ﰡ
شرح الكلمات:
﴿الم﴾ : تقدم الكلام على مثله من سورة البقرة فليرجع إليه هناك.
﴿اللهُ﴾ : المعبود بحق١.
﴿لا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ : لا معبود بحق سواه.
﴿الْحَيُّ﴾ : ذو الحياة المستلزمة للإرادة والعلم والسمع والبصر والقدرة.
﴿الْقَيُّومُ﴾ : القيم على كل مخلوقاته بالتربية والرعاية والحفظ.
﴿الْكِتَابَ﴾ : القرآن.
﴿بِالْحَقِّ﴾ : متلبساً به إذ كل ما فيه حق وصدق لا باطل فيه بأي وجه من الوجوه.
﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ٢﴾ : من الكتب السابقة لا يخالفها ولا يبطلها؛ لأن مصدر الجميع واحد هو الله تعالى.
﴿التَّوْرَاةَ﴾ ٣: كتاب موسى عليه السلام ومعناه بالعبرية الشريعة٤.
٢ معنى بين يديه: أنها تقدمته في النزول فكانت كأنها أمامه وهو وراءها، وهو معنى: بين يديه.
٣ اختلف في لفظ التوراة هل هو مشتق من ورى الزند إذا أوقد به النار فهي لنور الهداية فيما سميت التوراة، أو هي معربة عن كلمة: "طورا" العبرية، ومعنى طورا: الهدي، وعلى كل حال فهذا علم لا ينفع وجهالة لا تضر.
٤ وهي عند اليهود: خمسة أسفار: سفر التكوين، سفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع.
﴿الْفُرْقَانَ﴾ ٣: ما فرق الله به بين الحق والباطل من الحجج القرآنية والمعجزات الإلهية والعقول النيرة البشرية التي لم يغلب عليها التقليد والجمود والهوى.
﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ﴾ : التصوير إيجاد الصورة للشيء لم تكن له من قبل، والأرحام: جمع رحم: مستودع الجنين.
معنى الآيات:
أخرج ابن جرير الطبري بأسانيد صحيحة أن وفد٤ نجران والمكون من ستين راكباً فيهم أشرافهم وأهل الحل والعقد منهم، وفدوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحاجونه في أمر المسيح عليه السلام، ويريدون أن يثبتوا إلهيته بالإدعاء الباطل فأنزل الله تعالى نيفاً وثمانين آية من فاتحة السورة ﴿ألم﴾ إلى ما يقرب الثمانين. وذلك رداً لباطلهم، وإقامة للحجة عليهم، وسيلاحظ هذا المتدبر للآيات ويراه واضحاً جلياً في السياق القرآني في هذه الآيات.
فقد قال تعالى: ﴿الم، اللهُ لا إِلَهَ٥ إِلا هُوَ﴾ فأخبر أنه تعالى لا معبود بحق إلا هو، فأبطل عبادة المسيح عليه السلام وعبادة كل معبود سوى الله تعالى من سائر المعبودات، وقال: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ فذكر برهان استحقاقه للعبادة دون غيره، وهو كونه تعالى حياً أزلاً وأبداً وكل حي غيره مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء. فلذا لا يستحق الألوهية إلا هو عز وجل. والمسيح عليه السلام مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء فكيف يكون إلهاً؟ وقال تعالى القيوم أي القائم على كل الخلق بالتربية والرعاية والحفظ والتدبير والرزق، وما عداه فليس له ذلك بل هو مربوب مرزوق فكيف يكون إلهاً مع الله؟ ودليل ذلك أنه نزل عليك الكتاب: القرآن بالحق مصحوباً به ليس فيه
٢ ويطلق الإنجيل على أربعة كتب: إنجيل يوحنا، ومرقص، ولوقا، وبرنابا.
٣ وفسر الفرقان بالقرآن، وهو حق لقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾، وسمي فرقاناً لأنه فرق بين الحق والباطل.
٤ كان مجيء هذا الوفد في السنة التاسعة من الهجرة التي هي عام الوفود، ولذا كان آخر السورة متقدماً في النزول عن أولها، إذ آخرها كان في غزوة أحد، وكانت في السنة الثالثة.
٥ قوله: ﴿اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ هذه الجملة مع جملة: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ قيل: أن فيهما اسم الله الأعظم.
٢ التنوين في عذاب: للتفخيم، والشديد هو الذي لا يقادر قدره.
٣ أي: من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر، وعاهة وسلامة وسعادة وشقاء.
من هداية الآيات:
١- تقرير ألوهية الله تعالى بالبراهين ونفي الألوهية١ عن غيره من سائر خلقه.
٢- ثبوت رسالة النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنزال الله تعالى الكتاب عليه.
٣- إقامة الله تعالى الحجة على عباده بإنزال كتبه والفرقان فيها الحق والباطل في كل شؤون الحياة.
٤- بطلان ألوهية المسيح؛ لأنه مخلوق مصور في الأرحام كغيره صوره الله تعالى على ما شاء فكيف يكون بعد ذلك إلهاً مع الله٢ أو ابناً له تعالى عن ذلك علواً كبيرا.
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ٣ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ (٧) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩) ﴾
٢ ضلال النصارى أعظم ضلال وأسوأه، إذ كيف يعقل أن يكون عيسى إلهاً وقد قتل وصلب في اعتقادهم، وكيف يكون إلهاً وهو ابن امرأة اسمها مريم، وهم يعترفون بذلك، فسبحان الله أين تذهب عقول العقلاء؟.
٣ أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ﴾ إلى: ﴿أوليِ الأَلْبَابْ﴾ ثم قال: "إذا رأيتم الذين يبتغون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله: فاحذروهم".
﴿مُحْكَمَاتٌ١﴾ : الظاهرة الدلالة البينة المعنى التي لا تحتمل إلا معنى واحداً، وذلك كآيات الأحكام من حلال وحرام وحدود، وعبادات، وعبر وعظات.
﴿مُتَشَابِهَاتٌ﴾ : غير ظاهرة الدلالة محتملة لمعان يصعب على غير الراسخون في العلم القول فيها وهي كفواتح السور، وكأمور الغيب٢. ومثل قول الله تعالى في عيسى عليه السلام: ﴿... وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ٣ وَرُوحٌ مِنْهُ... ﴾ وكقوله تعالى: ﴿... إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ٤..﴾.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ : الزيغ: الميل عن الحق بسبب شبهة أو شهوة أو فتنة.
﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ : أي: طلباً لفتنة المؤمنين في دينهم ومعتقداتهم.
﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ : طلباً لتأويله ليوافق معتقداتهم الفاسدة.
﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ﴾ : وما يعلم ما يؤول إليه أمر المتشابه إلا الله منزله.
﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ٥﴾ : هم أهل العلم اليقيني في نفوسهم الذين رسخت أقدامهم في معرفة الحق فلا يزلون ولا يشتطون في شبهة أو باطل.
﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ : أي المحكم والمتشابه فنؤمن به جميعاً.
﴿إِلا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ : أصحاب العقول الراجحة والفهوم السليمة.
﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا٦﴾ : أي: لا تمل قلوبنا عن الحق بعدما هديتنا إليه وعرفتنا به فعرفناه.
﴿وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ : أعطنا من عندك رحمة.
٢ قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
٣ سورة النساء: ١٧١.
٤ سورة الأنعام: ٥٧.
٥ روى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل عن الراسخين في العلم: "هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه".
٦ سئلت أم سلمة رضي الله عنها في حديث حسن رواه الترمذي عن ما كان أكثر دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندها فقالت: "كان أكثر دعاؤه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
ما زال تعالى يقرر ربوبيته وألوهيته ونبوة رسوله ويبطل دعوى نصاري نجران في ألوهية المسيح عليه السلام، فيقول: هو أي: الله الحي القيوم الذي أنزل عليك الكتاب، أي: القرآن منه آيات محكمات، لا نسخ فيها ولا خفاء في معناها ولا غموض في دلالتها على ما نزلت فيه وهذه معظم آي الكتاب وهي أمة واصلة، ومنه آيات أخر متشابهات وهي قليلة والحكمة من إنزالها كذلك الامتحان والاختبار بالحلال والحرام، وبأمور الغيب ليثبت على الهداية والإيمان من شاء الله هدايته، ويزيغ في إيمانه وضل عن سبيله من شاء الله تعالى ضلاله وعدم هدايته. فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ... ﴾ أي: ميل عن الحق ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ للخروج به عن طريق الحق وهداية الخلق كما فعل النصارى حيث ادعوا أن الله ثالث ثلاثة؛ لأنه يقول نخلق ونحيي، ونميت، وهذا كلام جماعة فأكثر، وكما قالوا في قوله تعالى في شأن عيسى: ﴿... وَرُوحٌ مِنْهُ١... ﴾ أنه جزء منه متحد به وكما قال الخوارج في قوله تعالى: ﴿... إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ٢... ﴾ فلا يجوز لأحد أن يحكم في شيء وكفروا علياً وخرجوا٣ عنه لتحكيمه أبا موسى الأشعري في حقيقة الخلاف بين على ومعاوية، وهكذا يقع أهل الزيغ في الضلال حيث يتبعون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم فيظهر لهم معناه ويفهمون مراد الله تعالى منه. وأخبر تعالى أنه لا يعلم تأويله إلا هو سبحانه وتعالى، وأن الراسخين٤ في العلم يفوضون أمره إلى الله منزله فيقولون ﴿... آمَنَّا بِهِ٥ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَاب٦﴾، ويسألون ربهم الثبات
٢ سورة الأنعام: ٥٧.
٣ روى أن أبا أمامة رضي الله عنه مر برؤوس منصوبة عند باب مسجد دمشق فسأل عنها، فقيل: إنها رؤوس خوارج جيء بها من العراق فقال: "أولئك كلاب النار ثلاثاً شر قتلة تحت ظل السماء طوبى لمن قتلهم ثلاثاً ثم بكى، فقيل ما يبكيك. فقال: رحمة بهم إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه، ثم قرأ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ إلى قوله: ﴿أولو الألباب﴾.
٤ روى أن ابن عباس رضي الله عنه قال: "التفسير على أربعة أنحاء: تفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله". كما يروى هذا عن عائشة وغيرها.
٥ الجمهور على أن الوقف على قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ﴾ ومن هنا قالوا: لا يعلم المتشابهة إلا الله، وهو مما استأثر به دون عباده ومن قال: "أن قوله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ﴾، قالوا: إن الراسخين في العلم قد يعلمون المتشابه دون البعض ويدل عليه قولهم: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ أي: ما علمناه وما لم نعلمه، وروى أن ابن عباس قال: "أنا ممن يعلم تأويله".
٦ هذه الجملة ليست من كلام الراسخين ولكنها من كلام الله تعالى فهي تذييل للكلام السابق سيقت للثناء عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- في كتاب الله المحكم والمتشابه، فالمحكم يجب الإيمان به، والعمل بمقتضاه، والمتشابه يجب الإيمان به ويفوض أمر تأويله إلى الله منزله ويقال: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾.
٢- أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه١ يجب هجرانهم والإعراض عنهم؛ لأنهم مبتدعة وأهل أهواء.
٣- استحباب الدعاء بطلب النجاة عند ظهور الزيغ ورؤية الفتن٢ والضلال.
٤- تقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
٢ روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أيام حروب الردة كان يصلي المغرب فيقرأ بالفاتحة وسورة من قصار المفصل، وفي الركعة الثالثة بأم القرآن ويقرأ قوله تعالى سراً: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ يقنت بها. كما روي عن عائشة أنها قالت: "إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب".
شرح الكلمات:
﴿ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ : هم وفد نجران ويهود المدينة والمشركون والمنافقون.
﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ : لن تجزي عنهم ولن تقيهم عذاب الله إذا حل بهم.
﴿وَقُودُ النَّارِ﴾ : الوقود ما توقد به النار من حطب أو فحم حجري أو غاز.
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ : كعادتهم وسننهم في كفرهم وتكذيبهم وما حل بهم من عذاب في الدنيا والآخرة.
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا٢﴾ : هم يهود المدينة بنو قينقاع.
﴿آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ٣﴾ : علامة واضحة، والفئتان: المسلمون وقريش إلتقتا في بدر.
﴿يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ﴾ : يقوي.
﴿لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ﴾ العبرة: العظة، وما يعبر به ذو البصيرة مواضع الخطر فينجو.
معنى الآيات:
لما أصر وفد نجران على الكفر والتكذيب واتباع المتشابه من آي الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل من الحق والخروج عنه. توعد الرب تعالى جنس الكافرين من نصارى ويهود وعرب وعجم فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا..﴾ بالحق لما جاءهم وعرفوه معرفة لا لبس فيها ولا
٢ استئناف ابتدائي للانتقال من النذارة إلى التهديد حيث تطلب المقام ذلك إذا تبجح اليهود وتطاولوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخوفين له بكلامهم السخيف.
٣ الفئة: الجماعة من الناس، وسميت فئة لأنه يفاء إليها، أي: يرجع إليها في وقت اشتداد الحرب.
٢ إذ كان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وكان عدد المشركين رابياً على التسعمائة مقاتل.
٣ رأى المسلمون الكافرين مثليهم، أي: مثلي عدد المسلمين، وهذا معنى التقليل إذ الكافرون تسعمائة فرأوهم ستمائة وهو التقليل المذكور.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الكفر مورث لعذاب يوم القيامة والكافر معذب قطعاً.
٢- الأموال والأولاد والرجال والعتاد مهما كثروا لن يغنوا من بأس الله شيئاً إذا أراده بالكافرين في الدنيا والآخرة.
٣- الذنوب بريد العذاب١ العاجل والأجل.
٤- ذم الفخر والتعالي وسوء عاقبتهما.
٥- العاقل من اعتبر بغيره، ولا عبرة لغير أولي الأبصار أي البصائر.
٦- صدق خبر القرآن في ما أخبر به اليهود من هزيمتهم، فكان هذا دليل صدق على أن القرآن وحي الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الإسلام دين الله الحق.
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) ﴾
شرح الكلمات:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ٢ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ : جعل حبها مستحسناً في نفوسهم لا يرون فيه قبحاً ولا دمامة.
٢ روى البخاري أن عمر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ... ﴾ إلخ. قال: الآن يارب حين زينتها لنا. فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ الآية.
َالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ: القنطار: ألف ومائة أوقية فضة، والمقنطرة: الكثيرة بعضها فوق بعض.
َالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ٢: ذات السمات الحسان والمعدة للركوب عليها للغزو والجهاد.
َالأَنْعَامِ: الإبل والبقر والغنم وهي الماشية.
َالْحَرْثِ٣ الزروع والحقول وسائر النباتات النافعة.
﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: ذلك المذكور من النساء والبنين إلخ. متاع الحياة الدنيا يريد يستمتع به فيها ويموت صاحبها ويتركها.
معنى الآية الكريمة:
لما ذكر تعالى عناد من كفر من النصارى، واليهود، والمشركين، وجحودهم، وكفرهم، ذكر علة الكفر وبين سببه ألا وهو ما زينه تعالى لبني البشر عامة ليفتنهم فيه ويمتحنهم به وهو حب الشهوات، أي: المشتهيات بالطبع البشري من النساء٤، والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسمومة والأنعام والحرث وهو كل ما يحرث من سائر الحبوب والنباتات الغذائية والعطرية وغيرها. هذا الذي جعل تلك الجماعات ترفض الحق وتدفعه؛ لأنه يحول بينهم وبين هذه المشتهيات غالباً فلا يحصلون عليها، ولم يعلموا أنها مجرد متاع زائل فلا يبيعوا بها الجنة دار الخلد والسلام، ولذا قال تعالى ذلك أي ما ذكر من أصناف المحبوبات متاع الحياة الدنيا لا غير إما الآخرة فلا ينفع فيها شيء من ذلك بل لا ينفع فيها إلا الزهد فيه والإعراض عنه إلا ما لابد منه للبلغة به إلى عمل الدار الآخرة وهو الإيمان وصالح الأعمال، والتخلي عن الكفر والشرك وسائر الذنوب والمعاصي.
٢ ما ذكرناه مأخوذ من السومة وهي: السمة، أي: العلامة، وقد تكون المسومة مأخوذ من السوم، وهي: الرعي في المرعى، يقال: أسام الماشية إذا رعى بها في المرعى. والخيل مؤنثة.
٣ الحرف: مصدر أطلق على المحروثات نفسها من المزارع الحدائق.
٤ روى الشيخان عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء". وفي حديث آخر: "اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" رواه مسلم.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- يزين الله تعالى بمعنى يجعل الشيء زيناً محبوباً للناس للإبتلاء والاختبار قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً١﴾ ويزين الشيطان للإضلال والإغواء، فالله يزين الزين ويقبح القبيح، والشيطان يزين القبيح، ويقبح الزين. فانظر الفرق وتأمل.
٢- المزينات في هذه الآية من تزيين الله تعالى للابتلاء، وكلها زينة في الواقع وليس فيها قبيح إلا إذا طلبت من غير حلها وأخذت بشره ونهم فأفسدت أخلاق آخذها أو طغت عليه محبتها فأنسته لقاء الله وما عنده فهلك بها كاليهود والنصارى والمشركين.
٣- كل ما في الدنيا مجرد متاع، والمتاع دائماً قليل وزائل فعلى العاقل أن ينظر إليه كما هو فلا يطلبه بما يحرمه حسن٢ المآب عند الله. اللهم لا تحرمنا حسن مآبك يا الله يا رحمن يا رحيم.
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (١٧) ﴾
٢ المآب: المرجع، يقال: آب يؤب أوباً، ومآباً إذا رجع، ومنه قول امرؤ القيس:
وقد طفت في الآفاق حتى | رضيت من الغنيمة بالإياب |
﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ١﴾ : أخبركم بنبأ عظيم لأن النبأ لا يكون إلا بالأمر العظيم.
﴿بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ : أي: المذكور في الآية السابقة من النساء والبنين. إلخ.
﴿اتَّقَوْا﴾ : خافوا ربهم فتركوا الشرك به ومعصيته ومعصية رسوله.
﴿مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ : من خلال قصورها وأشجارها أنهار٢ الماء، وأنهار اللبن وأنهار العسل وأنهار الخمر.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ : مقيمين فيها إقامة لا يرحلون بعدها أبداً.
َأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ: زوجات: هي الحور العين نقيات من دم الحيض والبوم وكل أذى وقذر.
الصَّابِرِينَ: على الطاعات لا يفارقونها وعلى المكروه لا يتسخطون، وعن المعاصي لا يقارفونها.
َالصَّادِقِينَ: في إيمانهم وأقوالهم وأعمالهم.
َالْقَانِتِينَ: العابدين المحسنين الداعين الضارعين.
َالْمُنْفِقِينَ: المؤدين للزكاة المتصدقين بفضول أموالهم.
َالْمُسْتَغْفِرِينَ٣ بِالأَسْحَارِ: السائلين ربهم المغفرة في آخر الليل وقت السحور.
معنى الآيات:
لما بين الله تعالى ما زينه للناس من حب الشهوات من النساء والبنين اوالقناطير المنقطرة من الذهب والفضة إلى آخر ما ذكر تعالى، وبين أن حسن المآب عنده سبحانه وتعالى فليطلب منه بالإيمان والصالحات أمر رسوله أن يقول للناس كافة أؤنبئكم بخير من ذلك المذكور لكم. وبينه بقوله: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
٢ شاهد هذا في قوله تعالى من سورة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً﴾.
٣ المختار من ألفاظ الاستغفار ما رواه الطبراني: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبو لك بنعمتك عليّ، وأبو بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". وقول العبد: "اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
ثم أخبر تعالى أنه بصير بعباده يعلم المؤمن الصادق والمنافق الكاذب، والعامل المحسن والعامل المسيء وسيجزي كلا بعدله وفضله، ثم ذكر صفات المتقين التي ورثوا بها ما وصف من النعيم فقال: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ فذكر صفة الإيمان والخشية والضراعة والدعاء لهم ثم كر باقي الصفات الكمالية فقال: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾، يتهجدون آخر الليل وقبيل طلوع الفجر يكثرون من الاستغفار وهو طلب المغفرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا مهما كان.
٢- نعيم الآخرة خاص بالمتقين الأبرار، ونعيم الدنيا غالباً ما يكون للفجار.
٣- التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي هي العامل الوراثي لدار السلام.
٤- استحباب الضراعة والدعاء والاستغفار٣ في آخر الليل.
٥- الصفات المذكورة لأهل التقوى هنا كلها واجبة لا يحل أن لا يتصف بها مؤمن ولا مؤمنة في الحياة.
﴿شَهِدَ٤ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو٥ الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ
٢ أخرج مسلم عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أن أهل الجنة إذ أدخلوها يقول الله تعالى لهم: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبداً".
٣ شاهده ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول: "أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له. فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر". رواه مسلم
٤ روى الكلبي، ونقل ذلك القرطبي فقال: "لما ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قدم عليه حبران من أحبار الشام فلما أبصرا المدينة، قالا أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم. قالا: وأنت أحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك. وصدقناك. فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسألاني: فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فأنزل الله تعالى على نبيه: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ الآية.
٥ في عطف شهادة أولي العلم على شهادة الله تعالى شرف كبير لأولي العلم، وفي الحديث: "أن العلماء ورثة الأنبياء"، "العلماء أمناء الله على خلقه".
شرح الكلمات:
﴿شَهِدَ﴾ : أخبر عن علم بحضوره الأمر المشهود به.
﴿لا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ : لا معبود بحق في الأرض ولا في السماء إلا الله تبارك وتعالى.
﴿وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ : أصحاب العلم الصحيح المطابق للواقع وهم الأنبياء والعلماء.
القسط: العدل في الحكم والقول والعمل.
﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ : الغالب ذو العزة التي لا تغلب، الحكيم في خلقه وفعله وسائر تصرفاته.
﴿الدِّينَ﴾ : ما يدان الله تعالى به أي: يطاع فيه ويخضع له به من الشرائع والعبادات.
﴿الإِسْلامُ٢﴾ : الانقياد لله بالطاعة والخلوص من الشرك، والمراد به هنا ملة الإسلام.
﴿بَغْياً﴾ : ظلماً وحسداً.
﴿حَاجُّوكَ﴾ : جادلوك وخاصموك بحجج باطلة واهية.
٢ حقيقة الإسلام الشرعية: إنه اعتقاد الحق والنطق به، والعمل بموجبه، عبادة وخلقاً وحكماً حتى تكون حياة المسلم كلها وفق مراد الله تعالى منه وما دعاه إليه وخلقه من أجله.
﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ : كذلك أخلصوا لله كل أعماله له وحده لا شريك له.
﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ : اليهود والنصارى.
الأميين: العرب المشركين سموا بالأميين لقلة من يقرأ ويكتب فيهم.
﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ : الهمزة الأولى للاستفهام والمراد به الأمر أي: أسلموا خيراً لكم لظهور الحق وانبلاج نوره بينكم بواسطة كتاب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا﴾ : فإن أجابوك وأسلموا فقد اهتدوا إلى سبيل النجاة.
﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ : أدبروا عن الحق بعد رؤيته وأعرضوا عه بعد معرفته فلا يضرك أمرهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت.
معنى الآيات:
يخبر الجبار عز وجل أنه١ شهد أنه لا إله إلا هو وأن الملائكة وأولي العلم يشهدون كذلك شهادة علم وحق قامت على مبدأ الحضور الذاتي، والفعلي وأنه تعالى قائم في الملكوت كله، علويه وسفليه، بالعدل، فلا رب غيره ولا إله سواه، العزيز في ملكه وخلقه الحكيم في تدبيره وتصريفه فلا يضع شيئاً في غير موضعه اللائق به. فرد بهذه الشهادة على باطل نصارى نجران، ومكر اليهود، وشرك العرب، وأبطل كل باطلهم سبحانه وتعالى، ثم أخبر أيضاً أن الدين الحق الذي لا يقبل تعالى ديناً سواه، هو الإسلام، القائم على مبدأ الانقياد الكامل لله تعالى بالطاعة، والخلوص التام من سائر أنواع الشرك فقال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ﴾ في حكمه وقضائه الإسلام، وما عداه فلا يقبله٢ ولا يرضاه. ثم أخبر تعالى عن حال نصارى نجران، المجادلين لرسوله، في شأن تأليه عيسى بالباطل فقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ يريد أن خلاف أهل الكتاب لم يكن عن جهل منهم بالحق ومعرفته٣ ولكن كان عن علم حقيقي وإنما حملهم على الخلاف المسبب للفتن
٢ روى مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بما أرسلت به إلا كان من أهل النار".
٣ يشهد لهذه الحقيقة ما رواه البخاري: " أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضوءه ويناوله لعنه فمرض فآتاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل عليه وأبوه قائم عند رأسه، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا فلان قل لا إله إلا الله فنظر إلى أبيه فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إلى أبيه فقال أبوه: أطع أبا القاسم. فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: الحمد لله الذي أخرجه بي من النار".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- اعتبار الشهادة والأخذ بها إن كانت قائمة على العلم وكان الشاهد أهلاً لذلك بأن كان مسلماً عدلا ً.
٢- شهادة الله أعظم شهادة تثبت بها الشرائع والأحكام وتليها شهادة الملائكة وأولي العلم.
٣- بطلان كل دين بعد الإسلام وكل ملة غير ملته لشهادة الله تعالى بذلك وقوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الآية (٨٥) من هذه السورة والآتي تفسيرها إن شاء الله تعالى.
٤- الخلاف بين أهل العلم والدين يتم عندما يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة فيتورطون في
٢ روى محمد بن إسحاق أن وفد نجران لما دخل مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكلم منهم السيد والعاقب، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أسلما". قالا: قد أسلمنا قبلك. فرد عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: "كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب".
٥- من أسلم قلبه لله وجوارحه وأصبح وقفاً في حياته على الله فقد اهتدى إلى سبيل النجاة والسلام.
٦- من علق قلبه بالحياة الدنيا وأعرض عما يصرفه عنها من العبادات ضل في حياته وسعيه وحسابه على الله وسيلقى جزاءه.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٢) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يَكْفُرُونَ﴾ : يجحدون ويكذبون.
﴿النَّبِيِّينَ﴾ : جمع نبي وهو ذكر من بنى آدم أوحى إليه الله تعالى.
القسط: العدل والحق والخير والمعروف.
﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ : أخبرهم إخباراً يظهر أثره على بشرة وجوههم ألماً وحسرة.
﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ : بطلت وذهبت لم يجنوا منها شيئاً ينفعهم، ويهلكون بذلك ويعدمون الناصر لهم؛ لأن الله خذلهم وأراد إهلاكهم وعذابهم في جهنم.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في هتك أستار الكفرة من أهل الكتابيين اليهود والنصارى، فذكر تعالى هنا أن الذين يكفرون١ بآيات الله وهي حججه وأعلام دينه، وما بعث بها رسله، ويقتلون مع
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- الكفر والظلم من موجبات هلاك الدنيا ولزوم عذاب الآخرة.
٢- قتل الآمرين بالمعروف٣ والناهين عن المنكر كقتل الأنبياء في عظم الحرم.
٣- الشرك محبط للأعمال مفسد لها في الدنيا والآخرة.
٤- من خذله الله تعالى لا ينصره أحد، ومن ينصره الله لا يغلبه أحد.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ
٢ روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي عبيدة رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال: "رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ إلخ. ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعون نبياً أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى".
٣ ذكر القرطبي في تفسيره الرواية التالية: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرسون على طلب العلم والقرآن ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى. وأخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: "إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم من قبلكم" قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: "الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم". الرذالة: كالحسالة. ومعناه: فيمن لا خير فيهم.
شرح الكلمات:
﴿أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ﴾ : اعطوا حظاً وقسطاً من التوراة.
﴿يُدْعَوْنَ﴾ : يُطلب١ إليهم أن يتحاكموا فيما اختلفوا فيه من الحق إلى كتابهم الذي يؤمنون به وهو التوراة فيأبون ويعرضون.
﴿يَتَوَلَّى﴾ : يرجع وهو مصمم على عدم العودة إلى الحق.
﴿أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ﴾ : هذا قول اليهود ويعنون بالأيام الأربعين يوماً تلك التي عبدوا فيها العجل بع غياب موسى عليه السلام عنهم.
﴿يَفْتَرُونَ﴾ : يكذبون.
﴿لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ : هو يوم القيامة.
﴿مَا كَسَبَتْ﴾ : ما عملت من خير أو شر.
