ﰡ
وتبارك - معناها التنبيه على ما في القرآن من خير لازم مستمر، لَا تبلى جدته أبدا، فالبركة في القرآن، ونسبتها إلى اللَّه تعالى لأنه مصدرها، وموجدها، فاللَّه تعالى تسامت بركته بإنزال القرآن لعباده، وتعريفهم بما اشتمل عليه من بيان العقائد والأحكام.
والفرقان هو القرآن، وسمي الفرقان لأنه فارق بين الحق والباطل، والهداية والضلال، والعدل والظلم؛ ولأنه نزل مفرقا منجما، كما قال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ..)، وذكر الزمخشري أن القرآن سمي فرقانا لتفرقته بين الحق والباطل، أو لأنه نزل مفرقا، وأرى أنه لَا مانع من الجمع ففيه الأمران فهو مبين للحق والشريعة، وقد نزل مفرقا، فهما ليسا وجهين مختلفين، بل فيه الأمران.
و (العالمون) العقلاء من الجن والإنس المكلفون أحكامه، والمطالبون بتنفيذها.
وبعد أن أشار سبحانه إلى بركته وخيره، ونمائه، شرّفه بمُنْزله، وهو اللَّه خالق السماوات والأرض فقال:
هذا شرف للقرآن ناله، من أن منزله هو منشئ هذا الكون الذي لَا يشبه أحدا من الحوادث، ولا يشبهه شيء في الوجود، (الَذي) بدل أو عطف بيان للذي الأولى في قوله تعالى: (الَّذِي نَزَّلَ الْفرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكونَ) وذكر هذا بعد ذكر إنزال القرآن للدلالة أولا على شرف القرآن بإضافته إلى من له الملك في السماوات والأرض، ويبين أن إنزال القرآن من تدبير صاحب الملك لملكه، لإصلاح عباده وإرشادهم به.
وصف اللَّه سبحانه ذاته العلية بصفتين سلبيتين، وصفة إيجابية تدل على إثبات السلب، الأولى قوله تعالى: (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا)، وذلك رد على النصارى الذين ادعوا أن عيسى ابن اللَّه، وعلى الهنود والبوذيين الذين أخذ منهم النصارى هذه النحلة، وعلى الذين يعبدون الملائكة، ويقولون إنهم بنات اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) أي لم يجعل له من بين خلقه مَن يتخذه عونا ونصيرا، والنفي بهذه الصفة يحمل في نفسه بطلان الاتخاذ، لأن الاتخاذ يدل على الحاجة، واللَّه تعالى لَا يحتاج لأحد من خلقه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥).
الصفة السلبية الثانية قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) هذا نفي مطلق، لأنه لو كان له شريك في الملك ما استقام الكون، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢).
الصفة الثالثة وهي الإيجابية، وتتضمن في معناها برهان السلب في السلبيتين، وقد بينها سبحانه بقوله تعالى (وَخَلَقَ كلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)، أي أنشأ كل شيء إنشاء مقدرا بإحكام، هو تقدير العزيز العليم، فالسماء ذات بروج، والمطر ينزل فينبت الزرع، والحيوان يكل مما تنبت الأرض، وهكذا يسير الكون بقدرة اللَّه العلي القدير، وتتفاعل الأشياء بعضها من بعض بإِرادة اللَّه تعالى العزيز الحكيم.
ومع هذا تضل العقول في معرفة اللَّه تعالى، وفي الخضوع له وفي عبادته، فقال:
ومع أن اللَّه الذي خلق السماوات والأرض وصاحب السلطان المطلق، وخلق كل شيء فقدره تقديرا فَجَرَ المشركون وجحدوا واتخذوا من دونه، من غيره ما هو دون في ذاته آلهة، وسميت الأحجار آلهة على زعمهم لأنهم يعبدونها من دون اللَّه سبحانه وتعالى. والضمير في (وَاتَّخَذوا) يعود على المشركين، لأنهم حاضرون في مواجهة النبي - ﷺ -.
ومعنى اتخذوا من دونه آلهة أنهم آثروا على عبادة اللَّه عبادة آلهة عاجزة، وهذا الاتخاذ إفك مبين كقوله تعالى: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا).
فالحجارة ليست آلهة، ولكنهم خلقوا إفكا فسموها آلهة، وقد خلقوا إفكا من ناحية تسميتها آلهة، وهم يصنعونها بأيديهم، فتكون الصناعة على أنها آلهة إفك، وانتحال اسم الآلهة لها إفك أيضًا.
وقابل سبحانه بين الهداية والضلال، فالهداية عبادة اللَّه، والضلال عبادة هذه الأحجار، فذكر أن اللَّه خالق وأن هذه الآلهة لَا تخلق شيئا، وهي في ذاتها مخلوقة، فقال: (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) وأعاد الضمير عليها بضمير ما يفعل مسايرة للذين يعبدونها افتراء على أنفسهم وفوق أن هذه الأحجار مخلوقة لَا تملك ضرا ولا نفعا، فهي لَا قدرة لها على شيء ضار أو نافع، وعبَّادها أقدر منها، وبين سبحانه وتعالى أنها على حال جامدة مستمرة لَا تحيي ولَا تميت، ولا تبعث ولا تنشر، فهي خالية من أي صفة من صفات الإله المعبود، وقال سبحانه: (وَلا يَمْلِكونَ موْتا ولا حَيَاةً وَلا نشورًا) إن هذه الآلهة لَا تستطيِع دفع ضرر، ولا جلب نفع، ولذا قال سبحانه وتعالى في وصفها (وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا).
قال سبحانه: (وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) ولم يقل لَا تميت
هذه حال المشركين في عبادتهم وأوهامهم، وقد جاءهم القرآن بالبركة الروحية والنماء المعنوي فهل اهتدوا بهديه!
وقد أظهر هنا، ولم يذكر الضمير مجردا كالآية السابقة؛ لبيان أن الصلة هي السبب في هذا القول، فالقرآن لم يكن إفكا في ذاته، فقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا وببعضه فعجزوا، وبأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، وحصروه في الإفك فلم يقولوا: إفك بل يحصرونه في الإفك في قولهم (إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) (إنْ) هنا نافية فهنا نفي وإيجاب، أي ما هذا إلا إفك افتراه، أي كذب قصد إلى افترائه، وقد أوغلوا في الادعاء البهات الكذب فقالوا: (وَأَعَانَه عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) والقوم الآخرون هم ناس كانوا من الروم بمكة، وقد قال تعالى في رد كلامهم: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، وقد وصف اللَّه تعالى فعلهم بقوله: (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) (جاءوا) بمعنى أتوا، فيقال جئت المكان وأتيته، الفاء للإفصاح، أي فقد أتوا ظلما بهذا القول، لأنه كفر وشرك -، (.. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، (وزورا) أي كذب يبهت السامع لأنه غريب في أنه لَا أصل له، وقد نكَر - ظلما وزورا - للإشارة إلى عظمة هذا، وكبر هذا الزور، إذ إنه غير معقول في ذاته بالنسبة لمحمد - ﷺ - إذ عاش بينهم أربعين سنة قبل الرسالة، واشتهر بالصدق والأمانة، حتى كان الأمين، وقد قال تعالى حكاية.
الضمير يعود إلى المشركين الذين اتخذوا مع اللَّه آلهة أخرى، لأنهم حاضرون في ذهن أهل الإيمان دائما بجدالهم المستمر، وعنادهم وملاحاتهم للنبي - ﷺ -، (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) جمع أسطورة، كما قال الزجاج، وهو أخبار السابقين التي تذكر عنهم في السمر والمجالس، وليس لها أصل صحيح، إنما تكون لتزجية الفراغ، وهذا فيه سخرية بالقرآن واستهانة به، وبث الاستهانة عند القارئين له والسامعين (اكتَتَبَهَا) هذه صيغة الافتعال من الكتابة، أي كتبها وجوَّد كتابتها، وهذا كلام يحتمله معنى اكتتبها، وقيل إن معناها أنه طلب كتابتها من غيره، لأنه أمي لَا يقرأ ولا يكتب (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ)، أي تلقى عليه ليكتبها، أو يقرؤها عليه من يكتبها، وأصل تملى تملل قلبت اللام الثانية ياء، وعلى أي حال يملل ويملى بمعنى واحد، وهما مترادفان.
وهؤلاء الكافرون لفرط استهانتهم افتروا على النبي - ﷺ - ثلاثة أمور:
أولها - أنه إفك مفترى، وقد ذكره سبحانه في الآية السابقة.
والثانية - أنه أساطير الأولين، وأحاديثهم المفتراة.
والثالثة - أنها تملى عليه فيكتبها، أو تملى على النبي - ﷺ - إملاء، فيحفظها.
وقبل أن ننتهي من القول في هذه الآية نقول: إن الراغب الأصفهاني في مفرداته قال: إن اكتتب تكون لكتابة ما هو مختلق لَا أصل له، فتكون في كلمة اكتتب اتهام رابع بالافتراء والاختلاق، ومعنى بكرة وأصيلا، أي في الغدوة والأصيل، أي أنه يملى عليه طول النهار في أوله وآخره، والأصيل ما يكون قبل الغروب، وبعد الظهيرة.
وقد أمر اللَّه تعالى بأن يرد قولهم بقوله:
(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٦)
أولها - أن الذي يعلم السر في السماوات والأرض يعلم ما خفي، وما خلق وما أنشأ، وليس بغريب عليه أن ينزل قرآنا كريما فيه الدليل القاطع على رسالة محمد - ﷺ -، وإن السر الذي في السماوات والأرض في خلق كل منهما وارتباط كل واحدة بالأخرى، وما يربط النجوم بعضها ببعض من جاذبية شديدة تجعلها بناء واحدا، وإمساك اللَّه تعالى للسماوات أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكها أحد من بعده.
ثانيها - أن من يعلم سر السماوات والأرض يستلزم أنه أوجدها، ومن أوجد السماوات والأرض ليس بغريب عليه أن ينزل قرآنا هو دليل رسالة محمد - ﷺ -، ومعجزته الكبرى.
ثالثها - أن الذي يعلم السر في السماوات والأرض يعلم كل شيء، فهو الذي يعلم نبيه القرآن، ولا يحتاج إلى من يملى عليه بكرة وأصيلا.
وننبه هنا إلى أمرين: أولهما - الدليل الذي يدل على أن اللَّه تعالى هو الذي أنزله، هو العجز بعد التحدي الشامخ.
الأمر الثاني - أن اللَّه تعالى الذي يعلم السر في السماوات والأرض فقال المفسرون: إنه ذكر السر، ومن يعلم السر يعلم بالأولى الظاهر البين، وذلك كلام حسن في ذاته، ولكن بدر إلينا أن معرفة السر في السماوات معناه السر في ارتباط أجزائها، وبنائها من غير عمد، وذلك وحده دليل القدرة الباهرة، وإشارة إلى التكوين العجيب في صنعه، وختم اللَّه تعالى الآية بفتح باب التوبة فقال: (إِنَهُ كَانَ غَفُورًا رّحِيمًا)، أي أنه سبحانه وتعالى يغفر للتائبين ويرحمهم.
* * *
قال تعالى:
(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٩) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (١٠)
* * *
الضمير في (قالوا) يعود إلى المشركين وهم حاضرون يعاندون ويفتح على النبي - ﷺ -، وكان ضلالهم أن ظنوا أو توهموا أن النبي لَا يكون بشرا، وإن كان بشرا يكون من أعلاهم مادة وسلطانا، وهم أو من يحوطون بهم، ويلوذون بملاذهم.
قالوا مستغربين:
وأنزل من عند اللَّه ملك، فيكون معه منذرا.
تدرجوا في الادعاء من أعلى إلى أدنى فاشترطوا لاتباعه أن يكون منضما إليه ملك ليكون معه نذيرا، فيكون الملك شاهدا بصدق الرسالة، ومن قبل طلبوا أن يكون معه قرطاس، أو أن يكون الرسول ملكا، وقد رد اللَّه تعالى كلامهم، وأنهم لَا يؤمنون ويقولون هذا سحر مبين، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ).
وقد نزلوا عن اشتراط أن يكون معه ملك إلى أمر آخر يمنع أن يمشي في الأسواق بأن يغنيه عن ذلك شأن الكبراء، بأن يلقى إليه، أي يعطى كنزا يغنيه، وصر عن إعطاء الكنز بكلمة يلقى إليه للإشارة إلى أن هذا العطاء لَا يكلف من أرسله شيئا؛ لأنه إلقاء من خزائن اللَّه تعالى، وقد كانوا يعرفون اللَّه ولا يعبدونه، فيعرفون أن معه خزائن السماوات والأرض، ويكون بهذا الكنز كملوك أهل الأرض فلا ينزل إلى الأسواق كما ينزل دهماء الناس والفقراء.
وتنزلوا من مرتبة الملوك إلى مرتبة أتباعها وحواشيهم، الذين يمنحهم الملك الحدائق والمزارع، فقالوا: (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا)، أي بستان يغنيه بثماره وغلاته، فيأكل منها بدل أن ينزل الأسواق.
وإن هذا بلا ريب نظرات ناس ماديين لَا يؤمنون بالروح، ولا بالمعاني الإنسانية العالية، إنما يؤمنون بالمادة وحدها، والعلو عندهم بالسيطرة الممكنة من لذائذ هذه الحياة، إما بملك قاهر، أو بمتع يلقيها إليهم ملوك قاهرون.
ولكنهم يرون في محمد - ﷺ - ما ليس عند الملوك وحواشيهم، يرون القرآن
رأوا ذلك، ولم يستطيعوا دفعه، ولكن بدل أن يذعنوا للحق إذ تبين لهم، ادعو أن ما يجيء به هو السحر، فظلموا ظلما كبيرا.
(وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا).
هنا إظهار في موضع إضمار، وذلك لوصفهم بالظلم أولا، ولبيان ظلمهم وعدم إرادتهم الحق هو الذي رفعهم إلى رمى النبي - ﷺ - بالسحر، وهو يتكلم عن اللَّه تعالى: (إِنْ تَتَّبِعونَ) إن هنا نافية، أي لَا تتبعون إلا رَجُلًا مَّسْحُورًا، أي ينطق على لسانه الحق، وهذا يومئ إلى أنهم رأوا عجائب فبدل أن يقولوا إنها من عند الله قالوا: إنه مسحور ينطق على لسانه الجن والشياطين.
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أنه كان من أهل مكة من يريدون اتباع محمد - ﷺ -، وقد اتبعه من اتبعه.
الخطاب للنبي - ﷺ -، و (ضَرَبُوا) معناها بينوا، والأمثال هي الأحوال المتشابهة في زعم القائل، أن انظر كيف حاولوا أي تكون الرسالة مع ملك من السماء يكون ردءا للرسول في إنذاره، ثم كيف حاولوا أن يجعلوه كالملك الذي تجري كنوز الأرض تحت يديه، أو كحواشي الملوك الذين يقطنون الإقطاعات الواسعة، حاولوا عقد المشابهة بين هذه الأحوال والرسالة، وهذه أمور دنيوية تنأى عن معنى الرسالة، ولذا قال تعالى: (فَضَلُّوا) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي بسبب زعمهم هذه المشابهات ضلوا وبعدوا عن الحق وأوغلوا فشبهوا رسالة اللَّه برسالة الناس، وأنه يكون معها شاهد من قبل المرسل، كملك، وشبهوا الرسول بالملك الغني أو حاشيته، وكل هذه تشبيهات باطلة في أصل موضوعها وفى أوصاف الموضوع، فليس الله كأحد من خلقه، إنما معجزته هي الشاهد،
وقد رد اللَّه تعالى عليهم أن أخذوا على النبي - ﷺ - أنه فقير يمشي في
الأسواق، فقال:
تبارك أي تكاثرت وتسامت بركة اللَّه تعالى على أوليائه وعلى المرسلين من عباده، وعلى نبيه محمد - ﷺ - خاتم النبيين (إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)
علقه سبحانه وتعالى على مشيئته التي تكون على مقتضى حكمته، جعل لك خيرا مما يتباهون به، وينتقضون رسالتك، لأنها لم تكن ذات كنوز، ولا حدائق، و (خيرا) مفعول، و (جناتٍ) بدل من خير، وبادر النص بالخيرية لإثبات أن الله تعالى قادر على إعطاء محمد - ﷺ - ما هو أعظم زينة، والخيرية هنا هي خير المظهر، والنعيم الدنيوي، وأما ما هو خير عند اللَّه تعالى جزاء معنويا وماديا فإنه في الآخرة.
(وَيَجْعَلْ لَكَ) معطوف على (جَعَلَ) والجزم على محل جَعَل، لأن (جَعَلَ) جواب الشرط فمحله الجزم، فيكون العطف عطف مجزوم على مجزوم، والقصور هي مساكن عطاء الدنيا التي يتباهى بجمالها، ومتانة بنيانها، وزخارفها، وطنافسها.
