مشروعا في جميع الملل حتى الوثنية فهو معروف لدى قدماء المصريين، ومنه انتقل إلى اليونان والرومان، ولا يزال اليهود والوثنيون إلى الآن، وفي التوراة مدحه ومدح الصائمين وليس فيها ما يدل على أنه فرض، وثبت أن موسى صام أربعين يوما كما أنه ليس بالإنجيل نص على الفريضة، بل فيها مدحه وعده عبادة، وأشهر صيام النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى والحواريون، وقد وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام تختلف فيها المذاهب والطوائف
الإيضاح :
أي هذه الأيام هي شهر رمضان الذي بدء فيه بإنزال القرآن، ثم نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة، لهداية الناس إلى الصراط السوي والنهج المستقيم، مع وضوح آياته وإرشادها إلى الحق، وجعلها فارقة بين الحق والباطل، والفضائل والرذائل.
ومن التذكر لهدايته أن يعبد في هذا الشهر ما لا يعبد في غيره، ليكون ذلك كفاء فيضه الإلهي بالإحسان، وتظاهر نعمه على عباده، فهو من شعائر ديننا، ومواسم عبادتنا.
﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه ﴾ أي فمن شهد منكم دخول الشهر بأن لم يكن مسافرا فليصمه، وشهوده برؤية هلاله، فعلى كل من رآه وثبتت عنده رؤية غيره أن يصومه، والأحاديث في هذا ثابتة في الصحاح والسنن، وجرى عليها العمل من الصدر الأول إلى اليوم.
ومن لم يشهدوا الشهر كسكان البلاد القطبية – التي يكون فيها الليل نصف سنة في القطب الشمالي، بينما يكون نهارا في القطب الجنوبي والعكس بالعكس – فعليهم أن يقدروا مدة تساوي مدة شهر رمضان، والتقدير على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة، وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم.
﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ أعيد ذكر رخصة الإفطار مرة أخرى، لئلا يظن أن صوم هذا الشهر محتم لا تتناوله رخصة، أو تتناوله ولكنها غير محمودة، ولا سيما بعد تعظيم أمر الصوم فيه، لما له من المناقب والمزايا التي سبق ذكرها، حتى روي أن بعض الصحابة رضي الله عنهم مع علمهم بالرخصة في القرآن كانوا يتحامون الفطر في السفر، حتى إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرهم به في بعض الأسفار فلا يمتثلون حتى يفطر هو.
﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ أي يريد الله في هذه الرخصة في الصيام وفي كل ما شرعه لكم من الأحكام، أن يجعل دينكم يسرا لا عسر فيه.
وفي هذا إيماء إلى أن الأفضل الصيام إذا لم يلحق الصائم مشقة أو عسر، لانتفاء علة الرخصة حينئذ، وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة، منها حديث أنس :( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ).
﴿ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ ﴾ أي رخص لكم في الإفطار في حال المرض والسفر، لأنه يريد بكم اليسر، وأن تكملوا العدة، فمن لم يكملها أداء لعذر المرض أو السفر أكملها قضاء بعده، وبذا تحصلون خيراته، ولا يفوتكم شيء من بركاته.
﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ إليه من الأحكام التي فيها سعادتكم في الدنيا والآخرة، وذلك بذكر عظمته وحكمته في إصلاح حال عباده، بتربيتهم بما يشاء من الأحكام، ويتفضل عليهم عند ضعفهم بالرخص التي تليق بحالهم.
﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ له نعمه كلها، فتعطوا كلا من العزيمة والرخصة حقها، فيكمل إيمانكم ويرضى عنكم ربكم.
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ( ١٨٦ ) ﴾.
المعنى الجملي :
لما طالب الله عباده في الآية السابقة بصوم الشهر وإكمال العدة، وحثهم على التكبير ليعدوا أنفسهم للشكر ؟، عقب هذه الآية للدلالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، فيجيب دعوة الداعين ويجازيهم بأعمالهم، وفي هذا حث لهم على الدعاء، وقد روي أن سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع المسلمين يدعون الله بصوت رفيع في غزوة خيبر فقال لهم :( أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهم معكم ) ؟.
ويستفاد من هذه الآية أنه لا ينبغي رفع الصوت في العبادات إلا بالمقدار الذي حدده الشرع في الصلاة الجهرية، وهو أن يسمعه من بالقرب منه، فمن تعمد المبالغة في الصياح حين الدعاء، كان مخالفا لأمر ربه وأمر نبيه.
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ قرب الله من عباده إحاطة علمه بكل شيء، فهو يسمع أقوالهم ويرى أعمالهم، أي ذكر أيها الرسول عبادي ما يجب أن يراعوه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والإخلاص والتوجه إلي وحدي بالدعاء، وأخبرهم بأني قريب منهم ليس بيني وبينهم حجاب، ولا ولي ولا شفيع يبلغني دعاءهم وعبادتهم، أو يشاركني في إجابتهم وإثابتهم، وأجيب دعوة من يدعوني بلا وساطة أحد إذ هو توجه إلي وحدي في طلب حاجته، لأنني أنا الذي خلقته وأعلم ما توسوس به نفسه.
والعارف بالشريعة وبسنن الله في خلقه، لا يقصد بدعائه إلا هدايته إلى الأسباب التي توصله إلى تحصيل رغباته ونيل مقاصده، فهو إذا سأل الله أن يزيد في رزقه، فهو لا يقصد أن تمطر له السماء ذهبا وفضة، وإذا سأله شفاء مريضه الذي أعياه علاجه، فإنه لا يريد أن يخرق العادات، بل يريد توفيقه إلى العلاج الذي يكون سبب الشفاء، ومن ترك السعي والكسب وطلب أن يؤتي مالا فهو غير داع بل جاهل، وكذا المريض الذي لا يراعي الحمية ولا يتخذ الدواء ويطلب الشفاء والعافية، لأن مثل هذين يطلبان إبطال السنن التي سنها الله في الخليقة.
والدعاء المطلوب هو الدعاء بالقول مع التوجه إلى الله بالقلب، وذلك أثر الشعور بالحاجة إليه، والمذكر بعظمته وجلاله، ومن ثم سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخ العبادة، وإجابة الدعاء : تقبله ممن أخلص له وفزع إليه، سواء وصل إليه ما طلبه في ظاهر الأمر أم لم يصل، ونحو الآية قوله في سورة ق :﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾ وعلى هذا فلا داعي لرفع الصوت في الدعاء، ولا إلى الوساطة بينهم وبينه في طلب الحاجات كما كان يفعله المشركون من التوسل بالشفعاء والوسطاء.
﴿ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ﴾ الاستجابة الإجابة بعناية واستعداد، أي وإذ كنت قريبا منهم مجيبا دعوة من دعاني، فليستجيبوا لي بالقيام بعمل ما أمرتهم به من الإيمان والعبادات النافعة لهم كالصيام والصلاة والزكاة وغيرها مما أدعوهم إليه، كما أجيب دعوتهم بقبول عبادتهم.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ الرشد والرشاد ضد الغي والفساد : أي إن الأعمال إذا صدرت بروح الإيمان يرجى أن يكون صاحبها راشدا مهتديا، أما إذا صدرت إتباعا للعادة وموافقة المعاشرين فلا تعد للرشاد والتقوى، بل ربما زادت فاعلها ضراوة في الشهوات، وفسادا في الأخلاق، كما يشاهد ذلك لدى الصائمين الذين يصومون تقليدا لآبائهم وعشيرتهم لا بإخلاص لربهم وابتغاء لمثوبته.
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ١٨٧ ) ﴾.
تفسير المفردات :
ليلة الصيام : هي الليلة التي يصبح منها المرء صائما، والرفث إلى النساء : الإفضاء إليهن. قال الأزهري : الرفث : كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة، واللباس : الملابسة والمخالطة، تختانون أنفسكم : أي تخونون أنفسكم بعمل شيء تعدونه حراما، الخيط الأبيض : أول ما يبدو من بياض النهار كالخيط الممدود رقيقا ثم ينتشر، والخيط الأسود : هو ما يمتد من سواد الليل يكون طرفها الملاصق لما يبدو من الفجر كأنه خيط أسود في جنب خيط أبيض، والإتمام : الأداء على وجه التمام، وحقيقة المباشرة من كل بشرة الآخر : أي ظاهر جلده، والمراد بها ما أريد بالرفث، والاعتكاف شرعا : المكث في المسجد طاعة لله وتقربا إليه، والحدود : واحدها حد، وهو في اللغة الحاجز بين شيئين ثم سمى بها ما شرعه الله لعباده من الأحكام، لأنها تحدد الأعمال وتبين أطرافها وغاياتها، فإذا تجاوزها المرء خرج عن حد النصيحة وكان عمله باطلا.
والمراد من الآيات هنا دلائل الدين ونصوص الأحكام.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر أن الصوم فرض علينا كما فرض على من قبلنا، لأنه يعدنا للهداية وتقوى الله، ثم ذكر الأعذار المبيحة للفطر، أردف ذلك ذكر بقية أحكام الصوم، فبين أن صومنا امتاز برخصة لم تكن لمن قبلنا، ثم بين بدء مدة الصوم ونهايته، ثم ذكر حرمة قربان النساء مدة الاعتكاف في المساجد، ثم ختمها ببيان أن الله يبين الأحكام للناس لأجل أن يتقوه ويخشوا عقابه.
روى أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل : أن الناس كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له قيس بن صرمة ( بكسر الصاد ) صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح مجهودا، وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴾ إلخ.
وهذا يدل على أنه حين فرض الصيام كان كل إنسان يذهب في فهمه مذهبا كما يؤديه إليه اجتهاده ويراه أحوط وأقرب للتقوى حتى نزلت هذه الآية.
الإيضاح :
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ أي أحل لكم ليلة الصيام قربان نسائكم، وقد علمنا الله النزاهة في التعبير عن هذا الأمر حين الحاجة إلى الكلام فيه بعبارات مبهمة كقوله :( لامستم النساء، أفضى بعضكم إلى بعض، دخلتم بهن، فلما تغشاها حملت ).
ثم بين سبب هذا الحكم فقال :
﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ أي رخص لكم في مباشرتهن ليلة الصيام لما بينكم وبينهن من مثل هذه المخالطة والمعاشرة التي تجعل من العسير عليكم أن تجتنبوهن وتجعل من الصعب الصبر عنهن.
﴿ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم، إذ تعتقدون شيئا لا تلتزمون العمل به، إذ قد ذهب اجتهادكم إلى أنهم يحرمون على أنفسهم بعد النوم في الليل ما يحرم على الصائم في النهار، لكنهم قد خانوا أنفسهم بحسب اعتقادهم فهم عاصون بما فعلوا.
﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ﴾ أي فقبل توبتكم وعفا عن خيانتكم أنفسكم، إذا خالفتم ما كنتم تعتقدون حين فهمتم من قوله :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم ﴾ تحريم ملامسة النساء ليلا، أو تحريمها بعد النوم كتحريم الأكل والشرب.
﴿ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ﴾ أي فالآن إذ أحل لكم الرفث إليهن بالنص الصريح، باشروهن واطلبوا بتلك المباشرة ما قدر لهذا الجنس بمقتضى الفطرة من جعل المباشرة سببا للنسل، ولإحصان كل منهما الآخر وصده عن الحرام، ومن ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم للفقراء :( وفي بضع أحدكم صدقة، فقالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر ؟ قالوا بلى، قال : كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ).
﴿ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ أي ويباح لكم الأكل والشرب و المباشرة عامة الليل، حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، ويتبين بطلوع الفجر الصادق.
واستدل الأئمة على صحة صوم من أصبح جنبا، لأن المباشرة أبيحت إلى طلوع الفجر، والصائم لا يمكنه الاغتسال إلا بعده، وعلى أنه إذا طلع الفجر وهو يأكل أو يشرب فنزع تم صومه، وعلى أنه لو أكل ظانا أن الفجر لم يطلع صح صومه.
وبعد أن ذكر مبدأ الصيام في الجملة السابقة ذكر غايته فقال :
﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ﴾ أي استمروا في صيامكم إلى ابتداء الليل بغروب قرص الشمس وما يلزمه من ذهاب شعاعها عن جدران البيوت والمآذن، ويتلو ذلك إقبال الليل، قال صلى الله عليه وآله وسلم :( إذا أدبر النهار وأقبل الليل وغابت الشمس فقد أفطر الصائم ).
ثم استثنى من عموم إباحة المباشرة التي تفهم من قوله :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُم ﴾ منع المباشرة حين الاعتكاف كما أشار إلى ذلك بقوله :
﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾أي ولا تباشروا النساء حال عكوفكم في المساجد للعبادة، فإن المباشرة تبطل الاعتكاف ولو ليلا كما تبطل الصيام نهارا.
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ﴾ أي إن هذه الأحكام المشتملة على الإيجاب والتحريم والإباحة هي حدود الله وأحكامه فلا تقربوها، إذ من قرب من الحد أوشك أن يتعداه كالشاب يداعب امرأته نهارا يوشك ألا يملك إربه، فيقع في المباشرة المحرمة، أو يفسد صومه بالإنزال، فالاحتياط يقتضي ألا يقرب الحد حتى لا يتجاوزه بالوقوع فيما بعد، ومن ثم جاء في الحديث :( إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ).
فالتحذير في هذه الآية أشد منه في الآية الأخرى ﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ﴾ والله لم ينه عن قرب حدوده إلا في هذه الآية وفي الزنا وفي مال اليتيم، ولكن تعدد فيه الوعيد على تعديها.
﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي على هذا الطريق السوي من بيان أحكام الصيام في أوله وآخره، وعزيمته ورخصته، وفائدة مشروعيته وحكمته، يبين الله آياته للناس ليعدهم لتقواه ويباعدهم عن الهوى.
﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ١٨٨ ) ﴾.
تفسير المفردات :
المراد بالأكل الأخذ والاستيلاء، وعبر به لأنه أعم الحاجات التي ينفق فيها المال وأكثرها، إذ الحاجة إليه أهم، وتقويم البينة به أعظم، والباطل من البطلان وهو الضياع والخسران، وأكله بالباطل أخذه بدون مقابلة شيء حقيقي، والشريعة حرمت أخذ المال بدون مقابلة يعتد بها، وبدون رضا من يؤخذ منه، وإنفاقه في غير وجه حقيقي نافع، والإدلاء : إلقاء الدلو لإخراج الماء، ويراد به إلقاء الدلو لإخراج المال، ويراد به إلقاء المال إلى الحكام لإخراج الحكم للملقي، وقوله بها أي بالأموال، والفريق من الشيء : الجملة والطائفة منه، والإثم : هو شهادة الزور أو اليمين الفاجرة أو نحو ذلك.
المعنى الجملي :
لما كان الكلام في الآية السالفة في الصيام وأحكامه، وفيه حل أكل الإنسان حال نفسه في وقت دون وقت، ناسب أن يذكر هنا حكم أكل الإنسان مال غيره.
الإيضاح :
﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِل ﴾ أي لا يأكل بعضكم مال بعض، وسماه ماله إشعارا بوحدة الأمة وتكافلها، وتنبيها إلى أن احترام مال غيرك احترام وحفظ لمالك، كما أن التعدي على مال غيرك جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، ولا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، إذ هو باستحلال مال غيره يجرئ غيره على استحلال أكل ماله إذا كان في طاقته. والباطل كلمة معروفة عند الناس بوجوهها الكثيرة ويدخل فيها :
الربا لأنه أكل لأموال الناس بدون مقابل من صاحب المال المعطى.
الأموال التي تلقى إلى الحكام رشوة لهم.
الصدقة على القادر على الكسب الذي يكفيه.
أخذ القادر على الكسب صدقة، فلا يحل أن يقبل صدقة وهو غير مضطر إليها.
باعة التمائم والعزائم وختمات القرآن، والعدد المعلوم من سورة يس لقضاء الحاجات أو رحمة الأموات.
التعدي على الناس بغصب المنفعة، بأن يسخر بعضهم بعضا في عمل لا يعطيه عليه أجرا، أو ينقصه من الأجر المسمى أو أجر المثل.
ضروب الغش والاحتيال كما يقع من السماسرة من التلبيس والتدليس، فيزينون للناس السلع الرديئة والبضائع المزجاة، ويورطونهم في شرائها، ويوهموهم ما لا حقيقة له، بحيث لو عرفوا الخفايا ما باعوا وما اشتروا.
الأجر على عبادة من العبادات كالصلاة والصوم، لأن العبادة إنما تكون بالنية وإرادة وجه الله تعالى ابتغاء لمرضاته وامتثالا لأمره، فمتى شاب هذا حظ من حظوظ الدنيا خرج العمل عن كونه عبادة، إذ لا يقبل الله من الأعمال إلا ما أريد به رضاه فحسب، ودافع الأجر عليها خاسر لماله، وآخذه خاسر لمآله.
ومن علم العلم والدين بالأجر، فهو كسائر الصناع والأجراء ولا ثواب له على أصل العمل، بل على إتقانه والإخلاص فيه، ولا يجوز أخذ الأجر على جواب السائل عن فتوى دينية تعرض له، إذ الإجابة فريضة على أهل الذكر العارفين، وكتمان العلم محرم عليهم.
والخلاصة – أنه ينبغي للإنسان أن يطلب الكسب من الطرق المشروعة التي لا تضر أحدا.
﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ أي ولا تلقوا بأموالكم إلى الحكام رشوة لهم.
﴿ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي لتأخذوا بعضا من أموال غيركم بوساطة يمين فاجرة، أو شهادة زور، أو نحو ذلك مما تثبتون به أنكم على حق فيما تدعون، وأنتم تعلمون أنكم على الباطل مرتكبون المعصية، فإن الاستعانة بالحكام على أكل الأموال بالباطل حرام، إذ الحكم لا يغير الحق في نفسه، ولا يحله للمحكوم له، وحكم القاضي إنما ينفذ ظاهرا فقط، فهو لا يحلل الحرام، فإذا حكم القاضي بصحة عقد بأن فلانا عقد على فلانة بشهادة زور لا يحل له أن يدخل بها بغير عقد اكتفاء بحكم القاضي وهو يعلم أنه بغير حق، وهكذا الحال في الأموال والعقود المالية.
والأصل في ذلك حديث أم سلمة الذي رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمتخاصمين حضرا أمامه :( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ). فبكى الخصمان وقال كل واحد منهما : أنا حل لصاحبي، فقال عليه الصلاة والسلام :( اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه ). وقوله ألحن بحجته : أي أقدر عليها من صاحبه، والتوخي قصد الحق، والاستهام : الاقتراع أي اقصدا الحق فيما تصنعان من القسمة، وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من القسمة.
وفي الآية والحديث لوكلاء الدعاوى ( المحامين ) فلا ينبغي لمن يؤمن منهم بالله واليوم الآخر أن يقبل الوكالة في دعوى يعتقد أن صاحبها مبطل، ويعتمد في ذلك على خلابته في القول ولحنه في الخطاب.
والناظر إلى ما عليه المسلمون اليوم من غرامهم بالتقاضي والخصام والإدلاء إلى الحكام لمحض الإيذاء والانتقام وإن أضر بنفسه، يعلم بعدهم عن فهم دينهم وهدي كتابهم، ومن ثم ساءت حالهم فنفذت ثرواتهم، وخربت بيوتهم، وفرقت جماعاتهم، ولو تأدبوا بأدب الكتاب الذي إليه ينتسبون لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم ويمنع تقاطعهم وعقوقهم، ولحل فيهم التراحم محل التزاحم، وقد بلغ من أمرهم أن ظنوا أنهم عن هدى الدين أغنياء، وعموا عما أصابهم لأجل هذا من الأرزاء.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ١٨٩ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الأهلة : واحدها هلال وهو القمر في ليلتين أو ثلاث من أول الشهر، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر حين رؤيته، من قولهم : استهل الصبي إذا صرخ حين يولد وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، والمواقيت : واحدها ميقات وهو ما يعرف به الوقت وهو الزمن المقدر المعين.
المعنى الجملي :
كان الكلام في الآيات السابقة في بيان حكم الصيام وذكر شهر رمضان، فناسب ذلك ذكر الأهلة، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال كما جاء في الحديث :
( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ).
أخرج أبو نعيم وابن عساكر عن أبي صالح عن ابن عباس أن معاذ بن جبل وثعلبة ابن غنيمة قالا : يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حال فنزلت الآية.
الإيضاح :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ أي يسألونك عن حكمة اختلاف الأهلة وفائدته، فأجبهم بأنها معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية، فيعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم، وآجال عقودهم في المعاملات، ومعالم للعبادات المؤقتة، فيعرفون بها أوقاتها كالصيام والإفطار ولا سيما الحج، فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء، ولو كان الهلال ملازما حالا واحدة لم يتيسر التوقيت به.
والتوقيت بالأهلة يسهل على العالم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر، والتوقيت بالسنة الشمسية لا يصلح إلا للحاسبين، وهؤلاء لم يقدروا على ضبطها إلا بعد ارتقاء العلوم بأزمان طوال.
والعلوم التي نحتاج إليها في حياتنا على ضروب :
ما لا حاجة لنا فيه إلى أستاذ كالمحسوسات والوجدانات.
ما لا نجد له أستاذا إذ لا سبيل للبشر إلى الوصول إليه، ككيفية التكوين والخلق الأول ؛ فالطبيب يعرف كيف يولد الحيوان والأطوار التي يتدرج فيها منذ كان نطفة إلى أن صار إنسانا عاقلا ؛ والنباتي يعرف ما تكون منه النبات، وكيف ينمو ويتغذى، ولكن كلا منهما عاجز أن يعرف كيف وجدت أنواع الحيوان والنبات، ولا مادتهما أول مرة، فالإيجاد والخلق لا يمكن اكتناههما، كما لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته.
ما يتيسر للناس معرفته بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الطبيعية والرياضية والزراعية والهيئة الفلكية كأسباب أطوار الهلال وتنقله من حال إلى حال وهو ما أشار إليه سبحانه بقوله :﴿ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ﴾.
ومثل هذا ينبغي ألا يطالب الأنبياء بيانه، لأن ذلك جهل بوظيفتهم، وإهمال للقوى والمواهب التي وهبها الله تعالى للإنسان ليصل بها إلى ذلك، وإلا وجب حينئذ أن يتلقى كل شيء بالتسليم، كما يجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم، وإن كان الأنبياء ينبهون الناس إجمالا إلى استعمال الحواس والعقول فيما يزيد منافعهم ويرقي إدراكهم وشعورهم، يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة تأبير النخل ( أنت أعلم بأمور دنياكم ) وذلك أنه عليه الصلاة والسلام نهى أهل المدينة عن تأبير نخلهم : أي وضع طلع الذكر عليه فلم ينتج ثمرا جيدا، فرجعوا إليه فقال لهم هذه المقالة.
والتاريخ الذي سيق في القرآن لم يذكر على أنه قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، بل سيق للعبر تتجلى في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم بيانا لسنة الله فيهم، وإنذارا للكافرين بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتثبيتا لقلوب المؤمنين كما قال تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ وما يروى في التوراة من التاريخ المفصل من ذكر خلق آدم وما بعده، فهو مما ألحق بالتوراة بعد موسى بقرون.
ما يجب علينا للخالق الذي هدى عقولنا إلى الإيمان بآياته التي نراها في الآفاق وفي أنفسنا "، لكن هذه الهداية مبهمة تحتاج إلى التحديد من حيث معرفة ما يجب اعتقاده في الله تعالى وفي حكمة خلقنا، وما يتبع ذلك من وجوب الشكر والعبادة له، ومعرفة مصيرنا وحال الحياة الأخرى.
ومثل هذا لا سبيل إلى معرفته بطريق الكسب البشري، وكثيرا ما وقعت الأمم في الخطأ والحيرة في فهم مسائله لجهلهم بالصلة بين الخالق والمخلوق ؛ فمنهم من توهم أن الحياة الأخرى تكون بهذه الأجساد، والجزاء فيها يكون بهذا المتاع، ومن ثم اخترعوا الأدوية لحفظ أجسادهم ومتاعهم كالمصريين في عهد الفراعنة.
لهذا كان الإنسان محتاجا إلى هاد يخبر عن الله تعالى لنأخذ عنه بالإيمان والتسليم ما لا يصل الحس والوجدان والعقل إلى إدراكه.
ما يستطيع العقل البشري أن يصل إلى إدراك فائدته، لكنه عرضة للخطأ فيه، لما يعرض له من الشهوات والأهواء التي تلقي الغشاوة على البصائر والأبصار، فتحول بينه وبين الوصول إلى الحقيقة، أو تلبس الحق بالباطل أو تشبه النافع بالضار، فالخمر والحشيش يعلم الإنسان مضرتهما، لكن الشهوة تحجب ذلك عنه فيشربهما، ويؤثر حكم لذته في حكم عقله الذي ينهاه عن كل ضار، ومن ثم احتاج في هذا إلى معلم آخر ينصر العقل على الهوى، ويكبح جماح الشهوات ليكون على هدى وبينة من أمره.
ولما ذكر مواقيت الحج ذكر ما كان من أفعالهم فيه قال :
﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾ هذا إبطال لما كانوا يفعلونه في الجاهلية إذا هم أحرموا من إتيان البيت من ظهره وتحريم دخوله من بابه، روى البخاري وابن جرير عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن جابر قال : كانت قريش تدعى الحمس ( جمع أحمس من الحماسة، وهي الشدة والصلابة لتشددهم في دينهم ) وكانوا يدخلون البيوت من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بستان، إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا : يا رسول الله : إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب، فقال له : ما حملك على ما فعلت ؟ قال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، قال إني رجل أحمسي، قال له : فإن ديني دينك، فأنزل الله الآية.
﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ بعد أن أعلمهم بخطئهم في إتيان البيوت من ظهورها وظنهم أن ذلك من البر، بين لهم البر الحقيقي، وأنه تقوى الله بالتخلي عن المعاصي والرذائل، والتحلي بالفضائل واتباع الحق وعمل الخير، فأتوا البيوت من أبوابها، وليكن باطنكم عنوانا لظاهركم، واتقوا الله رجاء أن تفلحوا في أعمالكم وتصلوا إلى غاية آمالكم، فالمتقون ملهمون إلى طريق الرشاد، كما قال تعالى :﴿ ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ﴾.
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ( ١٩٠ ) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( ١٩١ ) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٩٢ ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ( ١٩٣ ) ﴾.
تفسير المفردات :
سبيل الله دينه لأنه طريق إلى مرضاته، يقاتلونكم : أي يتوقع منهم قتالكم، ولا تعتدوا : أي لا تبدءوهم بالقتال، محبة الله لعباده إرادة الخير والثواب لهم، والمعتدون أي الذين جاوزوا ما حده الله لهم من الشرائع والأحكام.
المعنى ا لاجمالي :
بعد أن ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية ؛ بين هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعا عن دينكم، وتربية لمن يفتنكم عنه، وينكث العهد لحظوظ النفس وشهواتها وحب سفك الدماء.
وقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية ؛ ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صد عن البيت، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله الآية
الإيضاح :
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ أي أيها المؤمنون الذين يخشون أن يمنعهم كفار قريش حين زيارة البيت الحرام والاعتمار فيه، نكثا منهم للعهد، وفتنة لهم في الدين، ويكرهون الدفاع عن أنفسهم بقتالهم في الإحرام والشهر الحرام، إني أذنت لكم في قتالهم اعتزازا لدين الله وإعلاء لكلمته، لا لهوى النفس وشهواتها ولا حبا في سفك الدماء.
﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ أي ولا تعتدوا بالقتال فتبدءوهم به، ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى، ولا من ألقى إليكم السلم وكف عن حربكم، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار، فإن الاعتداء من السيئات التي يكرهها الله تعالى، ولا سيما حين الإحرام وفي أرض الحرم وفي الأشهر الحرم.
﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم ﴾
تفسير المفردات :
والتثقف : الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملا، وقد يستعمل في مطلق الإدراك، من حيث أخرجوكم : أي من مكة، والفتنة من قولهم فتن الصائغ الذهب إذا أذابه في النار ليستخرج منه الزغل، ثم استعملت في كل اختبار شاق كالإخراج من الوطن المحبب من الطباع السليمة والفتنة في الدين، ويكون الدين لله ؛ أي ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن بصده عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج إلى مداهنة ومحاباة، أو استخفاء ومداراة.
المعنى ا لاجمالي :
بعد أن ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية ؛ بين هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعا عن دينكم، وتربية لمن يفتنكم عنه، وينكث العهد لحظوظ النفس وشهواتها وحب سفك الدماء.
وقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية ؛ ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صد عن البيت، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله الآية
الإيضاح :
أي إذا نشب القتال بينكم وبينهم فاقتلوهم أينما أدركتموهم، ولا يصدنكم عنهم وجودكم في أرض الحرم.
﴿ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ أي وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة، فإن المشركين أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه منها بما كانوا يفتنونهم في دينهم، وبعدئذ صدوهم عن دخولها للعبادة، فرضي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون على شرط ألا يعارضوهم في دخولها العام القابل لأداء النسك والإقامة بها ثلاثة أيام ثم نقضوا العهد فكان من فضل الله ورحمته بالمؤمنين أن قوى أمرهم وأذن لهم أن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الحانثين في عهودهم.
ثم ذكر العلة في الإذن بقتالهم فقال :
﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ أي إن فتنتهم إياكم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب والإخراج من الوطن ومصادرة المال أشد قبحا، من القتل فيه، إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره.
ثم استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه المسجد الحرام فقال :
﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ أي إن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته، فلا أمان له حينئذ.
ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرا عظيما يتحرج منه، أكد الإذن فيه بشرطه السابق فقال :
﴿ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم.
﴿ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴾ أي إنه قد جرت سنة الله بأن يجازي الكافرين مثل هذا الجزاء، ويعذبهم مثل ذلك العذاب ؛ لأنهم قد تعرضوا له بتعديهم الحدود التي شرعها، فهم الظالمون لأنفسهم، قد بدءوا بالعدوان، فيلقون جزاء ما صنعوا.
﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
المعنى ا لاجمالي :
بعد أن ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية ؛ بين هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعا عن دينكم، وتربية لمن يفتنكم عنه، وينكث العهد لحظوظ النفس وشهواتها وحب سفك الدماء.
وقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية ؛ ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صد عن البيت، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله الآية
الإيضاح :
أي فإن كفوا عن القتال أو عن الكفر فإن الله يقبل منهم عملهم، فهو رحيم بعباده يغفر لهم ما سبق من زلاتهم، ويمحو خطيئاتهم إذا هم تابوا عما اقترفوا، وأحسنوا واتقوا :﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾.
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾
المعنى ا لاجمالي :
بعد أن ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية ؛ بين هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعا عن دينكم، وتربية لمن يفتنكم عنه، وينكث العهد لحظوظ النفس وشهواتها وحب سفك الدماء.
وقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية ؛ ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صد عن البيت، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله الآية
الإيضاح :
أي وقاتلوهم حتى لا تكون لهم قوة يفتنونكم بها في دينكم، ويؤذوكم في سبيله، ويمنعوكم من إظهاره والدعوة إليه.
وجملة وقاتلوا الأولى بينت بدء القتال، وقاتلوهم إلخ بينت الغاية منه، وهي ألا يوجد شيء من الفتنة في الدين.
﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ ﴾ أي ويكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن بصده عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى مداهنة ومحاباة، أو استخفاء ومداراة.
وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام مغلوبين على أمرهم، والمشركون في ضلالتهم هم أصحاب الحول، وكانت مكة قرارة الشرك، والكعبة مستودع الأصنام، فأبى الله إلا أن يتم نوره، فمكن المؤمنين في الأرض، ففتحوا مكة وحطموا تلك الأصنام، وكسروا اللات والعزى ﴿ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ﴾.
﴿ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ أي فإن انتهوا عما كانوا عليه وأسلموا، فلا تعتدوا عليهم، لأن العقوبة والعدوان إنما تكون على الظالمين تأديبا لهم، ليرجعوا عن ظلمهم وغيهم.
﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( ١٩٤ ) وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( ١٩٥ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الحرمات : واحدها حرمة وهي ما يجب احترامه والمحافظة عليه، والقصاص : المقاصة والمقابلة بالمثل، وإلقاء الشيء : طرحه حيث تراه ثم استعمل في كل ما يطرح ويلقى مطلقا.
المعنى الجملي :
خرج المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية، فصدهم المشركون وقاتلوهم بالسهام والحجارة في شهر ذي القعدة سنة ست، ثم صالحوهم على أن يرجعوا إلى مكة العام القابل، ولما خرجوا في ذلك العام لعمرة القضاء كرهوا قتال المشركين وإن اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام، فبين الله لهم أن المحظور في الأشهر الحرام هو العدوان بالقتال لا المدافعة عن النفس، وأن المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين فعلوا ما هو أشد قبحا من القتل بتأييدهم للشرك ومنعهم للحق
الإيضاح :
﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ أي الشهر الحرام يقابل بذلك الشهر الحرام، وهتك حرمته بهتك حرمته، فلا تبالوا بالقتال فيه إذا اضطررتم للدفاع عن دينكم وإعلاء كلمته.
﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ أي يجب مقاصة المشركين على انتهاك حرمة الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل، ليكون شهر بشهر جزاءا وفاقا، فهم قد انتهكوا حرمة شهركم بالصد عن البيت الحرام وفيه تعرض للقتال، فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليهم مكة عنوة وقهرا، فإن منعوكم هذه السنة عن قضاء العمرة وقاتلوكم فاقتلوهم.
ثم ذكر نتيجة لما سبق وأيد الحكم السابق بقوله :
﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ أي إن الاعتداء المحظور ما كان ابتداء، أما ما كان على سبيل القصاص فهو اعتداء مأذون فيه.
وبهذه الآية استدل الشافعي على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به، فيذبح إذا ذبح ويخنق إذا خنق، ويغرق إذا أغرق وهكذا.
وفي الآية أيضا إيماء إلى أن قتل الأعداء كقتال المجرمين بلا هوادة ولا تقصير، فمن يقاتل بالقذائف النارية أو بالمدافع أو بالغازات السامة يقاتل بمثلها حتى يمتنع عن الظلم والعدوان، والفتنة والاضطهاد، ويوجد الأمان والاطمئنان بين الناس.
﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ أي واحذروا أن تعتدوا بما لم يرخص لكم فيه، واعلموا أن الله مع المتقين بالمعونة والتأييد، والنصر والتمكين، والغلبة لهم على أعدائهم تأييدا لدينه وإعلاء لكلمته.
ثم أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر بالجهاد بالأنفس فقال :﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾.
تفسير المفردات :
سبيل الله : هي طريق الخير والبر المؤدي إلى إعزاز دينه كجهاد الأعداء وصلة الأرحام، والتهلكة : الهلاك والمراد به هنا الإمساك عن النفقة في الاستعداد للقتال وترك الجهاد.
المعنى الجملي :
خرج المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية، فصدهم المشركون وقاتلوهم بالسهام والحجارة في شهر ذي القعدة سنة ست، ثم صالحوهم على أن يرجعوا إلى مكة العام القابل، ولما خرجوا في ذلك العام لعمرة القضاء كرهوا قتال المشركين وإن اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام، فبين الله لهم أن المحظور في الأشهر الحرام هو العدوان بالقتال لا المدافعة عن النفس، وأن المشركين بإصرارهم على الفتنة وإيذائهم للمؤمنين فعلوا ما هو أشد قبحا من القتل بتأييدهم للشرك ومنعهم للحق
الإيضاح :
أي وابذلوا المال في وسائل الدفاع عن بيضة الدين، فاشتروا السلاح والكراع وعدد الحرب التي لعدوكم مثلها إن لم تزيدوا عليه حتى لا يكون له الغلب عليكم، وإلى هذا أشار بقوله :
﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ أي إنكم إن لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال وإعداد للعدة فقد أهلكتم أنفسكم.
روي أن أبا أيوب الأنصاري قال : فينا معشر الأنصار نزلت هذه الآية، إنه لما أعز الله دينه، ونصر رسوله همس بعضنا في أذن بعض، إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه ما يرد علينا ما قلنا ( وأنفقوا ) الآية فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو، رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم في جماعة آخرين.
والخلاصة – إن المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين، وهم من الكثرة بحيث يخشى شرهم، فلو انصرف المؤمنون عن الاستعداد للجهاد إلى تثمير الأموال لأوقعوا بهم، فيكونون حينئذ قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة.
﴿ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي وأحسنوا كل أعمالكم وجودوها ولا تهملوا إتقان شيء منها، ويدخل ذلك التطوع بالإنفاق في سبيل الله لنشر دعوة الدين وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الصدر الأول كان دفاعا عن الحق وأهله وحماية دعوة الدين، فكانوا يبدءون أولا بالدعوة بالحجة والبرهان، فإذا منعوا بالقوة وهدد الداعي أو قتل قاتلوا حماية للدعاة ونشرا للدعوة، لا للإكراه على الدخول في الدين، إذ ذاك منهي عنه بنحو قوله تعالى :﴿ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾.
فإذا لم يوجد من يصد الدعوة أو يهدد االدعاة ويعتدي على المؤمنين، فلا يفرض علينا الجهاد لسفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولا للطمع في الغنائم والأنفال.
وجملة القول : إن القتال شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الإسلامية ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان.
ولم يشهد التاريخ أمة قوية رحيمة بالضعفاء في فتوحها كالأمة العربية، كما اعترف بذلك المنصفون من الإفرنج، فقد قال جوستاف لوبون الفيلسوف الفرنسي : ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، وما يتجنى به أعداء الإسلام من دعواهم أن الإسلام قام بالسيف، فقول يكذبه التاريخ ولا يؤيده من ينظر إلى الأمور بعين الإنصاف ويدع الهوى وراءه ظهريا.
﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ١٩٦ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الحصر والإحصار : الحبس والتضييق، يقال حصره عن السفر وأحصره إذا حبسه ومنعه، والهدي يطلق على الواحد والجمع هو ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النعيم ليذبح ويفرق على الفقراء والمحل ( بكسر الحاء ) مكان الحلول والنزول، حاضرو المسجد هم أهل مكة وما دونها إلى المواقيت.
المعنى الجملي :
كان الكلام فيما مضى في بيان أحكام الحج بعد ذكر أحكام الصيام، لأن شهوره بعد شهر الصيام، وجاء ذكر آيات القتال تابعا لبيان أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام.
وهنا عاد إلى إتمام أحكام الحج، فذكر المحصر وعدم جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله، إلا لمن كان مريضا أو به جروح ونحوها فإنه يحلق وعليه أن يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة أو يتصدق بفرق على ستة مساكين ( الفرق بالتحريك مكيال بالمدينة يزن ستة عشر رطلا ) فإذا زال الخوف من العدو، فمن أتم العمرة وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحج من مكة فعليه دم، لأنه أحرم بالحج من غير الميقات، فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج، وسبعة إذا رجع إلى بلده إلا إذا كان مسكنه وراء الميقات.
الإيضاح :
﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ﴾ أي وأتوا بالحج والعمرة تامين كاملين، ظاهرا بأداء المناسك على وجهها، وباطنا بالإخلاص لله تعالى دون قصد الكسب والتجارة أو الرياء والسمعة.
والتجارة لا تنافي الإخلاص إذا لم تقصد لذاتها بدليل قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ والرياء والسمعة إذا كانا هما الباعثان على الحج، فالحج ذنب للمرائي لا طاعة، وهكذا حكم من يحج ليقال له ( الحاج فلان ) أو ليحتفل بقدومه، أو يقترض بالربا أو يرتكب أكبر ضروب المنكر ليحج، أو لا تخطر على باله مناسك الحج وأركانه، وإنما يقصد زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يعرف من الحج إلا هذه الزيارة.
وقد كان الحج معروفا في الجاهلية من عهد إبراهيم وإسماعيل وأقره الإسلام بعد أن أزال ما فيه من ضروب الشرك والمنكرات، وزاد فيه مناسك وعبادات.
وهو فريضة لقوله تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾ وللأحاديث الواردة في ذلك.
وأول حجة حجها المسلمون كانت سنة تسع بإمرة أبي بكر رضي الله عنه، وكانت تمهيدا لحجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة عشر، وفيها أذن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ونزلت الآية :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾.
﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ أي فإن منعتم وأنتم محرمون من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، وأردتم أن تتحللوا فعليكم أن تذبحوا ما تيسر لكم من بدنة أو بقرة أو شاة، ثم تتحللوا.
وذبحها في موضع الإحصار ولو في الحل. لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل.
﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ قد جعل لكم الشارع أمارة الدخول في الحج أو العمرة، الإحرام بنية النسك عند الابتداء به بالتلبية ولبس غير المخيط من إزار ورداء وكشف الرأس للرجل ولبس النعلين العربيتين، وأمارة الخروج منهما ( ويعبر عنه بالإحلال والتحلل ) بحلق الرأس أو التقصير، فالنهي عن الحلق نهي عن الإحلال قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي ذبحه فيه، وذلك حيث يحصر الحاج، وإلا فالكعبة لقوله تعالى :﴿ هديا بالغ الكعبة ﴾.
﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ أي فمن كان منكم مريضا يحتاج إلى الحلق ويؤذيه تركه، أو به أذى من رأسه من جراح أو صداع، فعليه فدية إن حلق، وهي إما صيام أو صدقة أو نسك.
وقد بين مقدارها ما أخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة قال :( وقف علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملا، فقال : يؤذيك هوامك ؟ قلت : نعم، قال : فاحلق رأسك ) قال فنزلت هذه الآية، وذكرها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك بما تيسر ).
﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ ﴾ من خوفكم من عدوكم أو برأتم من مرضكم الذي منعكم من حجكم أو عمرتكم.
﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ أي فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة، إلى وقت الانتفاع بأعمال الحج، فعليه ما استيسر من الهدي أي فعليه دم نسك شكرا لله أن أتاح له الجمع بين النسكين، ويأكل منه كالأضحية ويذبح يوم النحر.
﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ أي فمن لم يجد الهدي لعدم وجوده أو عدم المال الذي يشتري به، فعليه صيام ثلاثة أيام في أيام الإحرام بالحج وتمتد إلى يوم النحر، وسبعة أيام إذا رجع من الحج إلى بلده، أو شرع في الرجوع فيجزئ الصوم في الطريق، ولا يتضيق الوقت إلا إذا وصل إلى وطنه.
﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ أي هذه الأيام الثلاثة والسبعة الأيام عشرة كاملة، وهذا نتيجة لما تقدم مبين لجملة العدد الواجب بعد أن بينه تفصيلا، وفائدته إزالة وهم من قد يظن أن الواو للتخيير بمعنى أو كقوله تعالى ﴿ مثنى وثلاث ورباع ﴾ وقولهم : جالس الحسن وابن سيرين، وإرشاد إلى أن المراد بالسبعة هنا العدد دون الكثرة في الآحاد وهي تستعمل لهما، إلى أن القرآن قد جرى على طريقهم في التخاطب، فهم لكونهم أمة أمية كان أحدهم إذا خاطب صاحبه بأعداد متفرقة جمعها له ليسهل إحاطته بها.
وفائدة وصفها بالكمال الإشارة إلى أن رعاية العدد من المهام التي لا يجوز إغفالها بل يجب المحافظة عليها دون نقص في عددها ولا تهاون في أدائها، وإلى أن هذا البدل كامل في قيامه مقام المبدل منه، وهما في الفضيلة سواء.
ثم بين سبحانه أن التمتع بالعمرة مضمونة إلى وقت الإحرام بالحج وما يتبعه من الأحكام خاص بالآفاقيين دون أهل الحرام قال :
﴿ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ أي إن أهل الآفاق هم الذين يحتاجون إلى هذا التمتع، لما يلحقهم من المشقة بالسفر إلى الحج وحده ثم السفر إلى العمرة وحدها، أما أهل الحرم فليسوا في حاجة إلى ذلك، فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام.
﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ أي اخشعوا لله وحافظوا على امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه، واحذروا أن تعتدوا في ذلك، واعلموا أنه تعالى شديد العقاب لمن انتهك حرماته، وركب معاصيه.
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ( ١٩٧ ) ﴾.
تفسير المفردات :
فرض فيهن الحج أي أوجبه على نفسه، والرفث لغة هو قول الفحش، وشرعا قربان النساء، والفسوق لغة التنابز بالألقاب كما جاء في قوله تعالى :﴿ ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق ﴾ وشرعا الخروج عما حدده الشارع للمحرم إلى ما كان مباحا في الحل كالصيد والطيب والزينة باللباس المخيط. والجدال المراء والخصام، ويكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر، لأنه مشقة تضيق بها الصدور، والزاد هو الأعمال الصالحة وما يدخر من الخير والبر، والتقوى هي ما يتقى به سخط الله وغضبه من أعمال الخير والتنزه عن المنكرات والمعاصي.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر أعمال الحج وبين ما يجب على المحصر أن يفعله من ذبح الهدي وعدم الحلق حتى يبلغ الهدي محله، ثم ذكر من لم يجد ذلك، أعقب هذا بذكر زمان الحج، وما يجب على من أوجب على نفسه الحج من ترك الرفث والفسوق والجدال، ثم ختم ذلك بطلب التمسك بالآداب الصالحة والتزود بها ليوم المعاد، فهي خير زاد، كما طلب خشيته تعالى والخوف من عقابه.
الإيضاح
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ أي لأداء فريضة الحج أشهر معلومة لدى الناس، وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، وهذا هو المروي عن ابن عباس، وجرى عليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وفي قوله : معلومات، إقرارا لما كان عليه العرب في الجاهلية من اعتبار هذه الأشهر أشهرا للحج، ونقل ذلك بالتواتر العملي من لدن إبراهيم وإسماعيل، وجاء الإسلام مقررا لما عرف ولم يغيره.
وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر معرفة أن أفعال الحج لا تصح إلا فيها، وإن كان الإحرام يصح في غيرها، لأنه شرط للحج فيجوز تقديمه على وقت أدائه كتقديم الطهارة على أداء الصلاة.
﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدي، لأن الحج عبادة لها تحريم وتحليل، فلا يكفي للشروع فيه مجرد النية بل لا بد من فعل به يشرع فيه.
﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ أي لا يفعل الحاج شيئا من هذه الأفعال لأنه مقبل على الله قاصد لرضاه، فينبغي أن يتجرد عن عاداته وعن التمتع بنعيم الدنيا، وينسلخ عن مفاخره ومميزاته عن غيره بحيث يتساوى الغني والفقير والصعلوك والأمير، وفي هذا تهذيب للنفس وإشعار لها بالعبودية لله تعالى. وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
إلى ما في ذلك من تعظيم شأن الحرم وتغليظ أمر الإثم فيه، لأن المرء في أوقات العبادة ومناجاة الله، يجب أن يكون على أكمل الآداب وأفضل الأحوال، وللمرء في المجتمع من الآداب ما ليس له حين الخلوة، وله في مجلس السلطان ما ليس له مع الإخوان.
﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ﴾ أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا لتصفو نفوسكم وتتخلى عن الرذائل وتتحلى بالفضائل، وتكون أكثر استعدادا لعمل الخير، وأطوع لامتثال أوامر الشرع، والله يعلم ما تفعلون، فيجازيكم بأعمالكم ويثيبكم على أفعالكم.
﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ أي واتخذوا التقوى زادكم لمعادكم، فإنها خير زاد.
﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ أي وأخلصوا لي يا أولي العقول والأفهام بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض، واجتناب ما حرمته عليكم، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبي وعقابي، وتدركوا ما تطلبون من الفوز برضاي ورحمتي.
﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ( ١٩٨ ) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٩٩ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الجناح : الحرج والإثم، من الجنوح وهو الميل عن القصد، أن تبتغوا أي أن تقصدوا وتطلبوا، وفضلا أي عطاء ورزقا منه بالربح في التجارة أيام الحج، والإفاضة من المكان : الدفع منه أي أفضتم أنفسكم ودفعتموها، ويقال أفاض في الكلام إذا انطلق فيه كما يفيض الماء ويتدفق، وعرفات موقف الحاج في أداء النسك، وسمي بهذا الاسم لأن الناس يتعارفون فيه، وعرفة اسم لليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفات، وهو التاسع من ذي الحجة، والذكر : الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد، والمشعر الحرام : هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام، وسمي بهذا الإسم لأنه معلم للعبادة، والشعائر العلامات، ووصف بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهي عنه.
المعنى الجملي :
جاء هذا كالاستدراك : والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من منع التجارة في الحج، ذاك أن الآيات السابقة أرشدت إلى حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحج، والتجارة تفضي إلى الجدال والنزاع في قيم السلع قلة وكثرة، فعقب ذلك بيان حكمها، وأبان أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور، لأنه لا ينافي الإخلاص في هذه العبادة، وإنما الذي ينافيها أن يكون المقصد التجارة فحسب، بحيث لو لم يرجح الكسب لم يسافر للحج.
وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام يتأثمون من كل عمل دنيوي أيام الحج، حتى إنهم كانوا يقفلون حوانيتهم، فأعلمهم الله أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فنزلت الآية.
وعن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر إنا نكري ( أي الرواحل للحجاج ) فهل لنا من حج ؟ فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية، فدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أنتم حجاج
الإيضاح :
﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي لا حرج ولا إثم في الكسب أيام الحج إذا لم يكن هو المقصد بالذات، إذ هو مع حسن النية وملاحظة أنه فضل من الله عبادة، ولكن التفرغ لأداء المناسك في تلك الأوقات أفضل، والتنزه عن حظوظ الدنيا أكمل، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ﴾.
﴿ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ أي يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالدعاء والتحميد والثناء والتلبية، وإنما طلب منه ذلك خشية أن يتركه بعد المبيت، فطلب منه المضي في الذكر ما دام في هذا الموضع.
﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ أي واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه، بأن يكون بتضرع وخيفة وطمع في ثوابه، صادر عن رغبة ورهبة كما قال صلى الله عليه وآله وسلم ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ولا تعدلوا عنه إلى ما كنتم تفعلونه في الجاهلية من الشرك واتخاذ الوسطاء بينكم وبينه، فلا تفرغ قلوبكم له، فقد كانوا يقولون في التلبية : لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
﴿ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ﴾ أي وإنكم كنتم من قبل هذا الهدى من الضالين عن الحق في العقائد والأعمال بعباد الأوثان والأصنام، وباتخاذ الوسطاء الذين يشفعون عنده ويقربون إليه زلفى.
﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾
تفسير المفردات :
والإفاضة من المكان : الدفع منه أي أفضتم أنفسكم ودفعتموها، ويقال أفاض في الكلام إذا انطلق فيه كما يفيض الماء ويتدفق، وعرفات موقف الحاج في أداء النسك، وسمي بهذا الاسم لأن الناس يتعارفون فيه، وعرفة اسم لليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفات، وهو التاسع من ذي الحجة، والذكر : الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد، والمشعر الحرام : هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام، وسمي بهذا الإسم لأنه معلم للعبادة، والشعائر العلامات، ووصف بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهي عنه.
المعنى الجملي :
جاء هذا كالاستدراك : والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من منع التجارة في الحج، ذاك أن الآيات السابقة أرشدت إلى حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحج، والتجارة تفضي إلى الجدال والنزاع في قيم السلع قلة وكثرة، فعقب ذلك بيان حكمها، وأبان أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور، لأنه لا ينافي الإخلاص في هذه العبادة، وإنما الذي ينافيها أن يكون المقصد التجارة فحسب، بحيث لو لم يرجح الكسب لم يسافر للحج.
وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام يتأثمون من كل عمل دنيوي أيام الحج، حتى إنهم كانوا يقفلون حوانيتهم، فأعلمهم الله أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فنزلت الآية.
وعن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر إنا نكري ( أي الرواحل للحجاج ) فهل لنا من حج ؟ فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية، فدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أنتم حجاج
الإيضاح :
روى البخاري ومسلم : أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس ( واحدهم أحمس وهو الشديد الصلب في الدين والقتال ) كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع العرب في عرفات.
فأمر الله نبيه أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، ليبطل ما كانت عليه قريش.
فالمعنى – عليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد تحقيقا للمساواة وتركا للتفاخر وعدم الامتياز لأحد عن أحد، وذلك من أهم مقاصد الدين.
﴿ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ ﴾ مما أحدثتم من تغيير المناسك بعد إبراهيم، وإدخال الشرك في أعمال الحج.
﴿ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي إنه تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يستغفره مع الإنابة والتوبة.
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ( ٢٠٠ ) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( ٢٠١ ) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ٢٠٢ ) وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٢٠٣ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الخلاق : الحظ والنصيب، وحسنة الدنيا هي العافية أو المرأة الصالحة أو الأولاد البررة، أو العلم والمعرفة.
المعنى الجملي :
كان العرب في الجاهلية يجتمعون بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات والديات، ليس له ذكر غير فعال آبائه فأنزل الله هذه الآية.
ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون، فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج، كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم.
وخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام التشريق، فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات فقال : أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت، قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الإيضاح :
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ أي فإذا فرغتم من مناسك الحج ونفرتم فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.
ثم ذكر أن الذين يذكرونه فيدعونه قسمين :
﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ أي فمن المسلمين فريق ممن يشهدون مواسم الحج، ممن لم تصل أسراره وحكمه إلى شغاف قلوبهم، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم، يكون جل اهتمامهم في ذكرهم ودعائهم حظ الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الأعداء إلى نحو ذلك من الحظوظ العاجلة، وهؤلاء لا حظ لهم في الآخرة مما أعده الله للمتقين من رضوانه، إذ هم وجهوا جل اهتمامهم لحظوظ الدنيا وعملوا لها جهد الطاقة، ولا يسألون ربهم إلا المزيد من نعيمها ولذاتها، وقد يناولونها بدون عناء ولا نصب في العمل كما قال تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ﴾.
﴿ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ أي ومنهم فريق يقول : ربنا هب لنا حياة طيبة سعيدة في الدنيا، وحياة راضية مرضية في الآخرة.
وطلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها التي دلت التجربة على نفعها في الكسب ونظم المعيشة وحسن معاشرة الناس والتخلق بآداب الشرع وأدب السلوك وما جرى عليه العرف من فضائل الصفات.
وطلب الحياة الحسنة في الآخرة يكون بالإيمان الخالص والعمل الصالح والتحلي بمكارم الأخلاق.
﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ أي واحفظنا من الشهوات والذنوب التي تؤدي إليها، ويكون ذلك بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة، مع القيام بأداء الفرائض.
وفي الآية إيماء إلى أن الغلو في الدين والتشدد فيه مذموم خارج من سنن الفطرة، وقد نهى الله أهل الكتاب عنه وذمهم عليه، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف، فقال له : هل كنت تدعو الله بشيء ؟ قال : نعم كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه، فهلا قلت :( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ودعا له فشفاه الله.
تفسير المفردات :
وحسنة الآخرة هي الجنة أو رؤية الله تعالى يوم القيامة، والأولى التعميم في كل هذا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٠٠:﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ( ٢٠٠ ) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( ٢٠١ ) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ٢٠٢ ) وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٢٠٣ ) ﴾.

تفسير المفردات :

الخلاق : الحظ والنصيب، وحسنة الدنيا هي العافية أو المرأة الصالحة أو الأولاد البررة، أو العلم والمعرفة.
المعنى الجملي :
كان العرب في الجاهلية يجتمعون بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات والديات، ليس له ذكر غير فعال آبائه فأنزل الله هذه الآية.
ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون، فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج، كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم.
وخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام التشريق، فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات فقال : أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت، قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

الإيضاح :

﴿ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ أي فإذا فرغتم من مناسك الحج ونفرتم فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.
ثم ذكر أن الذين يذكرونه فيدعونه قسمين :
﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ أي فمن المسلمين فريق ممن يشهدون مواسم الحج، ممن لم تصل أسراره وحكمه إلى شغاف قلوبهم، ولم تشرق أنوار هدايته على أرواحهم، يكون جل اهتمامهم في ذكرهم ودعائهم حظ الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الأعداء إلى نحو ذلك من الحظوظ العاجلة، وهؤلاء لا حظ لهم في الآخرة مما أعده الله للمتقين من رضوانه، إذ هم وجهوا جل اهتمامهم لحظوظ الدنيا وعملوا لها جهد الطاقة، ولا يسألون ربهم إلا المزيد من نعيمها ولذاتها، وقد يناولونها بدون عناء ولا نصب في العمل كما قال تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ﴾.