﴿لا يُظْلَمُونَ﴾ : بأن يعذبوا بدون المقتضي لعذابهم من الشرك والكفر والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في فضح أهل الكتاب بذكر ذنوبهم وجرائمهم، فيقول تعالى لرسوله حاملاً له على التعجب من حال اليهود ألم تر يا رسولنا إلى الذين أوتوا نصيباً٢ من الكتاب، أي ألم ينته إلى علمك أمرهم حيث يدعون إلى التحاكم٣ إلى كتاب الله تعالى فيما انكروه٤ واختلفوا فيه من صفاتك وشأن نبوتك ورسالتك، ثم يتولى عدد منهم وهم مصممون على عدم العودة وطلب الحق والإقرار به إنها حال تدعو إلى التعجب حقاً، وصارفهم عن قبول الحق
٢ التنكير للتقليل وليس للتعظيم بأن السياق في ذمهم وتقبيح سلوكهم.
٣ الآية دليل على وجوب من دعا إلى التحاكم إلى شرع الله أن يجيب إلى ذلك ولا يمتنع وإلا يقدح في إيمانه.
٤ أي من كون إبراهيم عليه السلام لم يكن يهودياً، حيث زعموا إنه كان يهودياً كما تقدم في سبب نزول الآية: ﴿ألم ترى الذين... ﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- من الإعراض عن الدين والكفر به رفض التحاكم إليه قال قال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [سورة النساء: ٦٥].
٢- أفسد شيء للأديان بعقائدها وشرائعها وعباداتها الافتراء فيها والابتداع عليها والقول فيها بغير علم.
٣- مضرة الاغترار بما يقوله بعض المفسرين والمحشين على الكتب الدينية من الحكايات والأباطيل بحجة الترغيب أو الترهيب فيغتر بها الناس فيضلوا ويهلكوا.
٤- فضيلة ذكر أهوال يوم القيامة وما يلاقي فيها أهل الظلم والفساد وفي القرآن: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ [سورة ص: ٤٦]
٢ هذا خطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته على جهة التوقيف والتعجيب.
شرح الكلمات:
﴿اللهُمَّ﴾ : يا الله حذف حرف النداء "يا" وعوض عنه الميم المشددة وهو خاص بنداء الله تعالى.
﴿مَالِكَ﴾ : المالك: الحاكم المتصرف يفعل في الملك ما يشاء ويحكم ما يريد لعظم سلطانه وقوة إرادته.
﴿الْمُلْكَ﴾ : المملوك: والمقصود به ما سوى المالك عز وجل، من سائر الكائنات.
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾ : السلطان والتصرف في بعض الملكوت.
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ : تدخل الليل في النهار فلا يبقى ليل، وتولج النهار في الليل فلا يبقى نهار.
﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ : أي تخرج جسماً حياً من جسم ميت في المحسوسات؛ كالدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، ومن المعنويات تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ١﴾ : بغير عدد ولا حد لواسع فضله وغناه عما سواه.
من المناسبات التي قيلت في نزول هاتين الآيتين: أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخبر أصحابه أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا في أحاديث صحاح سخر اليهود والمنافقون من إخبار الرسول بذلك مستبعدين له غاية البعد لجهلهم وكفرهم فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين ضمن الرد على نصارى نجران فأمره أن يقول: ﴿اللهُمَّ١ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ... ﴾ إلخ.. أمره أن يقول ذلك ليعطيه ما وعده بن من اتساع ملك أمته حتى تشمل ملك فارس والروم، وليرد على ضلال النصارى في تأليه عيسى عليه السلام، إذ المعبود بحق المستحق للعبادة والتأليه دون سواه من هو مالك الملك كله، ويتصرف فيه وحده يؤتي منه ما يشاء لمن يشاء، وينزع عمن أعطاهم ما شاء ومتى شاء لا يحول دون تصرفه حائل، ولا يقف دون إعطائه أو نزعه واقف. يعز الذليل متى شاء ويذل العزيز متى شاء، بيده الخير٢ لا بيد غيره يُفيضه على من يشاء، ويمنعه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير. يولج النهار في الليل فلا يبقى نهار، ويولج الليل في النهار فلا يبقى ليل، مظهر من مظاهر القدرة الموجبة لألوهيته وطاعته ومحبته، ويدخل ساعات من الليل في النهار فيقصر الليل ويطول النهار، ويدخل ساعت من النهار في الليل فيطول، مظهر من مظاهر الحكمة والقدرة والرحمة، يخرج الحي من الميت؛ الإنسان من النطفة، والنبتة من الحبة. ويخرج الميت من الحي؛ النطفة من الإنسان الحي، والبيضة من الدجاجة، والكافر من المؤمن الحي، والعكس كذلك، هذه مظاهر ربوبيته المستلزمة لألوهيته تفرر أنه الإله الحق، لا رب غيره ولا إله سواه، وبذلك تأكد أمران: الأول: أن الله قادر على إعطاء رسوله ما وعده لأمته، وقد فعل. والثاني: أن عيسى لم يكن إلا عبداً مربوباً لله بالعبودية وشرفه بالرسالة وأيده، بالمعجزات.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- فضل الدعاء٣ بهاتين الآيتين بأن يقرأهما العبد ثم يقول: "رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما
٢ والشر بيده أيضاً، وحذف للتطلب المقام ذلك نحو: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ أي: والبرد.
٣ أخرج أبو نعيم في الحلية أن معاذاً حبس يوماً عن صلاة الجمعة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عما حبسه فقال: كان على دين=
٢- استجابة الله تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنجازه١ ما وعده في أمته.
٣- بطلان ألوهية عيسى عليه السلام وثبوت عبوديته ورسالته وكرامته.
﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (٣٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿لا يَتَّخِذِ﴾ : لا يجعل.
﴿أَوْلِيَاءَ﴾ : جمع ولي يتولونهم بالنصر والمحبة والتأييد.
﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ٢﴾ : أي: بريء الله تعالى منه، ومن برئ الله منه هلك.
١ إذ لم يقبض الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دانت الجزيرة كلها بالإسلام ولم يمضي ربع قرن حتى بلغ ملك أمته من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، ومن جملة ذلك دولة فارس والروم.
٢ هذا نحو: ﴿واسئل القرية﴾ أي: أهل القرية على حذف مضاف كذلك: ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي: ليس في ولاية الله وحزبه في شيء.
﴿مُحْضَراً﴾ : حاضراً يوم القيامة.
﴿أَمَداً بَعِيداً﴾ : مدى وغاية بعيدة.
﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ : أي: يخوفكم عقابه إن عصيتموه.
معنى الآيات:
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي: أعواناً وأنصاراً يبادلونهم المحبة والمناصرة على إخوانهم المؤمنين، وأعلمهم تعالى أن من يفعل ذلك فقد برئ الله تعالى منه، وذلك لكفره وردته، حيث والى أعداء الله وعادى أولياءه، فقال تعالى: ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ٢ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي: برئ الله تعالى منه وانقطعت صلته وانبت حبل الولاية بينه وبين الله تعالى، ويا هلاكه، ثم رخص تعالى للمؤمنين المستضعفين الذين يعيشون تحت سلطان الكافرين في أن يعطوهم حلاوة لسانهم دون قلوبهم وأعمالهم٣ فيتقون بذلك شرهم وأذاهم، وذلك بكلمة المصانعة والمجاملة، قال تعالى: ﴿إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة... ﴾ ولما كان أمر البراء والولاء ذا خطر عظيم، قال تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾ أي: في أن تتخذوا أعداءه أولياء ضد أوليائه وأخبرهم أن المصير إليه لا إلى غيره فليحذر العصاة من وقوفهم بين يدي الله، فقال: ﴿وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ﴾.
هذا ما تمضنته الآية الأولى (٢٨)، وأما الآية الثانية (٢٩) فقد أمر تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول للناس مؤمنهم وكافرهم ﴿... إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ... ﴾ من حب أو بغض، من رضى أو سخط فلا تنطقوا به ولا تظهروه بحال من الأحوال، أو أن تظهروه بقول أو عمل أو حال فإنه تعالى يعلمه ويعلم ما في السموات والأرض، ويحاسب به ويجزي عليه وهو
٢ ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، حرف الجر: ﴿من﴾ لتأكيد الظرفية، وهو تقييد للنهي في الظاهر فيكون المنهى عنه اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين، وهو المراد من الآية، ولذلك صور منها: أن يتخذ المسلم أو المسلمون جماعة الكفر أولياء لهم ميلاً إلى كفرهم ومناوئة للمسلمين وهذه كفر بلا خلاف، ومنها أن يوالي الكفار لأجل الإضرار بالمسلمين، وهذه كالأولى، ومنها: ما أذن فيها، وهي التقية.
٣ روى البخاري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنا لنكشر في أقوام وقلوبنا تلعنهم" يريد المنافقين. والتكشير: كالابتسام إلا أنه متكلف فيه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة موالاة الكافرين١ مطلقاً.
٢- موالاة الكافرين على المؤمنين ردة وكفر وبراءة من الله تعالى.
٣- جواز التقية في حال ضعف المؤمنين وقوة الكافرين.
٤- وجوب الحذر من عذاب الله تعالى وذلك بطاعته تعالى.
٥- خطورة الموقف يوم القيامة ووجوب الاستعداد له بالإيمان والتقوى.
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢) ﴾
شرح الكلمات:
﴿تُحِبُّونَ اللهَ﴾ : لكمال ذاته وإنعامه عليكم.
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ : يسترها عليكم ولا يؤاخذكم بها.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ : أعرضوا عن الإيمان والطاعة.
معنى الآيتين:
لما ادعى وفد نصارى نجران أن تعظيمهم المسيح وتقديسهم له ولأمه إنما هو من باب طلب حب١ الله تعالى بحب ما يحب وتعظيم ما يعظم، أمر الله تعالى رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية أن يقول لهم: إن كنتم تحبون الله تعالى ليحبكم فاتبعوني على ما جئت به من التوحيد والعبادة يحببكم الله تعالى، ويغفر لكم ذنوبكم أيضاً وهو الغفور الرحيم. وبهذا أبطل دعواهم في أنهم ما ألهوا المسيح عليه السلام إلا طلباً لحب الله تعالى والحصول عليه. وأرشدهم إلى أمثل طريق على حب٢ الله تعالى وهو متابعة الرسول على ما جاء به من الإيمان والتوحيد والعبادة المزكية بالروح المورثة لحب الله تعالى وهذا ما تضمنته الآية الأولى (٣١)، وأما الآية الثانية (٣٢) فقد أمر تعالى رسوله أن يأمر وفد نصارى نجران وغيرهم من أهل الكتاب والمشركين بطاعته وطاعة رسوله إذ هما طريق الكمال والإسعاد في الدنيا والآخرة. فإن أبوا وأعرضوا أو تولوا فقد باءوا بغضب الله وسخطه عليهم؛ لأنهم كافرون والله لا يحب الكافرين هذا معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- محبة العبد للرب تعالى واجب وإيمان لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من النعم وأحبوني بحب٣ الله تعالى"، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله
٢ روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه. قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه. قال: فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض".
٣ الحب: الميل إلى ما في إدراكه لذة روحية؛ كحب الله ورسوله وحب ما يحب الله ورسوله، ويستلزم الحب طاعة المحبوب، قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه | هذا لعمري في القياس بديع |
إن المحب لمن يحب مطيع
٢- محبة الله تعالى للعبد هي غاية ما يسعى إليه أولوا العلم في الحياة.
٣- طريق الحصول على محبة الله تعالى للعبد هو اتباع النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيمان بما جاء به واتباع شرعه وطاعته في المنشط والمكره، للآية: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ إذ ليس الشأن أن يحُب العبد، وإنما الشأن أن يُحبّ!.
٤- دعوى محبة الله ورسوله مع مخالفة أمرهما ونهيهما دعوى باطلة وصاحبها خاسر لا محالة.
﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ١ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿اصْطَفَى آدَمَ﴾ : اختار وآدم هو أبو البشر عليه السلام.
﴿عِمْرَانَ﴾ : رجل صالح من صلحاء بني إسرائيل في عهدهم الأخير: هو زوج حنة وأبو مريم عليهم السلام.
﴿الْعَالَمِينَ﴾ : هم الناس المعاصرون لهم.
امْرَأَتُ عِمْرَانَ} : حنة١.
﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾ : ألزمت نفسها أن تجعله لله يعبده ويخدم بيته الذي هو بيت المقدس.
﴿مُحَرَّراً٢﴾ : خالصاً لا شركة فيه لأحد غير الله بحيث لا تنتفع به أبداً.
﴿مَرْيَمَ﴾ : خادمة الرب تعالى.
﴿إِنِّي أُعِيذُهَا﴾ : أحصنها وأحفظها بجنابك من الشيطان.
﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ : زكريا أبو يحي عليهما السلام وكانت امرأته أختاً لحنة.
﴿الْمِحْرَابَ﴾ : مقصورة ملاصقة للمسجد.
﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ ؟ : من أين لك هذا، أي من أين جاءك.
معنى الآيات:
لما ادعى نصارى وفد نجران ما ادعوه في المسيح عليه السلام من تأليهه وتأليه أمه أنزل الله تعالى هذه الآيات يبين فيها مبدأ أمر عيسى وأمه وحقيقة أمرهما فأخبر تعالى أنه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران اصطفاهم لدينه واختارهم لعبادته ففضلهم بذلك على الناس وأخبر أنهم ذرية٣ بعضهم من بعض لم تختلف عقائدهم، ولم تتباين فضائلهم وكمالاتهم الروحية، وذلك لحفظ الله تعالى لهم وعنايته بهم. وأخبر تعالى أنه سميع عليم، أي سميع لقول امرأة عمران عليم بحالها لما قالت: ﴿... رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً..﴾ وذلك أنها كانت لا تلد، فرأت في حديقة منزلها طائراً يطعم أفراخه فحنت إلى الولد وسألت ربها أن يرزقها ولداً وتجعله له يعبده ويخدم بيته، فاستجاب الله تعالى لها فحملت ومات زوجها وهي
٢ أي خالصاً لعبادة الله لا تبقي بها أنسا لها ولا خدمة.
٣ ذرية: منصوب على الحال في الآية الكريمة، ولفظ ذرية يطلق على الواحد، وعلى الجمع، ويطلق على الولد والوالد، وهو مشتق من الذرء الذي هو الخلق، فذرأ بمعنى خلق.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان إفضال الله تعالى وإنعامه على من يشاء.
٢- بيان أن عيسى عليه السلام ليس بابن الله ولا هو الله، ولا ثالث ثلاثة، بل هو عبد الله ورسوله أمه مريم، وجدته حنة، وجده عمران، من بيت شرف وصلاح في بني إسرائيل.
٣- استجابة الله تعالى لدعاء أولياؤه كما استجاب لحنة ورزقها الولد وأعاذ بنتها وولدها من الشيطان الرجيم.
٢ أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه، ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ ".
٣ أي: رضيعها منها وقبلها كالشيء يهدى للكريم فيقبله ويثيب عليه.
٤ روى عن ابن عباس أن زكريا استأجر لها بئراً فأرضعتها حولين كاملين.
٥ تريد أنه يحصل لها بغير طريقة الأسباب المعروفة وإنما يوضع بين يديها كرامة لها والله هو الرازق لها سبحانه وتعالى.
٥- بيان فضل الذكر على الأنثى في باب النهوض بالأعمال والواجبات.
٦- جواز التحسر والتأسف لما يفوت العبد من الخير الذي كان يأمله.
٧- ثبوت كرامات الأولياء كما تم لمريم في محرابها.
٨- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ مثل هذه القصص لا يتأتى لأمي أن يقصه إلا أن يكون رسولاً يوحى إليه. ولهذا ختمه بقوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ﴾.
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾
شرح الكلمات:
﴿هُنَالِكَ﴾ : ثم عندما٢ رأى كرامة الله لمريم عليها السلام.
﴿زَكَرِيَّا﴾ : أحد أنبياء بني إسرائيل ورسلهم.
﴿هَبْ لِي﴾ : أعطني.
٢ أي: في ذلك المكان، وهو المحراب. تنبه إلى الدعاء لما شاهد من خوارق العادات فدعا طالباً الولد فاستجاب الله تعالى له، ولا يقال: كيف يأخذ الرسول على من دونه ومن امرأة بالذات؟ فإن الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها، وأهل الكمال من الناس يعتبرون دائماً بما يرون ويسمعون.
﴿ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ : أولاداً أطهاراً صالحين.
﴿بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ : هي: عيسى عليه السلام؛ لأنها كان بكلمة الله تعالى: "كن".
﴿وَسَيِّداً١ وَحَصُوراً٢﴾ : شريفاً ذا علم وحلم، ولا رغبة له في النساء لقلة مائه.
﴿غُلامٌ﴾ : ولد ذكر.
﴿عَاقِرٌ٣﴾ : عقيم لا تلد لعقهما وعقرها.
﴿آيَةً﴾ : علامة أستدل بها على بداية الحمل لأشكر نعمتك.
﴿إِلا رَمْزاً﴾ : إلى إشارة بالرأس أو باليد يفهم منها ما يفهم من الكلام.
﴿َالإِبْكَارِ﴾ : أول النهار، والعشي: آخره.
معنى الآيات:
لما شاهد زكريا من كرامات الله لمريم أنها تؤتى بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، ذكر أن الله تعالى قد يعطي ما شاء لمن يشاء على غير نظام السنن الكونية، فكبر سنه وعقم امرأته لا يمنعان أن يعطيه الله تعالى ولداً، فسأل ربه الولد فاستجاب٤ له ربه فبشرته الملائكة بالولد وهو قائم يصلي في محرابه قائلة: أن الله يبشرك بولد اسمه يحي٥ مصدقاً بكلمة من الله يريد أنه يصدق بعيسى بن مريم ويكون على نهجه، لأن عيسى هو الكلمة إذا قال بقول تعالى له: "كن" فكان، ووصفه بأنه سيد ذو علم وحلم وتقى وحصور لا يأتي٦ النساء، ونبي من الصالحين، فلما سمع البشارة من الملائكة جاءه الشيطان وقال له: إن الذي سمعته من البشرى هو من الشيطان ولو كان من الرحمن لأوحاه إليك وحياً، وهنا أراد زكريا أن يتثبت من الخبر فقال: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي
٢ قال المفسرون في الحصور أقوالاً كثيرة: أمثلها أنه كان معصوماً من الفواحش والقاذورات، وغير مانعة ذلك من تزويج النساء الحلال وغشيانهم وإيلادهن، إذ يفهم من دعاء زكريا المتقدم أنه يكون له أولاد طيبون صالحون.
٣ مأخود من عقرت المرأة رحمها، أي: قطعتها فلم تحبل ولم تلد، وهو وصف خاص بالنساء، فلذا يقال: عاقر ولا يلبس، إذ لا يوجد في الرجال عاقر حتى يفرق بينهما بالتاء.
٤ الفاء في قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ﴾ هي للترتيب، أي: فور دعاؤه استجاب الله تعالى له، وفيها معنى السببية أيضاً: أي: بسبب دعاؤه أعطاه والله على ما يشاء قدير.
٥ يحي: معرب يوحنا بالعبرانية نطق بها العرب على صيغة المضارع.
٦ هذا قول الجمهور وقد تقدم في النهر ما هو أمثل ما قيل في الحصور مراعاة لكمال الأنبياء وعلو مقاماتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الاعتبار بالغير، إذ زكريا دعا بالولد لما رأى كرامة الله تعالى لمريم.
٢- مشروعية الدعاء وكونه سراً أقرب إلى الإجابة، وكونه في الصلاة كذلك.
٣- جواز تلبيس إبليس على المؤمن، ولكن الله تعالى يذهب كيده ووسوسته.
٤- جواز سؤال الولد الصالح.
٥- كرامات الله تعالى لأولياؤه –استجابة دعاؤهم.
٦- فضل الإكثار من الذكر، وفضيلة صلاتي الصبح والعصر وفي الحديث: "من صلى البردين دخل الجنة".
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) ﴾
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ﴾ : اذكر لوفد نصارى نجران ما قالت الملائكة فإن ذلك دليل على صحة نبوتك، وصدقك في أمر التوحيد، وعدم ألوهية عيسى.
﴿اصْطَفَاكِ﴾ : اختارك لعبادته وحسن طاعته.
﴿وَطَهَّرَكِ﴾ : من الذنوب وسائر النقائص المخلة بالولاية لله تعالى.
﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ١﴾ : أي فضلك على نساء العالمين بما أهلك له من كرامة ولادة عيسى من غير أب.
﴿اقْنُتِي٢﴾ : أطيعي ربك وأقنتي له واخشعي.
﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ : اشهدي صلاة الجماعة في بيت المقدس.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ : أي ما ذكرت من قصة مريم وزكريا من أخبار الغيب.
﴿لَدَيْهِمْ﴾ : عندهم وبينهم.
﴿إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ٣﴾ : جمع قلم وهو ما يكتب به وإلقاءها لأجل الاقتراع بها على كفالة مريم.
﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ : في شأن كفالة مريم عليها وعليهم السلام.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه اذكر لوفد نجران الذين يحاجونك في ألوهية المسيح، إذ قالت الملائكة مخاطبة مريم أم المسيح بما أهلها الله تعالى له وأكرمها به من اصطفاء٤ الله تعالى لها لتكون من صالحي عباده، وتطهيره إياها من سائر الذنوب والنقائص والعيوب مفضلاً على نساء عالمها حيث برأها وأكرمها وأظهر آية قدرته فيها فولدت عيسى بكلمة الله وليس على سنته
٢ روى عن الأوزاعي أنه قال: لما أمر تعالى مريم بالقنوت قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها، وسألت دماً وقبحاً.
٣ ألقوها في نهر الأردن، وهو نهر جار وأفادت هذه الآية مشروعية القرعة وأنها وإن كانت في شرع من قبلنا إلا أنها شرعت لنا على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها وكذا حديث: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا".
٤ اختلف في نبوة النساء، ورجح كثيرون نبوة مريم لخطاب الملائكة لها وإخبارهم باصطفاء الله تعالى لها وهذا يرجح نبوتها. أما الرسالة فلا لأن الرسالة تتطلب الاتصال بالرجال، وهذا بتنافى مع كمال النساء وما خلقن له من الستر والحجاب.
هذا معنى الآيتين الأولى (٤٢) والثانية (٤٢)، أما الآية الثالثة (٤٤) فقد خاطب الرب تبارك وتعالى رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشيراً إلى ما سبق في هذا القصص المتعلق بآل عمران حنة ومريم وزكريا ويحي، ومريم أخيراً بأنه كله من أنباء الغيب، وإخباره يوحيه تعالى إليه فهو بذلك نبيه ورسوله، وما جاء به من الدين هو الحق، وما عداه فهو باطل، وبذلك تقرر مبدأ التوحيد، وأنه لا إله إلا الله، وبطل باطل أهل الكتاب فلا عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا هو إله مع الله، وإنما هو عبد الله ورسول الله. ثم تقريراً لمبدأ الوحي وتأكيداً له قال تعالى لرسوله أيضاً، وما كنت لديهم أي عند علماء بني إسرائيل وصلحائهم وفي حضرتهم، وهم يقترعون على النذيرة: "مريم" من يكفلها فرموا بأقلامهم في النهر فمن وقف قلمه في الماء كان كافلها بإذن الله، فالقوا أقلامهم تلك الأقلام التي كانت تكتب الحق والهدى لا الباطل والضلال كما هي أغلب أقلام أرباب الصحف والمجلات اليوم، فوقف قلم زكريا ففاز بكفالتها٣ بإذن الله تعالى وقد تقدم قول الله تعالى: فكفلها زكريا، بهذا قامت الحجة على أهل الكتاب وغيرهم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الدين الحق هو الإسلام وما عداه فباطل وضلال!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فضل مريم عليها السلام وأنها ولية صديقة، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه من كمل النساء ففي
٢ فيه دليل على صلاة المرأة في الجماعة، وقد سن ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مثل قوله: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وإن كان قوله ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ لا يستلزم الصلاة في جماعة إذ هو أمر بالركوع فقد تركع وحدها أو مع غيرها.
٣ قال القرطبي دلت هذه الآية: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة. وقد قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابنة حمزة "أمة الله" لجعفر لأن خالتها كانت تحته. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الخالة بمنزلة الأم".
٢- أهل القرب من الله هم أهل طاعته القانتون له.
٣- الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى.
٤- ثبوت الوحي المحمدي وتقريره.
٥- مشروعة الاقتراع عند الاختلاف وهذه وإن كانت في شرع من قبلنا إلا أنها مقررة في شرعنا والحمد الله.
﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قَالَتْ٢ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿يُبَشِّرُكِ﴾ : يخبرك بخبر سار مفرح لك.
﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ٣﴾ : هو المسيح عليه السلام وسمي كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى: ﴿كن﴾
﴿الْمَسِيحُ٤﴾ : لقب عيسى عليه السلام ومن معانيه الصديق.
الوجيه: ذو الجاه والقدر والشرف بين الناس.
٢ ذهب القرطبي إلى أن كلمة: رب، تعني سيدي، أي: جبريل، وهو خطأ واضح بل المراد به الرب تبارك وتعالى، فهي تخاطب ربها طالبة معرفة سبب الولد، إذ الأسباب المعتادة لم تكن، فكيف يكون الولد؟.
٣ المراد بكلمة: هو، كلمة التكوين، ووصف عيسى بكلمة، مراد به: كلمة خاصة، وهي كلمة: ﴿كن﴾.
٤ اختلف في سبب تلقيب عيسى بالمسيح، والمشهور أنه لقب تشريف؛ كالفاروق مثلاً، أو الملك، أو الصديق، وأما عيسى فهو: معرب، أيشوع، ومعناه السيد، وهل المسيح مشتق من المسح؟ وهل هو بمعنى الماسح، أو الممسوح خلاف.
﴿وَكَهْلاً﴾ : الكهولة: سن ما بين الشباب والشيخوخة.
﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ : تريد لم يقربها ذكر لا للوقاع ولا لغيره، وذلك لعقمها وبعدها عن الرجال الأجانب.
﴿قَضَى أَمْراً﴾ : أراده وحكم بوجوده.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في حِجَاج وفد نصارى نجران إذ قال الله تعالى لرسوله واذكر١ لهم: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ الآية، حيث أخبرتها الملائكة، أي: جبريل عليه السلام بأن الله تعالى يبشرها بولد يكون بكلمة الله تعالى اسمه المسيح عيسى بن مريم، وأنه ذو جاه وشرف في الدنيا وفي الآخرة ومن المقربين، وأنه يكلم الناس وهو في مهده وقت رضاعه، كما يكلمهم في شبابه وكهولته٢، وأنه من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله تعالى وحقوق عباده وافية غير منقوصة، فردت مريم قائلة: ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ﴾ أي: كيف يكون لي ولد ولم يغشني بشر بجماع وسنة الله في خلق الولد الغشيان. فأجابها جبريل قائلاً: الأمر هكذا سيخلق الله تعالى منك ولداً من غير أب، وهو سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء، وإذا حكم بوجود شيء من غير ذوات الأسباب فإنما يقول له: ﴿كن﴾ فهو يكون، كما قضى الله تعالى وأراد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان شرف مريم وكرامتها على ربها إذا كلمها جبريل وبشرها بعد أن تمثل لها بشراً.
٢- بيان شرف عيسى عليه السلام ووجاهته في الدنيا والآخرة وأنه من المقربين والصالحين.
٣- تكلم عيسى في المهد٣ آي من آيات الله تعالى حيث لم تجر العادة أن الرضيع يتكلم في زمان رضاعه.
٢ ذكر الكهولة هنا تطمين لأمه أنه لا يموت صغيراً وتكليمه في الكهولة يكون بعد نزوله من السماء؛ لأنه عليه السلام رفع مع نهاية سن الشباب، وهو ثلاث وثلاثون سنة لا غير.
٣ لقد تكلم في المهد غير واحد، منهم شاهد يوسف، وصاحب جريج، وكلام عيسى في المهد هو قوله: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ الآية في سورة مريم.
﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الْكِتَابَ﴾ : الخط والكتابة.
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ : العلم الصحيح والإصابة في الأمور وفهم أسرار التشريع الإلهي.
﴿وَرَسُولاً﴾ : أي وابعثه رسولاً.
آية: علامة دالة على رسالته وصدق نبوته.
﴿أَخْلُقُ لَكُمْ﴾ : أي أصور لكم، لا الخلق الذي هو الإنشاء والاختراع إذ ذاك لله تعالى.
﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ٢﴾ : كصورة الطير.
٢ قيل: اليهود هم الذين طلبوا أن يخلق لهم خفاشاً؛ لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش، ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور وله لبن يرضع به أولاده ويضحك كما يضحك الإنسان ويحيض كما تحيض المرأة، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل وإنما يبصر في ساعين؛ بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة.