ولكن الله تعالى لم يشأ لأنبيائه زخارف الحياة، ولكن اختار لهم مشقة الحياة
* * *
إن تكذيب الساعة أوجد الضلال
قال تعالى:
(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (١١) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (١٢) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (١٤) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (١٥) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (١٦)
* * *
والساعة هي يوم القيامة، وسميت الساعة؛ لأنها يكون فيها الفصل بين الحق والباطل، والحساب الكامل والجزاء الوفاق للعمل، بجنة النعيم، أو بنار الجحيم، وكل ذلك في ساعة، وهي الساعة الكاملة لكثرة ما يكون من أحداث تتعلق بمصير البشرية، وهي ساعة الفصل، فالألف واللام تدل على الكمال، أي أنها الساعة الجديرة بأن تسمى الساعة.
(وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا)، أي هيأنا للذين كذبوا بالساعة نارا ملتهبة كبيرة، تشتد في لهيبها تفزع وترعب من رآها، ويحترق بها من يدخلها، وأعتدنا معناها أعددنا وهيأنا، وكررت الساعة وكان الإظهار في موضع الإضمار أولا للإفزاع والنكير على من أنكر الساعة وكذب الخبر بها، ولبيان أن السبب في السعير هو التكذيب، لأنه كفر في ذاته، ولأنه أدى إلى الجحود المستمر.
وقد وصف اللَّه سبحانه هول السعير، وشدتها، فقال:
معنى (إِذَا رَأَتْهُم) على ما يقول المفسرون، وإذا كانت على مرأى منهم كأنها تراهم ويرونها، من مكان بعيد، أي وكانت الرؤية من مكان ليس بالقريب، ولكنها بعيد بالنسبة للرؤية وللسمع (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)، أي هياجا شديدا يكاد مع البعد لهولها، والتغيظ وهو بدو الغيظ الشديد، والهياج العنيف الذي يتقلص الوجه له، والزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه.
وإني أرى أن السعير شبهت بالإنسان الذي يرمى ويتغيظ ويزفر، ويحس ويشعر، إذا رأى شخصا يريد عقابه، فإنه يتغيظ ويزفر، والمعنى أن السعير تستعد وتتهيا هائجة، لمجيء العصاة إليها، ويسمعون ما يشبه التغيظ والزفير من مكان بعيد.
وإذا ألقوا في النار، في مكان ضيق منها حال كونهم مقرنين، أي قد قُرئت أيديهم إلى أعناقهم مصفدين، ووصف المكان بالضيق فيه إشارة إلى الشدة، لأن الضيق يقترن بالشدة، والسعة تقترن بالفرح، و (أُلْقُوا) تفيد أنهم لم يدخلوا مختارين بل ألقوا فيها إلقاء كما تلقى الأشياء، وألقوا وهم مصفدون في الأغلال ليس لهم حركة إرادية قط و (مِنْهَا) أي من النار، و (مَكَانًا) ظرف، منصوب لـ (أُلْقُوا)، أي ألقوا في مكان ضيق من النار قد غلت أيديهم إلى أعناقهم، وهم في هذه الشديدة المرهقة، يتمنون الموت بدلها، لأن الموت إنقاذ لهم (دَعَوْا هنَالِكَ ثُبُورًا) (هُنَالِكَ) إشارة إلى البعيد، وفيه إثبات شدة ما هم فيه، والإشارة للبعيد، فقد نادوا ثبورا، أي هلاكا، أي نادوه، لأن هذا وقته، إذ بلغت الشدة قواها، فكان الهلاك إنقاذا لهم مما هم فيه، أو نادوه تحسرا على أنفسهم وعلى ما فرطوا وأساءوا، وقد بين اللَّه تعالى أن هذا الثبور الذي نادوه لاجئين إليه من عظيم الإحساس بالآلام أو متحرين مما نزل بهم، ليس ثبورا واحدا، بل هو هلاك متتال، لا قصور فيه، فقال تعالى:
النهي عن أن يدعوا وينادوا ثبورا واحدا ينقذهم من آلامهم، أو يتحسرون به لما هم فيه، بل هو ثبور متوال عليهم وقتا بعد آخر؛ لأن أسبابه قائمة مستمرة باستمرار حالهم وهي إلقاؤهم في مكان ضيق، يلقى بضيقه وعذابه ووضع الأصفاد التي تجمع أيديهم إلى أعناقهم، فتستمر دعوة الثبور ونداؤهم ما داموا في جهنم، وهي خالدة إذ هم فيها خالدون، وكلما نضجت جلودهم بدلهم اللَّه تعالى جلودا غيرها ليذوقوا العذاب المستمر.
هذه حالهم، وهي حال هلاك مستمر ينادونه ويطلبونها تحسرا، أو إنقاذا مما هم فيه، فهي حياة هلاك متجدد آنًا بعد آنٍ، وقد ذكر سبحانه بعد ذلك حال المتقين بعد الساعة.
الخطاب للنبي - ﷺ -، طلب إليه ربه تعالى بعد أن ذكر لهم ما أعده اللَّه تعالى للذين لَا يؤمنون بالبعث ويشركون بربهم، أن يبين لهم ما أعده للمتقين الأبرار الذين يؤمنون بالبعث مقابلا بينه وبين ما أعد للمشركين، فقال: أذلك السعير الذي أعد لهم، والذي ينادون فيه بالهلاك حسرة وندما خير في مآله ونهايته، أم جنة الخلد والنقاء التي أعدها للمتقين الأبرار، والمعادلة من حيث إن كلا مستعد هيأ اللَّه له ما يستحقه، فهم يستطيعون أن ينالوا الجنة إن اتقوا، كما ينال الذين أنكروا البعث ما يلقون من جهنم وسعير.
وإن الجنة استحقوها جزاء لأعمالهم، وهي مصيرهم ومآلهم الذي كان لهم نهاية، وغاية المتقين الأطهار.
الضمير في لهم يعود إلى المتقين (مَا يَشَاءُونَ)، أي ما يحبون ويريدون من ملاذ، ومن متع أعلى مما في هذه الحياة، ففيها كل ما يحبون؛ ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت، وإن الإحساس بالقدرة على تحقيق كل رغباتهم من نعمة هو في ذاته نعمة، مع ما يتضمن من نعم أخرى ينالها، فالملاذ نعمة، والقدرة المستمرة عليها نعمة أخرى، نعمة التمكين، وهناك نعمة ثالثة تحف بهم، وهي نعمة الخلود والدوام، فهي نعم غير مقطوعة، ولا ممنوعة ساعة من زمان، وقد أكد سبحانه وتعالى وعده بها، وأنه سبحانه كتبها على نفسه بقوله: (كانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولًا)، أي كان ذلك الوعد الذي كتبه على نفسه مسئولا، أي حقيقا بأن يسأله ويطلب فضلا من ربك ورحمة، فقد ألزم نفسه به، ولم يلذ به غيره، تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا، فهو قد كتبه على ذاته العلية.
والتعبير بقوله تعالى: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا) يشير إلى أنه من فضل الربوبية ورحمة المنعم القادر على كل شيء، فالمسئولية ليست مسئولية إلزام، إنما
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَتِي وَعَدتَّهُمْ..).
* * *
حشر الكافرين وما يعبدون
قال تعالى:
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (١٩) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (٢٠)
* * *
الكلام السامي في قوله تعالى:
وقد اتجه القول يوم القيامة إلى المعبودين في الدنيا من العقلاء وغيرهم، اتجه القول إليهم: (فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ)، الفاء للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، والسياق هكذا، وإذا حشروا وما يعبدون يقول لهم... ، والسؤال ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، والإشارة تعود إلى الذين عبدوا غير اللَّه من يهود، ونصارى ووثنيين ورومان وعرب، هذا الشطر الأول من المعادلة، والشطر الثاني أم هم ضلوا السبيل، والسؤال أهؤلاء الذين عبدوكم أنتم أضللتموهم بالدعوة إلى عبادتكم، أم هم ضلوا الطريق الموصل إلى الحق بالأوهام التي غشت عقولهم والشهوات التي أفسدت نفوسهم، والمتع الدنيوية التي ألهتهم.
ولقد أجاب المعبود بنفي الإضلال عنهم.
غلب في القول العقلاء على غيرهم، وقيل: أنطق اللَّه الأحجار فنطقت كما نطق العقلاء، وليس ذلك بمعجز على قدرة اللَّه العلي الحكيم، ومهما يكن فقد نطق المعبودون جلهم أو كلهم، قائلين: (مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) وفي قوله تعالى: (نَتَّخِذَ مِن دُونِكَ) قراءتان إحداهما نتخذ بالفعل المبني
وعلى القراءة الثانية بالبناء للمفعول ما كان ينبغي لنا أن نرضى بأن نتخذ أولياء ونصراء غيرك، وذلك كقول عيسى - عليه السلام - عندما يسأله ربه يوم القيامة (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦).
وقوله تعالى: (مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) من الأولى معناها من غيرك، وهو دونك مكانة ومقاما، ومن الثانية تدل على الاستغراق، أي ولي نصير معبود فهي لاستغراق النفي وتأكيده.
وإنه يجيء على لسان المعبودين ما هو الحق في ذاته: (وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا)، أي أن المتعة التي متعتهم بها من سلطان وجاه، وإعطائهم المال والأولاد، والسيطرة والتمكن كما مكنت لفرعون وأشباهه، وإن المتع والأهواء والشهوات تغشى النفس بفساد من الضلال ينسون به ذكر الله، ويتركون ما هو حق في ذاته إلى ما تمليه الأهواء والأوهام فأنستهم ذكر اللَّه، وألهتهم، وصاروا قوما بورا، البور وصف لأولئك الذين ضلوا، فهم بائرون قد انحلوا من كل وثاق لأهل الإيمان، وأصل بار معناها كسد، ومن ذلك قوله تعالى (... تِجَارَةً لًن تَبُورَ)، والشيء الكاسد يفسد، وهؤلاء قد فسدوا بكلامهم الذي لَا أصل له، ولا دعامة يقوم عليها أو أي دليل إلا الوهم والهوى.
وقد بين سبحانه في خطابه لهم بعد كلام ما عبدوهم.
قوله تعالى: (بِمَا تَقولونَ) فيها قراءتان إحداهما بالياء (يقولون) والثانية بالتاء وهي المشهورة وهي قراءة الأكثرين والمعنى على القراءة الأولى فقد كذبكم من كنتم تعبدونهم، بما يقولون من أنه ما كان ينبغي لهم أن يتخذوا من دونه من أولياء وإن ذلك ظاهر، وعلى القراءة الثانية، وهي قراءة الجمهور يكون الخطاب ابتداء للكفار، والباء بمعنى في، وتجيء كثيرا بمعنى في ويكون توجيه القول، فقد كذبوكم فيما تقولون وتعبدون به الأوثان، وتحسبون أن لكم نصرة من الذين تعبدونهم، إذا مَحَلَ بكم الدليل وشهد عليكم ما تعبدونهم، فقد تقرر العذاب عليكم، وأن تؤخذوا به أخذ عزيز مقتدر، ولذا قال مرتبا على تكذيب هؤلاء (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا)، أي لَا تملكون صرف العذاب عنكم ولا نصرا من أحد ينصركم، لأنكم أيها الكفار قد خذلكم من كنتم تعبدونهم، وبينوا بطلان قولكم، ولا نصر من أحد، إذا كنتم ترجون النصرة منهم، وبقيتم وحدكم من غير ناصر ولا عاذر، وتقرر العقاب العتيد عليكم، ولذا قال تعالى: (وَمَن يَظْلِم مِّنكمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كبِيرًا) ومن يظلم، أي يشرك، ويفتن الناس عن دينهم، وصد عن سبيل اللَّه تعالى، وقد أفردتم عن النصير والمعين (نُذِقْهُ عَذَابًا كبِيرًا)، أي عظيما لا يحد مقداره، ولا يعلم شدته إلا علام الغيوب، والتنكير لبيان هوله، وأنه لا يقادر بقدر، ولا يغيا بغاية يعلمها البشر.
وقد عاد القرآن الكريم إلى رد قولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فقال عز من قائل:
هذا بيان أن الرسل لَا يكونون إلا من البشر، وذلك ليستطيعوا أن يرشدوهم
لا بد أن يكون الرسل من البشر، وإنهم يدعون الضعفاء والأقوياء، ولا يتبعهم ابتداء إلا الضعفاء، ولتمام الدعوة وسلامتها، لَا بد أن يعيشوا كما يعيش الضعفاء، فلا يكونون ملوكا أو من حواشي الملوك، وإذا كان بعض الأنبياء ذكر بالملك كداود وسليمان، فقد كانوا ملوكا في سلطانهم الحق، ولكن في عيشهم كانوا يعيشون كالضعفاء، فداود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده، ولعل ابنه سليمان لم يكن من الملوك الذين يستقلون في معيشتهم عن رعيتهم ومن المؤكد أنه لم يكن ملكا مستعليا على رعيته، ولا يعيش عيش ضعفائهم.
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) من هنا بيانية، والمعنى ما أرسلنا قبلك من المرسلين (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ)، إنهم لَيَأكُلُونَ الطعام إلى آخره جملة حالية (إِلَّا إِنَّهُمْ) في حال يأكلون فيها الطعام أي ما أرسلناهم إلا والحال التي تحيط بهم أنهم يأكلون الطعام، فتلك حالهم، وبعض النحويين يقررون أن في الكلام محذوفا (هذه صفته) فذكرت الصفة مغنية عن الموصوف المقدر، ويكون سياق القول، وما أرسلنا إلا رسلا إنهم ليأكلون، وأرى أن عد الجملة حالية أولى بالأخذ، لأن ما لَا يحتاج لتقدير أولى.
والخطاب في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْض فِتْنَةً) للناس أجمعين، والفتنة أصلها ما يفتن به الفلز، ليخرج منه الذي يعلق به، وأطلق على ما تفتن به النفوس من جاه ومال ونفر، وعلو في الأرض، ومعنى (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتنَةً)، جعل الأقوياء فتنة للضعفاء بإيذائهم، والكافرين فتنة للرسل بعنادهم،
(وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) كان دالة على الدوام، وأن الناس تحت رقابة اللَّه دائما، يعلم بحال الصابرين والتمكين منهم علم السميع الذي يسمع، والبصير الذي يبصر، ويكافئ كُلًّا بحسب حاله التي علمها اللَّه تعالى إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فليعملوا عمل ما يرى ويسمع، واللَّه بكل شيء محيط.
* * *
إنكار البعث والتهديد به
قال تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (٢٢) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (٢٦)
* * *
لا يرجون لقاءنا، أي ينكرون لقاء اللَّه تعالى ولا يؤمنون، وأن لهم هذه الحياة التي يعيشونها في الدنيا، ولا يؤمنون بغيرها، وعبر سبحانه عن عدم إيمانهم باليوم الآخر ولقائه بقوله: (لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)، أي لَا يطمعون ولا يأملون في لقائنا، للإشارة إلى أن الإيمان باليوم الآخر فيه رجاء الخير، فمن يؤمن به يرجو الخير، لأنه يعلم أن هناك جزاء، وأن أعماله ليست هباء، فإذا كان متعبا في هذه شقيا فيها، كان رجاء العوض يوم البعث، فينال الخير بدل الحياة الشاقة التي يعيشها، فالمؤمن له رجاء، والكافر بالبعث حاسر، وأضاف اللقاء إليه سبحانه؛ لأنه مفرج الكروب، والمجازي سبحانه بالخير خيرا، وبالشر شرا، وفيه إيناس بأن من يرجو لقاء الله، إنما يرجو لقاء السند القوي، ومن يكفر به، يعدم ذلك السند الذي لَا يعتمد عليه غيره، سبحانه عظمت آلاؤه، والتعبير بالموصول: (الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) فيه إشارة إلى أن السبب في لجاجتهم في الكفر وإنكارهم للمعجزات، وعدم تعقلهم للحقائق هو أنهم لَا يرجون لقاء الله، ولو رجوا لقاء اللَّه، لعملوا حساب هذا اللقاء واهتدوا بدل الكفران.
(لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا).