﴿ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ أي ومنهم فريق يقول : ربنا هب لنا حياة طيبة سعيدة في الدنيا، وحياة راضية مرضية في الآخرة.
وطلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها التي دلت التجربة على نفعها في الكسب ونظم المعيشة وحسن معاشرة الناس والتخلق بآداب الشرع وأدب السلوك وما جرى عليه العرف من فضائل الصفات.
وطلب الحياة الحسنة في الآخرة يكون بالإيمان الخالص والعمل الصالح والتحلي بمكارم الأخلاق.
﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ أي واحفظنا من الشهوات والذنوب التي تؤدي إليها، ويكون ذلك بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة، مع القيام بأداء الفرائض.
وفي الآية إيماء إلى أن الغلو في الدين والتشدد فيه مذموم خارج من سنن الفطرة، وقد نهى الله أهل الكتاب عنه وذمهم عليه، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف، فقال له : هل كنت تدعو الله بشيء ؟ قال : نعم كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه، فهلا قلت :( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ودعا له فشفاه الله.

﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾
المعنى الجملي :
كان العرب في الجاهلية يجتمعون بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات والديات، ليس له ذكر غير فعال آبائه فأنزل الله هذه الآية.
ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون، فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج، كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم.
وخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام التشريق، فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات فقال : أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت، قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الإيضاح :
أي أولئك الذين يطلبون سعادة الدارين، والحسنة في المنزلتين، يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم وسعيهم، فقد طلبوا الدنيا بأسبابها، وسعوا للآخرة سعيها فكان لهم حظ من كسبهم في الدارين على قدره.
وبمعنى الآية قوله :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ﴾.
﴿ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ فيوفي كل كاسب أجره عقب عمله، فقد جرت سنته أن يكون الجزاء أثرا للعمل بلا إبطاء، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطلاع كل عامل على عمله، ويتم ذلك في لحظة، وقد روي أن الله يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وروي بمقدار لمحة البصر.
﴿ وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ﴾
المعنى الجملي :
كان العرب في الجاهلية يجتمعون بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم، يتفاخرون بمآثر آبائهم، فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات والديات، ليس له ذكر غير فعال آبائه فأنزل الله هذه الآية.
ويروى أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتناشدون، فأمرهم الله أن يذكروه بعد قضاء مناسك الحج، كما كانوا يذكرون آباءهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم.
وخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع في اليوم الثاني من أيام التشريق، فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات فقال : أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت، قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الإيضاح :
الأيام المعدودات هي أيام منى، وهي أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر من ذي الحجة إلى ثالث عشر، وقد روى أرباب السنن عن عبد الرحمن بن يعمر قال : إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو واقف بعرفة فسألوه، فأمر مناديا ينادي ( الحج عرفة، من جاء ليلة جمع – مزدلفة – قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه ).
وأردف رجلا ينادي بهن، أي ركب معه رجلا ينادي بهذه الكلمات، ليعرف الناس الحكم، وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر فيها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهي الليلة العاشرة من ذي الحجة فقد أدرك الحج، وأن أيام منى ثلاثة، وهي التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له، ومن تأخر إلى الثالث جاز له، بل هو الأفضل لأنه الأصل.
وبينت السنة أن ذكر الله في هذه الأيام هو التكبير في إدبار الصلوات، وعند ذبح القرابين، وعند رمي الجمار، روي عن الفضل بن العباس قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جمع ( مزدلفة ) إلى منى. فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وروي عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يكبر بمنى تلك الأيام، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا.
والذكر في يوم عرفة ويوم النحر لغير الحاج التكبير، وللحاج هذا وغيره، والمأثور من التكبير، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا، ومن التلبية، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لك، لا شريك لك.
﴿ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ أي فمن تعجل وطلب الخروج من منى في تمام يومين بعد يوم النحر واكتفى برمي الجمار فيهما ولم يمكث حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث، فلا إثم عليه بهذا التعجيل، إذ المطلوب أن يبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ويرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمره سبع حصيات ( والجمرة جمعها جمار وجمرات وهي مجتمع الحصى ) ورميها من ذكريات المناسك المأثورة عن إبراهيم عليه السلام كذبح القرابين وعامة أعمال الحج.
ومن لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده، ثم ينفر و إثم عليه بترك الترخيص.
وهذا التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخر، إنما هو لمن اتقى الله وترك ما نهي عنه، لأنه هو الحاج على الحقيقة، فما الغرض من كل عبادة إلا التقوى كما قال :﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾.
والوسيلة إلى ذلك ذكر الله بالقلب واللسان ومراقبته في جميع الأحوال حتى يكون عبدا له لا لأهوائه وشهواته.
﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ أي واتقوا الله حين أدائكم مناسك الحج وفي جميع شئونكم واعلموا أنكم ستجمعون وتبعثون للجزاء على أعمالكم يوم القيامة، والعاقبة حينئذ لمن اتقى كما قال تعالى :﴿ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ﴾.
ومن علم بأنه محاسب على أعماله مجازى عليها. كان ذلك باعثا له على العمل، وداعيا له إلى ملازمة التقوى، أما من كان على شك أو ظن فإنه يعمل تارة ويترك أخرى.
وقد كرر الأمر بالذكر وبين منزلة التقوى ليشعرنا بأن المهم في العبادة هو ذكر الله الذي يصلح النفس ويوجه القلب إلى عمل الخير، ويبعدها عن الشرور والمعاصي، فيكون فاعلها من المتقين.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ( ٢٠٤ ) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ( ٢٠٥ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ( ٢٠٦ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ( ٢٠٧ ) ﴾.
تفسير المفردات :
يقال أعجبه الشيء أي راقه واستحسنه ورآه عجبا أي طريقا جديدا غير مبتذل، وتقول العرب : الله يشهد أو الله يعلم أني أريد كذا، تقصد بذلك الحلف واليمين كما قال تعالى حكاية عن رسل عيسى :﴿ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ﴾ واللدد شدة الخصومة، والخصام الجدال.
المعنى الجملي :
دلت الآيات السابقة على أن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله بإصلاح القلوب وإنارتها بذكره تعالى، لاستشعارها عظمته وفضله، وعلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها، خلافا لما ذهب إليه أهل الأديان السابقة من أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أس الدين وأصله، وأن من يطلب الدنيا ويجعل لها عناية خاصة ليس له في الآخرة من خلاق.
ولما كان محل التقوى هو القلوب لا الألسنة، ودليل ما في القلوب الأعمال لا مجرد الأقوال : ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان : منافقون يظهرون غير ما يبطنون، ومخلصون في أعمالهم يبتغون مرضاة الله، ولا يريدون إلا وجهه
الإيضاح :
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي ومن الناس فريق يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة الدنيا، لأنك تأخذ بالظواهر، وهو منافق يظهر غير ما يضمر ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة اللسان، في غش المعاشرين والأقران، ويوهم أنه صادق الإيمان، نصير للحق خاذل للباطل، متق لله في السر والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وما بطن.
﴿ وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ أي ويحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدعي.
﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ أي وهو قوي في الجدل لا يعجزه أن يغش الناس بما يظهر من الميل إليهم والسعي في صلاح شئونهم.
والخلاصة – إن هذا الفريق يركن في خداعه للناس إلى أمور ثلاثة :
حسن القول بحيث يعجب السامع ويملك لبه، بحيث لا يتهمه في صدقه.
إشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده.
قوة العارضة في الجدل عند محاجة المنكر أو المعارض.
ومثل هذا الفريق يوجد في كل أمة وكل عصر وإن اختلفت حاله باختلاف العصور، فحينا ترى الواحد لا يغش بزخرف قوله إلا فردا أو أفرادا معدودين وحينا يتسنى له أن يخدع أمة وينكل بها تنكيلا، فترى الجرائد في عصرنا قد تكون سبيلا للغش، كما تكون أحيانا طريقا للنصح وإرشاد الأمة إلى ما فيه خيرها وفلاحها ولا سيما إذا كان الكاتبون فيها ممن تثق بهم الدهماء، ويتقبل الجمهور آراءهم، بالتسليم والاطمئنان.
﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا ﴾
تفسير المفردات :
وتولى أي أدبر وانصرف عن مجلسك، والسعي السير السريع بالأقدام والمراد به هنا الجد في العمل والكسب، ويهلك أي يضيع، والحرث الزرع، والنسل ما تناسل من الحيوان، والمراد من إهلاكهما الإيذاء الشديد، أخذته أي لزمته.
المعنى الجملي :
دلت الآيات السابقة على أن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله بإصلاح القلوب وإنارتها بذكره تعالى، لاستشعارها عظمته وفضله، وعلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها، خلافا لما ذهب إليه أهل الأديان السابقة من أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أس الدين وأصله، وأن من يطلب الدنيا ويجعل لها عناية خاصة ليس له في الآخرة من خلاق.
ولما كان محل التقوى هو القلوب لا الألسنة، ودليل ما في القلوب الأعمال لا مجرد الأقوال : ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان : منافقون يظهرون غير ما يبطنون، ومخلصون في أعمالهم يبتغون مرضاة الله، ولا يريدون إلا وجهه
الإيضاح :
أي إن مثل هؤلاء إذا أعرضوا عن مخاطبيهم وذهبوا لشأنهم، فإن سعيهم يكون على ضد ما قالوا، فهم يدعون الصلاح والإصلاح ثم يسعون في الأرض بالفساد، إذ لا هم لهم إلا اللذات والحظوظ الدنيئة التي لأجلها يعادون أرباب الفضيلة، ويكونون من ذوي اللدد والخصومة لهم، لما بينهم من التناقض في السجايا والغرائز، بل يعادون أمثالهم من المفسدين، إذ من دأبهم الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم.
وقوله في الأرض يفيد العموم أي إنهم في أي مكان يحلون فيه يفسدون.
﴿ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْل ﴾ أي إنه دائب على إفساده مسترسل فيه ولو أدى إلى إهلاك الحرث والنسل، وهكذا شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خربت الدنيا بأسرها.
وفي ذلك عبرة للذين يقتلعون الزرع ويقتلون البهائم بالسم وغيره، انتقاما ممن يكرهونهم، فأين منهم هدى الإسلام وهدى القرآن.
ويرى بعضهم أن المراد بالحرث النساء كما في قوله :﴿ نساؤكم حرث لكم ﴾ وبالنسل الأولاد، فيكون المراد – إن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظم البيوت بما يلقونه من الفتن ويدأبون عليه من التفريق – لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب، فهم يؤذون أنفسهم وأهليهم بضروب من الإيذاء قد يعميهم الغرور عنها، أو عن كونها من سعيهم.
﴿ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ أي والله لا يرضى الفساد ولا يحبه، فلا يحب المفسدين، وفي الآية إيماء إلى أن تلك الصفات المحمودة في الظاهر لا تكون مرضية عند الله إلا إذا أصلح صاحبها عمله، لأن الله لا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ﴾
تفسير المفردات :
والعزة في الأصل خلاف الذل والمراد بها هنا الأنفة والحمية، بالإثم أي على الذنب الذي نهي عنه واسترسل في فعله، حسبه أي كافيه، والمهاد الفراش يأوي إليه المرء للراحة.
المعنى الجملي :
دلت الآيات السابقة على أن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله بإصلاح القلوب وإنارتها بذكره تعالى، لاستشعارها عظمته وفضله، وعلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها، خلافا لما ذهب إليه أهل الأديان السابقة من أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أس الدين وأصله، وأن من يطلب الدنيا ويجعل لها عناية خاصة ليس له في الآخرة من خلاق.
ولما كان محل التقوى هو القلوب لا الألسنة، ودليل ما في القلوب الأعمال لا مجرد الأقوال : ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان : منافقون يظهرون غير ما يبطنون، ومخلصون في أعمالهم يبتغون مرضاة الله، ولا يريدون إلا وجهه
الإيضاح
أي إن ذلك المفسد إذا أمر بمعروف أو نهى على منكر أسرع إليه الغضب، وعظم عليه الأمر وأخذته الأنفة وطيش السفه، إذ يخيل إليه أن النص والإرشاد ذلة تنافي العزة التي تليق بأمثاله.
وفي طبع المفسدين النفور ممن يأمرهم بالصلاح، إذ يرون في ذلك تشهيرا بهم وإعلانا لمفاسدهم التي يسترونها بزخرف القول وخلابته، وإن استطاعوا الحبس حبسوا أو ضربوا أو قتلوا.
﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ أي إن النار مصيره ويكفيه عذابها جزاء له على كبريائه وحميته حمية الجاهلية، وستكون مهاده ومأواه، وهي بئس المهاد وشره، فلا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها.
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : اتق الله، فوضع خده على الأرض، وقال ابن مسعود : من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد اتق الله، فيقول : عليك نفسك أي أصلح نفسك ولا تصلح غيرك.
ثم ذكر الفريق الآخر فقال :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ ﴾.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ ﴾
تفسير المفردات :
ويشري أي يبيع ويبذل ابتغاء أي طلبا.
المعنى الجملي :
دلت الآيات السابقة على أن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله بإصلاح القلوب وإنارتها بذكره تعالى، لاستشعارها عظمته وفضله، وعلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها، خلافا لما ذهب إليه أهل الأديان السابقة من أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أس الدين وأصله، وأن من يطلب الدنيا ويجعل لها عناية خاصة ليس له في الآخرة من خلاق.
ولما كان محل التقوى هو القلوب لا الألسنة، ودليل ما في القلوب الأعمال لا مجرد الأقوال : ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أقوالهم على حقائق أحوالهم صنفان : منافقون يظهرون غير ما يبطنون، ومخلصون في أعمالهم يبتغون مرضاة الله، ولا يريدون إلا وجهه
الإيضاح :
أي ومن الناس فريق يبيع نفسه لله لا يبغي ثمنا غير مرضاته، ولا يتحرى إلا صالح العمل وقول الحق مع الإخلاص فيهما، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر عرض الدنيا وزخرفها على ما عند ربه.
وهذا البيع لا يتحقق إلا إذا جاء المؤمن بنفسه وماله في سبيل الله إذا دعت الضرورة إلى ذلك، كجهاد أعداء الأمة عند الاعتداء عليها، أو الاستيلاء على شيء من أرضها، فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه ذلك، ومن قدر عليه بماله وجب عليه ذلك، وإن قدر عليهما معا وجب عليه، فإن قصر في شيء من ذلك فقد آثر نفسه على مرضاة الله وخرج من زمرة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله.
﴿ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ فيجازيهم على العمل القليل نعيما دائما ؟، ولا يكلفهم إلا ما في وسعهم عمله، ويشتري منهم أموالهم لأنفسهم وهي ملكه تعالى بما لا يعد ولا يحصى من رحمته وإحسانه وكرمه، ويرفع هممهم ليبذلوها في سبيله لدفع الشر والفساد عن عباده، وتقرير الحق والعدل فيهم، ولولا ذلك لغلب شر المفسدين في الأرض، فلا يبقى فيها صلاح كما قال تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( ٢٠٨ ) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٠٩ ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ( ٢١٠ ) ﴾.
تفسير المفردات :
أصل السلم : التسليم والانقياد، فيطلق على الصلح والسلام وعلى دين الإسلام، والخطوات : واحدها خطوة ( بالضم ) ما بين قدمي من يخطو.
المعنى الجملي :
بعد أن بين سبحانه فيما سلف من الآيات أن الناس في الصلاح والفساد فريقان : فريق يسعى في الأرض بالفساد ويهلك الحرث والنسل، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته – أرشدنا إلى أن شأن المؤمنين الاتحاد والاتفاق، لا التفريق والانقسام
الإيضاح :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ﴾ كافة : أي في أحكامه كلها التي أساسها الاستسلام والخضوع لله والإخلاص له، ومن أصوله الوفاق والمسالمة بين الناس وترك الحروب بين المهتدين بهديه، والأمر بالدخول فيه أمر بالثبات والدوام كقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي اتق الله ﴾.
المعنى – يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب، دوموا على الإسلام فيما تستأنفون من أيامكم، ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه، بل خذوا الإسلام بجملته وتفهموا المراد منه، بأن تنظروا في كل مسألة إلى النصوص القولية والسنة المتبعة فيها وتعملوا بذلك، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر، وإن أدى إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن، وبهذا يرتفع الشقاق والتنازع ويعتصم المسلمون بحبل الوحدة الإسلامية التي أمرنا الله بإتباعها في قوله :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾ ونهانا عن ضدها في قوله :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا ﴾ وقوله صلى الله عليه وآله وسلم :( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض ).
ولكن المسلمين قد خالفوا هذا فتفرقوا وتنازعوا وشاق بعضهم بعضا، واتخذوا مذاهب متفرقة، كل فريق يتعصب لمذهب ويعادي سائر إخوانه المسلمين زعما منه أنه ينصر الدين وهو يخذله بتفريق كلمة المسلمين، فهذا سني يقاتل شيعيا، وهذا شافعي يغري التتار بالحنفية، وهؤلاء مقلدة الخلف يحادون من اتبع طريق السلف.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ أي ولا تتبعوا سبله في التفرق في الدين أو في الخلاف والتنازع، إذ هي سبله التي يزينها للناس، ويسول لهم فيها المنافع والمصالح، فقد كانت اليهود أمة واحدة مجتمعة على كتاب واحد، فوسوس لهم الشيطان فتفرقوا وجعلوا لهم مذاهب وشيعا، وأضافوا إلى الكتاب ما أضافوا، وحرفوا من حكمه ما حرفوا، فسلط الله عليهم أعداءهم فمزقوهم كل ممزق، وهكذا فعل غيرهم من أهل الأديان، كأنهم رأوا دينهم ناقصا فكملوه، وقليلا فكثروه فثقل عليهم بذلك فوضعوه، فذهب الله بوحدتهم ولم تغن كثرتهم، إذ سلط عليهم الأعداء وأنزل بهم البلاء.
ثم ذكر السبب في النهي عن اتباع خطوات الشيطان فقال :
﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي إنه ظاهر العداوة لكم، فإن جميع ما يدعو إليه ظاهر البطلان، بين الضرر لمن تأمل فيه وتفكر، ومن لم يدرك ذلك في مبدأ الخطوات أدركه في الغايات، حين يذوق مرارة العاقبة، فلا عذر لمن بقي على ضلالته بعد تذكير الله وهدايته عباده إلى سبيل الخير، وتحذيره إياهم من سلوك طريق الشر.
ثم توعدهم إذا هم حادوا عن النهج السوي والطريق المستقيم فقال :﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
تفسير المفردات :
والزلل في الأصل : عثرة القدم، ثم استعمل في الانحراف عن الحق، والبينات : الحجج والأدلة التي ترشد إلى أن ما دعيتم إليه هو الحق، عقلية كانت أو نقلية، والعزيز الغالب : الذي لا يعجزه الانتقام، والحكيم : الذي يعاقب المسيء ويكافئ المحسن.
المعنى الجملي :
بعد أن بين سبحانه فيما سلف من الآيات أن الناس في الصلاح والفساد فريقان : فريق يسعى في الأرض بالفساد ويهلك الحرث والنسل، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته – أرشدنا إلى أن شأن المؤمنين الاتحاد والاتفاق، لا التفريق والانقسام
الإيضاح :
أي فإن حدتم عن صراط الله وهو السلم، وسرتم في طريق الشيطان وهي طريق الخلاف والافتراق، بعد أن بين لكم عداوته، ونهاكم عن اتباع طرقه وخطواته، فاعلموا أن الله يأخذكم أخذ عزيز مقتدر، فهو عزيز لا يغلب على أمره، حكيم لا يهمل شأن خلقه، ولحكمته قد وضع تلك السنن في الخلقية، فجعل لكل ذنب عقوبة، وجعل العقوبة على ذنوب الأمم ضربة لازب في الدنيا، ولم يؤخرها حتى تحل بها في الحياة الأخرى.
ولا تقوم للأمم قائمة إلا إذا أقامت العدل بين أفرادها، وكانت صالحة لعمارة الأرض كما قال تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ وهكذا الأفراد إذا لم ينهجوا النهج السوي ويتحلوا بفاضل الأخلاق، فلن يوفقوا في دنياهم ولا في أخراهم.
ثم زاد في التهديد والوعيد فقال :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ ﴾.
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ ﴾
تفسير المفردات :
ينظرون : أي ينتظرون، يأتيهم الله : أي يأتيهم عذابه، والظلل : واحدها ظلة ( الضم ) وهي ما أظلك، والغمام : السحاب الأبيض الرقيق، وقضي الأمر : أي أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه.
المعنى الجملي :
بعد أن بين سبحانه فيما سلف من الآيات أن الناس في الصلاح والفساد فريقان : فريق يسعى في الأرض بالفساد ويهلك الحرث والنسل، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته – أرشدنا إلى أن شأن المؤمنين الاتحاد والاتفاق، لا التفريق والانقسام
الإيضاح :
أي ها هي ذي قد قامت الحجج ودلت البراهين على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهل ينتظر المكذبون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب في ظلل من الغمام عند خراب العالم وقيام الساعة، وتأتي الملائكة وتنفذ ما قضاه الله يومئذ ؟.
والحكمة في نزول العذاب في الغمام إنزاله فجأة من غير تمهيد ينذر به، ولا توطئة توطن النفوس على احتماله، إلى أن الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان أفظع وأشد هولا، والخوف إذا جاء من موضع الأمن كان خطبه أعظم.
ونحو الآية قوله :﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ﴾.
وفي الآية عبرة للمؤمن ترغبه في المبادرة إلى التوبة لئلا يفاجئه وعد الله وهو غافل، فإذا لم يفاجئه قيام الساعة العامة وهلاك هذا العالم كله، فاجأه قيام قيامته بموته بغتة، فإن لم يمت بغتة جاءه المرض بغتة، فلا يقدر على العمل وتدارك الزلل.
﴿ وَقُضِيَ الأَمْرُ ﴾ أي كيف ينتظرون غير ذلك، وهو أمر قضاه الله وأبرمه فلا مفر منه، وحينئذ يثاب الطائع ويعاقب العاصي.
ثم بالغ في التهديد والزجر قال :
﴿ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ﴾ فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه، فهو الأول، ومنه بدأت الخلائق، وهو الآخر وإليه ترجع الأمور وتصير، فعلى من زل عن الصراط السوي، واتبع خطوات الشيطان أن يبادر بالتوبة ويرجع إلى الحق قبل أن يحيق به زلله، ويجازى على عمله ﴿ كل امرئ بما كسب رهين ﴾.
﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٢١١ ) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٢١٢ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الآية : المعجزة الظاهرة التي لا يخفى أنها من عند الله كالعصا واليد البيضاء، والتبديل : تغيير الشيء من حال إلى حال، ونعمة الله : هي آياته الباهرة التي آتاها أنبياءه وجعلها مصدر الهدى والنجاة، والعقاب : يعقب الذنب.
المعنى الجملي :
﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾ أي سل أيها الرسول الكريم هؤلاء الحاضرين من بني إسرائيل عن الآيات الكثيرة التي آتيناها أسلافهم فأنكروها، فأخذناهم بذنوبهم، وحل بهم ما كانوا أهلا له من العقاب، فهل لهم أن يتدبروا عاقبة أمرهم ويعتبروا بتلك العظات البالغة، ويقلعوا عما هم عليه من الجحود والطغيان ؟ خوفا من أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك من النكال والوبال وسوء المآل.
وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ لهم على طغيانهم وجحودهم بالحق بعد وضوح الآيات، كما يقول أحدنا توبيخا لآخر أمام جمع من الناس : سلوه كم أنعمت عليه ؟ وكم أنقذته من ورطة كادت تودي به ؟.
ثم هدد وتوعد من يغير سنن الله قال :
﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ أي ومن يغير نعمة الله وهي باهر آياته فيجعلها من أسباب ضلاله بدلا من أن تكون من أسباب سعادته، وتزيده رجسا إلى رجسه، عاقبه الله أشد العقاب. وذلك جزاء كل من حاد عن سنته، وبدل شريعته. وهؤلاء المبدلون منهم، فالعقاب لا محالة نازل بهم، إذ هو من سنن الله العامة فحذار أن تكونوا من المخالفين المبدلين.
ومعنى قوله :﴿ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ ﴾ أنها وصلت إليه وتمكن من معرفتها، ووقف على تفاصيلها فهو بمعنى قوله :﴿ يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ﴾.
والآية عبرة للمخاطبين بالقرآن من المؤمنين، فإن مسلكهم الذي يتقلص ظله وعزهم الذي تتخطفه منهم الأيدي – ما حدث له ما حدث إلا بعد أن بدلوا نعمة الله التي أشار إليها بقوله :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ﴾.
ثم ذكر طبيعة الكافرين الجاحدين قال :﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾
﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾
تفسير المفردات :
وزين له الشيء : حسن له، وسخر منه : استهزأ به، والحساب : التقدير.
الإيضاح :
أي حسنت الحياة الدنيا للكافرين وأشربت محبتها في قلوبهم فتهالكوا عليها وتهافتوا فيها، وأعرضوا عن الدين حين ظنوا أن منافعها قد تفوتهم.
والمراد بهم من لا يؤمنون بالحقوق المشروعة لله وللناس، إيمان إذعان وانقياد، بل يؤثرون الدنيا على ما عند الله من النعيم المقيم، وأخص صفاتهم أن تكون زينة الدنيا أكبر همهم، فهم يؤثرونها على كل شيء، حتى إن أمر الدين لا يزحزحهم عن شيء يقدرون عليه من هذه الزينة، لأنهم لا يقين لهم في الآخرة، فدينهم تقاليد وخواطر تتنازعها الشبهات، والشكوك والتأويلات.
فأهل الكتاب – ولهم شريعة إلهية – تفرقوا واختلفوا في التأويل وارتكبوا التحريف، وكل فريق منهم يعتذر عن ترك العمل بالتوراة بأنه متبع لبعض الأحبار الذين هم أعلم منه بها.
وليس لذلك من سبب إلا الافتتان بزينة الحياة الدنيا الزائلة، وإيثارها على حياة الآخرة الباقية، فقد انصرفت نفوسهم عن النظر الصحيح في آيات الحق وبيناته، فرؤساؤهم جعلوا همهم الشهرة والاستعلاء على الأقران، وانتصر كل فريق لمذهب يدافع عنه بالجدل والتأويل، والمرءوسون ينتمي كل فريق إلى رئيس يعتز به ويقلده، ولا يستمع قولا لمخالفه، وحب الدنيا هو رأس كل خطيئة، وسبب كل بلية في الدنيا والآخرة.
فليحذر المسلمون أن يحذوا حذوهم ويسيروا سيرتهم ولا يتبعوا خطوات الشيطان فيتفرقوا كما تفرق اليهود والنصارى حتى لا يحيق بهم ما حاق بالذين من قبلهم.
ولكن الله قضى ولا رد لقضائه أن يحتذوا حذوهم، ويتبعوا نهجهم، ويختلفوا كما اختلف الذين من قبلهم، فحاق بهم مثل ما حاق بأولئك، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
والخلاصة – إن الله أوعد المسلمين على التفرق والاختلاف، وذكرهم بحال من سبقهم من أهل الكتاب الذين حل بهم عقابه في الدنيا جزاء أعمالهم من حبهم للدنيا وزينتها، وتركهم حقوقه وحقوق الناس واختلافهم في دينهم لأجلها.
﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي و يسخرون من فقراء المؤمنين كعبد الله ابن مسعود وعمار وصهيب، ويقولون : تركوا لذات الدنيا وعذبوا أنفسهم بالعبادات.
كما يسخرون من أغنيائهم لأنهم لا يتذوقون في النعيم، بل يستعدون لما بعد الموت بترقية نفوسهم بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبينات والتحلي بفاضل الأخلاق، وإعطاء فضل ما لهم للعاجزين والبائسين.
ثم رد على أولئك الساخرين الذين يرون أنهم في لذاتهم خير من أهل اليقين في تقاهم فقال :
﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ أي إنه إذا استعلى بعض الكافرين على بعض المؤمنين برهة من الدهر في هذه الحياة القصيرة بما يكون لهم من الأتباع والأنصار والخدم والأعوان، فإن المؤمنين المتقين سيكونون أعلى منهم في تلك الحياة الأبدية مقاما وأرفع منهم منزلة.
وآثر التعبير بالذين اتقوا عن الذين آمنوا، إيماء إلى أن المفتونين بزخرف الدنيا يدعون الإيمان لأنهم نشئوا بين قوم يدعون أهل الكتاب، ومع هذا لم يعتد بإيمانهم في الآخرة، إذ لم تصحبه التقوى، ولم يكن له أثر في النفس يولد العمل الصالح كما قال :﴿ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ﴾.
﴿ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي إنه يعطي كثيرا بلا تضييق ولا تقتير كما يقال هو ينفق بغير حساب، على معنى أنه ينفق كثيرا، وقد جاء هذا المعنى في قوله :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا. انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾.
والرزق بلا حساب ولا سعي في الدنيا يكون بالنسبة إلى الأفراد، فإنا نرى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار أغنياء متمتعين بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين، لكن المتقي يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا، فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر، إذ هو بالتقوى يجد المخلص من كل ضيق، ومن عناية الله به رزقا غير محتسب.
أما الأمم فأمرها على خلاف ذلك، فالأمم الذليلة المهينة لا تكون متقية لأسباب نقمة الله وسخطه بالجري على سننه، إذ ليس من سنن الله أن يرزق الأمة العزة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر ولا تعمل ولا تدبر، بل هو معطيها بعملها ويسلبها بزللها كما قال :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾.
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٢١٣ ) ﴾.
تفسير المفردات :
جاء لفظ الأمة في كتاب الله لعدة معان :( ١ ) : الملة : أي العقائد وأصول الشرائع كما في قوله :﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ﴾، ( ٢ ) الجماعة الذين تربطهم رابطة يعتبرون بها وحدة تسوغ أن يطلق عليها اسم الأمة كما في قوله :﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾، ( ٣ ) الزمن كما في قوله :﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ﴾ وقوله :﴿ وادكر بعد أمة ﴾، ( ٤ ) الإمام الذي يقتدى به كما في قوله :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله ﴾، ( ٥ ) إحدى الأمم المعروفة كما في قوله :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾.
المعنى الجملي :
بعد أن أمر سبحانه الذين آمنوا بنبيه أن يدخلوا في السلم كافة، وأن يكونوا في وفاق لا نزاع معه، إذ ينبغي لمن جاءته الهداية من ربه ألا ينحو في عمله إلى ما يدعو إلى خلاف أو يثير نزاعا، بل الواجب عليه أن يقف عند ما حده الكتاب الإلهي والهدي السماوي، ثم ذكر أن جاحد الحق إنما ينظر في عمله إلى ما يوفر عليه لذته في هذه الحياة الدنيا، فهو لا يسعى إلا إلى لذة عاجلة، ومن كانت هذه حاله كان في خلاف وشقاق.
ذكر هنا أن الاهتداء بهدى الأنبياء ضروري للبشر، إذ أن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض، ولا سبيل لعقولهم وحدها أن تصل إلى ما يلزمهم في توفير مصالحهم، ودفع المضار عنهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله القادر على إثابتهم وعقوبتهم، العالم بما في ضمائرهم، الذي لا تخفى عليه خافية من أسرارهم.
الإيضاح :
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ أي خلق الله الناس أمة واحدة مرتبطا بعضها ببعض في المعاش، لا تعيش إلا مجتمعة يعاون بعضها بعضا، وكل واحد منهم يعيش بعمله، لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن الوفاء بجميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته، وهذا ما يعبر عنه بقولهم ﴿ الإنسان مدني بالطبع ﴾.
ولما كانوا كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف، إذ لا يمكنهم في هذه الوحدة أن يتفقوا على تحديد ذلك النظام، مع اختلاف الفطر وتفاوت العقول، وحرمانهم من الإلهام الذي يهدي كلا منهم إلى ما يجب عليه لصاحبه، فكان من لطف الله ورحمته أن يرسل إليهم الرسل مبشرين بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومنذرين بخيبة الأمل وحبوط العمل وعذاب الله إذا اتبعوا شهواتهم، ولم ينظروا في العاقبة.
وقال أبو مسلم الأصفهاني والقاضي أبو بكر الباقلاني : إن المعنى : إن الناس كانوا أمة واحدة على سنة الفطرة، تأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل، وتمييز الحسن من القبيح، والباطل من الصحيح بالنظر في المنافع والمضار، ولكن استسلام الناس إلى عقولهم بلا هدى إلهي مما يدعو إلى الاختلاف، فكثيرا ما حالت الأوهام بين الناس وبين الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام.
فالعقل شاهد بأن العناية الإلهية سارت بالإنسان في جماعته كما سارت به في أفراده، فكما نشأ الفرد قاصرا في جميع قواه، نشأت الجماعة البشرية على ضرب من السذاجة لا تبلغ بها إلى تناول الشئون الرفيعة العالية، والمعاني السامية، وما زال هذا شأنه تربيه حوادث الكون، وتهذبه تجارب السنين والأيام، فاستعمل النحاس بعد الحجارة في معايشه، وانتقل من بعد ذلك إلى الحديد، ثم ارتقى إلى استعمال البخار فالكهرباء.
وقد كان في طور قصوره لا يدرك إلا ما يصل إليه الحس، ولا يعلم المحسوس، ولم يزل كذلك حتى كشفت له تجارب السنين والأيام خطأه فيما يتوهم، وعلمته الحوادث ما لم يكن يعلمه، فاستعد لفهم باطن ما عقل، وسر ما عرف، فجاءته الأنبياء تهديه لصلته بربه، وصلته ببني الإنسان، وكانوا له بمنزلة الرأس من البدن يبينون له الخير، ويبشرون كاسبه بأحسن الجزاء، وينذرون فاعل الشر بسوء المصير، بنار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
﴿ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ أي إن الله يبعث الأنبياء لينبهوا أقوامهم إلى ما غفلوا عنه، ويحذروهم عاقبة ما هم فيه من سيء العادات، وقبيح الأخلاق، وشر الأعمال، حتى إذا تهيأت نفوسهم لقبول تشريع الأحكام أنزل الله الكتاب لبيان تلك الأحكام بحسب استعداد تلك الأمم.
وفي الآية إيماء إلى أن الكتاب هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، فيجب على الحاكمين، أن يلزموا حكمه ؟، ولا يعدلوا عنه إلى ما تسوله لهم نفوسهم وتزينه أهواؤهم من ضروب التأويل، فينضم إلى الاختلاف في المنافع اختلاف آخر في ضروب التأويل فتصبح المصلحة مفسدة.
وكما أضاف الحكم إلى الكتاب هنا، أضاف إليه النطق في قوله :﴿ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ﴾ والهدى والتبشير في قوله :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين ﴾.
وفي الآية إيماء إلى أن الله أنزل مع كل نبي كتابا سواء كان طويلا أو قصيرا دون وحفظ، أو لم يدون ولم يحفظ ليبلغه للناس، فيبلغ السلف الخلف، والسابق اللاحق.
ثم ذكر أن ممن أوتوا الكتاب من جعلوه مصدر الاختلاف بغيا وجورا قال :
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ أي إن الاختلاف الذي وقع من الرؤساء والأحبار، والعلماء وأهل النظر القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل، وهم الذين أوتوه، وأعطاهم الله الكتاب ليقرروا ما فيه، ويراقبوا سير العامة عليه، بعد أن قامت الأدلة على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف، وأنه ما جاء إلا لإسعاد الناس والتوفيق بينهم، لا لإشقائهم وتمزيق شملهم- لم يكن مصدره إلا البغي بينهم، وتعدي الحدود التي أقامها الدين حواجز بين الناس.
فقد يشوب طلب الحق شيء من الرغبة في عزة الرياسة، أو ميل مع أربابها، أو شهوة خفية في منفعة أخرى، وهذا من البغي على حق الله في عباده، أو من التعصب للرأي وتأييد المذهب بدون رعاية للدليل ولا نظر إلى البرهان، وربما كان هذا مع حسن النية، فيكون هذا مصدر شقاق وخلاف، وقد كان الواجب تمحيص الآراء ليحصل الوفاق، لكن هذه الجناية التي جناها الرؤساء على أنفسهم وعلى الناس بسبب بغيهم لا تقدح في هداية الكتاب إلى ما يتفق عليه الناس من الحق، فبغى علماء الدين في التأويل، وكثرة القيل والقال ليس بعيب في الكتاب، فالذي يؤتى العقل ثم لا يهتدي بهديه، هل يعد ذلك منقصة له، تدل على أنه ليس بنعمة من عند الله ؟ والذين لهم أبصار ولا يستعملونها في معرفة الطريق التي يسيرون فيها، ولا في وقاية أرجلهم من الأشواك التي تصادفهم في تلك الطريق، ولا يتباعدون من حفرة يتردون فيها، وربما كانت نظرة واحدة تقيهم من التهلكة لو وجهوا أنظارهم نحوها. وكذلك لا يأخذون حذرهم إذا سمعوا الأصوات التي تنذر بالخطر العاجل – فهل حال مثل هؤلاء يحط من قيمة السمع والبصر ؟ كذلك حال رجال الدين لا تقدح في إرشاد الدين، وقيمة هديه للناس.
وقد رأينا الأديان في بدء نشأتها تلم الشمل وتمحق أسباب الخلاف من النفوس، وتوجد بين معتنقيها أخوة لا تدانيها أخوة النسب، فكان الواحد من الصحابة يؤثر أخاه في الدين بماله على نفسه، ويبذل روحه فداء له، والأخ من النسب لا يفعل شيئا من ذلك.
كان هذا أيام كان الدين غضا طريا معروفا بحقيقته لأهله، تبينه للناس رؤساؤه، ويمشي بنوره فيهم علماؤه، لا خلاف ولا اعتساف، ولكن خلف من بعدهم خلف اعتسفوا في التأويل، وما همهم من ذلك إلا سد مطامعهم، وتأييد سطوتهم، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت، واعوجت السبل أم استقامت، ثم يأتي ضال آخر فيحرف ويؤول، ويريد أن ينال من الأول ما نال هذا من غيره، فيقع الخلاف والشقاق باسم الدين ولحماية الدين، وكم حروب وقعت بين المسلمين حتى قصمت ظهورهم، وأوهنت عزتهم، وما كان دعواهم في كل ما حدث إلا حفظ الدين، وحمل الناس على الحق المبين، وقد سبقهم إلى مثل هذا اليهود والنصارى ولا يزال أمرهم كذلك إلى اليوم، فكأنهم احتذوا حذوهم، وجعلوا رائدهم مع ما كان في كتابهم من النعي عليهم وتقريعهم على سوء صنيعهم، وكتابهم مليء بهذا، وسنة نبيهم تحذرهم كل التحذير من سلوك هذا الطريق المعوج الذي جرى عليه سابقوهم، وكان وبالا ونكالا عليهم.
ثم أرشد إلى أن الإيمان الصحيح يهدي إلى الحق ويمنع الاختلاف قال :
﴿ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي إن المؤمنين هم الذين يهتدون إلى ما اختلف الناس فيه من الحق ويصلون إلى ما يرضي ربهم بتوفيقه وإنعامه، فالإيمان الصحيح له نور يسطع في العقول فيهديها في ظلمات الشبه، ويضيء لها السبيل إلى الحق الذي لا يخالطه باطل، فيسهل عليها أن تميط كل أذى يتعثر فيه السالك، كما لا يسمح لصاحبه أن يأخذ بأمر قبل أن يتبصر فيه، ويعرف أنه نافع له في دينه ودنياه، ويجعل لنفسه رقيبا عليها في كل خطرة تمر بباله، وكل نظرة تقع على ما بين يديه من آيات الله، فإذا اعتقد فهو يعتقد ما يطابق الواقع، وإذا تخيل فإنما يتخيل صورا تجلي الواقع في أقوى مظاهره، فهو ساكن القلب، مطمئن النفس، والناس في اضطراب وحرب، كفروا بأنعم الله فعوقبوا عليها بفشو الشر، وفساد الأمر كما قال تعالى :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء، إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾.
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ( ٢١٤ ) ﴾.
تفسير المفردات :
المثل : الوصف العظيم والحال التي لها شأن بحيث يضرب بها المثل، والبأساء : الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه، كأخذ المال، والإخراج من الديار، وتهديد الأمن، ومقاومة الدعوة، والضراء ما يصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزال : الاضطراب في الأمر يتكرر حتى يكاد يزل صاحبه كما قال تعالى في المؤمنين يوم الأحزاب :
﴿ وزلزلوا زلزالا شديدا ﴾.
المعنى الجملي :
بعد أن أمر الله تعالى بالوفاق والسلام، وأرشد إلى حاجة البشر إلى معونة بعضهم بعضا لكثرة المطالب وتعدد الرغبات، وذلك مما يدعوا إلى التنازع والتعادي، فدعا ذلك إلى وضع نظام جامع وشرع يحدد الحقوق ويهدي العقول إلى ما لا مجال للنزاع فيه، لما فيه من البينات الدالة على أنه من عند الله، ثم ذكر إحسان الله إلى عباده، إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم فيما اختلفوا فيه، ثم ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في كتابهم، واتخاذهم آلة الوفاق طريقا للخلاف، وبعدئذ بين أن الله هدى أهل الإيمان الصحيح لما وقع فيه الاختلاف من الحق بالرجوع إلى الكتاب وتحكيمه في كل خلاف، ثم أشار إلى أن الذين يحاولون الخروج من الخلاف يكونون عرضة لبغي المختلفين وإيذائهم، وإن كانوا يريدون الخير لهم، حث المؤمنين هنا على الثبات والمصابرة في تحمل المشاق التي تصيبهم من الكفار، كما لقي الأنبياء ومن معهم من أمثالهم من الشدائد ومقاساة الهموم، وكان عاقبة أمرهم الفلج والنصر عليهم.
روي أن الآية نزلت في غزوة أحد حين غلب المشركون المؤمنين، وشجوا رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكسروا رباعيته، وقيل نزلت في غزوة الأحزاب حين اجتمع المشركون مع أهل الكتاب وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين، وأصاب المؤمنين يومئذ جهد وشدة وجوع وضروب من الأذى، وأبدى المنافقون صفحة العداوة والبغضاء للمؤمنين الصادقين وقالوا كما قال الذين في قلوبهم مرض :﴿ ما وعدنا الله ورسوله إلى غرورا ﴾ وقال صادقو الإيمان على قلتهم وضعفهم وجوعهم وعريهم :﴿ هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ﴾.
الإيضاح :
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ﴾ هذا خطاب الذين هداهم الله إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف إلى نور الوفاق بإتباعهم هدى الكتاب زمن التنزيل، وهم أهل الصدر الأول من المسلمين، وفيه العبرة لمن يأتي بعدهم ويظنون أن في انتسابهم إلى الإسلام الكفاية في دخول الجنة، جهلا منهم بسنة الله في أهل الهدى منذ أن خلقهم أن يتحملوا الشدائد والإيذاء في طريق الحق وهداية الخلق.
والخلاصة – إنه قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا، أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون على الشدائد كما ثبتوا، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله من غير أن تفتنوا في سبيل الحق، فتصبروا على ألم الفتنة، وتؤذوا في الله، فتصبروا على الإيذاء كما هي سنة الله في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان ؟
ثم بين ما أصاب الأمم قبلهم من الشدائد فقال :
﴿ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ ؟ ﴾ أي إن أولئك السابقين كانوا إذا أصابهم البؤس والضر وقعوا في حال من الاضطراب والزلزلة من شدة الهول، وقد أحاط بهم أعداء الحق من كل جانب اعتقدوا أن النصر الذي وعد الله به من ينصره قد أبطأ فاستعجلوه بقولهم :﴿ مَتَى نَصْرُ اللّهِ ؟ ﴾.
فأجابهم الله بقوله :
﴿ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ﴾ فهو ينصركم على عدوكم، ويكفيكم شر أهل البغي ويؤيد دعوتكم، ويجعل كلمتكم العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ﴾، وقوله :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾.
والمسلمون لم يصلوا في الشدة إلى مثل الحال التي نال فيها أولئك الرسل ما نالوا، فقد قتل بعض النبيين وأصابهم ضروب من الإيذاء حتى قيل إن منهم من نشر بالمنشار وهو حي، وأحرق بعض بالنار كما فعل أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار ﴿ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ﴾.
فليتأمل المسلمون وليعتبروا بما خوطب به أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم موضع التجلة والاحترام، وكيف عوتبوا هذا العتاب الشديد على ظنهم أنهم يدخلون الجنة وهم لم يقاسوا من البأساء والضراء واحتمال الشدائد في سبيل نصرة الدين، مثل ما قاسى الذين سبقوهم بالإيمان حتى استحقوا الجنة، فكيف لا يعاتب المسلم نفسه ( وهو يعلم أنه دون الصحابة إيمانا ودعوة إلى الحق وصبرا على المكاره في سبيل الله ) حين يؤثر ما عند الناس على ما عند الله، ولا هم له إلا زينة الدنيا والاستكثار من المال ولو من غير الطريق الحلال، والاعتداء على الناس، والبغي في الأرض.
وقصارى القول – إن للإيمان حقوقا وواجبات تؤدي إلى سعادة الدارين، من أهملهما سلب النعمة التي أنعم بها على السابقين، فعلى المسلم أن يجعل همه تطبيق آي كتاب الله على أعماله، وأن يعرض عن الاحتفال بعيوب الناس، وأن يتعاون مع المؤمنين على البر والتقوى، ويهجر من رغب عنها، اكتفاء بزخرف الدنيا وزينتها.
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢١٥ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الخير هنا : هو المال، وسمي به لأنه حقه أن ينفق في وجوهه، والأقربون : هم الأولاد وأولادهم ثم الإخوة.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر فيما سلف أن حب الناس لزينة الحياة الدنيا هو الذي أغراهم بالشقاق والخلاف، وأن أهل الحق هم الذين يتحملون البأساء والضراء في أموالهم وأنفسهم ابتغاء مرضاة الله، ناسب أن يذكر هنا ما يرغب الإنسان في الإنفاق في ذلك السبيل، ومن المعلوم أن بذل المال كبذل النفس، كلاهما من آيات الإيمان، فالسامع لما تقدم توجه نفسه إلى البذل فيسأل عن طريقه، ومن ثم جاء بعده السؤال مقرونا بالجواب.
روي في أسباب النزول عن ابن عباس، أن ابن الجموح – وكان شيخا وله مال عظيم – سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا رسول الله، بماذا نتصدق وعلى من ننفق ؟ فنزلت الآية.
وروى أحمد والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : تصدقوا فقال رجل : عندي دينار، قال تصدق به على نفسك، قال : عندي آخر، قال : تصدق به على زوجتك، قال : عندي آخر، قال : تصدق به على ولدك، قال : عندي آخر، قال : تصدق به على خادمك، قال : عندي آخر، قال : أنت أبصر به.
الإيضاح :
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ﴾ أي : أي شيء يتصدقون به من أصناف أموالهم ؟
﴿ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ أي قل لهم : على المنفق أن يقدم الوالدين لأنهما قد ربياه صغيرا وتعبا في تنشئته، ثم الأولاد وأولادهم، ثم الإخوة لأنهم أولى الناس بعطفه ورعايته، ولأنه إذا تركهم يحتاجون إلى غيره كان في ذلك عار وشنار عليه، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الكسب لصغر سنهم، ثم المساكين وأبناء السبيل للتكافل العام بين المسلمين، فهم أعضاء أسرة واحدة فيجب أن يتعاونوا في السراء والضراء.
وقد جاءت الآية في بيان نفقة التطوع لا في الزكاة المفروضة، لأنها لم تعين مقدار المنفق، والزكاة الشرعية معينة المقدار بالإجماع، ولم يذكر سبحانه السائلين والرقاب لذكرهما في مواضع أخرى.
﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ أي وما تنفقوه في وجوه البر والطاعة في أي زمان وأي مكان على الأصناف المذكورة أو غيرها، فالله عليم به لا يغيب عنه شيء، فلا ينسى المثوبة والجزاء عليه، بل يضاعف عليه الجزاء.
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( ٢١٦ ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢١٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢١٨ ) ﴾.
تفسير المفردات :
كتب عليكم : أي فرض عليكم.
المعنى الجملي :
كان الكلام فيما مضى في الإنفاق وبذل المال في سبيل الله على أصناف من المؤمنين في احتياج إلى مد يد المعونة والمساعدة لهم إيجادا لروح التعاون بين الإخوة في الإيمان، وبثا لمبدأ التكافل العام في الأسرة الإسلامية، لتصلح جميع أعضائها وتكون كالبدن السليم، لا يشتكي منه عضو من الأعضاء، فيؤدي كل عضو وظيفته في الحياة، ويعمل العمل الذي هيئ له بمقتضى النظام العام.
قفى ذلك بذكر القتال وبذل النفس لإعلاء دين الله وجعل كلمته العليا وكلمة الكفر هي السفلى ونشر النور الإسلامي في أرجاء المعمورة لهدي الخلق ومعرفتهم للحق.
ومن البين أن المال أخو الروح، فالصلة بينهما وثيقة، فناسب ذكر آيات القتال بعد ذكر أحكام الصدقة على النحو الذي عرفت
الإيضاح :
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ أي فرض عليكم قتال الكفار فرض كفاية إذا قام به جماعة كفى ولم يلزم الباقين، إلا إذا دخل العدو بلاد المسلمين فاتحا فيكون فرض عين.
وقوله : وهو كره لكم ؛ أي شاق عليكم تنفر منه الطباع لما فيه من بذل المال وخطر هلاك النفس، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بما يكلف به الإنسان كالمريض يشرب الدواء المر البشع الذي تعافه نفسه لما يرى فيه من منافع في العاقبة.
وهذه أول آية فرض فيها القتال، وكان ذلك في السنة الثانية للهجرة، وقد كان القتال محظورا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدة إقامته في مكة، فلما هاجر إلى المدينة أذن له في قتال من يقاتله من المشركين بقوله :﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ﴾ ثم أذن له في قتال المشركين عامة، ثم فرض الجهاد.
﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾ أي إن من الأشياء المكروهة طبعا ما يفعله الإنسان لما يرجو فيه من نفع وخير فيما بعد، فقد يتحمل الإنسان أخطار الأسفار لتحصيل الربح في التجارة، ويتحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة في الدنيا والعقبى.
كذلك من الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضرر والأذى في نفسه، أو من جهة منازعة الناس له فيه، وهكذا الحال في ترك الجهاد فإنه يصون النفس عن خطر القتل ويصون المال عن الإنفاق منه حالا، لكن فيه مفاسد ومضار مآلا كتسليط الكفار على بلاد المسلمين وأموالهم واستباحة حريمهم، وقد يكون في ذلك القضاء عليهم، وكفى بذلك خسرانا مبينا.
إلى أن في الجهاد الظفر بالغنائم، والفرح بالاستيلاء على بلاد العدو، وحفظ بيضة الإسلام، وترغيب الناس في الدخول فيه، وإعلاء كلمة الحق، والثواب في الآخرة، ومرضاة الله ﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾.
﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي إذا تصورتم قصور علمكم وكمال علم ربكم علمتم أنه تعالى لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم، فعليكم أن تمتثلوا وإن كرهته نفوسكم، فاشتغلوا بطاعة الله، ولا تلتفتوا إلى مقتضى طباعكم وما تهواه قلوبكم.
وقال بعض المفسرين : المراد بذلك أن المسلمين رأوا أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به، فخافوا أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه، فأبان لهم سبحانه أن سنته قد جرت بأن ينصر الحق وحزبه على الباطل وأهله ما استمسكوا به ودعوا إليه ودافعوا عنه، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغري به أعداءهم، ويطمعهم بالتنكيل بحزبه والتألب عليه للإيقاع به.
وقد سبق في علم الله أنه لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم كما قال :﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ وقد علم الله هذا فأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه، وستجدون صدق هذا في امتثال أمره، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه.
و بعد أن ذكر أن القتال كتب على هذه الأمة بين مسألة سألوا عنها، وهي القتال في الشهر الحرام فقال :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾
تفسير المفردات :
والصد المنع، والفتنة : أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم، يتردد : أي يرجع، وحبط العمل : بطل وفسد.
المعنى الجملي :
كان الكلام فيما مضى في الإنفاق وبذل المال في سبيل الله على أصناف من المؤمنين في احتياج إلى مد يد المعونة والمساعدة لهم إيجادا لروح التعاون بين الإخوة في الإيمان، وبثا لمبدأ التكافل العام في الأسرة الإسلامية، لتصلح جميع أعضائها وتكون كالبدن السليم، لا يشتكي منه عضو من الأعضاء، فيؤدي كل عضو وظيفته في الحياة، ويعمل العمل الذي هيئ له بمقتضى النظام العام.
قفى ذلك بذكر القتال وبذل النفس لإعلاء دين الله وجعل كلمته العليا وكلمة الكفر هي السفلى ونشر النور الإسلامي في أرجاء المعمورة لهدي الخلق ومعرفتهم للحق.
ومن البين أن المال أخو الروح، فالصلة بينهما وثيقة، فناسب ذكر آيات القتال بعد ذكر أحكام الصدقة على النحو الذي عرفت
الإيضاح :
أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، إذ اختلج في صدورهم أن الأمر به في غير الشهر الحرام والمسجد الحرام، فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أيحل لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أو لا ؟ ويؤيده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عبث عبد الله بن جحش وهو ابن عمته في ثمانية من المهاجرين في جمادى الآخرة قبل وقعة بدر بشهرين، ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو ابن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها تجارة من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام وهو الشهر الذي يأمن فيه الخائف، ويسعى الناس فيه إلى معايشهم.
ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم : والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين ولم يأخذ منها شيئا، ولما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال، ندموا على ما فعلوا وظنوا أن قد هلكوا فنزلت الآية، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم العير وعزل منها الخمس وقسم الباقي بين أصحاب السرية وفدى الأسيرين.
﴿ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ أي إن أي قتال فيه وإن كان صغيرا في نفسه أمر كبير مستنكر الوقوع لعظيم حرمته، وأن ما فعله عبد الله بن جحش وما يفعله المسلمون فيما بعد من القتال فيه، مبني على قاعدة ارتكاب أخف الضررين إذا لم يكن من أحدهما بد، فالقتال في نفسه أمر كبير وجرم عظيم، ولكنه ارتكب لإزالة ما هو أعظم منه، وذلك ما ذكره تعالى بقوله :
﴿ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ ﴾، أي إن منع المشركين للمؤمنين عن الطريق الذي يوصل إلى الله تعالى، هو الإسلام باضطهادهم للمسلمين، وفتنتهم عن دينهم بقتلهم من يسلم تارة، وإيذائه في نفسه وأهله وماله ومنعه من الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تارة أخرى، ومنعهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة، وإخراج أهله منه، وهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون، وكفرهم بالله تعالى – كل جريمة من هذه الجرائم التي يرتكبها المشركون أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، فما بالك بها وقد اجتمعت معا.
ثم ذكر عز اسمه السبب الذي من أجله شرع القتال، وهي فتنة المؤمنين عن دينهم فقال :
﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو تعذيبهم كما فعلوا بعمار بن ياسر وبلال وخباب بن الأرث وغيرهم، فقد عذب عمار بالكي بالنار ليرجع عن دينه، وعذب أبوه وأخوه وأمه، فمر بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :( صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، ومات ياسر في العذاب، وطعنت أمه بحربة في موضع عفتها فماتت، وكان أمية بن خلف يعذب بلال بالجوع والعطش ليلا ويوما، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء ( الرمل المحمى بحرارة الشمس ) ويضع على ظهره صخرة عظيمة ويقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيأبى ذكر ذلك وتهون عليه نفسه في سبيل الحفاظ على دينه.
وما امتنع منهم إلا من له عصبة من قومه، على أنه لم يسلم من أذاهم ذوو العصبيات فقد آدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضعوا سلا الجزور ( الكرش المملوء بالفرث ) على ظهره وهو يصلي حتى نحته عنه فاطمة رضي الله عنها، وتعرضوا له بضروب أخرى من الإيذاء وقاه الله شرها كما قال الله تعالى :﴿ إنا كفيناك شر المستهزئين ﴾.
ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وكثر عددهم صاروا يقاتلونهم في مهجرهم لفتنتهم في الدين إن استطاعوا، وهذا ما عناه سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ﴾ أي إن هؤلاء لا هم لهم إلا منع الإسلام عن الانتشار في الأرض، لاستحكام عداوتهم وحرصهم على فتنتكم فانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة طمع في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام إذا كان وحده، فكيف إذا اقترن به غيره من الآثام كالصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، والكفر بالله، والاعتداء بالقتال.