الأبرص: ذو البرص وهو مرض عياء عجز عنه الطب القديم والحديث، والبرص: بياض يصيب الجلد البشري.
﴿تَدَّخِرُونَ﴾ : تحبسونه وتخفونه عن أطفالكم من الطعام وغيره.
﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ : من قبلي.
﴿إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ﴾ : إلهي وإلهكم فاعبدوه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان حقيقة عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله وليس بابن الله ولا بإله مع الله فأخبر تعالى أنه يخلقه بكلمة كن ويعلمه الكتاب والإنجيل والتوراة والإنجيل، وقد فعل، وأ، هـ يبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل وقد فعل فأخبرهم عيسى أنه قد جاءهم بآية من ربهم تدل على صدق رسالته وهذه الآية١ هي أنه يخلق لهم من الطين على صور الطير وينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، وفعلاً كان يمسح على ذي العاهة المستعصاة كالبرص فيبرأ صاحبها فوراً، وطلبوا منه أن يحي لهم سام بن نوح٢ فأحياه بإذن الله، وأنه يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون، فما يخطئ أبداً، ثم قال لهم: إن في ذلك المذكور لآية لكم دالة على صدقي إن كنتم مؤمنين فآمنوا بي ولا تكذبوني وقد جئتكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم٣ عليكم، وفي ذلكم خير لكم ورحمة فآمنوا بي، فكذبوه فقال لهم: اتقوا الله وأطيعوني تنجوا وتسعدوا وأعلمهم أخيراً أن الله تعالى هو ربه وربهم وأن عليهم أن يعبدوه ليكلموا ويسعدوا وأن عبادة الله تعالى وحده وبما شرع هي الصراط المستقيم المفضي بالسالكين إلى الكمال والإسعاد في الحياتين.
٢ روى أنه أحيا لهم أربعة وهم: سام بن نوح، والعاذر، وكان صديقاً له. وابن العجوز، وابنة العاشر.
٣ هو ما حرمه الله عليهم على عهد موسى من أكل الشحوم ونحوها، أما ما كان محرماً أصلاً لضرورة فلا يحله لهم ذلك؛ كالسرقة والقتل والزنا والربا، فإنه لا يحله لهم أبداً.
من هداية الآيات:
١- شرف الكتابة وفضلها.
٢- فضل الحكمة١ وهي الفقه في أسرار الشرع والإصابة في الأمور.
٣- الغيب لله، ويعلم أنبياءه منه ما يشاء.
٤- ثبوت معجزات عيسى عليه السلام.
٥- لا إله إلا الله، ومحمد رسول الله، وعيسى كلمة الله وروح منه ورسول إلى بني إسرائيل.
٦- الأمر بالتقوى وطاعة الرسول لتوقف السعادة والكمال عليهما.
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤) إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
شرح الكلمات:
﴿أَحَسَّ١ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ : علم منهم الكفر به وبما جاء به، وهمهم بأذيته.
﴿الْحَوَارِيُّونَ٢﴾ : جمع حواري، والمراد بهم أصفياؤه وأصحابه.
﴿مُسْلِمُونَ﴾ : منقادون لأمر الله ورسوله مطيعون.
﴿الشَّاهِدِينَ﴾ : الذين يشهدون أن لا إله إلا الله، ويعبدونه بما يجب أن يعبد به.
مكروا: دبروا القتل للمسيح عليه السلام.
﴿وَمَكَرَ اللهُ﴾ : دبر تعالى لإنجائه وخيبهم فيما عزموا عليه.
﴿خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ : أحسن المدبرين لإنقاذ أوليائه وإهلاك أعدائه.
﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ : متمم لك ما كتب لك من أيام بقاءك مع قومك.
﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ : إلي جواري في الملكوت الأعلى.
﴿وَمُطَهِّرُكَ﴾ : منزهك ومبعدك من رجسهم وكفرهم.
﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ : ذلك المذكور من أمر عيسى نقرؤه عليك من جملة آيات القرآن الحكيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحجاج مع وفد نصارى نجران فذكر تعالى من شأنه أنه لما علم عيسى بكفر قومه وهمهم بقتله غيلة استصرخ المؤمنين قائلاً: ﴿مَنْ أَنْصَارِي٣ إِلَى اللهِ﴾ فأجابه الحواريون وهم أصفياؤه وأحباؤه قائلين: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾ آمنا بالله واشهد يا روح الله بأنا مسلمون: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ٤ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ لك بالوحدانية
٢ كانوا اثني عشر رجلاً، وسمى الناصر للنبي حواريا لبياض قلبه وصفاء روحه، وفي الحديث "لكل نبي حواري وجواري الزبير "، والحور لغة: البياض، والحواري: الخبز الأبيض.
٣ هل (إلى) هنا بمعنى مع، أي: من أنصاري مع الله نظيره: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ أي: مع أموالكم، أو هي على بابها، ويكون الكلام "من أنصاري" في الطريق إلى الله؟.
٤ أي: عيسى عليه السلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- قيام الحجة على نصارى نجران، إذ أخبرهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي فقرر به بطلان ألوهية عيسى عليه السلام بذكر أوصافه وأحواله مع قومه، وكرامة الله تعالى له، ولاتباعه معه ومن بعده في الدنيا والآخرة.
٢ لم أر داعياً إلى استشكال الكثيرين رفع عيسى حياً إلى الملكوت الأعلى وإبقاءه هناك إلى أن ينزله في آخر أيام هذه الدنيا، حيث صرح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنزول عيسى بما لا مجال للشك فيه، إن السنن الكونية خلقها الله تعالى فهو قدير على تبديل ما شاء منها أليس الله على كل شيء قديراً؟ بلى. فلم إذاً يرتبك المؤمنون في شأن رفع عيسى حياً وإبقائه في دار السلام حياً حتى ينزل في آخر الدنيا؟.
٣ ورد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في دعائه: "اللهم امكر لي ولا تمكر عليّ " ومما يجب أن يعلم أن أفعال الله لا تشبه أفعال العباد لأن ذاته لا تشبه ذواتهم.
٣- تقرير حديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أن لكل نبي حواريين٢ وأنصاراً.
٤- فضل أهل لا إله إلا الله إذ هم شاهدون بالحق والناطقون به.
٥- تقرير قبض الله تعالى لعيسى ورفعه إليه حياً. ونزوله في آخر الدنيا ليحكم زمناً ثم ليموت الموتة التي كتب الله على كل إنسان، فلم يجمع الله تعالى له بين موتتين. هذا دليل أنه رفع إلى السماء حياً لا ميتاً.
٦- صادق وعد الله تعالى بعزة أهل الإسلام، وذلة اليهود على مدى الحياة.
﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) ﴾
شرح الكلمات:
المثل٣: الصفة المستغربة البديعة.
﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ : أي ما قصصناه عليك في شأن عيسى٤ هو الحق الثابت من ربك.
٢ تقدم الحديث أنفاً، وهو حديث صحيح.
٣ المماثلة الحاصلة بين آدم وعيسى عليهما السلام في شيء واحد وهو: أن كلا منهما خلق من غير أب وخلق بكلمة التكوين وهي: ﴿كن﴾.
٤ وهو أن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام فنفخ في كم درع مريم فسرت النفخة فيها فحملت بعيسى وولدته في ساعة من نهار، وتكلم بعد وضعها له، وطمأن والدته وأرشدها إلى ما تقوله لمن يتصدى لها يعيبها. وحاصله أنه كان بكلمة التكوين وهي: ﴿كن﴾ كما كان آدم بها فلا أب له ولا أم.
﴿حَاجَّكَ﴾ : جادلك بالحجج.
﴿نَبْتَهِلْ﴾ : نلتعن أي: نلعن الكاذب منا.
﴿الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ : ما قصه الله تعالى هو القصص الحق الثابت الذي لا شك فيه.
المفسدون: الذين يعملون بمعاصي الله تعالى في الأرض من الشرك وكبائر الذنوب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عبودية عيسى ورسالته دون ربوبيته وألوهيته، فقد روي أن وفد نجران قالوا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما قالوا: كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله تعالى على رسوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾ فإذا هو كائن، فأي داع لاتخاذ عيسى إلهاً، ألكونه خلقه الله من غير أب فآدم كذلك خلق بدون أب ولا أم، وإنما كان بكلمة الله، فكذلك عيسى خلق بكلمة الله التي هي: ﴿كُنْ﴾ فكان، هذا هو الحق الثابت من الله تعالى في شأن عيسى عليه السلام فلا تكونن من الشاكين فيه، وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يشك١ ولما أكثروا عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التردد والمجادلة أرشده ربه تعالى إلى طريق التخلص منهم وهو المباهلة بأن يجتمعوا ويقول كل فريق: اللهم العن الكاذب منا، ومن كان كاذباً منهم يهلك على الفور، فقال له ربه تعالى: فإن حاجوك ﴿فَقُلْ: تَعَالَوْا﴾ "هلموا" ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا٢ وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ وخرج في الغد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم٣ أجمعين إلا أن النصارى عرفوا الحق وخافوا إن لاعنوا هلكوا فهربوا٤ من الملاعنة، ودعاهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام فأبوا ورضوا بالكفر إبقاء على زعامتهم ودنياهم ورضوا بالمصالحة فالتزموا بأداء الجزية للمسلمين والبقاء على دينهم الباطل. ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ٥ الْحَقُّ﴾ فالذي قصصناه عليك في شأن عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله وكلمته
٢ في هذا دليل على أن أبناء البنات يطلق عليهم أبناء فيسمون بذلك.
٣ أنه قال لهم، أي: لعلي وفاطمة والحسن والحسين: "إن أنا دعوت فأمنوا"، أي: قولوا بعدي آمين.
٤ في هروب نصارى نجران "وهم علماء" من الملاعنة دليل قاطع على أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله وأن دينه هو الدين الحق وما عداه باطل.
٥ القصص: اسم لما يقص، وهو الإخبار بما فيه طول وتفصيل، مشتق من قص الأثر، إذا تتبعه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ولاية الله تعالى لرسوله بإرشاده إلى الطريقة التي أنهى بها جدال النصارى الذي ألمه وأتعبه.
٢- مشروعية المباهلة غير أنها تكون في الصالحين الذين يستجاب لهم.
٣- تقرير ألوهية الله تعالى دون سواه وبطلان دعوى النصارى في تأليه عيسى عليه السلام.
٤- تهديد الله تعالى لأهل الفساد في الأرض وهم الذين يعملون بالشرك والمعاصي.
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) ﴾
﴿أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ : اليهود والنصارى لأن اليهود عندهم التوراة، والنصارى عندهم الإنجيل.
﴿إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ١﴾ : الكلمة السواء: هي العادلة وهي أن نعبد الله وحده لا شريك له ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.
﴿أَرْبَاباً٢﴾ : الأرباب: جمع رب، وهو المألوه المطاع بغير طاعة الله تعالى.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ : أعرضوا عن التوحيد.
﴿اشْهَدُوا﴾ : اعلموا علم رؤيا ومشاهدة بأنا مسلمون.
﴿تُحَاجُّونَ﴾ : تجادلون بحجج٣ باطلة.
﴿يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً﴾ : لم يكن إبراهيم على ملة اليهود، ولا على ملة النصارى.
﴿كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً﴾ : مائلاً عن الملل الباطلة إلى ملة الحق وهي الإسلام.
﴿أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ﴾ : أحق بالنسبة إلى إبراهيم وموالاته الذين اتبعوه على التوحيد.
﴿وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ : متولي أمرهم وناصرهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إبطال باطل أهل الكتابين إذا قال تعالى لرسوله قل لهم يا أهل الكتاب من يهود ونصارى تعالوا ارتفعوا من وهدة الباطل التي أنتم واقعون فيها إلى كلمة سواء كلمة عدل نصف بيننا وهي أن نعبد الله وحده لا نشرك به سواه وأن لا يتخذ بعضنا٤ بعضاً أرباباً من دون الله فيفرض طاعته على غيره٥ ويلزمه بالسجود له تعظيماً وتقديساً فإن أبوا عليك ذلك
٢ نظيرها قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾ معناه: أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحلله، وسجدوا لهم أيضاً.
٣ المجادلة بالتي هي أحسن والقائمة على أساس العلم الصحيح ممدوحة غير مذمومة، وهذه صورة لها: أتى رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما لونها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فمن أين ذلك؟ قال: لعل عرقاً نزعه. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لعل عرقاً نزعه".
٤ وقد راسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملوك الروم بمضمون هذه الآية، إذ كتب إلى هرقل قائلاً: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك اثم الأريسيين (الأكارين) (وهم الفلاحون) ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾.. إلى قوله ﴿مسلمون﴾ ". رواه مسلم.
٥ وذلك بأن يحرم عليه ما أحل الله ويحل له ما حرم الله ويلزمه بقبول ذلك والإذعان له.
هذا معنى الآية الأولى (٦٤) أما الآية الثانية (٦٥) فيأمر تعالى رسوله أيضاً أن يقول للمتولين عن الحق يا أهل الكتاب لم تحاجون في شأن إبراهيم وتدعي كل طائفة منكم أن إبراهيم كان على دينها مع أن اليهودية ما كانت إلا بعد نزول التوراة، والنصرانية ما كانت إلا بعد نزول الإنجيل، وإبراهيم كان قبل نزول الكنابين بمائات السنين، مالكم تقولون بما لا يقبل ولا يعقل أفلا تعقلون؟ ثم وبخهم بما هم أهله قائلاً لهم: اسمعوا يا هؤلاء أنتم جادلتم فيما لكم به علم في شأن دينكم وكتابكم فلم تجادلون فيما ليس لكم به علم في شأن إبراهيم وملته الحنيفية التي قامت على مبدأ التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، والله يعلم من شأن إبراهيم ودينه ما لا تعلمون أننتم فليس من حقكم القول فيما لا تعلمونه. ثم أكذبهم بعد أن وبخهم فقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً﴾ وإنما كان حنيفاً موحداً مطيعاً لربه مسلماً له ولم يكن من المشركين. وبعد أن وبخ تعالى المجادلين لرسوله وكذبهم في دعواهم أن إبراهيم على دينهم قرر حقيقة كبرى ينبغي أن يعلموها ويقروا بها وهي أن أحق١ الناس بالنسبة لإبراهيم والإنتماء إليه هم الذين اتبعوه على ملة التوحيد وعبادة الله تعالى بما شرع وهذا النبي الكريم العظيم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذين آمنوا معه واتبعوا الهدى الذي جاء به، والله تعالى ولي المؤمنين، وعدو الكافرين والمشركين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لا يصلح حال البشرية ولا يستقيم أمرها إلا إذا أخذت بمبدأ: الكلمة السواء وهي أن تعبد ربها وحده لا تشرك به سواه، وألا يعلو بعضها على بعض تحت أي قانون أو شعار.
٢- حجية التاريخ وبيان الحاجة إليه، إذ رد الله تعالى على أهل الكتاب في دعواهم أن إبراهيم كان على دينهم بأن التوراة والإنجيل لم ينزلا إلا بعد وفاته فكيف يكون يهودياً أو نصرانياً.
٤- اليهودية كالنصرانية لم تكن دين الله تعالى، وإنما هما بدعتان لا غير.
٥- المؤمنون بعضهم أولياء بعض وإن تناءت ديارهم وتباعدت أقطارهم والله ولي المؤمنين.
﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَدَّتْ طَائِفَةٌ٢﴾ : أحبت فرقة وهم الأحبار والرؤساء فيهم.
﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ٣﴾ : أي: تمنوا إيقاعكم في الضلال لتشقوا وتهلكوا مثلهم.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ : أي: وما يدرون ولا يعلمون بأنهم بمحاولة إضلال المؤمنين إنما هم يضلون أنفسهم حيث يتوغلون في الشر فيضاعف لهم العذاب.
لبس الحق بالباطل: خلطه به كأنما كسا الباطل ثوب الحق وكسا الحق ثوب الباطل حتى لا يُعرف فيؤخذ به، ويهتدي عليه.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عباده المؤمنين أن فرقة من أهل الكتاب تمنوا لو توقعكم في الضلال لتهلكوا والغالب أن هذه الطائفة تكون في رؤسائهم من أحبار وقسس وإن كان أغلب اليهود
٢ الإضلال: يكون بمعنى الهلاك كما هو هنا وعليه قول الشاعر:
كنت القذى في موج أكدر مزبد | قذف الأوتي به فضل ضلالاً |
٣ تقدم أنهم من يهود المدينة وأن العبرة بعموم اللفظ، لذا فإن هذا النوع ما زال إلى اليوم يود إضلال المسلمين.
هذا معنى الآية (٦٩) أما الآية (٧٠) فقد نادى الرب تعالى أهل الكتاب ليوبخهم وينعي عليهم ضلالهم فقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ١ بآيَاتِ اللهِ﴾ أي: لم تجحدون الآيات التي بها نعت الرسول وصفته لله في التوراة والإنجيل والحال أنكم تشهدون أنها صفات الرسول ونعوته وإنها منطبقة عليه؟ أليس هذا قبحاً منكم وشراً تعود عاقبته عليكم؟.
وفي الآية (٧١) وبخهم أيضاً على خلطهم الحق بالباطل حتى لا يعرف ويؤخذ به ويهتدي عليه فقال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ٢ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِل﴾ ِ وشنع عليهم بكتمانهم الحق الذي هو نبوة الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبينة في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم فقال: ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه الحق من الله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم.
٢- عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر.
٣- قبح من يكتم الحق وهو يعرفه.
٤- حرمة التدليس والتلبيس في كل شيء لا سيما في دين الله تعالى لإبعاد الناس عنه.
٥- حرمة كتمان الحق في الشهادة وغيرها.
﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ
٢ إعادة النداء مرة ثانية: {يا أهل الكتاب﴾ لأجل توبيخهم وتسجيل باطلهم عليهم.
شرح الكلمات:
وجه النهار١ وآخره: أوله: وهو الصباح، وأخره: وهو المساء.
﴿وَلا تُؤْمِنُوا٢ إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ : أي: لا تصدقوا إلا ما كان على ملتكم.
﴿الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾ : البيان الحق والتوفيق الكامل بيان الله وهداه لا ما يخلط اليهود ويلبسون تضليلاً للناس.
﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ﴾ : أن يعطى أحد نبوة وديناً وفضلاً.
﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ : يخاصموكم يوم القيامة عند ربكم.
﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله﴾ : قل إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام بيد الله لا بيد غيره.
﴿وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ : ذو سعة بفضله، عليم بمن يستحق فضله فيمن عليه. معنى الآيات:
يخبر تعالى عن كيد اليهود ومكرهم بالمسلمين فيقول: ﴿وَقَالَتْ٣ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ وذلك أن كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف عليهما لعائن الله قال لبعض إخوانهم صلوا مع المسلمين صلاة الصبح إلى الكعبة، وصلوا العصر إلى الصخرة بيت المقدس فإن قيل لكم: لم عدلتم
وتضيء في وجه النهار منيرة | كجمانة البحرية سل نظامها |
٣ عطف على: ﴿ودت طائفة﴾، فالطائفة الأولى ودت إضلال المسلمين جهراً وعلناً، وهذه حاولته بالخداع والتضليل بأساليب المكر والإحتيال.
هذا معنى قوله تعالى فيهم: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ١ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا٢ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني في شأن القبلة، ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ أي: صباحاً ﴿وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ أي: واجحدوا به مساءاً، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي: إلى استقبال الصخرة بدلاً عن الكعبة، والغرض هو بلبلة أفكار المسلمين وإدخال الشك عليهم٣ وقوله تعالى عنهم: ﴿وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ يريد أنهم قالوا لبعضهم بعضا لا تصدقوا أحداً إلا لمن تبع دينكم من أهل ملتكم وهذا صرف من رؤسائهم لليهود عن الإسلام وقبوله، أي لا تصدقوا المسلمين فيما يقولون لكم، وهنا رد تعالى عليهم بقوله قل يا رسولنا: ﴿إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ﴾، لا ما يحتكره اليهود من الضلال ويزعمون أنه الحق والهدى وهو البدعة اليهودية، وقوله تعالى: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ هو قول اليهود معطوف على قولهم: ﴿وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾، أما قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى... ﴾ فهو كلام معترض بين كلام اليهود الذي قُدم تعجيلاً للرد عليهم، ومعنى قولهم: ﴿أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ... ﴾ إلخ. أي: كراهة أن يعترف من قبلكم بأن محمداً نبي حق وأن دينه حق فيتابعه اليهود والمشركون عليه فيسلمون، أو على الأقل يثبت المسلمون عليه، ونحن نريد زلزلتهم وتشكيكهم حتى يعودوا إلى دين آبائهم، أو يحاجوكم عند ربكم يوم القيامة وتكون لهم الحجة عليكم إن أنتم اعترفتم لهم اليوم بأن نبيهم حق ودينهم حق، فلذا واصلوا الإصرار أنه لا دين حق إلا اليهودية وأن ما عداها باطل وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم مبكتاً لهم: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾، لا بيد اليهود ﴿يُؤْتِيهِ﴾ أي: الفضل الذي هو النبوة والهدى والتوفيق وما يتبع ذلك من خير الدنيا والآخرة، ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ من عباده ويحرمه من يشاء، وهو الواسع الفضل العليم بمن يستأهله ويحق له ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
٢ ولا مانع أن يكون مراداً من الآية أنهم قالوا لسفلتهم أظهروا الإيمان بمحمد ودينه في أول النهار ثم أكفروا به آخره فإنكم إن فعلتم ذلك ارتاب من يتبعه في دينه فيرجع عن دينه إلى دينكم إلا أن ما فسرنا به الآية أظهر.
٣ وهذا لا يمنع أن يكون قولهم: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ﴾ إظهاراً منهم للدخول في الإسلام والاعتراف به في أول النهار، مكراً وخديعة، فإذا ولى النهار أظهروا رجوعهم عنه لظن من رآهم أنهم يريدون الحق، ولذلك أسلموا، فلما تبين لهم بطلان الإسلام وعدم صحته رجعوا عنه.
من هداية الآيات:
١- تسجيل المكر والخداع على اليهود وأنه صفة من صفاتهم اللازمة لهم إلى يوم القيامة.
٢- الكشف عن التعصب اليهودي وأساليب التمويه والتضليل، والإعلام العالمي اليوم مظهر من مظاهر التضليل اليهودي.
٣- سذاجة اليهود المتناهية في فهم مسائل الدين والاعتقاد توارثوها إلى اليوم، وإلا فأي مؤمن بالله واليوم الآخر يقول: لا تعترفوا للمسملين بأنهم على حق حتى لا يحتجوا عليكم بإعترافكم يوم القيامة؟.
إن الله تعالى يعلم أن اليهود يجحدون الإسلام وهو الحق ويكفرون به وهو الحق من ربهم وسيعذبهم في نار جهنم يخلدون فيها، وكونهم لا يصرحون للمسلمين بأنهم على حق وهم يعلمون أنهم على الحق في دينهم ينجيهم هذا من عذاب الله على كفرهم بالإسلام؟.
اللهم لا. فما معنى قولهم لا تعترفوا بالإسلام حتى لا يحتج عليكم المسلمون باعترافكم يوم القيامة؟؟ إنه الجهل والسذاجة في الفهم. وسبحان الله ماذا في الخلق من عجائب!!.
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧) ﴾
﴿إِنْ تَأْمَنْهُ﴾ : ائتمنه على كذا وضعه عنده أمانة وأمنه عليه فلم يخفه.
﴿بِقِنْطَارٍ﴾ : وزن معروف، والمراد هنا أنه من ذهب بدليل الدينار.
﴿إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً﴾ : أي ملازماً له تطالبه١ به ليل نهار.
﴿الأُمِّيِّينَ﴾ : العرب والمشركين.
﴿سَبِيلٌ﴾ : أي: لا يؤاخذنا الله إن نحن أكلنا أموالهم؛ لأنهم مشركون.
﴿بَلَى﴾ : أي: ليس الأمر كما يقول اليهود من أنه ليس عليهم حرج ولا إثم في أكل أموال العرب المشركين بل عليهم الإثم والمؤاخذة٢.
﴿لا خَلاقَ لَهُمْ﴾ : أي: لا حظ ولا نصيب لهم في خيرات الآخرة ونعيم الجنان.
﴿وَلا يُزَكِّيهِمْ﴾ : لا يطهرهم من ذنوبهم ولا يكفرها عنهم.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في هتك أستار أهل الكتاب وبيان نفسياتهم المريضة وصفاتهم الذميمة ففي هذه الآية (٧٥) يخبر تعالى أن في اليهود من إن أمنته على أكبر مال أداه إليك وافياً كاملاً، ومنهم من إذا أمنته على دينار فأقل خانك فيه وأنكره عليك فلا يؤديه إليك إلا بمقاضاتك له وملازمتك إياه... فقال تعالى في خطاب رسوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ٣ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً﴾، ويعلل الرب تعالى سلوكهم هذا بأنهم يقولون: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ أي: لا حرج علينا ولا إثم في أكل أموال العرب لأنهم مشركون فلا نؤاخذ بأكل أموالهم وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوة الباطلة فقال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي: أنه كذب على الله ولكن يكذبون ليسوغوا كذبهم وخيانتهم.
وفي الآية الثانية (٧٦) يقول تعالى: ﴿بَلَى﴾ أي: ليس الأمر كما يدعون بل عليهم الإثم
٢ قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: "إنا نصيف في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول ليس علينا في ذلك بأس. فقال له: هذا كما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل، إنهم إذا أدوا الجزية لا تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم.
٣ ما دام في أهل الكتاب الأمين والخائن والتمييز بينهم متعذر، إذاً تعين اجتنابهم جميعاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- يجب أن لا يغتر باليهود ولا يوثق فيهم لما عرفوا به من الخيانة.
٢- من كذب على الله أحرى به أن يكذب على الناس.
٣- بيان اعتقاد اليهود في أن البشرية غير اليهود نجس وأن أموالهم وأعراضهم مباحة لليهود حلال لهم، لأنهم المؤمنون في نظرهم وغيرهم الكفار.
٤- عظم ذنب من يخون عهده من أجل المال، وكذا من يحلف كاذباً لأجل المال، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجر لقي٢ الله وهو عليه غضبان".
﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً﴾ : طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة النبوية.
٢ رواه أحمد وله شواهد في الصحاح، وروى الأئمة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: من اقتطع حق امرء مسلم بيمينه فقد أوجب له النار وحرم عليه النار" فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيباً من آراك".
﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ : وليس هو من الكتاب.
﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ : أي: يكذبون على الله لأغراض مادية.
معنى الآية:
ما زال السياق في اليهود وبيان فضائحهم فأخبر تعالى أن طائفة منهم يلوون ألسنتهم بمعنى يحرفون نطقهم بالكلام تمويهاً على السامعين كأنهم يقرأون التوراة وما أنزل الله فيها، ولي هو من الكتاب المنزل في شيء بل هو الكذب البحت، ويقولون لكم إنه من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب لأجل الحفاظ على الحطام الخسيس والرئاسة الكاذبة.
هداية الآية
من هداية الآية:
١- بيان مكر اليهود وتضليلهم وخداعهم لهم باسم الدين والعلم.
٢- جرأة اليهود على الكذب على الناس وعلى الله مع علمهم بأنهم يكذبون وهو قبح أشد وظلم أعظم.
٣- التحذير للمسلم من سلوك اليهود في التضليل والقول على الله والرسول لأجل الأغراض الدنيوية الفاسدة.
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) ﴾
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ١﴾ : لم يكن من شأن الإنسان٢ الذي يؤتيه الله الكتاب والحكمة والنبوة.
﴿الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ : الكتاب: وحي الله المكتوب والحكم: بمعنى الحكمة وهي الفقه في أسرار الشرع، والنبوة: ما يشرف الله تعالى به عبده من إنباءه بالغيب وتكليمه بالوحي.
﴿رَبَّانِيِّينَ٣﴾ : جمع رباني: من ينسب إلى الرب لكثرة عبادته وغزارة علمه، أو إلى الربان وهو الذي يرب الناس فيصلح أمورهم ويقوم عليها.
﴿أَرْبَاباً﴾ : جمع رب بمعنى السيد المعبود.
﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ﴾ : الاستفهام للإنكار، والكفر هنا: الردة عن الإسلام.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في الرد على أهل الكتاب وفي هذه الآية (٧٩) الرد على وفد نصارى نجران خاصة وهم الذين يؤلهون المسيح عليه السلام. قال تعالى: ليس من شأن أي إنسان يعطيه الله الكتاب أن ينزل عليه كتاباً ويعطيه الحكم فيه وهو الفهم والفقه في أسراره فيشرفه بالنبوة فيوحي إليه، ويجعله في ذمة أنبيائه، ثم هو٤ يدعو الناس إلى عبادة نفسه فيقول للناس: ﴿كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾. إن هذا ما كان ولن يكون أبداً. لا مما هو متصور الوقوع أيضاً فما لكم أنتم يا معشر النصارى تعتقدون هذا في المسيح عليه السلام؟ إن من أوتى مثل هذا الكمال لا يقول للناس كونوا عباداً لي ولكن يقول لهم كونوا ربانيين تصلحون الناس وتهدونهم إلى ربهم ليكملوا بطاعته ويسعدوا عليها، وذلك بتعليمهم الكتاب وتدريسه ودراسته.
هذا معنى الآية (٧٩) أما الآية (٨٠) فإن الله تعالى يخبر عن رسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يؤمر الناس بعبادة غير ربه تعالى سواء كان ذلك الغير ملكاً مكرماً أو نبياً مرسلاً، وينكر على من
٢ أي: لا يجتمع لنبي إتيان النبوة مع قوله: ﴿كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾، وإنما الذي يجتمع له مع إتيان النبوة هو قوله: ﴿كونُوا رَبَّانيِين﴾.
٣ الرباني: والجمع: ربانيين، مشتق من: ربه يربه، فهو ربان له إذا دبره وأصلحه.
٤ قالت اليهود يوماً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً: أتريد أن نتخذك يا محمد رباً؟ فأنزل الله تعالى قوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ﴾ الآية.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- لم يكن من الممكن لمن آتاه الله الكتاب والحكمة وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه فضلاً عن عبادة غيره.
٢- سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهدونهم.
٣- عظماء الناس٢ من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه.
٤- السجود لغير الله تعالى كفر لما ورد أن الآية نزلت رداً على من أرادوا أن يسجدوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى: ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون﴾ ؟!.
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) ﴾
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
٢ روى ابن عبد البر عن على رضي الله عنه قوله: "من علم وعمل وعلّم دعي في ملكوت السموات عظيما" وهو مروي عن عيسى عليه السلام.
﴿لَتُؤْمِنُنَّ٣﴾ : لتصدقن برسالته
﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ : الهمزة الأولى للاستفهام التقرير، وأقررتم: بمعنى اعترفتم.
﴿إِصْرِي﴾ : عهدي وميثاقي.
﴿فَمَنْ تَوَلَّى﴾ : رجع عما اعترف به وأقر.
﴿الْفَاسِقُونَ﴾ : الخارجون عن طاعة الله ورسوله.
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ﴾ : الاستفهام للإنكار، ويبغون: بمعنى يطلبون.
﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ : انقاد وخضع لمجاري أقدار الله وأحكامه عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الرد على نصارى نجران فيقول تعالى لرسوله اذكر لهم ما أخذ الله على النبيين وأممهم من ميثاق أنه مهما آتاهم من كناب وحكمة ثم جاءهم رسول مصدق لما معهم من النور والهدى ليؤمنن به ولينصرنه على أعداءه ومناؤيه من أهل الكفر وأنه تعالى قررهم فأقروا واعترفوا ثم استشدهم على ذلك فشهدوا وشهد تعالى فقال: ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ ثم أكد تعالى ذلك مرة أخرى بأن من يعرض عن هذا الميثاق ولم يف به يعتبر فاسقاً ويلقى جزاء الفاسقين فقال تعالى: ﴿فَمَنْ تَوَلَّى٤ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
وقد نقض هذا الميثاق كل من اليهود والنصارى، إذ لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به وقد أخذ عليهم الميثاق بالإيمان به، وبنصره، فكفروا به، وخذلوه، فكانوا بذلك الفاسقين المستوجبين لعذاب الله.
٢ قرأ أهل الكوفة: ﴿لِمَا آتَيْتُكُمْ﴾ بكسر لام لما، أي: لأجل ما آتيتكم من كتاب... إلخ. وتكون: ﴿ما﴾ موصولة بمعنى الذي، أي: للذي آتيتكم... إلخ.
٣ روى ابن كثير عن علي وابن عباس رضي الله عنهم، أنهما قالا: "ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لأن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرننه، وهذا غير مناف لما قال قتادة وغيره: أن الله أخذ من النبيين ميثاقهم أن يصدق بعضهم بعضاً.
٤ التولي والفسق مستحيل في حق أنبياء الله ورسله، ولذا فالمأخوذ عليهم: العهد والميثاق، هم أتباع الأنبياء والرسل، وإنما قال: ميثاق النبيين؛ لأنهم هم المبلغون أممهم لما أخذ عليهم، ويوضح هذا قوله: ﴿فاشهدوا﴾ أي: على أممكم.
هذا ما تضمنته الآية الأخيرة (٨٣) إذ قال تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً.
٢- كفر أهل الكتاب وفسقهم بنقضهم الميثاق وتوليهم عن الإسلام وإعراضهم عنه بعد كفرهم بالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أخذ عليهم الميثاق بأن يؤمنوا به ويتبعوه.
٣- بيان عظم شأن العهود والمواثيق عند الله تعالى.
٤- الإنكار على من يعرض عن دين الله الإسلام. مع أن الكون كله خاضع منقاد لأمر الله ومجاري أقداره مسلم له.
﴿قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥) ﴾
٢ طوعاً وكرهاً: مصدران في موضع الحال، أي: طائعين ومكرهين، إذ كل مخلوق منقاد مستسلم لما جبله الله عليه وقضاه وقدره له لا يخرج عنه بحال.
﴿الأَسْبَاطِ﴾ : جمع سبط والسبط الحفيد، والمراد بالأسباط هنا أولاد يعقوب الاثنا عشر والأسباط في اليهود كالقبائل في العرب.
﴿يَبْتَغِ﴾ : يطلب ويريد ديناً غير الدين الإسلامي.
﴿الْخَاسِرِينَ﴾ : الهالكين بالخلد في نار جهنم والذين خسروا كل شيء حتى أنفسهم. معنى الآيتين:
ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب فبعد أن وبخهم تعالى بقوله في الآيات السابقة: أفغير دين الله تبتغون يا معشر اليهود والنصارى؟ فإن قالوا: نعم. فقل أنت١ يا رسولنا: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ﴾ علينا من وحي وشرع وآمنا بما أنزل على إبراهيم خليل الرحمن وما أنزل على ولديه إسماعيل وإسحق وما أنزل على يعقوب وأولاده الأسباط، وآمنا بما أوتي موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد من أنبياءه بل نؤمن بهم وبما جاؤا به فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما هي حالكم يا معشر اليهود والنصارى. ونحن لله تعالى مسلمون، أي: منقادون مطيعون لا نعبده بغير ما شرع ولا نعبد معه سواه. هذا معنى الآية الأولى (٨٤) أما الآية الثانية (٨٥) فإن الله تعالى يقرر أن كل دين غير الإسلام باطل، وأن من يطلب ديناً غير الإسلام لن يقبل منه بحال ويخسر في الآخرة خسراناً كبيراً فقال تعالى: ﴿وَمَنْ٢ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وذلك هو الخسران المبين.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض، كما لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض ما أنزل الله تعالى على رسله ويكفر ببعض.
٢ روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول يا رب أنا الصلاة فيقول: إنك على خير، وتجيء الصدقة فتقول: يا رب أنا الصدقة. فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الصيام فيقول: يا رب أن الصيام. فيقول: إنك على خير، ثم تجيء الأعمال كل ذلك ويقول الله تعالى إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب أنت السلام، وأنا الإسلام. فيقول الله تعالى: إنك على خير اليوم بك آخذ وبك أعطي، قال الله تعالى في كتابه: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ". تفرد به أحمد.
٣- بطلان سائر الأديان والملل سوى الدين الإسلامي وملة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) ﴾
شرح الكلمات:
﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً﴾ : الاستفهام هنا للاستبعاد١، والهداية: الخروج من الضلال.
﴿الْبَيِّنَاتُ﴾ : الحجج من معجزات الرسل وآيات القرآن المبينة للحق في المعتقد والعمل.
﴿الظَّالِمِينَ﴾ : المتجاوزين الحد في الظلم المسرفين فيه حتى أصبح الظلم وصفاً لازماً لهم.
﴿لَعْنَةَ اللهِ﴾ : طرد الله لهم من كل خير، ولعنة الملائكة والناس: دعائهم عليهم بذلك.
﴿وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ : ولا هم يمهلون من أنظره إذا أمهله ولم يعجل بعذابه.
َأَصْلَحُوا: أصلحوا ما أفسدوه من أنفسهم ومن غيرهم.
كيف نومي على الفراش ولما...
يشمل القوم غارة شعواء
ما زال السياق في أهل الكتاب١ وإن تناولت غيرهم ممن ارتد عن الإسلام من بعض الأنصار ثم عاد إلى الإسلام فأسلم وحسن إسلامه ففي كل هؤلاء يقول تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ فقد كفر اليهود بعيسى عليه السلام، وشهدوا أن الرسول محمداً حق وجاءتهم الحجج والبراهين على صدق نبوته وصحة ما جاء به من الدين الحق، والله حسب سنته في خلقه لا يهدي من أسرف في الظلم وتجاوز الحد فيه فأصبح الظلم طبعاً من طباعه، فلهذا كانت هداية من هذه حاله مستبعدة للغاية، وإن لم تكن مستحيلة ثم أخبر تعالى عنهم متوعداً لهم فقال: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: في تلك اللعنة الموجبة لهم عذاب النار ﴿لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي: ولا يمهلون ليعتذروا، أو لا يخفف عنهم العذاب. ثم لما لم تكن توبتهم مستحيلة ولأن الله تعالى يحب توبة عباده ويقبلها منهم قال تعالى فاتحاً باب رحمته لعباده مهما كانت ذنوبهم ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا٢ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ الكفر والظلم، ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ نفوسهم بالإيمان وصالح الأعمال ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فكان هذا كالوعد منه سبحانه وتعالى بأن يغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم بدخول الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- التوغل في الشر والفساد أو الظلم والكفر قد يمنع٣ العبد من التوبة. ولذا وجب على العبد إذا أذنب ذنباً أن يتوب منه فوراً، ولا يواصله مصراً عليه خشية أن يحال بنيه وبين التوبة.
٢- التوبة مقبولة متى قامت على أسسها واستوفت شروطها ومن ذلك الإقلاع عن الذنب فوراً، والندم على ارتكابه، والاستغفار والعزم على عدم العودة إلى الذنب الذي تاب منه وإصلاح ما أفسده مما يمكن إصلاحه.
٢ روى ابن كثير والقرطبي أن الحارث بن سويد آخا الجلاس بن سويد الأنصاري قد ارتد بعد إسلامه مع اثنى عشر رجلاً والتحقوا بمكة ثم تاب الحارث فأسلم وحسن إسلامه.
٣ أورد هنا القرطبي سؤالاً، وهو: أن ظاهر الآية: ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ دال على أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله وكثيراً من الظالمين تابوا من الظلم؟. وأجاب بقوله إن معنى لا يهديهم ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الإسلام فأما إن أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك. والله أعلم. أ. هـ كلامه.
شرح الكلمات:
الكفر: الجحود لله تعالى والتكذيب لرسوله وما جاء به من الدين والشرع.
﴿بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ : أي: ارتدوا عن الإسلام إلى الكفر.
﴿الضَّالُّونَ﴾ : المخطئون طريق الهدى.
﴿مِلءُ الأَرْضِ﴾ : ما يملأها من الذهب.
﴿وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ : ولو قدموا فداء لنفسه من النار ما قبل منه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في أهل الكتاب وهو هنا في اليهود خاصة إذ أخبر تعالى عنهم أنهم كفروا بعد إيمانهم كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة. ثم ازدادوا١ كفراً بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، فلن تقبل توبتهم إلا إذا تابوا بالإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن لكنهم مصرون على الكفر بهما فكيف تقبل توبتهم، إذاً مع إصرارهم على الكفر، ولذا أخبر تعالى أنهم هم الضالون البالغون أبعد الحدود في الضلال ومن كانت هذه حاله فلا يتوب ولا تقبل توبته، ثم قرر مصيرهم بقوله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً﴾ يريد يوم القيامة مع أنه لا مال يومئذ ولكن من باب الفرض والتقدير لا غير. فلو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً وقبل منه فداء لنفسه من عذاب الله لافتدى، ولكن
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- سنة الله فيمن توغل في الكفر أو الظلم أو الفسق وبلغ حدا ًبعيداً أنه لا يتوب.
٢- اليأس من نجاة من مات كافراً يوم القيامة.
٣- لا فدية تقبل يوم القيامة من أحد ولا فداء لأحد فيه.
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) ﴾
شرح الكلمات:
﴿لَنْ تَنَالُوا﴾ : لن تحصلوا عليه وتظفروا به.
﴿الْبِرَّ﴾ : كلمة جامعة لكل خير، والمراد به هنا ثوابه وهو الجنة.
﴿تُنْفِقُوا﴾ : تتصدقوا.
﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ : من المال الذي تحبونه لأنفسكم وهو أفضل أموالكم عندكم.
﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ : يريد قلّ أو كثر.
﴿فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ : لازمه أنه يجزيكم به بحسب كثرته أو قلته.
معنى الآية الكريمة:
يخبر تعالى عباده المؤمنين الراغبين في بره٢ تعالى وإفضاله بأن ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة بأنهم لن يظفروا بمطلوبهم من بر ربهم حتى ينفقوا من أطيب أموالهم وأنفسها عندهم وأحبها إليهم. ثم أخبرهم مطمئناً لهم على إنفاقهم أفضل أموالهم بأن ما ينفقونه من قليل
٢ يطلق لفظ البر على العمل الصالح أو هو جماعه وثوابه، وفي الصحيح، يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً".
هداية الآية
من هداية الآية:
١- البر وهو فعل الخير يهدي إلى الجنة.
٢- لن يبلغ العبد بر الله وما عنده من نعيم الآخرة حتى ينفق من أحب أمواله إليه.
٣- لا يضيع المعروف عند الله تعالى قل أو كثر طالما أريد وجهه تعالى.
﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧)
شرح الكلمات:
{الطَّعَامِ١﴾ : اسم لكل ما يطعم من أنواع المأكولات.
حل: الحل: الحلال، وسمى حلالاً لانحلال عقدة الحظ عنه.
بني إسرائيل: أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل المنحدرون من أبنائه الاثنى عشر إلى يومنا هذا.
﴿حَرَّمَ﴾ : حظر ومنع.
﴿التَّوْرَاةُ﴾ : كتاب أنزل على موسى عليه السلام وهو من ذرية إسرائيل.
﴿فَاتْلُوهَا﴾ : اقرأوها على رؤوس الملأ لنتبين صحة دعواكم من بطلانها.
افترى٢ الكذب: اختلقه وزوره وقاله.
﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ : دينه وهي عبادة الله تعالى بما شرع، ونبذ الشرك والبدع.
﴿حَنِيفاً٣﴾ : مائلاً عن الشرك إلى التوحيد.
٢ الافتراء: كالاختلاق سواء، والافتراء مأخوذ من الفري، وهو قطع الجلد قطعاً ليصلح بها قربة وحذاء ونحوهما.
٣ حنيفاً منصوب على الحال وصاحبها إبراهيم المجرور بالإضافة.
لِلْعَالَمِينَ: للناس أجمعين.
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ١: آية من الآيات وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء البيت فارتسمت قدماه وهو صخر فكان هذا آية.
َمَنْ دَخَلَهُ: الحرم الذي حول البيت يحددوه المعروفة.
آمِناً: لا يخاف على نفس ولا مال ولا عرض.
الحج: قصد البيت للطواف به وأداء بقية المناسك.
سَبِيلاً: طريقاً والمراد القدرة على السير إلى البيت والقيام بالمناسك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحجاج مع أهل الكتاب فقد قال يهود للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف تدعي أنك على دين إبراهيم، وتأكل ما هو محرم في دينه من لحوم الإبل وألبانها، فرد الله تعالى على هذا الزعم الكاذب بقوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ﴾ أي حلالاً لبني إسرائيل، وهم ذرية يعقوب الملقب بإسرائيل، ولم يكن هناك شيء محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إلا ما حرم إسرائيل "يعقوب" على نفسه خاصة وهو لحوم الإبل وألبانها لنذر نذره وهو أنه مرض٢ مرضاً آلمه فنذر٣ لله تعالى إن شفاه ترك أحب الطعام والشراب إليه، وكانت لحوم الإبل وألبانها من أحب الأطعمة والأشربة إليه فتركها لله تعالى، هذا معنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ من قبل أن تنزل التوراة، إذ التوراة نزلت على موسى بعد إبراهيم ويعقوب بقرون عدة، فكيف تدعون أن إبراهيم كان لا يأكل لحوم الإبل ولا يشرب ألبانها فأتوا بالتوراة فاقرؤوها فسوف تجدون أن ما حرم الله تعالى على اليهود إنما كان لظلمهم واعتدائهم فحرم عليهم أنواعاً من الأطعمة، وذلك بعد إبراهيم ويعقوب
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة | على قدميه حافياً غير ناعل |
٢ أكثر الروايات على أن مرض يعقوب كان بعرق النساء، وأن ما نذره من ترك أحب الطعام والشراب إليه كان باجتهاد منه وليس شرعاً عنده، إذ هو من المباح، وللعبد أن يترك مباحاً متى شاء لاسيما إن تركه لله تقرباً إليه وتوسلاً لقضاء حاجته؛ كشفاء من مرض مثلاً.
٣ روى ابن ماجة في سننه عن أنس ابن مالك قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "شفاء عرق النساء إلية شاه (عربية) "، تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق كل يوم جزء". قال أنس فوصفته لأكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى.
ولما طولبوا بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا فقامت الحجة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم.
وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ بعد قيام الحجة بأن الله تعالى لم يحرم على إبراهيم ولا على بني إسرائيل شيئاً من الطعام والشراب إلا بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل على نفسه من لحمان الإبل وألبانها فاؤلئك هم الظالمون بكذبهم على الله تعالى وعلى الناس. ومن هنا أمر الله تعالى رسوله أن يقول: صدق الله فيما أخبر به رسوله ويخبره به وهو الحق من الله، إذاً فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبداً من المشركين.
هذا ما تضمنته الآيات الثلاث: ٩٣-٩٤-٩٥، وأما قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ٢ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ﴾ فإنه متضمن الرد٣ على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هو أول قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ وهي متأخرة الوجود فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس وأنه جعله مباركاً يدوم بدوام الدنيا والبركة لا تفارقه، فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى بها، كما جعله هدى للعالمين، فالمؤمنون يأتون حجاجاً وعماراً فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية، وقوله تعالى في آيات بينات يريد: في المسجد الحرام دلائل واضحات منها: مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقى أثر قدميه عليه مع إنه صخرة من الصخور ومنها زمزم والحجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ومنها: الأمن التام لمن دخله فلا
٢ أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً، ثم جعلت الأرض لك مسجداً فحيثما أدركتك الصلاة فصلِ".
٣ ذكر القرطبي عن مجاهد قوله: تفاخر المسلمون واليهود. فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل. فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ..﴾ الآية.
وقوله تعالى في آخر الآية: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ فإنه خبر منه تعالى بأن من كفر بالله ورسوله وحج بيته بعد ما ذكر من الآيات والدلائل الواضحات فإنه لا يضر إلا نفسه، أما الله تعالى فلا يضره شيء وكيف وهو القاهر فوق عباده والغني عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ثبوت النسخ في الشرائع الإلهية، إذ حرم الله تعالى على اليهود بعض ما كان حلاً لهم.
٢- إبطال دعوى دعوى اليهود أن إبراهيم كان محرماً عليه الإبل وألبانها.
٣- تقرير النبوة المحمدية لتحدي اليهود وعجزهم عن دفع الحق الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٤- البيت الحرام كان قبل بيت المقدس وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به.
٥- مشروعية طلب البركة لزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد حوله.
٦- وجوب الحج على الفور٣ لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك.
٧- الإشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه، ولا مانع يمنعه منه غير٤ عدم المبالاة.
٢ تواردت طرق حديث: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن السبيل في قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ فقال: "الزاد والرحلة". وهو كذلك.
٣ مما يدل على فورية الحج إذا توفرت النفقة وآمن الطريق وزالت الموانع، قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". رواه أحمد. فما دمنا مأمورين بالتعجل كان الفور ألزم والتراخي أبعد. والله أعلم وأعز وأحكم.
٤ الإجماع على أن الحج مرة واحدة في العمر لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا، ولو قلت نعم لوجبت" إذ سأل سأئل قائلاً: أفي كل عام يا رسول الله، وذلك لما نزلت: ﴿ولله على الناس حج البيت... ﴾. ومما يؤكد فرضيته وهي مؤكدة بخطاب الله تعالى أن عمر رضي الله عنه قال: "من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانياً" قال ابن كثير اسناده صحيح.
شرح الكلمات:
الكفر: الجحود.
آيات الله: ما أنزل تعالى من الحجج والبينات في القرآن المقررة لنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أنزله تعالى في التوراة والإنجيل من صفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعوته الموجبة للإيمان به واتباعه على دين الحق الذي جاء به وهو الإسلام.
﴿شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ١﴾ : عليم به مطلع عليه، وما يعملونه هو الكفر والشر والفساد.
﴿تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ٢﴾ : تصرفون الناس ممن آمن منكم ومن العرب عن الإسلام الذي هو سبيل الله تعالى المفضي بأهله إلى سعادة الدارين.
﴿تَبْغُونَهَا عِوَجاً٣﴾ : تطلبون لها العوج حتى تخرجوا بها عن الحق والهدى فيضل سالكها وذلك بالتحريف والتضليل.
﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ : بعلمكم بأن الإسلام حق، وأن ما تبغونه له من من الإضلال لأهله والتضليل هو كفر وباطل.
معنى الآيتين:
بعد دحض الله تعالى شبه أهل الكتاب وأبطلها في الآيات السابقة أمر تعالى رسوله
٢ قرئ: ﴿يصدون﴾ من صد، إذ يقال: صده وأصده عن كذا، صرفه عنه.
٣ أصلها تبغون لها فحذفت اللام، نحو: ﴿كالوهم﴾ أي: كالوا لهم.
كما أمر تعالى رسوله أيضاً أن يقول لهم مؤنباً موبخاً لهم على صرفهم المؤمنين عن الإسلام بأنواع الحيل والتضليل: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ١﴾ أي: يا أهل العلم الأول لم تصرفون المؤمنون عن الإسلام الذي هو سبيل الله بما تثيرونه بينهم من الشكوك والأوهام تطلبون للإسلام العوج لينصرف المؤمنون عنه، مع علمكم التام بصحة الإسلام وصدق نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أما تخافون الله، أما تخشونه تعالى وهو مطلع على سوء تدبيركم غير غافل عن مكركم وغشكم وخداعكم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- شدة قبح كفر وظلم من كان عالماً من أهل الكتاب بالحق ثم كفره وجحده بغياً وحسداً.
٢- حرمة صرف الناس عن الحق والمعروف بأنواع الحيل وضروب الكذب والخداع.
٣- علم الله تعالى بكل أعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم بها فضلاً منه وعدلاً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
شرح الكلمات:
﴿فَرِيقاً﴾ : طائفة١ من الحاقدين على الإٍسلام العاملين على الكيد له والمكر به وبأهله.
﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ : يرجعوكم إلى الكفر بعد إيمانكم.
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ : الاستفهام للإنكار والتعجب من كفرهم بعد إيمانهم.
﴿آيَاتُ اللهِ﴾ : آيات القرآن الكريم.
﴿يَعْتَصِمْ﴾ : يتمسك بشدة.
﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ : باستفراغ الوسع في إمتثال أمره، واجتناب نهيه، وتقاته٢ هي تقواه.
﴿بِحَبْلِ اللهِ﴾ : كتابه القرآن ودينه الإسلام، لأن الكتاب والدين هما الصلة التي تربط المسلم بربه، وكل ما يربط ويشد شيئاً بآخر هو سبب وحبل.
﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ : جمعها على أخوة الإيمان ووحد ببنها بعد الاختلاف والنفرة.
﴿شَفَا حُفْرَةٍ﴾ : شفا الحفرة: حافتها وطرفها بحيث لو غفل الواقف عليها وقع فيها.
٢ التقاء اسم مصدر اتقى يتقي إتقاءاً، وأصلها: وقي فتحرك حرف العلة فانفتح ما قبله فقلبه واواً، فصارت وقاه، وأبدلت الواو تاء فصارت تقاة.
بعد أن وبخ تعالى اليهود على خداعهم ومكرهم وتضليلهم للمؤمنين وتوعدهم على ذلك، نادى المؤمنين محذراً إياهم من الوقوع في شباك المضللين من اليهود فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾، وذلك أن نفراً من الأوس والخزرج كانوا جالسين في مجلس يسودهم الود والتصافي ببركة الإسلام الذي هداهم الله تعالى إليه فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فآلمه ذلك التصافي والتحابب وأحزنه بعد أن كان اليهود يعيشون في منجاة من الخوف من جيرانهم الأوس والخزرج لما كان بينهم من الدمار والخراب، فأمر شاس شاباً أن يذكرهم بيوم بعاث فذكروه وتناشدوا الشعر فثارت الحمية القبلية بينهم فتسابوا وتشاتموا حتى هموا بالقتال فأتاهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكرهم بالله تعالى وبمقامه فهدأوا، وذهب الشر ونزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ فحذرهم من مكر أهل المكر من اليهود والنصارى، وأنكر عليهم ما حدث منهم حاملاً لهم على التعجب من حالهم أو كفروا بعد إيمانهم فقال عز وجل: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ﴾ صباح مساء في الصلوات وغيرها، ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ١﴾ هادياً ومبشراً ونذيراً وأرشدهم إلى الاعتصام بدين الله وبشر المعتصمين بالهداية إلى طريق السعادة والكمال فقال: ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾ أي: بكتابه وسنة نبيه ﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ثم كرر تعالى نداءه٢ لهم بعنوان الإيمان تأكيداً لهم به وأمرهم بأن يبذلوا وسعهم في تقوى الله عز وجل وذلك بطاعته كامل الطاعة بامتثال أمره واجتناب نهيه حاضاً لهم على الثبات على دين الله حتى يموتوا عليه فلا يبدلوا ولا يغيروا فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ٣ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ وأمرهم بالتمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، ونهاهم عن التفرق والاختلاف وأرشدهم إلى ذكر نعمته تعالى عليهم بالألفة
٢ من مظاهر إكرا م الله تعالى للمؤمنين أن ناداهم مباشرة بيا أيها الذين آمنوا بخلاف أهل الكتاب فإنه أمر رسوله أن يناديهم إشعاراً لهم بعدم رضاه عنهم وغضبه عليهم.
٣ روى أن تقوى الله حق تقاته تتمثل في أن يطاع تعالى ولا يعصى ويشكر ولا يكفر، ويذكر ولا ينسى، وخصصتها آية التغابن: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾، إذ لا تكليف مع العجز عن القيام به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم.
٢- العصمة في التمسك بكتاب الله ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن تمسك بهما لم يضل.
٣- الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال، وأخيراً من الهلاك والخسران.
٤- وجوب التمسك بشدة بالدين الإسلامي وحرمة٣ الفرقة والاختلاف فيه.
٥- وجوب ذكر النعم لأجل شكر الله تعالى عليها بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٦- القيام على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم فمن مات على ذلك وقع في جهنم حتماً بقضاء الله وحكمه.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا
٢ وهذه نعمة أخرى مواصلة إنزال القرآن بالأحكام والشرائع والآداب والمواعظ والعبر، ليتم لهم كمالهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فلله الحمد والمنة.
٣ في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: "أن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً. يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
شرح الكلمات:
الأمة: أفراد من البشر أو غيرهم تربطهم رابطة جنس أو لغة أو دين ويكون أمرهم واحداً، والمراد بالأمة هنا المجاهدون وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
﴿الْخَيْرِ﴾ : الإسلام وكل ما ينفع الإنسان في حياته الأولى والآخرة من الإيمان والعمل الصالح.
المعروف: المعروف كل ما عرفه الشرع فأمر به لنفعه وصلاحه للفرد أو الجماعة.
﴿الْمُنْكَرِ﴾ : ضد المعروف، وهو ما نهى عنه الشرع لضرر وإفساد، للفرد أو الجماعة.
الذين تفرقوا: هم أهل الكتاب من اليهود١ والنصارى.
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ٢﴾ : هذا يوم القيامة.