لولا للتحريض، أي هلا أنزل علينا الملائكة، يخبرون برسالة اللَّه تعالى لهم، ولا يجيئنا واحد منا يأكل مما نأكل ويمشي في الأسواق كما نمشي، فهذا تحريض على أن يكون ملائكة، أو نرى ربنا، أو تقول لولا - حرف شرط امتناع أي
ومعنى قولهم ومؤداه أننا لَا نؤمن بانك رسول، ولو كان اللَّه يرسل رسولا لأرسله من الملائكة، ولماذا لَا يخاطبنا، وهكذا سار المشركون على ما سار اليهود من قبلهم، فقد قالوا لموسى - عليه السلام - لن نؤمن لك حتى نرى اللَّه، إن هذا الذي طلبوه يتضمن في ذات نفسه خروجا بهم عن طورهم الإنساني؛ لأن الرسول يجب أن يكون من جنس من أرسل إليهم، فهم بطلبهم هذا كطلب بني إسرائيل من قبل قد تعدوا الحدود، ولذا قال تعالى بعد ذلك (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) السين والتاء للطلب، أي طلبوا الكبر في ذات أنفسهم وتعدوا حدودهم، وحسبوا بكبرهم الذي طلبوه أنهم فوق البشرية، وألفوا الظلم، والنّبوّ عن الحق، والخروج من دائرته، ولا سبيل إلى رجعتهم، وقد أكد اللَّه سبحانه وتعالى استكبارهم عن الحق وبعدهم بـ اللام وبـ قد، وبوصف بعد عن الحق كبير وضلال بعيد، قد أوغلوا فيه وإذا كانوا يريدون أن يروا الملائكة فسيرونهم، ولكن لَا على أنهم مبشرون ومنذرون، ورسلا في الدنيا من قبل رب العالمين، ولكن يرون مبشرين بدخول الجنة فعلا يوم القيامة، أو ملقين لهم ولأشباههم في الجحيم، ولذا قال تعالى:
أي أنهم سيرون الملائكة غير نازلين لهم في الدنيا، فالرسالة من البشر، كما هي سنة اللَّه في دعوة الخلق إلى الهداية، وكما كان شأن الرسل من قبل محمد - ﷺ -، كما قال تعالى مخاطبا نبيه (... قل مَا كنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ...)، فهم يطلبون محالا في الدنيا، وستنزل إليهم الملائكة فيرونهم عيانا، ويكون عذاب منهم إليهم، ولذا قال تعالى (لا بُشْرَى يَوْمَئِذ لِلْمُجْرِمِينَ) هذه عبارة
فهذه الجملة السامية مع إيجازها المعجز، فيها تبشير وفيها ذكر لعذاب المجرمين، فالمجرمون لَا بشرى لهم بدخول جنة النعيم، إذ هم محرومون منها، وفيها - بالمفهوم - بشرى لغير المجرمين، ففيها جزاء المؤمنين بالنعيم المقيم وحرمان المجرمين منه، وهذا أدنى الجزاء، وهو عقوبة سلبية، والعقوبة الإيجابية وهي دخولهم في الجحيم بدل بشرى النعيم، فهي مذكورة في آيات كثيرة، وأشير إلى بشرى المؤمنين، لأنهم يرجون لقاء ربهم، فكانوا صفوفا في منازل الأبرار.
(وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) الضمير في (يَقُولُونَ) يصح أن يعود على الملائكة، ويصح أن يعود إلى المجرمين، والحجر معناه المكان الحجور الممتنع كنقض بمعنى منقوض، ومن ذلك حجر إبراهيم، فهو مكان ممنوع، ووصفه بالمحجور تصريح بما تضمنه اللفظ، وتأكيد لمعنى المنع على غير المؤمنين.
وتخريج القول على أن الضمير يعود على الملائكة ويكون المعنى أن الملائكة يقولون لَا بشرى يومئذ للمجرمين، أي البشرى بالجنة تكون لغير المجرمين مقصورا ما يبشر به على المؤمنين، فأنتم معشر المجرمين ممنوعون منه محرومون.
وإذا كان الضمير في يقولون يعود إلى المجرمين يكون المعنى أنهم أدركوا أنه لا نصيب لهم بالبشرى في الجنة، ليقولوا متحسرين نادمين مكبوتين (حِجْرًا مَّحْجُورًا) أى مكان ممنوع علينا منعًا مؤكدا.
وإن المجرمين يكونون قد أحسنوا في الدنيا بأن فعلوا أحيانا ما توجبه المروءة والنجدة، ولكن لأنهم فقدوا الهيئة المحتسبة المخلصة للَّه تعالى لَا يكافئون عليها لأن الأعمال بالنيات، ولذا قال تعالى:
٢ - الهباء ذرات التراب الرقيقة التي لَا تبدو إلا في ضوء الشمس المنبثق من
وقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا)، أي عمدنا إلى ما عملوا من عمل يرونه برا يكافئون عليه، فجعلناه كالهباء المفرق في الهواء لَا يرى؛ ذلك لأن البر إنما يكون مع النية المحتسبة عند اللَّه، وهؤلاء ليست لهم نية محتسبة لأنهم لَا يعبدون اللَّه، بل يعبدون الأوثان، ولا يرجون سواها، فهم آثمون بعملهم لفساد نياتهم. هذه حال المشركين فيما يعملون من أعمال يحسبون أن فيها خيرا، وهي ضلال في ضلال لفساد النية، أما الذين لهم البشرَى فهم أصحاب الجنة.
أصحاب الجنة هم المتقون كقوله تعالى (أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وعبر سبحانه عن المتقين بأنهم أصحاب الجنة، أي الذين اختصوا بها ويلازمونها، كما اختصت بملازمتهم، وأفعل التفضيل ليس على بابه لأنه لَا خير لغيرهم يفاضلون به بينهم وبين أهل الجنة، إنما المعنى الظاهر أن أصحاب الجنة أتاهم في الاستقرار والبقاء خير لَا يقادر قدره، ولا علو لغيره، ولا يعلوه شيء في الوجود، والمقيل اسم مكان من قال يقيل، أي أنه استراح في القيلولة، وأفعل التفضيل على غير بابه، أي أن لهم استراحة في وقت القيلولة، ليس هناك ما يماثلها في حسنها وراحتها، وعبر عن راحة الجنة باستراحة وقت القيلولة؛ لأن الراحة في هذا الوقت تكون متعة في ذاتها، وقد شبهت راحة الجنة بهذه الراحة لحسنها، ومتعتها؛ ولأن الجنة مقابلة بالنار، فكانت كأنها الراحة في وسط القيلولة، أي أن المجرمين في وقت راحة الجنة واستمتاعهم يكونون في ستار من الجحيم، وعذاب الخلد.
(وَيَوْمَ تَشقَّقُ) معطوفة على قوله تعالى: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ) أي في هذا اليوم الذي تنزل الملائكة ويرونها، وهي تعويل لهم، يكون معه يوم آخر، وهو يوم تشقق السماء بالغمام، تشقق أصلها تتشقق حذفت إحدى التاءين تخفيفا، كقوله تعالى: (تَلَظَّى) والباء هنا للملاصقة أو الظرفية، أي تشقق السماء بتشقق الغمام، وهذا كناية عن أن السماء تضطرب، وتتقطع أجزاؤها، وهذا كقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ)، وكقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤)، والمعنى إذا اضطرب الكون بما فيه ومن فيه يكون يوم البعث، وفي هذه الحال تنزل الملائكة فوجا بعد فوج للحساب وتقرير المصير إلى النعيم أو الجحيم، ولذا قال تعالى: (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا) والتنزيل النزول فريقا بعد فريق، أي أنه لَا يكون حساب واحد، بل حساب بعد حساب، ومن شدد عليه الحساب عذب، وهذه الآية في معناها كقوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ..).
وإن هذه الآية وأشباهها في سموها ومعانيها تهديد بيوم البعث الذي أنكروه، وإنه يوم يضطرب فيه الكون، ويكون فيه الهول، وإن السلطان حينئذ يكون للَّه تعالى وحده، ولذا قال عز من قائل:
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ)، أي السلطان الكامل، ودل على الكمال بـ (ال) الدال على كمال الاستغراق كأنه لَا ملك غيره، ولا يسمى ملكا سواه، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه الحق، أي الثابت الذي لَا يتخلف حكمه، ولا يكون لغيره أبدا.
وهذا الملك الثابت الكامل (لِلرَّحْمَنِ) جلت رحمته، ووصف اللَّه تعالى هنا بصفة الرحمن مع أن ذلك اليوم شديد عسير على الكافرين، كما سيذكر
* * *
حال المشركين يوم القيامة
قال تعالى:
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (٢٩) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (٣٠) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (٣١)
* * *
ولسان حاله يقول: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) ويا هنا ليست للنداء، ولكنها للتنبيه على ما يتمناه نفسه وقد فات وقت الأماني، وتمنى الأماني، وقد فات وقتها، وسجل عليه فواتها، أو نقول إن يا للنداء، وتنادى فيه الأماني التي فاتته نادما، ولات حتى يندم.
والأمنية التي كان يتمناها، وهي قوله: (اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا)، أي لم أفارقه، ولم أعانده، ولم أكذبه، وقد كان الصديق الأمين، والرسول هو محمد - ﷺ -، وإن البيان كمال شخصه ورسالته، ومعنى (اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) أي سرت في مساره غير مفارق سبيله الذي اختار، وتنكير سبيلا للإشارة إلى كرم طريق الرسالة والهداية الذي فارقه، ولم يسر فيه، بل ضل عنه ضلالا بعيدا.
والظالم هو من اتصف بالظلم في عبادته فأشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، أو آذى المؤمنين أو كان يعثوا في الأرض فسادا، فليس المراد شخصا أو أشخاصا، وإن كانت الآية قد اقترن نزولها بظلمهم.
ويلتا: الألف مقلوبة عن ياء المتكلم، والويلة بمعنى الهلاك، فهو ينادي هلاكه الذي نزل به، وذلك للشعور بما نزل به، فكأنه ينادي بهلاكه إيماء إلى نزوله به، وكأنَّه يناديه تحسرا، وكأنه يقول يا هلاكي أقبل فهذا وقتك، فإنك نازل لا محالة، وفيه إشعار بأنه يستحقه، ولقد كان في الآية السابقة يتمنى أن يتخذ مع الرسول السبيل الجيد المستقيم، فهنا يتمنى أنه لم يتخذ فلانا خليلا صادقا يخاله ويوده، ويقترن به ويتبعه، ليت وهل ينفع شيئا ليت، وفلان كناية عن صاحبه وأصحابه، ويتمنى أن لو كان لم يتخذهم أخلاء له، ويتحقق قوله تعالى:
(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧).
اللام واقعة في جواب
قسم مقدر، وهي والقسم المقدر تفيدان التوكيد، وقد تفيد التوكيد أيضا، و (أَضَلَّنِي) أي أبعدني وأوقعني في الضلالة منصرفا عن الذكر الذي يذكرني بربى وهو القرآن والنبي - ﷺ -، وما اشتمل قوله - عليه السلام - من تذكير باللَّه والإيمان، فالذكر يشمل القرآن والنبي، وما اشتملت عليه الدعوة المحمدية من تذكر مستمر باللَّه تعالى، فقرين السوء أبعده عن الحق والتذكير به إبعادا تاما.
وحَدُّ وقت الذكر، وهو وقت مجيئه الذي يكون فيه الهدى والضلال، وفي ذكر هذا الوقت إيذان بأنه قد جاء المذكر، ولم يجب داعيه، وإيذان أيضا بأنه لا سبيل له إلى استعادة ما فات، وتغليظ لفساد صحبة صاحبه.
وقوله تعالى: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) هذه الجملة السامية من كلام اللَّه تعالى وأحكامه من كلام الذي يقول: (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فلانًا خَلِيلًا).
فإن كانت من كلام اللَّه تعالى فهو سبحانه وتعالى يقرر حقيقة ثابتة في الناس، والشيطان هنا هو الخليل، لذي يدعو إلى السوء؛ لأنه يكون كالشيطان تسري نفثاته في نفسه كما تسري نفثات الشيطان، والشيطان خذول للإنسان يخذله عن السير في طريق الخير وهدايته.
وعلى أن هذا من كلام الكافر يوم القيامة، يكون رميا لخليله الذي أضله بأنه كالشيطان أفسد قلبه وإدراكه وخذله عن أن يسلك مسلك النبي - ﷺ -، ويتخذ سبيله - ﷺ - الحق والذكر والمعرفة، والهداية والبعد عن الضلال، وخَذُول صيغة مبالغة من خاذل، وهو الذي يجعل الشخص المقدم على أمر يتردد فيه ولا يفعله، والمراد هنا هو التخذيل عن فعل الخير، وسلوك الطريق الأقوم، والأهدى سبيلا.
هذه حال الرسول ورسالته وإعراضهم عنها في الدنيا مما يوقعهم في حالهم التي صورها سبحانه وتعالى في الآخرة، وعبر سبحانه بالرسول للإشارة إلى حق الرسالة عليه من الاتباع والدعوة، وحقه عليهم من الاستجابة والطاعة له.
وقد نادى ربه ضارعا له أن بنصره ويؤيده فقال: يارب؛ ليشكو بثه وحزنه إليه، إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. وعبر بقومي لإبداء الغرابة من إنكارهم، لأنهم عرفوه صادقا أمينا، وعاشروه وعرفوا أنه الأمين، ليس بالكذاب ومعه الحجة المثبتة لرسالته التي لَا تدع ارتيابا لمرتاب.
وقوله تعالى: (اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ) الإشارة إلى القرآن الذي عرف بصفاته العالية من أنه هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور، وهو نور يهدي إلى صراط مستقيم وبلاغته تبعد عن كل قول وفيه الشريعة، اتخذوا القرآن صاحب الصفات العليا مهجورا، أي شيئا مهجورا، هجرته القلوب، وهجروه بذواتهم فكانوا يقو لون: (... لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، وقالوا الهجر والفحش ما يدل على فحشهم وهجر أفعالهم، وقد استغرب النبي - ﷺ - من حالهم المناقضة لرشدهم. هذه شكوى الرسول - ﷺ - من قومه، وقد عزى اللَّه نبيه بأن الباعث على هذا هو العداوة، والعداوة من شأنها أن تؤدي إلى المهاترة، وهجر الأقوال والأفعال، وهؤلاء أعداء كما كان للرسل من قيلك أعداء.
إنه منذ هبط آدم وإبليس إلى الأرض، والخير والشر في نزاع مستمر؛ تحقيقا
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الإشارة إلى ما قوبل به النبي - ﷺ - من عداوة كبار المشركين، كأبي لهب، وأبي جهل، ولجاجتهما في العداوة والإحن مع قرب القرابة، والرحم الواصلة، والمعنى كهذه العداوة التي تلقاها من بعض المجرمين من قومك، وجعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين، وعدوا تشمل الجمع والواحد أي يكون لنبي عدو، فرادى وجماعات؛ لأن تلك سنة الحياة التي سنها اللَّه تعالى: (وَلَن تَجِدَ لِسنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)، و (من) هنا ابتدائية، أي يكونون من المجرمين دون غيرهم.
وإذا كان ذلك شأن الوجود الإنساني أن يكون الإنسان في متنازع الخير والشر، فإن النبي - ﷺ - غالب، لأن اللَّه تعالى ناصره ومعه، ولذا قال: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) الباء لتأكيد كفاية اللَّه تعالى له، وإنه معه يغنيه عن الاستعانة بغيره، والتعبير (بِرَبِّكَ) أي كالئك وحافظك ومربيك، والقائم على شئونك، (هَادِيًا) إلى أقوم سبل الحياة الفاضلة، (وَنَصِيرًا) نصرا مؤزرا دائما، وليستخلفن في الأرض المؤمنين الصالحين.
* * *
قال تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (٣٢) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٣٧) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (٣٨) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (٤٠)
* * *
أدى جحود المشركين لمعنى النبوة والرسالة الإلهية إلى أن يتقحموا في كلام غير معقول، وأداهم تكذيبهم للنبي - ﷺ - ومعجزته إلى أن يقولوا كلاما لَا موضوع له إلا أن يريدوا توهينه.
(كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، وقد ذكر سبحانه وتعالى حكمتين في نزوله مفرقا على أجزاء تنزل في أوقات متفرقة: أولاهما - هي إيناس النبي - ﷺ -، وتثبيت قلبه على الدعوة باستمرار الوحي نازلا بالقرآن لَا ينقطع، وهذه الحكمة أشار إليها سبحانه بقوله: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) أي أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك فتعرف بالوحي المستمر أن اللَّه معك، الثانية - أشار إليها سبحانه بقوله:
(وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) والترتيل هو قراءة القرآن الكريم على نسق منسق مصور للمعاني الجليلة في التلاوة، فيتلقاه النبي - ﷺ - مرتلا، ثم يقرؤه لغيره من القراء من أصحابه كذلك، وبذلك يتواتر القرآن مرتلا، كما أقرأه جبريل للنبي - ﷺ -، وكما قرأه النبي - ﷺ - على أصحابه، فالقرآن الكريم ليس متواترا بلفظه فقط، بل بلفظه وترتيله، فقد علّم جبريل النبي - ﷺ -، كما جاء في قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩)، وقال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْث..).
وإن العرب كانوا أمة أمية، فما كان فيها كاتب عنده القدرة على أن يكتب القرآن كله، ولأن اللَّه تعالى تكفل أن يحفظ كتابه من غير تحريف ولا تبديل، ليحفظه إلى يوم القيامة، فكان ذلك بحفظه في الصدور، وإن ما يحفظ على قرطاس يسهل تحريفه أو تبديله أو حذف جزء منه، أما ما يحفظ في الصدور فإنه يكون في وعي لَا يغير ولا يبدل، ولما أراد اليهود في أفريقيا أن يحرفوا في كتابة المصحف كان الحفاظ وراءهم، وقد ردوا كيدهم في نحورهم.