وفي قوله إن استطاعوا استبعاد لاستطاعتهم، وشك في حصولها، وتنبيه إلى سخف عقولهم، وكون فعلهم هذا عبثا لا يوصل إلى غرض، لأن من عرف الإسلام معرفة صحيحة لا يرجع عنه إلى الكفر، وهكذا حال الكافرين في كل عصر ومصر يقاتلوننا ليردونا عن ديننا إن استطاعوا.
ثم عاقبة من يتأثر بهذه الفتنة فيرتد عن دينه فقال :
﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ أي ومن يرجع منكم عن الإسلام إلى الكفر، ويموت على هذا الحال – بطلت أعماله حتى كأنه لم يعمل صالحا قط، لأن قلبه قد أظلم فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة الماضية، ويخسر الدنيا والآخرة، أما خسارة الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة، إذ يقتل عند الظفر به، ولا يستحق موالاة المسلمين ولا نصرتهم، وتبين منه زوجته، ويحرم الميراث، وأما خسارة الآخرة فيكفي في بيانها قوله :﴿ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
والردة تارة تحصل بالقول كإنكار شيء مما علم من الدين قطعا، وأخرى بالفعل الذي يوجب الاستهزاء صريحا بالدين كالسجود للشمس والصنم والاستهانة بالمصحف ونحو ذلك.
وظاهر الآية يدل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر، وبه أخذ الشافعي، ورأى أبو حنيفة أن الردة تحبط العمل حتى ولو رجع صاحبها إلى الإسلام تمسكا بعموم قوله تعالى :﴿ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ وقوله :﴿ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ﴾.
ولما ذكر حال المشركين وحكم المرتدين، بين جزاء المؤمنين المهاجرين والمجاهدين فقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ ﴾.
تفسير المفردات :
وآمنوا : أي ثبتوا على إيمانهم، وهاجروا : أي فارقوا الأهل والوطن، وجاهدوا من الجهد والمشقة، ويرجون : أي يتوقعون المنفعة بعمل الأسباب التي سنها الله، ورحمة الله : أي ثوابه.
المعنى الجملي :
كان الكلام فيما مضى في الإنفاق وبذل المال في سبيل الله على أصناف من المؤمنين في احتياج إلى مد يد المعونة والمساعدة لهم إيجادا لروح التعاون بين الإخوة في الإيمان، وبثا لمبدأ التكافل العام في الأسرة الإسلامية، لتصلح جميع أعضائها وتكون كالبدن السليم، لا يشتكي منه عضو من الأعضاء، فيؤدي كل عضو وظيفته في الحياة، ويعمل العمل الذي هيئ له بمقتضى النظام العام.
قفى ذلك بذكر القتال وبذل النفس لإعلاء دين الله وجعل كلمته العليا وكلمة الكفر هي السفلى ونشر النور الإسلامي في أرجاء المعمورة لهدي الخلق ومعرفتهم للحق.
ومن البين أن المال أخو الروح، فالصلة بينهما وثيقة، فناسب ذكر آيات القتال بعد ذكر أحكام الصدقة على النحو الذي عرفت
الإيضاح :
أي إن المؤمنين الذين ثبتوا على إيمانهم والذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو هاجروا إليه، للقيام بنصرة الدين وإعلاء كلمة الله، والذين بذلوا جهدهم في مقاومة الكفار وتقوية المؤمنين – وهم الذين يرجون رحمة الله وإحسانه، وهم جديرون بأن يعطوا ذلك، لأنهم استفرغوا ما في وسعهم وبذلوا غاية جهدهم، ولم يذخروا وسيلة فيها مرضاة ربهم إلا فعلوها، فحق لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة. وقد هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة فرارا بنفسه وقومه من أذى قريش وفتنتهم في دينهم، بعد أن عاهدوا أهل المدينة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وتبعه المؤمنون في هجرته ليعتز الإسلام بأهله، ويقدروا على الدفاع عن أنفسهم إذا هم اجتمعوا، واستمروا على ذلك حتى فتح مكة، وخذل الله المشركين وجعل كلمتهم السفلى وكلمة الله هي العليا.
﴿ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي والله واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بالمؤمنين، يحقق لهم رجاءهم إن شاء بعميم فضله وعظيم طوله، قال قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمة، قد جعلهم الله أهل الرجاء، ومن رجا طلب، ومن خاف هرب.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( ٢١٩ ) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٢٠ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الخمر مأخوذة من خمر الشيء إذا ستره وغطاه، سميت بها لأنها تستر العقل وتغطيه، والميسر : القمار، من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب بلا مشقة ولا كد، والإثم الذنب ولا ذنب إلا فيما كان ضارا من قول أو فعل، والضرر يكون في البدن والنفس والعقل، والمال، والعفو الفضل والزيادة على الحاجة.
المعنى الجملي :
روى أحمد عن أبي هريرة قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهما فنزلت الآية فقال الناس : ما حرم علينا، إنما قال : إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم صلى رجل من المهاجرين وأم الناس في المغرب فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾ ثم نزلت آية أغلظ من ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ﴾ إلى قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ قالوا انتهينا ربنا.
ومجموع الروايات يدل على أن النهي القطعي عنها كان بعد التمهيد لذلك وبعد النهي عن قرب الصلاة حال السكر، وأوقات الصلاة متقاربة، فمن ينهى عن قرب الصلاة وهو سكران فلا بد أن يتجنب السكر في أكثر الأوقات لئلا تحضره الصلاة وهو سكران، وفي هذا من الحكمة في التدريج بالتكليف ما يجعل النفوس له أقبل ولإتباعه أطوع.
قال القفال : والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب – أن الله تعالى علم أن القوم قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيرا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدرج وهذا الرفق
الإيضاح :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾ أي يسألونك عن حكم تناول الخمر، أحلال هو أم حرام ؟ ومثل هذا بيعها وشراؤها ونحو ذلك مما يدخل في التصرفات التي تخالف الشرع – وعن حكم استعمال الميسر وفعله.
وكلمة ( الخمر ) يراد بها عند الشافعي كل شراب مسكر، ويراد بها عند أبي حنيفة ما اعتصر من ماء العنب إذا على واشتد وقذف بالزبد.
حجة الأول ( ١ ) أن الصحابة وهم صميموا العرب فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما كان من العنب وما كان من غيره،
( ٢ ) وما رواه أبو داود والترمذي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : كل مسكر خمر.
( ٣ ) وما رواه النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا.
( ٤ ) وما أخرجه البخاري عن أنس قال : حرمت الخمر حين حرمت، وما يتخذ من خمر الأعناب إلا القليل، وعامة خمرنا من البسر والتمر.
قال بعض العلماء : جرى ذكر هذه الأشياء لكونها معهودة في ذلك العصر، فكل ما في معناها من ذرة أو عصارة شجر أو تفاح أو بصل أو نحو ذلك مما يستخرج منه الخمر الآن فحكمه حكم هذه الأصناف.
وكيفية الميسر عند العرب أنه كانت لهم عشرة قداح وتسمى الأزلام والأقلام أيضا ( واحدها قدح و زلم وقلم، وهي قطعة من الخشب ) وأسماؤها الفذ والتوءم والرقيب والحلس والمسبل والمعلى والنافس والمنيح والسفيح والوغد، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور يتحرونها إما عشرة أجزاء أو ثمانية وعشرين جزءا، ولا شيء للثلاثة الأخيرة، فكانوا يعطون للفد سهما، وللتوءم سهمين، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، وهو أعلاها، ومن ثم يضرب به المثال، فيقال لذي الحظ الكبير من كل شي ( هو صاحب القدح المعلى ).
وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الربابة وهي الخريطة توضع على يد عدل يجلجلها ويدخل يده ويخرج منها واحدا باسم رجل ثم واحدا باسم رجل آخر وهكذا، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجذور كله – وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها شيئا، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم ( الوغد : اللئيم عديم المروءة ).
واتفق العلماء على أن كل قمار حرام كالقمار على النرد والشطرنج وغيرهما.
إلا ما أباح الشرع عن الرهان في السباق والرماية ترغيبا فيهما للاستعداد للجهاد.
﴿ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ أي قل لهم : إن في تعاطي الخمر والميسر إثما لأن فيهما أضرار كثيرة، ومفاسد عظيمة.
أما الخمر فلها مضار في البدن والنفس والعقل والمال وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض، فمن ذلك :
مضارها الصحية – بإفساد المعدة وفقد شهوة الطعام وجحوظ العينين وعظم البطن وامتقاع اللون، ومرض الكبد والكلى، والسل الذي يفتك بالبلاد الأوروبية فتكا ذريعا على عناية أهلها بالقوانين الصحية، وقد استطار شره في مصر بعد انتشار المسكرات بها، مع أن جوها لا يساعد على انتشاره، وإسراع الهرم إلى السكير حتى قال بعض الأطباء الألمان : إن السكير ابن الأربعين يكون نسيج جسمه كنسيج جسم ابن الستين، وقال آخر : إن السكر يعطل وظائف الأعضاء أو يضعفها، فهو يضعف حاسة الذوق ويحدث التهابات في الحلق وتقرحات في الأمعاء وتمددا في الكبد ويولد الشحم فيه فيضعف عمله، ويعيق دورة الدم وقد يقفها أحيانا فيموت السكير فجأة، كما يضعف مرونة الشرايين فتتمدد وتغلظ حتى تفسد أحيانا فيفسد الدم ولو في بعض الأعضاء فتحدث ( الغرغرينا ) التي تقضي بقطع العضو الذي تظهر فيه حتى لا يسري الفساد إلى الجسم كله فيكون الموت، وكذلك يضعف مرونة الحنجرة ويهيج شعب التنفس ويحدث بحة في الصوت ويكثر السعال.
وانقطاع النسل، فولد السكير يكون ضعيفا وحفيده أشد ضعفا وأقل عقلا وهكذا يسري الضعف إلى أولاده طبقة بعد أخرى حتى ينقطع النسل، ولا سيما إذا سار الأبناء على سنة الآباء وذلك هو الغالب فيهم، حتى قال أحد الأطباء : اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات.
مضارها العقلية – إنها تضعف القوة العاقلة لتأثيرها في المجموع العصبي، وكثيرا ما ينتهي الأمر إلى الجنون.
مضارها المالية – تفني الثروة وتستهلك المال، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أصناف الخمور وغلا ثمن الكثير منها – وافتن تجارها في ترويج بضاعتهم بوسائل شتى حتى قد يجمعون بينها وبين القيادة والزنا، فكم رأينا من خمار رومي فقير يفتح حانة في إحدى القرى فلا يلبث إلا قليلا حتى يبتلع ثروة أهلها ويصير سيد القرية، وقد قيل : إن ما ينفق في مصر ثمنا للخمر يربو على ما ينفق في فرنسا كلها.
مضارها في المجتمع – وقوع النزاع والخصام بين بعض السكارى وبعض، وبينهم وبين من يعاشرهم لأدنى بادرة تصدر من واحد منهم، وذلك ما أشار إليه الكتاب الكريم :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ﴾.
والخسة والمهانة في عيون الناس، فقد يأتي السكير في كلامه وحركاته ما يضحك منه ويكون موضع السخرية من الناس، ويعبث به الصبيان، إذ يكون أقل منهم عقلا، وقلما يضبط أقواله وأفكاره، وللسكارى من النوادر ما يكفي كل ذي شرف وعقل أن يكف عن الخمر، وتجرئ على ارتكاب الجرائم وتغرى بها، ولا سيما الزنا والقتل، ومن ثم سميت أم الخبائث.
مضارها النفسية – إفشاء السر وهو ذو أضرار خطيرة، ولا سيما إذا كان متصلا بالحكومات وسياسة الدول وشئونها العسكرية، وعليها يعتمد الجواسيس في نجاحهم في مهامهم التي ندبوا لها.
مضارها الدينية – إن السكران لا تتأتى منه عبادة صحيحة، ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين، ومن ثم قال :﴿ ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ﴾ أي يصدكم الشيطان بتناولها عن الذكر والصلاة.
أما مضار الميسر فليست بأقل من مضار الخمر، فمنها :
أنه يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين.
أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
أنه يفسد الأخلاق بتعويد الناس الكسل بانتظار الرزق من الأسباب الوهمية وتركهم الأعمال الجالبة للكسب كالزراعة والصناعة والتجارة وهي أساس العمران
خراب البيوت بغتة وضياع أموال أربابها فجأة بالخسارة في لعب الميسر فكم رأينا من أسرة نشأت بين أحضان الثروة والغنى، وانحصرت ثروتها في واحد من أفرادها، فلم يكن منه إلا أن أضاعها بين غمضة عين وانتباهتها، وأصبحت هذه الأسرة في فقر مدقع لا تملك ما تعيش به عيش الكفاف.
أما منافع الخمر فكثيرة منها :
الاتجار بها فقد كانت ولا تزال موردا كبيرا للغنى والإثراء.
قد تكون علاجا لبعض الأمراض ككثير من السموم والنبات الضار بالمزاج المعتدل والمقدار الذي يعطى حينئذ يكون قليلا لا يكفي للذة والنشوة.
تسلي الحزين على ما يكون بعدها من رد الفعل الذي يزيد في الكآبة والحزن.
تثير النخوة والشجاعة، وهذا من أعظم منافعها عند العرب، وإن كان هذا مضرة في العصر الحاضر، فإن هذه الحمية التي تثير الشحناء والبغضاء بين السكارى ولا حاجة إليها الآن في الحرب، لأنها أصبحت فنا لا بد فيه من حضور العقل وجودة النظر.
تجعل البخيل سخيا، وقد يكون هذا نافعا في الأزمنة القديمة حين كان الرجل ينفق ماله بين أهله – أما الآن فإنه كثير الضرر، لأنه يذهب بثروة البلاد ويضعها في أيدي الأشرار من الأجانب.
ومن منافع الميسر :
مواساة الفقراء كما في النوع المسمى ( يانصيب ) الذي يعمل لبناء الملاجئ والمستشفيات والمدارس وغيرها من أعمال البر.
سرور الرابح وأريحيته.
أنه يصير الفقير غنيا بدون تعب ولا نصب.
﴿ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ في هذا إرشاد إلى القاعدة العظيمة التي دونها الإسلام فيما بعد وهي :( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح )، وإلى القاعدة الأخرى ( ارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما ).
ولما كانت دلالة الآية على التحريم ليست صريحة لم تجعل تشريعا عاما تطالب به كل الأمة، بل عمل فيها كل واحد باجتهاده، فمن فهم منها التحريم امتنع منها، ومن لم يفهم ذلك جرى على أصل الإباحة، ومن ثم عمل الصحابة باجتهادهم على اختلافهم فيه، وأقرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وصار عمر يدعو الله أن يبين في الخمر بيانا شافيا حتى نزلت آية المائدة التي تقدمت : إنما الخمر والميسر الخ. فتركهما الصحابة جميعا.
ولما للخمر من مضار كثيرة تركها في الجاهلية كثير من العرب، منهم العباس ابن مرداس فقد قيل له : ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك ؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم وأمسي سفيههم.
وقد ألفت الجماعات في أوروبا وأمريكا للسعي في إبطال المسكرات، وحمل الدول على تشديد العقوبة على بائعي الخمور.
ولا تزال الأيام تظهر من مضار الخمر والميسر ما لم يكن معروفا من قبل، فيتجلى لنا صدق وصف الكتاب الكريم ﴿ وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ ولكن الهوى وسلطان اللذة صرفا كثيرا من أدعياء المدينة عن النظر في هذه المضار، فأسرفوا في معاقرتها حتى غيض معين الشباب وحرموا من سعادة الحياة، وحرمت منهم أمتهم وأهلوهم، وهم أحوج ما يرجون من ذكائهم ورجاحة عقولهم، وبدت فتنة السكر بين ذوي الثراء والجاه من المتعلمين، وانتقلت منهم العدوى إلى غيرهم من الفلاحين، والعمال والأجراء، وعم خطر هذه الآفة وتبعها انتشار الزنا بما له من مضار لا تحصى كداء الزهري والسيلان وغيرهما مما يوجب انقطاع النسل.
وإذا استمر انتشار الخمر والزنا في هذه البلاد ولا سيما الخمور التي تباع للفقراء فهي مواد سامة محرقة ( سبيرتو ) يضاف إليها قليل من الماء والسكر، فليس بالبعيد أن تنقرض الأمة بعد جيلين أو أكثر كما انقرض هنود أمريكا، ولا يبقى منهم إلا بعض الأجراء والخدم، فالسكر والزنا يقرضان الأمم قرضا.
وقد شاع حديثا في مصر ما هو أفتك بالأمة من الخمور وأقتل لها، وهو بعض السموم التي تستعمل حقنا تحت الجلد أو شما بالأنف كالمورفين والكوكايين والهروين.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة ﴾
تفسير المفردات :
والعنت : المشقة وما يصعب احتماله، يقال عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر.
المعنى الجملي :
روى أحمد عن أبي هريرة قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهما فنزلت الآية فقال الناس : ما حرم علينا، إنما قال : إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم صلى رجل من المهاجرين وأم الناس في المغرب فخلط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾ ثم نزلت آية أغلظ من ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ﴾ إلى قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ قالوا انتهينا ربنا.
ومجموع الروايات يدل على أن النهي القطعي عنها كان بعد التمهيد لذلك وبعد النهي عن قرب الصلاة حال السكر، وأوقات الصلاة متقاربة، فمن ينهى عن قرب الصلاة وهو سكران فلا بد أن يتجنب السكر في أكثر الأوقات لئلا تحضره الصلاة وهو سكران، وفي هذا من الحكمة في التدريج بالتكليف ما يجعل النفوس له أقبل ولإتباعه أطوع.
قال القفال : والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب – أن الله تعالى علم أن القوم قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيرا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدرج وهذا الرفق
الإيضاح :
أي لتتفكروا في شئونهما معا، فتجتمع لكم مصالح الروح والجسد وتكونوا أمة وسطا، لا كمن ظنوا أن الآخرة لا تنال إلا بترك الدنيا وإهمال منافعها فخسروها وخسروا الآخرة، إذ الدنيا مزرعة الآخرة، ولا كالذين انصرفوا إلى اللذات، ففسدت أخلاقهم، وأظلمت أرواحهم، وصاروا كالبهائم، وخسروا الآخرة والدنيا.
وهذه الآية وما مثلها ترشد إلى أن الإسلام هاد إلى سعة دائرة الفكر واستعمال العقل في مصالح الدارين معا، ومن ثم قال العلماء إن الفنون والصناعات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم – من الفروض الدينية، إذا أهملت الأمة شيئا منها ولم يقم من أفرادها من يكفيهم أمرها، كانت عاصية لأمر ربها مخالفة لدينه.
وعلى هذا سارت الأمة الإسلامية في القرون الأولى، فكانت إذا احتاجت إلى شيء مما يستدعيه التوسع في العمران، عدت القيام به من فروض الدين – إلى أن غلا أقوام في الدين وأهملوا مصالح الدنيا زعما منهم بأن ذلك من الزهد المطلوب والتوكل المحبوب، وما هو منهما في شيء، وكان نتيجة ذلك أن أهملت الشريعة، ولم توجد أمة إسلامية تقيمها، ولم يعد من المسلمين من يصلح لحكم الناس في هذه العصور التي اتسعت فيها مصالح الأمم والحكومات، بل قد أصبح كثير من العلماء يعد الاشتغال بالعلوم والفنون التي تتوقف عليها مصالح الدنيا، صادا عن الدين مبعدا عنه.
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾ أي ويسألونك عن القيام بأمر اليتامى، أو عن مخالطتهم وكفالتهم.
أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال : لما نزلت آية ﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ وآية :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ﴾ انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾ الآية.
وأشد ما ورد في الوصية باليتامى قوله تعالى :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ﴾ وقد كان السابقون الأولون من المؤمنين يحفظون حدود الله ويأخذون القرآن بقوة، فتحدث لهم ذكرى وعظة لا يجد مثلها من بعدهم ممن لم يفهم القرآن كما فهموا.
وهذه الوصايا باليتامى ملكت على المؤمنين نفوسهم فتركتهم في حيرة وحرج من أمر القيام على اليتامى واستغلال أموالهم خوفا من أن ينالهم شيء من الظلم، وتأثم الصحابة من مخالطة اليتامى، فكان بعضهم يأبى القيام على اليتيم، وبعضهم يعزل اليتيم عن عياله، فلا يخالطونه في شيء حتى إنهم كانوا يطبخون له وحده، ثم فطنوا إلى ما في هذا من الحرج مع عدم المصلحة لليتيم، بل فيه مفسدة له في تربيته وضياع لماله، إلى ما في ذلك من الاحتقار والإهانة له، فيكون كالكلب أو كالداجن في مأكله ومشربه، ومن ثم احتاجوا إلى السؤال عما يجمع بين المصلحتين : مصلحة اليتيم ليعيش في بيت كافله عزيزا كأحد عياله، ومصلحة الكافل فيسلم من أكل شيء من ماله بغير حق، فأجيبوا بقوله تعالى :
﴿ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ أي قل لمن يسأل عن المصلحة في معاملة اليتامى من عزل أو مخالطة – إن كل ما فيه صلاح لهم فهو خير، فعليكم أن تصلحوا نفوسهم بالتربية والتهذيب، وأموالهم بالتنمية والتثمير، ولا تهملوا شئونهم فتفسد أخلاقهم وتضيع حقوقهم، ولا وجه للتأثم من مخالطتهم في المأكل والمشرب والكسب، فهم إخوانكم في الدين، ومن شأن الإخوة أن يكونوا خلطاء في الملك والمعاش، وفي ذلك منفعة لهم لا ضرر عليهم، إذ كل واحد منهم يسعى في خير الجميع، والمخالطة مبنية على المسامحة، لانتفاء مظنة الطمع، فيكون اليتيم في البيت كالأخ الصغير تراعى مصلحته، ويتحرى له رجحان كفته.
﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ أي والله يعلم ما تضمره القلوب، وتميل إليه من قصد الإفساد أو الإصلاح في هذه المخالطة، وسيحاسبكم على الدقيق والجليل من الأمور.
وإنما نبه القلوب إلى ذكر علمه تعالى، لتلاحظ ذلك حين العمل، وترقب الجزاء على ما تعمل، حتى تأمن الزلل، وتبتعد عن مواطن الشبهة، فشهوة الطمع كثيرا ما تسول للإنسان أكل مال اليتيم، كما تزين له أكل مال أخيه الضعيف ولا وازع ولا زاجر إلا تقوى الله، ومراقبته في السر والعلن.
وكثير من الأوصياء على الأيتام يظهرون العفة والزهد في أكل أموالهم، وهم يلتهمونها التهاما، فتراهم بعد قليل أصبحوا من ذوي الثراء، وأجرهم المفروض ليس فيه الغناء.
﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾ أي ولو شاء الله أن يكلفكم ما لا تطيقونه من القيام بشئون اليتامى وحفظ أموالهم دون أ يأذن لكم في مخالطتهم لفعل، لكنه الواسع رحمته لا يكلف النفس إلا ما تطيق كما قال :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ ومن ثم أباح لكم مخالطتهم ومعاملتهم معاملة الإخوة، وعفا عما جرى العرف به من المسامحة فيه، إذ ذلك لا يستغني عنه الخلطاء، ووكل أمر ذلك إلى ضمائركم، مع مراقبة من لا تخفى عليه خافية، العليم بالسر والنجوى.
﴿ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي لو شاء إعناتكم لعز على غيره أن يمنعه، ولكن جرت سنته أن يجعل شرائعه جامعة لمصالح عباده، جارية على ما توحي به الفطرة المعتدلة التي فطرهم عليها.
والحكمة في وصل السؤال عن الإنفاق والسؤال عن الخمر والميسر – أن السؤالين الأولين بينا حال طائفتين من الناس في بذلهم وإنفاقهم للمال فناسب أن يذكر بعدها السؤال عن طائفة هي أحق الناس بالإنفاق عليها، وبذل المال في تربيتها وإصلاح شئونها، وهي جماعة اليتامى، كأنه تعالى يذكرنا بأنه حين مخالطتهم وإصلاح أمورهم يجب أن تكون النفقة من أموالنا، وأنهم من الأصناف التي تستحق أن ينفق عليها من العفو الزائد على حاجتنا، ولا ينبغي أن نعكس ذلك ونطمع في فضول أموالهم.
ومما تقدم تعلم، كيف كانت عناية المؤمنين بأحكام دينهم وحفظ حدوده، وكيف شدد سبحانه في الأمر بشأن اليتامى، فلم يأذن في القيام عليهم إلا بقصد الإصلاح، ولا بمخالطتهم إلا مخالطة الإخوة، مع توجيه القلوب إلى مراقبته، والتذكير بإحاطة علمه، ومع كل هذا لا نرى من الأوصياء على اليتامى إلا الفساد والإفساد، دون مراقبة الله في أعمالهم، ومراجعة نفوسهم في أفعالهم، غير ناظرين إلى الوعيد الشديد الذي تقشعر من هوله الصم الجلاميد.
﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ٢٢١ ) ﴾.
المعنى الجملي :
روى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلا من قبيلة غني يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان حليفا لبني هاشم، إلى مكة ليخرج جماعة من المسلمين أسارى بها. فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته وقالت : ويحك يا مرثد ألا تخلوا، فقال لها ؟ إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا، ولكن إن شئت تزوجتك، فقالت نعم، فقال : إذا رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استأذنته في ذلك، ثم تزوجتك، فقالت له : وأبي، تتبرم، ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها، فقال : يا رسول الله : أيحل لي أن أتزوجها ؟ فنزلت الآية.
الإيضاح :
﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾ أي ولا تتزوجوا المشركات اللاتي لا كتاب لهن حتى يؤمن بالله ويصدقن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء لفظ المشرك في القرآن بهذا المعنى في نحو قوله :﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ﴾ وفي قوله :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ﴾.
والخلاصة – لا تتزوجوا المشركات ما دمن على شركهن.
﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾ أي ولأمة مؤمنة على ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر، خير من مشركة حرة على مالها من شرف الحرية ونباهة القدر ولو أعجبتكم بمالها وجمالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها.
إذ بالإيمان يكون كمال دينها، وبالمال والجاه يكون كمال دنياها، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يستطع الجمع بينهما – إلى أنه ربما حصلت المحبة والتآلف عند اتحادهما دينا فتكمل المنافع الدنيوية أيضا من حسن العشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والقيام على الأولاد بتنشئتهم تنشئة قويمة، وتهذيب أخلاقهم حتى يكونوا قدوة لسواهم.
أخرج ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا تنكحوا النساء لحسنهن، فعسى أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، وانكحوهن على الدين، فلأمة سوداء ذات دين أفضل ) وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك } أي افتقرت، وظاهر هذا الأسلوب الدعاء عليه، والمراد الدعاء له، وهو كثير الاستعمال في كلام العرب.
﴿ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ﴾ أي لا تزوجوهم المؤمنات إلا إذا آمنوا وتركوا ما هم عليه من الكفر، وحينئذ يصيرون أكاف لهن.
﴿ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ أي ولمملوك مؤمن مع ما به من الذلة والمهانة خير من مشرك عزيز الجانب مهيب في أعين الناس.
وقصارى ما تقدم – إنه لا يجوز لنا أن نتصل بالمشركين برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوج منهم، إذ المرأة موضع ثقة الرجل، يأمنها على نفسه وولده ومتاعه، وما كان الجمال وحده ليحقق في المرأة هذا الوصف، فالمشركة لا دين لها يحرم عليها الخيانة ويأمرها بالخير وينهاها عن الشر، فقد تخون زوجها وتفسد عقيدة ولدها. أما الكتابيات كالنصرانيات واليهوديات، فقد جاء في القرآن في سورة المائدة النص على حلهن فقال :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ والحكمة في هذا التألف لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا، وسهولة شريعتنا، فالرجل هو القوام على المرأة وصاحب الولاية والسلطة عليها، فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلا على أن هذا الدين يدعو إلى الإنصاف في المعاملة وسعة الصدر بين المختلفين في الدين.
وأما زواج الكتابي بالمسلمة فحرام بنص السنة وإجماع المسلمين على ذلك، والسر في هذا أن المرأة كما علمت ليس لها من الحقوق مثل ما للرجل، فلا تظهر الفائدة التي تقدمت إلى أنه بما له عليها من السلطان يخشى أن يزيغها عن عقيدتها ويفسد منها دون أن تصلح منه.
وقد بين علة النهي عن مناكحة المشركين والمشركات بقوله :
﴿ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّار ﴾ أي إن هؤلاء المشركين والمشركات من دأبهم أن يدعوا إلى كل ما يكون سببا في دخول النار من الأقوال والأفعال – وصلة الزوجية من أقوى العوامل في تأثير هذه الدعوة في النفوس، إذ من شأنها أن يتسامح معها في أمور كثيرة، فربما سري شيء من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب من الشبه والتضليل، فالمشركون عبدوا غير الله لكنهم لم يسموا عملهم عبادة، بل أطلقوا عليه الاستشفاع والتوسل، واتخذوا غير الله ربا وإلها وسموه وسيلة وشفيعا، ظنا منهم أن تسمية الشيء بغير اسمه يخرجه عن حقيقته كما قال تعالى :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾.
وإذا كانت مساكنة المشركين مع الكراهة والنفور قد أفسدت الأديان، فكيف بهم إذا اتخذوا أزواجا، ألا يكون في ذلك الدعوة إلى النار، والسبب في الشقاء والدمار ؟
﴿ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ﴾ أي إن دعوة الله التي عليها المؤمنون هي التي توصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه وتوفيقه، فهي بالضد من الدعوة التي توصل إلى النار، لسوء اختيارهم وقبح تصرفهم في كسبهم، وما عليه المؤمنون هو الذي هدت إليه الفطرة، وبلغه عنه رسله بإذنه، وأرشدوا إليه خلقه.
اعتبر بهذا وانظر إلى ما فتن به كثير من الشبان المصريين من التزوج بالأفرنجيات والغرام بعشرتهن تاركين بنات وطنهم من المسلمات المؤمنات العفيفات، فأفسدن عليهم دينهم ووطنيتهم، وقطعن صلة الأرحام ما بين الأزواج وأسرهم، وصارت المعيشة الزوجية في كثير من الأحيان جحيما وغصة وعذابا أليما، حتى اضطر بعضهم إلى الطلاق بعد أن أنفق كثيرا من ثروته وماله، ومن استمر عليها أغضى العين على القذف وباع العرض رخيصا، وفقد الغيرة والنخوة التي هي أفضل شمائل الرجل، وبها يكون التفاضل بين الرجال، وقلما اهتدت امرأة بزواجها بمسلم فأسلمت، بل لقد عظم الخطب وعم البلاء، فسرت العدوى إلى المسلمات المتعلمات الغنيات، فتزوجن بمن أحببن من رجال الفرنجة بلا مبالاة ولا خشية من دين، ولا خوف من حكومة، ولا وازع من أسرة، وكل هذا من ضعف الوازع الديني، وترك الفضائل الإسلامية التي ينبغي أن تغرس في نفوس النشء إبان الصبا.
ثم امتن عز اسمه على عباده ببيان هذه الأحكام فقال :
﴿ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي ويوضح الأدلة على أحكام شريعته للناس، فلا يذكر لهم حكما إلا إذا بين لهم حكمته وأرشدهم إلى فائدته، والسر في تشريعه لعلهم بهذا يعتبرون، فإن الأحكام إذا ذكرت بعللها وأدلتها طبعت في النفوس وتقبلتها على الوجه المرضي، ولم تكن صورا ورسوما تؤدى دون أن تحصل الغاية منها، وهي الإخبات إلى الله، وتهذيب الأرواح وتنقيتها من أدران الذنوب وأكدار المعاصي.
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( ٢٢٢ ) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢٢٣ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الحيض : لغة السيلان، يقال حاض السيل وفاض، وشرعا : دم ذو أوصاف خاصة يخرج من الرحم في مدة مخصوصة استعدادا للحمل حين المعاشرة الزوجية إبقاء للنوع البشري، والأذى : الضرر، واعتزال النساء زمن الحيض ترك غشيانهن في هذه المدة، والطهر : انقطاع دم الحيض، والتطهر : هو الاغتسال بالماء إن وجد ولم يمنع منه مانع، أو التيمم خلفا عنه عند الشافعي، وقال أبو حنيفة : إن طهرت لأقل من عشرة أيام فلا تحل له إلا إذا اغتسلت أو مضى وقت صلاة والدم منقطع، وإن طهرت لأكثر مدته وهي العشرة حلت له ولو لم تغتسل.
المعنى الجملي :
هذا السؤال ثالث الأسئلة التي جاءت معطوفة بالواو لاتصالها بما قبلها وما بعدها، إذ كلها في التشريع المختص بالنساء، أما الأسئلة التي وردت قبلها مفصولة فهي مختلفة لموضوعات، فجاءت مفصولة على طريق التعداد والسرد.
كل هذه الأسئلة جاءت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة والاختلاط على أتمه بين العرب واليهود، وقد كان اليهود يشددون في مسائل الحيض كما جاء في الفصل الخامس عشر من التوراة، وفيه : أن كل من مس الحائض في أيام طمثها يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه بماء ويستحم ويكون نجسا إلى المساء، وكل من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا – إلى نحو ذلك من الأحكام، وللرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام.
وكان العرب في الجاهلية لا يساكنون الحيض، ولا يؤاكلونهن كما كانت تفعل اليهود والمجوس.
وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض، وكانوا مخالطين للعرب في كثير من المواطن، وقد جرت العادة أن الناس لا يتأثمون في أمور الدين إذا كانت تتعلق بلذاتهم وشهواتهم، وفيها منفعة لهم، ولا يقفون عند حدود الشرائع، فكان هذا الاختلاف الذي يرونه بين أهل الأديان مدعاة للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة
الإيضاح :
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾ أي ويسألونك عن حكم مخالطة النساء زمن الحيض.
﴿ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ﴾ أي أجبهم وقل لهم : هو ضرر وأذى، فاتركوا غشيانهن في هذه المدة، والسبر في هذا التأكيد كبح جماح الرغبة في ملابسة النساء ولو وصلت إلى حد الإيذاء وقد كان بعض الناس يظن أن الاعتزال ترك القرب الحقيقي، لكن السنة بينت أن المحرم إنما هو الوقاع فحسب، فعن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل :
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾ الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( اصنعوا كل شيء إلا الجماع ) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
وعن حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال :( لك ما فوق الإزار ) أي ما فوق السرة، رواه أبو داود.
وقد جاءت الآية ببيان سبب المنع أولا، ثم رتبت عليه الحكم وهو المنع، ليؤخذ بالتسليم والقبول، وليعلم أن الأحكام لم تشرع إلا للمصلحة لا للتعبد كما يرى اليهود.
والخلاصة – إنه يجب ترك غشيان النساء مدة الحيض، لأنه سبب للأذى والضرر، وقد أثبت ذلك الطب الحديث، فقالوا : إن الوقاع في زمن الحيض يحدث الأضرار الآتية :
آلام أعضاء التناسل في الأنثى، وربما أحدث التهابات في الرحم في المبيضين أو في الحوض تضر صحتها ضررا بليغا، وربما أدى ذلك إلى تلف المبيضين وأحدث العقم.
أن دخول مواد الحيض في عضو التناسل عند الرجل، قد تحدث التهابا صديديا يشبه السيلان، وربما امتد ذلك إلى الخصيتين فآذاهما، ونشأ من ذلك عقم الرجل، وقد يصاب الرجل ( بالزهري ) إذا كانت جراثيمه في دم المرأة.
وعلى الجملة فقربانها في هذه المدة قد يحدث العقم في الذكر أو في الأنثى، ويؤدي إلى التهاب أعضاء التناسل فتضعف صحتها، وكفى بهذا ضررا، ومن ثم أجمع الأطباء المحدثون في بقاع المعمورة وجوب الابتعاد عن المرأة في هذه المدة كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم خبير.
﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ﴾ أي فإذا اغتسلن من دم الحيض فأتوهن من المأتى الذي جبلت النفوس على الميل إليه، ومضت سنة الله بحفظ النوع به، وهو موضع النسل.
وفي هذا إيماء إلى أن الشريعة طلبت التزوج وحرمت الرهبانية، فليس لمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرب إلى الله تعالى، لأنه سبحانه قد امتن علينا بالزواج بقوله :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ وطلب إلينا أن ندعوه بالتوفيق للسرور بالزوجة الصالحة والولد البار فقال :﴿ ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ﴾.
فالزواج الشرعي وقربان المرأة ابتغاء النسل من أعظم القرب، وتركه مع القدرة عليه وعدم المانع مخالف لناموس الفطرة وسنته تعالى في شريعته.
وحين قال عليه الصلاة والسلام :( وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟. قال :( أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر ) ؟.
وقصارى ذلك – إن الإسلام لم يجعل العبادة في تعذيب النفس ومخالفة سنة الفطرة بترك ما أحل الله من لذات الدنيا، توهما بأن ذلك مما يرضي الخالق جل وعلا.
﴿ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾ أي إن الله يحب الذين يرجعون إليه تائبين غير مصرين على سيء أفعالهم، بتغليب سلطان الشهوة على سنة الفطرة حين أتوا نساءهم في المحيض أو في غير المأتى الذي أمر به.
﴿ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ أي وإنه تعالى يحب كل من نزه نفسه عن الأقذار، وابتعد عن ارتكاب المنكرات، وهؤلاء أحب إلى الله ممن فرطت منهم الزلة ووقعوا في الدنس ثم تابوا.
﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾
تفسير المفردات :
والحرث : موضع النبت أي الأرض التي ستنبت، شبهت بها النساء لأنها منبت للولد كالأرض للنبات، أنى شئتم : أي كيف شئتم من قيام وقعود واضطجاع، وإقبال وإدبار متى كان المأتى واحدا وهو وضع الحرث.
المعنى الجملي :
هذا السؤال ثالث الأسئلة التي جاءت معطوفة بالواو لاتصالها بما قبلها وما بعدها، إذ كلها في التشريع المختص بالنساء، أما الأسئلة التي وردت قبلها مفصولة فهي مختلفة لموضوعات، فجاءت مفصولة على طريق التعداد والسرد.
كل هذه الأسئلة جاءت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة والاختلاط على أتمه بين العرب واليهود، وقد كان اليهود يشددون في مسائل الحيض كما جاء في الفصل الخامس عشر من التوراة، وفيه : أن كل من مس الحائض في أيام طمثها يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه بماء ويستحم ويكون نجسا إلى المساء، وكل من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا – إلى نحو ذلك من الأحكام، وللرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام.
وكان العرب في الجاهلية لا يساكنون الحيض، ولا يؤاكلونهن كما كانت تفعل اليهود والمجوس.
وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض، وكانوا مخالطين للعرب في كثير من المواطن، وقد جرت العادة أن الناس لا يتأثمون في أمور الدين إذا كانت تتعلق بلذاتهم وشهواتهم، وفيها منفعة لهم، ولا يقفون عند حدود الشرائع، فكان هذا الاختلاف الذي يرونه بين أهل الأديان مدعاة للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة
الإيضاح :
أي لا حرج عليكم في إتيان نسائكم بأي كيفية شئتم ما دمتم تقصدون الاستيلاد في الموضع الطبيعي، فالشارع لا يقصد إلى إعناتكم وحظر اللذة عليكم، بل يريد لكم الخير والمنفعة، ولا يريد المفسدة بوضع الأشياء في غير مواضعها.
وقد جاءت هذه الآية عقب سابقتها، كالبيان لها شارحة وجه الحكمة التي لأجلها شرع غشيان النساء، وهو حفظ بقاء النوع البشري بالاستيلاد، كما يحفظ النبات بالزرع والحرث، لا لذة المباشرة لذاتها، ومن ثم لا يحل لكم أن تأتوا النساء في زمن الحيض حيث لا استعداد لقبول الزرع، ولا في غير المأتى الذي يتحقق به الاستيلاد.
﴿ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ ﴾ ما يقدم للنفس هو ما ينفعها في مستأنف حياتها، ولا شيء أنفع للإنسان في مستقبله من ولد بار بنفعه في دينه ودنياه كما جاء في الحديث :( إن الولد الصالح من عمل المرء الذي ينفعه بعد موته ) ولا يكون الولد كذلك إلا إذا أحسن والداه تربيته وهذباه وجعلاه ذا خلق عظيم.
وهذا يدعو إلى اختيار المرأة الودود الولود، التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وعملها، وتكون قدوة حسنة له، إذ ينشأ وهو يرى فضائلها وجلائل أعمالها فتنطبع صورتها في نفسه، فيشب وهو كامل الأخلاق حميد الصفات، كما يختار الزارع الأرض الصالحة التي تؤتي جيد الغلة.
وقوله :﴿ واتقوا الله ﴾ أي واحذروه بأن تخرجوا النساء عن كونهن حرثا بإضاعة مادة النسل في الحيض، أو بوضعها في غير موضع الحرث، أو بأن تختاروا المرأة السيئة الأخلاق التي تفسد تربية الأولاد بإهمالها، وسوء القدوة في معاشرتها.
ثم أوعد من يخالفون أمره فقال :
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ ﴾ أي واعلموا أنكم ستلاقون ربكم في الآخرة، فيجازيكم على عصيانه ومخالفة أمره، وتتجرعون من جزاء ذلك العذاب الأليم.
﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي وبشر المؤمنين الذين يقفون عند حدود دينهم، ويتبعون هدى ربهم في أمر النساء والأولاد، فيسعدون بنعيم الدنيا والآخرة، فمن يختر لنفسه الزوجة الصالحة، ويحسن تربية ما رزقه الله من الأولاد، يكن قرير العين سعيدا بما يرى من حسن حاله وحال أهله وولده.
أما من تطغى عليه شهواته، فيخرج عن السنن التي شرعها الله لعباده، فإنه لا يسلم من المنغصات في هذه الحياة، وهو في الآخرة أتعس حالا وأضل سبيلا.
فالسعادة كل السعادة في تكميل النفس بصادق الإيمان وفاضل الأخلاق، واطمئنان القلب عند الفرح والحزن، ولدى السرور والهم، وتسليم الأمر إلى خالق الخلق ومدبر أمرهم بعد أخذ الأهبة، وكمال العدة، وهذا هو التوكل الذي أمرنا به.
﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٢٤ ) لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ٢٢٥ ) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٢٦ ) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٢٧ ) ﴾.
تفسير المفردات :
العرضة كالغرفة : المانع المعترض دون الشيء، والمراد من الأيمان الأمور المحلوف عليها، كما جاء في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام :( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه )
المعنى الجملي :
بعد أن أمرنا سبحانه في الآية السابقة بتقواه وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره – ذكر هنا أن مما يتقى ويحذر منه أن يجعل اسم الله عند الحلف به مانعا من البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
وقد روى ابن جرير أن سبب نزول الآية : أن أبا بكر حلف ألا ينفق على مسطح بعد أن خاض في قصة الإفك بافترائه على عائشة، وقد كان من ذوي قرابته، وفيه نزل :﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ﴾ الآية.
كذلك بين أنه لا يؤاخذ باليمين اللغو فلا يعاقب عليها ولا يفرض فيها كفارة، كما أرشد إلى أن من آلى من امرأته ينتظر عليه مدة أربعة أشهر، وبعدها إما أن يرجع إليها ويحنث في اليمين، وإما أن يطلق
الإيضاح :
﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ أي ولا تجعلوا الحلف بالله مانعا لما حلفتم على تركه من عمل البر، فتتركوه تعظيما لاسمه، فالله لا يرضى أن يكون اسمه حجابا دون الخير، فكثيرا ما يسرع الإنسان إلى الحلف بألا يفعل كذا ويكون خيرا، أو أن يفعل كذا ويكون شرا، فنهانا الله عن ذلك وأمرنا بتحري وجوه الخير، فإذا حلفنا على تركها فلنفعلها ولنكفر عن اليمين بما سيأتي في سورة المائدة.
﴿ وَاللّهُ سَمِيعٌ ﴾ أي والله سميع لما تلفظون به، عليم بنواياكم، فعليكم أن تراقبوه في السر والعلن، وتراقبوا حدود شرائعه لتكونوا من المفلحين.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد والتهديد.
﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ ﴾
تفسير المفردات :
واللغو : ما يقع في حشو الكلام من الأيمان من غير قصد ولا رواية كقول الإنسان : أي والله، ولا والله، ونحوه يسبق إلى اللسان عادة ولا يقصد به عقد اليمين، فلا يؤاخذ الله به بفرض كفارة ولا بعقاب، حتى لا يكون في ذلك حرج على المؤمنين.
المعنى الجملي :
بعد أن أمرنا سبحانه في الآية السابقة بتقواه وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره – ذكر هنا أن مما يتقى ويحذر منه أن يجعل اسم الله عند الحلف به مانعا من البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
وقد روى ابن جرير أن سبب نزول الآية : أن أبا بكر حلف ألا ينفق على مسطح بعد أن خاض في قصة الإفك بافترائه على عائشة، وقد كان من ذوي قرابته، وفيه نزل :﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ﴾ الآية.
كذلك بين أنه لا يؤاخذ باليمين اللغو فلا يعاقب عليها ولا يفرض فيها كفارة، كما أرشد إلى أن من آلى من امرأته ينتظر عليه مدة أربعة أشهر، وبعدها إما أن يرجع إليها ويحنث في اليمين، وإما أن يطلق
الإيضاح :
أي لا يؤاخذكم بما يقع منكم من الأيمان في حشو الكلام دون أن تقصدوا به عقد اليمين ؛ فلا يفرض عليكم فيه كفارة ولا يعاقبكم به.
﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ أي ولكن يؤاخذكم بالكفارة أو العقوبة بما نوت قلوبكم وقصدته من اليمين، حتى لا تجعلوا اسمه الكريم عرضة للابتذال، أو مانعا من صالح الأعمال.
﴿ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ فيغفر لعباده ما ألموا به من الذنوب، ولا يتعجلهم بالعقوبة، ولا يكلفهم بما يشق عليهم مما لم تقصده قلوبهم، ولا يدخل تحت سلطان الاختيار.
وبعد بيان أحكام اليمين العامة انتقل إلى حكم يمين خاصة هي يمين الإيلاء فقال :﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾
﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾
تفسير المفردات :
والإيلاء : لغة الحلف، وشرعا حلف الرجل ألا يقرب امرأته إما لمدة معينة كأن يقول : والله لا أقربك أربعة أشهر، أو لا أقربك، والتربص : الانتظار، وفاءوا : أي رجعوا إلى نسائهم.
المعنى الجملي :
بعد أن أمرنا سبحانه في الآية السابقة بتقواه وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره – ذكر هنا أن مما يتقى ويحذر منه أن يجعل اسم الله عند الحلف به مانعا من البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
وقد روى ابن جرير أن سبب نزول الآية : أن أبا بكر حلف ألا ينفق على مسطح بعد أن خاض في قصة الإفك بافترائه على عائشة، وقد كان من ذوي قرابته، وفيه نزل :﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ﴾ الآية.
كذلك بين أنه لا يؤاخذ باليمين اللغو فلا يعاقب عليها ولا يفرض فيها كفارة، كما أرشد إلى أن من آلى من امرأته ينتظر عليه مدة أربعة أشهر، وبعدها إما أن يرجع إليها ويحنث في اليمين، وإما أن يطلق
الإيضاح :
أي للذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم أن ينتظروا مدة أربعة أشهر دون أن يطالبوا بالرجوع إلى نسائهم أو بالطلاق.
والحلف على هذا الوجه حلف بما لا يرضي الله تعالى، لما فيه من ترك التواد والتراحم بين الزوجين، ولما يترتب عليه من المفاسد في أنفسهما وفي عيالهما، ولما فيه من امتهان المرأة وهضم حقوقها.
وقد كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف ألا يقربها أبدا، ويتركها لا هي أيم ولا هي ذات بعل، وكان المسلمون في ابتداء الإسلام يفعلون مثل هذا، فأزال الله ذلك الضرر عنهن، وضرب للزوج مدة يتروى فيها، فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعله، وإن رأى المصلحة في المفارقة فارقها.
﴿ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي فإن رجعوا إلى نسائهم وحنثوا في اليمين وقاربوهن في أثناء هذه المدة أو في آخرها، فإن الله يغفر لهم ما سلف برحمته الواسعة، لأن الفيئة توبة في حقهم، فيغفر لهم إثم حنثهم عند التكفير.
﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
تفسير المفردات :
وعزموا الطلاق : أي صمموا في قصده، وعزموا ألا يعودوا إلى ملامسة نسائهم.
المعنى الجملي :
بعد أن أمرنا سبحانه في الآية السابقة بتقواه وحذرنا من معصيته ومخالفة أمره – ذكر هنا أن مما يتقى ويحذر منه أن يجعل اسم الله عند الحلف به مانعا من البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
وقد روى ابن جرير أن سبب نزول الآية : أن أبا بكر حلف ألا ينفق على مسطح بعد أن خاض في قصة الإفك بافترائه على عائشة، وقد كان من ذوي قرابته، وفيه نزل :﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ﴾ الآية.
كذلك بين أنه لا يؤاخذ باليمين اللغو فلا يعاقب عليها ولا يفرض فيها كفارة، كما أرشد إلى أن من آلى من امرأته ينتظر عليه مدة أربعة أشهر، وبعدها إما أن يرجع إليها ويحنث في اليمين، وإما أن يطلق
الإيضاح :
أي وإن عزموا ألا يعودوا إلا ملامسة المرأة، وثبتوا على ترك القربان حتى مضت المدة، فإن الله سميع للإيلائهم وطلاقهم، عليم بنياتهم، فليراقبوه فيما يفعلون، فإن كانوا يريدون بذلك إيذاء النساء ومضارتهن فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي بأن كان الباعث على الإيلاء تربيتهن لإقامة حدود الله، وعلى الطلاق اليأس من إمكان العشرة، الله يغفر لهم.
وخلاصة ذلك – إن من حلف على ترك غشيان امرأته، لا يجوز له أن يتربص أكثر من أربعة أشهر، فإن تاب وعاد قبل انقضائها لم يكن عليه إثم، وإن أتمها تعين عليه أحد الأمرين : الفيئة والرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق، وعليه أن يراقب الله فيما يختاره منهما، فإن لم يطلق بالقول كان مطلقا بالفعل : أي إنها تطلق منه بعد انتهاء تلك المدة رغم أنفه.
وقد فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق، إذ جعل جزاء الفيئة المغفرة والرحمة، وذكر المولى بسمعه لما يقول، وعلمه بما يسره في نفسه ويقصده من عمله.
هذا حكم الإيلاء إذا أطلقه الزوج ولم يذكر زمنا أو ذكر أكثر من أربعة أشهر، فإن ذكر مدة دون أربعة أشهر، فلا يلزمه شيء إذا أتمها.
﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ( ٢٢٨ ) ﴾.
تفسير المفردات :
يراد بالمطلقات هنا الأزواج اللاتي يعهد في مثلهن أن يطلقن، وأن يتزوجن بعد ذلك، وهن الحرائر ذوات الحيض بقرينة ما قبلها وما بعدها من ذكر التربص بالزواج، ولأنهن المستعدات للحمل والنسل الذي هو المقصد من الزواج.
أما من لسن كذلك كاليائسات، فليس من شأنهن أن يطلقن، إذ من أمضى مدة الزوجية مع امرأة حتى يئست من المحيض، فدأب الشرع وداعي الفطرة يحتمان عليه أن يرعى عهدها ويحفظ ودها – إلى أن مثل هذه لو طلقت فقلما تتزوج بعد، والتي لم تبلغ الحلم لا تكاد تتزوج، ومن عقد على مثلها كانت رغبته فيها عظيمة، فيندر أن يتحول عنها فيطلقها.
والتربص : الانتظار، والقروء : واحدها قرء ( بضم القاف وفتحها ) يطلق تارة على حيض المرأة وأخرى على طهرها، ومن ثم قال الحنفية والحنابلة المراد به الحيض، وقال المالكية والشافعية المراد به الطهر، وما في أرحامهن يشمل الولد والحيض والبعولة واحدهم بعل وهو الزوج، والمراد بالدرجة هنا ما جاء في قوله :﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة أن المولي إما أن يفئ ويرجع إلى معاشرة زوجه، وإما أن يعقد العزم على الطلاق بترك القربان – ناسب أن يذكر بعدئذ شيئا من أحكام الطلاق ليكون كالتتمة لما سبق.
الإيضاح :
﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ﴾ أي وحرائر النساء اللاتي يطلقن وهن من ذوات الحيض، فلسن يائسات انقطع عنهن الحيض، ولا صغيرات لم يصلن إلى سن الحيض – ينتظرون ثلاث حيض بعد الطلاق حتى يتزوجن، ليظهر أنهن غير حوامل.
وفي قوله بأنفسهن إشارة إلى أنه يجب عليهن أن يملكن رغبتهن في الزواج.
ويكبتن جماح شهواتهن إلى إتمام تلك المدة وإلى أن هذه الرغبة مما تنطوي عليها نفوس النساء، وإلى أنهن يستطعن امتلاكها والتربص اختيارا.
إلى ما في هذا من التعظيم والتبجيل لهن إذ لم يؤمرن بذلك أمرا صريحا.
ثم بين سبحانه حكمة هذا التربص بالزواج ضمن حكم آخر فقال :
﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ أي ولا يحل للنساء أن يكتمن ما خلق الله في الأرحام من ولد إذا علمن به، أو حيض ليطلن عدتهن، وقد فشا ذلك الآن في المطلقات اللاتي لا يجدن الأزواج، لأن القضاة يفرضون لهن النفقة ما دمن في العدة، فهن يكتمن الحيض جهد المستطاع استدامة لهذه النفقة، وقد جرت المحاكم الآن على أن تكون أقصى العدة سنة قمرية كما هو رأي للإمام مالك رضي الله عنه.
وكانت المرأة في الجاهلية تتزوج أحيانا بعد فراق رجل ثم يظهر أنها حبلى من الأول، فتلحق الولد بالثاني، فلما جاء الإسلام حرم هذا لما فيه من ضروب الغش والبهتان بنفي الولد عن قوم هو منهم وإلحاقه بمن ليس منهم، وأمر أن تعتد بعد فراق زوجها لتظهر براءة الرحم من الحمل.
﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ أي إن كن صادقات في الإيمان بالله الذي أنزل الحرام والحلال لمصلحة عباده، وباليوم الآخر الذي يجازى فيه كل عامل على ما عمل، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، إذ التصديق بأن في اتباع هذا المثوبة والرضوان، وفي تركه الشقاء والخسران، يقتضي الامتثال مع التعظيم والإجلال، ولا يخفى ما في هذا من التهديد الشديد والوعيد.
﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا ﴾ أي إن بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى العصمة الأولى في مدة العدة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة، أما إذا قصد من المراجعة مضارتها ومنعها من التزوج حتى تكون كالمعلقة، فلا هو يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى، ولا يمكنها من التزوج بغيره، فهو آثم بينه وبين ربه بهذه المراجعة.
والخلاصة – إنه لا يباح للرجل أن يرد مطلقته إلى عصمته إلا إذا أراد إصلاح ذات البين، ونية المعاشرة بالمعروف.
وإنما كان أحق بردها، لأنه بعد الطلاق قلما يرغب فيها الرجال، ولأنه قد يندم على طلاقها، ويرغب في مراجعتها، ولا سيما إذا أنجبا أولادا فتتغلب عاطفة تربيتهم وكفالتهم بين الزوجين على عاطفة الغضب العارضة، وهذا الطلاق الذي يملك فيه الرجل حق المراجعة ما دامت المرأة في العدة يسمى طلاقا رجعيا، ولا يحتاج فيه الرجل إلى رأي المرأة وإذنها – وسيأتي ذكر الطلاق البائن الذي لا تحل مراجعة المطلقة إلا بعقد جديد برضا الزوجة أو الزواج بغيره.
ولما كانت إرادة الإصلاح برد المرأة إلى العصمة، إنما تؤتى ثمرها إذا قام كل منهما بالحقوق التي ينبغي عليه أن يؤديها، ذكر ذلك سبحانه بعبارة هي على إيجازها تعتبر دستورا في معاملة كل من الزوجين للآخر – وهو مساواة الرجل للمرأة في سائر الحقوق إلا أمرا واحدا فقال :
﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ أي إن للرجل حقوقا وعليه واجبات يؤديها للمرأة، وللمرأة مثل ذلك.