﴿فَفِي رَحْمَةِ اللهِ﴾ : رحمة الله هنا: الجنة جعلنا الله تعالى من أهلها، آمين.
٢ تبيض وجوه المؤمنين المتقين وتسود وجوه الكافرين والمبتدعين من أصحاب الأهواء.
معنى الآيات:
بعدما أمر الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بتقواه والتمسك بدينه ونهاهم عن الفرقة والاختلاف وحضهم على ذكر نعمه ليشكروها بطاعته أمرهم في هذه الآية (١٠٤) بأن يوجدوا من أنفسهم جماعة تدعو إلى الإسلام وذلك بعرضه على الأمم والشعوب ودعوتهم إلى الدخول فيه، كما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديار الإسلام وبين أهله فقال تعالى مخاطباً إياهم: ولتكن منكم١ أي: يجب أن تكون منكم طائفة يدعون إلى الخير، أي: الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبشرهم بأن الأمة التي تنهض بهذا الواجب هي الفائزة بسعادة الدنيا والآخرة فقال: فأولئك هم المفلحون الفائزون بالنجاة من العار والنار، وبدخول الجنة مع الأبرار.
وفي الآيات (١٠٥) (١٠٧) نهاهم أن يسلكوا أهل الكتاب في التفرق في السياسة والاختلاف في الدين فيهلكوا هلاكهم فقال تعالى: مخاطباً إياهم: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ فلا ينبغي أن يكون العلم والمعرفة بشرائع الله سبباً في الفرقة والخلاف٢، وهما أداة الوحدة والائتلاف، وأعلمهم بجزاء المختلفين من أهل الكتاب ليعتبروا ولا يتفرقوا فقال تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لا يغادر قدره ولا يعرف مداه، وأخبرهم عن موعد حاول هذا العذاب العظيم بهم، وأنه يوم القيامة حينما تبيض وجوه المؤمنين القائمين على الكتاب والسنة، وتسود وجوه الكافرين المختلفين القائمين على البدع والأهواء، فقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ٣
٢ نهاهم تعالى عن التفرق والاختلاف، وقد وقع ما نهاهم عنه، وثبت ما أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد قال: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، النصارى مثل ذلك، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح، وفعلاً وقد وجدت ست فرق، وهي: الحرورية –والقدرية –والجهمية –والمرجئة –والرافضة –والجبرية. انقسمت كل فرقة من هذه إلى اثنتي عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلى أهل السنة والجماعة.
٣ روى ابن القاسم عن مالك في العتبية أنه قال ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، قال مالك: إنما هذه الآية لأهل القبلة بدليل قوله تعالى: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ... ﴾.
وأما الذين ابيضت وجوههم فلم يطل في الهول موقفهم حتى يدخلوا جنة ربهم قال تعالى: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
وفي الآية (١٠٨) شرف الله تعالى نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخطابه والوحي إليه فقال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا١ عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ أي: هذه الآيات المتضمنة للهدى والخير نقرأها عليك بالحق الثابت الذي لا مرية فيه، ولا شك يعتريه فبلغها عنا وادع بها إلينا فمن استجاب لك نجا ومن أعرض هلك، وما الله يريد ظلماً للعالمين. فلا يعذب إلا بعد الإعلام والإنذار.
وفي الآية الأخيرة (١٠٩) يخبر تعالى أنه له ملك السموات والأرض خلقاً وتصرفاً وتدبيراً، وأن مصير الأمور إليه وسيجزي المحسن بالحسنى والمسيء بالسوأى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب وجود طائفة من أمة الإسلام تدعو الأمم والشعوب إلى الإسلام وتعرضه عليهم وتقاتلهم إن قاتلوها عليه، ووجوب وجود هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى المسلمين.
٢- حرمة الفرقة بين المسلمين والاختلاف في دين الله.
٣- أهل البدع والأهواء يعرفون في عرصات القيامة باسوداد وجوههم.
٤- أهل السنة والجماعة وهم الذين يعيشون عقيدة وعبادة على ما كان عليه رسول الله٢ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يعرفون يوم العرض بابيضاض وجوههم.
٢ " افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الملة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة في الجنة، وقيل من هم يا رسول الله. فقال: هم الذين يكونون على ما أنا عليه وأصحابي".
٦- مرد الأمور إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة فيجب على عقلاء العباد أن يتخذوا لهم عند الله عهداً بالإيمان به وتوحيده في عبادته بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) ﴾
شرح الكلمات:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ : وجدتم أفضل وأبرك أمة وجدت على الأرض.
﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ : أظهرت وأبرزت لهداية الناس ونفعهم.
﴿أَذىً﴾ : الأذى: الضرر اليسير.
﴿يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ﴾ : ينهزمون فيفرون من المعركة مولينكم أدبارهم، أي: ظهورهم.
﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ : أحاطت بهم المذلة ولصقت بهم حتى لا تفارقهم.
﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ﴾ : رجعوا من رحلتهم الطويلة في الكفر وعمل الشر بغضب الله.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ... ﴾ إلخ.: ذلك إشارة إلى ما لصق بهم من الذلة والمسكنة وما عادوا به من غضب الله تعالى وما تبعه من عذاب "فالباء" في بأنهم
﴿يَعْتَدُونَ﴾ : الاعتداء مجاوزة الحد في الظلم والفساد.
معنى الآيات:
لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا ذكرهم بخير عظيم فقال لهم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ كما قال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كنتم خير الناس للناس.." ووصفهم بما كانوا به خير أمة فقال تأمرون بالمعروف وهو الإسلام وشرائع الهدى التي جاء بها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتنهون عن المنكر وهو الكفر والشرك وكبائر الإثم والفواحش، وتؤمنون بالله. وبما يتضمنه الإيمان بالله من الإيمان بكل ما أمر تعالى بالإيمان به من الملائكة والكتب والرسل والبعث الآخر والقدر. ثم دعا تعالى أهل الكتاب إلى الإيمان الصحيح المنجي من عذاب الله، فقال عز وجل، ولو آمن أهل الكتاب بالنبي محمد وما جاء به من الإسلام لكان خيراً لهم من دعوى الإيمان الكاذبة التي يدعونها. وأخبر تعالى عنهم بأن منهم المؤمنين الصادقين في إيمانهم؛ كعبد الله بن سلام وأخيه، وثعلبة بن سعيد وأخيه، وأكثرهم الفاسقون الذين لم يعملوا بما جاء في كتابهم من العقائد والشرائع من ذلك أمر الله تعالى بالإيمان بالنبي الأمي واتباعه على مايجيء به من الإسلام ثم أخبر المسلمين أن فساق أهل الكتاب لن يضروهم إلا أذى يسيراً كإسماعهم الباطل وقولهم الكذب. وأنهم لو قاتلوهم ينهزمون أمامهم مولينهم ظهورهم فارين من القتال ثم لا ينصرون على المسلمين في أي قتال يقع بين الجانبين.
كما أخبر تعالى في الآية (١١٢) أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي يا البلاد وجدوا لن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الأحوال إلا في حال دخولهم في الإسلام وهو حبل١ الله، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك هو حبل٢ الناس. كما أخبر تعالى عنهم
٢ الحبل مستعار هنا للعهد، أي: المعاهدة التي تربطهم بدولة قوية كبريطانيا وأمريكا الآن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إثبات خيرية أمة الإسلام وفي الحديث: "أنتم تتمون١ سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله".
٢- بيان علة خيرية أمة٢ الإسلام، وهي الإيمان بالله والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٣- وعد الله تعالى لأمة الإسلام –ما تمسكت به- بالنصر على اليهود في أي قتال بينهم.
٤- صدق القرآن في إخباره عن اليهود بلزوم الذلة والمسكنة لهم أينما كانوا.
٥- بيان جرائم اليهود التي كانت سبباً في ذلتهم ومسكنتهم وهي الكفر المستمر، وقتل الأنبياء بغير حق والعصيان والاعتداء على حدود الشرع.
﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ
٢ يوضح هذا قول عمر في حجه، وقد رأى في الناس دعة فقال، بعد أن قرأ هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾. من سره أن يكون في هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها.
شرح الكلمات:
﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾ : غير متساوين.
﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ﴾ : جماعة قائمة ثابتة على الإيمان والعمل الصالح.
﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ﴾ : يقرأون القرآن.
﴿آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ : ساعات الليل جمع إني وإني.
﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ : يصلون.
﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ : يستدرونها خشية الفوات.
﴿فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ : فلن يجحدوه بل يعترف لهم به ويجزون به وافياً.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى حال أهل الكتاب وأنهم فريقان مؤمن صالح، وكافر فاسد. ذكر هنا في هذا الآيات الثلاث: (١١٣-١١٤-١١٥) أن أهل الكتاب ليسوا سواء١، أي: غير متساوين في الحال، وأثنى على أهل الصلاح منهم فقال جل ذكره ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ٢﴾، أي: على الإيمان الحق والدين الصحيح وهم الذين أسلموا. يتلون آيات الله يقرأونها في صلاتهم آناء الليل، أي: ساعات الليل في صلاة العشاء وقيام الليل وهم يسجدون، وهذا ثناء عليهم بالسجود، إذ هو أعظم مظاهر الخشوع لله تعالى كما أثنى تعالى عليهم بالإيمان الصادق والأمر بالمعروف وهو الدعوة إلى عبادة الله تعالى بعد الإيمان به والإسلام الظاهر والباطن له. وينهون عن المنكر وهو الشرك بعبادة الله تعالى والكفر به وبرسوله فقال عز وجل: ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ أي: يبادرون إليها قبل فواتها، والخيرات هي كل قول وعمل صالح من سائر القربات. وشهد
٢ المراد بهم: عبد الله بن سلام، وأخوه، وعمته، وسعيه أو سنعة بن غريض، وثعلبة بن سعية، وأسد القرظي، وغيرهم ممن أسلموا وحسن إسلامهم في دنيا الإسلام والمسلمين إلى اليوم.
وأخيراً في الأية الآخيرة (١١٥) أن ما يفعلونه من الصالحات وما يأتونه من الخيرات لن يجحدوه بل يعترف لهم به ويجزون عليه أتم الجزاء، لأنهم متقون والله عليهم بالمتقين فلن يضيع أجرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فضل الثبات على الحق والقيام على الطاعات.
٢- فضل تلاوة القرآن الكريم في صلاة الليل.
٣- فضل الإيمان والدعوة إلى الإسلام.
٤- فضل المسابقة في الخيرات والمبادرة إلى الصالحات.
٥- فضيلة الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه، وفي الصحيحين يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران" الحديث.
﴿إِنَّ الَّذِينَ١ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿كَفَرُوا﴾ : كذبوا بالله ورسوله وشرعه ودينه.
﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ﴾ : لن تجزي عنهم يوم القيامة أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً، إذ لا مال يومئذ ينفع، ولا بنون.
الصر١: الريح الباردة الشديدة البرد التي تقتل الزرع وتفسده.
الحرث: ما تحرث له الأرض وهو الزرع.
﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ : حيث دنسوها بالشرك والمعاصي فعرضوها للهلاك والخسار.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال مؤمني أهل الكتاب وأثنى عليهم بما وهبهم من صفات الكمال ذكر هنا في هاتين الآيتين ما توعد به أهل الكفر من الكتابين وغيرهم من المشركين على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب ليهتدي من هيأه الله تعالى للهداية فقال: إن الذين كفروا أي كذبوا الله ورسوله فلم يؤمنوا ولم يوحدوا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم٢ أي: في الدنيا والآخرة مما أراد الله تعالى بهم شيئاً من الإغناء؛ لأن الله تعالى غالب على أمره وعزيز ذو انتقام، وقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. فيه بيان حكم الله تعالى فيهم وهو أن أولئك البعداء في الكفر والضلال المتوغلين في الشر والفساد هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها لا يفارقونها أبداً ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرن بها، ولا أولادهم الذين كانوا يعتزون بهم ويستنصرون، إذ يوم القيامة لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: سليم من الشك والشرك والكبر والعجب والنفاق.
هذا ما تضمنته الآية: (١١٦) أما الآية (١١٧) فقد ضرب تعالى فيها مثلاً لبطلان نفقات الكفار والمشركين وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والآخرة ضرب لها مثلاً: ريحاً باردة شديدة البرودة أصابت زرع أناس كاد يُحصد وهم به فرحون وفيه مؤملون فأفسدته تلك الريح وقضت عليه نهائياً فلم ينتفعوا بشيء منه، قال تعالى في هذا المثل: مثل ما ينفقون، أي: أولئك الكفار في هذه الحياة الدنيا، أي: مما يرونه نافعاً لهم من بعض أنواع البر. ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ٣ أَصَابَت﴾ أي تلك الريح الباردة حرث قوم، أي: زرعهم النابت
٢ كرر حرف النفي: ﴿ولا أولادهم﴾ لتأكيد عدم إغناء الأولاد عنهم شيئاً مع أن العرف: أن الأولاد يذبون عن آبائهم ويدفعون عنهم.
٣ ﴿فيها صر﴾ هذا التعبير أفاد شدة برد هذا الريح، إذ جعل الصر مظروفاً فيها.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- لن يغني عن المرء مال ولا ولد متى ظلم وتعرض لنقمة الله تعالى.
٢- الكفر هم أهل النار وخلودهم فيها محكوم به مقدر عليهم لا نجاة منه.
٣- ان العمل الصالح بالشرك والموت على الكفر.
٤- حسان ضرب الأمثال في الكلام لتقريب المعاني إلى الأذهان.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) ﴾
﴿بِطَانَةً﴾ : بطانة الرجل١ الذين يطلعهم على باطن٢ أمره الذي يخفيه على الناس للمصلحة.
﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ : من غيركم، أي: من غير المسلمين؛ كالكفار وأهل الكتاب.
﴿لا يَأْلُونَكُمْ﴾ : لا يقصرون في إفساد الأمور عليكم.
﴿خَبَالاً٣﴾ : فساداً في أمور دينكم ودنياكم.
﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ : أحبوا عنتكم، أي: مشقتكم.
﴿بَدَتِ الْبَغْضَاءُ﴾ : ظهرت شدة بغضهم لكم.
﴿أُولاءِ﴾ : هؤلاء حذفت منه هاء التنبيه لوجودها في ها أنتم قبلها.
﴿بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ : أي: بالكتب الإلهية كلها.
﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ : من شدة الغيظ عليكم؛ لأن المغتاظ إذا اشتد به الغيظ بعض أصبعه على عادة البشر، والغيظ: شدة الغضب.
﴿حَسَنَةٌ﴾ : ما يحسن من أنواع الخير؛ كالنصر والتأييد والقوة والخير.
﴿سَيِّئَةٌ﴾ : ما يسوءكم؛ كالهزيمة أو الموت أو المجاعة.
﴿كَيْدُهُمْ﴾ : مكرهم بكم وتبييت الشر لكم.
﴿بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ : علماً به وقدرة عليه، إذ هم واقعون تحت قهره وعظيم سلطانه.
معنى الآيات:
لما أخبر تعالى عن مصير الكافرين في الآخرة، وأن ذلك المصير المظلم كان نتيجة كفرهم وظلمهم حذر المؤمنين من موالاتهم دون المؤمنين وخاصة أولئك الذين يحملون في صدورهم الغيظ والبغضاء للمسلمين الذين لا يقصرون في العمل على إفساد أحوال المسلمين والذين
٢ روى البخاري تعليقاً، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه. والمعصوم من عصمه الله ".
٣ الخبال: الخبل، وهو الفساد، وفي الحديث: "من أصيب بدم أو خبل" أي: جرح يفسد العضو، ويقال: رجل خبل، وخبله الحب: أفسده.
﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ أي: أحبوا عنتكم ومشقتكم، فلذا هم لا يشيرون عليكم إلا بما يفسد عليكم أموركم ويسبب لكم الكوارث والمصائب في حياتكم وقوله تعالى: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ وصف آخر مشخص لهؤلاء الأعداء المحرم اتخاذهم بطانة، ألا وهو ظهور البغضاء من أفواههم٣ بما تنطق به ألسنتهم من كلمات الكفر والعداء للإسلام وأهله، وما يخفونه من ذلك في صدورهم٤ هو أكبر مما يتفلت من ألسنتهم. ويؤكد عز وجل تحذيره للمؤمنين فيقول: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ﴾ المتضمنة لبيان أعدائكم وأحوالهم وصفاتهم لتعتبروا ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي: الخطاب وما يتلى عليم ويقال لكم. ثم يقول تعالى معلماً محذراً ها أنتم أيها المسلمون تحبونهم ولا يحبونكم. قد علم الله أن من بين المؤمنين من يحب بعض الكافرين لعلاقة الإحسان الظاهرة بينهم فأخبر تعالى عن هؤلاء كما أن رحمة المؤمن وشفقته قد تتعدى حتى لأعدائه فلذا ذكر تعالى هذا وأخبر به وهو الحق، وقال: ﴿وَتُؤْمِنُونَ﴾ أي: وهم لا يؤمنون بكتابكم فانظروا إلى الفرق بينكم وبينهم فكيف إذاً تتخذونهم بطانة تفضون إليهم بأسراركم. وأخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا لقوا المؤمنين قالوا إنا مؤمنون وإذا تفرقوا عنهم وخلوا بأنفسهم ذكروهم وتغيظوا عليهم حتى يعضوا
٢ هذه الجملة وإن كانت صفة لكلمة بطانة، فهي معنى العلة للنهي السابق.
٣ خصت الأفواه بالذكر دون الألسن إشارة إلى أنهم يتشدقون بالكلام إيهاماً وتضليلاً.
٤ استدل أهل العلم بهذه الآية على أن شهادة العدو لا تصح على عدوه، وكيف به إذا كان كافراً؟.
هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (١١٨) والثانية (١١٩) وأما الآية الثالثة (١٢٠) فقد تضمنت أيضاً بيان صفة نفسية للكافرين المنهي عن اتخاذهم بطانة وهو استياؤهم وتألمهم لما يرونه من حسن حال المسلمين كائتلافهم واجتماع كلمتهم ونصرهم وعزتهم وقوتهم وسعة رزقهم، كما هو أيضاً فرحهم وسرورهم بما قد يشاهدونه من خلاف بين المسملين أو وقوع هزيمة لجيش من جيوشهم، أو تغير حال عليهم بما يضر ولا يسر وهذه نهاية العداوة وشدة البغضاء، فهل مثل هؤلاء يتخذون أولياء؟. فقال تعالى: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ٣ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾. ولما وصف تعالى هؤلاء الكفرة بصفات مهيلة مخيفة، قال لعباده المؤمنين مبعداً الخوف عنهم: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على ما يصيبكم وتتقوا الله تعالى في أمره ونهيه وفي سننه في خلقه لا يضركم٤ كيدهم شيئاً، لأن الله تعالى وليكم مطلع على تحركاتهم وسائر تصرفاتهم وسيحبطها كلها، دل على هذا المعنى قوله في الجملة التذيلية ﴿إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية، والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم لما في ذلك من الضرر الكبير.
٢- بيان رحمة المؤمنين وفضلهم على الكافرين.
٣- بيان نفسيات الكافرين وما يحملونه من إرادة الشر والفساد للمسلمين.
٤- الوقاية من كيد الكفار ومكرهم تكمن في الصبر والتجلد وعدم إظهار الخوف للكافرين
٢ الأنامل: جمع أنملة، وهي طرف الأصبع الأعلى.
٣ هذا من شدة حسدهم للمسلمين، ولقد أحسن من قال:
كل العداوة قد ترجى إفاقتها | إلا عداوة من عداك من حسد |
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ : أي: واذكر إذ غدوت، والغدو: الذهاب أول النهار.
﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ : أهل الرجل زوجه وأولاده. ومن لابتداء الغاية إذ خرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صباح السبت من بيته إلى أحد حيث نزل المشركون به١ يوم الأربعاء.
﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ : تنزل المجاهدين الأماكن التي رأيتها صالحة للنزول فيها من ساحة المعركة.
﴿هَمَّتْ﴾ : حدثت نفسها بالرجوع إلى المدينة وتوجهت إرادتها إلى ذلك.
﴿طَائِفَتَانِ﴾ : هما بنو سلمة، وبنو حارثة من الأنصار.
﴿تَفْشَلا﴾ : تضعفا وتعودا إلى ديارهما تاركين الرسول ومن معه يخوضون المعركة وحدهم.
﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ : متولي أمرهما وناصرهما ولذا عصمهما من ترك السير إلى المعركة.
﴿بِبَدْرٍ﴾ : بدر اسم رجل وسمي المكان به؛ لأنه كان له فيه ماء وهو الآن قرية تبعد عن المدينة النبوية بنحو من مائة وخمسين ميلاً "كيلو متر".
﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ : لقلة عددكم وعُددِكُم وتفوق العدو عليكم.
لما حذر الله تعالى المؤمنين من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق، وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئاً ذكرهم بموقفين: أحدهما لم يصبروا فيه ولم يتقوا فأصابتهم الهزيمة وهو غزوة أحد، والثاني صبروا فيه واتقوا فانتصروا وهزموا عدوهم وهو غزوة بدر، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ أي: اذكر يا رسولنا لهم غدوك صباحاً من بيتك إلى ساحة المعركة بأحد، تبوء المؤمنين مقاعد للقتال، أي: تنزلهم الأماكن الصالحة للقتال الملائمة لخوض المعركة، والله سميع لكل الأقوال التي دارت بينكم في شأن الخروج إلى العدو، أو عدمه وقتاله داخل١ المدينة عليم بنياتكم وأعمالكم
ومن ذلك هم بنى سلمه وبنى حارثة بالرجوع من الطريق لولا أن الله سلم فعصمهما من الرجوع لأنه وليهما. هذا معنى قوله تعالى: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا﴾ أي تجبنا وتحجما عن ملاقاة العدو، والله وليهما فعصمهما من ذنب٢ الرجوع وترك الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخوض المعركة بدون جناحيها وهما بنو حارثة وبنو سلمة ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فتوكلت الطائفتان على الله وواصلتا سيرهما مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلمهما الله من شر ذنب وأقبحه.
والحمد لله.
هذا موقف والمقصود منه التذكير بعدم الصبر وترك التقوى فيه حيث أصاب المؤمنين فيه شر هزيمة واستشهد من الأنصار سبعون ومن المهاجرين أربعه وشج٣رأس صلى الله علية وسلم وكسرت رباعيتة واستشهد عمه حمزة٤ رضى الله عنة.
والموقف الثاني هو غزوة بدر حيث صير فيها المؤمنون واتقوا أسباب الهزيمة فنصرهم الله وأنجز لهم ما وعدهم لأنهم صبروا واتقوا، فقتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين وغنموا غنائم طائلة قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ٥ أَذِلَّةٌ﴾ فاتقوا الله بالعمل بطاعته، ومن ذلك
٢ روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال فينا نزلت: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾ قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة، وبنو سلمة. وما أحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل: ﴿وَاللهُ وَلِيُّهُمَا﴾.
٣ الذي رمى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشج وجهه: هو ابن قميئة، أقماه الله ولعنه. والذي أدمى شفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكسر رباعيته: هو عتبة ابن أبي وقاص، أخو سعد بن أبي وقاص.
٤ وقتل حمزة: وحشي، كانت تحرضه على قتل حمزة: هند بنت عتبة، وتقول له: إيهاً أبا دسمة أشف واستشف (والدسمة: غبرة في سواد).
٥ كانت غزوة بدر في السابع عشر من رمضان يوم جمعة، وكان جيش العدو بها ما بين التسعمائة إلى الألف، وجيش المسلمين ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وغزوة بدر أول غزوة غزاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فضيلة الصبر والتقوى وأنهما عدة الجهاد في الحياة.
٢- استحسان التذكير بالنعم والنقم للعبرة والاتعاظ.
٣- ولاية الله تعالى للعبد تقيه مصارع السوء، وتجنبه الأخطار.
٤- تقوى الله تعالى بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه هي الشكر الواجب على العبد.
﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (١٢٧) ﴾
شرح الكلمات:
﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ﴾ : الاستفهام انكاري١، أي: ينكر عدم الكفاية. ومعنى يكفيكم يسد حاجتكم.
﴿الْمَلائِكَةِ﴾ : واحدهم ملاك وهم عباد الله مكرمون مخلقون من نور لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
﴿بَلَى﴾ : حرف إجابة، أي: يكفيكم.
﴿مِنْ فَوْرِهِمْ١ هَذَا﴾ : أي: من وجههم في وقتهم هذا.
﴿مُسَوِّمِينَ﴾ : معلمين بعلامات تعرفونهم بها.
﴿إِلا بُشْرَى لَكُمْ﴾ : البشرى: الخبر السار الذي يتهلل له الوجه بالبشر والطلاقة.
﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ : اطمئنان القلوب سكونها وذهاب الحروف والقلق عنها.
﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً﴾ : الطرف الطائفة، يريد ليهلك من جيش العدو طائفة.
﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ : أي: يخزيهم ويذلهم.
﴿فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ﴾ : يرجعوا إلى ديارهم خائبين لم يحرزوا النصر الذي أملوه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تذكير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين بما تم لهم من النصر في موقف الصبر والتقوى في بدر فقال: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ٢﴾ عندما بلغهم وهم حول المعركة أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين برجاله يقاتلون معهم فشق ذلك على أصحابه فقلت: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ أي: يكفيكم. ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ٣ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ أي: من وجههم ووقتهم هذا ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ﴾ بعلامات وإشارات خاصة بهم، ولما انهزم كرز قبل تحركه وقعد عن إمداد قريش بالمقاتلين لم يمد الله تعالى رسوله والمؤمنين بما ذكر من الملائكة فلم يزدهم على الألف التي أمدهم بها لما استغاثوه في أول المعركة جاء ذلك في سورة
٢ ذهب بعض المفسرين؛ كمجاهد، وعكرمة، وغيرهما أن قوله تعالى: ﴿إِذْ تَقُول للمؤمنين﴾ إلخ، كان يوم أحد فهو وعد لهم بالمدد المذكور من الملائكة على شرط الصبر والتقوى، فلما لم يصبروا ولم يتقوا كما هو معلوم لم يمدهم بالعدد المذكور من الملائكة، وما ذهبنا إليه في التفسير أقرب إلى الواقع، والله أعلم.
٣ أي: المشركون من أصحاب كرز.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد وهو عدم صبرهم وإخلالهم بمبدأ التقوى إذ عصى الرماة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزلوا من الجبل يجرون وراء الغنيمة هذا على تفسير أن الوعد بالثلاثة آلاف وبالخمسة كان بأحد٢، وكان الوعد مشروطاً بالصبر والتقوى فلما لم يصبروا ولم يتقوا لم يمدهم بالملائكة الذين ذكر لهم.
٢- النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد وقوة العدة فإنه بيد الله تعالى فقد ينصر الضعيف ويخذل القوى، فلذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولاً قبل إعداد العدد. وتحقيق الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله ثم التوكل على الله عز وجل.
٣- ثبوت قتال الملائكة مع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بدر قتالاً حقيقياً؛ لأنهم نزلوا في صورة بشر يقاتلون على خيول، وعليهم شاراتهم وعلاماتهم. ولا يقولن قائل٣: الملك الواحد يقدر على أن يهزم ملايين البشر، فكيف يعقل اشتراك ألف ملك في قتال المشركين وهم لا يزيدون عن الألف رجل، وذلك أن الله تعالى أنزلهم في صورة بشر٤ فأصبحت صورتهم وقوتهم قوة
٢ وهو الراجح من قولي المفسرين: كابن جرير، وغيره.
٣ قاله الأصم، كأنه فعلاً أصم فلم يسمع كلام الله تعالى، واسم هذا الأصم أبو بكر، وهو من أهل الاعتزال، وإذاً فلا غرابة في إنكاره.
٤ بدل لذلك قوله تعالى: ﴿مسومين﴾، فالمسوّم: ذو السمة، أي: العلامة، وذلك أن البطل المقاتل يجعل على رأسه أو على رأس فرسه ريشاً ملوناً يرمز به إلى أنه لا يخاف أن يعرفه عدوه حتى لا يسدد إليه سهامه.
﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) ﴾
شرح الكلمات:
﴿الأَمْرِ﴾ : الشأن والمراد هنا توبة الله على الكافرين أو تعذيبهم.
رشَيْءٌ} : شيء نكرة متوغلة في الإيهام. وأصل الشيء: ما يعلم ويخبر به.
﴿أَوْ﴾ : هنا بمعنى حتى، أي: فاصبر حتى يتوب عليهم أو يعذبهم.
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ : أي: مالكاً وخلقاً وعبيداً يتصرف كيف يشاء ويحكم كما يريد.
﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا﴾ : لا مفهوم للأكل بل كل تصرف بالربا حرام سواء كان أكلاً أو شرباً أو لباساً.