وقد حسب المشركون لجهلهم وجحودهم أن ذلك ينال من الذكر الحكيم،
إنهم قد سدت عليهم المسالك كشأن كل مبطل يريد أن يثير لجاجة في القول والريب حول حقيقة ثابتة لَا مجال للريب فيها، فهم أنكروا أن يكون آية وطلبوا غيره مع عجز صارخ عن أن يأتوا بمثله، وجاءوا بعد إلى أمر شكلي حوله يريدون أن يتخذوا منه سبيلا لأن يقولوا إن محمدا اصطنعه اصطناعا بعد أن قالوا: إنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، قالوا لماذا لَا ينزل جملة واحدة، فبين اللَّه تعالى حكمته العليا في أنه نزل مفرقا، وقال (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) المثل الحال والصورة، أي لَا يأتونك بحال يتوهمون أنها تلقي بريب أو شك، إلا جئناك بالأمر الثابت الذي لَا ريب فيه، فيلقمهم الحجة ويزداد الحق نصوعا وسطوعا وبيانا يقطع جهيزة كل متكلم، (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) أفعل التفضيل ليس على بابه، لأنهم ليس لهم تفسير للحقائق حتى يكون بيان القرآن أحسن منه، إنما الظاهر أن بيان الحقائق في القرآن لَا يوجد بيان أعلى منه ولا أجمل ولا أوضح، فالتفسير البيان، وكان الله سخرهم باعتراضهم لتزداد حجة النبي - ﷺ - وضوحا، والله عليم حكيم، وقد ذكر سبحانه من بعد ذلك عاقبة لجاجتهم، فقال:
موضع (الَّذِينَ ئحْشَرُونَ) النصب على الاختصاص، وبيان عاقبة أمرهم بعد هذا الذي يثيرونه حول الحجة الكبرى للرسالة الخالدة إلى يوم القيامة، وقد عبر سبحانه عن حشرهم يوم القيامة بصورة تجعل القارئ يدرك منها مقدار المهانة التي تلحقهم يوم الحشر، الذي كانوا ينكرونه ويبالغون في إنكاره، إذ إنهم يقلبون على وجوههم التي كانت لَا تتجه في الدنيا إلا إلى الأسفل، فهم يسحبون سحبا، ويجرون جرا على وجوههم، وهذا يشير إلى أنهم يساقون ولا يكون لهم اختيار، ويساقون على أقبح حال، فبدل ما كان يدَّعون لأنفسهم في الدنيا من سيطرة،
لقد كان المشركون يعيرون النبي - ﷺ - على أن أتباعه العبيد والفقراء، وهم في نظرهم الأراذل من قومه، فبين سبحانه أنهم إذ يسحبون إلى النار على وجوههم مع صفاتهم السابقة شر مكانا، أي مكانهم الحقيقي والمعنوي شر هو الشر كله، وغيرهم كان هاديا يهدي في الدنيا، وخير مثوبة في الآخرة، (وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي أبعد عن السبيل الحق في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بإنكارهم للحق، حتى وصلوا إلى درجة العمى، وبالموازنة بين ما كانوا يدعون لأنفسهم، وما آل إليه أمرهم يتبين أولا - أنهم كانوا في ضلال وهم في الدنيا، والأرذلون في زعمهم كانوا أهدى سبيلا، ويتبين لهم ثانيا - أنهم في الآخرة يسحبون على وجوههم إلى جهنم، والمتقون كانوا سائرين إلى النعيم.
* * *
من قصص الأنبياء
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (٣٦)
ذكر سبحانه وتعالى طغيان المشركين وضلالهم، وتحديهم وعنادهم، ثم مآلهم، ثم ذكر سبحانه بعد ذلك العبر التي سبقتهم، وما آل إليه الطغيان والكفر، مشيرا غير مفصل - التفصيل في مواضع أخرى -، وابتدأ بقصة فرعون وملئه،
وقد أرسلا معا إلى فرعون:
الفاء عاطفة للترتيب في أنه عند إرادة الجعل وزيرا لموسى كلفهما بالتبليغ معا، فقال لهما، وأضاف سبحانه القول إلى ذاته العلية تشريفا لهما وتنويها بأمرهما، وقوله تعالى: (اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) الأمر بالذهاب يومئ إلى أنهما مقدمان على أمر جليل في شأنه، خطير في ذاته؛ لأنه لقوم عتاة، يسبقون إلى الكفر بدل السبق بالإيمان.
وقد وصفهم اللَّه سبحانه وتعالى بأنهم كذبوا بآيات اللَّه مع التكذيب بعد الذهاب، وبعدما آتى الله تعالى موسى تسع آيات مبينات، فكيف يكونون موصوفين بذلك عند الذهاب، والجواب عن ذلك أنه أخبر بالماضي، لبيان تأكد الدفوع منهم، كما في قوله تعالى: (أَتي أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، وكما في قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَق الْقَمَرُ)، عند بعض المفسرين الذين يقولون: إن انشقاق القمر يوم البعث.
والتدمير إدخال الهلاك في الشيء، أو الهلاك، والفاء أيضا للعطف
وذكر القوم، ولم يذكر فرعون مع أنه الرأس الطاغي، ونقول في الجواب عن ذلك، إنه لولا حاشيته وقومه ما طغى وتجبر، وكذلك الشأن في كل طاغية جبار ملؤه هم الذين يقرونه ويشجعونه.
بعد ذلك ذكر سبحانه وتعالى قوم نوح فقال تعالى:
(وَقَوْمَ نُوحٍ) منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر قوم نوح، والرسل هنا يراد بهم نوح - عليه السلام - إذ إنهم كذبوه، فقد كذبوا رسالة اللَّه تعالى إلى خلقه، فكأنَّهم يكذبون الرسل جميعا الذين جاءوا قبل نوح، والذين جاءوا بعده، لأنهم كذبوا أصل الرسالة الإلهية، ولذا كان العقاب بأن استؤصلوا وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، وكان ذلك بالإغراق الذي اجتث شأفتهم أجمعين، ولم يبق إلا من آمن بنوح، وما آمن معه إلا قليل، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً)، أي جعلناهم آية معلمة لصدق الرسالة، وهلاك المكذبين الضالين، وقدم للناس على أية إشارة إلى أنه يعتبر بهذه الآية، ومن لم يعتبر فهو لايعد من الناس؛ لضلاله وفساد إدراكه.
(وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا)، أي هيأنا للظالمين بسبب ظلمهم، الذي يشمل الشرك والفساد في الأرض، والاعتداء على الناس، (عَذَابًا أَلِيمًا) أي مؤلما، ففعيل بمعنى اسم الفاعل، كبديعٍ بمعنى البدع، وعبر بالوصف بِالظلم، ليشير إلى أنه سبب العذاب المؤلم.
(وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (٣٨)
وثمود هم قوم صالح أهلكوا بريح صرصر عاتية.
وأما أصحاب الرس، فقد اختلفت الروايات عن السلف في تفسيرها أو من هم، وأصل الرس كما قال الأصفهاني في مفرداته: الأثر القليل الموجود في الشيء يقال: سمعت رسا من خبر، ورس الحديث في نفسي، أي أثره، وروي أن الرس اسم لبئر، وهكذا وردت روايات كثيرة عن أصحاب الرس، وأحسن ما روي في ذلك روايتان هما أن أصحاب الرس وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب الذين دعاهم إلى التوحيد، ومبادئ الأخلاق، وتنظيم المعاملة والعدالة في الكيل والميزان والثانية ما رواه ابن جرير واختاره، وهم أصحاب الأخدود الذين هلكوا بإلقائهم في أخاديد ألقيت فيها النيران، وأصحاب الأخدود الذين هلكوا هم الذين فعلوا بالمؤمنين ذلك كما جاء في سورة البروج في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨).
وإن هؤلاء قد بلغوا أقصى غايات القسوة في معاملة المؤمنين، وقد أخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، وذكرهم في هذه المناسبة؛ لبيان عتوهم، وأنهم قد انتقم منهم كما انتقم من فرعون، وكما ينتقم من كل المشركين، وإنا نميل إلى الرواية الأولى، وهي أنهم قوم شعيب؛ لأن سنة القرآن الكريم في قصصه أن يعرض قصة شعيب بعد عاد وثمود، فبمقتضى هذا المنهاج القويم نميل إلى أنه سبحانه وتعالى أشار إلى قصة شعيب بهذه الإشارة.
وهذه القرون الكثيرة التي بعث لها النبيون بين نوح وموسى، حذرهم اللَّه وأنذرهم، وضرب الأمثال من قصص النبيين، وكيف هلك الأقوام، إذ كذبوا الرسل، ويبين اللَّه كيف أهلكهم وفتتهم، وأذلهم، ولذا قال تعالى: (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ) كُلًّا، الضمير قائم مقام مضاف إليه، أي كل قرن من هذه القرون الكثيرة بينا له الأمثال من الذين سبقوه، وكذبوا رسلهم، وكيف كانوا عبرة لهم، ولكن لم يعتبروا، (وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) فسر الراغب الأصفهاني التتبير بالإهلاك، والمعنى: وَكُلًّا أهلكناهم إهلاكا، وكانوا عبرة، ولكن لم يكن اعتبار، فعم الفساد، وضلوا ضلالا بعيدا، إلا من هدى الله، وآمن واهتدى.
وقال الزمخشري وتبعه في هذا كل المفسرين الذين أخذوا أن التتبير هو التكسير والتفتيت، أي أن اللَّه تعالى كسرهم حتى صاروا فتاتا، متقطعا متجزئا.
والمعنيان متلاقيان يصح الجمع بينهما بأن أهلكهم بطريق كسرهم وتفتيتهم، حتى صاروا فتاتا مندثرا.
وإن المشركين لم يعتبروا بما بين أيديهم من آثار الذين ظلموا مثل ظلمهم، وعليهم أن يعدوا أنفسهم لمثل المآل الذي آل من سبقوهم، وإنهم يمرون على ديارهم، ولا يعتبرون بهم، ولذا قال تعالى:
القرية هي المدينة العظيمة، وهي هنا قرية قوم لوط، ومطر السوء هو
أتوا هذه القرية أي مروا عليها في رحلاتهم إلى الشام، ولم يعتبروا، وقال أتوها، ولم يقل مروا، للإشارة إلى أنه كان يجب أن يأتوا، ويعتبروا بها، ويخشون أن ينزل بهم لما ارتكبوا من آثام مثلها، أو أشد منها، وإن لم تكن من نوعها.
(بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا) بل هنا للإضراب الانتقالي، أي أنه لَا يتوقع منهم اعتبار بالسابقين؛ لأنهم لَا يرجون نشورا، لَا يتوقعون أن ينشروا ويبعثوا ويحاسبوا، لأن من فقد ذلك الشعور لَا يأبه لشيء ولا يفكر في عبرة أو اعتبار، إذ يحسب أنها الحياة الدنيا وحدها ويقول: ما هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب وما نحن بمبعوثين.
* * *
النبي والمشركون
قال تعالى: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)
* * *
المشركون كشأن كل ضال أن يكون مصروفا بقلبه عن الحق منصرفا عن المعاني إلى الظاهر، وعن الحقائق الثابتة إلى الأمور الحسية، لقد رأوا النبي - ﷺ - يأكل
الضمير في
ويستمرون في غيهم، فيقولون:
(إِنْ) مخففة من إنَّ، واسمها ضمير الشأن محذوف تقديره إن الحال والشأن أنه كاد إلى آخره، أي أنه بماضيه وظهور صدقه، وعدم الدليل على كذبه في حججه المتوالية التي كانت تجيء دليلا ردف دليل قارب أن يبعدنا عن آلهتنا، أي يبعدنا عن عبادة آلهتنا، ويجنبنا إياها، (لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا) أي لولا أن حبسنا
وإن هذا النص الكريم الحاكي لأحوالهم النفسية يدل على أمرين: أولهما - أنهم كانوا في مغالطة نفسية، بين باطل اعتنقوه وحق لاح نوره بين أيديهم بحججه وأدلته الناصعة المنيرة، والثاني - أنهم لتقليدهم وتعصبهم لما كانوا عليه وما وجدوا عليه الآباء فكانوا يحاولون إبطال الحق وتأييد الباطل، فحبسوا أنفسهم على الباطل حبسا، وأنهم كانوا يتبعون الحق لولا أنهم حبسوا أنفسهم على الباطل، ولولا - شرطها صبرنا، وجوابها محذوف دل عليه ما قبلها.
وهكذا المبطل دائما يكون غير مستقر على فكرة، بل الأوهام تسيطر، وتضع على الإدراك غشاء مانعا من أن يصلوا إلى الحقائق وبؤمنوا بها، ولا تحسبن الضالين يؤمنون بشيء.
وقوله تعالى: (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) سوف هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، أي سيعلمون علما مؤكدا في أي جانب كان الضلال، أكان مع الهادي المرشد الأمين، أم منكم، وأنتم تعبدون أحجارا لَا تنفع ولا تضر، وقد حبستم أنفسكم عليها حبسا لَا تخرجون من دائرة سلطانه الموهوم، وإنكم ستعرفون الحق الواضح الأبلج الناصع في نوره وبياضه عندما ترون العذاب، فالنفوس الضالة لَا يهديها إلى الحق الحجة الدامغة، بل تزيدهم إصرارا على باطلهم، ويعلمون حينئذ الحق في وقته، إذ يعلمونه في وقت نزول العذاب، وهو علم ندم، ولات حين مندم.
وقوله تعالى: (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) استفهام لإنكار حالهم وتوبيخهم على جهلهم مع مجازاتهم على ما كان منهم في جنب النبي في الدنيا، (أَضَل سَبِيلًا) أي أبعد عن الطريق المستقيم، واللَّه بكل شيء عليم، وإن هذا القول الذي حكاه سبحانه وتعالى عنهم يدل على أنهم يختارون من الآلهة ما يتجه إليه هواهم دون عقولهم، ولذا قال سبحانه:
ترتب على حبسهم أنفسهم على الضلالة لَا يتجاوزونها، ولو بدا لهم الحق لائحا منيرا أنهم يريدون آلهتهم على ما يهوون ويحبون، لَا على ما يدركون بعقولهم، وتبين به الآيات الباهرة، وعظمة اللَّه تعالى القاهرة، والمعنى لقد رأيت من اتخذ إلهه هواه، وقالوا: إن المفعول الأول هواه، وأُخِّر للاهتمام بمعنى الألوهية التي لَا تكون هوى قط، وكان سياق القول، أفرأيت من اتخذ هواه إلها يعبده، والإله هو الواحد الأحد النافع الضار الذي يملك كل شيء في الوجود، ولا سلطان لأحد عليه، والاستفهام هنا للتوبيخ، لأنه إنكار لفعلهم الذي فعلوه، ويفعلونه، ويلجون فيه من غير تفكير، ولا تَعَرّف للحق.
(أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) الوكيل الحفيظ المتصرف المحامى عليه، لقد كان النبي - ﷺ - حريصا على هدايتهم، كما قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء..)، وقال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكونُوا مُؤْمِنِينَ)، فهذه الآية وسابقتها تدل على أنهم يعبدون ما يحبون لا ما يعلمون ويدركون، وأنهم قد انغمروا في ضلال لَا منجاة لهم منه، ولذا قال تعالى: (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كانوا يتخذون هواهم إلها، فأنت تكون عليهم حفيظا تهديهم، وتخرجهم من الظلمات إلى النور، إن فسادهم في ذات أنفسهم، فإن حفظتهم عن أن يضلوا غيرهم، فكيف تحفظهم من ذات أنفسهم، إن ضلالهم في ذات أنفسهم، والاستفهام للتنبيه إلى ضلالهم، وقال تعالى:
أم - هي أم المنقطعة الدالة على الإضراب والاستفهام معا، أي أنها تدل على الإضراب والانتقال من أمر شديد، إلى أشد، فالأمر الأول كان يفرض أنهم
(تَحْسَبُ) معناها تظن ونقدر أنهم يسمعون ويعقلون، وإنكار أنهم يسمعون؛ لبيان أنهم لَا يسمعون الحق ولا يهتدون ولا يتدبرون، فكانوا كمن لا يسمعون أصلا، لأن الله وهب لنا السمع لنتقي به أضرار المفاجآت، ولنكون في يقظة، فإذا لم يفد السماع إدراك الحق فهو لم يسمع، ففي الكلام مجاز، وكذلك من عنده عقل ولا يستعمله فكأنه سلبه.
وقال سبحانه: (أَكْثَرَهُمْ) لأن الله عدل في حكمه دائما، فمنهم من يؤمن، ويكون من المجاهدين، ومنهم من كان يستنكر في نفسه ما يفعله هؤلاء، فليسوا جميعا كأبي جهل وأبي لهب، وإن هؤلاء الكثرة كانوا هم المسيطرون على الجو الفكري حتى أدال الله تعالى من دولة الكفر، وكانت الكلمة العليا لله ولرسوله وللمؤمنين، فأخذ الإسلام يغزو القلوب قلبا قلبا قلبا، وفقد الهوى سلطانه إلا في بعض الأعمال دون العباد، ويئس الشيطان أن يعبد في أرض العرب، وبين سبحانه أن هذه الكثرة أضل من الأنعام فقال: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).
هنا نفي وإثبات، وإن نافية، أي ليسوا إلا كالأنعام، في أنهم لَا يعقلون الحق ولا يدركونه، وفي الكلام مجاز، إذ شبهوا بالأنعام، لجامع الجهالة وعدم الفهم، وقد أكد الله جهلهم بقوله (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي أنهم أضل طريقا وهداية؛ لأن الأنعام تتبع هاديها، ومن يأخذها إلى منتجع الكلأ والماء، أما هم فلا يهتدون ولا يتبعون هاديا مرشدا، فهم جائرون بائرون، ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى:
" إن الأنعام تنقاد لأمر من يرعاها ويتعهدها، وتعرف من يحسن إليها، ومن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها، وتتجنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لَا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العذاب الذي هو
وهكذا كان الذين يحسبون الهداية ضلالا، والعكوف على الأوثان والتمسك بها صبرا، يحمدون عليه، وليس هوانا يحسب عليهم، واللَّه الهادي.