بيان هذا أن الحقوق والواجبات التي على كل منهما للآخر موكولة إلى اصطلاح الناس في معاملاتهم وما يجري عليه العرف بينهم، وتابعة لشرائعهم وآدابهم وعاداتهم، فإذا طلب الرجل منها شيئا تذكر أنه يجب عليه شيء آخر بإزائه، ومن ثم أثر عن ابن عباس أنه قال : إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية.
والمراد بالمماثلة أن الحقوق بينهما متكافئة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متساويان في الشعور والإحساس والعقل، فليس من العدل ولا من المصلحة أن يتحكم أحد الجنسين في الآخر ويستذله، لأن الحياة المشتركة بينهما لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه.
وهذه الحقوق أجملها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما قضى به بين بنته وصهره، فقضى على ابنته بخدمة البيت، وعلى علي بما كان في خارجه من الأعمال.
وهذا ما تحكم به الفطرة في توزيع الأعمال بين الزوجين، فعلى المرأة تدبير شئون المنزل والقيام بحوائج المعيشة، وعلى الرجل السعي والكسب في خارجه، وهذا لا يمنع من استعانة كل منهما بالخدم والأجراء حين الحاجة إلى ذلك مع القدرة عليه، كما لا يمنع من مساعدة كل منهما للآخر في عمله حين الضرورة، يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله ﴾.
والخلاصة – إن الإسلام رفع النساء إلى درجة لم يرفعهن إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع الماضية، بل لم تصل إليها أمة من الأمم التي بلغت شأوا بعيدا في الحضارة والمدنية، فهي وإن بالغت في تكريم النساء واحترامهن وتعليمهن العلوم والفنون، لا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من التصرف في مالها بدون إذن زوجها.
وقد أعطى الإسلام هذه الحقوق للمرأة منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، وكانت في أوروبا من نحو مائة سنة تعامل معاملة الرقيق كما كانت في الجاهلية، أو أسوأ منها حالا.
ومن العجب العاجب أن الفرنجة الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن المرأة، يفخرون علينا ويرموننا بالوحشية في معاملتها مدعين أن ذلك هو أثر التعاليم الدينية، ولكن لهم بعض العذر في ذلك بما يرون عليه المسلمين في معاملتهم للنساء بحكم العادة والجهل بفقه الشريعة وعدم النظر إلى ما كان عليه الصدر الأول من المسلمين في معاملتهن.
وأما الدرجة التي للرجال عليهن فهي الرياسة، والقيام على المصالح كما فسرتها الآية :﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم ﴾.
فالحياة الزوجية حياة اجتماعية تقتضي وجود رئيس يرجع إليه حين اختلاف الآراء والرغبات، حتى لا يعمل كل ضد الآخر، فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل النظام، والرجل هو الأحق بهذه الرياسة، لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي المطالبة بطاعته فيما لا يحرم حلالا، ولا يحلل حراما، فإن نشزت عن طاعته كان له حق تأديبها بالوعظ والهجر في المضاجع، والضرب غير المبرح، كما يجوز مثله لقائد الجيش وللسلطان لمصلحة الجماعة.
أما الاعتداء عليها للتشفي من الغيظ أو لمجرد التحكم فهو ظلم لا يقره الدين بحال كما ورد في الحديث عن ابن عمر من قوله صلى الله عليه وآله وسلم :( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها ).
ولا شك أن من موجبات هذه الرياسة التي للرجال أن يعلموهن ما يمكنهن من القيام بما يجب عليهن من الواجبات، ومعرفة ما لهن من الحقوق، ويعلموهن عقائد الدين وآدابه، وما يجب عليهن لتربية أولادهن، ومعاملتهن للناس.
ويختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فتمريض المرضى ومداواة الجرحى كان فيما مضى أمرا سهلا، لكنه الآن يحتاج إلى تعلم علوم وفنون متعددة وتربية خاصة فتحت لأجلها مدارس تعد لها.
وأي الأمرين أفضل في نظر الدين والعقل، أتمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض أم اتخاذ ممرضة أجنبية تطلع على ما لا يحل لها أن تنظر إليه إلا للضرورة، وتنكشف على مخبآت بيته ؟
وهل تستطيع أن تفعل ذلك إذا كانت جاهلة بالقوانين الصحية غير عارفة بأسماء الأدوية ؟ وهل يمكن للأم الجاهلة أن تعلم أولادها شيئا نافعا لهم قبل ذهابهم إلى المدرسة ؟ أو هي تحشو أدمغتهم بخرافات وأوهام تسيء إليهم في مستأنف حياتهم عندما يصيرون رجالا في المجتمع، ولله در حافظ إبراهيم حين قال :
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
﴿ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ؟ ﴾ فمن عزته وحكمته أن أعطى المرأة من الحقوق مثل ما أعطى الرجل بعد أن كانت كالمتاع لدى جميع الأمم، وفي اعتبار كل الشرائع، وأن أعطى الرجل حق الرياسة عليها، ومن لم يرض بهذا يكن منازعا لله في عزته وسلطانه، ومنكرا لحكمته في أحكامه. ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لمن خالف ما فرض الله وقدره من الأحكام.
﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٢٩ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الطلاق اسم بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، ومرتان : أي دفعتان، والإمساك بالمعروف أن يراجعها لا على قصد المضارة، بل على قصد الإصلاح وحسن المعاشرة، والتسريح بإحسان أن يوقع الطلقة الثالثة ويؤدي لها حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة، والجناح : الإثم، والاعتداء : تجاوز الحد في قول أو فعل، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه.
المعنى الجملي :
كان للعرب في جاهليتهم طلاق وعدة للمرأة ومراجعة في العدة، لكن لم يكن للطلاق حد ولا عدد، فإن كان الطلاق لمغاضبة عارضة عاد الزوج فراجع زوجته واستقامت بينهما العشرة، وإن كان لمضارة الزوجة راجعها قبل انقضاء العدة، واستأنف طلاقا جديدا، وهكذا يفعل المرة تلو المرة أو يفئ وتسكن ثورة غضبه، فكانت المرأة ألعوبة في يد الرجل يضارها بالطلاق أنى شاء.
فلما جاء الإسلام أصلح مما أصلح من شئونهم الاجتماعية أمور الزوجية والطلاق والرجعة.
أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة قالت :( كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته : والله لا أطلقك فتبيني، ولا آويك أبدا، قالت : وكيف ذلك ؟ قال : أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسكت حتى نزلت الآية ﴿ الطلاق مرتان ﴾...
الإيضاح :
﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ﴾ أي إن التطليق الشرعي الذي حدده الله للطلاق ولم يخرج له العصمة من أيدي الرجال هو مرتان : أي طلقتان تحل بكل منهما العصمة ثم تبرم، فالجمع بين الثنتين أو الثلاث حرام كما قال بذلك جمع من الصحابة، منهم عمر وعثمان وعلي وعبد الله ابن مسعود وأبو موسى الأشعري، ويؤيده حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له :( إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا، فتطلق لكل قرء تطليقة ).
فالطلاق الذي يثبت للزوج فيه حق المراجعة هو أن يوجد طلقتان فقط، أما بعد الطلقتين بأن وجدت الثلاث فلا يثبت للزوج حق الرجعة البتة، ولا تحل له المرأة إلا بعد زواج آخر.
﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ أي ليس لكم بعد المرتين إلا أحد الأمرين، الإمساك بالمعروف أو الطلاق بإحسان، ويؤيد هذا حديث أبي رزين الأسدي عند أبي داود وغيره، أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمعت الله تعالى يقول :﴿ الطلاق مرتان ﴾ فأين الثالثة ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : أو تسريح بإحسان.
قوله تعالى بعد هذا :﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ بيان لهذا.
فإن اختار التسريح فطلقها بانت منه ولا تحل له حتى تتزوج زوجا غيره.
والخلاصة – إن الرجل إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها، يجوز له أن يراجعها من غير رضاها ما دامت في العدة، فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها، أو طلقها قبل الدخول بها، فلا تحل له إلا بعقد جديد بإذنها، فإن طلقها ثلاثا فلا تحل له ما لم تتزوج زوجا غيره ويصبها.
والحكمة في إثبات حق الرجعة – أن الإنسان لا يحس بخطر النعمة وجليل قدرها إلا إذا فقدها، وربما ظهرت المحبة للمرأة بعد فراقها، أو استبانت له الحاجة إليها وعظمت المشقة عليه في تركها والبعد عنها، ويندم على ما فرط منه في شأنها – وقد تكون المرأة سادرة في كبريائها وخيلائها، ولا تؤدي ما ينبغي للرجل من الحقوق والواجبات، فإذا هي طلقت تذكرت مصار خطئها، وأحست بما كان فيها من عيوب في المعاملات الزوجية والشؤون المنزلية، وتمنت أن لو كانت لها عودة تمكنها من إصلاح ما سلف منها – فإذا أبيح لها العودة إلى الحياة الزوجية كان في هذه فرصة في استدراك ما فات، والعمل على الطريق السوي فيما هو آت.
وقد يحدث أحيانا أن يرجع الرجل سيرته الأولى من المشاكسة والمغاضبة وسوء الخلق، أو يحدث من الزوجة ما يدعو إلى الفراق ثانيا فيطلقها حين حدة الغضب مرة أخرى، ثم يرى أنه كان بما عمل في غواية وضلالة، وأنه لا يطيق البقاء بعيدا عنها، إذ أن أولاده لا تستقيم شئونهم إلا بوجودها فأبيح له العودة مرة أخرى، فإذا هو عاد الثالثة استبان أن رباط الزوجية قد وهن، وأن العشرة أصبحت في خطر، وأن بقاءهما زوجين ربما جر إلى ما لا تحمد عقباه من الإساءة إليها في نفسها أو في مالها أوفي عرضها، فيجدر أن يكون الفراق لا رجعة بعده، مع أدائه ما لها عليه من حقوق مالية، وفاء بحقوق العشرة السالفة التي كانت فيها المودة والرحمة بينهما، حين كان يسكن إليها وتسكن إليه، ومن ثم ينبغي له ألا يذكرها بسوء في نفسها أو في عرضها وعفتها حتى لا ينفر الناس منها إذا هي أرادت أن تتزوج بسواه، وفي هذا منتهى المروءة والوفاء لذلك الرباط الوثيق الذي كان بينهما، وحل الزوج وثاقه بطلاقها.
وفي هذا التشريع بذلك التدريج منتهى الرأفة والسجاحة في تلك الشؤون الاجتماعية التي يترتب عليها صلاح الأسرة وحسن تهذيب الأولاد، وتثقيف عقولهم والحدب عليهم بإشراك الوالدين في تقويم المعوج وتعهدهما لهم بالرعاية الأبوية التي لن تكون كاملة إلا إذا قام كل من الوالدين بقسط منها.
وبعد أن فرض سبحانه الإحسان على من اختار التسريح حرم على الرجال أخذ شيء من مال المرأة فقال :
﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ﴾ أي ولا يحل لكم أن تأخذوا منهن بإزاء الطلاق شيئا مما أعطيتموهن على سبيل التمليك مهرا كان أو غيره، بل يجب عليكم أن تمتعوهن بشيء من المال زائدا على ذلك كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى :
﴿ فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ﴾.
وإنما نص سبحانه على ذلك وإن كان هذا يفهم من الأمر بالإحسان إليهن حين التسريح، لمزيد العناية بأمر النساء، وللتأكيد في تحذير الرجال الأقوياء من ظلم النساء الضعفاء وهضم حقوقهن كما تومئ إلى ذلك الآية الكريمة :﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم أحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ﴾.
وهذا الحكم فيما إذا اختار الزوج الفراق ورغب عنها، فإن كانت هي الطالبة لفراقه وتوسلت إلى ذلك بالنشوز وسوء العشرة لكراهتها إياه أو لسوء خلقها، لا لمضارته إياها فلا جناح عليه فيما يأخذه منها لإطلاق سراحها، إذ لا يكلف خسارة امرأته وماله بغير ذنب جناه، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
﴿ إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ﴾ ألا يقيما أي لا يراعيا، وحدود الله هي أحكامه التي شرعها للزوجين من حسن العشرة والمماثلة في الحقوق مع ولاية الرجل عليها، والتعاون على القيام بتدبير المنزل وتربية الأولاد بما يصلح حالهم في دينهم ودنياهم، وعدم المضارة التي أشار إليها بقوله :﴿ ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ﴾. فإن خافا ذلك بأن خافت المرأة أن تعصى الله في أمر زوجها بأن تجحد نعمة العشرة أو تخونه، أو خاف الرجل أن يزيد على ما شرعه الله في مؤاخذة الناشز، فالحكم ما ذكره بقوله :
﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ الخطاب في مثل هذا للأمة لأنها متكافلة في المصالح العامة، وأولو الأمر هم المطالبون أولا بالقيام بهذه المصالح، والحكام وسائر الناس رقباء عليهم، أي إذا خافا عدم إقامة حدود الله التي سنها للزوجين فلا إثم عليهما فيما تعطيه المرأة للرجل لتفتدي به نفسها وتطلق منه، ولا على الرجل في أخذه لأجل ذلك، لأنه برضاها واختيارها بدون إكراه منه ولا مضارة لها بل هي الحافزة عليه.
روى البخاري وابن ماجة والنسائي عن ابن عباس أن جميلة أخت عبد الله بن أبي ابن سلول زوج ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : يا رسول الله ثابت ابن قيس ما اعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضا وأكره الكفر في الإسلام ( تريد كفران نعمة العشير وخيانته ) قال : أتريدين عليه حديقته ؟ ( وكان قد أصدقها إياها ) قالت : نعم قال أقبل الحديقة وطلقها تطليقة.
وهذا الفراق الذي يبنى على الافتداء يسمى خلعا وعدته كعدة المطلقة.
ثم ختم الآية بوعيد من يخالف هذه الأحكام فقال :
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾ أي هذه الأوامر والنواهي المتقدمة هي الحدود التي حدها الله في المعاملات الزوجية، فلا تتجاوزوا ما أحله لكم إلى ما حرمه عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه.
﴿ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وفعل ما لا ينبغي فعله، والظلم مخرب للعمران، مبيد للأمم، ولا سيما ظلم الأزواج للأزواج، إذ الرابطة التي بينهما أمتن الروابط وأحكمها، فأي رجاء في الأمة إذا انحلت فيها عرا تلك الرابطة، وهي أشد الروابط تماسكا.
وإنا لنشاهد الآن ما يدمى له القلب أسى وحسرة من انفصام روابط الزوجية بحال لم تعهد في أي عصر من عصور الإسلام، إذ هتك النساء حجاب الصيانة والحياء، وأسرفن في التبرج والاختلاط بالرجال، وكثر الطلاق، وقل الزواج، وعمت الشكوى من هذه الفوضى الخلقية، ونبذ آداب الدين والفضيلة، وشعر العقلاء بسوء المغبة بعد أن فاتت الفرصة، وندموا ولات ساعة مندم.
وقد جاء في السنة على ترك الطلاق، وحظره في غير ضرورة، فمن ذلك حديث ثوبان عند أحمد والترمذي والبيهقي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ) وقال :( المختلعات هن المنافقات ).
﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٢٣٠ ) ﴾.
الإيضاح :
﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ أي فإن طلقها بعد المرتين المذكورتين في قوله :﴿ الطلاق مرتان ﴾ وهذه التطليقة هي المعبر عنها فيما سلف بقوله :﴿ أو تسريح بإحسان ﴾ فلا يملك مراجعتها بعد ذلك إلا إذا تزوجت آخر زواجا صحيحا مقصودا مع غشيان الثاني لها كما بينته السنة، فقد روى الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن ابن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال :( أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) ( يعني بالعسيلة أقل ما يكون من تغشي الرجل بالمرأة ).
و الحكمة في اشتراط ذلك أن الرجل متى علم أن المرأة لا تحل له بعد الطلاق ثلاثا إلا إذا نكحت زوجا غيره، ولعله عدوه – يرتدع ويزدجر – لأن هذا مما تنفر منه الطباع السليمة ويأباه ذوو الغيرة والمروءة.
والآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثا ما كان زواجا صحيحا عن رغبة مقصودة لذاتها، فمن تزوج بأمره بقصد إحلالها للزوج الأول كان زواجه غير صحيح ولا تحل به المرأة للأول إذا هو طلقها، وهو معصية لعن الشارع فاعلها، وبهذا قال مالك وأحمد والثوري – وقال جماعة من الفقهاء : هو صحيح مع الكراهة ما لم يشترط ذلك في العقد.
روى أحمد والنسائي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال هو المحلل، لعن الله المحلل، والمحلل له ).
وروي عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المحلل فقال : لا، إلا نكاح رغبة لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل ثم تذوق العسيلة.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا أوتي بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك، فقال : كلاهما زان. وسأل رجل ابن عمر : لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وسئل ابن عباس عمن طلق امرأته ثلاثا ثم ندم، فقال : هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجا، فقيل له : فكيف ترى في رجل يحلها له ؟ فقال : من يخدع الله يخدعه.
ومن هذا ترى أن حكم السنة ورأي كبار الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، لعن الله المحلل والمحلل له، لكن قد فشت هذه الرذيلة بين الأشرار الذين اتخذوا الطلاق عادة، وجعلوا دينهم هزوا ولعبا، حتى صار الإسلام يعاب بمثل هذا، وما عيبه إلا بفعلهم.
﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ﴾ فإن طلقها الزوج الثاني فلا حرج عليه ولا على المرأة أن يتراجعا، ويكون هو أحق بها من الزوج الأول، ولكن بعد تحقق الشرط الذين بينه بقوله :
﴿ إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّه ﴾ أي إن ترجح لدى كل منهما أن يقوم بحق الآخر على الوجه الذي حده الله من حسن العشرة وسلامة النية، ليصلح حالهما ويستقيم أمرهما.
فإن خافا حين المراجعة نشوزا منها أو إضرارا منه، فالرجوع ممقوت عند الله وإن صح عند القاضي.
﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ أي إن هذه الأحكام بينها الله على لسان نبيه في كتابه الكريم لأهل العلم بفائدتها، ومعرفة ما فيها من المصلحة، ليعملوا بها على الوجه الذي تتحقق به الفائدة والمنفعة، لا لمن يجهلون ذلك، فلا يجعلون لحسن النية وإخلاص القلب مدخلا في العمل، فيرجع إلى المرأة وهو يضمر لها السوء ويبغي الانتقام منها.
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٢٣١ ) ﴾.
تفسير المفردات :
يقال بلغ البلد : إذا وصل إليه، ويقال أيضا بلغه إذا شارفه ودنا منه، يقول الرجل لصاحبه : إذا بلغت مكة فاغتسل بذي طوى، يريد دنوت منها، لأن ذا طوى قبلها، والأجل يطلق على المدة كلها وعلى آخرها، فيقال لعمر الإنسان أجل وللموت الذي ينتهي به أجل، والمراد هنا زمن العدة، والمراد بالإمساك المراجعة، والمعروف ما ألفته العقول واستحسنته النفوس شرعا وعرفا وعادة، والمراد بالتسريح ترك المراجعة حتى تنقضي عدتها والضرار الضرر، والاعتداء الظلم، وآيات الله هي آيات أحكام الطلاق والرجعة والخلع ونحو ذلك، وهزوا أي مهزوءا بها بالإعراض عنها، والتهاون في المحافظة عليها، لقلة الاكتراث بالنساء وعدم المبالاة بهن، ونعمة الله هي الرحمة التي جعلها بين الزوجين، وما أنزل عليكم من الكتاب أي من آيات أحكام الزوجية التي تحفظ لكم الهناء في الدنيا والسعادة في الآخرة، والحكمة هي سر تشريع الأحكام وبيان ما فيها من منافع ومصالح.
المعنى الجملي :
بعد أن بين فيما سلف كيفية الطلاق المشروع وعدده بقوله :﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ وأن الأصل فيه أن يكون بلا عوض بقوله :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ﴾، وأن أخذ العوض لا يحل إلا بشرط ذكره بقوله :﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾.
ذكر هنا ما يجب في معاملة المطلقات، ونهى عن ضده، وتوعد على فعل ذلك الضد، وأرشد إلى المصلحة والحكمة في الإئتمار بذلك الأمر والانتهاء عن ذلك النهي.
الإيضاح :
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أي وإذا طلقتم النساء فقاربن إتمام العدة، فاعزموا أحد الأمرين، إما إمساك المرأة بالمراجعة، أو إطلاق سبيلها بالمعروف الذي شرع لكم في الآية :﴿ الطلاق مرتان ﴾.
وإنما فسرنا بلوغ الأجل بقرب إتمام العدة، لأن الأجل إذا اقتضى حقيقة لم يكن للزوج حق إمساكها بالمعروف، إذ هي غير زوجة له، وفي غير عدة منه.
ثم أكد الأمر بالإمساك بالمعروف ووضح معناه بقوله :
﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ ﴾ أي ولا تراجعوهن مريدين مضارتهن وإيذاءهن بالحبس وتطويل العدة لتلجئوهن إلى افتداء أنفسهن كما كانوا يتعاطونه في الجاهلية.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها، ثم يفعل ذلك ليضارها ويعضلها فأنزل الله هذه الآية.
وعن السدي قال : نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى انقضت عدتها إلا يومين، أو ثلاثة، ثم راجعها ثم طلقها مضارة لها فأنزل الله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ ﴾.
﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ أي ومن يفعل ذلك الإمساك المؤدي إلى الظلم فقد ظلم نفسه في الدنيا بسلوك طريق الشر وإقلاق راحة الضمير بالاعتداء، وبمناصبة المرأة وأسرتها العداء فيتألبون عليه وينفرون منه حتى يوشك ألا يصاهره أحد، كما ظلم نفسه في الآخرة بمخالفة أمر الله وتعرضه لسخطه.
﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا ﴾ أي ولا تتهاونوا بحدود الله التي شرعها لكم في دينه جريا على سنن الجاهلية، فإن التهاون بعد هذا البيان والتأكيد يعد استهزاء بها.
وفي هذا وعيد شديد وتهديد لمن يتعدى هذه الحدود، وفيه حث للمسلمين على احترام صلة الزوجية والبعد عما كانوا يفعلونه في الجاهلية، إذ كانوا يتخذون هذه الصلة لعبا ويعبثون بطلاقهن ويمسكوهن عبثا ؛ فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : كان الرجل يطلق ثم يقول لعبت ويعتق، ثم يقول لعبت فأنزل الله ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا ﴾ فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال :( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والرجعة ).
﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ﴾ أي وتذكروا ما أنعم به عليكم من الرحمة التي جعلها بين الزوجين، وبها امتن علينا في قوله :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ ومن جعل النكاح والطلاق والرجعة بأيدينا، وعدم التضييق في عدد النساء ؛ كما ضيق من سبقنا إذ أحل لهم امرأة واحدة ولم يحل لهم بعد موت المرأة زواج أخرى، وبما أنزل به عليكم من آيات أحكام الزوجية التي تجعلكم في هناء في الدنيا وسعادة في الآخرة، ومن الحكمة في سن تشريع الأحكام وبيان ما فيها من منافع ومصالح، إذ معرفة التشريع مع حكمته هي التي تحدث العبرة والعظة الباعثة على الامتثال.
وقد ذكرنا سبحانه بنعمته علينا أن مكننا من إقامة الصلة الزوجية على أتم نظام، وأن هدانا بهذا الدين القويم وحد لنا الحدود ووضع الأحكام مبينا حكمها وأسرارها، وأيدها بالمواعظ التي تهدي إلى إتباعها.
بيد أن الناس قد أعرضوا عن هذه النعم ففسدت بينهم تلك المودة والرحمة، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة غرورهم بالقوة وطغيانهم بالغنى، وكفر النساء نعمة الرجال وتمادين في ذمهم والتبرم بهم، وقلد الناس بعضهم بعضا في ذلك.
﴿ واتقوا الله ﴾ بامتثال أمره ونهيه في أمر النساء وتوثيق الصلة الزوجية، وترك ما ألف الناس من عدم المبالاة بعقد الزوجية الذي كانوا يرونه كعقد الرق والإجارة في المتاع الخسيس، بل كانوا يرونه دون ذلك، إذ كانوا يطلقون المرأة لأتفه سبب، ثم يعودون إليها، يفعلون ذلك المرة بعد المرة للضرار والإهانة.
فاعتياد المعاملة السيئة والأنس بها لا يقاوم إلا بتعظيم شأن عقد الزوجية والمبالغة في تأكيده بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد.
نعم، كان لذلك أحسن الأثر في أولئك الخارجين من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، ثم خلف من بعدهم خلف أعرضوا عن القرآن وجهلوا ما فيه من الحكم والأحكام، حتى صاروا شرا مما كان عليه أهل الجاهلية من ظلم النساء ومعاملتهن بالقسوة دون مراعاة لما أمر به الدين على لسان سيد المرسلين.
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ فلا يخفى عليه شيء مما يسره العبد أو يعلنه، وهو لا يرضى إلا التزام حدوده والعمل بأحكامه، مع الإخلاص وحسن النية، حتى يكون الباطن كالظاهر في الخير، ولا يتم إلا بمراقبة الله في العمل، والإخلاص له في السر والعلن، والعلم بأنه تعالى المطلع على كل شيء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( ٢٣٢ ) ﴾.
تفسير المفردات :
البلوغ الانتهاء، والأجل هنا آخر المدة المضروبة لانقضاء العدة لا لقربها كما في الآية التي قبلها، لأن الإمساك بالمعروف والتسريح لا يأتي بعد انقضاء العدة إذ انقضاؤها إمضاء للتسريح فلا محل معه للتخيير، والتخيير يستمر إلى قرب الانقضاء والمذكور هنا النهي عن العضل وإجازة النكاح، وهذا لا يكون إلا بعد انقضاء العدة، ومن ثم أثر عن الشافعي أنه قال : دل السياق على افتراق البلوغين، والعضل الحبس والتضييق، والعظة النصح والتذكير بالخير على وجه يرق له القلب ويبعث على العمل، والزكاء النماء والبركة.
الإيضاح :
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله. إذا طلقتم النساء وانقضت عدتهن، وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهن وأردن هن ذلك، فلا تمنعوهن من الزواج، إذا رضي كل من الرجل والمرأة بالآخر زوجا، وكان التراضي في الخطبة بما هو معروف شرعا وعادة، بألا يكون هناك محرم ولا شيء يخل بالمعروف ويلحق العار بالمرأة وأهلها.
وفي قوله :﴿ بينهم ﴾ دليل على أنه لا مانع أن يخطب الرجل المرأة إلى نفسها، ويتفق معها على التزوج بها، ويحرم حينئذ على الوالي أن يعضلها ويمنعها من الزواج.
كما أن في قوله ﴿ بالمعروف ﴾ دليلا على أن العضل من غير الكفء غير محرم، كأن تريد الشريفة في قومها أن تتزوج برجل خسيس يلحقها منه عار، ويمس كرامة قومها منه أذى، وحينئذ ينبغي أن تصرف عنه بالنصح والعظة.
وأجاز بعضهم العضل إذا كان المهر دون مهر المثل، ولكن الذي ينبغي التعويل عليه أنه إذا كان الرجل حسن السيرة يرجى منه صلاح المعيشة الزوجية، ويعسر عليه دفع المهر الكثير والنفقات الأخرى للزواج – لا يجوز العضل بل يجب تزويجه.
والمدار في الكفاءة على العرف القومي لا على تقاليد بيوت ذوي الشرف والجاه وكبريائهم، فما يعده جمهرة الناس إهانة للمرأة وعارا على أهلها، فهو الذي يبيح لأوليائها المنع منه إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أشنع منه، كما لا يجوز إكراه المرأة على أن تتزوج بمن لا تحب، إذ قد يجر هذا إلى أضرار ومفاسد ربما لا تحمد عقباها.
والخطاب هنا للأمة جميعها، لأنها متكافلة في المصالح العامة، ليعلم المسلمون أنه يجب على من علم منهم المنكر من أولياء النساء أو غيرهم أن ينهوه عن ذلك حتى يفئ إلى أمر الله وأنهم إذا سكتوا عن المنكر ورضوا به يأثمون، إذ كثيرا ما يرجحون أهواءهم وشهواتهم على الحق والمصلحة، ثم يقتدي بعضهم ببعض، فيكثر الشر والمنكر فتهلك الأمة كما قال تعالى :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون ﴾.
وقد كان من عادات الجاهلية أن يتحكم الرجال في تزويج النساء، إذ لم يكن يزوج المرأة إلا وليها، وقد يزوجها بمن تكره، ويمنعها من تحب لمحض الهوى.
أخرج البخاري وخلق كثير غيره عن معقل بن يسار قال : كان لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له : يا لكع ( يا لئيم ) أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها فأنزل الآية، قال : ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه، وفي رواية فلما سمع معقل الآية قال : أرغم أنفي، وأزوج أختي، وأطيع ربي.
﴿ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ أي ذلك الذي تقدم من الأحكام المقرونة بالحكم، مع الترغيب والترهيب، يوعظ به أهل الإيمان بالله واليوم الآخر إذ هم الذين يتقبلونه، وتخشع له قلوبهم، ويتحرون العمل به، طاعة لأمر ربهم، ورجاء لمثوبته عليه في الدارين.
وفي الآية دليل على أن المؤمن حقا لا بد أن يتعظ به، فالذين لا يتعظون به ولا يعملون به فليسوا بمؤمنين، بل هم يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، لأنهم لم يتلقوا أصول الإيمان بالدليل، فلم يقع من نفوسهم موقع التأثير في مسالك الوجدان، فوعظهم عبث ضائع، إذ هم لا يتبعون إلا أهواءهم، ويقلدون ما وجدوا عليه آباءهم.
﴿ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ أي ذلكم النهي عن ترك العضل على الشرط الذي تقدم فيه، بركة وصلاح لحال متبعيه، وفيه طهر لأعراضهم وأنسابهم، وحفظ لشرفهم وأحسابهم، فكم كان عضل النساء مدعاة للفسوق، مفسدة للأخلاق، وسببا في اختلال نظم البيوت، وشقاء الذرية.
انظر إلى ولي يمنع من له الولاية عليها من الزواج بمن تحب، ويزوجها بمن تكره، إتباعا لهواه أو لعادات قومه، كما كانت تفعل العرب من قبل، أيرجى لمثل هذه صلاح أو أن تقيم حدود الله، أو يخشى أن يغويها الشيطان بمن تحب، ويمد لها حبل الغواية حتى لا تقف عند حد ؟.
ولجهل الناس بوجوه المصالح الاجتماعية كانوا لا يرون للنساء شأنا في إصلاح حال البيوت ولا فسادها، حتى جاء الإسلام وعلمهم من ذلك ما هم في أشد الحاجة إليه من حسن معاملة النساء والرفق بهن ومعاملتهن بالحسنى ﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ﴾.
لكن المسلمين نسوا أوامر دينهم وساروا سيرة جاهلية مع نسائهم فكان لذلك أسوأ الأثر في فساد الأسر والبيوت جزاء وفاقا لتركهم عظات شريعتهم وتناسيهم أوامر دينهم.
﴿ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي والله يعلم ما لكم في ذلك من النفع والصلاح، إذ هو العليم بوجوه الفائدة في هذه الأحكام، والسر فيما به أمر، وعنه نهى، وأنتم لا تعلمون ذلك علما صحيحا خاليا من الأهواء والأوهام.
فالبشر لم يهتدوا إلى هذه الأحكام مع اختبارهم وتجاربهم الطويلة، بل عزبت حكمتها عن نفوس الكثيرين منهم، بعد أن نزل بها الوحي، وجاء بها الدين فلم يعملوا بها، وكان يجب عليهم أن يقيموها على وجهها ملاحظين ما لها من فوائد ومنافع أرشد إليها العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٣٣ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الحول والعام يقعان على صيفة وشتوة كاملتين، والسنة تبتدئ من أي يوم عددته من العام إلى مثله، والمولود له هو الوالد، والتكليف الإلزام، والوسع ضد الضيق وهو ما تتسع له القدرة ولا يبلغ آخر مداها، والطاقة آخر درجات القدرة، فليس بعدها إلا العجز التام، مأخوذة من آخر طاقة ( فتلة ) من الطاقات التي يتألف منا الحبل، والمضارة مشاركة كل من الوالدين للآخر في الضرر، فتفيد أن كل إضرار من أحدهما للآخر بسبب الولد إضرار بنفسه، إذ هذا يستلزم ضر الولد وكيف تحسن تربية ولد بين أبوين هم كل منهما إيذاء الآخر وضرره، والفصال الفطام لأنه يفصل الولد من أمه، ويفصلها منه فيكون مستقلا في غذائه دونها، والتشاور والمشاورة والمشورة استخراج الرأي من المستشارين، ولا جناح عليهما أي لا حرج، واسترضعت المرأة الطفل أي اتخذتها مرضعا له، ما آتيتم أي ما ضمنتم والتزمتم، بالمعروف : أي على الوجه المتعارف المستحسن شرعا وعادة.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه أحكام الطلاق في الآيات السالفة، وبين حرمة العضل على الأولياء – ذكر هنا أحكام الرضاعة وكيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف، وتربية الأطفال والعناية بشئونهم بطريق التشاور والتراضي بين الوالدين.
الإيضاح :
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ أي على جميع الوالدات مطلقات كن أو غير مطلقات أن يرضعن أولادهن مدى حولين كاملين لا زيادة عليهما، وقد تنقص المدة إذا رأى الوالدان أن في ذلك مصلحة، والأمر موكول إلى اجتهادهما.
وإنما وجب ذلك على الأم لأن لبنها أفضل لبن باتفاق الأطباء، فالولد قد تكون من دمها وهو في أحشائها، فلما برز إلى الوجود تحول الدم إلى لبن يتغذى منه وهو منفصل منها، فهو الذي يلائمه في التغذية وهو سائر معه بحسب سنه، ولا يخشى على الولد منه من علة بدنية أو خلقية تكون فيه، فما أخذه وهو في الرحم فاللبن لا يزيده شيئا، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها ومعرفة أخلاقها وبذل الجهد في اختيارها، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد، فيكون دما له ينمو به اللحم وينشز العظم، فيؤثر فيه جسميا وخلقيا، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية في الرضيع أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه حتى لقد يؤثر صوتها في صوته، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية،
وقد فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية، حتى كانت قيصرة روسيا ترضع أولادها وتحرم عليهم المرضع.
فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شئونهم، فقد رغب نساء الأغنياء عنها ترفعا وطمعا في بقاء الجمال وحفظ الصحة وسرعة الحمل، وكل هذا مقاوم لسنة الفطرة ومفسد لتربية الأولاد.
وقد كان للمسلمين من دينهم وازع أيما وازع، فقد هداهم إلى ما فيه في تربية الطفل وتهذيبه، ولم نر دينا تعرض لمحاسن تربية النشء ومساويها مثل ما تعرض له الدين الإسلامي، فاللهم وفق المسلمين إلى الاهتداء بهديه، والتحلي بآدابه.
ويرى جمع من العلماء أنه يجمل بالأم أن ترضع ولا يجب عليها ذلك إلا إذا تعينت للإرضاع بأن كان الولد لا يقبل غير ثديها كما يشاهد ذلك من بعض الأطفال، أو كان الأب عاجزا عن استئجار ظئر ترضعه، أو كان قادرا ولم يجد من ترضع.
وقوله كاملين تأكيدا لذلك ؛ إذ قد جرت العادة أن يتسامح في مثل هذا فيقال : أقمت عند فلان حولين بمكان كذا، ويكون قد أقام حولا وبعض الحول.
والحكمة في تحديد هذه المدة في الرضاع العناية بشؤون الطفل، فإن اللبن هو الغذاء الموافق له في هذه السن، إلى أنه محتاج إلى شفقة وعناية تامة لا تتوفران عند غير الأم، إلا إذا رأى الوالدان المصلحة في أقل من ذلك، فهما اللذان يراعيان صحة الطفل فمن الولدان من يستغني عن اللبن بالطعام اللطيف قبل تمام الحولين.
وقد استنبط العلماء من هذه الآية ومن قوله :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ أقل مدة الحمل، فإنه إذا أسقطت مدة الرضاع من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر وهي أقل المدة.
وقد روى هذا عن علي وابن عباس رضي الله عنهما.
﴿ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي وعلى الوالد كفاية المرضع من طعام وكسوة لتقوم بخدمته حق القيام، وتحفظه من عاديات الأيام.
وإنما عبر بالمولود له، ولم يعبر بالوالد للإشارة إلى أن الأولاد لآبائهم، فإليهم ينسبون وبهم يدعون، والأمهات مستودعات لهم كما قال المأمون :
لا تزرين بفتى من أن يكون له أم من الروم أو سوداء دهجاء
فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللأبناء آباء
والخلاصة – إن الوالدات قد حملن للوالد، وأرضعن له، فعليه أن ينفق عليهن ما فيه الكفاية من طعام وشراب وكسوة ليقمن بخدمته، ويحفظنه ويرعين شئونه، وأن يكون ذلك الإنفاق بحسب المعروف اللائق بحال المرأة في البيئة التي تعيش فيها، ولا تلحقها بها غضاضة في نوعه، ولا في طرق أدائه.
﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ أي لا تلتزم نفس إلا بما تتسع له قدرتها بحيث لا ينتهي إلى الضيق، وقد فسر هذا في سورة الطلاق بقوله :﴿ لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسرا ﴾.
ثم بين العلة في تشريع الأحكام السابقة لقوله :
﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ﴾ أي إن العلة في تشريع ما تقدم منع الضرار من الجانبين بإعطاء كل ذي حق حقه بالمعروف، فيحرم أن يأتي من أحد الوالدين إضرار بالآخر بسبب الوالد، فلا ينبغي أن تمتنع الأم من إرضاعه تعجيزا للوالد بالتماس الظئر، أو تكلفه من النفقة فوق وسعه، أو تقصر في تربية الولد تربية بدنية أو خلقية أو عقلية لتغيظ الرجل، كذلك لا يليق به أن يمنعها من إرضاع ولدها، وهي له أرأم، وبه أرأف، وعليه أحنى وأعطف، أو يضيق عليها في النفقة مع الإرضاع، أو يمنعها من رؤيته ولو بعد مدة الرضاع والحضانة.
﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ﴾ أي وعلى وارث الصبي وهو قريبه الذي لا يجوز له أن يتزوجه على تقدير أن يكون أحدهما ذكرا والثاني أنثى، مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة وأجرة الرضاع.
وقيل المراد بالوارث وارث الصبي من الوالدين أي إذا مات أحد الوالدين فيجب على الآخر ما كان يجب عليه من إرضاعه والنفقة عليه.
﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ أي : فإن للوالدين صاحبي الحق المشترك في الولد، الراغبين في تربيته تربية قويمة في جسمه وعقله – أن يفطماه قبل الحولين الكاملين أو بعدهما إذا اتفق رأيهما على ذلك بعد التشاور والتراضي بينهما، لأن هذا التحديد إنما هو للمصلحة ودفع الضرر، فمتى رأيا الفائدة في الأقل أو في الأكثر فعلاه، أما إذا أقدم أحدهما على ما يضر بالولد كأن ملت الأم الإرضاع أو بخل الأب بإعطاء الأجرة بقية الأجل المضروب فلا حق له في ذلك، وإنما اعتبر رضا الأم مع أن ولي الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره، مراعاة لمصلحة الطفل، إذ هي لكمال شفقتها عليه لا تفكر إلا فيما له فيه خير وفائدة.
وهاأنت ذا ترى إرشاد القرآن إلى استعمال المشورة في أدبي الأعمال لتربية الولد، ولم يبح لأحد الوالدين الاستبداد بذلك دون الآخر – فما بالك بأجل الأعمال خطرا وأعظمها فائدة، فهل بعد هذا من شك في حاجة الملوك والأمراء إليها في تربية الأمم وتدبير شئونها ؟ ومن ثم طلبها القرآن الكريم من الرسول صلوات الله عليه وآله وسلم بقوله :﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ ومدح المؤمنين بقوله تعالى :﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾.
﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم المراضع الأجنبيات فلا ضير في ذلك إذا أعطيتم لهن الأجور المتعارف لأمثالهن، لما في ذلك من مصلحة للمرضع ومصلحة للولد والوالد، فإن المرضع إذا لم تعامل معاملة حسنة ترضيها بأن تأخذ أجرها كاملا غير منقوص، وتمنح الهبات والعطايا – لا تهتم بالطفل ولا تعنى بإرضاعه، ولا بنظافته ولا بسائر شئونه، وإذ هي أوذيت تغير لبنها فيكون ضارا بالطفل مؤذيا له، ويتبع هذا إيذاء الوالد حين يرى ابنه على غير ما يحب ويهوى.
﴿ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ أي واخشوا الله فلا تفرطوا في شيء من هذه الأحكام مع توخي الحكمة فيها، واعلموا أن الله بصير بأعمالكم فهو يجازيكم عليها، فإذا قمتم بحقوق الأطفال بتراض وتشاور واجتنبتم المضارة كان الأولاد قرة أعين لكم في الدنيا وسبب المثوبة في الآخرة، وإن أنتم اتبعتم أهواءكم وعمل كل منكم على مضارة الآخر كان الأولاد بلاء وفتنة لكم في الدنيا واستحققتم عذاب الله في الآخرة.
فما أشد هذا التهديد والوعيد على ترك العناية بالأطفال ومضارة كل من الوالدين للآخر من أجل أولادهما، فليعتبر بذلك المسلمون ولا يجعلوا تربية الأولاد موكولة إلى المصادفة، والعناية بها دون العناية بسلعة التاجر، وأدوات الصانع، وماشية الزارع، وما أبعد المسلمين اليوم عن اتباع مناهج دينهم واتباع وصاياه، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( ٢٣٤ ) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ٢٣٥ ) ﴾.
تفسير المفردات :
يتوفون منكم : أي يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم، ويذرون : أي يتركون، والزوج يطلق على الذكر والأنثى كما قال تعالى :﴿ وأزواجه أمهاتهم ﴾ وأصله العدد المكون من شيئين اتحدا وصار شيئا واحدا في الباطن وإن كانا شيئين في الظاهر، وسمي به كل من الرجل والمرأة للدلالة على أن من مقتضى الفطرة أن يتحد الرجل بامرأته والمرأة ببعلها، بتمازج النفوس ووحدة المصلحة، حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر، ويتربصن : أي ينتظرن، وبلغن أجلهن : أي أتممن عدتهن وانتهت مدة التربص والانتظار.
المعنى الجملي :
كان الكلام قبل هذا في أحكام الطلاق من جهة عدده وكيفيته، وأن للزوج المراجعة والإمساك بالمعروف، كما له التسريح والتطليق بالإحسان، ثم ذكر بعده حكم الإرضاع وما للوالدة من حقوق فيه، وما للوالد من واجبات قبل ولده من رزق وكسوة ونحو ذلك – وهنا ذكر أحكام من يموت بعولتهن من وجوب الحداد عليهم، ومن وجوب العدة، ومن جواز خطبتهن، ومن صحة العقد عليهن.
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ أي إن الرجال الذين يموتون ويتركون زوجات يردن الزواج، لا يحل لزوجاتهم أن يتعرضن للخطبة ولا زواج ولا خروج من المنزل إلا لعذر شرعي مدة أربعة أشهر وعشرة أيام.
وخلاصة المعنى – إن عدة النساء اللاتي يموت أزواجهن أربعة أشهر وعشرة أيام لا يتعرضن فيها للزواج بزينة ولا خروج من المنزل إلا للأعذار المبيحة لذلك، ولا يواعدن الرجال بالزواج، اهتماما بحقوق الزوجية وتعظيمها لشأنها.
وقد حرمت السنة الحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام.
وهذا الحكم خاص بغير الحوامل، فإن الحامل التي يموت زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل ولو بعد الموت بساعة كما قال تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن.
روى أبو داود حديث سبيعة الأسلمية قالت : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفتاها بأنها حلت حين وضعت حملها، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر.
ولا نبحث عن الحكمة في تحديد هذه المدة فهي كأعداد الركعات ومقدار الواجب في الزكاة، وقال بعضهم في بيانها : إن تعرف براءة الرحم احتاجت إلى ثلاثة قروء أو ستين يوما، فبراءة النفس من الحزن والكآبة تحتاج إلى مدة أطول من هذه لعظم الكارثة وفداحة الخطب، إلى أن التعجيل بالزواج مما يسيء أهل الزوج ويفضي إلى الخوض في شأن المرأة، إذ يقولون إنما لم تكن على ما ينبغي من الوفاء للزوج والحزن عليه إلى أنه كان من المعروف عند العرب أن المرأة تصبر على البعد عن الرجل أربعة أشهر بلا حرج ولا مشقة وتتوق إليه بعد ذلك، حتى إن عمر أمر ألا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من أربعة أشهر بعد أن سأل أهل بيته.
وإن صح أن هذا أصل في المسألة تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام.
وهذا التحديد لعدة الوفاة يشمل الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض واليائسة.
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي فإذا أتممن عدتهن وانتهت مدة التربص والانتظار فلا إثم عليكم أيها المسلمون أن تفعل المرأة ما كان محظورا عليها قبل ذلك من التزين والتعرض للخطاب والخروج من المنزل على الوجه المعروف شرعا وعرفا.
فإن فعلن شيئا من ذلك قبل انقضاء الأجل قد أتين بمنكر فيجب على أوليائهن وخيار المسلمين أن يمنعوهن، فإن لم يستطيعوا ذلك استعانوا بالحاكم لإزالة هذا المنكر.
وقد بينت السنة والأخبار الصحيحة ما يحظر على المرأة أن تفعله، فقد روى الشيخان من حديث حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة حين توفى أبو سفيان ( والدها ) فدعت بطيب فيه صفرة خلوق وغيره، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها، ثم قالت والله ما بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر يقول :( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلى على زوج أربعة أشهر وعشرا ).
وقالت زينب : سمعت أمي أم سلمة تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : يا رسول الله، إن ابنتي توفى زوجها وقد اشتكت عينها، أفأنكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لا ) مرتين أو ثلاثا – كل ذلك يقول ( لا ) ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشرا.
وقد كانت المرأة في الجاهلية تحد على زوجها شر حداد وأقبحه، فكانت تمكث سنة كاملة لا تمس طيبا ولا زينة، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، ثم تخرج بعد ذلك، وكان لهم في ذلك عادات سخيفة وخرافات شائنة.
إلى أن جاء الإسلام فأصلح من ذلك، فجعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه، ولم يحرم فيها إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدي الزواج، وما منع النظافة ولا الجلوس في كل مكان في البيت مع النساء والمحارم من الرجال، والكحل الذي منعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو كحل الزينة لا كحل التداوي بدليل حديث الموطأ عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار ).
والمسلمات اليوم لا يسرن على طريق واحدة في الحداد، فمنهن من يغلون في الحداد ويغرقن في النوح والندب والخروج من مألوف العادات في المعيشة، حتى يزدن على ما كان عليه نساء الجاهلية، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع، بل ربما حددن على الولد السنة والسنتين، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين.
فالخير كل الخير للمسلمين أن يصلحوا هذه العادات الرديئة في الحداد، إذ لا فائدة فيها إلا إفناء المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش والماعون، وفساد آداب المعاشرة والشقاء في أحوال المعيشة، وما ينجم عن ذلك من الأمراض، ولا سيما لدى ضعفاء الأمزجة.
ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعودة إلى أحكام الشرع من الحداد ثلاثة أيام على القريب وأربعة أشهر وعشرا على الزوج، وجعل الحداد مقصورا على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من المنزل إلا لضرورة.
﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ فهو محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، فإذا جعلتم نسائكم تسير على نهج الشرع وحدوده صلحت أحوالكم، وسعدتم في دنياكم، وأحسن الله جزاءكم في أخراكم، وإن أسأتم السيرة وحدتم عن السنن السوي أخذكم أخذ عزيز مقتدر.
﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ﴾
تفسير المفردات :
والتعريض في الكلام أن تفهم المخاطب ما تريد بضرب من الإشارة والتلويح بدون تصريح، والخطبة ﴿ بكسر الخاء ﴾ هي طلب الرجل المرأة للزواج بالوسائل المعروفة بين الناس، والإكنان في النفس هو ما يضمره مريد الزواج في نفسه ويعزم عليه من التزوج بالمرأة بعد انقضاء العدة، والقول المعروف ما لا يستحيا منه في المهاجرة كذكر حسن المعاشرة وسعة الصدر للزوجات إلى نحو ذلك.
وعزم الشيء وعزم عليه واعتزمه : إذا صمم على تنفيذه، والكتاب بمعنى المكتوب أي المفروض، وأجله : أي نهايته.
سورة البقرة
مدنية إلا آية إحدى وثمانين ومائتين، فقد نزلت بمنى في حجة الوداع، وهي آخر القرآن نزولا على ما قيل : وغالب السورة نزل أول الهجرة، وهي أطول سور القرآن، كما أن أقصرها سورة الكوثر، وأطول آية في القرآن هي آية الدين ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ﴾ الخ، وأقصرها قوله والضحى، وقوله والفجر.
الإيضاح :
أي ولا إثم ولا حرج على الرجل أن يعرض للمرأة ويلوح لها في أثناء عدة الزوج، أو عدة الطلاق البائن بأمر الزواج، لا في أثناء عدة الطلاق الرجعي، لأنها لا تزال في عصمة زوجها.
وللناس في كل عصر كنايات يستعملونها في مثل هذا، كأن يقول : إني أحب امرأة من صفتها كيت وكيت، أو يقول وددت لو أن الله وفقني لامرأة صالحة مثلك أو يقول : إني حسن الخلق، كثير الإنفاق، جميل العشرة، محسن إلى النساء، إلى نحو ذلك.
كذلك لا حرج عليه فيما يكتمه في نفسه ويعزم عليه من الزواج بها بعد انتهاء أجل العدة، لأن مثل هذا ما يتعسر الاحتراز منه، ومن ثم ذكره الله تعالى على وجه الترخيص بقوله :
﴿ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ﴾ في أنفسكم ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن أن تبوحوا لهن بما انطوت عليه جوانحكم، ومن ثم رخص لكم في التعريض دون التصريح، فعليكم أن تقفوا عند حد الرخصة ولا تتجاوزوها.
﴿ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا ﴾ أي ولكن لا تواعدوهن على الزواج في السر فإن المواعدة على هذه الحال مدرجة للفتنة، ومظنة للقيل والقال، بخلاف التعريض فإنه يكون على ملأ من الناس، فلا عار فيه ولا عيب، ولا يكون وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه.
وذهب جمهرة العلماء إلى أن السر هنا يراد به النكاح، أي لا تتعدوا معهن وعدا صريحا على التزوج بهن.
﴿ إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ﴾ أي لا تواعدوهن بالمستهجن، ولكن واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في الجهر، كذكر حسن العشرة وسعة الصدر للزوجات إلى نحو ذلك.
والخلاصة – إنه لا يجوز أن يتحدثوا مع النساء المعتدات عدة الوفاة في أمر الزواج سرا، أو يتواعدوا معهن عليه، ولكن رخص لهم في التعريض الذي لا ينكر الناس مثله على مسمع منهن، ولا يعدونه خارجا من الاحتشام معهن.
وفائدة ذلك – أن يكون تمهيدا لهن، حتى إذا أتمت إحداهن العدة كانت عالمة بمن يرغب فيها، فإذا سبق المفضول ردته إلى أن يأتي الأفضل.
﴿ وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ أي ولا تصمموا تصميما جازما على الارتباط الشرعي مع معتدة الوفاة حتى تنتهي عدتها.
والخلاصة – إن التزوج بالمرأة في العدة محرم قطعا، بل الخطبة فيها محرمة، والعقد فيها باطل بإجماع المسلمين.
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ﴾ أي واعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم على ما لا يجوز، فاحذروا أن تعزموا على ما حظر عليكم من قول أو فعل.
وقد جاء هذا التحذير عقب ذكر الأحكام المتقدمة على سنن القرآن من قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا، ليكون آكدا في المحافظة عليها والعناية بها.
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ أي واعلموا أن الإنسان إذا تعدى حدود الله وأراد الرجوع إليه بالتوبة يغفر له، وهو الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل عباده ليصلحوا بصالح أعمالهم ما أفسدوا بما سبق من زلاتهم، فعليكم أن تجتنبوا أسباب العقوبة، وتعملوا بما أمرتم به، وتغتنموا زمان الحياة القصيرة حتى لا تأسوا على ما فاتكم.
﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( ٢٣٦ ) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٣٧ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الجناح هنا التبعة ( المسئولية ) كالتزام بمهر وغيره، والمسيس : اللمس باليد من غير حائل، ويراد به لسان الشرع ما يراد بالمماسة والملامسة والمباشرة وهو غشيان المرأة، والفريضة : المهر، وفرضها : تسميتها، والمتعة والمتاع ما ينتفع به مع سرعة انقضائه ومن ثم يسمى التلذذ بالشيء تمتعا لسرعة انقطاعه، وأوسع الرجل إذا صار ذا سعة في المال وبسطة وغنى، وأقتر : إذا قل ماله وافتقر، وأقتر على عياله وقتر إذا ضيق عليهم في النفقة، والقدر ( بفتح الدال وسكونها ) قدر الإمكان والطاقة، ومتاعا : أي حقا ثابتا واجبا، والمعروف : ما يتعارفه الناس بينهم ويليق بهم بحسب اختلاف أصنافهم ومعايشهم وبيئاتهم، والمحسنون : هم اللذين يحسنون في معاملة المطلقات، والذي بيده عقدة النكاح هو الزوج المالك لعقد النكاح وحله.
الإيضاح :
﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ أي لا يلزمكم شيء من المهر وغيره عند طلاقكم للنساء قبل الدخول بهن إلا إذا سميتم لهن مهر ا، فإن حصل المساس فعليه تمام المسمى في حال التسمية، ومهر مثلها لم يسم لها مهرا، وفي حال الطلاق قبل المسيس مع الفرض، عليه نصف ما فرض وسمى.
﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ﴾ أي وأعطوا المطلقات شيئا من مالكم يتمتعن به بحسب حالكم في الثروة والغنى، ولم يحدده الله تعالى، بل وكله إلى اجتهاد المرء لأنه أدرى بثروته، إلا أن الشارع حبب في بسط الكف والسخاء للمطلقة تطييبا لنفسها وعوضا عما لحقها من الضرر.
﴿ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي وجعل هذه المتعة حقا واجبا على من يريد الإحسان في معاملة المرأة بما يتعارفه الناس بينهم.
وهذه المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول ولم يسم لها مهر وهي المذكورة في الآية، ومستحبة لسائر المطلقات.
والحكمة في شرعها أن في الطلاق قبل الدخول امتهانا وسوء سمعة لها، لأن فيه إيهاما للناس بأن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه شيء من أخلاقها، فإذا هو متعها متاعا حسنا تزول هذه الغضاضة، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قبله لا من قبلها ولا علة فيها، فتحتفظ بما كان لها من صيت وشهرة طيبة، ويتسامع الناس ويقولون إن فلانا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر وهو معترف بفضلها، لا أنه رأى فيها عيبا، أو رابه من أمرها شيء، فيكون ذلك كالمرهم لجرح القلب، وجبر وحشة الطلاق.
قد أثر عن الحسن السبط أنه متع إحدى زوجاته بعشرة آلاف درهم فقالت : متاع قليل من حبيب مفارق.
﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾
تفسير المفردات :
الفريضة : المهر، وفرضها : تسميتها.
عفوه : تركه ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها كاملا تكرما منه، والفضل : المودة والصلة.
الإيضاح :
أي وإن حصل الطلاق قبل المسيس وقد سمى لهن مهر فلهن نصف المسمى المفروض، ويرجع إلى الزوج النصف الثاني.
وهذا جار على ما كان يعمله الناس من سوق المهر كله للمرأة حين العقد، لا على ما استحدثوه من تأخير ثلث المهر أو أكثر منه أو أقل لرغبتهم في حب الظهور والتفاخر بكثرة المهر مع اجتناب إرهاق الزوج بدفعه كله.
وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول وجب المهر كله للزوجة إذا مات الزوج، أو لوارثها إذا ماتت هي، لأن الموت كالدخول بها يوجب المهر كله، إن كان هناك مهر مسمى، أو مهر مثلها إن لم يسم لها مهر.