﴿الرِّبا١﴾ : لغة: الزيادة، وفي الشرع نوعان: ربا فضل وربا نسيئة، ربا الفضل: يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل أي الزيادة ويحرم التأخير،
﴿أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً﴾ : لا مفهوم لهذا؛ لأنه خرج مخرج الغالب، إذ الدرهم الواحد حرام كالألف، وإنما كانوا في الجاهلية يؤخرون الدين ويزيدون مقابل التأخير حتى يتضاعف الدين فيصبح أضعافاً كثيرة.
﴿تُفْلِحُونَ﴾ : تنجون من العذاب وتظفرون بالنعيم المقيم في الجنة.
﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ : هيئت وأحضرت للمكذبين لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ : لترحموا فلا تُعذبوا بما صدر منكم من ذنب المعصية. معنى الآيات:
صح١ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قد دعا على أفراد من المشركين بالعذاب، وقال يوم أحد لما شج رأسه وكسرت رباعيته: "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيه م؟ " فأنزل الله تعالى عليه قوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ أي: فاصبر حتى يتوب٢ الله تعالى عليهم أو يعذبهم بظلمهم فإنهم ظالمون ولله ما في السموات وما في الأرض ملكاً وخلقاً يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد فإن عذب فبعدله، وإن رحم فبفضله، وهو الغفور لمن تاب الرحيم بمن أناب.
هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (١٢٨) والثانية (١٢٩) وأما الآية الثالثة (١٣٠) فإن الله تعالى نادى عباده المؤمنين بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام بأن يتركوا أكل الربا وكل تعامل به فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً﴾ إذ كان الرجل يكون عليه دين ويحل أجله ولم يجد ما يسدد به فيأتي إلى دائنه ويقول أخر ديني٣ وزد عليّ وهكذا للمرة الثانية والثالثة حتى يصبح الدين بعد ما كان عشراً عشرين وثلاثين. وهذا معنى قوله: ﴿أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً﴾، ثم أمرهم بتقواه عز وجل
٢ لما نزلت الآية وفيها: ﴿أو يتوب عليهم﴾ وهي تحمل إطماعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إسلامهم قال: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، روى مسلم عن ابن مسعود قوله: "كأني أنظر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكى نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
٣ هذا إن كان الطالب التاجر المدين أما إن كان المطالب هو الدائن فإنه يقول له: أتقضي أم تُربي؟.
وفي الآية الرابعة (١٣١) أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدها للكافرين فهي مهيئة محضرة لهم، واتقاؤها يكون بطاعته تعالى وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عز وجل: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ١﴾، أي: المكذبين بالله ورسوله فلذا لم يعلموا بطاعتهما لأن التكذيب مانع من الطاعة، وفي الآية الأخيرة (١٣٢) أمرهم تعالى بطاعته وطاعة رسوله وودعهم على ذلك بالرحمة في الدنيا والآخرة وكأنه يشير٢ إلى الذين عصوا رسول الله في أحد وهم الرماة الذين تخلوا عن مراكزهم الدفاعية فتسبب عن ذلك هزيمة المؤمنين أسوأ هزيمة فقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي: كي يرحمكم فيتوب عليكم ويغفر لكم ويدخلكم دار السلام والنعيم المقيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استقلال الرب تعالى بالأمر كله فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد.
٢- الظلم مستوجب للعذاب ما لم يتدارك الرب العبد بتوبة فيتوب ويغفر له ويعفو عنه.
٣- حرمة أكل الربا مطلقاً مضاعفاً كان أو غير مضاعف.
٤- بيان الجاهلية إذ هو هذا الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: ﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبا﴾.
٥- وجوب التقوى لمن أراد الفلاح في الدنيا والآخرة.
٦- وجوب اتقاء النار ولو بشق تمرة٣.
٧- وجوب طاعة الله ورسوله للحصول على الرحمة الإلهية وهي العفو والمغفرة ودخول الجنة.
٢ وعليه فآية تحريم الربا هي: معترضة في سياق الحديث عن غزوة بدر وأحد وفي هذا الاعتراض جماله وحسن وقعه في النفوس، ومن فوائده دفع السآمة عن السامع، إذا استمر الكلام في موضوع واحد.
٣ حديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" رواه البخاري في صحيحه ورواه غيره.
شرح الكلمات:
﴿وَسَارِعُوا١﴾ : المسارعة إلى الشيء المبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخ.
﴿إِلَى مَغْفِرَةٍ﴾ : المغفرة: ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها. والمراد هنا: المسارعة إلى التوبة بترك الذنوب، وكثرة الاستغفار وفي الحديث: "ما من رجل يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر الله إلا غفر له" ٢.
﴿وَجَنَّةٍ﴾ : الجنة دار النعيم فوق السموات، والمسارعة إليها تكون بالإكثار من الصالحات.
﴿أُعِدَّتْ﴾ : هيئت وأحضرت فهي موجودة الآن مهيأة.
﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ : المتقون هم الذين اتقوا الله تعالى فلم يعصوه بترك واجب ولا
٢ أخرجه الطبراني عن علي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
﴿فِي السَّرَّاءِ١ وَالضَّرَّاءِ﴾ : السراء: الحال المسرة وهي اليسر والغنى، والضراء: الحال المضرة وهي الفقر.
﴿وَالْكَاظِمِينَ٢ الْغَيْظَ﴾ : كظم الغيظ: حبسه، والغيظ: ألم نفسي يحدث إذا أوذي المرء في بدنه أو عرضه أو ماله، وحبس الغيظ: عدم إظهاره على الجوارح بسبب أو ضرب ونحوهما للتشفي والانتقام.
﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ : العفو عدم المؤاخذة للمسيء مع القدرة على ذلك.
﴿يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ : المحسنون هم الذين يبرون ولا يسيئون في قول أو عمل.
﴿فَاحِشَةً﴾ : الفاحشة: الفعلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنى وكبائر الذنوب.
﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ : بترك واجب أو فعل محرم فدنسوها بذلك فكان هذا ظلماً لها.
﴿وَلَمْ يُصِرُّوا٣﴾ : أي: يسارعون إلى التوبة، لأن الإصرار هو الشد على الشيء والربط عليه مأخوذ من الصر، والصرة معروفة.
﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ : أي: أنهم مخالفون للشرع بتركهم ما أوجب، أو بفعلهم ما حرم.
﴿وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ : الذي هو الجنة.
معنى الآيات:
لما نادى الله تعالى المؤمنين ناهياً لهم عن أكل الربا آمراً لهم بتقواه عز وجل، وباتقاء النار وذلك بترك الربا وترك سائر المعاصي الموجبة لعذاب الله تعالى، ودعاهم إلى طاعته وطاعة رسوله كي يرحموا في دنياهم وأخراهم. أمرهم في الآية الأولى (١٣٣) بالمسارعة إلى شيئين
٢ يقول كضمت السقاء، أي: ملأته وسدت عليه، والكضامة: ما يسد به السقاء.
٣ ذكر القرطبي هنا مسألة، وهي: من وطن نفسه على فعل ذنب فإنه يؤاخذ به، ولو لم يفعله لعجز قام به وهو مصر على فعله، واستشهد بقوله تعالى: ﴿وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ﴾ يعني: أصحاب الجنة الذين عزموا على قطع ثمارها، دون إعطاء المساكين منها، كما استشهد بحديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". وكلامه في الجملة صحيح ولكن من ترك ما أصر عليه خوفاً من الله تعالى سيكتب له حسنة لحديث: "من هم بسيئة فلم يعملها كتب له عند الله حسنة".
هذا ما تضمنته الآية الأولى، وأما الآيتان الثانية والثالثة (١٣٥) فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام فقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله، وفي كل أحايينهم من غنى وفقر وعسر ويسر، وقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ٢ الْغَيْظَ﴾ وصف لهم بالحلم والكرم النفسي، وقوله: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ٣ النَّاسِ﴾ وصف لهم بالصفح والتجاوز عن زلات الآخرين تكرماً، وفعلهم هذا إحسان ظاهر ومن هنا بشروا بحب الله تعالى لهم فقال تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ كما هو تشجيع على الإحسان وملازمته في القول والعمل وقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ وصف لهم بملازمة ذكر الله وعدم الغفلة، ولذا إذا فعلوا فاحشة ذنباً كبيراً أو ظلموا أنفسهم بذنب٤ دون الفاحش ذكروا وعيد الله تعالى ونهيه علما فعلوا، فبادروا إلى التوبة وهي الإقلاع عن الذنب والندم عن الفعل والعزم على عدم العودة إليه، واستغفار الله تعالى منه. وقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ٥﴾ وصف لهم بعدم الإصرار، أي: المواظبة على الذنب وعدم تركه وهم يعلمون أنه ذنب ناتج عن تركهم لواجب أو فعلهم محرم، وأما الآية الرابعة (١٣٦) فقد تضمنت بأن جزائهم على إيمانهم وتقواهم وما اتصفوا به من كمالات نفسية، وطهارة روحية ألا وهو مغفرة ذنوبهم، كل ذنوبهم
٢ ورد في كظم الغيظ أحاديث منها: "ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
٣ ورد في فضل العفو أحاديث كثيرة منها: "من سر أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه". رواه الحاكم وصححه. ومنها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله".
٤ في الصحيحين، قال عثمان: أنه توضأ لهم وضوء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: "سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم لا صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه".
٥ أي: أن من تاب تاب الله عليه. هكذا روي عن مجاهد ولا يتنافى مع ما فسرنا به الآية، وورد "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها لقوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا﴾.
٢- سعة١ الجنة، وأنها مخلوقة الآن لقوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ﴾.
٣- المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق.
٤- فضل استمرار الإنفاق في سبيل الله، ولو بالقليل.
٥- فضيلة خلة كظم الغيظ بترك المبادرة إلى التشفي والانتقام.
٦- فضل العفو عن الناس مطلقاً مؤمنهم وكافرهم، بارهم وفاجرهم.
٧- فضيلة الاستغفار وترك الإصرار على المعصية للآية والحديث: " ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة". رواه الترمذي وأبو داود وحسنه ابن كثير.
﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) ﴾
﴿قَدْ خَلَتْ﴾ : خلت: مضت.
﴿سُنَنٌ١﴾ : جمع سنة، وهي السيرة والطريقة التي يكون عليها الفرد أو الجماعة، وسنن الله تعالى في خلقه قانونه الماضي في الخلق.
﴿فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ﴾ : الأمر للإرشاد، للوقوف على ديار الهالكين الغابرين لتعتبروا.
﴿عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ : عاقبة أمرهم، وهي ما حل بهم من الدمار والخسار كعاد وثمود.
﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾ : أي: ما ذكر في الآيات بيان للناس به يتبينون الهدى من الضلال وما لازمهما من الفلاح، والخسران.
﴿وَمَوْعِظَةٌ﴾ : الموعظة: الحال التي يتعظ بها المؤمن فيسلك سبيل النجاة.
﴿وَلا تَهِنُوا﴾ : لا تضعفوا.
﴿قَرْحٌ﴾ : القرح: أثر السلاح في الجسم؛ كالجرح، وتضم القاف فيكون بمعنى الألم.
﴿الأَيَّامُ٢﴾ : جمع يوم والليالي معها، والمراد بها ما يجريه الله من تصاريف الحياة من خير وغيره، وإعزاز وإذلال.
﴿شُهَدَاءَ٣﴾ : جمع شهيد وهو المقتول في سبيل الله، وشاهد: وهو من يشهد على غيره.
﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ : ليخلص المؤمنين من أدران المخالفات وأوضار الذنوب.
﴿وَيَمْحَقَ﴾ : يمحو٤ ويذهب آثار الكفر والكافرين. معنى الآيات:
لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين بسب عدم الصبر، والطاعة اللازمة للقيادة ذكر تعالى تلك الأحداث مقرونة بفقهها لتبقى هدى موعظة للمتقين من المؤمنين وبدأها بقوله:
٢ تداولها بين الناس فرح وغم وصحة وسقم وفقر وانتصار وانكسار والدولة الكرة ومنه قول الشاعر:
فيوم لنا ويوم علينا | ويوماً نساء ويوماً نسر |
٤ قال ابن كثير في: ﴿ويمحق الكافرين﴾ أي: فإنهم إذا ظفروا بغواً وبطروا ويكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم.
٢ وعبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعثمان بن شماس.
٣ اصل التمحيص: تخليص الشيء من كل عيب، يقال: محصت الذهب؛ إذا أزلت خبثه.
إن هذا الدرس نفع المؤمنين فيما بعد فلم يخرجوا من طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض١ الجزيرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسار والوبال.
٢- في آي القرآن الهدى والبيان والمواعظ لمن كان من أهل الإيمان والتقوى.
٣- أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة.
٤- الحياة دول وتارات فليقابلها المؤمن بالشكر والصبر.
٥- الفتن تمحص الرجال، وتودي بحياة العاجزين الجزعين.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ
شرح الكلمات:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ : بل أظننتم فلا ينبغي أن تظنوا هذا الظن فالاستفهام إنكاري.
﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ : ولم يبتلكم بالجهاد حتى يعلم علم ظهور١ من يجاهد منكم ممن لا يجاهد كما هو عالم به في باطن الأمر وخفيه.
﴿خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ﴾ : أي مضت من قبله الرسل بلغوا رسالتهم وماتوا.
﴿أَفَإِنْ مَاتَ٢ أَوْ قُتِلَ﴾ : ينكر تعالى على من قال عندما أشيع أن النبي قتل: "هيا بنا نرجع إلى دين قومنا"، فالاستفهام منصب على قوله: ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ لا على فإن مات أو قتل، وإن دخل عليها.
﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ : رجعتم عن الإسلام إلى الكفر.
﴿كِتَاباً مُؤَجَّلاً٣﴾ : كتب تعالى آجل الناس مؤقتة يمواقيتها فلا تتقدم ولا تتأخر.
﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ : الثواب: الجزاء على النية والعمل معاً، وثواب الدنيا الرزق وثواب الآخرة الجنة.
﴿الشَّاكِرِينَ﴾ : الذين ثبتوا على إسلامهم فاعتبر ثباتهم شكراً لله، وما يجزيهم به هو الجنة ذات النعيم المقيم، وذلك بعد موتهم.
٢ مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين في وقت دخوله المدينة مهاجراً وذلك ضحى حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء أول ليلة الأربعاء، قال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أضاء منها كل شيء، ولما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من دفن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنكرنا قلوبنا.
٣ ﴿كتاباً﴾ : منصوب على المصدر، أي: كتب ذلك كتاباً، ومؤجلاً: نعت.
ما زال السياق متعلقاً بغزوة أحد فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد إيمانهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكاذبين فيها، كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين فقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ ثم عابهم تعالى على قلة صبرهم وانهزامهم في المعركة مذكراً إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر، وفاتهم فيها ما حازه من حضرها من الأجر والغنيمة بأنهم إذا قُدر لهم قتال في يوم ما من الأيام يبلون فيه البلاء الحسن فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا وما صبروا وفروا منهزمين فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ١ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ أي: فلما انهزمتم وما وفيتم ما واعدتم أنفسكم به؟ هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (١٤٢) والثانية (١٤٣)، وأما الآية الثالثة (١٤٤) فقد تضمنت عتاباً شديداً لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما اشتدت المعركة وحمي وطيسها واستحر القتل في المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من ورائهم وضرب ابن قميئة –أقمأه الله- رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحجر في وجهه فشجه وكسر رباعيته، وأعلن أنه قتل محمداً فانكشف المسلمون وانهزموا، وقال من قال منهم لم نقاتل وقد مات رسول الله، وقال بعض المنافقين نبعث إلى ابن أبي رئيس المنافقين يأتي يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان، ونعود إلى دين قومنا!! فقال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ٢ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ وما دام رسولاً كغيره من الرسل، وقد مات الرسل قبله فلم ينكر موته، أو يندهش له إذاً؟ بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في المعركة "قتل محمد" ففروا هاربين إلى المدينة، ومنهم من أعلن ردته في صراحة وهم المنافقون، فقال تعالى: ﴿أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ فعاتبهم
٢ لما قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام عمر في الناس وقال: "أن الرسول لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي وأرجل أقوام" وكان في دهشة عظيمة حتى جاء أبو بكر من العوالي فدخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مسجي فكشف الغطاء عن وجهه وقبله بين عينيه ثم خرج فسمع ما قال عمر فرقي المبنر وقال: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وقرئ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ الآية. فرجع عمر إلى رشده واعترف بموت نبيه وبكاه.
هذا ما تضمنته الآية الثالثة أما الرابعة (١٤٥) فقد تضمنت حقيقتين علميتين:
الأولى: أن موت الإنسان متوقف حصوله على إذن الله خالقه ومالكه فلا يموت أحد بدون علم الله تعالى بذلك فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن الله تعالى له بذلك، وشي آخر وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلاً عن اليوم والساعة، وذلك في كتاب١ خاص، فليس من الممكن أن يتقدم أجل إنسان أو يتأخر بحال من الأحوال، هذه حقيقة يجب أن تعلم، من قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً﴾.
والثانية: أن من دخل المعركة يقاتل باسم الله فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فالله عز وجل يؤتيه من الدنيا ما قدره له، وليس له من ثواب الآخرة شيء، وإن كان يريد ثواب الآخرة لا غير، فالله عز وجل يعطيه في الدنيا ما كتب له ويعطيه ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم وأن الله تعالى سيجزي الشاكرين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هذه الحقيقة التي تضمنها قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الابتلاء بالتكاليف الشرعية الصعبة منها والسهلة من ضروريات الإيمان.
٢- تقرير رسالة النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبشريته المفضلة، وموتته المؤلمة٢ لكل مؤمن٣.
٢ رثت صفية عمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الله بآيات دلت على مدى ما أصاب المؤمنين من حزن وألم بفراق نبيهم نذكر منها ثلاث أبيات، وهي:
أفاطم صلى الله رب محمد | على حدث أمسى بيثرب ثاويا |
فدى لرسول الله أمي وخالتي | وعمي وآبائي ونفسي وماليا |
فلو أن رب الناس أبقى نبياً | سعدنا ولكن أمره كان ماضيا |
٤- ثواب الأعمال موقوف على نية العاملين وحسن قصدهم.
٥- فضيلة الشكر بالثبات على الإيمان والطاعة لله ورسوله في الأمر والنهي.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧) فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَكَأَيِّنْ١ مِنْ نَبِيٍّ﴾ : كثير من الأنبياء. وتفسر: كأين بكم وتكون حينئذ للتكثير.
﴿رِبِّيُّونَ٢﴾ : ربانيون علماء وصلحاء وأتقياء عابدون.
﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ﴾ : ما ضعفوا عن القتال ولا انهزموا لأجل ما أصابهم من قتل وجراحات.
﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ : ما خضعوا ولا ذلوا لعدوهم.
الإسراف: مجاوزة الحد في الأمور ذات الحدود التي أن يوقف عندها.
﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ : أعطاهم الله تعالى ثواب الدنيا النصر والغنيمة.
﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ : الذين يحسنون نياتهم فيخلصون أعمالهم لله، ويحسنون أعمالهم فيأتون بها موافقة لما شرعت عليه في كيفياتها وأعدادها وأوقاتها.
٢ في الربيين ثلاث لغات: كسر الراء وضمها وفتحها، وهم الجماعة الكثيرة. والواحد: ربي، بكسر الراء وضمها أيضاً، وما ذكرناه في التفسير هو الحق.
ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد فذكر تعالى هنا ما هو في تمام عتابه للمؤمنين في الآيات السابقة عن عدم صبرهم وانهزامهم وتخليهم عن نبيهم في وسط المعركة وحده حتى ناداهم: إليّ عباد الله إليّ عباد الله فثاب إليه رجال. فقال تعالى مخبراً بما يكون عظة للمؤمنين وعبرة لهم: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ﴾ أي: وكم من نبي من الأنبياء السابقين قاتل معه جموع كثيرة من العلماء والأتقياء والصالحين فما وهنوا، أي: ما ضعفوا، ولا ذلوا لعدوهم ولا خضعوا له كما هم بعضكم أن يفعل أيها المؤمنون، فصبروا على القنال مع أنبيائهم متحملين آلام القتل والجرح فأحبهم ربهم تعالى لذلك لأنه يحب الصابرين.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٤٦) ونصها: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا١ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ وأما الآية الثانية فأخبر تعالى فيها عن موقف أولئك الربيين وحالهم أثناء الجهاد في سبيله تعالى فقال: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا٢ فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾. ولازم هذا كأنه تعالى يقول للمؤمنين لم لا تكونوا أنتم مثلهم وتقولوا قولتهم الحسنة الكريمة وهي الضراعة لله تعالى بدعائه واستغفاره لذنوبهم الصغيرة والكبيرة والتي كثيراً ما تكون سبباً للهزائم والانتكاسات كما حصل لكم أيها المؤمنون فلم يكن لأولئك الربانيين من قول سوى قولهم: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، فسألوا الله مغفرة ذنوبهم وتثبيتهم أقدامهم في أرض المعركة حتى لا يتزلزلوا فينهزموا، والنصرة على القوم الكافرين أعداء الله وأعدائهم فاستجاب لهم ربهم فأعطاهم ما سألوا وهو ثواب الدنيا بالنصر والتمكين وحسن ثواب الآخرة وهو رضوانه الذي أحله عليهم وهم في الجنة دار المتقين والأبرار، هذا ما دلت عليه الآية الأخيرة (١٤٨) ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ٣ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
٢ أخرج مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني" وهو دعاء تواضع منه عظيم.
٣ في حسن الثواب والمحسنين جناس تام، والجملة تذييلية تحمل البشرى للقوم المحسنين في قتالهم ولقاء أعدائهم مع إحسانهم في عبادة ربهم وسواء منها القلبية والبدينة.
من هداية الآيات:
١- الترغيب في الاتساء١ بالصالحين في إيمانهم وجهادهم وصبرهم وحسن أقوالهم.
٢- فضيلة الصبر والإحسان، يحب الله تعالى الصابرين والمحسنين.
٣- فضيلة الاشتغال بالذكر٢ والدعاء عند المصائب والشدائد بدل التأوهات وإبداء التحسرات والتمنيات، وشر من ذلك التصخت والتضجر والبكاء والعويل.
٤- كرم الله تعالى المتجلي في استجابة دعاء عباده الصابرين المحسنين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ : المراد من طاعة الكافرين قبول قولهم والأخذ باراشادتهم.
﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ : يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان.
﴿خَاسِرِينَ﴾ : فاقدين لكل خير في الدنيا، ولأنفسكم وأهليكم يوم القيامة.
٢ شاهده ما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، الصلاة أكبر مظهر لذكر الله تعالى، ومن الذكر المشروع عند المصائب قول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
﴿الرُّعْبَ﴾ : شدة الخوف من توقع الهزيمة والمكروه.
﴿وَمَأْوَاهُمُ﴾ : مقر إيوائهم ونزولهم.
﴿مَثْوَى﴾ : المثوى مكان الثوى، وهو الإقامة والاستقرار.
﴿الظَّالِمِينَ﴾ : المشركين الذين أطاعوا غير الله تعالى وعبدوا سواه. معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث١ غزوة أحد، فقد روى أن بعض المنافقين لما رأى هزيمة المؤمنين في أحد، قال في المؤمنين ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم، ولو كان محمد نبياً لما قتل إلى آخر ما من شأنه أن يقال في تلك الساعة الصعبة من الاقتراحات التي قد كشف عنها هذا النداء الإلهي للمؤمنين، وهو يحذرهم من طاعة الكافرين بقوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ٢ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ فلا شك أن الكافرين قد طالبوا المؤمنين بطاعته بتنفيذ بعض الاقتراحات التي ظاهرها النصح وباطنها الغش والخديعة، فنهاهم الله تعالى عن طاعتهم في ذلك وهذا النهي وإن نزل في حالة خاصة، فإنه عام في المسلمين على مدى الحياة، فلا يحل طاعة الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم وفي كل ما يأمرون به أو يقترحونه، ومن أطاعهم ردوه عن دينه إلى دينهم فينقلب: يرجع خاسراً في دنياه وآخرته، والعياذ بالله. هذا ما تضمنته الأولى (١٤٩) وأما الآية الثانية (١٥٠) فقد تضمنت الأمر بطاعته تعالى، إذ هو أولى بذلك لأنه ربهم ووليهم ومولاهم، فهو أحق بطاعتهم من الكافرين، فقال تعالى: ﴿بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ٣﴾ فأطيعوه، ولا تطيعوا أعداءه وإن أردتم أن تطلبوا النصر بطاعة الكافرين فإن الله تعالى خير الناصرين فاطلبوا النصر منه بطاعته فإنه ينصركم، وفي الآية الثالثة (١٥١) لما امتثل المؤمنون أمر ربهم فلم يطيعوا
٢ وجه المناسبة هو أنه لما أمر تعالى المؤمنين بالإقتداء بالصالحين من أتباع الأنبياء، وذلك بالصبر والاحتساب حذرهم في هذه الآيات من اتباع الكافرين وقبول ما يطلبون ويقترحونه عليه فإنه مفضي بهم إلى الكفر أولاً ثم إلى الإثم والخسران ثانياً.
٣ قرئ بنصب اسم الجلالة، ويكون معمولاً لفعل مقدر وتقديره: بل أطيعوا الله مولاكم فهو أحق بطاعته من الكافرين والمنافقين، وفي هذا رد على من قال ساعة الهزيمة: لو كلمنا ابن أبي يأخذ لنا أمناً من أبي سفيان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تحرم طاعة الكافرين في حال الاختيار٣.
٢- بيان السر في تحريم طاعة الكافرين، وهو أنه يترتب عليها الردة. والعياذ بالله.
٣- بيان قاعدة من طلب النصر من غير الله أذله الله.
٤- وعد الله المؤمنين بنصرهم بعد إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، إذ هم أبو سفيان بالعودة إلى المدينة بعد انصرافه من أحد ليقضي عمن بقى في المدينة من الرجال، كذا سولت له نفسه، ثم ألقى الله تعالى في قلبه الرعب فعدل عن الموضوع بتدبير الله تعالى.
٥- بطلان كل دعوى ما لم يكن لأصحابها حجة وهي المعبر عنها بالسلطان٤ في الآية إذ الحجة يثبت بها الحق ويناله صاحبه بواسطتها.
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ
٢ لقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، والكافرون مشركون بلا شك.
٣ أما في حال الإكراه فإن من لم يطق العذاب يرخص له في إعطائهم ما طلبوا منه على شرط أن يكون كارهاً بقلبه ساخطاً في نفسه غير راضٍ عنهم ولا عن صنيعهم وذلك للآية: ﴿إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ﴾.
٤ السلطان: الحجة لأن الحق يؤخذ بالحجة ويؤخذ بالسلطان، وهل السلطان مأخوذ من السليط، وهو ما يضاء السراج، وهو دهن السمسم، وسمي الحاكم سلطاناً للاستضاءة به في إظهار الحق وقمع الباطل؟ نعم، وجائز.
شرح الكلمات:
﴿صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ١﴾ : أنجزكم ما وعدكم على لسان رسوله بقوله للرماة اثبتوا أماكنكم فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم.
﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ : تقتلونهم إذ، الحس: القتل. يقال: حسه، إذا قتله فأبطل حسه.
﴿بِإِذْنِهِ﴾ : بإذنه لكم في قتالهم وبإعانته لكم على ذلك.
﴿فَشِلْتُمْ﴾ : ضعفتم وجبنتم عن القتال.
﴿تُصْعِدُونَ٢﴾ : تذهبون في الأرض فارين من المعركة، يقال: أصعد إذا ذهب في صعيد الأرض.
﴿وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ : لا تلوون رؤوسكم على أحد تلتفتون إليه.
﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ : أي: يناديكم من خلفكم إليَّ عباد الله ارجعوا إليّ عباد الله ارجعوا.
٢ صعد يصعد، إذا طلع المنبر أو سطحاً، وأصعد يصعد إصعاداً، إذا سار في بطن الأرض أو الوادي جرياً على صعيد الأرض فكان الإصعاد إبعاداً في الأرض.
﴿مَا فَاتَكُمْ﴾ : من الغنائم.