* * *
آيات الله في الكون
قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (٤٥) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٥٠)
* * *
الرؤية هنا بصرية نظرية، ذلك أنه من ينظر ببصره الظل وهو يُمَدُّ، والمد: الجر والسحب، يراه رأي العين يجر شيئا فشيئا من انبلاج الفجر، إلى طلوع الشمس يرى ذلك بالنظر، ثم يتدبر بالفكر في صانعه، ولذلك قال:
(وَالصُّبْح إِذَا تَنَفَّسَ)، إذ يمتد الظل شيئا فشيئا، ويبرز الناس إلى الحياة متدرجين في بعث الحياة في الأعمال، وكأنَّه يتنفس تنفسا.
هذا توجيه إلى تعرف بدائع الخلق، وإنه في هذه الحال، تكون الراحة النفسية، واستقبال الحياة مبشرا، وإن ذلك صنيع اللَّه تعالى خالق كل شيء ومبدعه، خلقه سبحانه بإرادته المختارة، التي ينشئ بها كل شيء في الوجود، فلا تصدر عنه صدور العلة عن معلولها، (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا)، أي باقيا مقيما، وتكون كلمة (سَاكِنًا) وضعا من السكنى، وعندئذ لَا تبعث الراحة والسعادة والاستبشار، وقد قال تعالى في آية أخرى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ..)، فسبحان مقلب الأحوال، وسبحان مقلب القلوب.
قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) انتقل السياق القرآني من الغيبة إلى المتكلم؛ لبيان إرادة اللَّه الواضحة، وأنه هو الفاعل المختار، ولتربية المهابة في النفوس بخطابه بذاته العلية خطابا واضحا معلما، والعطف بـ (ثُمَّ) للإشارة إلى التفاوت بين الظل والشمس الساطعة، وكانت الشمس دليلا على الظل، لأن إشراقها نهايته؛ ولأن ضوء الشمس يدخل في ظلام الليل شيئا فشيئا من انبثاق الفجر، فهو الدليل الواضح للظل، حتى يكون الصباح.
وإنه بعد الإشراق يأخذ الظل في الانقباض حتى يكون الظلام الحالك، ولذا قال تعالى:
وإنه بعد إشراق الشمس يكون الظل والحرور، ويستمر طول النهار مصطحبا مع الشمس المشرقة والنور حتى يكون في الغروب وتختفي الظلال والأضواء ويكون الظلام الدامس، والليل الذي تستكن فيه
والقبض اليسير هو القبض المتدرج آنًا بعد آنٍ، وساعة بعد ساعة، فالقبض للظل مستمر من شروق الشمس إلى غروبها، وهو يتناقص شيئا فشيئا حتى ينتهي النهار.
وإن هذا النص يثبت أن الأرض كروية، ويومئ إلى دوران الأرض حول الشمس.
ولقد صرح سبحانه بأنه خالق الليل والنهار بعد أن أشار إلى بعض الأسباب.
في هذه الآية الكريمة يذكر ما جعله اللَّه تعالى من خواص الليل، وما جعله من خواص النهار، فجعل الليل كاللباس للناس، لأنه يستر عوراتهم، ولا يكشف، ويكونون في كِن من الظلام ساتر غير كاشف، فشبه سبحانه الليل باللباس الساتر بجامع ستره للعورات وما لَا يصح إبداؤه، وقوله تعالى (وَالنَّوْمَ سُبَاتًا) أي جعلنا النوم قاطعا عن العمل منهيا للحركة، وفي ذلك الراحة اليومية، وتجديد القوي للعود للعمل؛ وذلك لأن السبات من السبت وهو القطع، وسمي السبت سبتا لأنه قاطع عن عمل الأسبوع، ومَنْهٍ له، وإخلاد إلى الراحة من بعده، وذلك في عقيدة اليهود إذ كانوا في السبت ينقطعون عن العمل والصيد، ويستجمون، والنوم في ذاته موت للحس، وقعود عن الحركة، ولذا قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَاكم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ..).
وهذه الآية متصلة بما قبلها، فالآية السابقة شرحت عجائب في خلق النهار من الليل كيف يبتدئ بمد الظل، ولو شاء لجعله ساكنا، وكيف جعل الشمس مشرقة داعية إلى العمل والحياة، وكيف قبض الظل متدرجا حتى جاء الليل، وفي هده الآية: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا...) بين سبحانه حكمته في خلق الليل والنهار، إذ يبدأ النهار بمد الظل، ثم يقبضه متدرجا في قبضه، حتى يجيء الليل، ومن الليل النهار، وجعلهما خلفة.
بعد بيان نعمته على عباده في الليل والنهار، وبيان أن النفوس تستروح الراحة في الليل، وتنهض للعمل في النهار لطلب الرزق بين سبحانه أنه يرزق الناس بما يكون مادة عملهم، وفيه معاشهم، فقال الحكيم العليم الخلاق العظيم:
الضمير للَّه جل جلاله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأرسل الرياح أطلقها، كأنها مقيدة بإرادته سبحانه ثم أرسلها، والرياح جمع ريح، وهي تتلاقى في استقامتها مع الراحة، كما تتلاقى في وقائعها مع الراحة أيضا، وإن كانت المعاني ليست واحدة، أطلقها سبحانه وتعالى لتكون مبشرة للناس بنزول الماء الطهور، ولذا قال تعالى: (بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) وبشرا مخففة من بشر بضم
ويكون المؤدى أن كل قراءة آية قائمة بذاتها، وهي قراءة، والجمع بينهما يكون الجمع بين آيتين، في أوجز لفظ، وبالجمع تكون الرياح مبشرات ومنتشرات، والله هو الرزاق ذو القوة المتين.
وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) والسماء هنا جهة العلو، أنزلنا من السحاب الذي حملته الرياح المبشرة المنتشرة ماء طهورا، والطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وإن أطهر الماء هو ماء المطر؛ لأنه فوق خلوه من الأنجاس الحسية والقاذورات هو خالط خلوا تاما من جراثيم الأمراض الوبائية وغيرها، ووصفه بطهور ينبئ عن ذلك، وإنه ينزل كذلك ثم يكون تلوثه بجراثيم الأمراض بعد ذلك. بمكوثه في الأرض واستقراره بها.
وإنه في الشريعة يطهر الإنسان طهارة حسية بإِزالة الأنجاس الحسية، وطهارة
وقد بين سبحانه غاية هذه الماء الطاهرة، أو عاقبة نزوله بإِرادة اللَّه تعالى وأمره الذي لَا معقب له، ولا راد لفضله، فقال:
اللام لام العاقبة، وليست لام التعليل في نظرنا؛ لأن أفعال اللَّه جل جلاله لا تعلل، ولكنها لام العاقبة وبيان اقتران نعمة اللَّه تعالى بهذا الخير العميم، وقد ذكر اللَّه تعالى ثلاث نعم كل نعمة تشير إلى ما وراءها.
النعمة الأولى - إحياء موات الأر. ض، وقد عبر اللَّه تعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته: (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) البلدة الميتة هي الخالية من الزرع والماحلة من الغرس، ولا ينتفع بها في بناء أو غيره، بل هي معدة للزرع والغرس، وإحياؤها هو سقيها، وإزالة أسباب بوارها، وزرعها أو غرسها، والماء هو حياة الزرع والغرس، وخلق اللَّه تعالى من الماء كل شيء حي، يلاحظ هنا أن كلمة " بلدة " مؤنث لفظي، وهو دال في ذاته على البقعة، فكيف يوصف بكلمة ميتا الخالية من التاء، قال علماء البيان: إنه أريد بالبلدة مكانها فميتا وصف للمكان وهو الذي يوصف بأنه محل خاو من الزرع والضرع، فكان حذف التاء، فيه إيماء إلى ما يجري فيه الإحياء وهو المكان وليس البلدة التي تتكون من البيوت والدور، وهي لَا تكون إلا حيث يحييها اللَّه تعالى بالزرع، وإن إيراد المكان بالبلدة هو الذي يتفق مع السياق، والبيان.
وقال علماء البيان أيضا: إن الوصف بميت من غير تاء فيه مبالغة في مَحْلها، وجدبها وخلوها من النبات، وما به ينبت، أي أن الجدب حال مستمرة باقية يراها الناس كذلك، وذلك وجه معقول كسابقه.
وسمى اللَّه تعالى وجود الزرع والغرس، وما يتبعها من إحياء، تشبيها بالحياة، أي أن الأرض في حال جدبها كالميت، وفي حال زرعها واستغلالها
النعمة الثانية - سقي الحيوان من الأنعام وغيرها، وذلك قوله تعالى: (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا) أشار في هذه الآية إلى ثلاث نعم في ضمن نعمه أولها: السقي ذاته فهو نعمة، وثانيها: أن الأنعام يسقين خلق اللَّه تعالى، وهي تكون حاملة وعاملة، وثالثها: أنها حيوان هي نعم في ذاته، ولذا سميت الأنعام.
ورابعها: سقي الأناسي، وهي جمع إنس بمعنى الإنسان، وهذه نعمة أخيرة، وهي نعمة الري، ودفع العطش القاتل، إنه هو المنعم الكبير.
* * *
التصريف في القرآن والنذر
قال تعالى:
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٥٠) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (٥١) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (٥٥)
* * *
هذا على أن الضمير يعود إلى القرآن، وإن الضمير يعود إلى الماء الطهور الذي ينزله الله تعالى ليحيي به موات الأرض، ويسقي بها الأنعام التي خلقها الله تعالى وأناسي، والعود إليه ظاهر؛ لأنه أقرب مذكور، (صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ)، أي وزعناه بينهم، فهو مرة يكون غيثا في الشرق، وأخرى في الغرب، وأحيانا في الوسط، وأحيانا في الجنوب، ورابعة في الشمال، وكل يفيض عليه رزق اللَّه تعالى، وكل يسقيه الله تعالى بقدر، وكان حقا عليهم أن يتذكروا هذه النعم ويشكروها؛ لأنه سبحانه وتعالى خلقهم، وكفل أرزاقهم، ومكنهم من أن يعملوا ويقوموا على الحرث والنسل، ويستخرجوا من الأرض خيرها، ولكن أبى أكثر الناس إلا كفورا وجحودا.
إن اللَّه تعالى رحيم بعباده رفيق بهم، ولكنه خلق لهم أعينا يبصرون بها وآذانا يسمعون بها، وقلوبا يفقهون بها، وجعل لهم علما وإدراكا، ومكنهم من أن يصلحوا في الأرض ولا يفسدوها، وصلاحها بأن يقوموا بمكارم الأخلاق، وجعل لهم بعثا ونشورا، وحسابا وجزاء وعقابا، ولكنه علت قدرته لابد أن يعطيهم النذر مرشدة، حتى لَا يتردوا بأهوائهم في الضلال، فبعث إليهم محمدا بشيرا ونذيرا، بالنذر العامة التي تعم القرى والمدائن، ولو شاء لجعل في كل قرية نذيرا، والقرية المدينة العظيمة، أو القبيل الكبير، ولذا قال تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا)، أي منذرا يخصها، ويبين الحق بيانا كاملا، ويبين ما يعقب الكفر من عذاب الجحيم، وما يكون بعد الإيمان من جنات النعيم.
(لَوْ) حرف امتناع لامتناع، أي امتنع الجواب لامتناع الشرط، أي امتنع أن يجعل اللَّه تعالى في كل قرية نذيرا، لامتناع مشيئته سبحانه ذلك، وله سبحانه وتعالى في ذلك حكمة وارادة، وعلى أن الناس متشابهون خلقا وتكوينا وإرادة، وسيطرة الأهواء الشيطانية على بعضهم، والعقل على آخرين اصطفاهم اللَّه تعالى، وبهداه اقتدوا، فكان الإعلام بالرسالة والنذير، إعلاما لهم أجمعين، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وكان إنذار محمد - ﷺ - عاما للناس أجمعين، وكان التبليغ الكامل حقا عليه وعلى من تبعه من بعده، كما قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...).
وإذا كان إنذار الناس أجمعين حقا على النبي واجبا عليه، كان لابد من الجهاد، ولذا قال تعالى:
الفاء للإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر، وقد أمره تعالى بأمرين:
الأمر الأول - ألا تطع الكافرين؛ لأنه منذر لهم، والطاعة تكون بتخاذله في الدعوة، وممالأتهم فيما يعبدون، وذلك مستحيل أن يكون من محمد المبعوث رحمة للعالمين والذي جاء لإصلاحهم، فلا يصح أن يعود إلى مداهنتهم في الحق، وإنما ذلك أمر لأتباعه - ﷺ - من بعده، ومن هم معه في حال حياته، وذكر الكافرين بالاسم الظاهر لبيان أن طاعتهم طاعة للكفر، فكان ذلك تأكيد النفي ببيان سببه.
والأمر الثاني - جهادهم، والجهاد بذل الجهد في مقاومة ضلالهم، وبيان الحق الذي يدعو إليه، والإصرار عليه، والجهاد كان في مكة بالصبر على الدعوة إلى الإيمان، والأذى في سبيلها، والاستهزاء والسخرية بها، وألا يني عن الإعلام بها لمن لم يكن يعلم، وقد حقق النبي وأصحابه ذلك في مكة، فقد صبروا وصابروا، وتعرض النبي - ﷺ - للقبائل بعد أن ذهب إلى الطائف وردوه ردا منكرا، تعرض للقبائل في موسم الحج، حتى كان الأوس والخزرج من أهل يثرب، إذ وجدوا فيه منجاتهم مما هم فيه من عداء بينهم، وحرب مع اليهود، فهاجر إليهم، فكانوا له أنصارا، وكان الجهاد بالمنازلة بعد الجهاد بالمصابرة.
ووصف اللَّه تعالى المطلوب بأنه جهاد كبير، لأن المصابرة أمر عظيم، وبها قام المسلمون، وتكونت الخلية الأولى من أهل الوحدانية. وحملوا مع النبي - ﷺ - عبء الجهاد في دوره الثاني، وكان الجهاد كبيرا؛ لأنه كان في كل أدوراه بالصبر، وقوله: (بِهِ) أي القرآن ببيانه والتمسك به، فإنه في ذاته قوة، وإنه بهذا يشير إلى وجوب الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيلها والمصابرة، وهو أمر كبير إلا على الخاشعين، وإن كبر الجهاد ليس بكثرة المقتولين، وإنما كبره يكون بالصبر عليه، وإرادة اللَّه تعالى فيه، وتحمل الأذى والرضا بالأذى، ما دام يوصل إلى الغاية، وهي أن تكون كلمة اللَّه تعالى هي العليا.
الضمير يعود إلى اللَّه جل جلاله، و (مَرَجَ)، لها معنيان وردا في لغة العرب، المعنى الأول - خلَّى وأرسل، والمعنى الثاني - خلط من غير امتزاج، وإدخال أحدهما في الآخر، وقبل أن نخوض في معنى الكلمات والأسلوب نقرر أن هذه الآية من دلائل الإعجاز؛ لأن محمدا لم ير البحار التي تمخر عبابها السفن، فذكره سبحانه وتعالى لخواصها في القرآن دليل على أنه ليس من عند محمد - ﷺ - الذي لم يرها ولم يعرفها، ودليل على أن الكلام للَّه تعالى خالق البحر واليابس، والأنهار والبحار، وهو بكل شيء عليم.
والمعنيان للمرج يستعملان في هذا المقام، فاللَّه سبحانه وتعالى خلَّى البحرين يجريان كل منهما في مجراه من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر، وهما غير متجاورين أحيانا، وأحيانا يكونان متجاورين يختلطان ويتجاوران ولا يمتزجان، والبحران هما النهر العظيم كالدجلة والفرات والنيل وسيحون وجيحون وغيرها من الأنهار العظيمة الذي يخليها الله تعالى ويرسلها في المروج، فتنبت الزرع نباتا وغراسا، ويشرب منها الناس، ويسقون دوابهم وأنعامهم، والبحر الثاني هو البحر الملح، كبحر الروم وبحر القلزم، وبحر الهند، وبحر الظلمات وغيرها، والأول عذب فرات، والثاني ملح أجاج، أي ملح شديد الملوحة، وفيه أحيانا دفء، وفيه نعم لَا تحد، ففيه الجواهر والياقوت والمرجان، وفيه اللحم الطيب، وهواؤه فيه مواد مطهرة للصدر، فيه اليود، ومنه تنبعث الريح، وفيه تجري البواخر كالأعلام وفى هذا بيان نعمة الله تعالى في الماء العذب الفرات الذي يكون لسقي الأرض وإحياء نباتها وغرسها.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير عجائب الله تعالى في البحر الأجاج، فذكر ما
وأخذ يضرب الأمثال حتى قال: وما يشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح، ومنها ما فيه مد وجزر، ففي أول كل شهر يحصل مد وفيض فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى حالتها الأولى، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد لليلة الرابعة عشرة، ثم شرع في النقص فأجرى اللَّه سبحانه وتعالى تلك العادة.
وإن نعم اللَّه تعالى في البحار كما ذكرنا عظيمة، وقد سئل النبي - ﷺ - عن ماء البحر فقال: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ".