﴿ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ ﴾ أي إلا أن يعفو المطلقات عن أخذ النصف كله أو بعضه، فتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته، ولا استمتع بي، فكيف آخذ منه شيئا ؟ فيسقط حينئذ ما وجب عليه، وحق الإسقاط إنما يكون للمرأة البالغة الرشيدة.
﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ أي أو يعفو الزوج ويترك ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها تكرما منه، وحينئذ تأخذ الصداق كاملا، النصف الواجب عليه، والنصف الساقط العائد إليه بالتصنيف، وعبر بقوله : بيده عقدة النكاح للتنبيه إلى أن الذي ربط المرأة وأمسك العقدة بيده، لا يليق به أن يحلها ويدعها بدون شيء، بل يستحب له العفو والسماح بكل ما كان قد أعطى، وإن كان الواجب المحتم نصفه، وإلى هذا أشار بقوله :
﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ أي إن من عفا من الرجال والنساء فهو المتقي، فأحيانا تكون المصلحة في عفو الرجل عن الصنف الآخر، وأحيانا في عفو المرأة عن النصف الواجب لها، لأن الطلاق قد يكون من قبله بلا سبب داع منها، وقد يكون بالعكس.
والمراد بالتقوى هنا تقوى الله المطلوبة في كل أمر، إذ العفو أكثر ثوابا وأجرا، أو المراد تقوى الريبة بما يترتب على الطلاق من التباغض، إذ السماح بالمال يذهب هذا الأثر ويعيد الصفاء إلى القلوب، وهذا ما بينه سبحانه بقوله :
﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ أي ينبغي لمن تزوج من أسرة ثم طلق، ألا ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم، ولكن المسلمين نسوا دينهم أو تناسوه، وجروا على عكس هذا، فصارت روابط الصهر وسائر أنواع القرابة واهنة ضعيفة، وإنك لو رأيت ما يجري بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات وما يكيد به بعضهم لبعض، لوجدت أنهم تجافوا أوامر شريعتهم وجعلوا إلههم هواهم، فالرجال يتركون نساءهم بلا نفقة حتى يضطررن أحيانا إلى بيع أعراضهن، أو يذرونهن كالمعلقات، فلا هم يمسكونهن بمعروف ولا يسرحونهن بإحسان حتى يفتدين منهم بالمال.
والمطلقات المعتدات بالأقراء يزعمن أن الحيض قد حبس عنهن، فتمضي السنة أو أكثر منها ولا تنقضي عدتهن بزعمهن، وما الغرض من هذا إلا إلزام المطلق النفقة طول هذه المدة انتقاما منه، ولكن العمل الآن في المحاكم المصرية على أن نفقة العدة لا تزيد على سنة قمرية ( ٣٥٤ يوما ).
وإذا حدث طلاق – كان بين أسرتي الزوجين حرب عوان ونصبت كل منهما للأخرى الحبائل والأشراك، لتوقعها في مهاوي الهلاك، فأين هؤلاء من كتاب الله وشرعه، إنهم ليسوا منه في شيء، فقد عميت أبصارهم وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
﴿ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ ختم سبحانه الآية بالتذكير باطلاعه تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا، ترغيبا في المحاسنة والفضل، وترهيبا لأهل المخاشنة والجهل، لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذي الإيمان وتبعث على الامتثال.
﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ( ٢٣٨ ) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ( ٢٣٩ ) ﴾.
تفسير المفردات :
حافظ على الشيء وداوم عليه وواظب عليه : فعله المرة بعد المرة، وحفظ الصلاة المرة بعد الأخرى الإتيان بها كاملة الشرائط والأركان بالخشوع والخضوع القلبي، والصلوات : هي الخمس المعروفة بالبيان العملي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي أجمع عليها المسلمون من جميع الفرق، حتى إن من جحدها أو شيئا منها لا يعد مسلما، وقد استنبطوا عددها من آيات أخرى كقوله تعالى :﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ﴾ والصلاة الوسطى : هي إحدى هذه الخمس، والوسطى : إما بمعنى المتوسطة بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان، وإما بمعنى الفضلى، وبكل من المعنيين قال جماعة من العلماء، ومن ثم اختلفوا أي الصلوات أفضل ؟ وأيتها المتوسطة ؟ وأرجح الأقوال أنها صلاة العصر لما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن علي مرفوعا ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) يعني يوم الأحزاب، وروى أحمد والشيخان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في هذا اليوم :( ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ) ولم يذكر العصر، وفي رواية عن علي عن عبد الله بن أحمد في سند أبيه : كنا نعدها الفجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( هي العصر ).
والقنوت : الانصراف عن شؤون الدنيا إلى مناجاة الله والتوجه إليه لذكره ودعائه.
المعنى الجملي :
تقدم هاتين الآيتين آيات في الأحكام بعضها في العبادات وبعضها في المعاملات وكان آخرها ما بينه من السبيل القويم في معاملة الأزواج، وقد جرت سنة القرآن أن يأتي عقب الحكم والأحكام بالأمر بتقوى الله، والتذكير بعلمه بحال عباده، وما أعد لهم من جزاء العمل، حتى يقوى الوازع الديني في النفوس ويحفزها على الإخلاص فيه.
لكن النفوس قد تغفل عن هذا التذكير بانهماكها في مشاغل الحياة، أو في متعها باللذات، فتتنكب عن جادة الهدى، وتترفق بها السبل، ومن ثم كانت في حاجة إلى مذكر يرقى بها إلى العالم الروحي، ويخلعها من عالم الحس، ويوجهها إلى مراقبة من برأها وفطرها من تلك الأرجاس والأدران، وتترفع عن البغي والعدوان، وتميل إلى العدل والإحسان، ذلك المذكر هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتنفي الجزع والهلع عند المصايب، وتعلم البخيل الكرم والجود، لهذا أردف هذه الأحكام بطلب الصلاة والمحافظة عليها وأدائها على وجهها بإخبات وقنوت لتحدث في النفس آثارها
الإيضاح :
﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى ﴾ أي داوموا على الصلوات جميعا لما فيها من مناجاة الله والتوجه إليه بالدعاء له والثناء عليه كما جاء في الحديث :( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
وإذا أديت على الوجه الحق وأقيمت كما أمر به الدين نهت عن الفحشاء والمنكر، وحفظت النفوس من الشرور والآثام، ولا سيما صلاة العصر حين ينتهي الإنسان من أعمال الدنيا فيضرع إلى الله أن وفقه لخدمة نفسه وعياله وأهله ووطنه، ويشكره على ذلك حق الشكر.
﴿ وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾ أي قوموا خاشعين لله مستشعرين هيبته وعظمته، ولا تكون الصلاة كاملة تتحقق فائدتها التي ذكرت في الكتاب الكريم إلا بالتفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب وخشوعه.
روى أحمد والشيخان من حديث زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت ( وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام – لأن حديث الناس مناف له، فيلزم من القنوت كله.
والمحافظة على الصلوات آية الإيمان الكبرى والشرط في صحة الإسلام والأخوة في الدين وحفظ الحقوق.
روى أحمد وأصحاب السنن من حديث، بريدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة، فمن تركها فقد كفر.
وروى أحمد والطبراني من حديث بن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أنه ذكر الصلاة يوما فقال : من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف ).
وروى الترمذي قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
أرأيت بعد هذا كيف أعرض جمهرة المسلمين عن الصلاة، وكثر التاركون الغافلون عنها، وقل عدد المصلين، أرأيت أن أحدهم لتتلى عليه الآيات والأحاديث فيصر مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا، اتكالا على شفاعة الشافعين، وغرورا بالانتساب إلى الإسلام، واعتقادا بأن ذلك كاف في نيل السعادة في الآخرة، ولهم من مشايخ الطرق وغيرهم ما يمدهم في غيهم، ويستدرجهم في غرورهم.
وقد كان من أثر ترك الصلاة والتهاون في شؤون الدين في المدن والقرى، أن فشت الفواحش والمنكرات، وكثرت حانات الخمور، ومواخر الفجور والرقص، وبيوت القمار، وتكالب الناس على جمع المال، لا يبالون أمن حلال جاء أم من حرام، وانقبضت الأيدي عن فعل الخير، وزال التراحم والتعاطف، وقلت الثقة بين بعض الناس وبعض، واعتدى بعض الزراع على بعض بقلع المزروعات قبل النضج، وبالسرقة بعده، وبقتل الماشية بالسم أو بالسلاح، وتزعزع الأمن على النفس والمال ؛ ولو حافظوا على الصلوات كما أمر الله لانتهوا عن كل هذا بالوازع النفسي، فالصلاة حارس وديدبان يمنع من عمل السوء.
فالمحافظ عليها لا يرضى أن يكون من رواد بيوت القمار ومحال اللهو والفسوق، ولا يمنع الماعون، بل يبذل معونته لمن يراه مستحقا لها، ولا يخالف موعدا، ولا ينتقص حقا لغيره، ولا يضيع حقوق أهله وعياله، ولا حقوق أقاربه وجيرانه، ولا يجزع من النوائب، ولا تفل عزمه المصايب، ولا تبطره نعمة، ولا تقطع رجاءه نقمة.
والمحافظ عليها هو الذي يأمن شره، ويرجى خيره ولا غرو فللصلاة يد في الآداب الكاملة، والأخلاق السامية، والاستقامة في السر والعلن.
﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ﴾
تفسير المفردات :
والرجال : واحدهم راجل، وهو الماشي، والركبان : واحدهم راكب.
المعنى الجملي :
تقدم هاتين الآيتين آيات في الأحكام بعضها في العبادات وبعضها في المعاملات وكان آخرها ما بينه من السبيل القويم في معاملة الأزواج، وقد جرت سنة القرآن أن يأتي عقب الحكم والأحكام بالأمر بتقوى الله، والتذكير بعلمه بحال عباده، وما أعد لهم من جزاء العمل، حتى يقوى الوازع الديني في النفوس ويحفزها على الإخلاص فيه.
لكن النفوس قد تغفل عن هذا التذكير بانهماكها في مشاغل الحياة، أو في متعها باللذات، فتتنكب عن جادة الهدى، وتترفق بها السبل، ومن ثم كانت في حاجة إلى مذكر يرقى بها إلى العالم الروحي، ويخلعها من عالم الحس، ويوجهها إلى مراقبة من برأها وفطرها من تلك الأرجاس والأدران، وتترفع عن البغي والعدوان، وتميل إلى العدل والإحسان، ذلك المذكر هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتنفي الجزع والهلع عند المصايب، وتعلم البخيل الكرم والجود، لهذا أردف هذه الأحكام بطلب الصلاة والمحافظة عليها وأدائها على وجهها بإخبات وقنوت لتحدث في النفس آثارها
الإيضاح :
أي فإن خفتم أي ضرر من قيامكم قانتين لله، فصلوا كيف ما تيسر لكم راجلين أو راكبين.
وفي هذا تأكيد للمحافظة على الصلاة وبيان أنها لا تسقط بالحال، إذ حال الخوف على النفس أو المال أو العرض مظنة للعذر في تركها، كما يكون السفر عذرا في ترك الصيام.
والسبب في عدم سقوطها عن المكلف في كل حال، أنها عمل مذكر بسلطان الله المستولي علينا وعلى العالم كله، وما الأعمال الظاهرة إلا مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات، إذ من شأن الإنسان أنه إذا أراد عملا قلبيا يحتاج إلى جمع الفكر وحضور القلب أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل.
فإذا تعذر بعض الأعمال البدنية فلا تسقط العادة القلبية وهي الإقبال على الله مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر المستطاع، ويكون ذلك حين قتال العدو أو الفرار من أسد فيصلي المكلف راجلا أو راكبا إن حان وقت الصلاة لا يمنعه من ذلك الفر والطعن والضرب، ويأتي من أقوال الصلاة وأفعالها بما يستطاع من ركوع وسجود ولا يلتزم التوجه للقبلة.
وستأتي صلاة الخوف كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة في سورة النساء.
﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي فإذا زال الخوف وأمنتم فاشكروه على الأمن واذكروه بالعبادة، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع على لسان نبيه، كيف تصلون حين الأمن وحين الخوف.
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٤٠ ) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( ٢٤١ ) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٢٤٢ ) ﴾.
تفسير المفردات.
يذرون : أي يتركون زوجات بعد وفاتهم، وصية لأزواجهم : أي وصية من الله لأزواجهم، متاعا إلى الحول : أي جعل الله لهن ذلك متاعا مدة الحول، غير إخراج : أي لهن ذلك المتاع وهن مقيمات في البيت غير مخرجات منه، ولا ممنوعات من السكنى فيه.
المعنى الجملي :
هذه الآيات جاءت متممة لأحكام الزواج، وقد توسط بينها بالمحافظة على الصلاة ؛ لأنها عماد الدين، فجدير بالمسلمين أن يعنوا بهذا أشد العناية، إذ من حافظ عليها جعل نصب عينيه إقامة حدود الدين، والعمل بالشريعة كما قال :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾
الإيضاح :
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ أي والذين يتوفون منكم ويتركون زوجات بعدهم، فليوصوا لهن بوصية وليمتعوهن متاعا إلى آخر الحول غير مخرجات من بيوتهن، فلا يمنعن السكنى فيها.
والخلاصة : إن على الأزواج أن يوصوا لهن بشيء من المال ينفقنه مدة الحول، ولا يخرجن من البيوت مدة سنة كاملة، تمر فيها الفصول الأربعة التي يتذكرن أزواجهن فيها.
وهذا الأمر أمر ندب واستحسان لا أمر وجوب وإلزام تهاون فيه الناس كما تهاونوا في كثير من المندوبات.
﴿ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ﴾ أي فإن خرجن من تلقاء أنفسهم فلا إثم عليكم أيها المخاطبون بالوصية فيما فعلن في أنفسهم من المعروف شرعا وعادة كالتعرض للخطاب بعد العدة والتزوج، وإذ لا ولاية لكم عليهن، فهن حرائر لا يمنعهن إلا من المنكر الذي يمنع منه كل مكلف.
﴿ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي والله عزيز غالب على أمره يعاقب من خالفه، حكيم يراعي في أحكامه مصالح عباده.
ومن عزته وقدرته أن يحول الأمم من عادات ضارة إلى عادات نافعة تقتضيها المصلحة، كتحويل العرب من عادتهم في العدة والحداد، إذ كانوا يجعلون المرأة أسيرة ذليلة في عقر دارها سنة كاملة – إلى ما هو خير من ذلك وهو إكرامها في بيت زوجها بين أهله وعدم الحجر على حريتها إذا أرادت الخروج منه ما دامت في حظيرة الشرع وآدابه.
﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾
المعنى الجملي :
هذه الآيات جاءت متممة لأحكام الزواج، وقد توسط بينها بالمحافظة على الصلاة ؛ لأنها عماد الدين، فجدير بالمسلمين أن يعنوا بهذا أشد العناية، إذ من حافظ عليها جعل نصب عينيه إقامة حدود الدين، والعمل بالشريعة كما قال :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾
الإيضاح :
أي وشرعت متعة لكل مطلقة على سبيل الوجوب إذا كانت غير مدخول بها، وعلى سبيل الاستحسان لغيرها، والذي يفعل ذلك من أشرب قلبه تقوى الله والخوف من عقابه، فهو الذي يجود بالمال تطييبا للقلوب وإزالة للضغن.
والخلاصة – إن المطلقات أصناف أربعة :
مطلقة مدخول بها وقد فرض لها مهر، وهذه لها كل المفروض، وهي التي عناها الله سبحانه بقوله :﴿ ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ﴾.
مطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها، وهذه يجب لها المتعة بحسب يسار الزوج ولا مهر لها، وهي التي عناها الله بقوله :﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ﴾ إلى آخر الآية، ولا عدة لها.
مطلقة مفروض لها وغير مدخول بها ولها نصف المهر المفروض ولا عدة لها، وفيها نزول قوله :﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن.... ﴾.
مطلقة مدخول بها غير مفروض لها، ولها مهر مثلها من قريباتها وأسرتها.
﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾
المعنى الجملي :
هذه الآيات جاءت متممة لأحكام الزواج، وقد توسط بينها بالمحافظة على الصلاة ؛ لأنها عماد الدين، فجدير بالمسلمين أن يعنوا بهذا أشد العناية، إذ من حافظ عليها جعل نصب عينيه إقامة حدود الدين، والعمل بالشريعة كما قال :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾
الإيضاح :
المراد من البيان ذكر الحكم وفائدته، ثم قرنه بالموعظة الحسنة، وقوله تعقلون : أي تتدبرون الأشياء وتذعنون لما أودع فيها من الحكم والمصالح إذعانا يكون له أثر في الأعمال.
والمعنى – إن الله جلت قدرته، مضت سنته أن يبين لعباده أحكام دينهم على هذا النحو من البيان الذي تقرن فيه الأحكام بعللها وأسبابها وبيان فوائدها، ولا يعدهم بذلك لكمال العقل، حتى يتحروا الاستفادة من كل عمل، ولا يكونوا على بصيرة من دينهم، عالمين بانطباق أحكامه على مصالحهم، فدينهم هو دين العقل، وأحكامه تنطبق على مصالح البشر في كل زمان ومكان.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ( ٢٤٣ ) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٤٤ ) ﴾.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه الأحكام الماضية وقرنها بعللها وأسبابها، وفوائدها ومنافعها، ووجه أنظار المخاطبين عقب كل منها إلى الخوف والخشية من الرب والخالق لكل شي، العالم بكل شيء – قفى هذا بذكر بعض الأخبار عمن سلف من الأمم للعبرة والعظة في سياق واقعة مضت تنويعا في التذكير والبيان.
والأحكام السالفة تتعلق بالأفراد في أنفسهم وفي بيوتهم، والحكمان الآتيان يتعلقان بالأمم من ناحية الدفاع عن استقلالها وحفظ كيانها بمدافعة المعتدين عليها، وبذل المال والروح في توفير منافعها، وجلب الخير لها. وقد جرت العادة بأن التذكير بمنافع الشخص ومصالحه كافية في العمل بما يوعظ به، إذ أنها وفق ما يهوى، فلها في النفس عون أيما عون، أما المصالح العامة فالرغبة فيها قليلة، فتحتاج إلى العناية في الدعوة إليها وتكرار الطلب لها، ومن ثم جاءت هذه الآية على هذا النسق الرائع، والأسلوب الخلاب، لتدعو المخاطبين إلى تلبية الدعوة والقيام بما يجب من النصرة، وتكون المصلحة العامة صنو المنفعة الخاصة، وما يحفظ بقاء الجماعة عدل ما يحفظ نظام الفرد والأسرة
الإيضاح :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ الخطاب في نحو هذا يوجه إلى كل من بلغه وسمعه، والاستفهام للتعجيب والاعتبار، والرؤية بمعنى العلم، وهذا أسلوب جار مجرى المثل يخاطب به من لم ير ومن لم يعلم، ويراد معنى – ألم ينته علمك إلى كذا، والمقصد هنا – ألم يصل إلى علمك حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وحالهم بلغت من العجب مبلغا لا ينبغي لمثلها أن تجهل – إذ هم قوم بلغوا حدا من الكثرة التي تدعوا إلى الشجاعة واطمئنان النفس والدفاع عن الحمى، لا إلا الهلع والجزع وخور العزيمة والهرب من الوطن خوفا من الموت بمهاجمة الأعداء، هذا هو الخوف والحذر الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء، فيخيل إليهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلى وسيلة تدني إليه، فهو يمكن العدو من الرقاب، ويحفزه إلى الفتك بهم، واستهانة أمرهم كما قال المتنبي :
يرى الجبناء أن الجبن حرم وتلك خديعة الطبع اللئيم
والكتاب الكريم لا يبين لنا عدد هؤلاء القوم ولا أمتهم ولا بلدهم، ولا علم أن في ذلك خيرا لنا للتفضل علينا ببيانه في محكم كتابه فنكتفي بما فيه، ولا ندخل في تفاصيل ذكرت في إسرائيليات هي إلى الأوهام والخرافات أقرب منها إلى الحقائق التي تصلح للعبرة، وتكون وسيلة إلى الموعظة.
ويرى جمع من المفسرين منهم ابن كثير بسنده عن ابن جرير وعطاء – أن هذا مثل لا قصة واقعة، ضرب للعظة والتأمل فيما ينطوي عليها، ليكون أفعل في النفس وأدعى إلى الزجر.
﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾ أي خرجوا هاربين فأماتهم الله، بأن مكن منهم العدو ففتك بهم، وقتل أكثرهم وفرق شملهم، وأصبح من بقي منهم خاضعا للغالب، منضويا تحت لوائه، يصرف بحسب إرادته ولا وجود له في نفسه ثم أحياهم بعود الاستقلال إليهم، بعد أن جمعوا كلمتهم، ووثقوا رباطهم، واعتزوا وكثروا، وخرجوا من ذل العبودية إلى رياض الحرية، وكان ما أصابهم تأدبا لهم ومطهرا لنفوسهم مما عرض لهم من ذميم الأخلاق ورذيل السجايا.
وقد جرت سنة الله في خلقه أن تموت الأمم باحتمالها الظلم، وقبولها الجور والعسف، حتى إذا أفاقت من سباتها وتنبهت من غفلتها، قام بعض أفرادها بتدارك ما فات، والاستعداد لما يرقي شأنها، وتبذل في ذلك كل ما ارتخص وغلا، وتتلمس كل الوسائل التي تحقق لها ما تصبوا إليه، ولا يصدها عن ذلك ما يحول دونها من العوائق حتى تفوز ببغيتها وتنال أمنيتها، ومن ثم أثر عن علي كرم الله وجهه أنه قال :( بقيت السيف هي الباقية )، أي هي التي يحيى بها أولئك الميتون.
وعلى هذا الموت والحياة واقعان على القوم في مجموعهم على ما عهد في أسلوب القرآن، إذ خاطب بني إسرائيل في زمن التنزيل بما كان من آباءهم الأولين لمثل قوله :﴿ وإذ نجيناكم من آل فرعون ﴾ وقوله :﴿ ثم بعثناكم من بعد موتكم ﴾ وسر هذا التقرير وحدة الأمة وتكافلها، وتأثير سيرة بعض أفرادها في بعض حتى كأنها شخص واحد، وكل جماعة فيها كعضو فيه، وهذا استعمال معهود في كلام العرب يقولون : هجمنا على بني فلان حتى أفنيناهم، ثم أجمعوا أمرهم وكروا علينا، ولا شك أن الذي كر إنما هو من بقي منهم.
وإطلاق الحياة على حال الأمة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم، والموت على مقابلها، معهود في القرآن كقوله :
﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله ولرسوله إذا دعاكم لما يحييكم ﴾ وقوله :﴿ أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ﴾.
﴿ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ﴾ جميعا بما جعل في موتهم من الحياة، فقد جعل المصايب محيية للهمم، كما جعل الجبن والهلع وغيرهما من مفاسد الأخلاق سببا في ضعف الأمم، وجعل ضعفها مغريا بالاعتداء عليها، وجعل هذا الاعتداء منبها لها إلى اليقظة بعد السبات العميق، حتى تحيى وتكون أمة عزيزة مرهوبة الجانب، قوية البطش والشوكة.
والخلاصة – إن إماتة الأمم إنما تكون بتسليط الأعداء عليها والتنكيل بها، وإحيائها يكون بإحياء نبتة من أبناءها تسترد ذلك المجد الضائع، والشرف المسلوب كالبنيان القديم الذي تقضي الضرورة لإزالته وإقامة بناء جديد تدعوا الحاجة إلى عمل مثله أو كالعضو الفاسد الذي يبتره الطبيب ليسلم الجسد كله.
﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ أي لا يقومون بحقوق هذه النعم، بل هم في غفلة من حكمة ربهم، فينبغي للمؤمنين أن يعتبروا بما نزل بغيرهم، ويستفيدوا من حوادث الكون، حتى إذا نزل بهم البلاء بما يقع منهم من التفريط، لا يقصروا في حماية أنفسهم، علما منهم بأن الحياة العزيزة لا تكون إلا بدفع المعتدي ومقاومة عدوانه، هذا خلاصة ما اختاره الأستاذ الإمام تفسيرا للآية.
واختار غيره أن الآية تشير إلى قوم بأعيانهم خرجوا من ديارهم، ورووا عن ابن عباس أن ملكا من ملوك بني إسرائيل استنفر عسكره للقتال فأبوا وقالوا : إن الأرض التي سنذهب إليها موبوءة، فدعنا حتى يزول الوباء، فأماتهم الله ثمانية أيام حتى انتفخوا، وعجز بنوا إسرائيل عن دفنهم لكثرتهم، فأحياهم الله وقد بقي منهم شيء من ذلك النتن وقالوا إن هذا الموت لم يكن كالموت الذي يكون وراءه الحياة للبعث والنشور وإنما هو نوع انقطاع لتعلق الروح بالجسد حيث لا يلحقه التغيير والفساد، وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد، حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بأنه موت حقيقي.
وقيل إنه من خوارق العادات فلا يجري على سنن الموت الطبيعية.
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه الأحكام الماضية وقرنها بعللها وأسبابها، وفوائدها ومنافعها، ووجه أنظار المخاطبين عقب كل منها إلى الخوف والخشية من الرب والخالق لكل شي، العالم بكل شيء – قفى هذا بذكر بعض الأخبار عمن سلف من الأمم للعبرة والعظة في سياق واقعة مضت تنويعا في التذكير والبيان.
والأحكام السالفة تتعلق بالأفراد في أنفسهم وفي بيوتهم، والحكمان الآتيان يتعلقان بالأمم من ناحية الدفاع عن استقلالها وحفظ كيانها بمدافعة المعتدين عليها، وبذل المال والروح في توفير منافعها، وجلب الخير لها. وقد جرت العادة بأن التذكير بمنافع الشخص ومصالحه كافية في العمل بما يوعظ به، إذ أنها وفق ما يهوى، فلها في النفس عون أيما عون، أما المصالح العامة فالرغبة فيها قليلة، فتحتاج إلى العناية في الدعوة إليها وتكرار الطلب لها، ومن ثم جاءت هذه الآية على هذا النسق الرائع، والأسلوب الخلاب، لتدعو المخاطبين إلى تلبية الدعوة والقيام بما يجب من النصرة، وتكون المصلحة العامة صنو المنفعة الخاصة، وما يحفظ بقاء الجماعة عدل ما يحفظ نظام الفرد والأسرة
الإيضاح :
القتال في سبيل الله هو قتال لإعلاء كلمة الحق، وتأمين الدعوة ونشر الدين، حتى لا يغلب أهله، ولا يصدهم صاد عن إقامة شعائرهم، وتلقين أوامره، والدفاع عن بلاد الإسلام إذا هم الطامع في اغتصابها والتمتع بخيراتها، وإرادة إذلالها، والعدوان على استقلالها.
فهذا أمر لنا بأن نتحلى بالشجاعة، ونلبس سرابيل القوة، ليخشى العدو بأسنا، ويرهب جانبنا، ونكون أعزاء ونحيا حياة سعيدة في دنيانا وأخرانا.
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ فعلينا أن نراقب أنفسنا فيما عسى أن نعتذر به عن التقصير عن امتثال الأمر بالقتال بنحو قولنا – ماذا نعمل، ليس لنا في الأمر شيء ﴿ ليس لها من دون الله كاشفة ﴾ إلى نحو ذلك من تعلات الجبناء التي لا يتقبلها الله وما هي إلا مراوغة، وفرارا من الاستعداد للدفاع ومقاتلة العدو، فالمتعلل بها مخادع لربه ولنفسه ولقومه.
فمن علم علما صحيحا أن الله سميع لما يقول، عليم بما يفعل، حاسب نفسه حتى يتجلى له من تقصيره ما يحمله على التشمير عن ساعد الجد لتدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت.
﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٢٤٥ ) ﴾.
المعنى الجملي :
بعد أن أمر سبحانه بالقتال في الآية السابقة دفاعا عن الحق، وكان ذلك يتوقف عن بذل المال، لتجهيز المقاتلة، والاستعداد للمدافعة، لا سيما بعد أن ارتقت الفنون العسكرية، واحتاجت إلى علوم وصناعات كثيرة – حث هنا على بذل المال في ما يعين عليه، ويعلي شأن الدين ويمنع عداوة المعتدين.
الإيضاح :
﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ حث سبحانه على الإنفاق في سبيل الله بهذا الأسلوب الذي يستفز النفوس ويبسط الأكف، إذ سماها قرضا لله، والله غني عن العالمين، لعلمه بأن داعي البذل في المصالح العامة ضعيف في نفوس أكثر الناس والرغبة فيه قليلة، فإنك لترى أن الغني يبذل فضل ماله لأفراد يعيش بينهم، إما لاتقاء شر حسده وإما لارتفاع مكانته في النفوس، وإما لجلب محبتهم إياه كما قال :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
ولا سيما إذا كان البذل لذوي القربى، فحظ النفس فيه أظهر، إذ يتعذر على الإنسان أن يكون ناعم البال بين أهل الضر والبؤس، وسعيدا بين الأشقياء والمعوزين.
أما البذل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته وحفظ حقوقه، فليس فيه شيء من حظوظ النفس التي تسهل عليه ما تحبه وهو المال، إلا إذا كان تبرعا جهريا يتولاه الحكام والملوك.
من قبل هذا احتاج الأمر إلى المبالغة في الترغيب، فإنك لا تقول : من ذا الذي يفعل كذا إلا في الأمر العظيم الذي يندر أن يقدم عليه أحد، لأنه عظيم أو شاق قل من يتصدى له كما جاء في قوله :﴿ من ذا الذي يعصمكم من الله ﴾ وقوله :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾.
والقرض الحسن هو ما حل محله ووافق المصلحة، لا ما قصد به الرياء والسمعة، ثم إن ما أنفق في المصالح العامة حسن وإن أريد به الشهرة، لكنه لا يدل على ثقة المنفق بربه، وابتغائه مرضاته، وعلى حبه للخير لذاته، فلا يكون له حظ من نفقته يقربه إلى ربه.
والخلاصة – إنه لا يكون القرض حسنا إلا إذا وضع موضعه، مع البصر بوجه الحاجة وحسن النية، ليكون فيه منفعة للمسلمين من الطريق الذي شرعه الإسلام.
﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ الأضعاف واحدها ضعف، وهو مثل الشيء في المقدار يزاد عليه، وقد عبر عن البذل في سبيله ابتغاء مرضاته بالقرض الحسن، وهذا يقتضي أنه لا يضيع منه شيء عند الله، ثم عبر ثانيا بالجزاء عليه أضعافا مضاعفة، زيادة في الترغيب والحث عليه.
وهذه الأضعاف الكثيرة التي جاء في بعض الآيات أنها تبلغ سبعمائة ضعف ( والمراد من ذلك ) تكون في الدنيا والآخرة.
ذلك أن المنفق لإعلاء كلمة الله، ولتعزيز الأمة، والدفاع عن الحق، إنما يدافع عن نفسه، ويحفظ حقوقها، فضعف الأمة وضياع حقوقها لا يكون إلا بما يقع على أفرادها من البلاء والعسف والظلم – إلى أن بذل الأغنياء لأموالهم، وقيامهم بفريضة التعاون، وكفالة الغني للفقير، وحماية القوي للضعيف – مما يوسع المرافق على الأمة ويوفر لها السعادة ويديم لأفرادها النعمة. ما بقوا على هذه السنة، واستقاموا على النهج القويم ثم هم بذلك يستحقون سعادة الآخرة ومضاعفة الثواب، ورضوان الله ﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾.
﴿ وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ يقبض أي يقتر ويضيق، ويبسط أي يوسع والله يقتر على بعض الناس لجهلهم بسنن الله في كسب المال، وعدم نهوضهم للسعي في مناكب الأرض بحسب الأوضاع التي شرعها الله لعباده في هذه الحياة، ويبسط الرزق لآخرين، لأنهم ساروا على النواميس التي تقتضيها طبيعة الحياة، واتخذوا الأسباب التي توصل من سلكها إلى نتائجها المحتومة كما أرشدت إلى ذلك الفطرة وسنة الوجود.
ولو شاء أن يغني فقيرا، أو يفقر غنيا لفعل، فإن الأمر كله له، وبيده القبض والبسط، فحض الأغنياء على مؤازرة الفقراء لم يكن من حاجة له، أو عجز منه بل هدايته منه لعباده، ليشكروه على تلك النعم فيزيدهم منها كما قال :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾ وبذلك يبلغ النوع الإنساني كماله الاجتماعي الذي أعده له بحكمته حتى يحقق معنى الخلافة في الأرض ويعمرها على أحسن الوجوه، وأفضل الحالات.
ثم بين مصير الخلق ومجازاتهم على أعمالهم من خير أو شر، وفيه وعد ووعيد فقال :
﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ والرجوع إلى الله ضربان :
رجوع في هذه الحياة بالسير على سننه الحكيمة، ونظمه في الخليقة، بأن يعرف المرء أن الغنى يكون بعمل العامل وتوفيق الله وتسخيره، وأن البذل من فضل الله يأتي بالمنافع الخاصة للباذل، وبالمنافع العامة لقومه الذين يعتز بهم ويسعد بسعادتهم، وأن تركه يعقبه مفاسد ومضار عامة وخاصة للأمم والأفراد، وأنه لا يستقل بعمله مهما أوتي من رجاحة عقل، بل له حاجة إلى معونة الله وتوفيقه بتسخير الأسباب له.
رجوع في الآخرة حين تظهر للمرء نتائج أعماله وآثار أفعاله ﴿ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٢٤٦ ) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٤٧ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الملأ : القوم يجتمعون للتشاور، ولا واحد له، وسموا بذلك لأنهم يملئون العيون رواء، والقلوب هيبة والنبي هو شمويل معرب صمويل أو صموئيل، عسى كلمة تفيد توقع الحصول وقرب تحققه، كتب : أي فرض.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات التي قبل هذه شرع القتال لحماية الحق. وبذل المال في سبيل الله لعزة الأمة ومنعتها، وأن من ينحرف عن ذلك يتردى في مهاوي الردى كما وقع لمن خرجوا من ديارهم فارين من عدوهم على كثرة عددهم.
هنا بين قصة قوم من بني إسرائيل أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن واستحقوا الخزي والنكال، لكن جاءت هذه القصة مفصلة تبين ما في القصة الأولى المجملة، فإن الأولى تصرح بأن موتهم كان بذهاب استقلالهم، وأنه نتيجة لفرارهم وضعف عزيمتهم، لكن لم يذكر سبب إحيائهم وإن كان قد فهم مما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال أن هذا هو سنة الله في إحياء الأمم.
أما هذه القصة فقد فصلت احتياج هؤلاء القوم إلى القتال لمدافعة العادين عليهم، واسترجاع ديارهم من أيديهم، فبذلوا الوسع في الاستعداد للدفاع، لكن الضعف قد بلغ منهم كل مبلغ، فتولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا منهم، ألهمهم الله رشدهم فاعتبروا وانتصروا.
وقد جاء قصص القرآن للعبرة والموعظة كما قال :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة للأولي الألباب ﴾ ومن ثم لم يذكر إلا ما تمس الحاجة إليه من الفائدة، أما ذكر التفاصيل والجزئيات فربما شغل عن ذلك – إلى ما فيها من خلاف ربما يذهب الثقة بها، ومن قبل هذا اقتدى كثير من المؤرخين في العصر الحديث بطرق القرآن فلا يذكرون إلا الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات، مع توافر أسباب ضبطها ونقل أخبارها بتصوير الوقائع والأماكن، وسهولة الانتقال من مكان إلى مكان، وإنك لترى في ذكر أخبار الحروب في العصر الحاضر التناقض الواضح بين رسائل الفريقين المختصمين فيها، مما يرفع الثقة بها.
وإذا جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق، أو في كتب التاريخ القديمة مما يخالف ما في القرآن في باب القصص، فعلينا ألا نحفل به ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه فحال التاريخ قبل الإسلام كانت حالكة الظلام، فلا يوثق إذ ذاك برواية، كما أن الكتب الدينية ليست لها أسانيد متواترة، وقد صرح القرآن بأن أتباع موسى نسوا حظا مما ذكروا به، وحفظوا نصيبا وهذا الذي حفظوه حرفوه، وأن أتباع عيسى فعلوا مثل ما فعل أصحاب موسى، فلا ثقة بما جاء في قصص العهدين العتيق والجديد مما يسمى مجموعه الكتاب المقدس
الإيضاح :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى ﴾ أي ألم ينته إلى علمك قصص هؤلاء الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى في عصر داود عليه السلام، وكان بينهما زمن طويل.
﴿ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ أي قالوا لنبيهم شمويل، أقم لنا أميرا نصدر عن رأيه في تدبير الحرب وتنتظم به كلمتنا، وكان دأب بني إسرائيل أن يقوم أمرهم بملك يجتمعون عليه، يجاهد الأعداء ويجري الأحكام، ونبي يطيعه الملك ؛ ويقيم أمر دينهم، ويأتيهم بالخير من ربهم.
﴿ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ ﴾ أي هل أتوقع منكم الجبن عن القتال إذا كتب عليكم ؟
﴿ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا ﴾ أي : أي سبب يدعونا إلى ترك القتال، وقد عرض لنا ما يوجبه إيجابا قويا بإخراجنا من ديارنا وأوطاننا واغترابنا عن أهلنا وأولادنا ؟
﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ أي فلما فرض عليهم القتال بعد سؤال النبي ذلك وبعث الملك – أعرضوا وتخلفوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله بعد مشاهدة العدو وشوكته، إلا قليلا منهم عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة كما سيأتي بعد.
ذلك أن الأمم إذا قهرها العدو تهن قوتها ويغلب عليها الجبن وتلبس ثوب الذل والمسكنة، فإذا أراد الله إحيائها بعد موتها نفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها وهم الأقلون، فيعملون ما لا يعمله الأكثرون.
وفي الآية من العبرة والفوائد الاجتماعية – أن الأمم حين الضعف قد تفكر في الدفاع حين الحاجة إليه، وتعزم على القيام به إذا توافرت الشرائط التي يتخيلونها كما قال :
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
فإذا توافرت لهم ضعفوا وجبنوا وزعموا أن ما مهم عليه من القوة غير كاف لمقاومة الأعداء، والتمسوا لأنفسهم المعاذير، وأكثروا من التعللات الواهية.
﴿ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ أي بالذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها، وحفظا لحقوقها، فيصبحون في الدنيا أذلاء مستضعفين، وفي الآخرة أشقياء معذبين، وفي هذا وعيد لأمثالهم لا يخفى.
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ﴾
تفسير المفردات :
وطالوت معرب شاول لقب به لطوله، فقد جاء في سفر صموئيل الأول من العهد العتيق ( فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب، من كتفه فما فوق ). اصطفاه : أي فضله بما أودع فيه من الاستعداد الفطري للملك، وبسطة الجسم عظمه.
المعنى الجملي :
بعد أن ذكر سبحانه في الآيات التي قبل هذه شرع القتال لحماية الحق. وبذل المال في سبيل الله لعزة الأمة ومنعتها، وأن من ينحرف عن ذلك يتردى في مهاوي الردى كما وقع لمن خرجوا من ديارهم فارين من عدوهم على كثرة عددهم.
هنا بين قصة قوم من بني إسرائيل أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن واستحقوا الخزي والنكال، لكن جاءت هذه القصة مفصلة تبين ما في القصة الأولى المجملة، فإن الأولى تصرح بأن موتهم كان بذهاب استقلالهم، وأنه نتيجة لفرارهم وضعف عزيمتهم، لكن لم يذكر سبب إحيائهم وإن كان قد فهم مما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال أن هذا هو سنة الله في إحياء الأمم.
أما هذه القصة فقد فصلت احتياج هؤلاء القوم إلى القتال لمدافعة العادين عليهم، واسترجاع ديارهم من أيديهم، فبذلوا الوسع في الاستعداد للدفاع، لكن الضعف قد بلغ منهم كل مبلغ، فتولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا منهم، ألهمهم الله رشدهم فاعتبروا وانتصروا.
وقد جاء قصص القرآن للعبرة والموعظة كما قال :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة للأولي الألباب ﴾ ومن ثم لم يذكر إلا ما تمس الحاجة إليه من الفائدة، أما ذكر التفاصيل والجزئيات فربما شغل عن ذلك – إلى ما فيها من خلاف ربما يذهب الثقة بها، ومن قبل هذا اقتدى كثير من المؤرخين في العصر الحديث بطرق القرآن فلا يذكرون إلا الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات، مع توافر أسباب ضبطها ونقل أخبارها بتصوير الوقائع والأماكن، وسهولة الانتقال من مكان إلى مكان، وإنك لترى في ذكر أخبار الحروب في العصر الحاضر التناقض الواضح بين رسائل الفريقين المختصمين فيها، مما يرفع الثقة بها.
وإذا جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق، أو في كتب التاريخ القديمة مما يخالف ما في القرآن في باب القصص، فعلينا ألا نحفل به ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه فحال التاريخ قبل الإسلام كانت حالكة الظلام، فلا يوثق إذ ذاك برواية، كما أن الكتب الدينية ليست لها أسانيد متواترة، وقد صرح القرآن بأن أتباع موسى نسوا حظا مما ذكروا به، وحفظوا نصيبا وهذا الذي حفظوه حرفوه، وأن أتباع عيسى فعلوا مثل ما فعل أصحاب موسى، فلا ثقة بما جاء في قصص العهدين العتيق والجديد مما يسمى مجموعه الكتاب المقدس
الإيضاح :
روي في أخبار بني إسرائيل أن الإسرائيليين في الزمن الذي بعث فيه صموئيل نبيا لهم، كانوا قد انحرفوا عن شريعتهم وعبدوا الأصنام والأوثان، وضعفت فيهم الرابطة الدينية، فسلط الله عليهم أهل فلسطين، فأثخنوهم وقتلوا منهم العدد الكثير، وأخذوا تابوت عهد الرب، وكانوا من قبل يستفتحون به ( يطلبون الفتح والنصر به ) على أعدائهم ففترت هممهم واستكانوا وذلوا، ولم يكن لهم إلى ذلك العهد ملوك، بل رؤساؤهم وقضاتهم رجال الدين، ومن بينهم أنبياؤهم، ومن هؤلاء صموئيل، فقد كان قاضيا، ولما كبرت سنه جعل بنيه قضاة، فكانوا من قضاة الجور وأكلة الرشا، فاجتمع شيوخ بني إسرائيل الذين عبر عنهم القرآن بالملأ، وطلبوا من صموئيل أن يختار لهم ملكا يحكم فيهم كبقية الشعوب الأخرى، فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك واستعبادهم للأمم فألحوا، فألهمه الله أن يختار لهم شاول ملكا.
﴿ قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ﴾ أي كيف يملك علينا وهو لا يستحق هذا التملك ؟ لأن هناك من هو أحق به منه، ولأنه لا يوجد لديه ما يتوقف عليه الملك وهو المال، ولأنه ليس من سلائل الملوك ولا من سلائل النبوة، وقد كان الملك في سبط يهوذا بن يعقوب لا يتجاوزه إلى غيرهم ومنهم داود وسلميان، وكانت النبوة في سبط لاوى بن يعقوب، ومنه موسى وهارون.
وقد جرت العادة عند الناس أن الملك لا بد أن يكون وارثا للملك أو ذا نسب شريف يسهل على عظماء الناس أن يخضعوا له، وأن يكون ذا مال يدبر به الملك ولا يأبهون بمعارفه وصفاته وفضائله وأخلاقه.
من أجل هذا بين الله فيما حكاه عن نبيه خطأ هؤلاء القوم في زعمهم أن الملك لا يستحق إلا بالنسب وسعة المال فقال :
﴿ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء ﴾ أي قال لهم نبيهم : إن الله اختاره ملكا عليكم لما فيه من المزايا الآتية :
الاستعداد الفطري وهو في المنزلة الأولى من الأهمية، ومن ثم قدمه.
السعة في العلم الذي يكون به التدبير، ومعرفة مواطن ضعف الأمة وقوتها وجودة الفكر في تدبير شؤونها.
بسطة الجسم وكمال قواه المستلزمة لصحة المفكر، فقد جاء في أمثالهم : العقل السليم في الجسم السليم. وللشجاعة والقدرة على المدافعة والهيبة والوقار.
توفيق الله تعالى له بتسخير الأسباب التي لا عمل له فيها، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :﴿ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء ﴾.
أما المال فليس بلازم في تأسيس الملك، لأنه متى وجدت الأسباب سهل على صاحبها إيجاد المال اللازم لتدبير الملك، فكم في الناس من أسس دولة وهو فقير أمي وكان استعداده ومعرفته بحال الأمة التي سادها كافيا في الاستيلاء عليها، واستعانة بأهل العلم والشجاعة كافيا في تمكين سلطته فيها.
﴿ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي والله واسع التصرف والقدرة، إذا شاء أمرا اقتضته حكمته في نظام الخليقة فإنه يقع لا محالة، عليم بوجوه الحكمة، فهو يضع لهم من السنن والنظم ما هو في منتهى الإبداع والإتقان، وليس في الإمكان أبدع مما كان.
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٤٨ ) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ٢٤٩ ) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ٢٥٠ ) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٢٥١ ) تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٢٥٢ ) ﴾.
تفسير المفردات :
الآية : العلامة، والتابوت : صندوق وضعت فيه التوراة، أخذه العمالقة ثم رد إلى بني إسرائيل ؛ وفي سفر تثنية الاشتراع : أن موسى لما أكمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلا : خذوا كتاب التوراة وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون شاهدا عليكم.
ثم كانت حرب بين الفلسطينيين وبني إسرائيل على عهد عالى الكاهن انتصر فيها الفلسطينيون، وأخذ التابوت من بني إسرائيل ونكلوا بهم تنكيلا، فمات عالى كمدا، وكان صاموئيل أو شمويل قاضيا لبني إسرائيل من بعده وهو نبيهم الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ففعل، وجعل رجوع التابوت إليهم آية لملك طالوت الذي أقامه لهم، والسكينة : ما تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب، وتحمله : أي تحرسه وقد جرت عادتهم بأن من يحفظ شيئا في الطريق ويحرسه يقال إنه حمله، وإن كان الحامل غيره.
المعنى الجملي :
في هذه الآيات تفصيل لما جرى بين النبي وقومه من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الجملية يبين مصير حالهم
الإيضاح :
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ﴾ أي وقال لهم نبيهم : إن علامة عناية الله بطالوت عود التابوت إليكم، وفيه ما تطمئن به قلوبكم ( وقد كان له عندهم شأن خاص ) وفيه بقية من رضاضة الألواح ( فتاتها ) وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وأشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون، وقد أضيف آل موسى وآل هارون، لأنه قد تناولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت.
وفي صدور هذا القول من النبي دليل على أن بني إسرائيل لم يقنعوا بما احتج به عليهم من استحقاق طالوت للملك للأسباب المتقدمة، ومن ثم جعل لهم علامة أخرى تدل على عناية ربه به.
وقد وصف التابوت في كتب بني إسرائيل بأوصاف هي غاية في الغرابة في كيفية صنعه وجمال منظره، وما تحلى به من الذهب ودخل في تركيبه من الخشب الثمينة.
والسبب في صنعه أن المصريين الوثنيين استعبدوا الإسرائيليين دهرا طويلا، فملكت قلوب بني إسرائيل عظمة الهياكل الوثنية، وما فيها من الزينة وجمال الصنعة، فأراد الله أن يشغل قلوبهم بمحسوسات من جنسها تنسب إليه وتذكر به وقد سمى التابوت أولا تابوت الشهادة : أي شهادة الله سبحانه، ثم تابوت الرب، وتابوت الله.
وقد جاء الإسلام بمنع الزخارف والزينة في المساجد وبيوت العبادة، حتى لا يشغل المصلي شيء منها عن مناجاة ربه.
ولكن وا أسفا قلد المسلمون أرباب الملل الأخرى في الزخرف والنقش في المساجد والمنابر، وأقيمت الأضرحة، ولبس رجال الدين مثل لباسهم، بل سبقوهم في كثير من ذلك، فأصبحت المساجد كأنها هياكل ومعابد للوثنيين، ونسوا أو تناسوا الحكمة التي لأجلها امتنع المسلمون في الصدر الأول عن تجميلها، وفرشها بالطنافس وعمل الحلي فيها، وصدق فيهم ما جاء في الأثر :﴿ لتتبعن سنن من قبلكم باعا فباعا حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ﴾.
﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ ﴾ قيل إن البقرتين اللتين حملتا التابوت وجرتا العجلة ( العربية ) من بعض بلاد فلسطين إلى بني إسرائيل كانتا تسيران مسخرتين بإلهام الملائكة وحراستهم، ولم يكن لهما قائد ولا سائق.
وقد جرت العادة بأن ما يحدث بإلهام ولا كسب فيه للبشر وهو من الخير يسند إلى إلهام الملائكة.
وقالوا في سبب إتيان التابوت : إن أهل فلسطين ابتلوا بعد أخذ التابوت بالفيران في زرعهم، والبواسير في أنفسهم فتشائموا منه، وظنوا أن إله إسرائيل انتقم منهم، فأعادوه على عجلة تجرها بقرتان، ووضعوا فيه صور فيران وصور بواسير من الذهب، جعلوا ذلك كفارة لذنبهم.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي إن في مجيء التابوت علامة على عناية الله بكم، واصطفائه لكم هذا الملك الذي ينهض بشؤونكم، وينكل بعدوكم، فعليكم أن ترضوا بملكه، ولا تتفرقوا عنه، بل عاونوه يرق بكم إلى مراقي السعادة والفلاح.
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾
تفسير المفردات :
وفصل بالجنود أي فصل عن بلده مصاحبا لهم لقتال العمالقة، والجنود : واحدهم جندي وهم العسكر وكل صنف من الخلق كما جاء في الحديث :( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها : ائتلف، وما تناكر منها اختلف ) والابتلاء : الاختبار والامتحان، والنهر ( بسكون الهاء وفتحها ) كان بين فلسطين والأردن، والشرب : تناول الماء بالفم من موضعه وابتلاعه دون أن يشرب بكفين ولا إناء، وطعم الشيء : أي ذاقه مأكولا كان أو مشروبا، والغرفة ( بالضم ) المقدار الذي يحصل في الكف بالاغتراف، والغرف : أخذ الماء بالكف ونحوه، والطاقة : أدنى درجات القوة، وجالوت : أشهر أبطال الفلسطينيين أعدائهم، والفئة : الجماعة من الناس قليلا كان عددهم أو كثيرا.
المعنى الجملي :
في هذه الآيات تفصيل لما جرى بين النبي وقومه من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الجملية يبين مصير حالهم
الإيضاح :
أي فلما خرج طالوت من البلد يصحبه هؤلاء الجند قال لهم هذه المقالة.
وقد روي أنهم لما رأوا التابوت لم يشكوا في النصر، فسارعوا إلى الجهاد، فقال لهم طالوت : لا يخرج معي شيخ ولا مريض، ولا رجل بنى بناء ولم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها، ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوج امرأة لم يبن بها، ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وكان الوقت قيظا ( شديد الحر ) وسلكوا مفازة فشكوا قلة الماء، وسألوا الله أن يجري لهم نهرا، فقال لهم : إن الله سيختبر حالكم ويعلم المطيع منكم من العاصي، والراضي من الساخط، وستقابلون نهرا فمن شرب منه فليس من أشياعي المؤمنين، إلا أن يكون ما يتناوله قليلا وهو غرفة تؤخذ باليد، ومن لم يذقه فهو الذي يوثق به ويركن إليه عند الشدائد.
وحكمة هذا الابتلاء أن يختار المطيع الذي يرجى بلاؤه في القتال وثباته حين النزال، ويبعد من يظهر عصيانه، ويخشى في الوغى خذلانه، فطاعة الجيش لقائده من أهم أسباب الظفر، وأحوج القواد إلى ذلك من ولى على قوم وهم له كارهون.
والخلاصة – أن مراتب الاختبار ثلاث :
من يشرب فيروي ولا يبالي بمخالفة الأمر، وهذا يتبرأ منه.
من يأخذ بيده غرفة يبل بها ريقه، وهو مقبول على ما به من نقص في الجملة.
من لا يذوق الماء أبدا، وهذا هو المولى والنصير الذي يوثق باتخاذه ويعول على جهاده.
﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ لأنهم كانوا قد اعتادوا العصيان وفسد بأسهم وتزلزل إيمانهم، ولم يبق فيهم من أهل الإيمان والغيرة على الدين إلا النفر القليل.
والقليل من ذوي العزائم الصادقة والنفوس التي أشربت حب الإيمان وامتلأت غيرة عليه – يفعل ما لا يفعله الكثير من ذوي الأهواء المختلفة، والنزعات المتضاربة ﴿ تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ﴾.
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ﴾ أي فلما تخطى طالوت النهر هو ومن آمن معه وهم القليل الذين أطاعوه، ولم يخالفوه فيما ندبهم إليه، قال بعض ممن آمن معه من المؤمنين لبعض آخر منهم، وهم الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، لا قدرة لنا على محاربة جالوت وجنوده، فرد عليهم الفريق الثاني لوثوقه بنصر الله وقوة أهل الحق على قلتهم، وخذلان أهل الباطل على كثرتهم، كما حكى الله عنهم.
﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ أي قال الذين يستيقنون بلقاء ربهم بالبعث، ويتوقعون ما عنده من الجزاء والثواب : كثيرا ما رأينا الجماعات القليلة غلبت الجماعات الكثيرة حين يكتب الله لهم التوفيق بمشيئته وقدرته، والله لا يذل من نصره وإن قل عدده، ولا يعز من خذله وإن كثرت آلاته وعدده.
وهذا دليل منهم على ثقتهم بنصر الله وتوفيقه.
﴿ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ فهو ينصرهم على عدوهم، ويثبتهم عند لقائه، وفي هذا حض على الصبر المؤدي إلى الغلبة، والثقة بالله عند الشدائد، ومدلهمات الحوادث، والرجوع إليه إذا فدح الخطب، وعظم الأمر، فهو القادر على النصر والتأييد لمن أخلص له من عباده.
﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾
تفسير المفردات :
والبراز ( بالفتح ) الأرض المستوية الفضاء، والإفراغ : إخلاء الإناء مما فيه بصبه، وثبات القدم : كمال القوة وعدم التزلزل عند المقاومة.
المعنى الجملي :
في هذه الآيات تفصيل لما جرى بين النبي وقومه من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الجملية يبين مصير حالهم
الإيضاح :
أي ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لأعدائه الفلسطينيين جالوت وجنوده، وشاهدوا ما هم عليه من كثرة العدد والعدد لجئوا جميعا إلى الله يدعونه أن يفرغ على قلوبهم الصبر، ويثبت أقدامهم في القتال، ويملأ نفوسهم ثقة واطمئنانا، وينصرهم على أولئك القوم الكافرين عبدة الأوثان الذين أشربوا حب الدنيا وامتلأت قلوبهم بالترهات والأباطيل.
ولقد راعوا الترتيب الطبيعي في الدعاء بحسب الأسباب الغالبة، إذ الصبر سبب الثبات، والثبات سبب النصر، وأولى الناس بنصر الله المؤمنون.
﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ ﴾
تفسير المفردات :
وداود : هو داود ابن يسي وكان راعي غنم وله سبعة إخوة هو أصغرهم، والحكمة : النبوة وعليه نزل الزبور كما قال :﴿ وآتينا داود زبورا ﴾ وتعليمه مما يشاء هو صنعه الدروع كما قال :﴿ وعلمناه صنعة لبوس لتحصنكم من بأسكم ﴾ ومعرفة منطق الطير كما قال :﴿ علمنا منطق الطير ﴾ وفصل الخصومات لقوله :﴿ وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ﴾.
المعنى الجملي :
في هذه الآيات تفصيل لما جرى بين النبي وقومه من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الجملية يبين مصير حالهم
الإيضاح :
أي فاستجاب الله دعاءهم، فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم وانتهى أمرهم بالهرب من المعركة وفاقا لسنته تعالى في نصر أهل الحق المؤمنين الصابرين على أهل الباطل الضالين.
﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ﴾ كان جالوت جبار الفلسطينيين طلب البراز فلم يجرؤ أحد من بني إسرائيل على مبارزته، حتى جعل طالوت مكافأة لمن يقتله أن يزوجه ابنته ويحكمه في ملكه، فبرز له داود وكان صغير السن ولم يلبس درعا ولم يحمل سلاحا، بل حمل حجارته ومقلاعه الذي كان من عادته أن يقاتل به الذئب والأسد، فسخر منه جالوت وقال : ما خرجت إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة، لأبددن لحمك، ولأطعمنه اليوم للطير والسباع، فرماه داود بمقلاعه، فأصاب الحجر رأسه فصرعه، ودنا منه فاحتز رأسه، وجاء به فألقاه بين يدي طالوت، وانهزم من كان معه، وشهر داود بين الناس، وكان له من الصيت والسمعة ما ورث به ملك بني إسرائيل، وآتاه الله النبوة وأنزل عليه الزبور وعلمه صنعة الدروع، ومعرفة منطق الطير، وعلوم الدين وفصل الخصومات كما قال تعالى :﴿ وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ﴾ ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله ؛ إذ كان من أحوالهم أن يبعث الله إليهم نبيا ويملك عليهم ملكا يأتمر بأمر النبي، وكان نبي هذا العصر شمويل والملك طالوت، فلما توفيا صار له الملك والنبوة.
ثم بين سبحانه الحكمة في الأمر بالقتال الذي استفيد من الآيات السالفة فقال :
﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ أي ولولا دفع الله أهل البغي والجور والشرور والآثام بأهل الإصلاح والخير، لغلب أهل الفساد وبغوا على الصالحين، وأوقعوا بهم وصار لهم السلطان في الأرض.
فكان من رحمة الله لعباده وفضله عليهم، أن أذن للمصلحين بقتال البغاة المفسدين وهو سبحانه جعل أهل الحق حربا لأهل الباطل، وهو ناصرهم ما نصروه وأصلحوا في الأرض.
وقد نسب عز اسمه الدفع إلى نفسه، لأنه سنة من سننه في المجتمع البشري، وعليه بني نظام هذا العالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾
المعنى الجملي :
في هذه الآيات تفصيل لما جرى بين النبي وقومه من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الجملية يبين مصير حالهم
الإيضاح :
أي هذه القصص السالفة من حديث الألوف الذين خرجوا من ديارهم، وتمليك طالوت، وإتيان التابوت، وانهزام الجبابرة، وقتل داود جالوت – آيات الله نقصها عليك على وجه لا يشك فيه أهل الكتاب، إذ هم يجدونه مطابقا لما جاء في كتبهم الدينية والتاريخية فأنت من المرسلين لما دلت عليه هذه الآيات، ولو كنت قد تعلمتها لجئت بها على النهج الذي عند أهل الكتاب أو غيرهم من القصاص، ولم تشاهد أزمنة وقوعها حتى تراها رأي العين، وقد أشار سبحانه إلى مثل هذه الحجة للدلالة على ثبوته صلى الله عليه وآله وسلم فقال :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين. ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ﴾.
العبرة بهذه القصص :
إن الأمم إذا سيمت الخسف تتنبه أفكارها إلى دفع الضيم، فتعلم أن لا سبيل إلى ذلك إلا بانضوائها تحت لواء عادل باسل كما وقع من بني إسرائيل حين نكل بهم أهل فلسطين.
إن أول من يشعر بالحاجة إلى ذلك هم خواصها وأشرافها كما حدث من الملأ من بني إسرائيل، ثم تنتقل الفكرة من ذلك إلى عامتهم، حتى إذا وصلت إلى حيز العمل نكص ضعفاء العزائم على أعقابهم كما يدل عليه قوله :﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ﴾.
إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الملك، ومن ثم لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم ليختار لهم ملكا، وقد جاء الإسلام وجعل المرجح اختيار أرباب المكانة في الأمة، وهم أهل الحل والعقد، وعون الحاكم وقوته، لاحترام الأمة لهم وثقتها بهم.
إن الأمم زمن الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة هم أصحاب الجاه والثروة كما يدل على ذلك قول المنكرين لملك طالوت ﴿ ولم يؤت سعة من المال ﴾ مع أن الأجدر بهذا الاختيار
أهل الشرف بمعارفهم وعلومهم وأخلاقهم الفاضلة ونفوسهم الكريمة.
إن الأمم إذا رقيت في علومها ومعارفها وحضارتها اختارت ملوكها من سلائل الملوك والأمراء، وحافظت على قوانين الورثة، ولم يشذ عن ذلك إلا أصحاب الحكومات الجمهورية التي تختار رئيسها بالانتخاب.
إن الظفر لا يتم للقائد إلا إذا أطاعه جنده في كل ما يأمر وينهى، وعلى هذا بنيت قوانين الجندية في العصر الحديث.
إن الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكثيرة إذا صبرت وثبتت وأطاعت رؤسائها والتجارب والمشاهدة تدل على صدق هذا.
إن من سنن الله في خلقه دفع الناس بعضهم بعضا وهو المعبر عنه في العصر الحديث ( بنظرية تنازع البقاء ) ومن ثم قالوا إن الحرب طبيعية في البشر، إذ بها يبقى الأصلح والأمثل، وإلى هذا يشير سبحانه بقوله :﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾ أي إن سنة الله أن يقذف زبد الباطل الضار بالمجتمع ويمحوه من الوجود، ويبقى إبليز الحق النافع الذي ينمو فيه عمران العالم، ويحفظ به الخلق من أعاصير الظلم والفساد، حتى يتغلب الخير على الشر، والحق على الباطل، ولا يزال هذا سنة الوجود ما بقي الإنسان على ظهر البسيطة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
ثم تصنيف هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة في اليوم الثامن والعشرين من جمادى الأولى من سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية.
﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منكم من كلم الله ورفع بعضهم درجات، وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس، ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد { ٢٥٣ ﴾ }.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في بيان سنة الله في خلقه، أن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل، وأنه لا بد أن يقيض له أعوانا يدافعون عنه، ويُكتب لهم الغلبة والفوز مهما كان للباطل من صولة، وقد ضرب لذلك مثل جالوت جبار الفلسطينيين الذي استولى على ملك بني إسرائيل واستحوذ على خيرات بلادهم، فقام أولو الرأي فيهم وطلبوا من بينهم صموئيل أن يختار لهم ملكا يقوم بأمرهم، ويعد لهم جيشا يقاوم عدوهم فاختار طالوت ملكا، فجيش الجيوش وذهب بهم إلى ساحة القتال، وكتب لهم الظفر على العدو بإذن الله، وقتل داود- وكان في عسكر طالوت- جالوت وانهزم العدو وولى الأدبار، وكان الفوز للمؤمنين على الوثنيين الكافرين.
وما تم هذا إلا بفضل داوود الذي آتاه الله الملك والنبوة، وعلمه كل ما ينفع من عتاد الحرب كالدروع والآلات الأخرى.
ثم ذكر بعد هذا أنه لولا فضل الله ورحمته وسابق حكمته بأن يدفع أهل الخير والإصلاح في الأرض أهل الفساد والشرور والآثام فيها لاختل نظام العالم وفسد أمره.
وبعدئذ ذكر أن ذلك القصص الذي تلاه على رسوله قصص أمم قد خلت لم يكن له سابق علم بحالها من قبل، فمعرفته إياها لم تكن إلا بوحي من لدن حكيم خبير، وهذا دليل على أنه من المرسلين.
وهنا ذكر أن أولئك المرسلين قد ميز الله بعضهم على بعض، فآتى بعضا مزايا ومناقب ليست لغيره كما فصل ذلك في الآية الكريمة، وقد خص بالذكر من بقى لهم أتباع، وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال.
الإيضاح
﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ﴾ أي هؤلاء الرسل المشار إليهم بقوله :﴿ وإنك لمن المرسلين ﴾ فضلنا بعضهم على بعض في مراتب الكمال، فخصصناه بمآثر جليلة خلا عنها غيره مع استوائهم جميعا في اختياره تعالى لهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وخلاصة هذا –إنهم كلهم رسل الله، فهو جديرون أن يقتدى بهم ويهتدى بهديهم، وإن امتاز بعضهم عن بعض بخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم. ثم بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال :﴿ منهم من كلم الله ﴾ أي منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام، كما قال تعالى في سورة النساء ﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ وفي سورة الأعراف :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ﴾ وفي الآية بعدها ﴿ قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ﴾.
﴿ ورفع بعضهم درجات ﴾ أي ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل بمراتب متباعدة في الكمال والشرف، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن جرير عن مجاهد، ويؤيده السياق أيضا، فإن الكلام في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل، والتشنيع عليهم في اختلافهم واقتتالهم، مع أن دينهم واحد في جوهره، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر وقد ذكر موسى أولا وعيسى آخرا ومحمدا في الوسط، إشعارا بأن شريعته وأمته وسط.
ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في أخلاقه الشريفة كما يرشد إلى ذلك قوله في سورة القلم ﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ ومنها ما هو في كتابه وشريعته كما يدل على ذلك قوله في فضل القرآن ﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾ وقوله :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ﴾.
ومنها ما هو في أمته الذين اتبعوه وعضوا على دينه بالنواجذ كما قال :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾.
ولو لم يؤت من المعجزات إلا القرآن وحده لكفى به فضلا على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات، وقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ).
وروى عنه أنه قال :( فضلت على الأنبياء لست : أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون ).
﴿ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ﴾ البينات هي ما يتبين به الحق من الآيات والدلائل كما قال :﴿ ولقد جاءكم موسى بالبينات ﴾ وأيدناه : أي قويناه، وروح القدس هو روح الوحي الذي يؤيد الله به رسله كما قال للنبي صلى الله عليه وسلم ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ).
وخص عيسى بإيتاء البينات تقبيحا لإفراد اليهود في تحقيره، إذ أنكروا نبوته مع ما ظهر على يديه من البينات القاطعة الدالة على صدقه، ولإفراط النصارى في تعظيمه حيث أخرجوه من مرتبة الرسالة وزعموا أنه إله لا رسول مؤيد بآيات الله.
﴿ ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ﴾ قوله : من بعدهم أي من بعد الرسل من الأمم المختلفة، أي ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل الذين جاءوا بالحق من ربهم، وقوله من بعد ما جاءتهم البينات : أي من بعد ما جاءهم الرسل بالمعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على الحق الموجبة لإتباعهم، والزاجرة عن الإعراض عن سننهم، وقوله : ولكن اختلفوا : أي إن لم يشأ عدم اقتتالهم، لأنهم اختلفوا اختلافا كبيرا، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل، ومنهم من كفر بذلك كفرانا لا أمل معه في هداية.
وإيضاح هذا أن الله جعل للإنسان عقلا يتصرف به في أنواع شعوره، وفكرا يجول به في طرق معيشته ومعرفة ما يصلح له في شئونه النفسية والبدنية، وجعل ارتقاءه في إدراكه وأفكاره كسبيا، فهو ينشأ ضعيف الإدراك ثم يقوى بالتربية والتعليم وتجارب السنين، كما جعل هداية الدين له أمرا اختياريا يأخذ منها بقدر استعداداه وفكره كما هو شأنه في الاستفادة من منافع الكون، وهذا هو منشأ الاختلاف.
ولو شاء الله أن يجعل الدين من إلهاماته العامة، وشعوره الفطري كشعور الحيوان وإلهامه لكان الناس في هدايته سواء يسعدون به أجمعين، فتمنعهم بيناته أن يختلفوا فيقتتلوا، لكنه خلق الإنسان على غير ما عليه الحيوان. وكان هذا سبب اختلاف أهل الأديان، فمنهم من آمن إيمانا صحيحا فأخذ الدين على وجهه وفهمه حق فهمه، ومنهم من حكم هواه في تأويله فكان كافرا به في الحقيقة، وهذا هو منشأ التخاصم، وسبب التنازع والقتال، وقد اختلف اليهود في دينهم فاقتتلوا، والنصارى كانوا أشد منهم في ذلك. فتفرقوا طرائق قددا، وكان أهل المذهب الواحد يتشعبون شعبا يقاتل بعضها بعضا.
وقد نهى الله المسلمين عن مثل هذا الخلاف، وأمرهم بالاتحاد والوئام، فامتثلوا أمره في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وزمنا قليلا بعده فكانوا خير أمة أخرجت للناس، تفرقوا في الدين مذاهب واقتتلوا فيه، وما زالت الحال تتفاقم حتى صاروا أبعد الأمم عن الاتفاق والائتلاف.
وقد جرت سنة الله بأن أهل الدين الواحد يقاتل بعضهم بعضا باسم الدين، ولحماية الدين من طغيان الملحدين، ولله في خلقه شؤون.
﴿ ولو شاء الله ما اقتتلوا ﴾ أي ولو شاء الله أن يعذر بعض المختلفين بعضا، ويقتصر كل فريق على الانتصار لرأيه بالحجة- لما اقتتلوا على ما يختلفون فيه، لكنه أودع في غرائزهم النضال عن مصلحتهم بكل ما قدروا عليه من قول أو فعل، فمنهم من يقارع الحجة بالحجة، ومنهم القوي الذي يقاوم بالسيف، فكان الاختلاف في الرأي والمصالح مع عدم العذر مؤديا إلى الاقتتال لا محالة.
﴿ ولكن الله يفعل ما يريد ﴾ أي إن اختصاص الناس بهذه المزايا أثر من إرادته تعالى فلا مرد له، فإن أراد الله التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه.
﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون{ ٢٥٤ ﴾ }.
تفسير المفردات
المراد باليوم هنا يوم الحساب، لا بيع فيه : أي لا فداء فيتدارك المقصر تقصيره، ولا خلة : أي ولا صداقة ولا مودة بنافعة، والمراد بالكافرين تاركو الزكاة، والظالمون : هم الذين وضعوا المال في غير موضعه وصرفوه في غير وجهه.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا فيما كان من الرسل، ومن أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال- وهنا عاد إلى الأمر بالإنفاق بأسلوب آخر غير ما تقدم، فالأول كان خطابا بالترغيب لمن لطف وجدانه وشعوره، وبلغ في مراتب الكمال منازل الصديقين، ولكن الأكثرين من الناس يفعل في نفوسهم الترهيب أكثر مما يفعل فيهم الترغيب، فهم لا ينفقون في سبيل الله إلا خوفا من العقاب، أو طمعا في الثواب، وقد يجول بخاطر بعض الضعفاء أن يركنوا إلى شفاعة تغني عن العمل، أو فدية تقي صاحبها عاقبة ما كان منه من الزلل، أو خلة بها يسامح صاحب الكبيرة مما ألم به من الخطل- فمثل هؤلاء يخاطبون بنحو ما في هذه الآية.
الإيضاح
﴿ يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ﴾ الإنفاق هنا يشمل الإنفاق الواجب بالزكاة، والإنفاق المستحب أيضا.
ذاك أنه إذا اضطرب حبل الأمن في الأمة، أو انتشر المرض في أبنائها، أو كثر الجهل في أفرادها، ولا سبيل لدرء هذا إلا ببذل المال- وجب على الأغنياء أن يبذلوه لدفع هذه المفاسد، وإزالة هذه الطوارئ لحفظ المصالح العامة.
وفي قوله ﴿ مما رزقناكم ﴾ حث على الإنفاق وإشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه.
وقوله ﴿ من قبل أن يأتي يوم... ﴾ إلى آخره أي من قبل أن يأتي يوم الحساب الذي لا يفدى فيه مقصر بمال، ولا تنفع فيه الصداقة، ولا تجدى الشفاعة.
وخلاصة ذلك- إن الإنفاق في سبيل البر هو الذي ينجيكم في ذلك اليوم الذي لا ينجى فيه الأشحة الباخلين من عذاب الله فداء يفتدون به أنفسهم، ولا خلة يحمل فيها الخليل شيئا من أوزار خليله، أو يهبه شيئا من حسناته، ولا شفاعة يؤثر بها الشفيع فيما أراده الله، فيحولها عن مجازاة الكافر بالنعمة الباخل بالصدقة، المستحق للمقت والعقوبة بما دنس به نفسه في الدنيا ودساها به من المعاصي والآثام، ويجعله يترك عقوبته مرضاة له.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ﴾.
وفي الآية إيماء إلى أن أمور الآخرة لا تقاس على ما هو حاصل في الدنيا، فلا يظن امرؤ أنه ينجو فيها بفداء يفتدى به أو شفاعة تناله من النبيين والربانيين كما كانت في الدنيا تناله من الأمراء والسلاطين، وإن كان في هذه الحياة فاسقا ظالما فاسد الأخلاق مناعا للخير معتديا أثيما.
﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ أي والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم، إذ وضعوا المال في غير موضعه، وصرفوه في غير وجهه، وقد سماهم الله كافرين تغليظا وتهديدا كما قال في آخر آية الحج ﴿ ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ﴾ مكان ومن لم يحج، وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار كقوله :﴿ وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ﴾.
ذاك أن العلة في منع الزكاة ونحوها من النفقات الواجبة، أن حب المال أعلى في قلب المانع من حب الله تعالى، وشأنه أعظم في نفسه من حقوقه عز وجل، والنفس تذعن دائما لما هو أرجح لديها نفعا، وأعظم في وجدانها وقعا.
وظلم الباخل بفضل ماله على ملهوف يغيثه، أو مضطر يكشف ضرورته، أو على المصالح العامة التي تقي أمته مصارع السوء، أو ترفع من قدرها، أو تزيل العقبات من طريقها- من أقبح أنواع الظلم، فلا يعذر صاحبه بوجه من الوجوه التي يتعلل بها سواه ممن ظلموا أنفسهم.
وإن حال المسلمين اليوم لتوجب الأسى والحزن، فترى أغنياءهم يعرفون حاجة أمتهم إلى بذل المال في إنشاء دور العلم، لينشلوها من بحار الجهل التي هي غارقة فيها وإلى رفع مستوى أخلاقها التي وصلت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط، حتى عم الفقر والشقاء، ثم هم بعد ذلك يبخلون بفضله مما أعطاهم الله من رزقه، لتكون بلسما تداوى به تلك النفوس المكلومة، وعلاجا لهذه الأمراض التي انتابتها.
ومثل هؤلاء لا يستحقون أن ينسبوا إلى الإسلام، ولا أن يكونوا من المسلمين، إذ ليس في أحدهم عرق ينبض أو يتألم لمصايب المسلمين، فمن كان يرى أن ماله أفضل من دينه في الوجدان والعمل، وهو أرجح من رضوان ربه، فهو كافر بنعمته وإن سمى نفسه مؤمنا، فما إيمانه إلا كإيمان من نزل فيهم ﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ﴾.
وقد أنذر الله مثل هؤلاء بقوله :﴿ هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾.
﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السماوات وما في الأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما، وهو العلي العظيم { ٢٥٥ ﴾ }.
تفسير المفردات
الله هو المعبود بحق، والعبادة استعباد الروح وإخضاعها لسلطة غيبية لا تحيط بها علما، ولا تدرك كنهها وحقيقتها، وكل ما ألهه البشر من جماد ونبات وحيوان وإنسان، فقد اعتقدوا فيه هذا السلطان الغيبي استقلالا أو تبعا لسواه، والحي هو ذو الحياة، والحياة هي مبدأ الشعور والإدراك والحركة والنمو، وهي بهذا المعنى مما يتنزه عنها الله سبحانه، فالمراد بها بالنسبة إليه تعالى الوصف الذي يعقل معه الاتصاف بالعلم والإرادة والقدرة، والقيوم القائم على خلقه بتدبير آجالهم وأعمالهم وأرزاقهم كما قال تعالى ﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ﴾ والأخذ : الغلبة والاستيلاء، والسنة : النعاس، وهو فتور يسبق النوم، قال عدي بن الرقاع :
وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم
والنوم : حال تعرض للحيوان بها تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس والشعور، والكرسي : هو العلم الإلهي، وآده الشيء : يئوده إذا أثقله ولحقه منه مشقة، والعلي : هو المتعالي عن الأشباه والأنداد، والعظيم : هو الكبير الذي لا شيء أعظم منه.
المعنى الجملي
أمرنا سبحانه قبل هذا بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي اليوم الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، ولا يغني مال يعطى فدية عن العاصي، ولا تنفع صداقة لدى الرؤساء وذوي الثراء كما كانت تجدي في الدنيا نفعا، وبها تحل كل مهمة – هنا انتقل إلى تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه حتى يستشعر العبد عظيم سلطانه، ووجوب الطاعة لأمره، والإذعان لحكمه، والوقوف عند حدوده، وبذل المال في سبيله، وعدم الركون إلى شفاعة الشافعين ولا الفدية بمال ولا بنين.
الإيضاح
﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ أي الإله الحق الذي يستحق أن يعبد هو الله الواحد الصمد، ذو الملك والملكوت، الحي الذي لا يموت، القائم بتدبير أمر عباده، يكلؤهم ويحفظهم ويرزقهم.
﴿ لا تأخذه سنة ولا نوم ﴾ أي لا يعتريه نوم ولا مقدماته، وإذا كان كذلك كان قائما بتدبير شئون عباده في جميع الأوقات آناء الليل وأطراف النهار.
وقد جاء النظم الكريم بحسب الترتيب الطبيعي في الوجود، فنفى ما يعرض أولا وهو السنة، ثم ما يتبعها وهو النوم، وبعبارة أخرى- هو ترق في نفي النقص عنه، فإن من لا تغلبه السنة قد يغلبه النوم لأنه أقوى. فذكر النوم بعد السنة ترق من نفي الأضعف إلى نفي الأقوى.
والخلاصة – إن هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، مقررة لمعنى الحياة والقيومية على أتم وجه، إذ من تأخذه السنة والنوم يكون ضعيف الحياة، ضعيف القيام بشئون نفسه، وبشئون غيره.
﴿ له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ فكل من فيهما وما فيهما ملكه وعبيده، خاضعون لمشيئته، وهو المصرف لشئونهم والحافظ لوجودهم.
وهذه الجملة تأكيد ثان لقيوميته واحتجاج بها على تفرده في الألوهية. لأنه تعالى خلقهما بما فيهما.
﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ أي من ذا الذي يستطيع من عبيده أن يغير ما مضت به سنته، وقضت به حكمته، وأوعدت به شريعته، من تعذيب ذوي العقائد الباطلة، والأخلاق السافلة الذين أفسدوا في الأرض، وانحرفوا عن جادة الدين إلا إذا أذن له ربه، ونحو هذا قوله :﴿ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ﴾.
وهذا تمثيل لانفراده بالملك والسلطان في ذلك اليوم، وأن أحدا من عباده لا يجرؤ على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه- وإذنه غير معروف لأحد من خلقه- وفي ذلك قطع لأمل الشافعين، والذين يركنون إلى الشفاعة التي كان يقول بها المشركون وأهل الكتاب.
﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ أي يعلم أمور الدنيا التي خلفوها، وأمور الآخرة التي يستقبلونها.
وهذه الجملة مؤكدة لنفي الشفاعة، إذ من كان عالما بكل شيء فعله العباد في الماضي وفيما هو حاضر بين أيديه وفيما يستقبلهم، وكان ما يجازيهم به مبنيا على هذا العلم، كانت الشفاعة على هذا النحو المعروف، مما يستحيل عليه تعالى، لأنها لا تتحقق إلا بإعلام الشفيع المشفوع عنده من أمر المشفوع له وما يستحقه ما لم يكن يعلم.
وما ورد من أحاديث الشفاعة، فهو محمول على الدعاء الذي يفعل الله تعالى عقبه ما سبق في علمه الأزلي أنه سيفعله، مع أنا نقطع بأن الشافع لا يغير شيئا من علمه، ولا يحدث تأثيرا في إرادته، وبذلك تظهر كرامة الله لعبده مما أوقع من الفعل عقب دعائه، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.
﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ أي إن أحدا من خلقه لا يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء ذلك، والشفاعة تتوقف على إذنه تعالى، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه، وإنما يعرف إذنه تعالى بما حدده من الأحكام في كتابه، فمن بين أنه مستحق لعقابه، فلا يجرؤ أحد أن يدعو له بالنجاة، ومن بين أنه مستحق لرضوانه على هفوات ألم بها لم تحول وجهه عن الله تعالى إلى الباطل والفساد، ولم تدس روحه حتى تسترسل في الخطايا، فهو واصل إليه على ما وعد به في كتابه وما تفضل به على عباده.
﴿ وسع كرسيه السماوات والأرض ﴾ أي إن علمه تعالى محيط بما يعملون مما عبر عنه بقوله :﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ وبما لا يعلمون من شئون سائر الكائنات، ويرى جمع من المفسرين منهم القفال والزمخشري أن الكلام تصوير لعظمته وتمثيل لكبريائه، ولا كرسي ولا قيام ولا قعود، وقد خاطب سبحانه عباده في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم.
والخلاصة- إن الكرسي شيء يضبط السماوات والأرض، نسلم به بدون بحث في تعينه، ولا كشف عن حقيقته، ولا كلام فيه بالرأي دون نص عن المعصوم.
﴿ ولا يئوده حفظهما ﴾ أي ولا يثقله حفظ هذه العوالم بما فيها، ولا يشق عليه ذلك، وإنما لم يذكر ما فيهما، لأن حفظهما مستتبع لحفظه.
﴿ وهو العلي العظيم ﴾ أي وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه، العظيم على كل شيء سواه، فهو المنزه بعظمته عن الاحتياج إلى من يعلمه بحقيقة أحوالهم، أو يستنزله عما يريد من مجازاتهم على أعمالهم.
والخلاصة- إن هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وجلاله وكماله، حتى لا تدع موضعا للغرور بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون ويتكلون على شفاعتهم، فأوقعهم ذلك في ترك المبالاة بالدين، فخويت القلوب من ذكر الله، وخلت من خشيته جهلا منها مما يجب من معرفته، وأفسدت فطرتهم الأهواء والجهالات، فلا يجدون ما يلهون به إلا كلمة ﴿ الشفاعة ﴾ ومن اغتر بها فشيطانه هو الذي يوسوس له، ويمده في الغي.
فهذه النفوس لم تعرف عظمة الله، ولم تستشعر بالحياء منه، ولم تحترم دينها وشريعتها، إذ آية ذلك بذل المال والروح في إعلاء كلمته، لا تعظيمه بالقول دون أن يصدق ذلك العمل.
وإنك لترى المسلمين يترنمون بهذه الآيات، وقلما تحدث لأحد منهم ذكرا يصرفه عن الشفاعات، ويرجو النجاة بعمل الصالحات وهو مؤمن كما وعد الله بذلك في كتابه، وقد حذوا حذو أهل الكتاب من قبلهم، واتكلوا في نجاتهم على شفاعة سلفهم، وتركوا المبالاة بالدين.
﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشدُ من الغيّ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم { ٢٥٦ ﴾ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴿ ٢٥٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
لا إكراه في الدين : أي لا إكراه في دخول الدين، وبان الشيء واستبان : وضح وظهر، ومنه المثل : تبين الصبح لذي عينين، والرشد : بالضم والتحريك، والرشاد : الهدى وكل خير، وضده الغي، والجهل كالغي إلا أن الأول في الاعتقاد، والثاني في الأفعال، ومن ثم قيل زوال الجهل بالعلم، وزوال الغي بالرشد، والطاغوت : من الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الشيء، ويجوز تذكيره وتأنيثه وإفراده وجمعه بحسب المعنى كما قال تعالى :﴿ أولياؤهم الطاغوت ﴾ وقال :﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ﴾ والعروة من الدلو والكوز ونحوهما : المقبض الذي يمسك به من يأخذهما، والوثقى : مؤنث الأوثق، وهو الحبل الوثيق المحكم، والانفصام : الانكسار أو الانقطاع، من قولهم فصمه فانفصم أي كسره أو قطعه.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه وانفراده بالملك والسلطان في السماوات والأرض، وبيان أن علمه محيط بكل شيء وأنه العلي العظيم.
والكلام هنا في بيان أن الاعتقاد بهذا أمر تهدى إليه الفطرة، وترشد إليه المشاهدات الكونية، فأمارته واضحة، والنصب عليه جلية لا لبس فيها ولا إبهام، فمن هدي إليه فقد فاز بالسعادة، ومن أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
وسبب نزول الآية ما رواه ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس : أن رجلا من الأنصار يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما ؟ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل الله الآية، وفي بعض الروايات أنه حاول إكراههما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله : أيدخل بعضي النار وأنا أنظر، فنزلت فخلاهما
الإيضاح
﴿ لا إكراه في الدين ﴾ أي لا إكراه في الدخول فيه، لأن الإيمان إذعان وخضوع، ولا يكون ذلك بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالحجة والبرهان.
وكفى بهذه الآية حجة على من زعم من أعداء الدين، بل من أوليائه، أن الإسلام ما قام إلا والسيف ناصره، فكان يعرض على الناس، فإن قبلوه نجوا، وإن رفضوه حكم فيهم السيف حكمه.
والتاريخ شاهد صدق على كذب هذا الافتراء، فهل كان السيف يعمل عمله في إكراه الناس على الإسلام حين كان النبي يصلي مستخفيا والمشركون يفتتنون المسلمين بضروب من التعذيب، ولا يجدون زاجرا حتى اضطر النبي وصحبه إلى الهجرة ؟ أو كان ذلك الإكراه في المدينة بعد أن اعتز الإسلام ؟ وقد نزلت هذه الآية في مبدأ هذه العزة، فإن غزوة بني النضير كانت في السنة الرابعة للهجرة، اللهم لا هذا ولا ذاك.
هذا، وقد كان معهودا عند بعض الملل ولا سيما النصارى إكراه الناس على الدخول في دينهم.
ثم أكد عدم الإكراه بقوله :
﴿ قد تبين الرشد من الغي ﴾ أي قد ظهر أن في هذا الدين الرشد والفلاح، وأن ما خالفه من الملل الأخرى غي وضلال.
ثم فصل ذلك فقال :
﴿ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ﴾ أي فمن يكفر بما تكون عبادته والإيمان به سببا في الطغيان والخروج عن الحق من عبادة مخلوق، إنسانا كان أو شيطانا أو وثنا أو صنما، أو تقليد رئيس، أو طاعة هوى، ويؤمن بالله فلا يعبد إلا إياه، ولا يرجو شيئا من أحد سواه، ويعترف بأن له رسلا أرسلهم للناس مبشرين ومنذرين بأوامره ونواهيه التي فيها مصلحة للناس كافة- فقد تحرى باعتقاده وعمله أن يكون ممسكا بأوثق عرا النجاة، وأمتن وسائل الحق، وإنما يكون ذلك بالاستقامة على الطريق القويم الذي لا يضل سالكه، فمثله مثل الممسك بعروة الحبل المحكم المأمون الانقطاع لدى حمل جسم كبير ثقيل.
ثم أتى بما يفيد الترغيب والترهيب فقال :
﴿ والله سميع عليم ﴾ أي والله سميع لأقوال من يدعي الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، عليم بما يكنه قلبه مما يصدق هذا أو يكذبه، فمن اعتقد أن جميع الأشياء مسيرة بقدرة الله لا تأثير فيها لأحد سواه، فهو المؤمن حقا وله الجزاء الأوفى، ومن انطوى قلبه على شيء من نزعات الوثنية، ونسب ما جعل سره من عجائب الخلق إلى قوة غير طبيعية يتقرب بها إلى الله زلفى، فقد حق عليه العذاب، وكان جزاؤه جزاء الذين يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين.
وجاء بمعنى الآية قوله :﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ؟ ﴾.
وقد جعل المسلمون قوله :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ أسا من أسس الدين، وركنا عظيما من أركان سياسته، فلم يجيزوا إكراه أحد على الدخول فيه، كما لم يجيزوا لأحد أن يكره أحدا على الخروج منه.
وإنما يتم ذلك إذا كانت لنا المنعة والقوة التي نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا فيه أو الاعتداء علينا، وقد أمرنا الله بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نجادل المخالفين بالتي هي أحسن مع حرية الدعوة وأمن الفتنة.
وإنما فرض علينا الجهاد ليكون سياجا ووقاية لصد من يقاوم هذه الدعوة، ويمنع نشر هذا النور في أرجاء المعمورة، وكف شر الكافرين عن المؤمنين، كيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن يتمكن الإيمان من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنة عن دينه، كما كانوا يفعلون ذلك في مكة جهرا، ومن ثم قال سبحانه :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ أي حتى يكون الدين كله خالصا لله غير مزعزع ولا مضطرب، ولن يكون كذلك إلا إذا كفت الفتن عنه وقوي سلطانه حتى لا يجرؤ على أهله أحد.
والفتن تكف بأحد أمرين :
﴿ ١ ﴾ بإظهار المعاندين الإسلام ولو باللسان، وبذا لا يكونون من خصومنا ولا يناصبوننا العداء، ولا يمنعون أحدا من الدعوة إليه.
﴿ ٢ ﴾ بقبول الجزية وهي جزء من المال يؤخذ من أهل الكتاب جزاء حمايتنا لهم بعد أن يخضعوا لنا فنكفى شرهم.
﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ﴾
تفسير المفردات :
والولي : الناصر والمعين، والظلمات : هي الضلالات التي تعرض للإنسان في أطوار حياته كالكفر والشبهات التي تعرض دون الدين فتصد عن النظر فيه أو تحول دون فهمه، والإذعان له كالبدع والأهواء التي تحمل على تأويله وصرفه عن وجهه والشهوات التي تشغل عنه.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في تقرير أصول الدين من توحيد الله وتنزيهه وانفراده بالملك والسلطان في السماوات والأرض، وبيان أن علمه محيط بكل شيء وأنه العلي العظيم.
والكلام هنا في بيان أن الاعتقاد بهذا أمر تهدى إليه الفطرة، وترشد إليه المشاهدات الكونية، فأمارته واضحة، والنصب عليه جلية لا لبس فيها ولا إبهام، فمن هدي إليه فقد فاز بالسعادة، ومن أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
وسبب نزول الآية ما رواه ابن جرير من طريق عكرمة عن ابن عباس : أن رجلا من الأنصار يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما ؟ فإنهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل الله الآية، وفي بعض الروايات أنه حاول إكراههما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله : أيدخل بعضي النار وأنا أنظر، فنزلت فخلاهما
الإيضاح :
أي إن المؤمن لا ولي له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى، فهو يهديه إلى استعمال ضروب الهدايات التي وهبها له " الحواس والعقل والدين " على الوجه الصحيح، وإذا عرضت له شبهة لاح له شعاع من نور الحق يطرد هذه الظلمة حتى يخلص منها كما قال :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾.
فنظر الحواس في الأكوان وإدراكها ما فيها من بديع الإتقان ينير هذه الحواس، ونظر العقل في المعقولات يزيده نورا على نور، والنظر فيما جاء به الدين من الآيات يتمم له ما يصل به إلى أوج سعادته ومنتهى فوزه وفلاحه.
﴿ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ﴾ أي والكافرون لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة التي تسوقهم إلى الطغيان، فإن كانت من الأحياء الناطقة ورأت أن عابديها قد لاح لهم شعاع من نور الحق نبههم إلى فساد ما هم فيه- بادرت إلى إطفائه وصرفه عنهم بإلقاء حجب الشبهات، وإن كانت من غير الأحياء فسدنة هياكلها وزعماء حزبها لا يقصرون في تنميق هذه الشبهات، ببيان أن الواجب الاعتقاد بتلك السلطة وبما ينبغي لأربابها من التعظيم، وهو لا شك عبادة وإن سموه توسلا أو استشفاعا أو غير ذلك من الأسماء.
﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ فإن ما يكون في الآخرة ما هو إلا جزاء لما كان عليه الإنسان في الدنيا، ولا يليق بأهل الظلمات الذين لم يبق لنور الحق مكان في نفوسهم إلا تلك الدار التي وقودها الناس والحجارة.
ونحن لا نبحث عن حقيقتها، وإن كنا نعتقد مما جاء فيها من نصوص الدين أنها دار شقاء وعذاب، جزاء ما قدمته أيدي العاصين من سيء أعمالهم.
﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين { ٢٥٨ ﴾ }.
تفسير المفردات
الاستفهام للتعجيب والإنكار، وحاج جادل وقابل الحجة بالحجة، فبهت : أي صار مبهوتا دهشا وأخذه الحصر من سطوع نور الحجة فلم يجد جوابا، الظالمين : أي المعرضين عن قبول الهداية بالنظر في الدلائل القاطعة التي توصل إلى معرفة الحق.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت فيما سلف أن الله ولى الذين آمنوا، وأن الطاغوت ولي الكافرين ضرب هنا مثلا يؤيد تلك القضية ويكون شاهدا على صدقها ودليلا على صحتها، فبين أن إبراهيم كيف وفقه الله وتولاه بولايته إلى الحجج القيمة التي أزال بها تلك الشبهات التي عرض عليه خصمه حتى فاز عليه وفلج بحجته، وأن الذي حاجه كيف عمى عن نور الحق، فانتقل من ظلمة من ظلمات الشكوك والأوهام إلى أخرى، وتردى في مهاوي الهلاك بولاية الطاغوت له.
الإيضاح
﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ﴾ أي ألم ينته إلى علمك الذي يبلغ مرتبة اليقين قصص ذلك الملك الذي تجبر وادعى الربوبية، وعارض إبراهيم في ربوبية ربه- ويقال إنه نمرود بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام.
﴿ أن آتاه الله الملك ﴾ أي إن الذي أورثه الكبر والبطر، وحمله على الإسراف في الغرور والإعجاب بقدرته حتى حاج إبراهيم – هو إيتاء الله إياه الملك.
ثم بين تفصيل تلك المحاجة فقال :
﴿ إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ﴾ هذا جواب من إبراهيم حين كسر الأصنام التي تعبد من دون الله، وسفه أحلام عابديها، فسأله نمرود عن ربه الذي يدعو إلى عبادته ﴿ قال : ربي الذي يحيي ويميت ﴾.
فأنكر الملك الطاغية هذا الجواب.
و﴿ قال أنا أحيي وأميت ﴾ أي أنا أحيي من حكم عليه بالإعدام بالعفو عنه، وأميت من شئت إماتته بالأمر بقتله.
وهذا الإنكار من ذلك الملك الجبار يدل على أنه لم يفهم قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فإن الحياة في جوابه بمعنى إنشاء الحياة في جميع العوالم الحية من نبات وحيوان وغيرها، وإزالة الحياة بالموت- وفي جواب نمرود بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة، من أجل هذا أوضح إبراهيم جوابه كما حكى سبحانه عنه.
﴿ قال إبراهيم فإن الله يأتي الشمس من المشرق فأت بها من المغرب ﴾ أي إن ربي الذي يعطي الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته، هو الذي يطلع الشمس من المشرق، فهو المكون لهذه الكائنات على ذلك النظام البديع، والسنن الحكيمة التي نشاهدها، فإن كنت تستطيع أن تفعل كما يفعل، فغير لنا شيئا من هذه النظم، فالشمس تطلع من المشرق فحولها وائت بها من المغرب.
﴿ فبهت الذي كفر ﴾ أي فدهش ولم يجد جوابا، وكأنما ألقمه حجرا.
﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي إن الله لا يهدي من أعرض عن قبول الهداية، ولم ينظر في الدلائل التي توصل إلى معرفة الحق ويستسلم للطاغوت، ويترك ما أعطاه الله من الفهم، إتباعا لهواه وشهواته التي تزين له ما هو فيه، وهو حينئذ قد ظلم نفسه وضل ضلالا بعيدا.
﴿ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، قال كم لبثت ؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم، قال بل لبثت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير { ٢٥٩ ﴾. }
تفسير المفردات
القرية : الضيعة، والمصر : الجامع، وقد أبهم الله القرية فلم يذكر مكانها ولا المار عليها، بل اقتصر على موضع العبرة، وما به تقوم الحجة ولم يعن بما فوق ذلك حتى لا يشغل القارئ أو السامع به، ومن ثم اختلف المفسرون فيها ؛ فمن قائل إنها بيت المقدس وإن المار عليها هو عزير بن شرخيا، ومن قائل هي دير هرقل على شط دجلة والمار هو أرميا من سبط هارون عليه السلام، وخاوية : أي ساقطة من خوى البيت إذا سقط، والعروش : وحدها عرش وهو سقف البيت وكل ما هيئ ليستظل به، والمراد منه أن العروش سقطت أولا ثم سقطت الحيطان عليها، وأنى : بمعنى كيف، والحياة هنا العمران، والموت : الخراب، وأماته : أي جعله فاقدا للحس والحركة والإدراك بدون أن تفارق الروح البدن بتاتا مثل ما حدث لأهل الكهف، والبعث : الإرسال من بعثت الناقة إذا أطلقها من مكانها، وعبر بالبعث دون الإحياء إيذانا بأنه عاد كما كان أولا حيا عاقلا مستعدا للنظر والاستدلال، وقد دلت تجارب الأطباء في العصر الحديث على أن من الناس من يبقى حيا زمنا طويلا لكنه يكون فاقد الحس والشعور، وهو المسمى لديهم بالسبات وهو النوم المستغرق ويستعمله أهل الرياضيات في الهند، فقد شوهد شاب قد نام نحو شهر ثم أصيب بدخل في عقله، وآخرون ناموا أكثر من ذلك، ومتى ثبت هذا فالذي يحفظ الأجسام مثل هذه المدة قادر أن يحفظها مائة سنة وثلاثمائة سنة، فهذا من الممكنات لا من المستحيلات وقد تواتر به النص فيجب التسليم به، والتجارب التي عملت تقرب بيان إمكانه من أذهان الذين يعسر عليهم أن يميزوا بين ما هو مستبعد لعدم إلفه في مجرى العادة، وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته، ولم يتسنه : أي لم يتغير ولم يفسد، من قولهم تسنه الشيء مرت عليه السنون والأعوام، وآية : علامة دالة على قدر الله، وننشزها : أي نرفعها من الأرض ونردها إلى أماكنها من الجسد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر محاجة إبراهيم لذلك الكافر وإلزامه الحجة، بإثباته أن لهذا الكون إلها قادرا على كل شيء، واحدا لا شريك له في الملك والتدبير، ذكر هنا ما يدل على إثبات البعث والنشور، ويرشد إلى هداية الله للمؤمنين، وإخراجهم من ظلمات الشبه إلى نور اليقين، ولا غرابة في وقوع الشبهة للمؤمن ثم طلبه المخرج منها بالدليل والبرهان، فيهديه الله بما له من الولاية والسلطان على نفسه، ويخرجه من الحيرة التي تعرض له إلى الطمأنينة التي تثلج قلبه وتملؤه بردا ويقينا.
الإيضاح
﴿ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ﴾ أي أرأيت مثل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، أي ما رأيت مثله فتعجب منه، لأن حاله بلغت من الغرابة حدا لا يرى لها مثل.
﴿ قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ﴾ أي قال : كيف يعمر الله هذه القرية بعد خرابها ؟ ومراده بذلك استبعاد عمرانها بالبناء والسكان بعد أن خربت وتفرق أهلها.
﴿ فأماته الله مائة عام ثم بعثه ﴾ أي فجعله الله فاقد الحس والحركة دون أن تفارق الروح البدن، ثم أعاده إلى ما كان عليه أولا.
﴿ قال كم لبثت ؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم، قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ﴾ أي قال له بعد مبعثه كم يوما لبثت يا عزير ؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم بناء على ظنه وتخمينه، فقال له : ما لبثت هذا المقدار ؟ بل لبثت مدة متطاولة، ومع ذلك لم يلحق طعامك وشرابك تغير مما تجري العادة بمثله حين مرور الزمان وتطاول الأعوام.
والقصد من السؤال إظهار عجزه عن الإحاطة بشئونه تعالى، وليطلع أثناء ذلك على بدائع قدرته بإبقاء الغذاء الذي لم يتسارع إليه الفساد مع مضي الزمن الطويل، وليعلمه أن إحياءه كان بعد مدى طويل، وبذا يزول من نفسه الاستبعاد الذي خطر على باله أولا.
﴿ وانظر إلى حمارك ﴾ كيف نخرت عظامه، وتقطعت أوصاله وتمزقت، ليستبين لك طول لبثك، وتطمئن بذلك نفسك.
﴿ ولنجعلك آية للناس ﴾ أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك وإحياء حمارك، وحفظ ما معك من الطعام والشراب، لنزيل تعجبك، ونريك بآياتنا في نفسك وطعامك وشرابك، ولنجعلك آية للناس.
أما كونه آية لو فواضح، وأما كونه آية للناس فلأن علمهم بموته مائة عام ثم بحياته بعد ذلك يكون من أكبر الآيات التي يهتدي بها من يشاهدها، إلى كمال قدرة الله وعظيم سلطانه.
وبعد أن أراه الآية التي تكون حجة على من رآها في قوله :﴿ فانظر إلى طعامك وشرابك ﴾ نبه إلى الدليل الذي يحتج به على إمكان البعث في كل مكان وزمان، وهو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظه فقال :
﴿ وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ﴾ أي إن القادر على أن يكسو هذه العظام لحما ويمدها بالحياة ويجعلها أصلا لجسم حي – قادر على أن يعيد الخصب والعمران للقرية، وكذلك القادر على الإحياء بعد لبث مائة سنة قادر على الإحياء بعد لبث الموتى آلاف السنين، فبعض أفعاله تعالى يشبه بعضا.
وخلاصة ذلك- إننا كما أطلعناك على بعض آياتنا الخاصة الدالة على قدرتنا على البعث، نهديك إلى الآية الكبرى الدالة على كيفية التكوين، وبمثل هذا يحتج القرآن في مثل قوله :﴿ كما بدأكم تعودون ﴾ وفي قوله :﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده ﴾ وفي قوله :﴿ فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ﴾.
﴿ فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ أي فلما ظهر له إحياء الميت عيانا قال : أعلم علما يقينيا مؤيدا بآيات الله في نفسي وفي الآفاق، أن الله على كل شيء من الأشياء التي من جملتها ما شاهدته، قدير لا يستعصي عليه أمر.
﴿ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا، واعلم أن الله عزيز حكيم { ٢٦٠ ﴾ }.
تفسير المفردات :
فصرهن : أي ضمهن، سعيا : أي مسرعات طيرانا ومشيا، وعزيز : أي غالب على أمره، حكيم : أي لأنه جعل أمر الإعادة وفق حكمة التكوين.
المعنى الإجمالي
ذكر في هذه الآية مثالا آخر يدل على إثبات البعث، وفيه دلالة على ولاية الله للمؤمنين، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكرر المثل لإثبات البعث، ولم يذكر إلا مثالا واحدا لإثبات الربوبية، لأن منكري البعث أكثر من منكري الألوهية.
الإيضاح
﴿ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ﴾ أي واذكر وقت قول إبراهيم لربه، أرني كيف يكون إحياء الموتى ؟ وما وقع حينئذ من عجيب صنعه تعالى المتفق على هدايته تعالى للمؤمنين وولايته لهم.
وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات لأمرين :
﴿ ١ ﴾ أن إيجاب ذكر الوقت يستلزم ذكر ما وقع فيه.
﴿ ٢ ﴾ أن ذكر الوقت يشتمل على ما فيه بالتفصيل، فإذا استحضر كان كل ما فيه حاضرا لا يشذ عنه شيء.
وصرح بذكر إبراهيم دون الذي مر على القرية، لأن في سؤاله من الأدب مع الله والثناء عليه ما ليس في سؤال ذاك، فالصورة في الأول صورة الإقرار مع طلب الزيادة في العلم، والصورة في الثاني صورة الإنكار.
وبدأ سؤاله بكلمة " رب " المفيدة لعنايته تعالى بعبيده، وتربيته لعقولهم وأرواحهم استعطافا وثناء على الله أمام الدعاء.
وخلاصة المعنى- يا رب أرني بعيني كيفية إحيائك للموتى.
﴿ قال أو لم تؤمن قال بلى ﴾ أي قال : ألم تعلم ذلك وتؤمن بأني قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألني إراءته ؟ قال بلى علمت ذلك وصدقت بالخبر، ولكن تاقت نفسي للخبر والوقوف على كيفية هذا السر ليطمئن قلبي بالعيان بعد خبر الوحي.
وفي قوله تعالى لإبراهيم :﴿ أو لم تؤمن ﴾ وهو العليم بإيمانه ويقينه- تنبيه وإرشاد إلى ما ينبغي أن يقف عنده الإنسان ولا يعدوه، فإن الإيمان بهذا السر الإلهي والتسليم فيه لخبر الوحي، هو غاية ما يطلب من البشر، ولو كان وراء ذلك سبيل آخر لبينه الله تعالى.
وفي إرشاد إبراهيم خليله تأديب لعامة المؤمنين، ومنع لهم عن التذكر في كيفية الخلق والتكوين، فإن هذا مما استأثر الله تعالى بعلمه.
وليس في سؤال إبراهيم ما يشعر بالشك، فالإنسان قد جبل على طلب المزيد في العلم والرغبة في الوقوف على أسرار الخليقة، وأكمل الناس علما أشدهم رغبة في طلب الوقوف على المجهولات.
فطلب إبراهيم رؤية كيفية إحياء الموتى طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة بالبعث إذ قد عرفه بالوحي والدليل.
وإنا الآن لا نؤمن بأمور كثيرة إيمانا يقينيا ولا نعرف كيفيتها، ونود لو نعرفها، فهذا الأثير ﴿ التلغراف اللاسلكي ﴾ ينقل أخبار العالم في لحظة، ولا نعرف كيفية ذلك، بل أكثر من ذلك نقل الصور بالتلغراف من الأقطار النائية، والقارات البعيدة، ومثله أصوات المذياع ﴿ الراديو ﴾ التي تنشر في جميع أقطار العالم بكل اللغات، وتسمع في أرجاء المعمورة، ولا يعرف كثير من الناس كيف تصل إليهم.
ثم بين سبحانه أنه أجابه إلى ما طلب.
﴿ قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزاء، ثم ادعهن يأتينك سعيا، واعلم أن الله عزيز حكيم ﴾ أي إن إبراهيم بعد أن طلب من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى- أمره ربه أن يأخذ أربعة من الطير، فيقطعهن أجزاء، ثم يفرقها على عدة جبال بحضرته وأرضه، ثم يدعوها فتجيبه مسرعة- والطير أشد الحيوان نفورا من الإنسان غالبا- وقد فعل إبراهيم ذلك.
قال المرحوم النطاسي عبد العزيز باشا إسماعيل في رسالته ﴿ الإسلام والطب الحديث ﴾ أثناء كلامه في المعجزات التي وقعت على أيدي الأنبياء ليتجلى لك ما ربما غاب عن فكرك، وند عن بالك، وتفهم ذلك حق الفهم قال : المعجزات كلها من صنع الله مباشرة، ومعناها سنة جديدة، بخلاف ما نراه يوميا من عظة وعظمة كالولادة ونمو الحيوان والنبات، فإنه مع إعجازه يأتي مطابقا لقواعد ونظم وضعها الله لا تتغير، وأظهر مثل للنواميس الطبيعية حركة الشمس، فإن ذلك مع عظمته لا يحدث صدمة لتعودنا إياه، ولكن إن أتي الله بالشمس من المغرب بدل المشرق كان هذا معجزة بالنسبة للإنسان، مع أن الحركتين من صنع الله ولا فرق بينهما.
ولا تحدث المعجزات إلا على أيدي الأنبياء، لأن صدمتها إن كانت شديدة على الحاضرين، فهي أشد على من يكون واسطة فيها، ولذلك اختار الله الأنبياء واصطفاهم.
وصفوة القول- إن أساس المعجزة وعظمتها ليس في نتائجها وغرابتها، فالدهشة من سماع الأبكم يتكلم ربما كانت أقل من سماع الراديو لأول وهلة، ولكن أهمية المعجزة في طريق صنعها دون السنن الاعتيادية، وهي لذلك لا تتكرر أبدا إلا بإذن الله، لأن الإنسان لا يعرف قاعدتها، ولا يدرك طريق صنعها، أما الاختراع فإنه اكتشاف لناموس إلهي طبيعي، ولذلك هو يتكرر في الظروف نفسها على يد كل إنسان – هذا كلامه باختصار.
﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابلَ في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم { ٢٦١ ﴾ الذي ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴿ ٢٦٢ ﴾ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ﴿ ٢٦٣ ﴾ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ﴿ ٢٦٤ ﴾ }.
تفسير المفردات
سبيل الله : ما يوصل إلى مرضاته تعالى، الحبة : واحد الحب، وهو ما يزرع ليقتات به.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أمر البعث وقرره بالأدلة التي أراها للذي مر على قرية، ولإبراهيم صلوات الله عليه، وذكر أن هؤلاء المبعوثين يعودون إلى دار يوفون فيها أجورهم بغير حساب، في يوم لا تنفع فيه فدية ولا شفاعة، بل تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيل الله- ذكر هنا فضل الإنفاق وأن الحسنة قد يضاعفها الله إلى سبعمائة، ثم ضرب مثل السنبلة لذلك، ثم ذكر أن المن والأذى يبطل الصدقة كما يبطلها الرياء، وضرب لهذا مثل الصفوان
الإيضاح
﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ﴾ أي مثل الذين ينفقون المال يبتغون به رضا الله وحسن مثوبته كمن يزرع حبة في أرض مغلة فتنبت سبع سنابل : أي تخرج ساقا تتشعب منه سبع شعب في كل سنبلة منها مائة حبة كما يرى في كثير من الحب كالذرة والدخن.
وقد عنى بتطبيق هذا المثل علميا بعض أعضاء الجمعية الزراعية بمصر في مزارع القمح التي لها في التفتيش النموذجي وفي غيره، فهدتهم التجارب إلى أن الحبة الواحدة لا تنبت سنبلة واحدة بل أكثر، وقد وصلت أحيانا إلى أربعين، وأحيانا إلى ست وخمسين، وأحيانا إلى سبعين، كما دلتهم أيضا على أن السنبلة الواحدة تغل أحيانا ستين حبة أو أكثر، وقد عثر في عام ﴿ ١٩٤٢م ﴾ أحد مفتشي الجمعية على سنبلة أنبتت سبعا ومائة حبة وعرض نتيجة بحثه على الأخصائيين من رجال الجمعية وغيرهم في حفل جامع، ورأوا تلك السنبلة وعدوها عدا، فاتفقت كلمتهم على صدق ما عد ورأى، وشكروه على جهوده الموفقة- والزمان كفيل بتأييد قضايا الكتاب الكريم مهما طال عليها الأمد وكلما تقدم العلم ظهر صدق ما أخبر به.
وخلاصة ذلك –إن المنفق في إرضاء ربه وإعلاء دينه كمثل أبرك بذر زرع في أخصب أرض، فنما نموا حسنا فجاءت غلته سبعمائة ضعف.
﴿ والله يضاعف لمن يشاء ﴾ فيزيده زيادة لا حصر لها.
أخرج ابن ماجه عن علي وأبي الدرداء، كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك، فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة درهم ) ثم تلا هذه الآية.
وعن معاذ بن جبل أن الغزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد.
﴿ والله واسع عليم ﴾ أي إنه تعالى لا ينحصر فضله، ولا يحد عطاؤه، وهو عليم بمن يستحق هذه المضاعفة كالمنفقين في إعلاء شأن الحق، وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد، حتى إذا ما ظهرت آثار ذلك في قوة ملتهم وسعادة أمتهم جنوا من ذلك أجل الفوائد وعاد ذلك عليهم بالخير الوفير.
ولنعتبر بما نراه في الأمم العزيزة الجانب الذي ينفق أفرادها في إعلاء شأنها بنشر العلوم والمعارف وتأليف الجماعات الخيرية التي تقوم بها المصالح العامة، ولتوازن بين هؤلاء وبين كبراء الأمم التي ضعفت وذلت بإهمال الإنفاق في المصالح العامة، نر صعاليك الأولين ذوي عزة ومنعة لا يجازيهم فيها ثراة الآخرين.
هذا وإن الناس بمقتضى الفطرة يقتدى بعضهم ببعض، فمن بذل شيئا في سبيل المصلحة العامة كان قدوة لمن يبذل بعده، فالناس يتأسى بعضهم ببعض من حيث لا يشعرون.
والفضل الأكبر للسابقين الأولين في عمل الخير، فهم الذين يضعون الأسس لعمل الخير، فهم الفائزون برضوان الله، ولهم أجرهم وأجر من اقتدى بهم.
أخرج الترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ).
ثم بين ثواب الإنفاق في الآخرة بعد بيان منافعه في الدنيا فقال :﴿ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾.