﴿وَلا مَا أَصَابَكُمْ﴾ : من الموت والجراحات والآلام والأتعاب. معنى الآيتين:
ما زال السياق في أحداث أحد، فقد تقدم في السياق قريباً نهى الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون، ويشيرون به عليهم. ووعدهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب الكافرين، وقد فعل فله الحمد حيث عزم أبو سفيان على أن يرجع إلى المدينة ليقتل من بها ويستأصل شأفتهم، فأنزل الله تعالى في قلبه وقلوب أتباعه الرعب فعدلوا عن غزو المدينة مرة ثانية، وذهبوا إلى مكة. ورجع الرسول والمؤمنون من حمراء الأسد، ولم يلقوا أبا سفيان وجيشه. وفي هاتين الآيتين يخبرهم تعالى بمنته عليهم حيث أنجزهم ما وعدهم من النصر، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ٢ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾، وذلك أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بوأ الرماة مقاعدهم. وكانوا ثلاثين رامياً وجعل عليهم عبد الله بن جبير أمرهم بأن لا يبرحوا أماكنهم كيفما كانت الحال، وقال لهم: إنا لا نزال غالبين ما بقيتم في أماكنكم ترمون العدو فتحمون ظهورنا بذلك، وفعلاً دارت المعركة وأنجز الله تعالى لهم وعده ففر المشركون أمامهم تاركين كل شيء هاربين بأنفسهم والمؤمنون يحسونهم حساً، أي: يقتلونهم قتلاً بإذن الله وتأييده لهم، ولما رأى الرماة هزيمة المشركين والمؤمنون يجمعون الغنائم، قالوا: ما قيمة بقاءنا هنا، والناس يغنمون فهيا بنا ننزل إلى ساحة المعركة لنغنم، فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتأولوه ونزلوا إلى ساحة المعركة يطلبون الغنائم، وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد، فما رأى الرماة أخلوا مراكزهم إلا قليلاً منهم كر بخيله عليهم فاحتل أماكنهم وقتل من بقي فيها، ورمى المسلمين من ظهورهم فتضعضعوا لذلك، فعاد المشركون إليهم ووقعوا بين الرماة الناقمين والمقاتلين الهاجئين، قوقعت الكارثة فقتل سبعون من المؤمنين ومن
٢ في هذه الآية عود إلى التسلية على ما أصابهم وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بهم.
٢ نعم انهزم المشركون في أول المعركة حتى شوهدت نسائهم عن سوقهن هاربات في أعلى الجبل خوفاً من الأسر، ومن بينهم هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان.
٣ إرادة الدنيا وحدها غير معصية ولكن ما ترتبت عنها من ترك طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطالب الدنيا إذا طلبها من حلها ولم يخل طلبه بواجب ولم يحمله على فعل حرام لا يأثم ولا يلام.
٤ لما تمت الهزيمة جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع بعض أصحابه على صخرة من سفح أحد فجاء أبو سفيان فارتفع على نشز من الأرض، وقال: أفي القوم محمد؟ فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجيبوه" ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجيبوه". ثم قال: أفي القوم عمر؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تجيبوه". ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فقال له عمر: كذبت يا عدوا الله، فقد أبقى لك الله من يخزيك به. فقال: أعل هبل. مرتين. فأجابوه بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلين. الله أعلى وأجل. فقال: لنا العزة ولا عزة لكم. فقالوا بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله مولانا ولا مولى لكم.
وقوله تعالى: ﴿لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ﴾ أي: ما أصابكم بالغم الثاني الذي هو خبر قتل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحات فأنساكم الغم الثاني ما غمكم به الغم الأول الذي هو فوات النصر والغنيمة. وقوله: ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يخبرهم تعالى أنه بكل ما حصل منهم من معصية وتنازع وفرار، وترك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المعركة وحده وانهزامهم وحزنهم خبير مطلع عليه عليم به وسيجزي به المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أو يعفو عنه، والله عفو كريم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- مخالفة القيادة الرشيدة والتنازع في حال الحرب يسبب الهزيمة١ المنكرة.
٢- معصية الله ورسوله والاختلافات بين أفراد الأمة تعقب أثاراً سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب الدولة والسلطان٢.
٣- ما من مصيبة تصيب العبد إلا وعند الله ما هو أعظم منها، فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم.
٤- ظاهر هزيمة أحد النقمة وباطنها النعمة، وبيان ذلك أن علم المؤمنون أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها.
٥- بيان حقيقة كبرى وهي أن معصية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة واحدة وفي شيء واحد ترتب عليها ألم وجراحات وقتل وهزائم وفوات خير كبير وكثير، فكيف بالذين يعصون رسول الله طوال حياتهم وفي كل أوامره ونواهيه، وهم يضحكون ولا يبكون، وآمنون غير خائفين٣.
٢ شاهد هذا حال المسلمين اليوم، وقبل اليوم أنهم بعد أن عصوا الله ورسوله بالإعراض عن شرع الله وإهمال أحكامه والتعصب للمذاهب والرضا بالانقسام والخلاف حل بهم ما حل من الذل والهون والدون.
٣ هذه حال أكثر المسلمين اليوم ومنذ قرون عدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكذا لم يبرحوا أذلاء تابعين للكافرين لا يستقلون في عمل أو تدبير.
شرح الكلمات:
﴿أَمَنَةً نُعَاساً١﴾ : الأمنة: الأمن، والنعاس: استرخاء يصيب الجسم قبل النوم.
﴿يَغْشَى٢ طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾ : يصيب المؤمنين ليستريحوا ولا يصيب المنافقين.
﴿أَهَمَّتْهُمْ٣ أَنْفُسُهُمْ﴾ : أي: لا يفكرون إلا في نجاة أنفسهم غير مكترثين بما أصاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ : هو اعتقادهم٤: أن النبي قُتل أو أنه لا ينصر.
﴿هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ﴾ : أي: ما لنا من الأمر من شيء.
٢ قرئ: يغشى بالياء، وهو عائد إلى النعاس، وقرئ: تغشى بالتاء ويعود على الأمنة.
٣ من أفراد هذه الطائفة: معتب بن قشير وأصحابه خرجوا طمعاً للغنيمة لا غير.
٤ قال ابن عباس: وهو تكذيبهم بالقدر.
﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ﴾ : لخرجوا من المدينة ظاهرين ليلقوا مصارعهم هناك.
﴿كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ : يريد كتب في كتاب المقادير، أي: اللوح المحفوظ.
﴿مَضَاجِعِهِمْ﴾ : جمع مضجع، وهو مكان النوم، والاضطجاع والمراد المكان الذي صرعوا في قتلى.
﴿وَلِيَبْتَلِيَ١﴾ : ليختبر.
﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ : التمحيص: التمييز وهو إظهار شيء من شيء كإظهار الإيمان من النفاق، والحب من الكره.
﴿اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ : أوقعهم في الزلل وهو الخطيئة والتي كانت الفرار من الجهاد.
معنى الآيتين:
ما زال الساق في الحديث عن غزوة أحد فأخبر تعالى في الآية الأولى (١٥٣) عن أمور عظام: الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين أنزل على أهل اليقين خاصة أمناً كاملاً فذهب الخوف عنهم حتى أن أحدهم٢ لينام والسيف في يده فيسقط من يده ثم يتناوله، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ﴾، والثاني: أن أهل الشرك والنفاق حرمهم الله تعالى من تلك الأمنة فما زال الخوف يقطع قلوبهم، والغم يسيطر على أنفسهم وهم لا يفكرون إلا في أنفسهم كيف ينجون من الموت، وهم المعنيون بقوله تعالى: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ٣ أَنْفُسُهُمْ﴾، والثالث: أن الله تعالى قد كشف عن سرائرهم، فقال: ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، والمراد من ظنهم بالله غير الحق ظن المشركين أنهم يعتقدون أن الإسلام باطل وأن محمداً ليس رسولاً، وأن المؤمنين سيهزمون ويموتون وينتهي الإسلام ومن يدعو إليه. والرابع: أن الله تعالى قد كشف سرهم فقال عنهم: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ٤ شَيْءٍ﴾ هذا القول قالوه سراً فيما بينهم، ومعناه ليس لنا من الأمر من شيء
٢ قال أبو طلحة والزبير وأنس: غشينا النعاس حتى إن السيف ليسقط من يد أحدنا فيتناوله من الأرض.
٣ حدثتهم أنفسهم بما يدخل الهم عليهم، وهو تكذيبهم بالقدر والحرص على نجاتهم وحزنهم على ما فاتهم من الغنيمة، وهذه كلها موجبات الهم والغم.
٤ هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: ﴿يظنون بالله غير الحق﴾. لأن ظنهم مشتمل على قولهم: ﴿هَلْ لَنا من الأَمر مِنْ شَيئْ﴾ أي: ليس لنا من الأمر من شيء. وهذا القول قاله: ابن أبي بما سمع باستشهاد من استشهد من الخزرج.
هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية (١٥٤) فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن حقيقة واحدة ينبغي أن تعلم وهي أن الذين فروا من المعركة لما اشتد القتال وعظم الكرب، الشيطان هو الذي أوقعهم في هذه الزلة، وهي توليهم عن القتال بسبب٣ بعض الذنوب كانت لهم، ولذا عفا الله عنهم ولم يؤاخذهم بهذه الزلة، وذلك لأن الله غفور حليم، فلذا يمهل عبده حتى يتوب فيتوب عليه ويغفر له، ولو لم يكن حليماً لكان يؤاخذ لأول الذنب والزلة فلا يمكن أحداً من التوبة والنجاة. هذا معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ أي: عن القتال، يوم التقى الجمعان، أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين بأحد. ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ٤ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا
٢ أي: بنافع، ولكن طلب الحذر من جملة الأسباب المطلوب اتخاذها طاعة لله، والله يقول: {خُذواْ حِذْرَكم﴾، وإنما لما يقع ما قدره الله تعالى ولم ينفع في رده حذر وجب الرضا به والتسليم لله في إجراءه على مقتضى مراده، وعليه فلا أسف ولا حزن ولا سخط، إذ ما قضاه الله هو الخير والخير كله.
٣ في هذه الآية بيان بسبب الهزيمة الخفي، وهو مخالفة أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث تركوا مواقعهم ونزلوا لطلب الغنيمة، والمراد إلقاء تبعة الهزيمة عليهم، إذ هم السبب فيها.
٤ استزلهم: أي: أزلهم بمعنى جعلهم زالين، والزلل: إن كان معناه: انزلاق القدم وسقوط صاحبها، فإن معناها هنا: الوقوع في الذلة التي هي الخطيئة، والسين والتاء في استزلهم للتأكيد، مثل: استفاد كذا واستنشق الماء أو الهواء: ﴿واسْتَغْنَى الله﴾.
هداية الايتين
من هداية الآيتين:
١- إكرام الله تعالى لأولياءه بالأمان الذي أنزله في قلوبهم.
٢- إهانة الله تعالى لأعدائه بحرمانهم مما أكرم به أولياءه وهم في مكان واحد.
٣- تقرير مبدأ القضاء والقدر، وأن من كتب موته في مكان لا بد وأن يموت فيه.
٤- أفعال الله تعالى لا تخلو أبداً من حكم عالية فيجب التسليم لله تعالى والرضا بأفعاله في خلقه.
٥- الذنب يولد الذنب، والسيئة تتولد عنها سيئة أخرى، فلذا وجبت التوبة من الذنب فوراً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) ﴾
شرح الكلمات:
﴿آمَنُوا﴾ : صدقوا الله ورسوله فيما أخبرا به من وعد ووعيد.
﴿لإِخْوَانِهِمْ﴾ : هذه أخوة العقيدة لا أخوة النسب، وهي هنا أخوة النفاق.
﴿ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ﴾ : ضربوا في الأرض بأقدامهم مسافرين١ للتجارة غالباً.
الحسرة٢: ألم يأخذ بخناق النفس بسبب فوت مرغوب أو فقد محبوب. معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ونتائجها المختلفة، ففي هذه الآية (١٥٦) ينادي الله المؤمنين الصادقين في إيمانهم بالله ورسوله ووعد الله تعالى ووعيده يناديهم٣ لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية وهو من ذلك قول الكافرين لإخوانهم في الكفر: إذ هم ضربوا في الأرض لتجارة أو لغزو فمات من مات منهم أو قتل من قتل بقضاء الله وقدره، لو كانوا عندنا، أي: ما فارقونا وبقوا في ديارنا ما ماتوا وما قتلوا وهذا دال على نفسية الجهل ومرض الكفر، وحسب سنة الله تعالى فإن هذا القول منهم يتولد، لهم عنه بإذنه تعالى غم نفسي وحسرات قلبية تمزقهم، وقد تودي بحياتهم، وما درى أولئك الكفرة الجهال أن الله يحيي ويميت، فلا السفر ولا القتال يميتان، ولا القعود في البيت جبناً وخوراً يحيي، هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ وقوله تعالى في ختام هذه الآية: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ في وعد للمؤمنين إن انتهوا عما نهاهم عنه في الآية ووعيد إن لم ينتهوا فيجزيهم بالخير خيراً، وبالشر إن لم يعفوا شراً. أما الآية الثانية (١٥٧) فإن الله تعالى يبشر عباده المؤمنين مخبراً إياهم بأنهم إن قتلوا في سبيل الله أو ماتوا فيه يغفر لهم ويرحمهم وذلك خير مما يجمع الكفار من حطام الدنيا ذلك الجمع للحطام الذي جعلهم يجبنون على القتال والخروج في سبيل الله فقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ٤ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ٥ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ٦﴾، وفي الآية الثالثة (١٥٨) يؤكد تلك الخيرية التي تضمنتها الآية السابقة فيقول: ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ﴾
٢ والحسرة: شدة الأسف على الحزن.
٣ في نداء الله المؤمنين بعنوان الإيمان، وهي صفة جامعة لهم فيه تلطف بعد تقريع فريق منهم، وهم الذين تولوا عن القتال يوم التقى الجمعان.
٤ اللام موطئة للقسم: أي: مؤذنة بأن قبلها قسماً مقدراً، واللام: ﴿المَغْفِرة﴾ هي في جواب القسم الذي هو المغفرة.
٥ أهل الحجاز يقولون: متم بكسر الميم، نحو: نمتم من نام ومات وغيرهم يقولون: مُتم بضم الميم في متم، ونمتم، نحو: كنتم وقلتم.
٦ قرئ: ﴿تَجْمَعون﴾ بالتاء، أي: أنتم أيها المؤمنون: ﴿ويَجمَعوُن﴾ بالياء، أي: الكافرون والمنافقون.
هداية الآيات:
١- حرمة التشبه بالكفار ظاهراً وباطناً.
٢- الندم يولد الحسران والحسرة غم وكرب عظيمان، والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه من حطام الدنيا.
٣- موتة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها.
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿لِنْتَ لَهُمْ﴾ : كنت رفيقاً بهم، تعاملهم بالرفق واللطف.
﴿فَظّاً﴾ : خشناً في معاملتك شرساً في اختلافك وحاشاه٢ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿لانْفَضُّوا﴾ : تفرقوا وذهبوا تاركينك وشأنك.
﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾ : يريد إن زلوا أو أساءوا.
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ : اطلب مشورتهم في الأمر ذي الأهمية؛ كمسائل الحرب والسلم.
٢ ومن صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة كما في رواية البخاري أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. والغليظ القلب: من قلت شفقته وعزت رحمته، كما قال الشاعر:
يبكى علينا ولا نبكي على أحد...
لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
ما زال السياق في الآداب والنتائج المترتبة على غزوة أحد، ففي هذه الآية (١١٩) يخبر تعالى عما وهب رسوله من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر فيقول: ﴿فَبِمَا١ رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ﴾ أي: فبرحمة من عندنا رحمناهم بها لنت٢ لهم، ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً﴾ أي: قاسياً جافاً جافياً قاسي القلب غليظة ﴿لانْفَضُّوا مِنْ٣ حَوْلِكَ﴾ أي: تفرقوا عنك، وحرموا بذلك سعادة الدارين. وبناء على هذا فاعف٤ عن مسيئهم، واستغفر لمذنبهم، وشاور ذي الرأي منهم، وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة فاعزم على تنفيذه متوكلاً على ربك فإنه يحب المتوكلين، والتوكل: الإقدام على فعل ما أمر الله تعالى به أو أذن فيه بعد إحضار الأسباب الضرورية له. وعدم التفكير فيما يترتب عليه بل يفوض أمر النتائج إليه تعالى.
هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية (١٦٠) فقد تضمنت حقيقة كبرى يجب العلم بها والعمل دائماً بمقتضاها، وهي أن النصر بيد الله، والخذلان كذلك فلا يطلب نصر إلا منه تعالى، ولا يرهب خذلان إلا منه عز وجل، وطلب نصره هو إنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له، وتحاشي خذلانه تعالى يكون بطاعته والتوكل عليه هذا ما دل عليه قوله تعالى في هذه الآية: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
١- كمال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخلقي.
٢- فضل الصحابة رضوان الله عليهم وكرامتهم على ربهم سحانه وتعالى.
٣- تقرير مبدأ المشورة بين٥ الحاكم وأهل الحل والعقد في الأمة.
٢ وذلك لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعنف الذين تولوا يوم أحد بل رفق بهم. فأخبر تعالى أن ذلك كان بتوفيق منه عز وجل لرسوله.
٣ قيل: يمنعهم الحياء والاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم، وهذا شأن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٤ هذا الترتيب مقصود فأولاً: يعفو عنهم لما كان بينه وبينهم. وثانياً: يتستغفر الله لهم لم كان بينهم وبين ربهم من تبعات. وبعد هذا الإعداد يصبحون أهلاً للمشورة فيشاورهم.
٥ الاستشارة مأخوذة من شرت الدابة، إذا علمت خبرها كجري ونحوه، ويقال للموضع الذي تركض فيه المشوار، قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام. من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. وقد قيل: ما ندم من استشار ومن أعجب برأيه ضل. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار ولا عال من اقتصد".
٥- طلب النصر من غير الله خذلان، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله عز وجل.
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) ﴾
شرح الكلمات:
﴿أَنْ يَغُلَّ﴾ : أي: يأخذ من الغنيمة خفية، إذ الغل والغلول بمعنى السرقة من الغنائم قبل قسمتها.
﴿تُوَفَّى﴾ : تجزى ما كسبته في الدنيا وافياً تاماً يوم القيامة.
﴿رِضْوَانَ اللهِ﴾ : المراد به ما يوجب رضوانه من الإيمان والصدق والجهاد.
وسخط الله: غضبه الشديد على الفاسقين عن أمره المؤذين لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ : هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ : بما يرشدهم إليه من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والآداب العالية.
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ : كل قول صالح نافع أبداً ومنه السنة النبوية. معنى الآيات:
الغل والغلول١ والإغلال بمعنى واحد، وهو أخذ المرء شيئاً من الغنائم قبل قسمتها وما دام السياق في غزوة أحد، فالمناسبة قائمة بين الآيات وهذه، ففي الآية الأولى (١٦١) ينفي تعالي أن يكون من شأن الأنبياء أو مما يتأتى صدوره عنهم الإغلال وضمن تلك أن أتباع الأنبياء يحرم عليهم أن يغلوا، ولذا قرئ في السبع أن يُغل بضم٢ الياء وفتح الغين، أي: يفعله أتباعه بأخذهم من الغنائم بدون إذنه. هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل وقال: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئاً يأت به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة كما يبين ذلك في الحديث٣، ثم يحاسب عليه كغيره ويجزي به، كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ولا تظلم نفس شيئاً لغنى الرب تعالى عن الظلم وعدله. هذا مضمون الآية الأولى، أما الثانية (١٦٢) ينفي تعالى أن تكون حال المتبع لرضوان الله تعالى بالإيمان به ورسوله وطاعتهما بفعل الأمر واجتناب النهي، كحال المتبع لسخط الله تعالى بتكذيبه تعالى وتكذيب رسوله ومعصيتهما بترك الواجبات وفعل المحرمات فكانت جهنم مأواه، وبئس المصير جهنم. هذا معنى قوله تعالى: ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ ثم ذكر تعالى أن كلاً من
٢ فتح الياء قراءة حفص، وهي رد على من تصور أن النبي في إمكانه أن يأخذ شيئاً من الغنيمة قبل قسمتها فأخبر تعالى أنه من غير الممكن أن يغل النبي لعصمة الله تعالى لأنبياءه، وقراءة الضم قراءة نافع، وهي: تحرم على اتباع النبي الغلول بصيغة بليغة، إذ تجعل غلولهم من قبيل المعتذر الذي لا يحدث.
٣ في صحيح مسلم أن أبا هريرة قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: "لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أعنى، فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبغلتك، ثم ذكر الفرس والشاة والنفس والرقاع". والرقاع: جمع رقعة وهي ما يكتب عليها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تحريم٤ الغلول، وأنه من كبائر الذنوب٥.
٢- طلب رضوان الله واجب، وتجنب سخطه واجب كذلك، والأول يكون بالإيمان وصالح الأعمال والثاني يكون بترك الشرك والمعاصي.
٣- الإسلام أكبر نعمة وأجلها على المسلمين فيجب شكرها بالعمل به والتقيد بشرائعه وأحكامه.
٤- فضل العلم بالكتاب والسنة.
٢ من هنا: بمعنى أسدى النعمة للمؤمنين، ببعثة الرسول فيهم، وليس هو من المن المذموم الذي هو تعداد النعمة إلى أن الله تعالى له أن يمن وهو أمن من كل من، من وأعطى.
٣ قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: هذه للعرب خاصة: إذ فهمت من كلمة: ﴿مِنْ أَنْفسهم﴾ إنها تعنى من جنسهم العربي، وبعضهم يرى العموم فيها لكل مؤمن ومؤمنة وهو كذلك، إذ هو بشر مثلهم.
٤ شاهده قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الذي غل الشملة يوم خييبر: "والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم تشتعل عليها ناراً". ولما سمع هذا الوعيد أحد الأصحاب جاء بشراك أو شراكين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شراك أو شراكين من نار" رواه مالك في الموطأ.
٥ الإجماع على أن الغال لا تقطع يده ولكن يعذر، والغلول لا يكون إلا في الغنائم وسمى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدايا العمال غلولاً ويفضحون بها يوم القيامة، لحديث مسلم في قصة ابن اللتبية.
شرح الكلمات:
المصيبة: إحدى المصائب: ما يصيب الإنسان من سوء وأسوأها مصيبة الموت.
﴿مِثْلَيْهَا﴾ : ضعفيها إذ قتلوا في بدر سبعين من المشركين وأسروا١ سبعين.
﴿أَنَّى هَذَا﴾ : أي: من أين أتانا الذي أتانا من القتل والهزيمة.
﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ : أي: بإرادته تعالى وتقديره يربط المسببات بأسبابها.
﴿نَافَقُوا﴾ : أظهروا من الإيمان مالا يبطنون من الكفر.
﴿أَوِ ادْفَعُوا﴾ : أي: ادفعوا العدو عن دياركم وأهليكم وأولادكم، إن لم تريدوا ثواب الأخرة.
﴿فَادْرَأُوا﴾ : أي: ادفعوا
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ : في دفع المكروه بالحذر.
ما زال السياق الكريم في أحدث غزوة أحد ففي الآية الأولى: ينكر الله تعالى على المؤمنين قولهم بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة: ﴿أَنَّى١ هَذَا﴾ أي: من أي وجه جاءت هذه المصيبة ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل الله ومع رسوله؟ فقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا٢ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ بأحد قد أصبتم مثليها ببدر، لأن ما قتل من المؤمنين بأحد كان سبعين، وما قتل المشركين ببدر كان سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً، وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحييهم: قل هو من عند أنفسكم، وذلك بمعصيتكم لرسول الله خالف الرماة أمره، وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة تاركين القتال. وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إشعار بأن الله تعالى أصابهم بما أصابهم به عقوبة لهم حيث لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٦٥)، أما الآيات الثلاث بعدها فقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يخبر تعالى المؤمنين أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع المؤمنين وجمع المشركين في ساحة المعركة كان بقضاء الله وتدبيره، وعلته إظهار المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة وأنهم صادقون في إيمانهم، ولذا قال تعالى: وليعلم المؤمنين علم انكشاف وظهور كما هو معلوم له في الغيب وباطن الأمور هذا أولاً، وثانياً: ليعلم الذين نافقوا فأظهروا الإيمان والولاء لله ولرسوله والمؤمنين ثم أبطنوا الكفر والعداء لله ورسوله والمؤمنين، فقال عنهم في الآيتين الثالثة (١٦٧) والرابعة (١٦٨) ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ وهم عبد الله إبي بن سلول رئيس المنافقين وعصابته الذين رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة، وقد قال عبد الله بن حرام والد جابر تعالوا قاتلوا في سبيل الله رجاء ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غاز يريد قتلكم إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم. فأجابوا قائلين: لو نعلم قتالاً سيتم لاتبعناكم، فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾ إذ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ حتى من أنفسهم يعلم أنهم يكتمون عداوة الله ورسوله والمؤمنين وإرادة السوء بالمؤمنين، وأن قلوبهم
٢ الاستفهام هنا للإنكار والتعجب لأن قولهم: ﴿أَنْى هَذا﴾ مما ينكر ويتعجب منه، وذلك أن سبب المصيبة غير خاف ولا غامض فهو ظاهر مكشوف وهو عصيانهم للقيادة بمخالفة أمرهم، ولما: اسم زمان مضمن معنى الشرط، وقلتم: هو الجزاء.
من هداية الآيات:
١- المصائب٢ ثمرة الذنوب.
٢- كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه.
٣- قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة هاوية الكفر.
٤- الحذر لا يدفع٣ القدر.
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) ﴾
شرح الكلمات:
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ﴾ : ولا تظنن.
﴿قُتِلُوا﴾ : استشهدوا.
﴿أَحْيَاءٌ﴾ : يحسون ويتنعمون في نعيم الجنة بالطعام والشراب.
٢ قال تعالى من سورة الشورى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي: من الذنوب والمعاصي.
٣ ومع أنه لا يدفع القدر فإن استعماله واجب لقوله تعالى: ﴿خُذوا حِذْرَكم﴾.
﴿أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ : لما وجدوا من الأمن التام عند ربهم.
﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ : على ما خلفوا وراءهم في الدنيا لما نالهم من كرامة في الجنة.
﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ : يفرحون.
﴿وَفَضْلٍ﴾ : وزيادة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة أحد فقال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ١﴾ أي: لا تظنن الذين استشهدوا من المؤمنين في أحد وغيرها أمواتاً لا يحسون ولا يتنعمون بطيب الرزق ولذيذ العيش بل هم أحياء عند ربهم يرزقون أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش. إنهم فرحون بما أكرمهم٢ الله تعالى به، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين خلفوهم في الدنيا على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم لم يخافوا ولم يحزنوا لأجل ما يصيرون إليه من نعيم الجنة وكرامة الله تعالى لهم فيها. إن الشهداء جميعاً مستبشرون فرحون بما ينعم٣ الله عليهم ويزيدهم وبأنه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين شهداء وغير شهداء بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الشهداء أحياء والمؤمنون أحياء في الجنة غير أن حياة الشهداء أكمل.
٢- الشهداء٤ يستبشرون بالمؤمنين الذين خلفوهم على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم نالهم من الكرامة والنعيم ما نالهم هم قبلهم.
٢ مما ورد في فضل الشهيد: أن الله تعالى يغفر له كل ذنب أذنبه إلا الدين، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "القتيل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين، كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفاً". قال العلماء: الدين يشمل كل الحقوق المتعلقة بالذمة.
٣ روى الترمذي وصححه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "للشهيد عند الله ست خصال. يغفر له في دفعه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفرع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتي وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه".
٤ الإجماع على أن شهيد المعركة بين الكفار والمسلمين: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه لحديث البخاري: "وادفنوهم بدمائهم" يعنى شهداء أحد ولا يغسلهم، والعلة في عدم غسلهم: أن دمائهم يوم القيامة كريح المسك.
﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) ﴾
شرح الكلمات:
﴿اسْتَجَابُوا١﴾ : اجابوا الدعوة وقبلوا الأمر.
﴿الْقَرْحُ٢﴾ : ألم الجراحات.
﴿أَحْسَنُوا﴾ : أعمالهم وأقوالهم أتوا بها وفق الشرع وأحسنوا إلى غيرهم.
﴿وَاتَّقَوْا﴾ : ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه فيما أمرهم به أو نهاهم عنه.
﴿جَمَعُوا لَكُمْ﴾ : جمعوا الجيوش لقتالكم.
﴿حَسْبُنَا اللهُ﴾ : يكفينا الله ما أرادونا به من الأذى.
﴿وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ : نعم الوكيل الله نوكل إليه أمورنا ونفوضها إليه.
انقلبوا: رجعوا من حمراء الأسد إلى المدينة.
أولياء الشيطان: أهل طاعته والاستجابة إليه فيما يدعوهم إليه من الشر والفساد.