وقد أشار سبحانه إلى أن كلا من البحرين العذب الفرات والملح الأجاج كلاهما محجوز عن صاحبه، بل يأخذ الإنسان من كل منهما منافعه ونعمه من غير أن يختلط أحدهما بالآخر، فيختلط الملح بالعذب الفرات، فلا ينتفع الإنسان بشربه، ولا الزرع بسقيه.
ولذا قال: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) أي جعل بينهما حاجزا مانعا، وحجرا، أي حدّا، وهوِ بمعنى محجوز، كنقض بمعنى منقوض، وأكد سبحانه المنع، فقال: (وَحِجْرَا مَّحْجُورًا) أي حدا ممنوعا لَا يمكن أن يعدو أحدهما.
وقد قلنا إن (مَرَجَ) هنا بمعنى خلا وأرسل، وقد بينا معنى مرج البحرين على ذلك المعنى، وهي أيضا بمعنى خلط وجاور من غير أن يمتزج الماءان كل منهما بالآخر مع أن الماء سريع السيران، ويتم الامتزاج فيه، لكن في النوعين من الماء نجدهما يتجاوران مختلطين بالجوار غير سائل أحدهما في الآخر، فتجد في مصبات الأنهار حيث يختلط ماء النهر وتجاور ماء البحر، تجد بينهما مانعا حسيا يكون كل واحد منهما متميزا بحيزه لَا يعدوه؛ لأن ماء النهر خفيف، والماء الملح
وبعد أن بين سبحانه ما في الكون من عجائب وبدائع بادية للعيان، ويدرك بعضها الجنان عاد بنا إلى الإنسان المخاطب بالتكليف فقال:
الضمير (هُوَ) يعود إلى اللَّه جل جلاله خالق الوجود كله جليله ودقيقه، وفى هذه الآية يقول عز وجل أنه خلق من الماء بشرا، ونجد في النص تفاوتا بين الماء المخلوقة، والمخلوق منه البشر، فهذا ماء ظاهر أنه لَا حياة فيها يكون منه بشر له حياة وحس ظاهر وخفي، والماء لَا يتألم، والبشر يتألم، ومع هذا التغير الظاهر كان المخلوق والمخلوق منه موجودين في كيان واحد، وما ذلك إلا بقدرة العليم الحكيم الذي يُغير ولا يتغير، ويحول ولا يتحول، وقد خلق البشر الحي الحساس من الماء مرتين: أولاهما - أنه ككل حي متحرك ينمو كان من الماء، فالماء كان منه الزرع والثمار وغيرهما، والإنسان كان من النبات، ونما من الحيوان، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ..)، وخلق من الماء وهو المني، وما هو إلا ماء مهين، لَا يعبأ به النظر، وأشار سبحانه إلى أن هذا الذي كان منه الماء يتوالد، ويتلاحم البشر في الأسر والقبائل، والشعوب، ولذا قال مشيرا إلى هذا التوالد، فقال: (فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) وهذا فيه إشارة إلى الصلات الإنسانية التي تربط الإنسان، وتكون منها المودة الراحمة الواصلة. إما بتوالد نسبي يجمعه الأصل، والنسب، وإما بسبب صهري، ولقد ذكر الزمخشري أن ذكر النسب والصهر والسبب إشارة إلى أن العلاقة الإنسانية تكون بنسب الرجال، أو بالمصاهرة التي تكون بالنساء إذ تكون بالمزاوجة، والمرأة هي السبب في علاقتها، كما قال تعالى (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣٩).
ومع هذه القدرة القاهرة، والعجائب الباهرة، وكما رأيت من مد الظلال، وخلق الليل والنهار، ومرج البحرين، وخلق الإنسان من ماء، مع كل هذا تجد الذين سيطرت أوهامهم يعبدون حجارة لَا تنفع ولا تضر، ولذا قال سبحانه عقب ذلك:
وقال تعالى: (وَكانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) روي عن مفسري السلف، أن ظهيرا معناها أن الكافر يظاهر الشيطان على اللَّه تعالى، إذ يدليه بغروره فلا يعبد اللَّه، ويعبد الحجارة، وهذه المظاهرة على اللَّه تعالى ربه الذي خلقه وأنعم عليه، وأسبغ عليه ظاهرا وباطنا، وذكر الكافر بالوصف، للإشارة إلى أن سبب ذلك هو ضلال الكفر وطمسه لبصيرة عابد الأوثان.
وفسر بعض العلماء (ظَهِيرًا) أي مهينا، والمعنى هينا على ربه لَا يضره كفره، وقالوا إن ذلك من قولهم ظهرت عليه، أي جعلته وراء ظهري، لَا ألتفت إليه، ولا أهتم به، وذلك قريب من قوله تعالى: (... وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا...)، وهذا القول قاله أبو عبيد، وهو قائم على أن ظهير بمعنى مظهور أي ملقى وراء ظهره.
* * *
الله يؤيد الرسل
قال اللَّه تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٥٦) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (٥٩) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (٦٠) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (٦٢)
* * *
إن المشركين أثاروا من أوهامهم أمورا حول النبي - ﷺ -، فزعموا أنه يريد مالا، وزعموا أنه مجنون، وأنه ساحر إلى آخر ما أوحت به أوهامهم، فبين اللَّه سبحانه أنه ما كان إلا بشرا رسولا، وقال:
ومعنى هذا القصر الثابت بالنفي المستغرق، والاستثناء الموضح أنه - ﷺ - هاد مرشد، فلا تعبثوا بهذه الحقيقة بما تثيرون من أوهام باطلة، وتصدون عن سبيل اللَّه تعالى بهذه الترهات الفاسدة.
وأمر اللَّه تعالى نبيه أنه لَا يريد أجرا إلا الهداية واتباع الحق، فقال عز من قائل:
الأمر في (قُلْ) للنبي - ﷺ -، وقد أمر اللَّه تعالى نبيه أن يقول ذلك القول؛ لأنهم قالوا وأشاروا وصرحوا أنه يريد سيادة دنيوية في جاه يبتغيه، أو مال يتموله، فهو - ﷺ - الذي يتولى الرد، وبيان أنه لَا يريد إلا الهداية (مَا أَسْألُكمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) من - هنا دالة على استغراق النفي، أي لَا أسئلكم على هذا الإرشاد والتوجيه الذي أدعوكم به إلى ترك الأوثان وعبادة اللَّه تعالى وحده أي أجر، وإن فائدة هذه الدعوة مغبتها عليكم إذا اهتديتم، وتعود عليكم بالعقاب إن كفرتم.
ثم قال تعالى مستثنيا من الأجر (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا).
هذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا، ويحتمل أن يكون منقطعا، وعلى أنه متصل يكون المعنى ظاهرا والمعنى لَا أسألكم أجرا تدفعونه، أو تؤدونه، إلا ابتغاء من شاء أن يتخذ إلى ربه منهاجا مستقيما، وطريقا موصلا إلى ربه، فإن ذلك هو الأجر الذي أبتغيه، وهو نعم الأجر ونعم الجزاء، فيكون الكلام دالا على مطلبه - ﷺ -، ودالا على شرف الغاية التي يبتغيها، فليس يطلب مالا ولا جاها، ولكن يطلب هداية وتوفيقا وإرشادا.
ومهما يكن من تخريج، فالمعنى أنه لَا جزاء للنبي إلا أن يتبعوا الحق، ويهتدوا به، ويوحدوا العبادة.
وفى قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) إشارات بيانية ثلاث.
الأولى - التعبير بقوله: (مَن شَاءَ) إشارة إلى أن الثواب لَا يكون إلا بالإرادة الحرة المختار، إذ هي أساس التكليف.
الثانية - التعبير بقوله: (يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) التعبير بالرب توجيه إلى أنه الخالق المربي القائم على الخلق، ففي ذلك دعوة للاتباع المدرك، شكرا لنعمة اللَّه تعالى عليه.
الثالثة - وصف الهداية بأنها اتخاذ السبيل؛ لأنه المنهاج، وهو (سَبِيلًا)، وكان التنكير لبيان أن السبيل المطلوب هو ما كان إلى اللَّه تعالى.
وبعد أن أمر اللَّه تعالى نبيه أن يقول لهم ما قال أمره سبحانه بأن يتجه إلى الحق معتمدا عليه سبحانه وتعالى وحده فقال:
أمر اللَّه تعالى نبيه بالتوكل عليه بعد أن يئس من المشركين، ليكون خالصا للدعوة إليه، وليكون معتمدا عليه وحده، وليكون ذلك تبشيرا للنبي - ﷺ - بالنصر عليهم، وأن اللَّه تعالى معطيه ومن معه القوة الدافعة، والتوكل معناه اعتماد القلب على اللَّه تعالى، واتخاذ الأسباب الظاهرة، وإن لم تكن هي وحدها الناصرة إنما هي وسائط، أمر سبحانه وتعالى باتخاذها من غير اعتماد عليها وحدها، وقد ذكر
وبعد أن أمر سبحانه بالتوكل عليه وحده أمر بالتسبيح، وهو التنزيه بوصفه بصفات الكمال المطلق من قدرة وإرادة ووحدانية وغيرها من الصفات التي لا يشبهه فيها أحد من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، العلي الكبير.
وقوله تعالى: (بِحَمْدِهِ)، أي مصاحبا بالحمد بالثناء عليه بما هو أهله، فكان الأمر بالتنزيه، وأمرنا بالثناء عليه سبحانه بما أنعم، وشكره على ما أجزل من عطاء غير مجذوذ.
(وَكَفَى بِهِ)، أي الكفاية به سبحانه وتعالى وحده، والباء لتأكيد معنى الكفاية والاعتماد على ذاته وحده، ومن توكل عليه لَا يحتاج إلى غيره ولا يغني غناءه أحد من خلقه، وقوله تعالى: (بِذُنوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) بذنوب، جار ومجرور متعلق بقوله تعالى: (خَبِيرًا)، والخبير هو ذو العلم الدقيق الذي لَا يعلمه غيره، وقدم الجار والمجرور (بِذُنُوبِ) على متعلقه لبيان الاهتمام بالعلم بهذه الذنوب، وأنهم مجزيون بها، فإذا كانوا قد عاندوا وضلوا وصدوا عن سبيل اللَّه تعالى فإنهم مأخوذون بذنوبهم، وخبيرا - حال من ضمير به، ومؤدى القول الكريم، وكفى به خبيرا بذنوبهم، وهي خبرة وراءها جزاؤهم عليها، وهذا تهديد شديد، وإنذار بليغ.
وذكر سبحانه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فقال عز من قائل:
بدل أو عطف من الحي، وذكر ذلك بعد هذا الوصف الجليل لبيان أن
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢).
وإن هذا النص السامي يدل على أن الأرض أخذت أربعة أدوار منها الدوران الأولان، والسماء قضاهن سبحانه سبع سماوات في يومين.
وإن لعلماء الكون جولات علمية في معاني هذه الآيات، وما تدل عليه من حكمة اللطيف الخبير.
بعد أن خلق سبحانه وتعالى السماوات السبع والأرض في ستة أدوار كونية، جلس سبحانه على عرش الكون؛ لأنه سبحانه وتعالى خالقه فقال: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) هذا كناية عن كمال سلطانه في خلقه يدبره كما شاء، ففي الكلام تشبيه، إذ شبه سبحانه وتعالى سلطانه على الكون يقوم عليه ويدبره، لأنه سبحانه وتعالى الحي القيوم، بمن يجلس على عرش مملكته يدبرها ويقوم على مصالحها، وللَّه المثل الأعلى.
وقال سبحانه (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ)، التعبير بـ (ثم) في موضعه، لأنه سبق ذلك أدوار كونية لَا يعلمها إلا اللَّه، ووصف سبحانه وتعالى سلطانه على العرش، فقال عز من قائل (الرَّحْمَنُ) أي أنه يدبره ويسيطر عليه
وإن المتتبع لهذا الخلق وذلك التكوين، والقيام عليه بقدرته تعالى يرى بقلبه رحمته سبحانه، ولذا قال تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) الفاء للإفصاح عن شرط مقدر إذا أردت أن تعرف (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، والباء - فيما أحسب - بمعنى في، والمعنى فاسأل خبيرا أي عليما يعلم علما دقيقا، فإنه ينبئك عن جلال اللَّه تعالى في الخلق والتكوين والرحمة.
بعد ذكر هذا الخلق، وهذا التكوين العجيب، والإشارة إلى خلق اللَّه تعالى الوجود كله في أدواره المحكمة أعاد بيان حال المشركين في مكة التي يتعلقون بألفاظ يدورون حولها غير متعقلين ولا مدركين، فقال عز من قائل:
لم يكونوا يذكرون اللَّه تعالى بلفظ الرحمن، فهم لَا يعرفونه إلا باسم اللَّه تعالى، فلما ذكره باسم الرحمن استنكروا هذا الاسم، وكأنَّهم لَا يقرونه، قالوا: (وَمَا الرَّحْمَنُ) الواو عاطفة على محذوف، كأنهم يقولون سمعنا قولك من قبل، وما هذا الذي تريده وتسميه الرحمن، كأنهم يحسبون أنه شيء غير اللَّه تعالى، أتريد أن نسجد لما تأمرنا، وكأنهم يقولون تأمرنا بألا نعبد إلا اللَّه، ولا نشرك به شيئا، وتريد أن تأمرنا أيضا بأن نسجد لهذا الرحمن، كأن المسألة بيننا وبينك ليس أمر التوحيد تدعو إليه، إنما أنت تعادي آلهتنا بآلهة أخرى، ومرماهم أنك تتحكم في عبادتنا، ولا تخالفنا في شركنا، (وَزَادَهُمْ نفُورًا)، أي زادهم الأمر بالسجود للرحمن نفورا، لأن من لَا يدرك يزداد نفورا بجهالته، وعدم معرفته، لأنهم ضلوا، وعقولهم الضالة تزداد نفورا، كما أن نزول السورة يزيدهم كفرا.
وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ) عبر بالفعل المبني للمجهول، ولم يذكر الفاعل، وقد علم من البعض، لأنهم قالوا للنبي - ﷺ - (أَنَسْجُدُ لِمَا
وذكر الفعل مبنيا للمجهول للإشارة إلى نفورهم من أصل تسمية اللَّه بالرحمن، وكانوا يحسبونه غير الله تعالى ويقولون رحمن اليمامة أي إله أرض أخرى.
تبارك - أي تعالت بركته سبحانه، فالضمير يعود إلى اللَّه تعالى الذي يمتلئ الوجود كله بذكره وتسبيحه، وإن كل بركة ونفع في هذا الوجود يرجع إليه، سبحانه، ولذا تتعالى بركته في هذا الوجود الإنساني كله، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض مظاهر بركته، وفيض رحمته ففال: (الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ برُوجًا) البروج جمع برج، وهو القصر العظيم، كما قال تعالى: (... وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيدَة...)، ولقد قال مجاهد: البروج في الآية الكريمة هي الكواكب العظام وكأنَّها شبهت في عظم مرآها وجمالها، وكمالها بالقصور المشيدة التي تأخذ بالأنظار تقريبا للأنفس، وليس المعنى أنها مشبهة بالقصور في تكوينها، فإن خلقها أقل من خلق الكواكب العظيمة، والمشبه به يكون أقوى من المشبه، وليس الأمر كذلك في هذا التشبيه، إنما التشبيه للتقريب لإدراكنا.
وخص سبحانه وتعالى من الكواكب بالذكر الشمس والقمر، فقال: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا) الضمير في فيها يعود إلى البروج، أي جعل في البروج أي في عمومها سراجا، والسراج هو الشمس كما عبر سبحانه وتعالى في آية أخرى (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا)، وكما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦).
وهنا نقول: شبهت الشمس بالسراج تقريبا لأفهامنا على سبيل الاستعارة،
ولهذه الصلة بين الشمس والأرض والقمر قال تعالى بعد ذكر الشمس:
الضمير يعود للذات الإلهية التي يجب أن يكون ذكرها في قلب كل مؤمن، وهو الذي يسبح له الرعد بحمده، (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً)، أي يخلف كل واحد منهما الآخر، كأنه يذهب عن الوجود ليكون الثاني خليفة له في إحكام ودقة، وانتظام وتداول بينهما، فالإنسان بين ليل يغشاه، وليل يبرزه، وبين حياة هادئة ساكنة يستروح فيها راحة الحياة واستقرارها، وبين لغوب وعمل وكد وعناء، وقال تعالى: (لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ) يذكر أصلها ليتذكر، أي أنه في هدأة الليل يتذكر نعم الله تعالى نعمة نعمة، ويعتبر أمره عبرة بعد عبرة، وأخذ مواعظه عظة بعد عظة.
وقوله تعالى: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) اللام حرف جر متعلق بجعل، أي هذا الليل والنهار خلفة لتكون مادة اعتبار وإدراك لمن أراد أن يتذكر، ويعرف قدرة اللَّه تعالى وخلقه، وإبداعه في التكوين، فيذكر قدرة اللَّه تعالى الخلاق العليم، وأنه ليس كمثله شيء، وأنه خالق كل شيء، والمنعم على كل شيء، وأراد أن يُشكر على ما أنعم بالطاعة.
وفى هذا التعبير الحكيم إشارة إلى تبعة الإنسان في إهماله أو اعتباره، لأنه سبحانه قال (لِمَنْ أَرَادَ) فإرادته هي الموجهة له بعلم اللَّه العلي الكبير، وبهذه الإرادة يستحق الثواب ويستحق العقاب، واللَّه تعالى يهدي من أراد الهداية بالتذكر
واذكر أصلها تذكر، سكنت التاء وادغمت في الذال وجاءت همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن، وإن الليل والنهار من تعاقب الشمس والقمر في الحس، وهما مستمران في دأب وتوالٍ، كما قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، وقال تعالى: (... يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا...)، صدق اللَّه تعالى.
* * *
صفات المؤمنين المتذكرين
قال تعالى:
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (٦٥) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (٦٧) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩)
* * *
هذه الآيات الكريمات تصور صفات المؤمنين التي يتكون منها المؤمن الصادق، وهي تجمع بين أمور ثلاثة من الصفات:
أولها - الصفات الموجبة المكونة معنى الإيمان، والتي هي خلال أهل الإيمان الذين تعلو الإنسانية بهم، ولا يستعلون عليها، وهي من أول الآيات إلى قوله تعالى: (لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ).
وثانيها - صفات سلبية، وهي التي تبتدئ من هذه الآية الأخيرة.
وثالثها - الذين يبتغون الحياة الزوجية بالطهر والعفاف، وختم سبحانه الآية ببيان الجزاء الأوفى.
قال تعالى:
وصفهم الله تعالى بأنهم عباد الرحمن، وهذا الوصف يشعر بأنهم رحماء فيما بينهم، لَا يجافون، ولا يتناحرون، بل هم في اطمئنان وسلام، وروحانية، لا يجعلون للمادة من حياتهم إلا أن تكون غذاء طيبا يأخذون منه القوة للقيام بواجبهم، وهم في أوصافهم الظاهرة والباطنة يتطامنون، ولا يستكبرون، والهون مصدر هانَ يهون هونا، وهو المشى في غير عنف، ولا تجبر، وهو وصف محمود، وهو ضد الهوان الذي يذل صاحبه للقوي أو المتغطرس، ويهون عليه، وهو من عذاب، ومعنى هونا أي يمشي في سكينة ووقار وفي قصد وتؤدة، وتلك أخلاق الأنبياء والذين يقتدون بهم، فالمؤمن يسير في رفق، وقد وصف الله مشى النبي بأنه كان يمشي في هون ورفق، تبدو في مشيته قوة الماشي غير المصطنع المتخاذل، وغير المختال المرح المتعالي، وكما قال الله تعالى: (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا)، (وَإذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ) والجاهلون هم الحمقى الذين لَا يعرفون ما أحله الشرع، (قَالُوا سَلامًا) أي سَلْما وأمنا، فهم لَا يعلون على الناس، ولكن يسالمونهم، وإذا رأوا حمقى لَا يحاورونهم، ولا يخاطبونهم على مقتضى قولهم، وإن ذلك دأب الحكماء المتقين، يهدون، ولا يجهلون، ولقد كان النبي - ﷺ - لَا تزيده شدة الجاهل إلا حلما.
ولقد روي أن إبراهيم بن المهدي كان ناصبيا يعادي، وكان المأمون علويا معتدلا، فقال إبراهيم بن المهدي رأيت في رؤيا عليًّا فتكلم، فما رأيت في كلامه بلاغة، قال فماذا قال لك إذ خاطبته؟ قال: سلام، قال إذن فقد رأيت عليا، يشير إلى أن عليا خاطبه بما تؤدب به الآية، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وقد
الوصف الثاني من أوصاف أهل الإيمان الإيجابية:
هذا عمل إيجابي، وإذا كان العمل الأول معناه التطامن للناس، وألا يكون بينهم وبينهم شغب، حتى إذا خاطبهم السفهاء بما لَا يصدر إلا عنهم، لَا يبادلونهم السفه بسفه مثله، بل يقدمون لهم السلام والأمن ويطمئنون، ولا يشاغبون. وهذا عملهم مع الناس، أما هم بالنسبة للَّه، فقد ذكر سبحانه ذلك في بيانهم، وهو السجود للَّه تعالى والقيام له، والخضوع له تعالى، فقال: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) هذا عطف على الجملة السابقة في بيان عملهم للَّه، وكذلك ما يجيء من بعده من أحوال لهم، واللام في قوله (لِرَبِّهِمْ) متعلقة بـ (سجَّدًا) أي أنهم يبيتون ساجدين لربهم خاضعين، وقائمين له، وقدم قوله تعالى (لِرَبِّهِم)؛ لبيان قصر السجود عليه، فلا يسجدون لغيره إذ لَا يعبدون غيره، ولا يسجدون لسواه.
والسجود والقيام كناية عن الصلاة، فهم يتهجدون مطيعين؛ لقوله تعالى:
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (٧٩).
وإن معنى الآية أنهم يبيتون على هذه الحال، تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، كما قال تعالى عنهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِع...)، وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ...).
هذه بعض أحوال عباد الرحمن: اتجاه إلى اللَّه وإغضاء عن مساوئ الناس، ويكون اللَّه تعالى في بياتهم فيكونون للَّه تعالى في مبيتهم، وفيما يجْرحُونَ من أعمال بالنهار.
(رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (٦٥) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦)
لقد توقعوا النار وأيقنوا بعذابها، وعملوا ما يجنبهم إياها، ولكنهم مع ذلك أيقنوا أن أعمالهم لَا تكفي لتجنبهم، فضرعوا إلى ربهم أن يصرفها عنهم عالمين أن الجنة من فضل اللَّه، وليست بعمل عملوه ولكن برضا من اللَّه عما عملوه، قال تعالى:
ساءت: بمعنى بئس، فهي لذم جهنم، والمستقر هو مكان الاستقرار، والمقام هو مكان الإقامة، والمعنى بئس الورود إليها على جهة الاستقرار، والإقامة فيها، والجمع بينهما للإشارة إلى أنه ليس استقرارا عارضا ولكنه إقامة دائمة.
بعد أن ذكر حال عباد اللَّه مع اللَّه، ومع الناس أخذ سبحانه وتعالى يذكر حالهم في أنفسهم، ودنياهم وأسرهم، فقال عز من قائل:
الإنفاق هو الصرف فيما يقيم الأود ويدفع الجوع، والإسراف هو الإنفاق في غير الحاجة بالزيادة عليها، والإسراف المنهي عنه هو الإنفاق في غير حق للَّه أو
وظاهر الآية أن عباد الرحمن قد أخذوا بقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (٢٩)، والقتر هو التضييق على النفس بحيث يكون في قدرة، ويحرم نفسه من أقل مطالب الحياة، أو يضيق فيها، والإقتار الفقر أو الضيق في المادة، كما قال تعالى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ...)، ومعنى الآية أنه ينفق في حلال بمقدار طاقته وقدرته، ولا يضيق على نفسه في الحلال، (وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا) أي عدلا بين الإسراف والقتر.
وإن النص الكريم يفهم منه أمران: أحدهما - ألا ينفق في حرام قط، وألا يضن عن حلال موجود إلا تربية للنفس وتهذيبا، وفطما لها عن الشهوات، ولذا كان عمر رضي اللَّه عنه يعد من يطلب كل ما يشتهى مسرفا، لأنه إذا حق الأمر لا يستطيع قدع نفسه عن شهواتها.
الأمر الثاني - أن الإنفاق بين الإسراف والقتر يختلف باختلاف أحوال الأشخاص، فإذا كان الرجل كسوبا عليه أن ينفق في الحلال والجهاد بمقدار كسبه وطاقته ما دام ينفق في مطلوب، وما دام كسبه واسعا، ولقد قبل النبي - ﷺ - من أبي بكر كل موفور ماله لأنه تاجر كسوب، يعرف مواضع الكسب والخسارة، ولم يقبله من غيره، وقد قال تعالى: (وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ...)
، أي السهل اللين الذي لَا يجهد ذا المال إنفاقه ولا يصعب عليه.
هذه أحوال إيجابية هي التي صورت شخصية عباد الرحمن والتي كونت فيهم الإيمان والعمل الصالح، والجمع بين سلامة القلب، واستقامة العمل، وتكوين الإنسان النافع، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك ما يتجنبونه لكيلا يكون ما يعوق هذه الأخلاق العالية، فقال تعالى:
إن أولئك الأبرار الذين رضي اللَّه سبحانه وتعالى أن يضيفهم إلى ذانه العلية، فقال وعباد الرحمن، قد اتصفوا بالكمالات البشرية فهم لَا يستعلون على الناس، ويرفقون بهم، ولا يشاكسون بل تكون علاقتهم بالناس دائما أمنا وسلاما، وامتلأت قلوبهم بالتقوى والخوف من العذاب، والذين قد اتزنوا في حياتهم لا يسرفون ولا يقترون، أولئك فد اتصفوا بصفات، وهي ذاتها تحمل جزاء، فالكريم إذا اتصف بمعالي الصفات، كان جزاؤه هو هذه الصفات ذاتها، وهي نعم الجزاء، ولذا لم يذكر سبحانه وتعالى جزاءها، وإن كان لها الجزاء الأوفى.
وقد ذكر سبحانه ما اجننبوه، وهو كبريات المساوئ الإنسانية، كما أنهم تحلوا بأعلى المناهج الكمالية، فقال تعالى:
وهذا أول معصية تحط من قدر الإنسان، وتنزل به إلى أكبر المهاوي الإنسانية (يَدْعُونَ) يعني يعبدون، لأن العبادة دعاء للَّه تعالى وضراعة إليه، وتسليم كل أمورهم في جنب اللَّه، والدعاء مخ العبادة، كما قال - ﷺ -، والإنسان يهبط في درجة الإنسانية إذا عبد غير اللَّه، وأي كرامة إنسانية لمن يعبد حجرا لَا يضر ولا ينفع، أو يعبد إنسانا مثله، أو يعبد ما يصوره وهمه كالملائكة يتصور أنها تعبد، أو نارا، أو غيرها، إن هذا انهواء إنساني، ومن يعبد شيئا من هذا، إنما يعبد وهما تدفع إليه شهوة منحرفة، فقد اتخذ إلهه هواه.
هذا هو الانحراف الأول الذي تجنبه عباد الرحمن، أما الانحراف الثاني الذي تجنبوه فقد نفاه اللَّه تعالى عنهم بقوله عز من قائل: (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) وهذا وصف للعاصين، وهو المشاكسة التي تؤدي إلى القتل، فهذا مقابل للسلام في قوله تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)، وقوله تعالى: (إِلَّا بِالْحَقِّ) الجار والمجرور متعلق (لا يَقْتُلُونَ) الحق هو الأمر الثابت الذي يسوغ القتل من اعتداء أثيم، أو زنى أو رِدَّة بعد إيمان، وهذا النص يفيد أن
والأمر الثالث الذي نفاه اللَّه تعالى عن عباد الرحمن الاعتداء على النسل بالزنى، ولذا قال تعالى: (وَلا يَزْنُونَ)؛ لأن إشاعة الزنى تضيع النسل، ولا تجعل الناس في أمن ودعة، وتضعف الوحدة الإنسانية، ويكون الناس في تناحر، وتنزل بالقيمة الإنسانية إلى دركة الحيوانية، ولقد قال محمد - ﷺ -: " وما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة في رحم امرأة لَا تحل له ".
وقال - ﷺ -: " إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق، وتدع الخالق، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك، وينهاك أن تزني بحليلة جارك ".
وقد ذكر سبحانه وتعالى عقاب هذه المآثم التي هي أمهات الرذائل فقال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) الآثام جزاء الإثم وزيادة المبني تدل على زيادة المعنى، أي أنه جزاء من نوع ما ارتكب، ولكنه جزاء كبير، وإطلاق الآثام بمعنى جزاء الإثم، وارد في اللغة العربية، فقد جاء في الكشاف هذا البيت من الشعر:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى | عقوقا والعقوق له أثام |
إن اللَّه تعالى عدل، يجازي السيئة بمثلها، ورحيم يجازي الحسنة بعشرة أمثالها، فكيف يجعل العقاب ضعف الذنب، أجاب عن ذلك صاحب الكشاف بأن المضاعفة لأنه عقاب الشرك، وعقاب الذنب الذي ارتكب من قتل نفس وزنى، ونقول حينئذ لَا مضاعفة.
والذي يبدو لي - غير متطاول على مقام الزمخشري - أن العذاب شديد
وإنه عذاب دائم مستمر، ولذا قال تعالى: (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)، أي أنه مستمر مع مهانته الشديدة الواضحة الدائمة المستمرة، وكذلك يستبدل اللَّه.
بغطرستهم الجاهلية، واعتزازهم الظالم العاتي مهانة دائمة مستمرة، وقد استثنى العادل الحكيم الذين يتوبون في الدنيا، فقال:
(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٠) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (٧١)
هذا الاستثناء من العذاب السابق ذكره في الآية السابقة، وقد ذكر سبحانه وتعالى ثلاثة أمور تخرج الشخص من دركة الكفر والطغيان إلى درجة الإحسان واستحقاق الثواب.
وأول هذه الأمور - التوبة، وثانيها - الإيمان، وثالثها - العمل الصالح فقال:
أما أولها: وهي التوبة فهي أعلى درجات الاعتذار عن العمل السيئ، وقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته: " التوبة ترك الذنب على أكمل وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه، إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا أو فعلت وأسات وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة، والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة فمن اجتمعت له هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة ".
ولا شك أن من تكون له هذه الإنابة يغسل قلبه من أدران الشر، ويرحض
هذا هو الأمر الأول، وهو الأساس للأمرين الآخرين، بل هو النور الهادي لهما، أما الأمر الثاني: فهو الإيمان بأن ينتقل من دركة المعصية إلى درجة الوحدانية، ومن دركة الكفر بمحمد والقرآن والعناد إلى درجة الإذعان للحق والإيمان به والجهاد في سبيله.
وأما الأمر الثالث، فهو العمل الصالح، وقد قال تعالى: (وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) وإن ذلك العمل يؤكد الإيمان ويوثقه، لأن والعمل ثمرة الإيمان، أو هو جزء منه، كما أن ثمرة العلم العمل، والإيمان أعلى درجات العلم، إذ هو علم وتصديق وإذعان وتسليم، وقد أكد سبحانه وتعالى العلم فقال (وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) وذلك بذكر المصدر تأكيدا لمعنى العمل، وليكون ذلك العمل بعد الإيمان مقابلا للعمل الذي كان في جاهليتهم، ولبيان أنهم يعملون عمل عباد الرحمن، الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.
وقد بين سبحانه وتعالى جزاء هذه المثوبة الكاملة، وذلك العمل الصالح، والأيمان الكامل فقال: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) الفاء واقعة في جواب الشرط، أو ما هو في معنى الشرط، لأن الموصول في معنى الشرط، وأولئك إشارة إلى الذين كانت فيهم هذه الأحوال من توبة وإيمان وعمل صالح، والإشارة إلى الموصوف بصفات إشارة إلى هذه الصفات، وإلى أنها سبب الحكم، ولم تجد الحكم جزاء بالنعيم، وسيجيء ذلك من بعد، إنما الجزاء أن يبدل سيئاتهم حسنات، والتبديل هو التغيير، أي أنه سبحانه وتعالى يغير سيئاتهم، ويضع محلها حسنات، وإن ذلك بلا ريب واضح من التوبة، ذلك أن التوبة كما قررنا ترحض النفوس، وتزيل عنها أدرانها، وتجعلها مجلوة مصقولة، وصالحة لأن يحل محلها
وختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) هاتان صفتان من صفات اللَّه تعالى أنه يغفر السيئات ويسترها، ويرحم عباده بهذا الغفران، وكذلك شأنه الأعلى، شأنه سبحانه يقرب عباده بالغفران والرحمة وفتح باب التوبة لمن أراد من عباده الصالحين.
ثم قال تعالى:
في هذا النص السامي يبين اللَّه تعالى أن من يؤمن تائبا، ويعمل العمل الصالح ضارعا، فإنه يعود إلى اللَّه تعالى راضيا مرضيا، ويركن إلى اللَّه تعالى، وحسبه أنه ركن إلى اللَّه تعالى القوي القهار الغالب، يأمن بجانب اللَّه تعالى شر كل مخلوق، ومتاب - أحسب أنه اسم مكان، أي أنه يعود إلى مكان التوبة وملجئها الحصين الذي لَا يذل من يلجأ إليه، ويجعله حصنه الحصين، وركنه الركين، والفاء في قوله تعالى: (فَإِنَّهُ يَتُوبُ) الفاء واقعة في جواب الموصول؛ لأنه في معنى الشرط كما ذكرنا، وإن ذلك هو الثمرة الكبرى للتوبة.
وقال سبحانه وتعالى في الأحوال النافية لعباد الرحمن:
الزور: هو كل باطل مزور مزخرف بحيث يؤثر في النفس مرآه، وهو زخرف باطل، فيدخل في ذلك اللهو العابث والقول الماجن، والكذب والفحش
هذا تفسير للنص القرآني، ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى على أنه احتمالي: " يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين، فلا يحضرونها، ولا يقربونها تحرزا عن مخالطة الشر وأهله صيانة لدينهم عما يثلمه، لأن مشاهدة الباطل شركة فيه، ولذا قيل في النظارة إلى ما لَا تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الإثم، لأن حضورهم ونظرهم دليل على الرضا به، وسبب وجوده والزيادة فيه، لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة، ورغبتهم في النظر إليه، وفي مواعظ عيسى - عليه السلام -: " إياكم ومجالسة الخطائين " وهذا نظر حسن، واتجاه سليم فإنه من المقررات أن أول الشر استحسانه، وأول الباطل حضوره.
هذا احتمال في معنى الآية وهو معنى حكيم سليم مرشد، وهو يليق بحال عباد الرحمن، وهناك احتمال آخر، وهو أنهم لَا يشهدون شهادة الزور، ويكون الكلام على حذف مضاف، فمعنى (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي لَا يشهدون شهادة الزور وسميت الشهادة في هذه الحال الزور؛ لأنها كذب، وهي تكون في مجالس الظلم أو معاونة للظالم، أو معاونة على الظلم، ويصح لنا أن شهادة الزور التي يروج فيها الباطل، ويُنصر الظالم، وتؤكل أموال الناس بالباطل تكون داخلة في شهادة الزور، وحضور مجالسه.
ويقال للكذب زور لأنه مائل بالنفس عن قول الحق، وكأن طبيعة النفس ألا تقول إلا صدقا، والكذب انحراف بها وميل عن الصراط المستقيم؛ لأن القلب
ولقد قال تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) اللغو من الكلام ما لَا يعتد به وهو الذي يورد من غير روية وفكر، ليجري مجرى اللغا، وهو صوت الطير الذي يكون له معنى محدود، وكما يقصر اللغو على القول الذي لَا يكون له قصد معقول يقره العقلاء، كذلك يطلق على الأفعال العابثة، والمقابح التي يلهو بها بعض الناس في جلوسهم على المقاهي، وأهل اللغو من شأنهم أن يعيبوا غير المعيب، ويسخروا من أهل الفضل، ولا يجاريهم إلا من يكون على شاكلتهم في الأفعال والأقوال، ويقطعون الساعات في غير عبادة مقررة، ولا عمل نافع يقصد إليه، فعباد الرحمن لَا يخوضون مع هؤلاء في قول أو فعل، ولذا قال تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) أي مروا معرضين، كما يقول اللَّه تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ...)، وكراما تدل أولا: على أنهم ينكرونه بقلوبهم لَا ينكرون ما يفعله أهله بألسنتهم، حتى لا يخوضوا معهم في حديث يجرهم إلى أن يجيء على مسامعهم رفث القول وفسوقه، وثانيا: يكتفون بالاستنكار السلبي، وذلك يفعل في النفوس ما لَا تفعله الأقوال، وهو موعظة واستنكار للأشخاص والأفعال، والأقوال، وثالثا: ينصرف إلى نفسه، فيهذبها عن اللغو، وذلك في ذاته دعوة إلى الجد، والابتعاد عن العبث وانصراف إلى المجد.
وسماهم في هذه الحال كراما؛ لأن الكريم يعلو بنفسه عن مواضع العبث والهذر والسخف، يقال تكرم فلان عما يشينه، وإكرم نفسه عن القبح، وفي ذلك إشعار بأن الخوض في العبث أو مشاركة أهله فيه هو مهانة كل المهانة، وحط كل الحطة.
ومن أحوال المؤمن السلبية، وإن جاء بشكل فيه مظهر إيجاب ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله:
ذكروا بآيات ربهم بأن تليت عليهم آياته إن كانت متلوة أو ذكروا بآية كونية في خلقه السماوات والأرض، وإبداعه في خلق الإنسان (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) الخرور في اللغة يطلق على السقوط الذي يكون صوتا أو النزول من أعلى إلى أسفل نسبيا بصوت، كخرور الماء فإنه نزول من مكان يعلو نسبيا إلى ما دونه، والخرور قد يكون معنويا بالسجود للَّه تعالى: (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) وإن خرور السجود حسي معنوي، فهو ينزل ساجدا للَّه تعالى فيلتقي فيه الخرور الحسي والخرور المعنوي.
ومعنى النص السامي أنهم إذا ذُكِّروا بآيات اللَّه تعالى: (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) والصمم والعمى هنا يراد به عدم الاعتبار بالآيات، فكأنهم صم لم يسمعوا، أو عميان لم يروا، وهذه أخلاق المشركين فهم الذين يخرون كالصم والعمى لَا يعتبرون ولا يدركون، وليس المواد وصف المشركين بهذا الوصف السلبي، فقط، بل إنه وصف المؤمنين عباد الرحمن بأنهم على نقيض وصف الظالمين يخرون سجدا وبكيا، فهم ليسوا كأخلاق هؤلاء لَا يعتبرون، بل يعتبرون ويخرون للَّه في كل آية يسمعونها، وفي كل عبرة يعتبرونها، وينظرون إلى خلق اللَّه تعالى نظرة مدركة مستبصرة مستهدية طالبة الرشاد، فهذا النص يشتمل على نفي الحال التي يكون عليها المشركون، فهم لَا يخرون صما وعميانا، بل يخرون ناظرين مدركين متفهمين، كقول العرب: مثلك لَا يبخل، فالمراد به في كلام العرب: أنت لَا تبخل.
وهنا إشارة بيانية نذكرها، وهي أن اللَّه تعالى يقول: لَا يخرون صما وعميانا بنفي الخرور، وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات التي تتلى أو توجه الأنظار في المخلوقات من شأنها أن تجعل من يتأملها ويسمعها أن تجعله يخر خرورا لوضوح إعجازها ودلالتها، لكن عباد الرحمن يخرون سجدا وبكيا، والكافرون يخرون صما وعميانا.
هذا النص السامي يدل على أن أخلاق عباده أن يطلبوا الولد صالحا تقيا مؤمنا صادق الإيمان لَا أن يطلبوا النعم؛ لأن عمارة هذا الوجود بالولد، ولذا طلبوا هبته، ولم يطلبوا الحرمان، كما يطلب فجرة هذا الزمان المشئوم، كرر طلب الولد الصلبي في قوله تعالى: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا)؛ لأن الولد المنسوب إلى الأزواج وهو جمع زوج هو الولد الصلبي، وأما الولد من الذرية فهو من بعد الولد الصلبي، والذرية الأولاد من الظهور كالابن وابن الابن وبنت الابن، وذلك على اصطلاح الفقهاء، وهو مشتق من اللغة، ونرى أن النص يومئ إلى أنه من يكون من دمه، سواء أكان من أولاد الظهور، أم من أولاد البطون، ومهما يكن الخلاف في هذا فإنه لَا جدوى فيه من موضوعنا لأنه إن اقتصر في ناحية على أولاد الظهور، فمن ناحية أخرى يطلب غيره من يكون من أولاد الظهور له، وتعم الدعوة السلالات أجمعين إذا خلصت كل النفوس، وكانوا عباد الرحمن.
كان طلب عباد اللَّه الصالحين، أن تكون لهم أعقاب صالحة، عبروا عنها في دعوتهم بقوله (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) القرة من القرار وهو الاستقرار والثبات، ويقول الأصفهاني في مفرداته: إن الأصل فيه أنه من القر بضم الراء وهو البرد؛ لأن العين في حال تستقر، وتهدأ، إذ كانوا يرهبون الحر، لأنه عندهم يكون شديدا، وقالوا برد المتقين وغيرهم يقول حرار الإيمان، والمفهوم من قرة العين أن تكون مطمئنة بذكر اللَّه وأن يكونوا في سكينة الإيمان، وقرار العين مظهر من مظاهر سكون النفس، واطمئنان الفؤاد.
وقالوا في دعائهم: (وَاجْعَلْنَا لِلْمتَّقِينَ إِمَامًا) أي اجعلنا معشر عباد الرحمن -
ولقد بين سبحانه وتعالى جزاء من يكونون في هذه الأحوال الموجبة والسالبة، والمشبهة، فقال عز من قائل:
(أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (٧٥) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٧٦)
يقول المفسرون الذين يتجهون إلى الإعراب ابتداء إن قوله أولئك
والإشارة هنا إلى أصحاب هذه الأحوال والصفات، ومن المعروف أن الإشارة إلى الموصوف تومئ إلى أن هذه الأوصاف سبب الحكم، وهو هنا الجزاء فهذه الصفات سبب ذلك الجزاء، وقد قال القرطبي في عبارة جامعة لهذه الصفات: " وأَوْصَافُهُمْ مِنَ التَّحَلِّي وَالتَّخَلِّي، وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ: التَّوَاضُعُ، وَالْحِلْمُ، وَالتَّهَجُّدُ، وَالْخَوْفُ، وَتَرْكُ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ، وَالنَّزَاهَةُ عَنِ الشِّرْكِ، وَالزِّنَى وَالْقَتْلِ، وَالتَّوْبَةُ وَتَجَنُّبُ الْكَذِبِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيءِ، وَقَبُولُ الْمَوَاعِظِ، وَالِابْتِهَالُ إِلَى اللَّهِ تعالى ".
والغرفة تطلق على علية البيت، واستعيرت للجنة أو لعلية الجنة أي أعلى مكان فيها؛ لأن هذه الصفات رفعتهم إلى أعلى درجات الإنسانية، فاستحقوا أعلى جزاء وهو الجنة أو أعلاها.
وإنهم يجدون في الجنة التي تسنموا أعلاها، وكانوا في الذروة الترحاب والأنس والكمال ويجدون مع هذا كله الأمن والسلام والاطمئنان والقرار، ولذا قال تعالى: (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا) لقَى هي مضعف لقى أي يلقون في قوة
وهنا إشارة بيانية في قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَروا)، أي أن هذا الجزاء الموفور الذي هو أعلى درجات الجنة بما صبروا، أي بسبب صبرهم وذكر ذلك تصويرا لصبرهم الدائم المستمر، وذلك لأن هذه الطاعات تحتاج إلى إرادة قوية صابرة، فإنها قمع لشهوات التعالي في الدنيا، والغطرسة والسلطان، وغيرها من الغرائز الإنسانية، فقد قمعوا هذه الغرائز وشذبوها، وجعلوها في ناحية الخير لَا تعدوها.
وإن اللَّه سبحانه وتعالى كَضَل هذه النعمة بدوامها، وبقائها، وخلودهم فيها فقال تعالى:
إذ النعم ينقصها فناؤها، وهذه نعمة كاملة لَا تفنى ويخلد فيها أصحابها، وكما قال سبحانه وتعالى في عذاب جهنم (سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) قال في هذه (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)، أي هذه الغرفة العالية في الجنة نعم هي مستقرا فيها حين يستقرون ونعم هي مقام طيب خالد.
قال تعالى مخاطبا الخارجين عن طاعته، وفيه التفات من عباد الرحمن إلى المشركين.
الخطاب للنبي - ﷺ - ليوجه إلى المشركين خطاب اللَّه تعالى، وقد أمر النبي - ﷺ - بأن يخاطبهم بهذا الخطاب؛ لأنه نبيهم المرسل؛ ولأنهم يعاندونه ويتحدونه، ويكفرون، فأمره سبحانه بأن يذكر لهم أن اللَّه تعالى لَا يباليهم، ولا يهتم لهم لولا تصحيح اعتقادهم.
وجعل بعضهم اللفظ يحتمل هذا المعنى لولا دعاؤكم الأوثان وعبادتهم، وذلك ضلال في عقولكم، وأفن في أنفسكم، واللَّه لَا يرضى لعباده هذا الضلال، ونحسب أن التخريج بعيد في تأويله وتفسيره.
وقال تعالى: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) الفاء للسببية، أي لَا يبالي سبحانه بكم لولا أنه يدعوكم بالحق، وبسبب تكذيبكم لَا يعبأ بكم لَا يبالي (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) الفاء عاطفة وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل، واللزام مصدر لازم، فمصدر فاعل فِعال ومفاعلة، وهو ملازمة العذاب لهم، وقد قال تعالى: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩).
ومعنى النص في الآية الكريمة السامية لَا يبالي بكم ربكم لولا دعاؤكم أن نعبدوا اللَّه وحده، ولكن كذبتم دعوة الحق وأصررتم على تكذيبكم، فسوف يكون العذاب ملازما لكم وتكونون خالدين فيه.
* * *
تمهيد:
هي سورة مكية نزلت بمكة إلا آية ١٩٥، وآية ٢٢١، وعدد آياتها ٢٢٧،
وسميت الشعراء؛ لأن في آخرها قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤).
وسورة الشعراء أكثرها خصص للنبيين، والعبرة فيهم.
ابتدأت السورة بالحروف المتقطعة التي لَا يعلمها إلا اللَّه، ثم ذكرت حرص النبي - ﷺ - على إيمان المشركين من قريش (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونوا مُؤْمِنِين) وإن اللَّه تعالى خالقهم قدر لهم ماهم، فلن تغير (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤)، وقد وصف سبحانه وتعالى حالهم فقال:
(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥)
فقد كذبوا قبل أن يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، وقد نبههم سبحانه إلى أنهم كذبوا والآيات تخبرهم بإبداع الخالق ووحدانيته (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩).
وقد ذكرهم سبحانه بالذين كانوا أقوى منهم سلطانا، وابتدأ بذكر فرعون، ويلاحظ هنا أنه سبحانه لم يكرر ما ذكر في خبر هذا الموضع من أنباء موسى وفرعون، إلا ما يقتضيه السياق عما ذكر في غيره، فهنا ذكر ما كان بين فرعون وموسى في مرباه في بيته، ولم يذكر من قبل (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (١١) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧).
(قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)
وعند ذلك يهدد فرعون موسى
بسجنه إن اتخذ إلِها غيره (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) بهره الأمر، ولكنه لم يذعن، وظن أنه سحر، وقال (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)، ولم يكن غريبا ذلك، لأن السحرة كانوا علماءهم، والتفت إلى أصحابه والملأ حوله، (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩).
وكأنه كان يتردد في جمع الناس، حتى لَا يؤثر فيهم ما يأتي به موسي، اجتمعوا والسحرة وطلب السحرة أجرا على ما يفعلون إن كانوا هم الغالبين فوعدهم بالأجر، وأكثر من الأجر، وهو أن يكونوا من المقربين إليه، لكن السحرة، خيبوا ظنه، وآمنوا برب موسى وهارون، فقال: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩).
احتدم الخلاف، موسى يدعو إلى ربه، وفرعون يعذب، فأوحى اللَّه تعالي: (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكم مّتَّبعونَ)، وأرسل فرعون يستنصر بقومه الذين لم يعاينوا خذلانه، وشهادة السحرة عليه (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا
وأوحى اللَّه تعالى إلى موسى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣)، وأنجى اللَّه موسى وبني إسرائيل، وأغرق الآخرين.
بعد هذه الأحزاء من قصة موسى وفرعون، والمتأمل فيها يجد أنها ليست مكررة إلا بما يقتضي المقام ذكره، وما يذكر يجد المتأمل فيه نوع اختلاف وتوجيه، لم يذكر في غير هذا الموضع، وكل كلام اللَّه تعالى له حلاوة، وعليه طلاوة.
وجاء من بعد ذلك قصص أبي الأنبياء إبراهيم، وفيه يبتدئ إبراهيم باستنكار عبادة الأوثان، ويبين لقومه أنها لَا تصلح أن تكون معبودا، لأنها لَا تسمع ولا تنفع ولا تضر: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣).
ويردون قوله بأنهم وجدوا آباءهم يفعلون، فينذر بهم إبراهيم ويقول إنهم عدو لي إلا رب العالمين، ويصف ربه تعالى، وأفعاله فيقول: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢).
ويتجه من بعد إلى ربه يدعوه (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١).
ثم بين سبحانه وتعالى ما يكون يوم القيامة عندما يلتقي الكافرون وما يعبدون من دون الله: (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (١٠٠) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤).
ثم أشار سبحانه إلى عاد ورسولهم هود، وقد دعاهم كما دعا نوح، وكذبوه كما كذب قوم نوح، فقال لهم:
(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك قصة ثمود ونبيهم صالح، (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩).
ولقد ذكر بعد ذلك قصة شعيب عليه السلام مع أصحاب الأيكة قال لهم شعيب:
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١).
وبعد هذا البيان القصصي الذي فيه عبرة ببيان أحوال من سبقوهم من أهل الكفر وتشابه أقوالهم، ذكر سبحانه القرآن الحجة الكبرى، والمعجزة الخالدة المستمر إعجازها فقال:
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٢٠١).
ثم بين سبحانه أن العذاب يجيئهم من حيث لا يشعرون، (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرونَ)، ثم يذكر سبحانه أنهم كانوا يستعجلون عذاب اللَّه، فيقول سبحانه وتعالي:
(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧).
ويدعو اللَّه تعالى نبيه ومَن معه، ومنِ أرسل إليهم، فيقول: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠).
وبين سبحانه وتعالى من تنزل عليه الشياطين، (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (٢٢٣).
وبين بعد ذلك أنه بمنأى عن الشعر والشعراء، فقال:
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧).
* * *
القرآن مبين، والنبي منذر ومبشِّر
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)* * *