تفسير المفردات :
المن : أن يذكر المحسن إحسانه لمن أحسن إليه ويظهر به تفضله عليه، والأذى : أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه كأن يقول له : إني قد أعطيتك فما شكرت.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أمر البعث وقرره بالأدلة التي أراها للذي مر على قرية، ولإبراهيم صلوات الله عليه، وذكر أن هؤلاء المبعوثين يعودون إلى دار يوفون فيها أجورهم بغير حساب، في يوم لا تنفع فيه فدية ولا شفاعة، بل تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيل الله- ذكر هنا فضل الإنفاق وأن الحسنة قد يضاعفها الله إلى سبعمائة، ثم ضرب مثل السنبلة لذلك، ثم ذكر أن المن والأذى يبطل الصدقة كما يبطلها الرياء، وضرب لهذا مثل الصفوان
الإيضاح :
أي إن الذين يبذلون أموالهم يبتغون بذلك مرضاة ربهم، ولا يتبعون ذلك بمنهم على من أحسنوا إليهم ولا بإيذائهم، لهم عند ربهم ثواب لا يقدر قدره، ولا خوف عليهم حين يخاف الناس وتفزعهم الأهوال، ولا هم يحزنون حين يحزن الباخلون الممسكون عن الإنفاق في سبيل الله، إذ هم أهل السكينة والاطمئنان والسرور الدائم.
والحكمة في تعليق هذا الثواب على ترك المن والأذى، أن الإنفاق في سبيل الله يراد به وجه الله وطلب رضاه، فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه لأنه لا يد له قبله، ولا صنيعة له عنده، تستحق – إن لم يكافئه عليها- المن والأذى فعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه.
ثم وضع سبحانه دستورا لحسن المعاملة بين الناس فقال :
﴿ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ﴾
تفسير المفردات :
قول معروف : أي كلام حسن ورد جميل على السائل كأن يقول له : رزقك الله، أوعد إلي مرة أخرى أو نحو ذلك، ومغفرة : أي ستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره مما يثقل على النفوس احتماله، وخير : أي أنفع وأكثر فائدة.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أمر البعث وقرره بالأدلة التي أراها للذي مر على قرية، ولإبراهيم صلوات الله عليه، وذكر أن هؤلاء المبعوثين يعودون إلى دار يوفون فيها أجورهم بغير حساب، في يوم لا تنفع فيه فدية ولا شفاعة، بل تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيل الله- ذكر هنا فضل الإنفاق وأن الحسنة قد يضاعفها الله إلى سبعمائة، ثم ضرب مثل السنبلة لذلك، ثم ذكر أن المن والأذى يبطل الصدقة كما يبطلها الرياء، وضرب لهذا مثل الصفوان
الإيضاح :
أي كلام حسن ورد جميل على السائل، وستر لما وقع منه من الإلحاف في السؤال وغيره أنفع لكم وأكثر فائدة من صدقة فيها الأذى، لأنه وإن خيب رجاءه فقد أفرح قلبه وهون عليه ذل السؤال، وهذا القول تارة يتوجه إلى السائل إن كانت الصدقة عليه، وتارة أخرى يتوجه إلى المصلحة العامة، كما إذا احتيج لجمع المال لدفع عدو مهاجم أو بناء مستشفى أو مدرسة أو نحو ذلك من أعمال الخير والبر ولم يكن لدى المرء مال، فعليه أن يساعد بالقول المعروف الذي يحث العاملين على العمل، وينشطهم إليه، ويبعث عزيمة الباذلين على الزيادة في البذل، أما الصدقة التي يتبعها أذى فهي مشوبة بضرر ما يتبعها من الإيذاء، ومن آذى فقد بغض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغض لهم، والسلم والولاء خير من العداوة والبغضاء.
ومن الخير للأمة أن يظهر أفرادها في مظهر المتعاونين كما قال :( وتعاونوا على البر والتقوى ) وذلك ما يعزز مقامها، ويحفظ كرامتها، ويجعلها مهيبة في أعين الناس أجمعين.
وخلاصة المعنى- إن مقابلة المحتاج بكلام يسره وهيئة ترضيه، خير له من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة، ولا فارق بين أن يكون المحتاج فردا أو جماعة، فإن مساعدة الأمة ببعض المال مع سوء القول في العمل الذي ساعدها عليه، وإظهار استهجانه، وتشكيك الناس في فائدته، لا توازي إحسان القول في ذلك العمل الذي تطلب المساعدة له، والإغضاء عن التقصير الذي ربما يقع من العاملين فيه، فكونك مع الأمة بقلبك ولسانك أجدى لها من شيء من المال تعطيه مع مقالة السوء وفعل الأذى.
وقد قررت هذه الآية مبدأ عاما في الشريعة وهو " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " فقد دلت على أن الخير لا يكون طريقا إلى الشر، وعلى أن الأعمال الصالحة يجب أن تكون خالية من الشوائب التي تفسدها وتذهب بفائدتها كلها أو بعضها، وعلى أن من عجز عن نوع من أنواع البر فعليه أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدي إلى مثل غايته، فمن شق عليه أن يتصدق ولا يمن ولا يؤذي، فعليه أن يجبر قلب الفقير بقول المعروف.
﴿ والله غني حليم ﴾ أي والله غني عن صدقة عباده، فلا يأمرهم ببذل المال لحاجة إليه، بل ليطهرهم ويزكيهم ويؤلف بين قلوبهم ويصلح شئونهم الاجتماعية، ليكونوا أعزاء، بعضهم لبعض ناصر ومعين.
فهو غني عن صدقة يتبعها من أو أذى، لأنه لا يقبل إلا الطيبات، حليم لا يعجل بعقوبة من يمن أو يؤذي.
وفي هذه الجملة سلوة للفقراء، وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني الحليم، وتهديد للأغنياء، وإنذار لهم بألا يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم، وعدم تعجيل العقوبة على كفرهم بنعمته تعالى، إذ من وهبهم المال فإنه يوشك أن يسلبه منهم.
وبعد أن أبان سبحانه فيما سلف أن ترك المن والأذى شرط لحصول الأجر والثواب على الإنفاق في سبيله- أقبل يخاطب عباده المؤمنين وينهاهم نهيا لا هوادة فيه عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى فقال :
تفسير المفردات :
رئاء الناس : أي مراءاة لهم لأجل أن يروه فيحمدوه، ولا يقصد ابتغاء رضوان الله بتحري ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين وترقية شأن الأمة بالقيام بما يصلح شؤونها، فمثله : أي فصفته، وصفوان : أي حجر أملس، والوابل : المطر الشديد، والصلد : الأملس الذي ليس عليه شيء من الغبار، ويقال فلان لا يقدر على درهم : أي لا يجده ولا يملكه.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أمر البعث وقرره بالأدلة التي أراها للذي مر على قرية، ولإبراهيم صلوات الله عليه، وذكر أن هؤلاء المبعوثين يعودون إلى دار يوفون فيها أجورهم بغير حساب، في يوم لا تنفع فيه فدية ولا شفاعة، بل تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيل الله- ذكر هنا فضل الإنفاق وأن الحسنة قد يضاعفها الله إلى سبعمائة، ثم ضرب مثل السنبلة لذلك، ثم ذكر أن المن والأذى يبطل الصدقة كما يبطلها الرياء، وضرب لهذا مثل الصفوان
الإيضاح :
أي إن المن والأذى هادم للفائدة المقصودة من الصدقة ومبطل لها، وهو تخفيف بؤس المحتاجين وكشف أذى الفقر عنهم إذا كانت الصدقة للأفراد، وتنشيط القائمين بخدمة الأمة ومساعدتها إذا كانت الصدقة في مصلحة عامة- إذ أن كل عمل لا يؤدى إلى الغاية منه فقد حبط وبطل كأن لم يكن، فما بالك إذا أتبع بضد الغاية ونقيضها ؟
ونحو ذلك ما يقال : إن صلاة المرائي باطلة، على معنى أن الغرض منها وهو توجه القلب إلى الله واستشعار سلطانه والإذعان لعظمته والشكر لإحسانه لم يحصل، لأن قلب المرائي إنما يتوجه إلى من يرائيه لا إلى ذي العظمة والجبروت، والملك والملكوت.
وفي ذلك مبالغة أيما مبالغة في التنفير عن هاتين الرذيلتين اللتين قد أولع الناس بهما ؛ فالنفوس مغرمة بذكر ما يصدر منها من الإحسان تمدحا وتفاخرا، وذلك طريق إلى المن والإيذاء، ولا سيما إذا آنس المتصدق تقصيرا في شكر الناس له على صدقته، أو احتقارا لها، فهو حينئذ لا يكاد يملك نفسه عن المن والأذى.
﴿ كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ أي لا تبطلوا صدقاتكم بإحدى هاتين الرذيلتين فتكونوا مشبهين من ينفق ماله مرائيا الناس : أي لأجل أن يروه فيحمدوه، لا لابتغاء مرضاة الله بتحري ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين، وترقية شأن الأمة بما يصلح شئونها، وهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا.
والخلاصة-إن كلا من المرائي وذي المن والأذى أتى بعمل غير مقبول ولا صحيح بل هو باطل ومردود عليه.
﴿ فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ﴾ أي إن صفة عمل المنافق المرائي كصفة تراب على حجر أملس نزل عليه ماء مطر شديد، فأزاله وترك الحجر صلدا نقيا لا تراب عليه.
والوجه المشترك بينهما، أن الناس يرون أن لهؤلاء المرائين أعمالا كما يرى التراب على الصفوان، فإذا جاء يوم القيامة وصاروا إلى الله اضمحل ذلك كله وذهب، لأنه لم يكن لله، كما يذهب الوابل من المطر ما كان على الصفوان، فيتركه أملس لا شيء عليه.
﴿ لا يقدرون على شيء مما كسبوا ﴾ أي إنهم لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثمرة لا في الدنيا ولا في الأخرى، أما في الدنيا فلأن المنان المؤذي بغيض إلى الناس، كالبخيل الممسك، والمرائي لا يخفى على الناس فعله.
ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اكتسيت به فإنك عار
وأما في الآخرة فلأن المن والأذى كالرياء مناف للإخلاص، ولا أجر عند الله إلا للمخلصين في أعمالهم الذين يتحرون تزكية نفوسهم وإصلاح أحوالهم.
﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ إلى ما فيه خيرهم ورشادهم، فإن الإيمان هو الذي يهدي قلب صاحبه إلى الإخلاص ووضع النفقات في مواضعها، والاحتراس من الإتيان بما يذهب فائدتها.
وفي هذا تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى من صفات الكافرين التي ينبغي للمؤمنين أن يتجنبوها.
﴿ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل حبة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل، والله بما تعملون بصير [ ٢٦٥ ] أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون [ ٢٦٦ ] ﴾
تفسير المفردات
ابتغاء مرضاة الله أي طلبا لرضوانه، وتثبيتا من أنفسهم أي لتمكين أنفسهم في مراتب الإيمان والإحسان باطمئنانها عند بذلها بحيث لا ينازعها فيه زلزال البخل ولا اضطراب الحرص، والجنة : البستان، والربوة المكان المرتفع من الأرض، وأشجار الربى أحسن منظرا وأزكى ثمرا لطاقة هوائها وفعل الشمس فيه، وآتت أكلها : أي أعطت صاحبها أكلها، والأكل كل ما يؤكل والمراد هنا الثمر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مثل الذين ينفقون أموالهم ثم يتبعون ذلك بالمن والأذى، ومثل الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، قفى على ذلك بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم طلبا لرضا ربهم وتزكية لأنفسهم، فبضدها تتبين الأشياء
الإيضاح
﴿ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل ﴾ أي مثل المنفقين أموالهم ابتغاء رضوانه تعالى، وتمكينا لأنفسهم في مراتب الإيمان والإحسان باطمئنانها حين البذل حتى يكون ذلك سجية لها، كمثل جنة جيدة التربة ملتفة الشجر، عظيمة الخصب، تنبت كثيرا من الغلات، نزل عليها مطر كثير فكان ثمرها ملئي ما كانت تغل، وإن لم يصبها الوابل فطل ومطر خفيف يكفيها لجودة تربتها وكرم منبتها وحسن موقعها، وهكذا كثير البر كثير الجود إن أصابه خير كثير أغدق ووسع في الإنفاق، وإن أصابه خير قليل أنفق بقدره، فخير دائم، وبره لا ينقطع.
وإنما قال من أنفسهم أي بعض أنفسهم، ولم يقل لأنفسهم، لأن إنفاق المال وجه من وجوه التثبيت والطمأنينة، وبذل الروح وجه آخر، وكماله ببذل الروح والمال معا كما جاء في قوله سبحانه في سورة الحجرات ﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ﴾.
وقد هدانا الله بهذا إلى أن نقصد بأعمالنا طلب رضاه وتزكية نفوسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حب المال، فإن نحن فعلنا ذلك جوزينا خير الجزاء.
﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ فهو يجازي كلا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به، وفي ذلك تحذير من الرياء الذي يظن صاحبه أنه يغش الناس بإظهاره خلاف ما يضمر فعليك أيها المنفق أن تخلص لربك الذي لا يخفى عليه ما تنطوي عليه سريرتك.
ثم ضرب مثلا لمن ينفق ماله ويتبعه بالمن والأذى فقال :﴿ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ﴾.
تفسير المفردات :
وضعف الشيء مثله، والطل المطر الخفيف، والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها إلى السماء حاملة الغبار فتكون كهيئة العمود، والنار أي السموم الشديد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مثل الذين ينفقون أموالهم ثم يتبعون ذلك بالمن والأذى، ومثل الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، قفى على ذلك بذكر مثل الذين ينفقون أموالهم طلبا لرضا ربهم وتزكية لأنفسهم، فبضدها تتبين الأشياء
الإيضاح :
أي هل يود الإنسان أن تكون له جنة معظم أشجارها الكرم والنخل- وهما أجل الأشجار وأكثرها نفعا- حاوية لأنواع أخرى من الثمرات، تجرى فيها الأنهار فتسقيها ماء غدقا، علق بها آماله، ورجا أن ينتفع بها عياله، وقد أصابه الكبر وأقعده عن الكسب، وله ذرية ضعفاء لا يستطيعون أن يقوموا بشأنه وشأنهم، ولا مورد له غير هذه الجنة.
وبينما هو على تلك الحال إذا بجنته قد أصابها إعصار فأحرقها بما فيه من سموم النار وهو أحوج ما يكون إليها، وبقي هو وأولاده حيارى لا يدرون ماذا هم فاعلون ؟
وهكذا حال من يفعل الخير ويبذل المال ويحيط عمله بالرياء أو بالمن والأذى، فإنه يأتي يوم القيامة وهو أشد ما يكون حاجة إلى ثواب ما بذل، لكنه يجد إعصار الرياء والمن والأذى أبطل ما فعل من الخير وجعله هباء منثورا فأصبح يقلب كفيه نادما ولات ساعة ندم.
وقد جرت سنة القرآن أن يذكر الكرم بثمره، والنخل بشجره، لأن كل شيء في النخل نافع للناس في شئون معايشهم، سواء في ذلك ورقه وجذوعه وأليافه وعثاكيله فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغيرها.
والمراد بقوله ﴿ له فيها من كل الثمرات ﴾ مع كون الجنة من نخيل وعنب- المنافع أي هو متمتع بجميع فوائدها.
﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ﴾ أي مثل هذا البيان بضرب الأمثال التي بلغت الغاية في الوضوح- يبين الله لكم دلائل شريعته وأسرارها وفوائدها وغاياتها، لتتفكروا فيها وتعتبروا بما اشتملت عليه من العبر، فتضعوا نفقاتكم في مواضعها، وتقصدوا بها أن تكون خالصة لوجهه تعالى بدون رياء ولا أذى.
﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، واعلموا أن الله غني حميد { ٢٦٧ ﴾ }.
تفسير المفردات
الطيب : هو الجيد المستطاب، وضده الخبيث المستكره، ولا تيمموا أي لا تقصدوا، وتغمضوا أي تتساهلوا وتتسامحوا من قولهم أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره، ويقال للبائع أغمض أي لا تستقص كأنك لا تبصر. وحميد أي مستحق للحمد على نعمه العظام..
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه ما يجب أن يتصف به المنفق عند البذل من الإخلاص لله وقصد تزكية النفس والبعد عن الرياء، وما يجب أن يتحلى به بعد البذل من البعد عن المن والأذى على أبلغ وجه وآكده، وفيه الإرشاد إلى ما يختص بالباذل وبطرق البذل.
أشار هنا إلى ما ينبغي أن يعنى بشأنه في المال المبذول وهو أن يكون من جيد أمواله وأحبها إليه ليتم الإرشاد والنصح في وجوه البذل والنفقة في سبيل الله.
الإيضاح
﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض أي أنفقوا من جياد أموالكم المكسوبة من النقد وسلع التجارة والماشية، ومما أخرجنا من الأرض من الحبوب والثمار وغيرها قال تعالى :{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾.
﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾ أي ولا تقصدوا الخبيث الرديء من أموالكم فتخصوه بالإنفاق منه.
وقد روى في سبب نزول الآية أن بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقتهم من حشف الثمر ﴿ أي رديئه ﴾.
وروى من وجه آخر أن الرجل كان يعمد إلى التمر فيضرمه، ثم يعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء، وكما نهينا عن تعمد تخصيص خرجناأخرجنا
الصدقة بالخبيث، نهينا عن تكليف المتصدق بدفع الجيد من ماله فحسب، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن ( أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم ) فالواجب أخذ الوسط.
﴿ ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ﴾ أي كيف تقصدون الخبيث وتتصدقون به وحده ولستم ترضون مثله لأنفسكم إلا أن تتساهلوا فيه تساهل من أغمض عينيه عنه فلم ير العيب فيه، ولن يرضى ذلك أحد لنفسه إلا وهو يرى أنه مغبون مغموض الحق، ألا ترى أن الرديء لا يقبل هدية إلا بإغماض فيه وتساهل مع المهدي، لأن إهداءه يشعر بقلة الاحترام لمن أهدي إليه، والذي يقبله مع الإغماض إنما يقبله لحاجته إليه، أن الخوف حق، والله لا يحتاج فيغمض.
﴿ واعلموا أن الله غني حميد ﴾ أي إن الله غني عن إنفاقكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم، فلا تتقربوا إليه بما لا يقبله لرداءته، وهو المستحق للحمد على جلائل نعمائه، ومن الحمد اللائق بجلاله تحري إنفاق الطيب مما أنعم به.
﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم { ٢٦٨ ﴾ يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيرا كثيرا، وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴿ ٢٦٩ ﴾ }.
تفسير المفردات
يعدكم أي يخوفكم، والفقر : سوء الحال وضيق ذات اليد، ويأمركم أي يغريكم، والمراد بالفحشاء هنا البخل، والمغفرة الصفح عن الذنب، والفضل الرزق والخلف.
المعنى الجملي
بعد أن أمرنا سبحانه بإنفاق الطيب من أموالنا، ونهانا عن تيمم الخبيث منها وإعطائه صدقة، أراد أن يبين أن أسباب هذا القصد الذي يفعله المتصدق، وركونه إلى الرديء دون الجيد أن الشيطان يقول له : لا تنفق الجيد من أموالك حتى لا تكون عاقبة ذلك الفقر
الإيضاح
﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾ أي إن الشيطان يخوف المتصدقين الفقر ويغريهم بالبخل، ويخيل إليهم أن الإنفاق يذهب بالمال، ولا بد من إمساكه والحرص عليه استعدادا لحاجات الزمان، وسمي ذلك التخويف وعدا [ والوعد هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر، والشيطان لم يضف مجيء الفقر إليه ] مبالغة في الإخبار بتحقق وقوعه، وكأن محبته بحسب إرادته وطوع مشيئته.
﴿ والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ﴾ أي إن الله وعدكم على لسان نبيكم، وبما أودعه في الفطر السليمة من حب الخير والرغبة في البر- مغفرة لكثير من خطاياكم، وخلفا في الدنيا من جاه عريض، وصيت حسن بين الناس، ومال أزيدمبما أنفق، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ﴾. روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا ) ومعنى الدعاء للمنفق بالخلف أن يسهل له أسباب الرزق، ويرفع شأنه عند الناس، والبخيل محروم من مثل هذا، ومعنى الدعاء على الممسك بالتلف أن يذهب ماله حيث لا يفيده.
﴿ والله واسع عليم ﴾ أي إن الله واسع الرحمة والفضل، فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقون، وهو عليم بما تنفقون، فلا يضيع أجركم، بل يجازيكم أحسن الجزاء.
﴿ يؤتي الحكمة من يشاء ﴾
تفسير المفردات :
والحكمة العلم النافع الذي يكون له الأثر في النفس، فيوجه الإرادة إلى العمل بما تهوى مما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
المعنى الجملي
بعد أن أمرنا سبحانه بإنفاق الطيب من أموالنا، ونهانا عن تيمم الخبيث منها وإعطائه صدقة، أراد أن يبين أن أسباب هذا القصد الذي يفعله المتصدق، وركونه إلى الرديء دون الجيد أن الشيطان يقول له : لا تنفق الجيد من أموالك حتى لا تكون عاقبة ذلك الفقر
الإيضاح :
أي إنه تعالى يعطي الحكمة والعلم النافع المصرف للإرادة لمن يشاء من عباده، فيميز به الحقائق من الأوهام، ويسهل عليه التفرقة بين الوسواس والإلهام.
وآلة الحكمة العقل المستقل بالحكم في إدراك الأشياء بأدلتها، وفهم الأمور على حقيقتها- ومن أوتي ذلك عرف الفرق بين وعد الرحمن ووعد الشيطان، وعض على الأول بالنواجذ وطرح الثاني وراءه ظهريا.
وقد فسر حبر الأمة عبد الله بن عباس الحكمة بالفقه في القرآن أي معرفة ما فيه من الهدى والأحكام بأسراره وحكمه، ومن فقه ما ورد في الإنفاق وفوائده وآدابه من الآيات- لا يكون وعد الشيطان له الفقر وأمره إياه بالبخل مانعا له من البذل والإنفاق.
والآية الكريمة رافعة شأن الحكمة بأوسع ما لها من المعاني، وهادية إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له.
﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾ أي ومن يوفقه الله لهذا النوع النافع من العلم، ويرشده إلى هداية العقل، وتوجيهه الوجهة الصحيحة- فقد هدي إلى خيري الدنيا والآخرة، فهو يسخر القوى التي خلقها الله له من سمع وبصر وشعور ووجدان في النافع من الأشياء، ويعدها لتنفيذ ما يرغب فيه، ثم بعدئذ يفوض الأمر إلى بارئه الذي فطره وسواه، ومنه مبدؤه وإليه منتهاه، وبهذا لا يستسلم لوساوس الشيطان، ولا يقض مضجعه ما يجده من مكدرات الحياة وآلامها، ولا ما تسوقه إليه من محنها وأرزائها، اعتقادا منه أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وبهذا يستريح باله، وتهدأ ثائرته، ويجد في قلبه بردا وسلاما لمزعجات الليالي والأيام.
﴿ وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾ أي ولا يتعظ بالعلم ويتأثر به، ويجعل الإرادة مصرفة له، خاضعة لمشيئته، إلا ذوو العقول السليمة، والنفوس التي تغوص في بحر الحقائق، وتستخرج منها ما هو نافع في هذه الحياة، وبه سعادتها، وتجعله سلما ترقى به في معارج الفلاح لتصل به إلى خير العقبى- حشرنا الله في زمرة أولئك.
﴿ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، وما للظالمين من أنصار { ٢٧٠ ﴾ }.
تفسير المفردات
النذر في اللغة : العزم على التزام شيء خاص فعلا أو تركا، وفي الشرع التزام طاعة تقربا إلى الله تعالى، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه تعالى حكم النفقة والبذل في سبيله – عمم الحكم هنا في كل نفقة، سواء أكانت في طاعة أم معصية، وبين أن الله عليم بها ومجاز عليها. إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فعلينا أن نختار لأنفسنا أفضل ما يحب أن يعلمه ربنا عنا.
الإيضاح
﴿ وما أنفقتم من نفقة ﴾ في خير أو شر، صادرة عن إخلاص أو عن رياء، أتبعت بمن أو أذى أو لم تتبع بذلك، سرا كانت أو علانية.
﴿ أو نذرتم من نذر ﴾ في طاعة أو في معصية فهو قسمان :
﴿ ١ ﴾نذر قربة وبر، وهو ما قصد به التزام الطاعة قربة لله تعالى كأن ينذر بذل مقدار معين من المال، أو صلاة نافلة، كقوله إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بكذا.
﴿ ٢ ﴾ نذر لجاج وغضب، وهو ما يقصد به حث النفس على شيء أو منعها عنه، كقولك إن كلمت فلانا فعلي كذا.
واتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالأول، وهو مخير في الثاني بين الوفاء بما التزمه، وكفارة يمين.
وكل هذا إن كان النذر في طاعة، لأنه لا يتقرب إلى الله إلا بالطاعة، فإن نذر فعل معصية جرم عليه فعله، فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( النذر نذران، فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى، وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان، ولا وفاء فيه، ويكفره ما كفر اليمين ).
ومن نذر مباحا فعله، لأن فسخ العزائم من ضعف الإرادة، ومن ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم من نذرت أن تضرب بالدف وتغنى يوم قدموه بالوفاء.
﴿ فإن الله يعلمه ﴾ ويجازي عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد.
﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾ أي وما للذين ظلموا أنفسهم ولم يزكوها من رذيلة البخل، أو من رذيلة المن والأذى، وظلموا الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم وظلموا الأمة بترك الإنفاق في مصالحها العامة- من أنصار لهم ينصرونهم يوم الجزاء، فيدفعون عنهم بجاههم أو بمالهم، وهذا كقوله :( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ).
وفي هذا عبرة أيما عبرة لأولئك الباخلين بمالهم من المسلمين على المصالح العامة التي فيها خير للأمة، وفيها سعادتها وعزها، فالمال هو قطب الرحى، وعليه تدور مصالح الأمم في هذا العصر عصر المال، ومن ثم تدهورت الأمم الإسلامية وصارت في أخريات الأمم مدنية ورقيا وحضارة وتقدما، وفشا الجهل بين أفرادها، وأصبحت في فقر مدقع، وقد كان في مكنتهم أن ينشلوها من وهدتها، ويرفعوها من الحضيض الذي وصلت إليه ببذل شيء من المال الذي يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير العميم، والفضل الكبير، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
﴿ إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراءَ فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم، والله بما تعملون خبير { ٢٧١ ﴾ }.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن الله يعلم ما تنفقون ويجازيكم عليه إن خيرا وإن شرا- بين هنا سبيل إعطاء الصدقات، وما يتبع في ذلك من السر والعلانية، وأيهما الأفضل.
الإيضاح
﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي ﴾ أي إن تظهروا الصدقات فنعم عملا إظهارها، لما فيه من الأسوة الحسنة، فيقتدي بالمتصدق كثير من الناس، ولأن الصدقة من شعائر الإسلام التي لو أخفيت لتوهم منعها.
﴿ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ أي وإن تعطوها الفقراء خفية فهو أفضل، لما في ذلك من البعد عن شبهة الرياء، ولما دلت عليه الآثار والأحاديث، أخرج أحمد عن أبي أمامة ( أن أبا ذر قال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟ قال : صدقة سر إلى فقير، أو جهد من مقل ثم قرأ الآية ). وروى الطبراني مرفوعا ( إن صدقة السر تطفئ غضب الرب ) وروى البخاري : إن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، إذ لا ظل إلا ظله ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : صدقة السر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا وهكذا الحكم في جميع الفرائض والتطوع.
وقال أكثر العلماء : إن أفضلية السر على العلانية إنما هي في التطوع لا في الفريضة، فإن إظهارها أفضل لإظهار شعيرة من شعائر الدين، وقوة الدين بإظهار شعائره، ولما في ذلك من القدوة الحسنة، ولأن احتمال الرياء بعيد في أداء الفرائض، بل قالوا أيضا : إن الإظهار أفضل لمن يرجو اقتداء الناس به في صدقته ولو كانت تطوعا.
والمخلص في صدقته لا يعسر عليه حين الصدقة في المصالح العامة- أن يجمع بين إخفاء الصدقة الذي يسلم به من منازعة الرياء، وبين إبدائها الذي يكون مدعاة للأسوة والإقتداء، بأن يرسل حوالة مالية لجمعية خيرية ولا يذكر لها اسمه أو يذكره لرئيسها أو أمين صندوقها فحسب، وقد جرت عادة الجمعيات أن تشيد بمثل هذه الصدقة بلسان أعضائها أو بلسان الجرائد والمجلات ونحوها، وذلك أوسع طرق الشهرة وأبعدها مدى في عصرنا.
وقد فهم من قوله ﴿ الفقراء ﴾ ولم يقل فقراءكم أعني المسلمين- أن صدقة التطوع تعطي للمسلم والكافر والبر والفاجر، لأن الله كتب الرحمة والإحسان في كل شيء فقد ورد في الصحيحين :( في كل ذي كبد حرى أجر ) أي في جميع الأحياء وتمنع الزكاة التي هي أحد أركان الإسلام عن الكافر، ومثلها زكاة الفطر.
كما فهم من التصريح به أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه، إذ ما يدعى الغني الفقر، ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس، فعلينا أن نتحرى ونعطي الفقراء حقا لا مدعي الفقر.
﴿ ويكفر عنكم من سيئاتكم ﴾ أي ويمحو عنكم بعض ذنوبكم، لأن الصدقة لا تكفر جميع الذنوب.
﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ أي فما تفعلونه في صدقاتكم من الإسرار والإعلان، فالله خبير به، عليم بأمره، ومجازيكم عليه، وفي هذا ترغيب في إعطاء الصدقات سرا.
وقد روى أنه لما نزل قوله ﴿ وما أنفقتم من نفقة ﴾ الآية قالوا يا رسول الله : أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية ؟ فنزلت الآية ﴿ إن تبدوا الصدقات... ﴾ إلى آخرها.
﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون { ٢٧٢ ﴾ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا، وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } [ ٢٧٣ ]
تفسير المفردات
الهدى ضربان : هدى التوفيق إلى طريق الخير والسعادة، وهو على الله تعالى، وهدى الدلالة والإرشاد إلى الخير وهو على النبي صلى الله عليه وسلم، وابتغاء وجه الله طلب مرضاته.
المعنى الجملي
بعد أن أرشده في الآية السابقة إلى إيتاء الصدقات للفقراء عامة مسلمين وغيرهم، بين هنا أنه لا ينبغي التحرج من إعطاء الفقير غير المسلم الصدقة لكفره، لأن الصدقة لسد خلته، ولا دخل لها بإيمانه، إذ من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما، وأن يسبق سائر الناس بالفضل والجود.
أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا ألا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وغيره أن ناسا من الأنصار لهم صهر وقرابة من المشركين، كانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا فنزلت الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تصدقوا إلا على أهل دينكم ) فأنزل الله تعالى ﴿ ليس عليك هداهم ﴾ الآية
الإيضاح
﴿ ليس عليك هداهم ﴾ أي لا يجب عليك بأن تجعل الناس مهديين، إن أنت إلا بشير ونذير، وما عليك إلا الإرشاد والحث على الفضائل والنهي عن الرذائل كالمن والأذى وإنفاق الخبيث.
﴿ ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ أي إن أمر الناس في الاهتداء مفوض إلى ربهم، بما وضعه لسير عقولهم وقلوبهم من السنن، فهو الذي يوفقهم إلى النظر الصحيح الذي يكون من ثمرته العمل الموصل إلى سعادتهم.
﴿ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ﴾ أي وما تنفقوا من خير فنفعه عائد إليكم في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فلأنه يكف شر الفقراء ويدفع عنكم أذاهم، فإن الفقراء إذا ضاقت بهم الحال وحزبهم الأمر تألبوا على الأغنياء وسلبوهم ونهبوا أموالهم وآذوهم على قدر ما يستطيعون، ثم سرى شرهم إلى غيرهم، فتختل نظم المجتمع، ويفقد الأمن في الأمة.
وأما في الآخرة فلأن ثوابه لكم، ونفعه الديني راجع إليكم لا للفقراء، فلا تمنعوا الإنفاق على فقراء المشركين.
﴿ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ﴾ أي إنكم لا تنفقون لأجل جاه ولا مكانة عند المنفق عليه، وإنما تنفقون لوجه الله، فلا فرق بين فقير وفقير إذا كان مستحقا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزاق الكريم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لأجل عقيدته، وهذا كقوله :﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ﴾.
﴿ وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ﴾ أي يوف إليكم في الآخرة لا تنقصون منه شيئا، فأنتم على استفادتكم من الإنفاق في رقى أنفسكم، وتثبيتها في مقامات الإيمان والإحسان، وإرادة وجه الله وابتغاء مرضاته- لا يضيع عليكم ما تنفقون، بل توفونه ولا تظلمون منه شيئا.
وفي هذا إرشاد من الله لعباده أن يكملوا أنفسهم، ويبتغوا أن يراهم الله كملة يعملون الحسن لأنه حسن تتحقق به حكمته، وتقوم به سنته في صلاح البشر.
ثم بين أحق الناس بالصدقة فقال :﴿ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ﴾.
تفسير المفردات :
أحصروا منعوا وحبسوا في طاعته لغزو أو تعلم علم، ضربا في الأرض أي سيرا فيها للكسب والتجارة، والتعفف إظهار العفة وهي ترك الطلب ومنع النفس مما تريد، والسيما العلامة التي يعرف بها الشيء، وإلحافا أي إلحاحا وهو أن يلازم السائل المسئول حتى يعطيه.
المعنى الجملي
بعد أن أرشده في الآية السابقة إلى إيتاء الصدقات للفقراء عامة مسلمين وغيرهم، بين هنا أنه لا ينبغي التحرج من إعطاء الفقير غير المسلم الصدقة لكفره، لأن الصدقة لسد خلته، ولا دخل لها بإيمانه، إذ من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما، وأن يسبق سائر الناس بالفضل والجود.
أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا ألا يتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وغيره أن ناسا من الأنصار لهم صهر وقرابة من المشركين، كانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا فنزلت الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تصدقوا إلا على أهل دينكم ) فأنزل الله تعالى ﴿ ليس عليك هداهم ﴾ الآية
الإيضاح :
أي اجعلوا ما تنفقون للذين ذكر الله صفاتهم الخمس التي هي من أجل الأوصاف قدرا :
﴿ ١ ﴾ الإحصار في سبيل الله، والمراد به حبس النفس للجهاد أو العمل في مرضاة الله، إذ هم لو اشتغلوا بالكسب لتعطلت المصلحة العامة التي أحصروا فيها، وحبسوا أنفسهم لها، وتجب نفقتهم في بيت المال، ومنه الإحصار لتعلم الفنون العسكرية في العصر الحديث، فإن حبس الشخص نفسه في الأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح العامة كالجهاد وطلب العلم، وكان يستطيع الكسب في أوقات فراغه لم يحل له الأخذ من الصدقة.
﴿ ٢ ﴾ العجز عن الكسب والضرب في الأرض للتجارة ونحوها بسبب المرض أو الخوف من العدو، وهذا هو المقصود بقوله :﴿ لا يستطيعون ضربا في الأرض ﴾.
﴿ ٣ ﴾ التعفف والمبالغة في التنزه عن الطمع مما في أيدي الناس، فإذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم ظنهم أغنياء، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :﴿ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ﴾.
﴿ ٤ ﴾ أن لهم سيما خاصة تترك معرفتها إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق إذ صاحب الحاجة لا يخفى على المتفرس مهما تستر وتعفف، ولا يختص ذلك بخشوع وتواضع، ولا برثاثة في الثياب، فرب سائل يأتيك خاشع الطرف والصوت رث الثياب، تعرف من سيماه أنه غني وهو يسأل الناس تكثرا، وكم رجل يقابلك بطلاقة وجه، وحسن بره فتحكم عليه في لحن قوله، وأمارات وجهه أنه فقير عزيز النفس، وهذا ما أشار إليه بقوله :﴿ تعرفهم بسيماهم ﴾.
﴿ ٥ ﴾ ألا يسألوا الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح كما هو شأن الشحاذين وأهل الكدية، وقد يكون المعنى- أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف ولا سؤال رفق واستعطاف.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس ).
والسؤال محرم لغير ضرورة، روى أبو داود والترمذي من حديث عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ) والمرة بكسر الميم القوة، والسوي هو السليم الأعضاء، والمراد به القادر على الكسب.
وروى أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : ما يغذيه أو يعشيه ).
وروى أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقل منه أو ليستكثر ).
وروى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق منه ويستغني به عن الناس، خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ).
فمن يعلم أنه يسأل لنفسه تكثرا كالشحاذين الذين جعلوا السؤال حرفة وهم قادرون على العمل- لا يعطي شيئا، فقد رأى عمر رضي الله عنه سائلا يحمل جرابا فأمر أن ينظر فيه فإذا هو خبز، فأمر أن يؤخذ منه ويلقى إلى إبل الصدقة.
وقد روى أن هذه الآية نزلت في أهل الصفة وهم أربعمائة من فقراء المهاجرين رصدوا أنفسهم لحفظ القرآن الكريم والجهاد في سبيل الله، ولم يكن لأكثرهم مأوى، لذلك كانوا يقيمون في صفة المسجد ﴿ موضع منه مظل ﴾ وقد هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها، فهم محصورون في سبيل الله بهذه الهجرة، ومحصورون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن.
وقد كان حفظه حينئذ من أفضل العبادات على الإطلاق، لأنهم ما كانوا يحفظونه إلا للفهم والاهتداء والعمل به، وحفظ الدين بحفظه، وكانوا يحفظون بيان النبي صلى الله عليه وسلم له بسنته القولية وسنته العملية.
وعن ابن عباس أن رسول صلى الله عليه وسلم وقف يوما على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال :( أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفقائي ).
ولا يحل لأهل التكايا ومشايخ الطرق أن يأكلوا أموال الناس، لأنهم لم ينقطعوا لتعلم علم ولا غزو في سبيل الله، بل قصارى أمر الأولين أن يأكلوا الصدقات والأوقاف ليعبدوا الله في هذه التكايا، فهي لهم كالأديار للنصارى وهم فيها كالرهبان، وإن كان بعضهم قد يتزوج.
وكذلك مشايخ الطرق الذين ينزلون بجماعتهم بلدا بعد آخر، ويكلفون من يستضيفونه الذبائح والشيء الكثير من الطعام، ثم لا يخرجون إلا مثقلين بالمال والهدايا، بل قد يسلبون وينهبون باسم الدين وفي معرض الكرامات، فهؤلاء الأوغاد يشبهون أنفسهم بأهل الصفة ويزعمون أن لأكلهم أموال الناس بالباطل- أصلا في الكتاب والسنة ﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ﴾.
﴿ وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ﴾ فلا يخفى عليه حسن النية والإخلاص له في العمل، ولا تحري النفع به وإيتاؤه حق الناس به، فهو يجازي عليه بحسب هذا.
ولا يخفى ما في هذا من الترغيب في الإنفاق، ولا سيما على مثل هؤلاء الذين تقدم ذكرهم.
﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون { ٢٧٤ ﴾ }.
المعنى الجملي
بعد أن رغب سبحانه في الآيات السالفة في الإنفاق وبين فوائده للمنفقين والمنفق عليهم، وللأمة التي يتعاون أفرادها ويكفل أقوياؤها ضعفاءها، وأغنياؤها فقرءها، ويقوم فيها القادرون بالمصالح العامة التي تجعل الأمة عزيزة الجانب محوطة بالكرامة في أعين الأمم الأخرى، كما بين آداب النفقة والمستحقين لها، وأحق الناس بها إلى نحو من هذا.
بين هنا فضيلة الإنفاق في جميع الأوقات والأحوال ومضاعفة الأجر على ذلك.
الإيضاح
المعنى-إن الذين ينفقون أموالهم في جميع الأزمنة وفي سائر الأحوال، ولا يحجمون عن البذل إذا لاح لهم وجه الحاجة إلى ذلك، لهم ثوابهم عند ربهم في خزائن فضله، ولا خوف عليهم حين يخاف الباخلون من تبعة بخلهم بالمال وحبسه حين الحاجة إلى بذله في سبيل الله، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من صالح العمل الذي يرجون به ثواب الله.
ذاك أن نفوسهم قد سمت وبلغت حدا من الكمال لم يبق لسلطان المال معه موضع في قلوبهم، وأصبحت مرضاته الشغل الشاغل لهم، فلا يستريح لهم بال إلا إذا سدوا خله محتاج أو آسوا جراح مكلوم، أو أشبعوا بطن جائع، أو جهزوا جيشا يسدون به ثغرة فتحها عدو، وهؤلاء هم المؤمنون حقا الذين يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.
وإنما قدم الليل على النهار، والسر على العلانية للإيماء إلى تفضيل صدقة السر على صدقة العلانية، وجمع بين السر والعلانية للإيماء إلى أن لكل منهما موضعا تقتضيه المصلحة قد يفضل فيه سواه، إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها.
وقد روي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق إذ أنفق أربعين ألف دينار، عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وعشرة بالسر، وعشرة بالعلانية.
وأخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس أنها نزلت في علي كرم الله وجهه- كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما، وبالنهار درهما، وسرا درهما، وعلانية درهما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما حملك على هذا ؟ قال : حملني أن أستوجب على الله الذي وعدني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن ذلك لك ).
﴿ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون { ٢٧٥ ﴾ يمحق الله الربا ويربي الصدقات، والله لا يحب كل كفار أثيم ﴿ ٢٧٦ ﴾ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴿ ٢٧٧ ﴾ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ﴿ ٢٧٨ ﴾ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴿ ٢٧٩ ﴾ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ﴿ ٢٨٠ ﴾ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴿ ٢٨١ ﴾ }.
تفسير المفردات
يأكلون : أي يأخذون ويتصرفون فيه بسائر أنواع التصرفات، والربا لغة الزيادة يقال ربا الشيء، يربو إذا زاد، ومنه الرابية لما علا من الأرض فزاد على ما حوله. والخبط : الضرب على غير اتساق، يقال ناقة خبوط إذا وطئت الناس وضربت الأرض بقوائمها، ويقال للرجل يتصرف في الأمور على غير هدى : هو يخبط خبط عشواء [ العشواء الناقة الضعيفة البصر ] والمس : الجنون، يقال مس الرجل فهو ممسوس إذا جن، والموعظة : العظة والزجر.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة، والمتصدق يعطي المال من غير عوض ابتغاء وجه الله- وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابي يأخذ المال بلا عوض يقابله.
وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل، وفيم يكون ؟ حتى نتفهمه حق الفهم، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام.
الربا ضربان : ربا النسيئة، وربا الفضل.
فالأول : يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل، قال ابن جرير : إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال : أخر عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه. اهـ.
والتعامل بهذا النوع من الكبائر، وقد ورد في الحديث ( لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ).
والثاني : يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي، أو أقة عنب مصري بأقة وربع من عنب أزمير، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين ﴿ الذهب والفضة ﴾ لما جاء في الخبر من قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق ﴿ الفضة ﴾ والبر بالبر والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ).
والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.
أسرار تحريم الربا
زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، بلاد المدنية والحضارة ونهلوا من مناهل العلم هناك، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة في العصر الحديث، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب إلا بتحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش، ومن كان منهم غنيا لا يعطي ماله بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغني لا ينمو، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كأداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية.
وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين ؛ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك، فلماذا لا تتقن سائر المكاسب لنعوض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شيء ؟
وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فالدين لم يكن عائقا لهم عن الرقي، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل، والحث على الكسب كما قال تعالى :﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ﴾ وقال :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾.
فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين، وما سقطت بعدما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك، إلى أن صارت تجعل علة الرقي سببا في الانحطاط، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا، ولا ذهب ملكنا وكان الدين وحده هو العاصم لنا.
فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة : اليهودية والنصرانية والإسلام، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر، ثم قلدوا غيرهم فيها، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث في أكثر الأقطار، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم.
فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.
ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرم الدين الربا فيما يلي :
﴿ ١ ﴾ إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش ؛ فيألف الكسل. ويمقت العمل، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم، فلا يرأف بفقير، ولا يشفق على بائس، ولا يرحم مسكينا، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم، ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.
﴿ ٢ ﴾ إنه يؤدي إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جراء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، وأَضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة، والمرة بعد المرة.
ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيا عنه بألا يحدث أحدا بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.
﴿ ٣ ﴾ إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع. قال صلى الله عليه وسلم ( حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ).
ولا ينبغي اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يدي المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.
﴿ ٤ ﴾ إن عاقبته الخراب والدمار، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير ( إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل ).
والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوهه من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولي الدائنون قسرا على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله ﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾.
وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه في مؤتمر القانون الإسلامي في شهر يوليوز سنة ١٩٥١ وقد جاء فيها : أن سنة القرآن في معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة.
فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحي، وأما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر، وأن إثمه أكبر من نفعه، والدرجة الثانية تحريم جزئي له. والثالثة تحريمه التحريم الكلي القاطع.
فهل يطيب لكم أن تدرسوا معي المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا ؟
إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التام على مسلكه في شأن الخمر، لا في عدد مراحله فحسب، بل حتى في أماكن نزول الوحي وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها.
نعم، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا، وكان أول موضع منها وحيا مكيا والثلاثة الباقية مدنية، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.
ففي الآية المكية يقول الله جلت حكمته ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله ﴾ هذه كما ترونها موعظة سلبية : أن الربا لا ثواب له عند الله، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية ﴿ ١٦-٦٧ ﴾ حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيهها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.
أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنص الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهي يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر ﴿ ٢-٢١٩ ﴾ حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهي صريح، وقد جاء هذا النهي بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة { ٤-٤٣ ].
وكذلك لم يجئ النهي الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة ﴿ ٢-١٣٠ ﴾.
وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا، بل ختم بها التشريع القرآني كله على ما صح عن ابن عباس، وفيها النهي الحاسم عن كل ما يزيد على رأس مال الدين حيث يقول الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾ ﴿ ٢-٢٧٨-٢٨١ ﴾.
هذه أيها السادة والسيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التاريخي.
وإنكم لترو
الإيضاح
﴿ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ﴾ يقال لمن يتصرف في شيء من مال غيره، أكله وهضمه أي إنه تصرف فيه تمام التصرف، فلا سبيل إلى رده كما لا سبيل إلى رد المأكول.
والمراد أن حال المرابين في الدنيا كالمتخبطين في أعمالهم بسبب الصرع والجنون، إذ أنهم لما فتنوا بحب المال واستعبدتهم زينته، ضربت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لأجله جميع موارد الكسب الأخرى، فخرجت نفوسهم عن حد الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، وترى أكثر ذلك ظاهرا في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم ؛ فالمولعون بأعمال ﴿ البورصة ﴾ والمغرمون بالقمار يزداد فيهم النشاط والانهماك في الأعمال، وترى فيهم خفة تعقبها حركات غير منتظمة، والعرب تقول لمن يسرع ويأتي بحركات مختلفة على غير نظام قد جن.
وجمهور المفسرين على أن المراد بالقيام القيام من القبور حين البعث، وأن الله جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود.
وروى الطبراني حديث عوف بن مالك مرفوعا :( إياك والذنوب التي لا تغفر، الغلول- الخيانة في مغنم وغيره- فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط ).
وتخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب، إذ يزعمون أنه يخبط الإنسان فيصرع، فورد القرآن على ما يعتقدون، وكذلك يعتقدون أن الجني يمس الإنسان فيختلط عقله، ويقولون رجل ممسوس : أي مسه الجن، ورجل مجنون : إذا ضربته الجن، ولهم في ذلك قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المحسوسات.
فجاءت الآية وفق ما يعتقدون، ولا تفيد صحة هذا ولا نفيه، كما جاء قوله تعالى في وصف ثمر شجرة الزقوم التي تكون يوم القيامة في النار ﴿ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ﴾ وما رأى أحد رؤوس الشياطين، لكنها جاءت بحسب ما يتخيلون ويزعمون.
﴿ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ أي ذلك الأكل للربا مرتب على استحلالهم له وجعله كالبيع، فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما بأجل، يجوز أن يعطى المحتاج عشرة دراهم على أن يرد عليه بعد سنة عشرين درهما، والسبب في كل من الزيادتين واحد وهو الأجل.
تلك حجتهم وهم واهمون فيما قالوا، فقياسهم فاسد، ومن ثم قال :
﴿ وأحل الله البيع وحرم الربا ﴾.
إذ في البيع ما يقتضي حله، وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه- ذاك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقيا، فمن يشترى قمحا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره في الأرض أو ليبيعه، والثمن مقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما، أما الربا فهو إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر، فما يؤخذ من المدين زيادة في رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل، ولا يؤخذ بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار.
﴿ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ﴾ أي فمن بلغه تحريم الله للربا ونهيه عنه فتركه فورا بلا تراخ ولا تردد اتباعا لنهي الله- فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم، ويكتفي منه بألا يأخذ ربا بعد ذلك.
﴿ وأمره إلى الله ﴾ يحكم فيه بعدله، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم، وبلوغه الموعظة من ربه، وفي هذا إيماء إلى أن تلك الإباحة لما سلف رخصة للضرورة، وترشد إلى أن رد ما أخذه من قبل النهي إلى أربابه من أفضل العزائم.
﴿ ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ أي ومن عادوا إلى ما كانوا يأكلون من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك الذين لم يتعظوا بموعظة من ربهم، وهو لا ينهاهم إلا عما يضرهم، فهم أهل النار خالدين فيها.
والخلود هنا المكث الطويل، وقد عبر به تغليظا كما جاء مثله في آيات أخرى.
ويرى بعضهم أن الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا- إيثار لحب المال أو اللذة به، فلا يجتمع مع الإيمان الحق الذي يملأ النفوس خوفا ورهبة من عقاب الله بفعل ما نهى عنه، وأما الإيمان الصوري فلا وزن له عند الله، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما يرشد إلى ذلك الحديث ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ).
فالذي يرتكب الفواحش على هذه الطريقة يعد من الكافرين المستحلين، وإن أنكر ذلك بلسانه، فيكون خالدا مخلدا في النار أبدا.
﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾
تفسير المفردات :
والمحق : نقص الشيء حالا بعد حال كمحاق القمر، ويربي : يزيد ويضاعف، لا يحب : أي لا يرتضي، والكفار : المقيم على الكفر المعتاد له، والأثيم : المنهمك في ارتكاب الآثام.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة، والمتصدق يعطي المال من غير عوض ابتغاء وجه الله- وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابي يأخذ المال بلا عوض يقابله.
وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل، وفيم يكون ؟ حتى نتفهمه حق الفهم، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام.
الربا ضربان : ربا النسيئة، وربا الفضل.
فالأول : يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل، قال ابن جرير : إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال : أخر عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه. اهـ.
والتعامل بهذا النوع من الكبائر، وقد ورد في الحديث ( لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ).
والثاني : يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي، أو أقة عنب مصري بأقة وربع من عنب أزمير، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين ﴿ الذهب والفضة ﴾ لما جاء في الخبر من قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق ﴿ الفضة ﴾ والبر بالبر والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ).
والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.
أسرار تحريم الربا
زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، بلاد المدنية والحضارة ونهلوا من مناهل العلم هناك، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة في العصر الحديث، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب إلا بتحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش، ومن كان منهم غنيا لا يعطي ماله بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغني لا ينمو، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كأداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية.
وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين ؛ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك، فلماذا لا تتقن سائر المكاسب لنعوض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شيء ؟
وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فالدين لم يكن عائقا لهم عن الرقي، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل، والحث على الكسب كما قال تعالى :﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ﴾ وقال :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾.
فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين، وما سقطت بعدما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك، إلى أن صارت تجعل علة الرقي سببا في الانحطاط، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا، ولا ذهب ملكنا وكان الدين وحده هو العاصم لنا.
فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة : اليهودية والنصرانية والإسلام، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر، ثم قلدوا غيرهم فيها، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث في أكثر الأقطار، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم.
فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.
ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرم الدين الربا فيما يلي :
﴿ ١ ﴾ إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش ؛ فيألف الكسل. ويمقت العمل، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم، فلا يرأف بفقير، ولا يشفق على بائس، ولا يرحم مسكينا، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم، ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.
﴿ ٢ ﴾ إنه يؤدي إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جراء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، وأَضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة، والمرة بعد المرة.
ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيا عنه بألا يحدث أحدا بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.
﴿ ٣ ﴾ إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع. قال صلى الله عليه وسلم ( حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ).
ولا ينبغي اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يدي المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.
﴿ ٤ ﴾ إن عاقبته الخراب والدمار، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير ( إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل ).
والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوهه من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولي الدائنون قسرا على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله ﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾.
وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه في مؤتمر القانون الإسلامي في شهر يوليوز سنة ١٩٥١ وقد جاء فيها : أن سنة القرآن في معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة.
فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحي، وأما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر، وأن إثمه أكبر من نفعه، والدرجة الثانية تحريم جزئي له. والثالثة تحريمه التحريم الكلي القاطع.
فهل يطيب لكم أن تدرسوا معي المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا ؟
إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التام على مسلكه في شأن الخمر، لا في عدد مراحله فحسب، بل حتى في أماكن نزول الوحي وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها.
نعم، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا، وكان أول موضع منها وحيا مكيا والثلاثة الباقية مدنية، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.
ففي الآية المكية يقول الله جلت حكمته ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله ﴾ هذه كما ترونها موعظة سلبية : أن الربا لا ثواب له عند الله، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية ﴿ ١٦-٦٧ ﴾ حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيهها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.
أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنص الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهي يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر ﴿ ٢-٢١٩ ﴾ حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهي صريح، وقد جاء هذا النهي بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة { ٤-٤٣ ].
وكذلك لم يجئ النهي الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة ﴿ ٢-١٣٠ ﴾.
وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا، بل ختم بها التشريع القرآني كله على ما صح عن ابن عباس، وفيها النهي الحاسم عن كل ما يزيد على رأس مال الدين حيث يقول الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾ ﴿ ٢-٢٧٨-٢٨١ ﴾.
هذه أيها السادة والسيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التاريخي.
وإنكم لترو
الإيضاح :
أي يذهب الله بركة الربا ويهلك المال الذي يدخل فيه، فلا ينتفع به أحد من بعده، ويضاعف ثواب الصدقات، ويزيد المال الذي أخرجت منه.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل ).
وقال العلماء : المراد بالمحق ما يلاقي المرابي من عداوة المحتاجين، وبغض المعوزين وقد تفضي هذه العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضار كالاعتداء على الأموال والأنفس والثمرات، كما ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا، فقد قام الفقراء يعادون الأغنياء ويتألبون عليهم حتى صارت هذه مسألة اجتماعية شائكة لديهم، وكذلك ما يصابون به في أنفسهم من الوساوس والأوهام، يعرف ذلك من راقب عباد المال وبلا أخبارهم، فمنهم من شغله المال عن طعامه وشرابه، بل عن أهله وولده، حتى لقد يقصر في حق نفسه تقصيرا يفضي إلى الخسران والذل والمهانة.
وقصارى ذلك- إن الربا يمحق ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة، ويصل صاحبه إلى عكس هذه النتيجة من الهموم والأحزان، والحب الشديد للمال، ومقت الناس له، وكراهتهم إياه، وبذا لم يصل إلى ثمرة المال المقصود في هذه الحياة، وهي أن يكون ناعم البال عزيزا شريفا عند الناس، لكونه مصدر الخير لهم، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال، فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بماله هذا الضرب من الانتفاع، فكان كمن محق ماله وهلك.
وقد قضت سنة الله في المتصدق أن يكون انتفاعه بماله أكبر من ماله، وقد تقدم إيضاح هذا.
﴿ والله لا يحب كل كفار أثيم ﴾ الكفار هنا هو الممادي في كفر ما أنعم الله به عليه من المال، لأنه لا ينفق منه في سبيله، ولا يواسي به المحتاجين من عباده، والأثيم هو المنهمك في ارتكاب الآثام، فهو قد جعل المال آلة لجذب ما في أيدي الناس إلى يده فاستغل إعسارهم، وأخذ أقواتهم، وامتص دماءهم.
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة، والمتصدق يعطي المال من غير عوض ابتغاء وجه الله- وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابي يأخذ المال بلا عوض يقابله.
وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل، وفيم يكون ؟ حتى نتفهمه حق الفهم، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام.
الربا ضربان : ربا النسيئة، وربا الفضل.
فالأول : يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل، قال ابن جرير : إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال : أخر عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه. اهـ.
والتعامل بهذا النوع من الكبائر، وقد ورد في الحديث ( لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ).
والثاني : يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي، أو أقة عنب مصري بأقة وربع من عنب أزمير، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين ﴿ الذهب والفضة ﴾ لما جاء في الخبر من قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق ﴿ الفضة ﴾ والبر بالبر والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ).
والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.
أسرار تحريم الربا
زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، بلاد المدنية والحضارة ونهلوا من مناهل العلم هناك، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة في العصر الحديث، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب إلا بتحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش، ومن كان منهم غنيا لا يعطي ماله بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغني لا ينمو، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كأداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية.
وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين ؛ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك، فلماذا لا تتقن سائر المكاسب لنعوض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شيء ؟
وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فالدين لم يكن عائقا لهم عن الرقي، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل، والحث على الكسب كما قال تعالى :﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ﴾ وقال :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾.
فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين، وما سقطت بعدما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك، إلى أن صارت تجعل علة الرقي سببا في الانحطاط، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا، ولا ذهب ملكنا وكان الدين وحده هو العاصم لنا.
فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة : اليهودية والنصرانية والإسلام، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر، ثم قلدوا غيرهم فيها، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث في أكثر الأقطار، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم.
فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.
ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرم الدين الربا فيما يلي :
﴿ ١ ﴾ إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش ؛ فيألف الكسل. ويمقت العمل، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم، فلا يرأف بفقير، ولا يشفق على بائس، ولا يرحم مسكينا، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم، ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.
﴿ ٢ ﴾ إنه يؤدي إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جراء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، وأَضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة، والمرة بعد المرة.
ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيا عنه بألا يحدث أحدا بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.
﴿ ٣ ﴾ إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع. قال صلى الله عليه وسلم ( حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ).
ولا ينبغي اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يدي المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.
﴿ ٤ ﴾ إن عاقبته الخراب والدمار، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير ( إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل ).
والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوهه من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولي الدائنون قسرا على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله ﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾.
وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه في مؤتمر القانون الإسلامي في شهر يوليوز سنة ١٩٥١ وقد جاء فيها : أن سنة القرآن في معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة.
فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحي، وأما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر، وأن إثمه أكبر من نفعه، والدرجة الثانية تحريم جزئي له. والثالثة تحريمه التحريم الكلي القاطع.
فهل يطيب لكم أن تدرسوا معي المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا ؟
إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التام على مسلكه في شأن الخمر، لا في عدد مراحله فحسب، بل حتى في أماكن نزول الوحي وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها.
نعم، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا، وكان أول موضع منها وحيا مكيا والثلاثة الباقية مدنية، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.
ففي الآية المكية يقول الله جلت حكمته ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله ﴾ هذه كما ترونها موعظة سلبية : أن الربا لا ثواب له عند الله، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية ﴿ ١٦-٦٧ ﴾ حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيهها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.
أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنص الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهي يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر ﴿ ٢-٢١٩ ﴾ حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهي صريح، وقد جاء هذا النهي بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة { ٤-٤٣ ].
وكذلك لم يجئ النهي الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة ﴿ ٢-١٣٠ ﴾.
وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا، بل ختم بها التشريع القرآني كله على ما صح عن ابن عباس، وفيها النهي الحاسم عن كل ما يزيد على رأس مال الدين حيث يقول الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾ ﴿ ٢-٢٧٨-٢٨١ ﴾.
هذه أيها السادة والسيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التاريخي.
وإنكم لترو
الإيضاح :
أي إن الذين صدقوا بما جاءهم من ربهم من الأوامر والنواهي، وعملوا ما تصلح به نفوسهم كمواساة المحتاجين، والرحمة بالبائسين وإنظار المعسرين- وهذا من مستتبعات الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان- وأقاموا الصلاة التي تذكر المؤمن بالله فيزيد إيمانه، وحبه لربه ومراقبته له، فتسهل عليه طاعته في كل شيء، وآتوا الزكاة التي تطهر النفوس من رذيلة البخل وتمرنها على أعمال البر- وخص هذين بالذكر مع شمول الأعمال الصالحة لهما لأنهما أعظم أركان العبادات النفسية والبدنية – لهم ثواب مدخر عند ربهم يوم الجزاء، ولا يحزنون على ما فات، ولا يخافون مما هو آت.
وفي هذا تعريض بآكلي الربا وأنهم لو كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لكفوا عن ذلك.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ﴾
تفسير المفردات :
اتقوا الله : أي قوا أنفسكم عقابه، وذروا : أي اتركوا.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة، والمتصدق يعطي المال من غير عوض ابتغاء وجه الله- وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابي يأخذ المال بلا عوض يقابله.
وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل، وفيم يكون ؟ حتى نتفهمه حق الفهم، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام.
الربا ضربان : ربا النسيئة، وربا الفضل.
فالأول : يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل، قال ابن جرير : إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال : أخر عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه. اهـ.
والتعامل بهذا النوع من الكبائر، وقد ورد في الحديث ( لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ).
والثاني : يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي، أو أقة عنب مصري بأقة وربع من عنب أزمير، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين ﴿ الذهب والفضة ﴾ لما جاء في الخبر من قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق ﴿ الفضة ﴾ والبر بالبر والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ).
والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.
أسرار تحريم الربا
زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، بلاد المدنية والحضارة ونهلوا من مناهل العلم هناك، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة في العصر الحديث، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب إلا بتحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش، ومن كان منهم غنيا لا يعطي ماله بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغني لا ينمو، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كأداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية.
وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين ؛ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك، فلماذا لا تتقن سائر المكاسب لنعوض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شيء ؟
وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فالدين لم يكن عائقا لهم عن الرقي، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل، والحث على الكسب كما قال تعالى :﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ﴾ وقال :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾.
فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين، وما سقطت بعدما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك، إلى أن صارت تجعل علة الرقي سببا في الانحطاط، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا، ولا ذهب ملكنا وكان الدين وحده هو العاصم لنا.
فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة : اليهودية والنصرانية والإسلام، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر، ثم قلدوا غيرهم فيها، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث في أكثر الأقطار، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم.
فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.
ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرم الدين الربا فيما يلي :
﴿ ١ ﴾ إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش ؛ فيألف الكسل. ويمقت العمل، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم، فلا يرأف بفقير، ولا يشفق على بائس، ولا يرحم مسكينا، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم، ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.
﴿ ٢ ﴾ إنه يؤدي إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جراء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، وأَضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة، والمرة بعد المرة.
ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيا عنه بألا يحدث أحدا بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.
﴿ ٣ ﴾ إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع. قال صلى الله عليه وسلم ( حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ).
ولا ينبغي اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يدي المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.
﴿ ٤ ﴾ إن عاقبته الخراب والدمار، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير ( إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل ).
والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوهه من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولي الدائنون قسرا على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله ﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾.
وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه في مؤتمر القانون الإسلامي في شهر يوليوز سنة ١٩٥١ وقد جاء فيها : أن سنة القرآن في معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة.
فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحي، وأما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر، وأن إثمه أكبر من نفعه، والدرجة الثانية تحريم جزئي له. والثالثة تحريمه التحريم الكلي القاطع.
فهل يطيب لكم أن تدرسوا معي المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا ؟
إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التام على مسلكه في شأن الخمر، لا في عدد مراحله فحسب، بل حتى في أماكن نزول الوحي وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها.
نعم، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا، وكان أول موضع منها وحيا مكيا والثلاثة الباقية مدنية، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.
ففي الآية المكية يقول الله جلت حكمته ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله ﴾ هذه كما ترونها موعظة سلبية : أن الربا لا ثواب له عند الله، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية ﴿ ١٦-٦٧ ﴾ حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيهها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.
أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنص الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهي يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر ﴿ ٢-٢١٩ ﴾ حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهي صريح، وقد جاء هذا النهي بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة { ٤-٤٣ ].
وكذلك لم يجئ النهي الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة ﴿ ٢-١٣٠ ﴾.
وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا، بل ختم بها التشريع القرآني كله على ما صح عن ابن عباس، وفيها النهي الحاسم عن كل ما يزيد على رأس مال الدين حيث يقول الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾ ﴿ ٢-٢٧٨-٢٨١ ﴾.
هذه أيها السادة والسيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التاريخي.
وإنكم لترو
الإيضاح :
أي يا أيها المؤمنون المصدقون الله فيما به أمر وعنه نهي، قوا أنفسكم عقابه باتباع أوامره ونواهيه واتركوا ما بقي لكم من الربا عند الناس إن كنتم مؤمنين حقا بكل ما جاء به الدين من أوامر ونواه.
وقد عهد في كلام العرب أن يقال : إن كنت متصفا بما تقول فافعل كذا ويذكرون أمرا من شأنه أن يكون أثرا لهذا الوصف.
وفي هذا إيماء إلى أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد أن نهى الله عنه وتوعد عليه، لا يعد من أهل الإيمان الذي له السلطان على الإرادة فهو مخلد في النار، وإيمانه ببعض ما جاء في الدين، وكفره ببعضه بعدم الإذعان له والعمل به، لا يعد إيمانا حقا وإن أقر بلسانه، إذ مثل هذا لا يعتد به كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ).
﴿ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾
تفسير المفردات :
فأذنوا : أي فاعلموا، بحرب من الله : أي بغضب منه، وحرب من رسوله بمعاملتكم معاملة البغاة وقتالكم بالفعل في عصره، واعتباركم أعداء له في كل عصر، لا تظلمون : أي لا تفعلون الظلم بغرمائكم بأخذ الزيادة، ولا تظلمون بنقص شيء من رأس المال.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة، والمتصدق يعطي المال من غير عوض ابتغاء وجه الله- وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابي يأخذ المال بلا عوض يقابله.
وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل، وفيم يكون ؟ حتى نتفهمه حق الفهم، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام.
الربا ضربان : ربا النسيئة، وربا الفضل.
فالأول : يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل، قال ابن جرير : إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال : أخر عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه. اهـ.
والتعامل بهذا النوع من الكبائر، وقد ورد في الحديث ( لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ).
والثاني : يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي، أو أقة عنب مصري بأقة وربع من عنب أزمير، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين ﴿ الذهب والفضة ﴾ لما جاء في الخبر من قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق ﴿ الفضة ﴾ والبر بالبر والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ).
والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.
أسرار تحريم الربا
زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، بلاد المدنية والحضارة ونهلوا من مناهل العلم هناك، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة في العصر الحديث، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب إلا بتحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش، ومن كان منهم غنيا لا يعطي ماله بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغني لا ينمو، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كأداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية.
وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين ؛ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك، فلماذا لا تتقن سائر المكاسب لنعوض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شيء ؟
وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فالدين لم يكن عائقا لهم عن الرقي، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل، والحث على الكسب كما قال تعالى :﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ﴾ وقال :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾.
فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين، وما سقطت بعدما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك، إلى أن صارت تجعل علة الرقي سببا في الانحطاط، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا، ولا ذهب ملكنا وكان الدين وحده هو العاصم لنا.
فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة : اليهودية والنصرانية والإسلام، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر، ثم قلدوا غيرهم فيها، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث في أكثر الأقطار، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم.
فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.
ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرم الدين الربا فيما يلي :
﴿ ١ ﴾ إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش ؛ فيألف الكسل. ويمقت العمل، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم، فلا يرأف بفقير، ولا يشفق على بائس، ولا يرحم مسكينا، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم، ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.
﴿ ٢ ﴾ إنه يؤدي إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جراء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، وأَضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة، والمرة بعد المرة.
ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيا عنه بألا يحدث أحدا بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.
﴿ ٣ ﴾ إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع. قال صلى الله عليه وسلم ( حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ).
ولا ينبغي اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يدي المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.
﴿ ٤ ﴾ إن عاقبته الخراب والدمار، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير ( إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل ).
والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوهه من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولي الدائنون قسرا على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله ﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾.
وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه في مؤتمر القانون الإسلامي في شهر يوليوز سنة ١٩٥١ وقد جاء فيها : أن سنة القرآن في معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة.
فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحي، وأما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر، وأن إثمه أكبر من نفعه، والدرجة الثانية تحريم جزئي له. والثالثة تحريمه التحريم الكلي القاطع.
فهل يطيب لكم أن تدرسوا معي المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا ؟
إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التام على مسلكه في شأن الخمر، لا في عدد مراحله فحسب، بل حتى في أماكن نزول الوحي وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها.
نعم، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا، وكان أول موضع منها وحيا مكيا والثلاثة الباقية مدنية، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.
ففي الآية المكية يقول الله جلت حكمته ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله ﴾ هذه كما ترونها موعظة سلبية : أن الربا لا ثواب له عند الله، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية ﴿ ١٦-٦٧ ﴾ حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيهها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.
أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنص الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهي يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر ﴿ ٢-٢١٩ ﴾ حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهي صريح، وقد جاء هذا النهي بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة { ٤-٤٣ ].
وكذلك لم يجئ النهي الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة ﴿ ٢-١٣٠ ﴾.
وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا، بل ختم بها التشريع القرآني كله على ما صح عن ابن عباس، وفيها النهي الحاسم عن كل ما يزيد على رأس مال الدين حيث يقول الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾ ﴿ ٢-٢٧٨-٢٨١ ﴾.
هذه أيها السادة والسيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التاريخي.
وإنكم لترو
الإيضاح :
أي فإن لم تتركوا ما بقي من الربا كما أمرتكم، فاعلموا أنكم محاربون لله ورسوله، إذ خرجتم عن شريعته ولم تخضعوا لحكمها ونبذتم ما جاء به رسوله عنه.
وفي هذا رمز إلى أن عدم الخضوع لأوامر الشريعة خروج منها وامتهان لأحكامها.
وحرب الله غضبه وانتقامه ممن يأكل الربا، والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا فكثيرا ما رأينا آكلي الربا أصبحوا بعد الغنى يتكففون الناس.
وحرب رسوله مقاومته لهم في زمنه، واعتبارهم خارجين من الإسلام يحل قتالهم، وعداوته لهم بعد وفاته إذا لم يخلفه أحد يقيم شريعته.
﴿ وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾ أي وإن رجعتم عن الربا خضوعا لأوامر الدين، فلكم رؤوس الأموال لا تأخذون عليها شيئا من الغرماء، ولا تنقصون منها شيئا، بل تأخذونها كاملة.
روى ابن جرير أن هاتين الآيتين نزلتا في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله ﴿ وذروا ما بقي من الربا ﴾.
وأخرج عن ابن جريج قال : كان ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من ربا على الناس وما لهم من ربا عليهم فهو موضوع، فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد عليها، وكان بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من المغيرة، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كبير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال :( إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب ).
﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ﴾ أي وإن وجد مدين معسر ممن لكم عليهم دين فأنظروه وأمهلوه إلى حين اليسار حتى يتمكن من أداء الدين.
روى أن بني المغيرة قالوا لبني عمرو بن عمير في القصة السالفة : نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا فنزلت الآية في قصتهم كالآيتين قبلها.
﴿ وأن تصدقوا خير لكم ﴾ أصل تصدقوا تتصدقوا أي وتصدقكم على المعسرين من المدينين بإبرائهم من الدين كلا أو بعضا، خير لكم من إنظارهم وأكثر ثوابا عند الله منه.
وفي هذا حث على الصدقة، والسماح للمدين المعسر، لما فيه من التعاطف والتراحم وبر الناس بعضهم ببعض، وذلك مما يوجد حسن الصلة بين الأفراد ويتم ارتباط الأمة وتضامن بنيها في المصالح العامة، كما يرشد إلى ذلك الحديث :
( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ).
﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فاعملوا وفق ما تعلمون، وسامحوا إخوانكم، وأشعروا قلوبهم الشفقة والحدب عليهم.
وفي الآية دليل على وجوب إنظار المعسر إلى حين اليسار، وأفضل منه الإبراء والتصدق عليه بقيمة الدين.
ثم ختم سبحانه آيات الربا بتلك العظة البالغة التي إذا وعاها المؤمن هونت عليه السماح بالمال والنفس وكل ما يملك مما طلعت عليه الشمس فقال :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾.
تفسير المفردات :
العسر : الإعسار ويكون بفقد المال أو كساد المتاع، والنظرة : الانتظار، والميسرة : اليسار والسعة.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة، والمتصدق يعطي المال من غير عوض ابتغاء وجه الله- وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابي يأخذ المال بلا عوض يقابله.
وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل، وفيم يكون ؟ حتى نتفهمه حق الفهم، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام.
الربا ضربان : ربا النسيئة، وربا الفضل.
فالأول : يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل، قال ابن جرير : إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال : أخر عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه. اهـ.
والتعامل بهذا النوع من الكبائر، وقد ورد في الحديث ( لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ).
والثاني : يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي، أو أقة عنب مصري بأقة وربع من عنب أزمير، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين ﴿ الذهب والفضة ﴾ لما جاء في الخبر من قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق ﴿ الفضة ﴾ والبر بالبر والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ).
والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.
أسرار تحريم الربا
زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، بلاد المدنية والحضارة ونهلوا من مناهل العلم هناك، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة في العصر الحديث، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب إلا بتحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش، ومن كان منهم غنيا لا يعطي ماله بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغني لا ينمو، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كأداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية.
وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين ؛ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك، فلماذا لا تتقن سائر المكاسب لنعوض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شيء ؟
وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فالدين لم يكن عائقا لهم عن الرقي، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل، والحث على الكسب كما قال تعالى :﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ﴾ وقال :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾.
فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين، وما سقطت بعدما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك، إلى أن صارت تجعل علة الرقي سببا في الانحطاط، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا، ولا ذهب ملكنا وكان الدين وحده هو العاصم لنا.
فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة : اليهودية والنصرانية والإسلام، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر، ثم قلدوا غيرهم فيها، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث في أكثر الأقطار، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم.
فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.
ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرم الدين الربا فيما يلي :
﴿ ١ ﴾ إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش ؛ فيألف الكسل. ويمقت العمل، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم، فلا يرأف بفقير، ولا يشفق على بائس، ولا يرحم مسكينا، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم، ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.
﴿ ٢ ﴾ إنه يؤدي إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جراء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، وأَضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة، والمرة بعد المرة.
ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيا عنه بألا يحدث أحدا بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.
﴿ ٣ ﴾ إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع. قال صلى الله عليه وسلم ( حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ).
ولا ينبغي اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يدي المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.
﴿ ٤ ﴾ إن عاقبته الخراب والدمار، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير ( إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل ).
والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوهه من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولي الدائنون قسرا على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله ﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾.
وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه في مؤتمر القانون الإسلامي في شهر يوليوز سنة ١٩٥١ وقد جاء فيها : أن سنة القرآن في معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة.
فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحي، وأما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر، وأن إثمه أكبر من نفعه، والدرجة الثانية تحريم جزئي له. والثالثة تحريمه التحريم الكلي القاطع.
فهل يطيب لكم أن تدرسوا معي المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا ؟
إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التام على مسلكه في شأن الخمر، لا في عدد مراحله فحسب، بل حتى في أماكن نزول الوحي وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها.
نعم، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا، وكان أول موضع منها وحيا مكيا والثلاثة الباقية مدنية، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.
ففي الآية المكية يقول الله جلت حكمته ﴿ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله ﴾ هذه كما ترونها موعظة سلبية : أن الربا لا ثواب له عند الله، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية ﴿ ١٦-٦٧ ﴾ حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيهها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.
أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنص الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهي يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر ﴿ ٢-٢١٩ ﴾ حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهي صريح، وقد جاء هذا النهي بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة { ٤-٤٣ ].
وكذلك لم يجئ النهي الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة ﴿ ٢-١٣٠ ﴾.
وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا، بل ختم بها التشريع القرآني كله على ما صح عن ابن عباس، وفيها النهي الحاسم عن كل ما يزيد على رأس مال الدين حيث يقول الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ﴾ ﴿ ٢-٢٧٨-٢٨١ ﴾.
هذه أيها السادة والسيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التاريخي.
وإنكم لترو
الإيضاح :
أي واحذروا ذلك اليوم العظيم الذي تتفرغون فيه من شواغلكم الجسدية الدنيوية التي كانت تصرفكم عن ربكم في هذه الحياة، إذ كنتم ترون أن لكم حاجات وضرورات يجب عليكم أن تستعدوا لها بتكثير المال وجمعه.
والخلاصة- إنكم إذا تذكرتم ذلك اليوم وفكرتم فيما أعد الله لعباده من الجزاء على قدر أعمالهم، خفف ذلك من غلوائكم واطمأنت نفوسكم إلى ملاقاة ربكم، فتجدون بردا وسلاما لطيب هذه المعاملة.
﴿ ثم توفى كل نفس ما كسبت ﴾ أي ثم يجازي كل امرئ بما عمل من خير أو شر.
﴿ وهم لا يظلمون ﴾ أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزدادون على عقابهم.
عن ابن عباس أن هذه الآية آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما، وقيل أحدا وثمانين يوما.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا، فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها، وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد، وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، واتقوا الله ويعلمكم الله، والله بكل شيء عليم { ٢٨٢ ﴾ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة، فإن آمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه، ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، والله بما تعملون عليم ﴿ ٢٨٣ ﴾ }.
تفسير المفردات
تداينتم : داين بعضكم بعضا، إلى أجل مسمى : أي موعد محدود بالأيام والشهور والسنة ونحوها مما يفيد العم، لا بالحصاد وقدوم الحاج مما في جهالة، بالعدل أي بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين، ولا يأب أي لا يمتنع، كما علمه الله أي على الطريق التي علمه الله إياها من كتابة الوثائق، وليملل أي وليلق على الكاتب ما يكتبه والإملال والإملاء بمعنى، يقال أملّ على الكاتب وأملى مليه، ولا يبخس أي ولا ينقص، سفيها أي ضعيف الرأي لا يحسن التصرف في المال لضعف عقله، أو ضعيفا أي صبيا وشيخا هرما، أو لا يستطيع أن يمل أي بأن كان جاهلا أو ألكن أو اخرس، واستشهدوا شهيدين أي اطلبوا أن يشهد رجلان، ترضون أي ترضون دينهم وعدالتهم، أن تضل أي تخطئ لعدم ضبطها وقلة عنايتها، ولا تسأموا أي لا تملوا ولا تضجروا، أقسط أي أعدل، وأقوم أي وأعون على إقامتها على وجهها، وأدنى أي أقرب، ألا ترتابوا أي إلى انتفاء الريب في جنس الدين وقدره وأجله، تديرونها أي تتعاطونها بالتعامل يدا بيد، الجناح الإثم والذنب، ولا يضار أي ولا يفعل الضرر بالمتعاملين بالامتناع عن الكتابة أو الشهادة أو بالتحريف أو الزيادة أو النقص، فسوق أي خروج عن الطاعة، والرهان وأخذها رهن بمعنى مرهون.
المعنى الجملي
بعد أن رغب سبحانه في الصدقات والإنفاق في سبيله، لما فيهما من الرحمة ثم أعقب ذلك بالنهي عن الربا لما فيه من القسوة- ذكر هنا ما يحفظ المال الحلال بكتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعارضات، وأخذ الرهن إذا لم يتيسر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد عليه، إذ من يؤثر بالإنفاق والصدقة، وينهى عن ترك الربا لابد له من كسب ينمي ماله ويحفظه من الضياع، ليتسنى له القيام بما طلب الله وحث عليه.
وفي هذا دليل على أن المال ليس مبغوضا عند الله، ولا مذموما في دين الله، كيف وقد شرع الله لنا الكسب الحلال وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه، وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه باستعمال عقولنا، وتوجيه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها.
وكأن هذه الآية جاءت احتراسا مما عسى أن يقع في الأذهان من الكلام السابق، إذ ربما فهم من المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله، والتشديد في تحريم الربا، أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما يظهر من نصوص بعد الأديان السابقة وكأنه يقول : إنا لا نأمركم بإضاعة المال ولا بترك تثميره، وإنما نأمركم أن تكسبوه من الطريق الحلال، وتنفقوا منه في وجوه البر والخبر، يرشد إلى هذا أن الله نهانا عن إيتاء المال للسفهاء، خوفا من ضياعه بقوله :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ﴾ أي تقوم بها مصالحكم ومعايشكم.
روى أحمد والطبراني حديث عمرو بن العاص ( نعما المال الصالح للمرء الصالح )
وإنما يذم المال إذا استعبد صاحبه، فبخل في إنفاقه، واشتط في جمعه من الحلال والحرام، روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم )
الإيضاح
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ﴾ طلب الله إلى المؤمنين حفظا لديونهم التي تشمل القرض والسلم [ ما فيه المبيع مؤجل والثمن عاجل ] ويسميه العامة ﴿ الغاروقة ﴾ وبيع الأعيان إلى أجل معين- أن يكتبوها حتى إذا حل الأجل سهل عليهم أن يطلبوها ويقاضوا المدين للحصول عليها.
وقد بين الله تعالى كيفية الكتابة، ومن يتولاها فقال :
﴿ وليكتب بينكم كاتب بالعدل ﴾ أي وليكن الكاتب لكم الديون عادلا يساوي بين المتعاملين، لا يميل إلى أحدهما فيزيده على حقه، ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه.
﴿ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ﴾ بعد أن شرط الله في الكاتب العدالة شرط فيه العلم بالأحكام والفقه في كتابة الدين، إذ الكتابة لا تكون ضمانا تاما إلا إذا كان الكاتب عالما بالأحكام الشرعية والشروط المرعية عرفا وقانونا، وكان عادلا حسن السيرة، لا غرض له إلا بيان الحق بلا محاباة.
وقدم صفة العدالة على صفة العلم، لأن العادل يسهل عليه أن يتعلم ما ينبغي أن يعلمه لكتابة الوثائق، ولكن من كان عالما غير عادل فالعلم بهذا وحده لا يهديه للعدالة، وقلما رأينا فسادا من عدل ناقص العلم، ولكن أكثر الفساد من العلماء الذين فقدوا ملكة العدالة.
وفي ذكر هذه الشروط في الكاتب إرشاد من الله للمسلمين أن يكون فيهم هذا الصنف من الكتاب القادرين على كتابة العقود الرسمية، كما أن في ذكرها إيماء إلى أنه ينبغي أن يكون الكاتب غير المتعاقدين وإن كانا يحسنان الكتابة خيفة أن يغالط أحدهما الآخر أو يغشه.
وفي التعبير بقوله ﴿ ولا يأب ﴾ رمز إلى أن العالم بما فيه مصلحة الناس، إذا دعا إلى القيام بعمل وجب عليه أن يلبي الدعوة، ومن ثم أمره الله بذلك أمرا صريحا فقال :
﴿ فليكتب ﴾ وهذا الأمر بعد النهي عن الإباء كالتأكيد، لأن الموضوع هام لتعلقه بحفظ الحقوق، ولا سيما لدى الأميين، الذين خوطبوا به أولا.
﴿ وليملل الذي عليه الحق ﴾ أي وليلق على الكاتب ما يكتبه المدين ليكون إملاله حجة عليه تحفظها الكتابة.
﴿ وليتق الله ربه ﴾ أي وليتق الذي عليه الحق الله في الإملال، بأن يذكر ما عليه كاملا، وفي هذا مبالغة في الحث على التقوى بالتذكير بجلائل النعم والترهيب من العقاب.
ثم نهاه أن يبخس من الحق شيئا تأكيدا لهذا فقال :
﴿ ولا يبخس منه شيئا ﴾ إذ الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه، وعرضة للطمع، وربما يستخفه طمعه إلى نقص شيء من الحق، أو الإبهام في الإقرار الذي يملي على الكاتب تمهيدا للمجادلة والمماطلة.
﴿ فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ﴾ أي فإن كان المدين ضعيف العقل أو صبيا أو هرما أو جاهلا أو ألكن أو أخرس، فعلى من يتولى أموره ويقوم مقامه من قيم أو وكيل أو مترجم أن يمل بالعدل بلا زيادة ولا نقص.
﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾ أي واطلبوا أن يشهدوا على المداينة رجلان من المؤمنين ممن حضرها، وفي قوله من رجالكم دليل على اشتراط الإسلام في الشهادة كما اشترطوا العدالة بدليل قوله :﴿ وأشهدوا ذوي عدل منكم ﴾.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين : البينة في الشرع أعم من الشهادة، فكل ما يتبين به الحق كالقرائن القطعية يسمى بينة، فلا مانع أن تدخل شهادة غير المسلم في البينة بذلك المعنى إذا تبين للحاكم الحق بها.
﴿ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ﴾ أي فإن لم يكونا أي من تستشهدونهما رجلين، فليستشهد رجل وامرأتان.
﴿ ممن ترضون من الشهداء ﴾ أي ممن تعرضون دينهم وعدالتهم من الشهداء، وإنما جيء بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها. ومن ثم فوض الأمر فيها إلى رضى المستشهدين.
﴿ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ﴾ أي حذر أن تضل إحداهما وتخطئ لعدم ضبطها وقلة عنايتها، فتذكر كل منهما الأخرى بما كان فتكون شهادتها متممة لشهادة الأخرى.
وخلاصة هذا – أنه لما كان كل منهما عرضة للخطأ والضلال : أي الضياع وعدم الاهتداء إلى ما كان قد وقع بالضبط، احتيج إلى إقامة الثنتين مقام الرجل الواحد حتى إذا تركت إحداهما شيئا من الشهادة، كأن نسيته أو ضل عنها تذكرها الأخرى وتتم شهادتها، وعلى القاضي أن يسأل إحداهما بحضور الأخرى، ويعتد بجزء الشهادة من إحداهما وبباقيها من الأخرى، وكثير من القضاة لا يعلمون بهذا جهلا منهم بما ينبغي أن يتبع في نحو هذا.
أما الرجلان فيفرق بينهما، فإن قصر أحدهما أو نسي شيئا مما يبين الحق لا يعتد بشهادته، وتكون شهادة الآخر وحده غير كافية ولا يعول عليها إن بينت الحق.
وهذه العبارة لبيان سر تشريع الحكم في اشتراط العدد في النساء، إذ قد جرت العادة أن المرأة لا تشتغل بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فتكون ذاكرتها ضعيفة فيها، بخلاف الأمور المنزلية فإن ذاكرتها فيها أقوى من ذاكرة الرجل فقد جبل الإنسان على أن يقوي تذكره لما يهتم به ويعنى بشأنه، واشتغال النساء في هذا العصر بالمسائل المالية لا يغير هذا الحكم، لأن الأحكام إنما تكون للأعم الأكثر، وعدد هؤلاء قليل في كل أمة وجيل.
﴿ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ﴾ أي ولا ينبغي للشهود أن يمتنعوا عن تحمل الشهادة ليؤدوها حين الحاجة.
روى الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم، وقيل إن المراد لا يأبوا عن تحمل الشهادة ولا أدائها، فالامتناع عن كل منهما محرم، وهو فرض كفاية لا يجب على من دعا إليه إلا إذا لم يوجد غيره يقوم مقامه.
﴿ ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ﴾ أي ولا تتكاسلوا عن كتابة الدين، قليلا كان أو كثيرا، مبينين بذلك أجله المسمى.
وفي هذا دليل على أن الكتابة من الأدلة التي تعتبر عند استيفاء شروطها، وعلى أنها واجبة في القليل والكثير، وعلى أنه لا ينبغي التهاون في الحقوق حتى لا يضيع شيء منها، وهذه قاعدة من قواعد الاقتصاد في العصر الحديث، فكل المعاملات والمعاوضات لها دفاتر خاصة تذكر فيها مواقيتها، والمحاكم تجعلها أدلة في الإثبات.
ثم بين الحكمة في الأوامر والنواهي المتقدمة بعد ذكرها، وتلك سنة القرآن يذكر الأحكام، ثم يذكر أسرارها وفوائدها لتكون أثبت في النفس، وأثلج للقلب قال :
﴿ ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ﴾ أي ذلك الحكم أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين، وأعون على إقامة الشهادة على وجهها.
وفي هذا إيماء إلى أن للشاهد أن يطلب وثيقة العقد المكتوب ليتذكر ما كان من الأحوال حين كتابتها وإملائها.
وقوله : أدنى ألا ترتابوا : أي إنه أقرب إلى نفي ارتياب بعضكم من بعض، إذ هذا الاحتياط في كتابة الحقوق والإشهاد عليها، ومراعاة العدل من المتعاملين والكتاب والشهداء يدفع الارتياب وما ينشأ منه من مفاسد كالعداوات والمخاصمات- وهذه ميزة ثالثة تؤكد الأخذ بها والاعتماد عليها وجعلها مذكرة للشهود.
﴿ إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ﴾ أي إن الكتابة مطلوبة إلا أن توجد تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين بالتعاطي بأن يأخذ المشتري المبيع والبائع الثمن، فلا حرج حينئذ في ترك الكتابة ولا إثم في ذلك، إذ لا يترتب عليه شيء من التنازع والتخاصم.
وفي هذا إشارة إلى ما يجب على المرء في ضبط أمواله وإحصاء ما يرد إليه وما يصدر عنه، وهذا منتهى الرقي المدني، هدى إليه الإسلام قبل أن يعرفه الغربيون ذوو الحضارة والمدنية بعد قرون، ولم يجعل ذلك أمرا محتوما لما فيه من المشقة على غير الأمم ذات التقدم والحضارة.
﴿ وأشهدوا إذا تبايعتم ﴾ أي وأشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة، إذ قد يحصل التنازع والخلاف في بعض العقود الحاضرة بعد تمام العقد، فاكتفى بالإشهاد.
أما الديون المؤجلة فربما يقع التنازع فيها بعد موت الشهود، إذ هي مما يطول زمنها ومن ثم وجبت كتابتها.
﴿ ولا يضار كاتب ولا شهيد ﴾ أصل يضار يضارر ﴿ بكسر الراء ﴾ وهذا نهي للكاتب أن يضر أحد المتعاملين بالتحريف أو التغيير بزيادة أو نقص، وللشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة عما يطلب منهما، ويؤيده قوله بعد ﴿ وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ﴾ إذ التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم.
﴿ وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ﴾ أي وإن تفعلوا ما نهيتم عنه من الضرار، فإن هذا الفعل خروج من طاعة الله إلى معصيته.
﴿ واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ﴾ أي واتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه، وهو سبحانه يعلمكم ما فيه صلاح حالكم في الدارين وحفظ أموالكم، ولولا هديه لكم لم تعلموا شيئا، وهو العليم بكل شيء، فإذا شرع شيئا من الأحكام فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن اتبع شرعه وهداه.
وجاء ختم الآية بهذه الموعظة الحسنة ليكون معينا على الامتثال لجميع م
ثم ذكر ما هو كالاستثناء من الأحكام السابقة فقال :﴿ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ﴾ أي وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يحسن المداينة، أو لم تجدوا صحيفة ولا دواة ولا قرطاسا، فاستوثقوا برهن تقبضونه.
وذكر السفر وعدم وجود الكاتب الذي يكتب وثيقة الدين، بيان للعذر الذي رخص ترك الكتابة ووضع الرهن محله في التوثق لصاحب الدين لا لمنع أخذ الرهن في غير ذلك، فقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه في المدينة ليهودي بعشرين صاعا من شعير أخذها لأهله رواه البخاري ومسلم.
وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون عدم وجود الكاتب مقيدا بحال السفر، لا في مواطن الإقامة، لأن الكتابة مفروضة على المؤمنين والإيمان لا يتحقق إلا بالإذعان والعمل، ولا سيما في فريضة أكدت كالكتابة.
﴿ فإن آمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته وليتق الله ربه ﴾ أي فإن آمن بعض الدائنين بعض المدينين لحسن ظنه به، وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره، فليؤد المدين دينه وليكن عند ظن الدائن به، وليتق الله به فلا يتخون من الأمانة شيئا، فقد يوسوس له الشيطان بأن لا حجة عليه ولا شهيد، فالله خير الشاهدين وهو أولى أن يتقى، وسمي الدين أمانة لائتمان المدين عليه بترك الارتهان به.
والآيات السالفة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن هي الأصل، والعزيمة للاحتياط في الديون- وهذه الآية رخصة أباحها الله لنا حين الضرورة كالأوقات التي لا يوجد فيها كاتب ولا شهيد، فإذا احتاج امرؤ إلى الاقتراض من أخيه في مثل هذه الحال، والله لا يحرم عليه قضاء حاجته وسد خلته إذا هو ائتمنه.
ثم أكد وجوب الشهادة الذي استفيد من قوله :﴿ ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ﴾ بقوله :
﴿ ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ﴾ أي ولا تمنعوا عن أداء الشهادة إذا دعا إليها الأمر، ومن يفعل ذلك يكن مجترحا للإثم مرتكبا للذنب.
وسر هذا التأكيد أن الكتاب والشهود هم الذين يعينون الناس على حفظ أموالهم، فعليهم ألا يقصروا في ذلك، كما على أرباب الأموال ألا يضاروهم، فإن المصلحة مشتركة بين الجميع.
ونسب الإثم إلى القلب، لأنه هو الذي يعني الوقائع ويدركها ويشهد بها، فهو آلة الشعور والعقل، فكتمان الشهادة عبارة عن حبس ذلك فيه، والإثم كما يكون بعمل الجوارح وحركات الأعضاء يكون بعمل القلب واللب، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى :﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾ فأسند إلى الفؤاد : أي القلب أو النفس أعمالا خاصة به، كما أسند الباقي إلى السمع والبصر.
ومن آثام القلب سوء القصد وفساد النية والحسد.
والآية ترشد إلى أن الإنسان يعاقب على ترك المعروف كما يعاقب على فعل المنكر، لأن الترك في الشهادة بكتمانها فعل للنفس تترتب عليه آثار تضر غيرها.
وكل من الكتابة والاستشهاد شرع للاستيثاق بين الدائن والمدين، والكتابة أقوى من الشهادة، والشهادة عون لها، فالدائن يستوثق لماله فيأمن من إنكاره كله أو بعضه، والمدين يستوثق لما عليه فلا يخاف أن يزداد فيه، والشاهد يستوثق بشهادته فإذا شك أو نسي رجع إلى الكتابة فتذكر واطمأن قلبه كما قال :﴿ ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ﴾.
وللكتابة الفضل الأكبر في حفظ الحقوق حين موت الشهيدين أو أحدهما، لأنه لا حافظ لها حينئذ إلا هي، فهي التي يرجع إليها ويعمل بها.
﴿ لله ما في السماوات وما في الأرض، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير { ٢٨٤ ﴾ }.
المعنى الجملي
جاءت هذه الآية متممة لقوله :﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ ودليل عليه، لأن كل شيء هو له، وهو خالقه فهو العليم به، ونحو الآية قوله :﴿ ألا يعلم من خلق ﴾.
وإذا كان كل شيء في السماوات والأرض له، فهو يعاقب من كتم الشهادة لأنه قد أتى إثما وارتكب جرما، ثم زاد هذا المعنى توكيدا بما يعده من قوله :
﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم ﴾ إلى آخر الآية. إذ كتمان الشهادة داخل في عموم ما في النفس فالله يحاسب عليه، فإن شاء عفا عمن أجرم، وإن شاء عاقبه وهو القدير دون سواء على ذلك.
الإيضاح
﴿ لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي كل ما فيها خلقا وملكا وتصرفا له لا شركة لغيره في شيء منهما فلا يعبد فيهما سواه، ولا يعصى فيما يأمر وينهى، وله أن يلزم من شاء بما شاء من التكاليف.
﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ أي وإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه بالقول أو بالفعل، أو تكتموه عن الناس ولا تظهروه يجازكم الله به يوم القيامة، لأن الإبداء والإخفاء عنده سيان ؛ لأنه ﴿ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ﴾ فالمعوّل عليه في مرضاته تزكية النفوس وتطهير السرائر لا لوك اللسان، وحركات الأبدان.
والمراد بقوله ﴿ ما في أنفسكم ﴾ الأشياء التي لها قرار في أنفسكم، وعنها تصدر أعمالكم كالحقد والحسد ونحوهما- ذك أن الخواطر والهواجس قد تأتي بغير إرادة الإنسان ولا يكون لها أثر في نفسه ولا ينتج منها فعل يكون مترتبا عليها، لكنه إذا استرسل معها حسبت عليه عملا يجازي به، لأنه مشى معها قدما باختياره، وقد كان يستطيع مطاردتها وجهادها، فالمظلوم يذكر ألمه فيشتغل فكره في دفع ظلمه والهرب من أذاه، وربما استرسل مع خواطره إلى أن تجره إلى تدبير الحيل للإيقاع به، ومقابلة ظلمه بما هو شر منه، فيكون مؤاخذا عليه أبداه أو أخفاه.
وصفة الحسد تبعث في نفس الحاسد خواطر الانتقام من المحسود والسعي في إزالة نعمته، وهذه الخواطر مما يحاسب الحاسد عليها أبداها أو أخفاها- وهكذا يقال في كل أعمال القلب التي أمرنا الشارع بجهادها ومقاومتها، مما هو أثر لأخلاق وملكات وعزائم قوية تنشأ عنها أعمال هي آثار لها، إذا انتفعت الموانع وتركت المجاهدة.
أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال : لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، فقالوا : أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق- الصلاة والصيام والجهاد والصدقة- وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله :( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ؟ فلما قرأها القوم وذلت ﴿ لانت ﴾ بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ﴾ الآية، قال فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ إلى آخرها.
وقوله نسخها الله : أي أزال ما أخافهم من الآية الأولى وحوّله إلى وجه آخر.
وقد قال الصحابة ما قالوا لأنهم قد دخلوا في الإسلام وكثير منهم تربوا في حجر الجاهلية وانطبعت في نفوسهم أخلاقها، وأثرت في قلوبهم عاداتها، وكانوا يتطهرون منها بالتدريج بهدي الرسول ونور القرآن، فلما نزلت هذه الآية خافوا أن يؤاخذوا على ما كان باقيا في أنفسهم من العادات الأولى، وكانوا يحاسبون أنفسهم لاعتقادهم النقص وخوفهم من الله عز وجل، حتى أثر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسأل حذيفة بن اليمان هل يجد فيه شيئا من علامات النفاق ؟ فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يؤاخذها إلا على ما كلفها، وهم مكلفون بتزكية أنفسهم ومجاهدتها بقدر الطاقة، وطلب العفو عما لا طاقة لهم به.
وقد يكون بعضهم خاف أن تدخل الوسوسة والشبهة قبل التمكن من دفعها فيما تشمله الآية، فكان ما بعدها مبينا لغلطهم في ذلك.
﴿ فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾ أي فهو يغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له، ويعذب بعدله من يشاء أن يعذبه، والله إنما يشاء ما فيه الرحمة والعدل، ومن العدل أن يجازي المسيء بقدر إساءته، والمحسن على قدر إحسانه، ومن الفضل أن يضاعف جزاء الحسنة عشرة أضعافها أو يزيد، ولا يضاعف السيئة.
والذنب المغفور هو الذي يوفق الله صاحبه لعمل صالح يغلب أثره في النفس وليس كما يزعم الجاهلون أن الأمور فوضى والكيل جزاف، فيقيمون على الذنوب ويصرون عليها ويمنون أنفسهم بالمغفرة- اقرأ قوله تعالى في دعاء الملائكة للمؤمنين ﴿ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم ﴾.
ومحاسبة الله لعباده أن يريهم أعمالهم الظاهرة والباطنة، ويسألهم لم فعلوها ؟ ثم إن شاء غفر وإن شاء عذب، فمن لم تصل أعماله المنكرة إلى أن تكن ملكات له فالله يغفرها له، ومن تكون كذلك فالله يعاقبه عليها، وهو المختار يفعل ما يشاء.
ولا يخفى ما في الآية من الإنذار والتخويف، وليس فيها قطع بمغفرة ذنب وإن كان صغيرا، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية أنه قال : أبهمت الأمر علينا نرجو ونخاف، فآمن خوفنا ولا تخيب رجاءنا.
﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير { ٢٨٥ ﴾ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ﴿ ٢٨٦ ﴾ }.
تفسير المفردات
لا نفرق بين أحد من رسله : أي إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء لا يفضل بعضهم بعضا، سمعنا : أي سماع تدبر وفهم.
المعنى الجملي
افتتح سبحانه هذه السورة ببيان أن القرآن لا ريب فيه، وأنه هدى للمتقين، وبين صفات هؤلاء وأصول الإيمان التي أخذوا بها، ثم ذكر خبر الكافرين والمرتابين، ثم أرشد فيها إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطلاق، وحاج الضالين من الأمم السالفة ولا سيما اليهود، فإنه قد بلغ في حجاجهم مبلغا ليس بعده زيادة لمستزيد- وهنا اختتم السورة بالشهادة للرسول صلوات الله عليه والمؤمنين، ثم لقنهم من الدعاء ما يرضيه، ثم ذكر تمام خضوعهم وإخباتهم إلى ربهم الذي رباهم وخلقهم في أحسن تقويم، وميزهم بالفطرة السليمة والخلق الكامل، وطهر نفوسهم وزكاهم من الأدناس والأرجاس حتى وصلوا إلى طريق السعادة، وفازوا بخيري الدارين، وهذا منتهى الكمال الإنساني، وغاية ما تصبو إليه نفوس البشر. ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ﴾ أي صدق الرسول بما جاء به الوحي من العقائد والأحكام تصديق يقين واطمئنان، وتخلق به كما قالت عائشة رضي الله عنها ( كان خلقه القرآن )، وكذلك المؤمنون من أصحابه.
وقد كان من أثر هذا الإيمان أن زكت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وعلت هممهم فأتوا بالعجب العاجب من فتح البلاد والشعوب وسياستها سياسة عدل وحكمة مما يشهد لهم به أعدى أعدائهم، وسجله لهم التاريخ في سجل الدولة العظيمة الرقي والتقدم حين كان الناس في ظلام دامس، وحين كانت أرقى الأمم في تلك العصور تسوس رعاياها بالخسف والعسف، فأنقذها مما ترسف فيه من قيود الاستعباد وجعلها تتنفس في جو من الحرية لم تر مثله- وكفى بالله شهيدا لهم.
﴿ كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ﴾ أي كل منهم آمن بوجود الله ووحدانيته، وتمام حكمته في نظام خليقته، وبوجود الملائكة وسفارتهم بين الله والرسل ينزلون بوحيه على قلوب أنبيائه، أما البحث عن ذواتهم وصفاتهم وأعمالهم فمما لم يأذن به الله.
وآمن كل منهم إجمالا فيما أجمله القرآن وتفصيلا فيما فصله- بأن الله أنزل على رسله كتبا فيها هداية للبشر بحسب ما فصل في قوله :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ﴾ الآية.
﴿ لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ أي ويقولون إن الرسل في الرسالة والتشريع سواء كثر قوم الرسول أو قلوا، والتفضيل الذي جاء في قوله تعالى :﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ﴾ إنما هو في مزايا أخرى فوق الرسالة.
وفي هذا إشارة إلى فضيلة المؤمنين على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرقون بين الله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
﴿ وقالوا سمعنا وأطعنا ﴾ أي وقالوا بلغنا الرسول فسمعنا القول سماع تدبر وفهم، وأطعنا ما فيه من الأوامر والنواهي طاعة إذعان وانقياد، وهذا مما يبعث النفس إلى العمل به إلا إذا عرض لها مانع يمنعها منه.
والمخلصون في إيمانهم يحاسبون أنفسهم على ما يقع منهم من تقصير تأتى به العوارض الطارئة، ويأبون إلا الكمال، ومن ثم كان من شأنهم أن يقولوا :
﴿ غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾ أي استر لنا ذنوبنا بعدم الفضيحة عليها في الدنيا وترك الجزاء عليها في الآخرة، أي نسألك ربنا المغفرة مما عساه يقع منا من التقصير الذي يعوقنا عن الرقي في مراتب الكمال.
وإنما يكون ذلك بالتوبة وإتباع السيئة الحسنة، وبهذا يمحي أثر الذنب من النفس في الدنيا، فترجع إلى الله في الآخرة نقية زكية.
﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾
تفسير المفردات :
والتكليف : الإلزام بما فيه كلفة، والوسع : ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، والاكتساب يفيد الجد في العمل، والمؤاخذة المعاقبة لأن من يراد عقابه يؤخذ بالقهر، ما لا طاقة لنا به : أي ما لا قدرة لنا عليه ويشق علينا فعله، والإصر : العبء الثقيل يأصر صاحبه ويحبسه مكانه، إذ لا يطيق حمله لثقله، والمراد به التكاليف الشاقة، مولانا : أي مالكنا ومتولي أمورنا.
الإيضاح :
أي لا يكلف الله عباده إلا ما يطيقون، ويتيسر لهم فضلا منه ورحمة، وهو كقوله :﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾.
وهذا إخبار من الله بعد تلقيهم تكاليفه بالطاعة والقبول بآثار فضله ورحمته لهم، إذ كلفهم ما يتسنى لهم فعله، ولا يصعب عليهم عمله.
وفيه بشارة بغفران ما طلبوا غفرانه من التقصير، وبتيسير ما ربما يفهم من الآية السالفة ﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ من المشقة والتعسير.
﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ أي لها خير ما كسبته لنفسها من قول أو فعل، وعليها ضر ما وجدت فيه من شر.
وأضيف الاكتساب إلى الشر لبيان أن النفس مجبولة على فعل الخير، وتفعل الشر بالتكلف والتأسي، إذ الميل إلى الخير مما أودع في طبع الإنسان، ولا يحتاج إلى مشقة في فعله بل يجد لذة في عمله، كما يشعر بالميل إلى عبادة الله، لأن شكر المنعم مغروس في طبعه.
وأما الشر فإنه يعرض للنفس لأسباب ليست من طبيعتها ولا من مقتضى فطرتها ولا يخفى عليها إذ ذاك أنها ممقوتة في نظر الناس، وأنها مهينة في قرارة نفوسهم.
فالطفل ينشأ على الصدق حتى يسمع الكذب من الناس فيتعلمه وهو يشعر بقبحه، وهكذا شأنه عند اجتراح كل شر، فتراه يشعر بقبحه، ويجد بين جوانحه وازعا يقول له : لا تفعل، ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه.
والخير كل ما فيه نفع نفسك ونفع الناس، والعبارة الجامعة له أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ).
والخلاصة- إن للنفس ثواب ما كسبت من الخير، وعليها عقاب ما اجترحت من الشر.
وفي هذا ترغيب في عمل الخير، والمحافظة على أداء الواجبات الدينية، فإن اختصاص نفع الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله، وتحذير له من الإخلال به لأن مضرة ذلك تحيق به لا بغيره، واقتصار مضرة الفعل بفاعله من أشد الزواجر عن مباشرته.
وبعد أن بين سبحانه حال المؤمنين في السمع والطاعة، وطلبهم المغفرة مما يتهمون به نفوسهم من التقصير، وذكر فضله على عباده في عدم تكلفيهم ما لا يطيقون- علمهم ما يدعون به ربهم فقال :
﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾ علمنا سبحانه أن ندعوه بألا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا تفضلا منه، وإحسانا علينا، إذ كان ينبغي العناية والاحتياط والتذكر، لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان، أو يقل وقوعها منا، فيكون ذنبنا جديرا بالعفو والمغفرة.
وذاك أن النسيان قد يكون من عدم العناية بالشيء، وترك إحالة الفكر فيه، ليستقر في النفس، ومن ثم ينسى الإنسان ما لا يهمه ويحفظ ما يهمه، ويؤاخذ الناس بعضهم بعضا بالنسيان، ولا سيما نسيان الأدنى لما يأمره به الأعلى، فإنه إن لم يفعل ما يأمره به نسيانا رماه بالإهمال والتقصير وآخذه على ذلك.
وكذلك الخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط والتروي، ومن ثم أوجبت الشريعة الضمان في إتلاف الشيء خطأ، فإذا رمى امرؤ صيدا فأخطأ وأصاب إنسانا فقتله أوخذ به في الشريعة والقوانين الوضعية.
وبهذا تعلم أن المؤاخذة على النسيان والخطأ مما جاءت به الشريعة، وجرى عليه العرف في المعاملات والقوانين، ولو لم يكن كل منهما مقصرا ما جاز هذا وما حسن، وكذلك يجوز أن يؤاخذ الله الناس في الآخرة بما يأتونه من المنكر ناسين تحريمه أو واقعين فيه خطأ.
والخلاصة- أن المراد من الآية أن الخطأ والنسيان مما يرجى العفو عنهما إذا وقع الإنسان فيهما بعد بذل الجهد والتفكر والتذكر وأخذ الدين بقوة، ثم لجأ إلى الدعاء الذي يقوي في النفس خشية الله ورجاء فضله، فيكون هذا الإقبال نورا تنقشع به ظلمة ذلك التقصير.
وما رواه ابن ماجه والبيهقي في السنن عن ابن عباس مرفوعا ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) فهو وعد من الله بالتجاوز عنها يوم القيامة رحمة منه وفضلا.
﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ أي ربنا لا تكلفنا ما يشق علينا فعله، كما كلفت من قبلنا من الأمم التي بعثت فيها الرسل كبني إسرائيل إذ كان يجب عليهم قطع موضع النجاسة من الثوب إذا تنجس، وكانوا يدفعون ربع المال زكاة إلى نحو ذلك.
وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنه لا يكلفنا ما يشق علينا كما صرح بذلك في قوله :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ وامتنان علينا وإعلام لنا بأنه كان يجوز أن يحمل علينا الإصر، فيجب علينا أن نشكره لذلك، فنحن ندعوه استشعارا للنعمة والشكر عليها.
﴿ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ من العقوبات أو من البلايا والمحن، ولا ما يشق علينا من الأحكام، بل حملنا اليسير الذي يسهل علينا حمله والنهوض به، حتى لا نستحق بمقتضى سنتك أن تحملنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرطين في دينهم.
﴿ واعف عنا ﴾ أي امح آثار ذنوبنا فلا تعاقبنا عليها.
﴿ وارحمنا ﴾ بتوفيقك إيانا للسير على سنتك التي جعلتها وسيلة لسعادة الدارين.
وهذه الجمل الثلاث نتائج لما قبلها من الجمل التي افتتحت بلفظ ﴿ ربنا ﴾ فاعف عنا مقابل لقوله ﴿ لا تؤاخذنا ﴾ واغفر لنا مقابل لقوله ﴿ ولا تحمل علينا إصرا ﴾ وارحمنا مقابل قوله ﴿ ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة. ﴿ أنت مولانا ﴾ أي أنت مالكنا ومتولي أمورنا، فأنت الذي منحتنا الهداية، وأيدتنا بالتوفيق والعناية.
﴿ فانصرنا على القوم الكافرين ﴾ بإقامة الحجة عليهم والغلبة حين قتالهم، والأول أشد أثرا وأقوى فعلا، فإنه نصر على الروح والعقل، أما النصر بالسيف فهو نصر على الجسد فحسب.
وما علمنا الله هذا الدعاء لتلوكه ألسنتنا وتتحرك به شفاهنا فحسب، بل لندعوه مخلصين له لاجئين إليه بعد استعمال ما يصل إليه كسبنا من الأسباب والوسائل التي هي طريق الاستجابة، فمن فعل ذلك فإن الله يستجيب دعاءه، ومن لم يعرف من الدعاء إلا حركة اللسان، مع مخالفة أحكام الشريعة، وتجافي السنن التي سنها الله، فهو بدعائه كالساخر من ربه، فهو لا يستحق منه إلا المقت والخذلان.
ونحن الآن قد أعرضنا عن هدايته، وتنكبنا سنته في خليقته، ثم طلبنا منه النصر بألسنتنا دون قلوبنا فلم يستجب لنا دعاء، وكنا نحن الجانين على أنفسنا، المستحقين لهذا الخذلان.
فإذا اتخذ المسلمون العدة وقاموا ببذل الوسع في استكمال الوسائل التي أرشد إليها المولى سبحانه، وساروا على السنن التي هدى إليها البشر، فإنه يستجيب دعوتهم وينصرهم على أعدائهم، فقد ورد في الأثر : إن هذه الأمة لا تغلب من قلة.
وفقنا الله إلى العمل بسنته، والسير وفق شريعته، إنه نعم المولى ونعم النصير.
Icon