٢ أخرج أصحاب الصحاح عن عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قال له: كان أبواك من الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح. وتعني بأبويه: الزبير وأبا بكر الصديق رضي الله عنهما.
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد وما لابسها من أمور وأحوال والآيات الأربع كلها في المؤمنين الذين حضروا غزوة أحد يوم السبت وخرجوا في طلب أبي سفيان يوم الأحد وعلى رأسهم نبيهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى أن يرفع معنويات أصحابه الذين كلموا وهزموا يوم السبت بأحد، وأن يرهب أعداءه فأمر مؤذناً يؤذن بالخروج في طلب أبي سفيان وجيشه، فاستجاب المؤمنون وخرجوا وإن منهم للمكلوم والمجروح، وإن أخوين جريحين كان أحدهما يحمل أخاه على ظهره فإذا تعب وضعه فمشى قليلاً، ثم حمله حتى انتهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه إلى حمراء الأسد، وألقى الله تعالى الرعب في قلب أبي سفيان فارتحل هارباً إلى مكة، وقد حدث هنا أن معبداً الخزاعي١ مر بمعسكر أبي سفيان فسأله عن الرسول فأخبره أنه خرج في طلبكم وخرج معه جيش كبير وكلهم تغيظ عليكم، أنصح لك أن ترحل فهرب برجاله خوفاً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فأقام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحمراء الأسد برجاله كذا ليلة ثم عادوا لم يمسسهم سوء وفيهم نزلت هذه الآيات الأربع وهذا نصها:
الآية (١٧٢) ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ يريد في أحد واستجابوا: لبوا نداء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرجوا معه في ملاحقة أبي سفيان، ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم، إلا وهو الجنة الآية الثانية (١٧٣) ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ٢ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾. المراد من الناس القائلين هم: نفر من عبد القيس مروا بأبي سفيان وهو عازم على العودة إلى المدينة لتصفية المؤمنين بها في نظره فقال له أبو سفيان أخبر محمداً وأصحابه أني ندمت على تركهم أحياء بعدما انتصرت عليهم وإني جامع جيوشي وقادم عليهم، والمراد من الناس الذين جمعوا هم: أبو سفيان، فلما بلغ هذا الخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه زادهم٣ إيماناً فوق إيمانهم بنصر الله تعالى وولايته لهم، وقالوا: حسبنا الله، أي: يكفينا الله شرهم، ونعم الوكيل الذي يكفينا ما أهمنا
٢ روى البخاري عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: ﴿الذيِنَ قَاَل لَهْم النَاس﴾ إلى: ﴿وَنِعْمَ الوَكيِل﴾ قالها إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال لهم الناس: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾.
٣ الذي زادهم إيماناً: هو قول الناس: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ وهل الإيمان يزيد وينقص: الخلاف قديم في هذه القضية، والقول الذي تشهد له نصوص الكتاب والسنة، هو: أن الإيمان يقوى ويضعف، فإذا قوي زاد عمل المؤمن في الطاعات بفعل الحسنات وترك السيئات، وإذا ضعف قل عمله الصالح وزاد عمله الطالح، فيستدل على الإيمان قوة وضعفاً بمتعلقه وهو الطاعة والمعصية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فضل الإحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير.
٢- فضل أصحاب رسول الله على غيرهم، وكرامتهم على ربهم.
٣- فضل كلمة: ﴿حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ٣﴾، قالها رسول الله وقالها إبراهيم من قبل فصلى الله عليهما وسلم.
٤- بيان أن الشيطان يخوف٤ المؤمنين من أوليائه، فعلى المؤمنين أن لا يخافوا غير ربهم تعالى في الحياة، فيطيعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه، وهو حسبهم ونعم الوكيل لهم.
٢ الخوف من الله تعالى أمر الله به، وهو واجب على كل مؤمن، وحقيقته: أن يترك العبد ما يخاف أن يعذب عليه، وقيل: الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، وإنما من يترك ما يخاف أن يعذب به.
٣ الوكيل: فعيل، بمعنى: مفعول، أي: الموكول إليه الأمر.
٤ الشيطان: يكون من الجن ومن الإنس، فإن كان من الجن فتخويفه يكون بواسطة الواسوس، وإن كان من شياطين الإنس فتخويفه يكون بالكلام الشفوي الذي ظاهره النصح، وباطنه الخداع والغش.
شرح الكلمات:
الحزن: غم يصيب النفس لرؤية أو سماع ما يسوءه ويكرهه.
﴿الْكُفْرِ﴾ : الكفر: تكذيب الله تعالى ورسوله فيما جاء به الرسول وأخبر به.
﴿يُسَارِعُونَ﴾ : يبادرون.
﴿حَظّاً﴾ : نصيباً.
﴿اشْتَرَوُا الْكُفْرَ﴾ : اعتاضوا الكفر عن الإيمان.
﴿نُمْلِي لَهُمْ﴾ : الإملاء: الإمهال والإرخاء بعدم البطش وترك الضرب على أيديهم بكفرهم.
﴿إِثَّمَا﴾ : الإثم: كل ضار قبيح ورأسه: الكفر والشرك. معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد، ففي هذه الآيات الثلاث –وقد كشفت الأحداث عن أمور خطيرة، حيث ظهر النفاق مكشوفاً لا ستار عليه، وحصل من ذلك ألم شديد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين- يخاطب الله تعالى رسوله قائلاً له: لا يحزنك١ مسارعة هؤلاء المنافقين٢ في
٢ قيل في هؤلاء المسارعين في الكفر: إنهم المنافقون، وقيل: هم كفار قريش، وقيل: هم اليهود، واللفظ يشمل على ذلك، إذ الفئات الثلاث كلها كانت تسارع في الكفر بنصرته والعمل فيه وبه.
وأما الآية الثالثة (١٧٨) فقد تضمنت بطلان حسبان الكافرين أن الله تعالى عندما يمهلهم ويمد في أعمارهم ولم يعاجلهم بالعذاب أن ذلك خيرٌ لهم، لا، بل هو شر لهم، إذ كلما تأخروا يوماً اكتسبوا فيه إثماً فيقدر ما تطول حياتهم بعظم ذنبهم وتكثر آثامهم، وحيئنذ يوبقون ويهلكون هلاكاً لا نظير له قال تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ٣ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أي: ذو إهانة، لأنهم كانوا ذوي كبر وعلو في الأرض وفساد، فلذا ناسب أن يكون عذابهم اهانات لهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لا ينبغي للمؤمن أن يحزنه كفر كافر ولا فسق فاسق، لأن ذلك لا يضر الله تعالى شيئاً، وسيجزي الله الكافر والفاسق بعدله.
٢- لا ينبغي للعبد أن يغره إمهال الله له، وعليه أن يبادر بالتوبة من كل ذنب إذ ليس هناك إهمال وإنما هو إمهال.
٣- الموت للعبد٤ خير من الحياة؛ لأنه إذا كان صالحاً فالآخرة خير له من الدنيا وإن كان غير
٢ كرر لفظ: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئا﴾ لأجل التأكيد والتقرير حتى ييأس المنافقون والكافرون من إلحاق أي ضرر برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبدعوته، وشيئا: منصوب على المصدرية، أي: لن يضروا الله ضرراً قليلاً ولا كثيراً.
٣ فسر الإملاء بطول العمر ورغد العيش وهو كذلك مع إضافة عدم معاجلتهم بالعقوبة إنظاراً لهم.
٤ شاهده قول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له لأنه إن كان براً فقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ﴾، وإن كان فاجراً فقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً﴾ ". وروي مثله عن ابن عباس، أخرجه رزين.
﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) ﴾
شرح الكلمات:
﴿لِيَذَرَ﴾ : ليترك.
﴿يَمِيزَ﴾ : يميز ويبين.
﴿الْخَبِيثَ﴾ : من خبثت نفسه بالشرك والمعاصي.
﴿الطَّيِّبِ﴾ : من طهرت نفسه بالإيمان والعمل الصالح.
﴿الْغَيْبِ﴾ : ما غاب فلم يدرك بالحواس.
﴿يَجْتَبِي﴾ : يختار ويصطفي.
﴿يَبْخَلُونَ١﴾ : يمنعون ويضنون.
يطوقون به: يجعل طوقاً في عنق أحدهم. معنى الآيتين:
ما زال السياق في أحداث وقعة أحد، وما لازمها من ظروف وأحوال، فأخبر تعالى في هذه الآية (١٧٩) أنه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه فيهم المؤمن الصادق
٢ إذ العبرة ليست بمعرفة الغيب، وإنما العبرة بالنجاة من النار والفوز بالجنة، وعليه فأعرضوا عن المطالبة بمعرفة الغيب وأقبلوا على ما يحقق لكم نجاتكم وسعادتكم.
٣ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثْل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يؤخذ بلهزمتيه –يعني شدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ... ﴾ الآية.
من هداية الآيتين:
١- من حكم التكليف إظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب.
٢- استئثار الرب تعالى بعلم الغيب دون خلقه إلا ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك.
٣- ثمن الجنة الإيمان والتقوى.
٤- البخل بالمال شر لصاحبه، وليس بخير له كما يظن البخلاء.
٥- من أوتي مالاً ومنع حق الله فيه عذب به يوم القيامة دلت على ذلك هذه الآية وآية١ التوبة وحديث البخاري: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه –أي شدقيه- يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا الآية ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ... ﴾ الآية".
﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) ﴾
﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ١﴾ : هو عذاب النار المحرقة تحرق أجسادهم.
﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ : أي: ذلك العذاب بسبب ما قدمته أيديكم من الجرائم.
﴿عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ : أمرنا ووصانا في كتابنا "التوراة".
﴿أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ﴾ : أي: لا نتابعه، على ما جاء به ولا نصدقه في نبوته.
﴿بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ : القربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى من حيوان وغيره يوضع في مكان فتنزل عليه نار بيضاء من السماء فتحرقه.
﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ : الآيات والمعجزات.
﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ : أي: من القربان.
﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ : الاستفهام للتوبيخ، ومن قتلوا من الأنبياء: زكريا ويحي عليهما السلام.
﴿وَالزُّبُرِ﴾ : جمع زبور وهو الكتاب؛ كصحف إبراهيم.
﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ : الواضح البين؛ كالتوراة والزبور والإنجيل.
معنى الآيات:
لما نزل قول الله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ﴾ ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت "المدراس٢" واليهود به وهم يستمعون لأكبر علمائهم وأجل أحبارهم فنحاص فدعاه أبو بكر إلى الإسلام، فقال فنحاص: إن رباً يستقرض، نحن أغنى منه! ينهانا صاحبك عن الربا ويقبله فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب اليهودي، فجاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشكا أبا بكر فسأل الرسول أبا بكر قائلاً: "ما حملك على ما صنعت"؟ فقال إنه قال: إن الله فقير ونحن أغنياء. فأنكر اليهودي فأنزل٣ الله تعالى الآية ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾، أي: نكتبه أيضاً، ونقول لهم: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق﴾، وقولنا ذلك بسبب ما
٢ بيت المعلم من بني إسرائيل.
٣ إن من نزلت فيهم الآية لم يقتلوا الأنبياء وإنما قتلهم سلفهم ولكن برضاهم عن أسلافهم، وما صنعوا كان حكمهم حكم من قتل، لأن الرضا بالمعصية معصية. روى أن رجلاً حسن قتل عثمان عند الشعبي، فقال له الشعبي: "شاركت في دمه فجعل الرضا بالقتل قتلاً".
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- كفر اليهود وسوء أدبهم مع الله تعالى ومع أنبيائهم ومع الناس أجمعين.
٢- تقرير جريمة قتل اليهود للأنبياء وهي من أبشع الجرائم.
٤- تعزية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر والثبات أمام ترهات اليهود وأباطيلهم.
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (١٨٦) ﴾
شرح الكلمات:
﴿ذَائِقَةُ الْمَوْتِ٢﴾ : أي: ذائقة موت جسدها، أما هي فإنها لا تموت.
﴿تُوَفَّوْنَ﴾ : تعطون جزاء أعمالكم خيراً أو شراً وافية لا نقص فيها.
﴿زُحْزِحَ﴾ : نجي وأبعد.
﴿فَازَ﴾ : نجا من مرهوبه وهو النار، وظفر بمرغوبه وهو الجنة.
﴿مَتَاعُ الْغُرُورِ٣﴾ : المتاع: كل ما يستمتع به، والغرور: الخداع، فشبهت الدنيا بمتاع خادع غار صاحبه، لا يلبث أن يضمحل ويذهب.
٢ قرئ: ﴿ذائقة الموت﴾ بالإضافة، و ﴿ذائقة الموت﴾ بدونها، والأولى قراءة العامة، وهذا مما لا محيص للإنسان عنه. قال أمية بن الصلت:
من لم يمت عبطة يمت هرماً | للموت كأس والمرء ذائقها |
٣ يوضح معنى متاع الغرور: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما ترجع إليه"، والغرور مصدر أضيف إليه المتاع، فالمتاع: ما يتمتع به ثم يضمحل، وكونه للغرور زاد في التحذير منه، فلذا قال فيها قتادة: "الدنيا متاع متروك يوشك أن تضمحل بأهلها".
﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ : اليهود والنصارى.
﴿الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ : العرب.
﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ : يريد أن الصبر والتقوى من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليس فيها رخص ولا ترخيص بحال من الأحوال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعزية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، لقد جاء في الآية السابقة تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له، وفي هذه الآية أعظم تسلية وعزاء، إذ أخبر تعالى فيها بأن كل نفس مهما علت أو سفلت ذائقة الموت١ لا محالة، وإن الدنيا ليست دار جزاء وإنما هي دار كسب وعمل، ولذا قد يجرم فيها المجرمون ويظلم الظالمون، ولا ينالهم مكروه، وقد يحسن فيها المحسنون ويصلح المصلحون ولا ينالهم محبوب، وفي هذا تسلية عظيمة وأخرى: العلم بأن الحياة الدنيا بكل ما فيها لا تعدو كونها متاع الغرور، أي: متاع زائل غار ببهرجه وجمال منظره، ثم لا يلبث أن يذهب ويزول. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٨٥)، أما الآية الثانية (١٨٦) ففيها يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم لا محالة مختبرون في أموالهم وفي أنفسهم. في أموالهم بالحوائج، وبالواجبات، وفي أنفسهم بالمرض والموت والتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والحج والصيام، وإنهم لا بد وأن يسمعوا من أهل الكتاب والمشركين أذى كبيراً كما قال فنحاص: الله فقير٢ ونحن أغنياء أو كما قال النصارى: المسيح ابن الله، وكما قال المشركون: اللات والعزى ومناة آلهة مع الله. حثهم تعالى على الصبر
٢ قال ابن أبي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع إلى رحلك لا تؤذنا في مجالسنا. وكان كعب بن الأشرف ينظم القصائد يسب فيها المسلمون ويؤلب فيها عليهم الكافرين، بل كان يتشبب بنساء المؤمنين، ولذا أذن الرسول في اغتياله فقتله غيلة: محمد بن مسلمة، وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ليست الدار الدنيا بدار جزاء وإنما هي دار عمل.
٢- تعريف الفوز الحق وهو الزحزحة عن النار ودخول الجنة.
٣- بيان حقيقة هذه الحياة وأنها كمتاع خادع لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل.
٤- الابتلاء ضروري فيجب الصبر والتقوى فإنهما من عزائم الأمور لا من رخصها.
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ١ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) ﴾
شرح الكلمات:
الميثاق: العهد المؤكد باليمين.
﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ : اليهود والنصارى.
الكتمان: إخفاء الشيء وجحوده حتى لا يرى ولا يعلم.
﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ : ألقوه وطرحوه ولم يلتفتوا إليه، وهو ما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه من الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به من الإسلام.
﴿أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ : أي: يثني عليهم ويذكروا بخير وهم لم يفعلوا ما يوجب لهم ذلك.
﴿بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ﴾ : بمنجاة من العذاب في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في اليهود فيقول تعالى لنبيه، واذكر لهم إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وهم اليهود والنصارى أخذ على علمائهم العهد المؤكد بأن يبينوا للناس نعوت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابهم، وأن يؤمنوا به ويتابعوه على ما جاء به من الهدى ودين الحق وهو الإسلام، ولكنهم كتموه ونبذوه وراء ظهورهم فلم يلتفتوا إليه واستبدلوا بذلك ثمناً قليلاً وهو الجاه والمنصب والمال، قال تعالى: ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ وذم الله تعالى ذلك الثمن القليل فقال: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾، هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٨٧)، وأما الآية الثانية (١٨٨) ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا١ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. فإن الله تعالى يقول لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تحسبن يا رسولنا الذين يفرحون بما أتوا من الشر والفساد بتحريف كلامنا وتبديل أوامرنا وتغيير شرائعنا وهم مع ذلك يحبون أن يحمدهم الناس أي يشكروهم ويثنوا عليهم، ما لم يفعلوا من الخير والإصلاح إذ عملهم كان العكس وهو الشر والفساد من اليهود، ولا تحسبنهم بمفازة، أي: بمنجاة من العذاب، ولهم عذاب أليم يوم القيامة. وأما الآية الثالثة ١٨٩) فقد أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض، وأنه على كل شيء قدير فدلل بذلك على قدرته على البطش بالقوم والانتقام منهم، وأنه منجز وعيده لهم وهو عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة فقال: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
من هداية الآيات:
١- أخذ الله الميثاق على علماء أهل الكتاب ببيان الحق يتناول علماء١ الإسلام فإن عليهم أن يبثوا الحق ويجهروا به، ويحرم عليهم كتمانه٢ أو تأويله إرضاء للناس ليحوزوا على مكسب دنيوي مالاً أو جاهاً أو سلطاناً.
٢- لا يجوز للمسلم أن يحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والمعروف، بل من الكمال أن لا يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن يحمد. بل بمن يفعل الشر والفساد ويحب أن يحمد عليه بالتصفيق٣ له وكلمة يحي فلان...
٣- ملك الله تعالى لكل شيء وقدرته على كل شيء توجب الخوف منه والرغبة إليه وأكثر الناس عن هذا غافلون، وبه جاهلون.
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (١٩٢) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ
٢ شاهده ما جاء من طرق متعددة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من سُئل عن عمل فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار". وشاهده أيضاً: حديث البخاري: "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة".
٣ هذا حال الكثير من زعماء أمة الإسلام في عصور انحطاطها وفساد عقائدها وأخلاقها وانحراف سلوكها نتيجة كيد المجوس لها واليهود والنصارى كذلك.
شرح الكلمات:
﴿فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ : أي: في وجودهما من العدم.
﴿وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ : تعاقبهما هذا يجيء وذاك يذهب، هذا مظلم وذاك مضيء.
﴿لآياتٍ﴾ : دلائل واضحة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
﴿لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ : أصحاب العقول التي تُدرك بها الأشياء وتفهم بها الأدلة.
﴿رَبَّنَا﴾ : يقولون: ربنا إلخ...
﴿بَاطِلاً﴾ : لا لشيء مقصود منه، وإنما هو من باب اللعب.
﴿سُبْحَانَكَ١﴾ : تنزيهاً لك عن العبث واللعب، وعن الشريك والولد.
﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ : أجرنا واحفظنا من عذاب النار بتوفيقك لنا للأعمال الصالحة وتجنيبنا الأعمال الفاسدة الموجبة لعذاب النار.
﴿أَخْزَيْتَهُ﴾ : أذللته وأشقيته
﴿الأَبْرَارِ﴾ : جمع بر أو بار، وهم المتمسكون بالشريعة.
﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾ : على ألسنة رسلك من النصر والتأييد.
﴿الْمِيعَادَ﴾ : الوعد.
﴿هَاجَرُوا﴾ : تركوا بلادهم وديارهم وأموالهم وأهليهم فراراً بدينهم.
﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ : آذاهم المشركون من أجل الإيمان بي ورسولي وطاعتنا.
﴿ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ : أي: أجراً جزاء كائناً من عند الله، وهو الجنات بعد تكفير السيئات.
معنى الآيات:
لما قال اليهود تلك المقالة السيئة: إن الله تعالى فقير ونحن أغنياء، وحرفوا الكتاب وبدلوا وغيروا ويحبون أن يحمدوا على باطلهم كانت مواقفهم هذه دالة على عمى في بصائرهم، وضلال في عقولهم، فذكر تعالى من الآيات الكونية ما يدل على غناء، وافتقار عباده إليه، كما يدل على ربوبيته على خلقه، وتدبيره لحياتهم وتصرفه في أمورهم، وأنه ربهم لا رب لهم غيره وإلههم الذي لا إله لهم سواه إلا أن هذا لا يدركه إلا أرباب العقول الحصيفة والبصائر النيرة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ١ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ نعم إن في إيجاد السموات والأرض من العدم وفي اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر والظلام والضياء، والتعاقب بذهاب هذا ومجيء ذاك دلائل واضحات على غنى الله وافتقار عباده وبراهين ساطعة على ربوبيته لخلقه. وألوهيته لهم. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٩٠)، وأما الآيات الأربع بعدها فقد تضمنت وصفاً لأولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض فيهتدون إلى معرفة الرب تعالى فيذكرونه ويشكرونه. فقال تعالى عنهم: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً٢ وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ وهذا شامل لحالهم في الصلاة٣
٢ شاهد هذا قول عائشة في الصحيح: "كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الله على كل أحيانه". ومن الأدب أن يستثنى من هذا لعموم حالة التبول وقضاء الحاجة في الكنف.
٣ لحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما إذ قال: "كان بي البواسير فسألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: صلي قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" رواه الأئمة، وفي مسلم: "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى النافلة قاعداً وذلك قبل موته بعام".
٢ أي: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن مسعود، وابن عباس، وأكثر المفسرين، وقال قتادة وغيره: هو القرآن. والكل صحيح، والرسول نادى، والقرآن نادى إلى اليوم.
٣ لم ما قالوا: وتوفنا مع الأبرار؟ إنهم هضماً لأنفسهم وتواضعاً لربهم وإعلاناً عن رغبتهم في الالتحاق بربهم حباً في لقائه، والحياة إلى جواره في الملكوت الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
من هداية الآيات:
١- وجوب التفكر في خلق السموات والأرض للحصول على المزيد من الإيمان والإيقان.
٢- استحباب تلاوة هذه الآيات: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ... ﴾ إلى آخر السورة، وذلك عند القيام للتهجد آخر الليل لثبوت ذلك في الصحيح١ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣- استبحاب ذكر الله في كل حال٢ من قيام أو قعود أو اضطجاع.
٤- استحباب التعوذ من النار بل وجوبه ولو مرة في العمر.
٥- مشروعية التوسل إلى الله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.
٦- فضل الهجرة والجهاد في سبيل الله.
٧- المساواة بين المؤمنين والمؤمنات في العمل والجزاء.
٨- استحباب الوفاة بين الأبرار وهم أهل الطاعة لله ولرسوله والصدق فيها وذلك بالحياة معهم والعيش بينهم لتكون الوفاة بإذن الله معهم.
﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ
٢ شاهده حديث عائشة الصحيح: "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يذكر الله على كل أحيانه".
شرح الكلمات:
﴿لا يَغُرَّنَّكَ﴾ : لا يكن منك اغترار، المخاطب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أصحابه وأتباعه.
﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ﴾ : تصرفهم فيها بالتجارة والزراعة والأموال والمآكل والمشارب.
﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ : تصرفهم ذلك هو متاع قليل يتمتعون به أعواماً وينتهي.
﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ : مآلهم بعد التمتع القليل إلى جهنم يأوون إليها فيخلدون فيها أبداً.
﴿نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ : النزل: ما يعد للضيعف من قرى: طعام وشراب وفراش.
الأبرار: جمع بار، وهو المطيع لله ولرسوله الصادق في طاعته.
﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ : القرآن والسنة، وما أنزل إليهم؛ التوراة والإنجيل.
﴿خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾ : مطيعين مخبتين له عز وجل.
﴿لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ : لا يجحدون أحكام الله وما أمر ببيانه للناس مقابل منافع تحصل لهم.
﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا١﴾ : الصبر: حبس النفس على طاعة الله ورسولهن والمصابرة: الثبات والصمود أمام العدو.
﴿وَرَابِطُوا﴾ : المرابطة: لزوم الثغور منعاً للعدو من التسرب إلى ديار المسلمين.
﴿تُفْلِحُونَ﴾ : تفوزون بالظفر المرغوب، والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة.
ينهى الله تبارك وتعالى دعاة الحق من هذه الأمة في شخصية نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يغرهم١، أي: يخدعهم ما يتصرف فيه أهل الكفر والشرك والفساد من مكاسب وأرباح وما يتمتعون به من مطاعم ومشارب ومراكب، فيظنوا أنهم على هدى أو أن الله تعالى راضٍ عنهم وغير ساخط عليهم، لا، لا، إنما هو متاع في الدنيا قليل، ثم يردون إلى أسوأ مأوى وشر قرار إنه جهنم التي طالما مهدوا لدخولها بالشرك والمعاصي، وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم الخلود في جهنم. هذا معنى الآيتين الأولى والثانية وهما قوله تعالى: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ٢ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، أما الآية الثالثة (١٩٨)، وهي قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ٣ لِلأَبْرَارِ﴾ فإنها قد تضمنت استدراكاً حسناً وهو لما ذكر في الآية قبلها مآل الكافرين وهو شر مآل جهنم وبئس المهاد، ذكر في هذه الآية مآل المؤمنين وهو خير مآل: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾، وما عند الله تعالى من النعيم المقيم في دار السلام خير لأهل الإيمان والتقوى من الدنيا وما فيها فلا يضرهم أن يكونوا فقراء، وأهل الكفر أغنياء موسرين، أما الآية الرابعة (١٩٩) وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب٤ِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ الآية فإنها تضمنت الرد الإلهي على بعض المنافقين الذين أنكروا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين صلاتهم على النجاشي بعد موته، إذ قال بعضهم انظروا إلى محمد وأصحابه يصلون على علج مات في غير ديارهم وعلى غير ملتهم، وهم يريدون بهذا الطعن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين فرد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي: اليهود والنصارى لمن يؤمن بالله، وما أنزل إليكم أيها المؤمنون، وما أنزل
٢ روى في سبب نزول هذه الآية: أن بعضاً من المسلمين قالوا: هؤلاء الكفار لهم تجائر وأموال، واضطراب في البلاد، وقد هلكنا نحن من الجوع. فنزلت الآية.
٣ الغر، والغرور: هو الإطماع في أمر محبوب على نية عدم وقوعه لمن يطمع به، ويغرر. وهو أيضاً: إظهار الأمر المضر في صورة النافع، وهو مشتق من الغرة، وهي الغفلة. يقال: رجل غر، إذا كان ينخدع لمن يخدعه. وفي الحديث: "المؤمن غر كريم".
٤ ثبت في الصحيحين: "أن النجاشي لما مات نعاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أصحابه وقال: "إن أخاً لكم بالحبشة قد مات، فصلوا عليه"، فخرجوا إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه". وروى غير واحد عن أنس بن مالك أنه قال: "لما توفى النجاشي، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغفروا لأخيكم. فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة: ﴿وإِنَّ مِنْ أَهْل الكِتَاب... ﴾ الآية.
هذا ما تضمنته الآية الرابعة (١٩٩)، أما الآية الخامسة والأخيرة (٢٠٠) وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا١ وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فإنها تضمنت دعوة كريمة ونصيحة غالية ثمينة للأمة الرحيمة بأن تصبر على الطاعات وعلى الشدائد والملمات فتصابر أعداءها حتى يُسلموا أو يسلموا القياد لها. وترابط بخيولها وآلات حربها في حدودها وثغورها مرهبة عدوها حتى لا يطمع في غزوها ودخول ديارها. ولتتق الله تقوى تكون سبباً في فوزها وفلاحها بهذه الرحمة الربانية ختمن سورة آل عمران المباركة ذات الحكم والأحكام وتليها سورة النساء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تنبيه المؤمنين وتحذيره من الاغترار بما يكون عليه الكافرون من سعة الرزق وهناءة العيش فإن ذلك لم يكن عن رضى الله تعالى عنهم، وإنما هو متاع في الدنيا حصل لهم بحسب سنة الله تعالى في الكسب والعمل ينتج لصاحبه بحسب كده وحسن تصرفه.
٢- ما أعد لأهل الإيمان والتقوى وهم الأبرار من نعيم مقيم في جوار ربهم خير من الدنيا وما فيها.
٣- شرف مؤمني أهل الكتاب وبشارة القرآن لهم بالجنة وعلى رأسهم عبد الله بن سلام وأصحمة النجاشي.
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها...
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا