بسم الله الرحمان الرحيم
اختلف أهل التحقيق في اسم " الله " هل هو مشتق من معنى أم لا ؟ فكثير منهم قالوا إنه ليس بمشتق من معنى، وهو له سبحانه على جهة الاختصاص يجري في وضعه مجرى أسماء الأعلام في صفة غيره، فإذا قرع بهذا اللفظ أسماء أهل المعرفة لم تذهب فهومهم ولا علومهم إلى معنى غير وجوده سبحانه وحقه. وحق هذه القالة أن تكون مقرونة بشهود القلب فإذا قال بلسانه " الله " أو سمع بآذانه شهد بقلبه " الله ".
وكما لا تدل هذه الكلمة على معنى سوى " الله " لا يكون مشهود قائلها إلا " الله " فيقول بلسانه " الله "، ويعلم بفؤاده " الله "، ويعرف بقلبه " الله "، ويحب بروحه " الله "، ويشهد بسره " الله " فلا يكون فيه نصيب لغير الله، وإذا أشرف على أن يصير محوا في الله لله بالله تداركه الحق سبحانه برحمته فيكاشفه بقوله الرحمن الرحيم استبقاء لمهجتهم أن تتلف، وإرادة في قلوبهم أن تنقى، فالتلطف سنة منه سبحانه لئلا يفنى أولياؤه بالكلية.
ﰡ
أشار بقوله ألف إلى قيامه بكفايتك على عموم أحوالك، فأنت في أسر الغفلة لا تهتدي إلى صلاحك ورشدك، وهو مجرٍ ما يجبرك، وكافٍ بما ينصرك، فبغير سؤالك - بل بغير علمك بحالك - يكفيك من حيث لا تشعر، ويعطيك من غير أن تطلب.
والإشارة من اللام إلى لطفه بك في خفيِّ السرِّ حتى أنه لا يظهر عليك محل المنة فيما يثبتك فيه. والإشارة من الميم لموافقة جريان التقدير بمتعلقات الطِّلْبَةِ من الأولياء، فلا يتحرك في العالم شيء، ولا تظهر ذرة إلا وهو بمحل الرضا منهم حتى أن قائلاً لو قال في قوله :﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأنٍ ﴾[ الرحمن : ٢٩ ] إن ذلك الشأن تحقيق مراد الأولياء - لم يكن ذلك ببعيد.
ويقال تفرَّق عن القلوب - باستماع هذه الحروف المقطعة التي هي خلاف عادة الناس في التخاطب - كلُّ معلوم ومرسوم، ومعتاد وموهوم، من ضرورة أو حسٍّ أو اجتهاد، حتى إذا خلت القلوب عن الموهومات والمعلومات، وصفَّى الأسرار عن المعتادات والمعهودات يَرِدُ هذا الاسم وهو قوله :" الله " على قلب مقدَّسٍ من كل غَيْرٍ، وسِرٍّ مصفىً عن كل كيف ؛ فقال :﴿ الم اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ ﴾.
فهو الذي لا يلهو فيشتغل عنك، ولا يسهو فتبقى عنه، فهو على عموم أحوالك رقيبُ سِرِّك ؛ إنْ خلوتَ فهو رقيبك، وإن توسطت الخَلْقَ فهو رقيبك، وفي الجملة - كيفما دارت بك الأحوال - فهو حبيبك.
وما كنتَ يا محمد تدري ما الكتاب، ولا قصة الأحباب، ولكنما صادفك اختيار أزليّ فألقاك في أمرٍ عجيبٍ شأنُه، جَلِيٌّ برهانُه، عزيزٍ محلُّه ومكانُه.
﴿ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾.
أي محققاً لموعوده لك في الكتاب على ألسنة الرسل عليهم السلام.
أي إنا وإن أنزلنا قبلك كُتُبَنَا على المرسلين فما أخْلَيْنَا كتابًا من ذِكْرِكْ، قال قائلهم :
وعندي لأحبابنا الغائبين | صحائفُ ذِكرُك عنوانُها |
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾.
وهو ذُلُّ الحجاب، ولكنهم لا يشعرون.
﴿ واللهُ عَزِيز ﴾ على أوليائه ﴿ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ من أعدائه، عزيز يطلبه كل أحد، ولكن لا يجده - كثيراً - أحد.
هذا على العموم، فأمَّا على الخصوص : فلا رَفَعَ أحدٌ إليه حاجةً إلا وهو قاضيها، ولا رجع أحدٌ إليه في نازلة إلا وهو كافيها.
﴿ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾.
فلا يُعَقِّبُ حكمهُ بالنقض، أو يُعَارَضُ تقديره بالإهمال والرفض.
وسبيل أهل الإشارة والفهم إلقاء السمع بحضور القلب، فما سنح لفهومهم من لائح التعريفات بَنَوْا ( عليه ) إشارات الكشف.
إنْ ( طولبوا ) باستدامة الستر وطيِّ السِّر تخارسوا عن النطق، وإنْ أُمِروا بالإظهار والنشر أطلقوا بيان الحق، ونطقوا عن تعريفات الغيبة، فأمَّا الذين اُيِّدوا بأنوار البصائر فمستضيئون بشعاع شموس الفهم، وأمّا الذين ألبسوا غطاء الريب، وحرموا لطائف التحقيق، فتتقسم بهم الأحوال وتَتَرجَّمُ بهم الظنون، ويطيحون في أودية الرَّيْبِ والتلبيس، فلا يزدادون إلا جهلاً على جهل، ونفوراً على شك.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ ﴾.
ومَنْ وجد علمه من الله فيكون إيمانهم بلا احتمال جولان خواطر التجويز بل عن صريحات الظهور، وصافيات اليقين. وأمّا أصحاب العقول الصاحية ففي صحبة التذكر، لظهور البراهين و(. . . . ) أحكام التحصيل.
صبر على ما أُمرَ به العبد، وصبر عما نُهي عنه، وصبر هو الوقوف تحت جريان حكمه على ما يريد ؛ إمَّا في فوات محبوبك أو هجوم ما لا تستطيعه.
فإذا ترقيتَ عن هذه الصفة - بألا تصيبك مشقةٌ أو تنال راحةً - فذلك رضاً لا صبر ويقال الصابرين على أمر الله، والصادقين، فيما عاهدوا الله.
و﴿ القَانِتِينَ ﴾، بنفوسهم بالاستقامة في محبة الله.
و ﴿ المُسْتَغْفِرِينَ ﴾ عن جميع ما فعلوه لرؤية تقصيرهم في الله.
ويقال :﴿ الصّابِرِينَ ﴾ بقلوبهم و﴿ وَالصَّادِقِينَ ﴾ بأرواحهم و﴿ وَالقَانِتِينَ ﴾ بنفوسهم، و﴿ المُسْتَغْفِرِينَ ﴾ بألسنتهم.
ويقال " الصابرين " على صدق القصود " الصادقين " في العهود " القانتين " بحفظ الحدود و " المستغفرين " عن أعمالهم وأحوالهم عند استيلاء سلطان التوحيد.
ويقال " الصابرين " الذين صبروا على الطلب ولم يتعللوا بالهرب ولم يحتشموا من التعب، وهجروا كل راحة وطلب. وصبروا على البلوى، ورفضوا الشكوى، حتى وصلوا إلى المولى، ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى.
و " الصادقين " الذين صدقوا في الطلب فقصدوا، ثم صدقوا حتى وردوا، ثم صدقوا حتى شهدوا، ثم صدقوا حتى وجدوا، ثم صدقوا حتى فقدوا. . فترتيبهم قصود ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود.
و " القانتين " الذين لازموا الباب، وداوموا على تجرّع الاكتئاب، وتركوا المحاب، ورفضوا الأصحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب.
و﴿ وَالمُنفِقِينَ ﴾ الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال، ( ثم جادوا بميسورهم من الأموال )، ثم جادوا بقلوبهم بصدق الأحوال، ثم جادوا بترك كل حظٍ لهم في العاجل والآجل، استهلاكاً عند القرب والوصال بما لقوا من الاصطلام والاستئصال.
و﴿ وَالمُسْتَغْفِرِينَ ﴾ عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو عند الأسحار يعني ظهور الإسفار، وهو فجر القلوب لا فجر يظهر في الأقطار.
أي عَلِمَ اللهُ وأخبر اللهُ وحَكَمَ اللهُ بأنه لا إله إلا هو، فهو شهادة الحق للحق بأنه الحق، وأوَّلُ مَنْ شهد بأنه اللهُ - اللهُ، فشهد في آزاله بقوله وكلامه وخطابه الأزلي، وأخبر عن وجوده الأحدي، وكونه الصمدي، وعونه القيومي، وذاته الديمومي، وجلاله السرمدي، وجماله الأبدي. فقال :﴿ شَهِدَ اللهُ ﴾ ثم في آباده، " شهد الله " أي بيَّنَ اللهُ بما نَصَبَ من البراهين، وأثبت من دلائل اليقين، وأوضح من الآيات، وأبدى من البينات. فكلُّ جزءٍ من جميع ما خلق وفطر، ومن كتم العدم أظهر، وعلى ما شاء من الصفة الذاتية حصل، من أعيان مستقلة، وآثار في ( ثاني ) وجودها مضمحلة، وذوات للملاقاة قابلة، وصفات في المَحَالِّ متعاقبة - فهو لوجوده مُفْصِح، ولربوبيته موضِّح، وعلى قِدَمِه شاهد، وللعقول مُخْبِر بأنه واحد، عزيز ماجد، شهد سبحانه بجلال قَدْره، وكمال عزه، حين لا جحد ولا جهود ولا عرفان لمخلوق ولا عقل، ولا وفاق، ولا كفر، ولا حدثان، ولا غير، ولا إلحاد، ولا شِرْك، ولا فهم ولا فكر، ولا سماء ولا فضاء، ولا ظلام ولا ضياء، ولا وصول للمزدوجات، ولا فضول باختلاف الآفات.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالمَلاَئِكَةِ ﴾.
لم يؤيِّد شهادته بوحدانيته بشهادة الملائكة بل أسعدهم وأيَّدُهم، حين وفَّقَهم بشهادة وسدَّدهم، وإلى معرفة وحدانيته أرشدهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأُولُوا العِلْمِ ﴾.
وهم أولياء بني آدم إذ علموا قدرته، وعرفوا نعت عزته فأكرمهم حيث قرن شهادته بشهادتهم، فشهدوا عن شهود وتعيين، لا عن ظن وتخمين، إن لم يدركوه - اليوم - ضرورة وحِسَّاً، لم يعتقدوه ظنّاً وحَدْساً ؛ تعرَّف إليهم فعرفوه، وأشهدهم فلذلك شهدوا، ولو لم يقُلْ لهم إنه مَنْ هو لَمَا عرفوا مَنْ هو.
ولكنَّ العلماء يشهدون بصحو عقولهم، والمُوَحِّدُون يشهدون بعد خمودهم ؛ فهم كما قيل :
مُسْتَهْلَكُون بقهر الحق قد هَمَدُوا | واستُنْطِقُوا بعد افتنائهمُ بتوحيد |
كتابي إليكم بعد موتي بليلة | ولم أدرِ أنِّي بعد موتي أكتب |
بنو حق غدوا بالحق صِرفاً | فنعت الخلْق فيهمو مستورُ |
الدِّينُ الذي يرتضيه، والذي حكم لصاحبه بأنه يجازيه ويعليه، وبالفضل يُلَقِّيه - هو الإِسلام.
والإسلام هو الإخلاص والاستسلام، وما سواه فمردود، وطريق النجاة على صاحبه مسدود.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾.
جاءهم العلم الذي عليهم حجة، لا المعرفة التي لها بيان ومحجة، فأصروا على الجحود، لأنهم حُجِبُوا عن محل الشهود.
فادْعُهم جهراً بجهر، واشهد تصريفنا إياهم سِرَّاً بسر، واشغل لسانك بنصحهم، وفرِّغ قلبك عن حديثهم، وأفرد سِرَّك عن شهودهم، فليس الذي كلفناك من أمورهم إلا البلاغ، والمُجرِي للأمور والمبدي - نحن.
ظن المخطئون حكماً. . .
وقيامةُ الكفار يومَ الحشر، وقيامة الأحباب في الوقت، ولِشَرْحِ هذا تفسير طويل.
﴿ تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾.
حتى نعلم أن الملك لك، والمَلِكُ من المخلوقين مَنْ تَذَلَّلَ له، ومنزوعٌ المُلْكُ ممن تكبَّر عليه ؛ فَتَجمُّلُ الخَلْقِ في تذللهم للحق، وعِزُّهم في محوهم فيه، وبقاؤهم في فنائهم به.
﴿ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ ﴾.
بعز ذاتك.
﴿ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾.
بخذلانك.
وتعز من تشاء بأن تهديه ليشهدك ويوحدك، وتذل من تشاء بأن يجحدك ويفقدك وتعزُّ من تشاء بيُمْنِ إقبالك، وتذل من تشاء بوحشة إعراضك. وتعزُّ من تشاء بأن تؤنسه بك، وتذل من تشاء بأن توحشه عنك. وتعز من تشاء بأن تشغله بك، وتذل من تشاء بأن تشغله عنك. وتعز من تشاء بسقوط أحكام نفسه، وتذل من تشاء بغلبة غاغة نفسه. وتعز من تشاء بطوالع أُنسه وتذل من تشاء بطوارق نفسه. وتعز من تشاء ببسطه بك، وتذل من تشاء بقبضه عنك.
و﴿ تُؤتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ﴾ يشد نطاق خدمتك، ﴿ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾ بنفيه عن بساط عبادتك. توتي الملك من تشاء بإفراد سِرِّه لك وتنزع الملك ممن تشاء بأن تربط قلبه بمخلوق، ﴿ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ ﴾ بإقامته بالإرادة، ﴿ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ﴾ يردُّه إلى ما عليه أهل العادة.
﴿ بِيَدِكَ الخَيْرُ ﴾.
ولم يذكر الشر حفظاً لآداب الخطاب، وتفاؤلاً بذكر الجميل، وتطيراً من ذكر السوء.
﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ﴾.
من الحجب والجذب، ( والنصرة ) والخذلان، والأخذ والرد، والفرق والجمع، والقبض والبسط.
وتخرج الحي من الميت حتى كأن الفترة لم تكن، وعهد الوصال رجع فَتيَّاً، وعُودُ القلوبِ صار غضّاً طريَّاً.
وتخرج الميت من الحي حتى كأن شجرة البرم أورقت شوكاً وأزهرت شوكاً، وكأن اليائس لم يجد خيراً، ولم يشم ريحاً، وتقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة.
﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
حتى لا ( كدر ) ولا جُهْدَ ولا عَرَقَ جبينٍ، ولا تَعَبَ يمينٍ، لَيْلُهُ روحْ وراحة، ونهارُه طرب وبهجة، وساعاته كرامات، ولحظاته قُرُبات، وأجناس أفعاله على التفصيل لا يحصرها لسان، ولا يأتي على استقصاء كنهها عبارة ولا بيان.
وفيما لوَّحنا من ذلك تنبيه على طريق كيفية الإفصاح عنه.
ويقال لما قال :﴿ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ ﴾ انكسر خُمَارُ كلِّ ظانٍّ أنه مَلِكٌ لأنه شاهد مُلكِهِ يعرض للزوال فَعَلِمَ أن التذلل إليه في استبقاء ملكه أولى من الإعجاب والإدلال.
ويقال المَلِكُ في الحقيقة - مَنْ لا يشغله شيء بالالتفات إليه عن شهود من هو المَلِكُ على الحقيقة.
وأوْلى مَنْ تسومه الهجرانَ والإعراضَ عن الكفار - نَفْسُك ؛ فإنها مجبولةٌ على المجوسية حيث تقول : لي ومني وبي، وقال الله تعالى :﴿ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ ﴾[ التوبة : ١٢٣ ].
وإن الإيمان في هذه الطريقة عزيز، ومن لا إيمان له بهذه الطريقة من العوام - وإن كانوا قد بلغوا من الزهد والجهد مبلغاً عظيماً - فليسوا بأهل لموالاتك، والشكل بالشكل أليق.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ ﴾.
صحبة الحق سبحانه وقربته لا تكون مقرونة بصحبة الأضداد وقربتهم - البتة.
﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ﴾ : هذا خطاب للخواص من أهل المعرفة، فأمَّا الذين نزلت رُتْبَتُهم عن هذا فقال لهم :﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي ﴾[ آل عمران : ١٣١ ] وقال :﴿ واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ. . ﴾[ البقرة : ٢٨١ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
ويقال :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ﴾ أن يكون عندكم أنكم وصلتم ؛ فإن خفايا المكر تعتري الأكابر، قال قائلهم :
وأمِنْتُه فأتاح لي من مأمني | مكراً، كذا مَنْ يأمن الأحبابا |
وإنَّ من ظن أنه أقربهم إليه ففي الحقيقة أنه أبعدهم عنه.
ولو إنني أُعْطِيتُ من دهري المُنَى *** وما كلُّ مَنْ يُعْطَى المنى بِمُسَدَّدِ
لَقُلْتَ لأيامٍ مَضَيْن : ألا ارجعي *** وقلتُ لأيام أتيْن ألا ابعدي
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ ﴾.
الإشارة من قوله :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه ﴾ للعارفين، ومن قوله ﴿ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ ﴾ للمستأنفين، فهؤلاء أصحاب العنف والعنوة، وهؤلاء أصحاب التخفيف والسهولة.
ويقال لمَّا قال :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه ﴾ اقتضى إسماع هذا الخطاب تحويلهم فقال مقروناً به ﴿ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ ﴾ لتحقيق تأميلهم، وكذلك سُنَّتُه يطمعهم في عين ما يروعهم.
ويقال أفناهم بقوله ﴿ وَيُحَذِّركُمُ اللهُ نَفْسَهُ ﴾ ثم أحياهم وأبقاهم بقوله ﴿ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ ﴾.
﴿ تُحِبُّونَ اللهَ ﴾ مشوب بالعلة، و ﴿ يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ بِلا عِلّة، بل هو حقيقة الوصلة. ومحبة العبد لله حالة لطيفة يجدها من نفسه، وتحمله تلك الحالة على موافقة أمره على الرضا دون الكراهية، وتقتضي منه تلك الحالة إيثاره - سبحانه - على كل شيء وعلى كل أحد.
وشرطُ المحبةِ ألا يكون فيها حظٌّ بحال، فَمنْ لم يَفْنَ عن حظوظه بالكلِّية فليس له من المحبة شظيَّة.
ومحبة الحق للعبد إرادته إحسانَه إليه ولطفَه به، وهي إرادةُ فضلٍ مخصوص، وتكون بمعنى ثنائه سبحانه عليه ومدحه له، وتكون بمعنى فضله المخصوص معه، فعلى هذا تكون من صفات فعله.
ويقال شرط المحبة امتحاء كليتك عنك لاستهلاكك في محبوبك، قال قائلهم :
وما الحبُّ حتى تنزف العين بالبكا | وتخرس حتى لا تجيب المناديا |
وقال الحبيبُ :﴿ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾.
فإن كان مُتَّبعُ الخليل " منه " إفضالاً فإن متابعَ الحبيبِ محبوبُ الحقِّ سبحانه، وكفى بذلك قربة وحالاً.
ويقال قطع أطماع الكافة أن يسلم لأحدٍ نفس إلا ومقتداهم وإمامهم سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقال في هذه الآية إشارة إلى أن المحبة غير معلولة وليست باجتلاب طاعة، أو التجرد عن آفة لأنه قال :﴿ يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ بيَّن أنه يجوز أن يكون عبد له فنون كثيرة ثم يحبُّ اللهَ ويحبُّه الله.
ويقال قال أولاً :﴿ يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ ثم قال :﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ والواو تقتضي الترتيب ليُعْلَمَ أَنَّ المحبةَ سابقةٌ على الغفران ؛ أولاً يحبهم ويحبونه
( وبعده ) يغفر لهم ويستغفرونه، فالمحبة توجِب الغفران لأن العفو يوجب المحبة.
والمحبة تشير إلى صفاء الأحوال ومنه حَبَبُ الأسنان وهو صفاؤها.
والمحبة توجب الاعتكاف بحضرة المحبوب في السر.
ويقال أحب البعير إذا استناخ فلا يبرح بالضرب.
والحبُّ حرفان حاء وباء، والإشارة من الحاء إلى الروح ومن الباء إلى البَدَن، فالمُحِبُّ لا يَدَّخِر عن محبوبه لا قلبَه ولا بَدَنَه.
ولما قالت ﴿ إني نَذَرْتُ لَكَ مَا في بطني مُحَرَّرًا ﴾ قالت ﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّى ﴾ فاستجاب، وظهرت آثار القبول عليها وعلى ابنها، ونجا بحديثها عَالَمٌ وَهَلَكَ بسببها عَالَمٌ، ووقعت الفتنة لأجلهما في عَالَم.
قالت :﴿ وإني سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وإني أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ استجارت بالله من أن يكون للشيطان في حديثها شيء بما هو الأسهل، لتمام ما هم به من أحكام القلوب.
ولما قالت ﴿ إني نَذَرْتُ لَكَ مَا في بطني مُحَرَّرًا ﴾ قالت ﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّى ﴾ فاستجاب، وظهرت آثار القبول عليها وعلى ابنها، ونجا بحديثها عَالَمٌ وَهَلَكَ بسببها عَالَمٌ، ووقعت الفتنة لأجلهما في عَالَم.
قالت :﴿ وإني سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وإني أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ استجارت بالله من أن يكون للشيطان في حديثها شيء بما هو الأسهل، لتمام ما هم به من أحكام القلوب.
ويقال القبولُ الحَسَنُ حُسْنُ تربيته لها مع علمه - سبحانه - بأنه يُقال فيه بسببها ما يُقال، فلم يُبالِ بِقُبْح مقال الأعداء :
أجد الملامة في هواكِ لذيذةً *** حُبَّاً لذكرك فليلمني اللُّوَمُ
وكما قيل :
ليقل من شاء ما *** شاء فإني لا أُبالي
ويقال القبول الحسن أَنْ ربّاها على نعت العصمة حتى كانت تقول :
﴿ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً ﴾[ مريم : ١٨ ].
﴿ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾ حتى استقامت على الطاعة، وآثرت رضاه - سبحانه - في جميع الأوقات، وحتى كانت الثمرة منها مثل عيسى عليه السلام، وهذا هو النبات الحسن، وكفلها زكريا. ومن القبول الحسن والنبات الحسن أَنْ جعل كافِلَها والقَيَّمَ بأمرها وحفظها نبياً من الأنبياء مثل زكريا عليه السلام، وقد أوحى الله إلى داود عليه السلام : إنْ رأيْتَ لي طالباً فكُنْ له خادماً.
قوله جلّ ذكره :﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هّذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يرزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
مِنْ إمارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا في المحراب، ومن كان مسكنه وموضعه الذي يتعبَّدُ فيه وهناك يوجد المحراب - فذلك عَبْدٌ عزيز.
ويقال مِنَ القبول الحسن أنه لم يطرح أمرَها كُلَّه وشُغْلُها على زكريا عليه السلام : فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعهدها بطعام وَجَدَ عندها رزقاً لِيَعْلَمَ العاملون أن الله - سبحانه - لا يُلْقِي شُغْلَ أوليائه على غير، ومن خدم ولياً من أوليائه كان هو في رفق الولي لا إنه تكون عليه مشقة لأجل الأولياء. وفي هذا إشارة لمن يخدم الفقراء أن يعلم أنه في رفق الفقراء.
ثم كان زكريا عليه السلام يقول :﴿ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾ ؟ لأنه لم يكن يعتقد فيها استحقاق تلك المنزلة، وكان يخاف أن غيره يغلبه وينتهز فرصة تعهدها ويسبقه بكفاية شُغْلها، فكان يسأل ويقول :﴿ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾ ومن أتاكِ به ؟
وكانت مريم تقول : هو من عند الله لا من عند مخلوق، فيكون لزكريا فيه راحتان : إحداهما شهود مقامها وكرامتها عند الله تعالى، والثانية أنه لم يغلبه أحد على تعهدها، ولم يسبق به. قوله :﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ ﴾ فلفظة كلَّما للتكرار وفي هذا إشارة : وهو أن زكريا عليه السلام لم يَذَرْ تَعهُّدَها - وإنْ وجد عندها رزقًا - بل كل يومٍ وكل وقتٍ كان يتفقد حالها لأن كراماتِ الأولياء ليست مما يجب أن يدوم ذلك قطعاً ؛ فيجوز أن يُظهِرَ الله ذلك عليهم دائماً، ويجوز ألا يظهر، فما كان زكريا عليه السلام يعتمد على ذلك فيترك تفقد حالها، ثم كان يُجَدِّدُ السؤال عنها بقوله :﴿ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾ ؟ لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمس، فإنه لا واجب على الله سبحانه.
وقوله :﴿ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ إيضاح عن عين التوحيد، وأن رزقه للعباد، وإحسانه إليهم بمقتضى مشيئته، دون أن يكون مُعَلَّلاً بطاعاتهم ووسيلة عباداتهم.
ويقال إن زكريا عليه السلام سأل الوَلَدَ ليكونَ عوناً له على الطاعة، ووارثاً من نَسْلِه في النبوة، ليكون قائماً بحقِّ الله، فلذلك استحق الإجابة ؛ فإن السؤال إذا كان لحقِّ الحقِّ - لا لحظِّ النَّفْسِ - لا يكون له الرد.
وكان زكريا عليه السلام يرى الفاكهة الصيفية عند مريم في الشتاء، وفاكهة الشتاء عندها في الصيف، فسأل الولد في حال الكِبَر ليكون آية ومعجزة.
وفيه إشارة إلى أن من له إلى الملوك حاجة فعليه بملازمة الباب إلى وقت الإجابة.
ويقال حكم الله -سبحانه- أنه إنما يقبل بالإجابة على من هو مُعَانِقٌ لخدمته، فأمَّا مَنْ أعرض عن الطاعة ألقاه في ذُلِّ الوحشة.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾.
قيل سمَّاه يحيى لحياة قلبه بالله، ولسان التفسير أنه حي به عقر أمه.
ويقال إنه سبب حياة من آمن به بقلبه.
قوله : مصدقاً بكلمة من الله : أن تصديقه بكلمة " الله " فيما تعبده به أو هو مكوَّن بكلمة الله.
وقوله ﴿ وَسَيِّدًا ﴾ : السيدُ من ليس في رق مخلوق، تحرَّر عن أسر هواه وعن كل مخلوق، ويقال السيد من تحقق بعلويته سبحانه، ويقال السيد من فاق أهل عصره، وكذلك كان يحيى عليه السلام.
ويقال سيد لأنه لم يطلب لنفسه مقامًا، ولا شَاهَدَ لنفسه قَدْرًا. ولما أخلص في تواضعه لله بكل وجهٍ رقَّاه على الجملة وجعله سيداً للجميع.
وقوله ﴿ وَحَصُورًا ﴾ أي مُعْتَقاً من الشهوات، مكفياً أحكام البشرية مع كونه من جملة البشر. ويقال متوقياً عن المطالبات، مانعاً نفسه عن ذلك تعززاً وتقرباً، وقيل منعته استئصالات بواده الحقائق عليه فلم يبق فيه فَضْلٌ لحظِّ.
﴿ وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ أي مستحقاً لبلوغ رتبتهم.
ويحتمل أنه قال : بأي استحقاقٍ مني تكون له هذه الإجابة لولا فضلك ؟
ويحتمل أنه قال أنَّى يكون هذا : أَعَلَى وَجهِ التبني أم على وجه التناسل ؟
ويحتمل أنه يكون من امرأة أخرى سوى هذه التي طعنت في السن أو من جهة التَّسرِّي بمملوكة ؟ أمْ مِنْ هذه ؟
فقيل له : لا بَلْ مِنْ هذه ؛ فإنكما قاسيتما وحشة الانفراد معاً، فكذلك تكون بشارة الولد لكما جميعاً.
وجعل آية ولايته في إمساك لسانه عن المخلوقين مع انطلاقها مع الله بالتسبيح، أي لا تمتنع عن خطابي فإني لا أمنع أوليائي من مناجاتي.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيرًا ﴾.
بقلبك ولسانك في جميع أوقاتك.
﴿ وَسَبِّحْ بِالعَشِىِّ وَالإِبْكَارِ ﴾.
في الصلاة الدائبة.
وفائدة تكرار ذكر الاصطفاء : الأول اصطفاك بالكرامة والمنزلة وعلو الحالة والثاني اصطفاكِ بأَنْ حَمَلْتِ بعيسى عليه السلام من غير أب، ولم تشبهك امرأة - ولن تشبَهك - إلى يوم القيامة، ولذلك قال ﴿ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ ﴾.
ويقال عرَّفها أن مَنْ وقع في تغليب القدرة، وانتهى عند حكمه يَلْقَى من عجائب القدرة ما لا عهد به لأحد. ولقد عاشت مريم مدةً بجميل الصيت، والاشتهار بالعفة، فشوَّش عليها ظاهر تلك الحال بما كان عند الناس بسبب استحقاق ملام، ولكن - في التحقيق - ليس كما ظَنَّهُ الأغبياء الذين سكرت أبصارهم من شهود جريان التقدير.
وقيل إنه (. . . . ) عَرَّفها ذلك بالتدريج والتفصيل، فأخبرها أن ذلك الولَدَ يعيش حتى يُكَلِّمَ الناس صبيَّا وكهلا، وأن كيد الأعداء لا يؤثر فيه.
وقيل كهلاً بعد نزوله من السماء.
ويقال ربط على قلبها بما عرَّفها أنه إذا لم ينطق لسانها بذكر براءة سَاحتها يُنْطِقُ اللهُ عيسى عليه السلام بما يكون دلالة على صدقها وجلالتها.
ويقال عرَّفها أن مَنْ وقع في تغليب القدرة، وانتهى عند حكمه يَلْقَى من عجائب القدرة ما لا عهد به لأحد. ولقد عاشت مريم مدةً بجميل الصيت، والاشتهار بالعفة، فشوَّش عليها ظاهر تلك الحال بما كان عند الناس بسبب استحقاق ملام، ولكن - في التحقيق - ليس كما ظَنَّهُ الأغبياء الذين سكرت أبصارهم من شهود جريان التقدير.
وقيل إنه (.... ) عَرَّفها ذلك بالتدريج والتفصيل، فأخبرها أن ذلك الولَدَ يعيش حتى يُكَلِّمَ الناس صبيَّا وكهلا، وأن كيد الأعداء لا يؤثر فيه.
وقيل كهلاً بعد نزوله من السماء.
ويقال ربط على قلبها بما عرَّفها أنه إذا لم ينطق لسانها بذكر براءة سَاحتها يُنْطِقُ اللهُ عيسى عليه السلام بما يكون دلالة على صدقها وجلالتها.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾.
أي أراد إمضاء حُكْم.
﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.
فلا يتعسر عليه إبداء ولا إنشاء.
ولمَا بسطوا فيها لسان الملامة أنطق الله عيسى عليه السلام وهو ابن يومٍ حتى قال :
﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾.
ويقال طَهَّرَ قلبه عن مطالعة الأغيار، ومشاهدة الأمثال والآثار، في جميع الأحوال والأطوار.
﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَة ﴾. بالنصرة والقهر والحجة.
ومتبعوه مَنْ لم يُبَدِّل دِينه ومَنْ هو على عقيدته في التوحيد - وهم المؤمنون، فَهُمْ على الحقِّ، إلى يوم القيامة لهم النصرة.
والإشارة في هذه الآية لِمَنْ نزلت حالته عن أحوال الصديقين، فإنه إذا ظهرت أنوارهم انخنست آثار هؤلاء فلا إقرار، ولا عنهم آثار.
﴿ فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ ﴾ إمَّا يجتاحهم، أو يحلم حتى إذا استمكنَتْ ظنونُهم يأخذهم بغتَةً وهم لا يُنْصَرون.
وقوله :﴿ أَلاَّ نَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ ﴾ : لا تطالع بِسِرِّك مخلوقاً. وكما لا يكون غيرُه معبودَك فينبغي ألا يكون غيرُه مقصودَك ولا مشهودَك، وهذا هو اتِّقاء الشِرْك، وأنت أول الأغيار الذين يجب ألا تشهدهم.
﴿ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًاْ ﴾ ويظهر صدقُ هذا بترك المدح والذم لهم.
ونفي الشكوى والشك عنهم، وتنظيف السر عن حسبان ذرة من المحو والإثبات منهم. قال صلى الله عليه وسلم " أصدق كلمة قالتها العربُ قول لبيد " :
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل | وكل نعيمٍ لا مَحالة زائل |
﴿ وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ﴾ لأنهم تولَّوْا دينه، ووافقوا توحيده، وولاية الله إنما تكون بالعَوْن والنصرة والتخصيص والقربة.
﴿ قُلْ إِنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ﴾.
فهو الذي يختص من يشاء بأنوار التعريف، ويختص من يشاء بالخذلان والحرمان.
وبمعنى العصمة وجميع أقسام الخيرات التي يختصُّ - بشيء منها - عبداً من عباده، فيدخل تحت قوله :﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ ﴾ أي بنعمته.
فقومٌ اختصهم بنعمة الأخلاق وقوم اختصهم بنعمة الأرزاق، وقوم اختصهم بنعمة العبادة وآخرين بنعمة الإرادة، وآخرين بتوفيق الظواهر وآخرين بعطاء الأبشار، وآخرين بلقاء الأسرار، قال تعالى :﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾[ إبراهيم : ٣٤ ].
ويقال لمَّا سمعوا قوله :﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾، علموا أن الوسائل ليست بهادية، وإنما الأمر بالابتداء والمشيئة.
ويقال :﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾ بالفهم عنه فيما يكاشفه به من الأسرار ويلقيه إليه من فنون التعريفات.
ثم بيَّن أنه ليس الحكم إليهم حتى إذا :﴿ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾.
فلا تجري عليهم هذه الحالة، أو تنفعهم هذه القالة، بل الحكم لله تعالى.
بقوا عن الحق، وما استمتعوا بحظِّ، جَمَعَ عليهم فنون المِحَن ولكنهم لا يدرون ما أصابهم، لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ثم مع هذا يُخَلِّدُهم في العقوبة الأبدية.
يزيِّنون العبارات، ويطلقون ألسنتهم بما لا خَبَرَ في قلوبهم منه، ولا لهم بذلك تحقيق، تلبيساً على الأغبياء والعوام وأهل البداية ؛ يوهمون أن لهم تحقيق ما يقولونه بألسنتهم. قال تعالى في صفة هؤلاء ﴿ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ ﴾، كذلك أرباب التلبيس والتدليس، يُرَوِّجون قالتَهم على المستضعفين، فأما أهل الحقائق فأسرارهم عندهم مكشوفة.
قال الله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾، أي يعلمون أنهم كاذبون، كذلك أهل الباطل والتلبيس في هذه الطريقة يتكلمون عن قلوب خَرِبةَ، وأسرار محجوبة، نعوذ بالله من استحقاق المقت !
وهم العلماء بالله الحلماء في الله القائمون بفنائهم عن غير الله، المستهلكة حظوظهم، المستغرِقون في حقائق وجوده عن إحساسهم بأحوال أنفسهم، ينطقون بالله ويسمعون بالله، وينظرون بالله، فهم بالله مَحْوٌ عمَّا سوى الله.
ويقال الرباني من ارتفع عنه ظِلِّ نفسه، وعاش في كنف ظلِّه - سبحانه.
ويقال الرباني الذي لا يُثْبِتُ غير ربِّه مُوَحَّداً، ولا يشهد ذرة من المحو والإثبات لغيره أو مِنْ غيره.
ويقال الربَّاني من هو مَحْقٌ في وجوده - سبحانه - ومحو عن شهوده، فالقائم عنه غَيْرُه، والمُجْرِي لِمَا عليه سواه.
ويقال الربَّاني الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها.
ويقال الربَّاني الذي لا تُغَيِّره محنة ولا تَضُرُّه نِعْمة - فهو على حالة واحدة في اختلاف الطوارق.
ويقال الربَّاني الذي لا يتأثر بورود واردٍ عليه، فَمَنْ استنطقته رقة قلبِ، أو اسْتَمَالَه هجومُ أمر، أو تفاوتت عنده أخطار حادث - فليس برباني.
ويقال إنَّ الربَّاني هو الذي لا يبالي بشيء من الحوادث بقلبه وسِرِّه، ومن كان لا يقصر في شيء من الشرع بفعله.
﴿ بِمَا كُنتُْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ مِنْ توالي إحساني إليكم، وتضاعف نعمتي لديكم.
ويقال يعرفكم حدَّ البشرية وحقَّ الربوبية.
ويقال يأمركم بتوقيرهم من حيث الأمر والشريعة، وتحقير قدر الخلق - بالإضافة إلى الربوبية. ﴿ أَيَأْمُرُكُم بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ أيأمركم بإثبات الخلق بعد شهود الحق ؟
ويقال : أيأمركم بمطالعة الأشكال، ونسبة الحدثان إلى الأمثال، بعد أن لاحت في أسراركم أنوار التوحيد، وطلعت في قلوبكم شموس التفريد.
﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ﴾ لإجراء حكم الإلهية على وجه القهر عليهم.
وآمنا بما أنزل علينا بالله، وأَنَّا لا نُفَرِّق بين أحد منهم -بالله سبحانه - لا بحولنا واختيارنا، وجهدنا واكتسابنا، ولولا أنه عرَّفنا أنه مَنْ هو ما عرفنا وإلا فمتى عَلِمْنا ذلك.
ويقال من توسَّل إليه بشيء دون الاعتصام به فخُسْرانه أكثر من رِبْحِه.
ويقال من لم يَفْنَ عن شهود الكل لم يصل إلى مَنْ به الكل.
ويقال مَنْ لم يَمْشِ تحت راية المصطفى صلى الله عليه وسلم المُعظَّم في قَدْره، المُعَلَّى في وصفه، لم يُقْبَلْ منه شيء ولا ذرة.
ويقال : الذي أقصاه حكم ( الأول ) متى أدناه صدق العمل ؟ والله غالبٌ على أمره.
قال تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ] وإن المرتدَّ عن الإسلام لأشدُّ عداوة للمسلمين من الكافر الأصلي، فكذلك الراجع عن هذه الطريقة لأشد إنكاراً لها وأكثر إعراضاً عن أهلها من الأجنبيِّ عنها.
ويقال إذا كنت لا تصل إلى البر إلا بإنفاق محبوبك فمتى تصل إلى البارّ وأنت تؤثر عليه حظوظك. ﴿ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ منهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعِوض، ومنهم من ينفق على مراقبة دفع البلاء والحَزن، ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه، قال قائلهم :
ويهتز للمعروف في طلب العلى | لتُذكَرَ يوماً - عند سلمى – شمائلُه |
والإشارة من هذه الآية أيضاً في قوله :﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ ﴾ إلى أحوال أهل الدعاوى والمغاليط ؛ فإنهم يخلون بنفوسهم فينسبون إلى الله - سبحانه - هواجسها، والله بريء عنها. وعزيزٌ عبدٌ يفرِّق بين الخواطر والهواجس.
والإشارة من هذه الآية أيضاً في قوله :﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ ﴾ إلى أحوال أهل الدعاوى والمغاليط ؛ فإنهم يخلون بنفوسهم فينسبون إلى الله - سبحانه - هواجسها، والله بريء عنها. وعزيزٌ عبدٌ يفرِّق بين الخواطر والهواجس.
ويقال البيت مطاف النفوس، والحق سبحانه مقصود القلوب !
البيت أطلال وآثار وإنما هي رسوم وأحجار ولكن :
تلك آثارنا تدلُّ علينا | فانظروا بعدنا إلى الآثار |
حَجَرٌ ولكن لقلوب الأحباب مزعج بل لأكباد الفقراء منفج، لا بل لقلوب قومٍ مِثْلِجٌ مبهج، ولقلوب الآخرين منفج مزعج.
وهم على أصناف : بيت هو مقصد الأحباب ومزارهم، وعنده يسمع أخبارهم ويشهد آثارهم.
بيت من طالعه بعين التفرقة عاد بسرٍ خراب، ومن لاحظه بعين الإضافة حظي بكل تقريب وإيجاب، كما قيل :
إن الديار - وإن صَمَتَتْ - فإنَّ لها | عهداً بأحبابنا إذ عندها نزلوا |
ويقال قال سبحانه :﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِىَ ﴾[ الحج : ٢٦ ] وأضافه إلى نفسه، وقال ها هنا :﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ﴾ وفي هذا طرف من الإشارة إلى عين الجمع.
وسميت ( بكة ) لازدحام الناس، فالكلُّ يتناجزون على البدار إليه، ويزدحمون في الطواف حواليْه، ويبذلون المهج في الطريق ليصلوا إليه.
والبيت لم يخاطِب أحداً منذ بنِيَ بُمْنَيةٍ، ولم يستقبل أحداً بحظوة، ولا راسل أحداً بسطر في رسالة، فإذا كان البيت الذي خلقه من حجر - هذا وصفه في التعزز فما ظنُّك بِمَن البيتُ له. قال صلى الله عليه وسلم مخبراً عنه سبحانه :" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ".
ويقال إذا كان البيت المنسوب إليه لا تصل إليه من ناحية من نواحيه إلا بقطع المفاوز والمتاهات فكيف تطمع أن تصل إلى ربِّ البيت بالهوينى دون تحمُّل المشقات ومفارقة الراحات ؟ !
ويقال لا تُعِلِّق قلبك بأول بيتٍ وضع لَكَ ولكن أَفْرِدْ سِرَّكَ لأول حبيبٍ آثرك.
ويقال شتَّان بين عبدٍ اعتكف عند أول بيتٍ وُضِع له وبين عبدٍ لازم حضرة أول عزيز كان له.
ويقال ازدحام الفقراء بهممهم حول البيت ليس بأقل من ازدحام الطائفين بِقَدَمِهم، فالأغنياء يزورون البيت، ويطوفون بِقَدَمِهم، والفقراء يبقون عنه فيطوفون حوله بهممهم.
ويقال الكعبة بيت الحق سبحانه في الحجر، والقلب بيت الحق سبحانه في السِّر، قال قائلهم :
لستُ من جملة المحبين إنْ لم | أجعل القلبَ بيته والمقاما |
وطوافي إجالة السِّر فيه | وهو ركني إذا أردت استلاما |
قوله جلّ ذكره :﴿ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾.
بركاته اتصال الألطاف والكشوفات، فَمَنْ قصده بهمته، ونزل عليه بقصده هداه إلى طريق رُشْدِه.
قوله جلّ ذكره :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾.
ولكن لا تُدْرَكُ تلك الآيات بأبصار الرؤوس ولكن ببصائر القلوب، ومقام إبراهيم - في الظاهر - ما تأثر بِقَدَمِه، وفي الإشارة : ما وقف الخليل عليه السلام بهممه.
ويقال إن شرف مقام إبراهيم لأنه أَثَرُ الخليل، ولأثر الخليل خطر عظيم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾.
يقال مَنْ دَخَلَ مقام إبراهيم كان آمناً، ومقام إبراهيم التسليم، ومن كان مسلماً أموره إلى الله لم يبق له اختيار، وكان آمناً ؛ فالأمن ضده الخوف، والخوف إنما يكون على ألا يحصل مرادك على ما تريد، فإِذا لم تكن للعبد إرادة واختيار فأيُّ مساغٍ للخوف في وصفه ؟
ويقال إن الكناية بقوله :﴿ دَخَلَهُ ﴾ راجعة إلى البيت، فمن دخل بيته - على الحقيقة - كان آمناً، وذلك بأن يكون دخوله على وصف الأدب، ولا محالة أدب دخول البيت تسليم الأمور إلى رب البيت، فإنَّ من لم يكن صاحب تسليم فهو معارضٌ للتقدير. ودخول البيت إنما الأدب فيه أن يكون دخولاً على التسليم دون المعارضة والنزاع فيؤول إلى المعنى المتقدم.
وإن جعلتَ الإشارة من البيت إلى القلب فمن دخل قلبَه سلطان الحقيقة أَمِنَ مِنْ نوازع البشرية وهواجسِ غاغة النفس، فإنَّ من التجأ إلى ظل المَلِكِ لم يمتطِ إليه محذوراً.
ويقال لا يكون دخول البيت - على الحقيقة - إلا بخروجك عنك، فإذا خرجت عنكَ صَحَّ دخولُك في البيت، وإذا خرجتَ عنكَ أَمِنْتَ.
ويقال دخول بيته لا يصحُّ مع تعريجك في أوطانك ومعاهدك، فإن الشخص الواحد لا يكون في حالة واحدة في مكانين ؛ فمن دخل بيت ربِّه فبالحريِّ أن يخرج عن معاهد نفسه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾.
شرط الغَنيِّ ألا يَدَّخِر عن البيت شيئاً مِنْ مالِه، وشرط الفقير ألا يدخر عن الوصول إلى بيته نَفَساً من روحه.
ويقال الاستطاعة فنون ؛ فمستطيع بنفسه ومَالِه وهو الصحيح السليم، ومستطيع بغيره وهو الزَّمِنُ المعصوب، وثالث غفل الكثيرون عنه وهو مستطيع بربه وهذا نعت كل مخلص مستحق فإن بلاياه لا تحملها إلا مطايانا.
ويقال حج البيتِ فَرْضٌ على أصحاب الأموال، وربِّ البيتِ فَرْضٌ على الفقراء فرض حتم ؛ فقد يَنْسَدُّ الطريق إلى البيت ولكن لا ينسدُّ الطريق إلى رب البيت، ولا يُمْنَعُ الفقير عن ربِّ البيت.
ويقال الحج هو القصد إلى مَنْ تُعَظِّمه : فقاصدٌ بنفسه إلى زيارة البيت، وقاصد بقلبه إلى شهود رب البيت، فشتان بين حج وحج، هؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند قضاء منسكهم وأداء فَرضِهم، وهؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند شهود ربهم، فأمَّا القاصدون بنفوسهم فأحرموا عن المعهودات من محرمات الإحرام، وأمَّا القاصدون بقلوبهم فإنهم أحرموا عن المساكنات وشهود الغير وجميع الأنام.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ ﴾.
ضرب رقم الكفر على من ترك حج البيت، ووقعت بسبب هذا القول قلوب العلماء في كدِّ التأويل، ثم قال :﴿ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ ﴾ وهذا زيادة تهديد تدل عَلى زيادة تخصيص.
ويقال إن سبيل من حج البيت أن يقوم بآداب الحج، فإذا عقد بقلبه الإحرام يجب أن يفسخ كلَّ عَقْدٍ يصدُّه عن هذا الطريق، وينقض كل عزم يرده عن هذا التحقيق، وإذا طَهَّرَ تَطَهَّرَ عن كل دَنَسٍ من آثار الأغيار بماء الخجل ثم بماء الحياء ثم بماء الوفاء ثم بماء الصفاء، فإذا تجرَّد عن ثيابه تجرد عن كل ملبوسٍ له من الأخلاق الذميمة، وإذا لبَّى بلسانه وجب ألا تبقى شَعْرَةٌ مِنْ بَدَنِهِ إلا وقد استجابت لله. فإذا بلغ الموقف وقف بقلبه وسِرِّه حيث وقفه الحق بلا اختيار مقام، ولا تعرض لتخصيص ؛ فإذا وقف بعرفات عرف الحق سبحانه، وعرف له تعالى حقَّه على نفسه، ويتعرَّف إلى الله تعالى بِتَبَرِّيه عن مُنَّتِه وحَوْلِه، والحقُّ سبحانه يتعرَّف إليه بِمِنَّته وطَوْله، فإذا بلغ المشعر الحرام يذكر مولاه بنسيان نفسه، ولا يصحُّ ذكرُه لربِّه مع ذكره لنفسه، فإذا بلغ مَنيّ نفى عن قلبه كل طَلَبٍ ومُنَى، وكلَّ شهوةٍ وهوى.
وإذا رمى الجمار رمى عن قلبه وقذف عن سره كل علاقة في الدنيا والعقبى.
وإذا ذبح ذبح هواه بالكلية، وتَقَرَّب به إلى الحق سبحانه، فإذا دخل الحَرَمَ عَزَمَ على التباعد عن كل مُحرَّم على لسان الشريعة وإشارة الحقيقة.
وإذا وقع طَرْفُه على البيت شهد بقلبه ربَّ البيت، فإذا طاف بالبيت أخذ سِرُّه بالجولان في الملكوت.
فإذا سعى بين الصفا والمروة صفَّى عنه كل كدورة بشرية وكل آفة إنسانية.
فإذا حَلَقَ قطع كلَّ علاقة بقيت له.
وإذا تحلل من إحرام نفسه وقصده إلى بيت ربِّه استأنف إحراماً جديداً بقلبه، فكما خرج من بيت نفسه إلى بيت ربه يخرج من بيت ربه إلى ربه تعالى.
فمن أكمل نُسْكَه فإنما عمل لنفسه، ومن تكاسل فإنَّ الله غني عن العالمين وقال صلى الله عليه وسلم :" الحاج أشعث أغبر "، فمن لم يتحقق بكمال الخضوع والذوبان عن كليته فليس بأشعث ولا أغبر.
ويقال البيت مطاف النفوس، والحق سبحانه مقصود القلوب !
البيت أطلال وآثار وإنما هي رسوم وأحجار ولكن :
تلك آثارنا تدلُّ علينا | فانظروا بعدنا إلى الآثار |
حَجَرٌ ولكن لقلوب الأحباب مزعج بل لأكباد الفقراء منفج، لا بل لقلوب قومٍ مِثْلِجٌ مبهج، ولقلوب الآخرين منفج مزعج.
وهم على أصناف : بيت هو مقصد الأحباب ومزارهم، وعنده يسمع أخبارهم ويشهد آثارهم.
بيت من طالعه بعين التفرقة عاد بسرٍ خراب، ومن لاحظه بعين الإضافة حظي بكل تقريب وإيجاب، كما قيل :
إن الديار - وإن صَمَتَتْ - فإنَّ لها | عهداً بأحبابنا إذ عندها نزلوا |
ويقال قال سبحانه :﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِىَ ﴾[ الحج : ٢٦ ] وأضافه إلى نفسه، وقال ها هنا :﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ﴾ وفي هذا طرف من الإشارة إلى عين الجمع.
وسميت ( بكة ) لازدحام الناس، فالكلُّ يتناجزون على البدار إليه، ويزدحمون في الطواف حواليْه، ويبذلون المهج في الطريق ليصلوا إليه.
والبيت لم يخاطِب أحداً منذ بنِيَ بُمْنَيةٍ، ولم يستقبل أحداً بحظوة، ولا راسل أحداً بسطر في رسالة، فإذا كان البيت الذي خلقه من حجر - هذا وصفه في التعزز فما ظنُّك بِمَن البيتُ له. قال صلى الله عليه وسلم مخبراً عنه سبحانه :" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ".
ويقال إذا كان البيت المنسوب إليه لا تصل إليه من ناحية من نواحيه إلا بقطع المفاوز والمتاهات فكيف تطمع أن تصل إلى ربِّ البيت بالهوينى دون تحمُّل المشقات ومفارقة الراحات ؟ !
ويقال لا تُعِلِّق قلبك بأول بيتٍ وضع لَكَ ولكن أَفْرِدْ سِرَّكَ لأول حبيبٍ آثرك.
ويقال شتَّان بين عبدٍ اعتكف عند أول بيتٍ وُضِع له وبين عبدٍ لازم حضرة أول عزيز كان له.
ويقال ازدحام الفقراء بهممهم حول البيت ليس بأقل من ازدحام الطائفين بِقَدَمِهم، فالأغنياء يزورون البيت، ويطوفون بِقَدَمِهم، والفقراء يبقون عنه فيطوفون حوله بهممهم.
ويقال الكعبة بيت الحق سبحانه في الحجر، والقلب بيت الحق سبحانه في السِّر، قال قائلهم :
لستُ من جملة المحبين إنْ لم | أجعل القلبَ بيته والمقاما |
وطوافي إجالة السِّر فيه | وهو ركني إذا أردت استلاما |
قوله جلّ ذكره :﴿ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾.
بركاته اتصال الألطاف والكشوفات، فَمَنْ قصده بهمته، ونزل عليه بقصده هداه إلى طريق رُشْدِه.
قوله جلّ ذكره :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾.
ولكن لا تُدْرَكُ تلك الآيات بأبصار الرؤوس ولكن ببصائر القلوب، ومقام إبراهيم - في الظاهر - ما تأثر بِقَدَمِه، وفي الإشارة : ما وقف الخليل عليه السلام بهممه.
ويقال إن شرف مقام إبراهيم لأنه أَثَرُ الخليل، ولأثر الخليل خطر عظيم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾.
يقال مَنْ دَخَلَ مقام إبراهيم كان آمناً، ومقام إبراهيم التسليم، ومن كان مسلماً أموره إلى الله لم يبق له اختيار، وكان آمناً ؛ فالأمن ضده الخوف، والخوف إنما يكون على ألا يحصل مرادك على ما تريد، فإِذا لم تكن للعبد إرادة واختيار فأيُّ مساغٍ للخوف في وصفه ؟
ويقال إن الكناية بقوله :﴿ دَخَلَهُ ﴾ راجعة إلى البيت، فمن دخل بيته - على الحقيقة - كان آمناً، وذلك بأن يكون دخوله على وصف الأدب، ولا محالة أدب دخول البيت تسليم الأمور إلى رب البيت، فإنَّ من لم يكن صاحب تسليم فهو معارضٌ للتقدير. ودخول البيت إنما الأدب فيه أن يكون دخولاً على التسليم دون المعارضة والنزاع فيؤول إلى المعنى المتقدم.
وإن جعلتَ الإشارة من البيت إلى القلب فمن دخل قلبَه سلطان الحقيقة أَمِنَ مِنْ نوازع البشرية وهواجسِ غاغة النفس، فإنَّ من التجأ إلى ظل المَلِكِ لم يمتطِ إليه محذوراً.
ويقال لا يكون دخول البيت - على الحقيقة - إلا بخروجك عنك، فإذا خرجت عنكَ صَحَّ دخولُك في البيت، وإذا خرجتَ عنكَ أَمِنْتَ.
ويقال دخول بيته لا يصحُّ مع تعريجك في أوطانك ومعاهدك، فإن الشخص الواحد لا يكون في حالة واحدة في مكانين ؛ فمن دخل بيت ربِّه فبالحريِّ أن يخرج عن معاهد نفسه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾.
شرط الغَنيِّ ألا يَدَّخِر عن البيت شيئاً مِنْ مالِه، وشرط الفقير ألا يدخر عن الوصول إلى بيته نَفَساً من روحه.
ويقال الاستطاعة فنون ؛ فمستطيع بنفسه ومَالِه وهو الصحيح السليم، ومستطيع بغيره وهو الزَّمِنُ المعصوب، وثالث غفل الكثيرون عنه وهو مستطيع بربه وهذا نعت كل مخلص مستحق فإن بلاياه لا تحملها إلا مطايانا.
ويقال حج البيتِ فَرْضٌ على أصحاب الأموال، وربِّ البيتِ فَرْضٌ على الفقراء فرض حتم ؛ فقد يَنْسَدُّ الطريق إلى البيت ولكن لا ينسدُّ الطريق إلى رب البيت، ولا يُمْنَعُ الفقير عن ربِّ البيت.
ويقال الحج هو القصد إلى مَنْ تُعَظِّمه : فقاصدٌ بنفسه إلى زيارة البيت، وقاصد بقلبه إلى شهود رب البيت، فشتان بين حج وحج، هؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند قضاء منسكهم وأداء فَرضِهم، وهؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند شهود ربهم، فأمَّا القاصدون بنفوسهم فأحرموا عن المعهودات من محرمات الإحرام، وأمَّا القاصدون بقلوبهم فإنهم أحرموا عن المساكنات وشهود الغير وجميع الأنام.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ ﴾.
ضرب رقم الكفر على من ترك حج البيت، ووقعت بسبب هذا القول قلوب العلماء في كدِّ التأويل، ثم قال :﴿ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ ﴾ وهذا زيادة تهديد تدل عَلى زيادة تخصيص.
ويقال إن سبيل من حج البيت أن يقوم بآداب الحج، فإذا عقد بقلبه الإحرام يجب أن يفسخ كلَّ عَقْدٍ يصدُّه عن هذا الطريق، وينقض كل عزم يرده عن هذا التحقيق، وإذا طَهَّرَ تَطَهَّرَ عن كل دَنَسٍ من آثار الأغيار بماء الخجل ثم بماء الحياء ثم بماء الوفاء ثم بماء الصفاء، فإذا تجرَّد عن ثيابه تجرد عن كل ملبوسٍ له من الأخلاق الذميمة، وإذا لبَّى بلسانه وجب ألا تبقى شَعْرَةٌ مِنْ بَدَنِهِ إلا وقد استجابت لله. فإذا بلغ الموقف وقف بقلبه وسِرِّه حيث وقفه الحق بلا اختيار مقام، ولا تعرض لتخصيص ؛ فإذا وقف بعرفات عرف الحق سبحانه، وعرف له تعالى حقَّه على نفسه، ويتعرَّف إلى الله تعالى بِتَبَرِّيه عن مُنَّتِه وحَوْلِه، والحقُّ سبحانه يتعرَّف إليه بِمِنَّته وطَوْله، فإذا بلغ المشعر الحرام يذكر مولاه بنسيان نفسه، ولا يصحُّ ذكرُه لربِّه مع ذكره لنفسه، فإذا بلغ مَنيّ نفى عن قلبه كل طَلَبٍ ومُنَى، وكلَّ شهوةٍ وهوى.
وإذا رمى الجمار رمى عن قلبه وقذف عن سره كل علاقة في الدنيا والعقبى.
وإذا ذبح ذبح هواه بالكلية، وتَقَرَّب به إلى الحق سبحانه، فإذا دخل الحَرَمَ عَزَمَ على التباعد عن كل مُحرَّم على لسان الشريعة وإشارة الحقيقة.
وإذا وقع طَرْفُه على البيت شهد بقلبه ربَّ البيت، فإذا طاف بالبيت أخذ سِرُّه بالجولان في الملكوت.
فإذا سعى بين الصفا والمروة صفَّى عنه كل كدورة بشرية وكل آفة إنسانية.
فإذا حَلَقَ قطع كلَّ علاقة بقيت له.
وإذا تحلل من إحرام نفسه وقصده إلى بيت ربِّه استأنف إحراماً جديداً بقلبه، فكما خرج من بيت نفسه إلى بيت ربه يخرج من بيت ربه إلى ربه تعالى.
فمن أكمل نُسْكَه فإنما عمل لنفسه، ومن تكاسل فإنَّ الله غني عن العالمين وقال صلى الله عليه وسلم :" الحاج أشعث أغبر "، فمن لم يتحقق بكمال الخضوع والذوبان عن كليته فليس بأشعث ولا أغبر.
وقوله :﴿ وَمَن يَعْتَصِم ﴾ الآية إنما يعتصم بالله مَنَّ وَجَدَ العصمة من الله، فأمَّا مَنْ لم يَهْدِه الله فمتى يعتصم بالله ؟ فالهدايةُ منه في البداية توجِبُ اعتصامك في النهاية، لا الاعتصام منك يوجب الهداية.
وحقيقةُ الاعتصام صدق اللُّجوء إليه، ودوامُ الفرار إليه، واستصحاب الاستغاثة إليه. ومَنْ كشف عن سِرِّه غطاء التفرقة تحقق بأنه لا لغير الله ذرة أو منه سينة، فهذا الإنسان يعتصم به ممن يُعْتَصَمُ به ؛ قال سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وعلى آله :﴿ أَعُوذُ بِكَ مِنْ ﴾.
ومَنْ اعتصم بنفسه دون أن يكون محواً عن حوله وقوته في اعتصامه - فالشِرْكُ وطنُه وليس يشعر.
هذا هو المعتمد من الأقاويل فيه، وأمره على وجهين : على وجه الحَتْم وعلى وجه الندب وكذلك القول في النهي على قسمين : تحريم وتنزيه، فيدخل في جملة هذا أن يكون حق تقاته أولاً اجتناب الزلة ثم اجتناب الغفلة ثم التوقي عن كل خلة ثم التنقي من كل عِلَّة، فإذا تَقِيتَ عن شهود تقواك بعد اتصافك بتقواك فقد اتَّقَيْت حقَّ تقواك.
وحق التقوى رفض العصيان ونفي النسيان، وصون العهود، وحفظ الحدود، وشهود الإلهية، والانسلاخ عن أحكام البشرية، والخمود تحت جريان الحكم بعد اجتناب كل جُرْم وظلم، واستشعار الأنفة عن التوسل إليه بشيء من طاعتك دون صرف كرمه، والتحقق بأنه لا يَقْبل أحداً بعِلَّة ولا يَرُدُّ أحداً بعلة.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾.
لا تُصَادِفَنَّكم الوفاة إلا وأنتم بشرط الوفاء.
ويصح أن يقال : الخواص يُقال لهم ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ ﴾، وخاص الخاص قيل لهم ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ ﴾، ولِمَنْ رجع عند سوانحه إلى اختياره واحتياله، أو فكرته واستدلاله، أو معارفه وأشكاله، والتجأ إلى ظل تدبيره، واستضاء بنور عقله وتفكيره - فمرفوع عنه ظل العناية، وموكول إلى سوء حاله.
وقوله :﴿ وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ : التفرقة أشد العقوبات وهي قرينة الشِرْك.
وقوله :﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أعداءً ﴾. وكانوا أعداء حين كانوا قائمين بحظوظهم، مُعَرِّجِين على ضيق البشرية، متزاحمين بمقتضى شُحِّ النفوس.
﴿ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ﴾ : بالخلاص من أسْرِ المكونات، ودَفَعَ الأخطار عن أسرارهم، فصار مقصودُهم جميعاً واحداً ؛ فلو ألَّفَ ألْفَ شخص في طلبٍ واحدٍ - فهم في الحقيقة واحد.
﴿ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ نعمته التي هي عصمته إياكم، إخواناً مُتَّفقِي القصدَ والهمة، متفانين عن حظوظ النَّفْس وخفايا البخل والشحُّ.
﴿ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ ﴾ : بكونكم تحت أسْرِ مُنَاكم، ورباط حظوظكم وهواكم.
﴿ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ﴾ : بنور الرضاء، والخمود عند جريان القضاء، وتلك حقاً هي المكانة العُظمى والدرجة الكبرى، ويدخل في هذه الجملة تَرْكُ السكون إلى ما مِنْك من المناقب والتُّقى، والعقل والحجا، والتحصيل والنُّهى، والفرار إلى الله - عزَّ وجلَّ - عن كل غَيْر وسوى.
ويقال مَنْ ابيض - اليومَ - قلبُه ابيضَّ - غداً - وجهُه، ومَنْ كان بالضد فحاله العكس.
ويقال مَنْ أعرض عن الخلق - عند سوانحه - ابيضَّ وجهه بروح التفويض، ومَنْ علَّق بالأغيار قلبَه عند الحوائج اسودّ محيَّاه بغبار الطمع ؛ فأمّا الذين ابيضت وجوههم ففي أُنُسٍ وروح، وأمّا الذين اسودّت وجوههم ففي محن ونَوْح.
ويقال مَنْ ابيض - اليومَ - قلبُه ابيضَّ - غداً - وجهُه، ومَنْ كان بالضد فحاله العكس.
ويقال مَنْ أعرض عن الخلق - عند سوانحه - ابيضَّ وجهه بروح التفويض، ومَنْ علَّق بالأغيار قلبَه عند الحوائج اسودّ محيَّاه بغبار الطمع ؛ فأمّا الذين ابيضت وجوههم ففي أُنُسٍ وروح، وأمّا الذين اسودّت وجوههم ففي محن ونَوْح.
﴿ وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ حُكماً.
﴿ وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ حُكماً.
وكم باسطين إلى وَصْلِنا | أكُفَّهُم لم ينالوا نصيبا |
المعروف خدمة الحق، والمنكر صحبة النفس.
المعروف إيثار حقِّ الحق، والمنكر اختيار حظ النفس.
المعروف ما يُزْلِفُك إليه، والمنكر ما يحجبك عنه.
وشرط الآمر بالمعروف أن يكون متصفاً بالمعروف، وحقُّ النَّاهي عن المنكر أن يكون منصرفاً عن المنكر.
﴿ وَلَو آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمْ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ ﴾.
لو دَخَلَ الكافةُ تحت أمرنا لوصلوا إلى حقيقة العزِّ في الدنيا والعقبى، ولكن بَعُدُوا عن القبول في سابق الاختيار فصار أكثرُهم موسوماً بالشِّرْك.
تبَدَّلَتْ وتبدلنا واحسرةً | لمن ابتغى عِوَضاً لسلمى فلم يَجدَ |
﴿ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾.
دَعْهُمْ يتفردوا بمقاساة ما تداخلهم من الغيظ، واستريحوا بقلوبكم عمَّا يَحِلُّ بهم، فإن الله أولى بعباده ؛ يوصل إلى مَنْ يشاء ما يشاء.
أقامَه - صلى الله عليه وسلم - بتبوئه الأماكن للقتال، فانْتُدِب لذلك بأمره ثم أظهر في ذلك الباب مكنونات سِرِّه، فالمدار على قضائه وَقَدَرِه، والاعتبار بإجرائه واختياره.
فعلى هذه السُّنَّة أنزل هذا الخطاب. ثم قطع قلوبهم وأسرارهم عن الأغيار بالكلية فقال :﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ﴾.
ويقال جرَّده - بما عرَّفه وخاطبه - عن كلِّ غيرٍ ونصيب ودعوى، حيث أخبر أنه ليس له من الأمر شيء، فإذا لم يَجُزْ أن يكون لسيِّد الأولين والآخرين شيء من الأمر فَمَنْ نزلت رتبتُه عن منزلته فمتى يكون له شيء من الأمر ؟
ويقال استأثر ( بِسَتْرِ عباده في حكمه ) فقال أنا الذي أتوب على من أشاء من عبادي وأعذِّب من أشاء، والعواقب عليك مستورة، وإنك - يا محمد - لا تدري سرى فيهم.
ويقال أقامه في وقتٍ مقاماً فقالت :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ﴾
[ الأنفال : ١٧ ] رمى بقبضة من التراب فأصاب جميع الوجوه، وقال له في وقت آخر :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ ﴾ ثم زاد في البيان فقال :﴿ وَللهِ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ ﴾. فإذا كان المُلْك ملكه، والأمر أمره، والحكم حكمه - فَمَنْ شاء عذَّبه، ومن شاء قرَّبه، ومن شاء هداه، ومن شاء أغواه.
ويقال جرَّده - بما عرَّفه وخاطبه - عن كلِّ غيرٍ ونصيب ودعوى، حيث أخبر أنه ليس له من الأمر شيء، فإذا لم يَجُزْ أن يكون لسيِّد الأولين والآخرين شيء من الأمر فَمَنْ نزلت رتبتُه عن منزلته فمتى يكون له شيء من الأمر ؟
ويقال استأثر ( بِسَتْرِ عباده في حكمه ) فقال أنا الذي أتوب على من أشاء من عبادي وأعذِّب من أشاء، والعواقب عليك مستورة، وإنك - يا محمد - لا تدري سرى فيهم.
ويقال أقامه في وقتٍ مقاماً فقالت :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ﴾
[ الأنفال : ١٧ ] رمى بقبضة من التراب فأصاب جميع الوجوه، وقال له في وقت آخر :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ ﴾ ثم زاد في البيان فقال :﴿ وَللهِ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ ﴾. فإذا كان المُلْك ملكه، والأمر أمره، والحكم حكمه - فَمَنْ شاء عذَّبه، ومن شاء قرَّبه، ومن شاء هداه، ومن شاء أغواه.
والناس في المسارعة على أقسام : فالعابدون يسارعون بقَدَمِهم في الطاعات، والعارفون يسارعون بهممهم في القربات، والعاصون يسارعون بندمهم بتجرُّع الحسرات. فَمَنْ سارع بِقَدَمِه وجد مثوبته، ومن سارع بهممه وجد قربته، ومن سارع بندمه وجد رحمته.
ولمَّا ذكر الجنة وصفها بسعة العرض، وفيه تنبيه على طولها لأن الطول في مقابلة العَرْض، وحين ذكر المغفرة لم يذكر الطول والعرض، فقومٌ قالوا : المغفرة من صفات الذات، وهي بمعنى الرحمة، فعلى هذا فمغفرته حُكْمُه بالتجاوز عن العبد وهو كلامه، وصفة الذات تتقدس عن الطول والعرض.
ومن قال : مغفرته من صفات فِعْلِه، قال لكثرة الذنوب لم يصف الغفران بالنهاية، إشارةً إلى استغراقه جميع الذنوب.
قوله :﴿ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ ﴾ : يتجاوزون عن الخَلْق لملاحظاتهم إياهم بعين النسبة، وأقوام يَحْلُمون على الخلق علماً بأن ذلك بسبب جُرْمِهم فيشهدونهم بعين التسلط، وآخرون يكظمون الغيظ تحققاً بأن الحق سبحانه يعلم ما يقاسون فيهون عليهم التحمل، وآخرون فنوا عن أحكام البشرية فوجدوا صافِيَ الدرجات في الذُّلِّ لأن نفوسهم ساقطة فانية، وآخرون لم يشهدوا ذرة من الأغيار في الإنشاء والإجراء ؛ فعلموا أنَّ المنشئ الله ؛ فزالت خصوماتهم ومنازعاتهم مع غير الله لأنهم لمَّا أفردوه بالإبداع انقادوا لحكمه ؛ فلم يروا معه وجهاً غير التسليم لحكمه، فأكرمهم الحق سبحانه بِبَرْدِ الرضاء، فقاموا له بشرط الموافقة.
قوله :﴿ والعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ فرضاً رأوه على أنفسهم لا فضلاً منهم على الناس، قال قائلهم :
رُبَّ رام لي بأحجار الأذى | لم أجِدْ بُدَّاً من العطف عليه |
﴿ أَوْ ظَلَمُوا أنفُسَهُمْ ذِكَرُوا اللهَ ﴾ ثم قال في آخر الآية :﴿ وََمن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ ﴾.
ويقال فاحشةُ كلِّ أحد على حسب حاله ومقامه، وكذلك ظلمهم وإن خطور المخالفات ببال الأكابر كفِعْلها من الأغيار، قال قائلهم :
أنت عيني وليس من حق عيني | غضُّ أجفانها على الأقذاء |
ويقال فعلوا فاحشة بركونهم إلى أفعالهم، أو ظلموا أنفسهم بملاحظة أحوالهم، فاستغفروا لذنوبهم بالتبري عن حركاتهم وسكناتهم علماً منهم بأنه لا وسيلة إليه إلا به، فخلصهم من ظلمات نفوسهم. وإن رؤية الأحوال والأفعال لَظُلُمَاتٌ عند ظهور الحقائق، ومَنْ طَهَّره الله بنور العناية صانه عن التورط في المغاليط البشرية.
﴿ وَجَنَاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ مؤجلاً من الفراديس، ومُعَجلاً في روح المباحات وتمام الأنْس.
قوله :﴿ إن كُنتُم مُّؤمِنِينَ ﴾ أي ينبغي للمؤمن ألا تظله مهابةٌ من غير الله.
﴿ وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ ﴾ في أودية التفرقة. ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ﴾[ الرعد : ١٧ ].
إذا شام الفتى برق المعاني | فأهونُ فائتٍ طِيبُ الرُّقاد |
إذا انسكبت دموعٌ في خُدُودٍ | تبيَّن من بكى ممن تباكى |
﴿ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ لما تُوُفّى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - سقمت البصائر إلا بصيرة الصديق رضي الله عنه فأمدَّه الله بقوة السكينة، وأفرغ عليه قوة التولي فقال :" من كان يعبد محمداً فإنَّ محمداً قد مات " فصار الكل مقهورين تحت سلطان قالته لِمَا انبسط عليهم من نور حالته، كالشمس بطلوعها تندرج في شعاعها أنوارُ الكواكب فيستتر فيها مقادير مطارح شعاع كل نجم.
وإنما قال :﴿ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ﴾ لأنه صلى الله عليه وسلم مات. وقيل أيضاً لأنه قال :" ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري ".
﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾ : للصالحين العاقبة وللآخرين الغفلة.
﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾ : وثواب الآخرة أوله الغفران ثم الجِنان ثم الرضوان.
﴿ وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ : وجزاء الشكرِ الشكرُ.
يتجنَّبُ الآثامَ ثم يخافها | فكأنَّما حسناتُه آثامُ |
﴿ وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ﴾.
يعني دخولهم الجنة محررون عنها، غير داخلين في أسرها.
ويقال ثوابُ الدنيا والآخرة الغيبةُ عن الدارين برؤية خالقهما.
ولمّا قال ﴿ ثَوَابَ الدُّنْيَا ﴾ قال في الآخرة ﴿ وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ﴾ فوجب أن يكون لثواب الآخرة مزية على ثواب الدنيا حيث خصَّه بوصف الحسن، وتلك المزية دوامها وتمامها وثمارها، وأنها لا يشوبها ما ينافيها، ويوقع آفةً فيها.
ويقال كل من استنصرت به احتجتَ إلى أن تُعْطِيَه شيئاً من كرائمك ثم قد ينصرك وقد لا ينصرك، فإذا استنصرته - سبحانه - يعطيك كلّ لطيفة، ولا يرضى بألا ينصرك.
الإشارة من هذه الآية إلى أن الحق سبحانه أقام أولياءه بحق حقه، وأقعدهم عن تحصيل حظوظهم، وقام سبحانه بكفايتهم بكل وجه، فمن لازم طريق الاستقامة، ولم يزغ عن حدِّه ولم يُزغْ في عهده، فإنه سبحانه يصدق وعده له بجميل الكفاية ودوامها، ومن ضلّ عن الاستقامة - ولو خطوة - عثر في مشيته، واضطربت عليه - بمقدار جُرْمه - حاله وكفايته، فمن زَادَ زِيدَ له، ومن نَقَصَ نُقِصَ له.
قوله جلّ ذكره :﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤمِنِينَ ﴾.
قيمة كل أحدٍ إرادته ؛ فَمَنْ كانت همتُه الدنيا فقيمتُه خسيسةٌ حقيرة كالدنيا، ومن كانت همتُه الآخرة فشريفٌ خطره، ومن كانت همتُه ربانية فهو سيد وقته.
ويقال مَنْ صفا عن إرادته وصل إليه، ومن وصل إليه أقبل - بلطفه - عليه، وأزلفه بمحل الخصوصية لديه.
قوله :﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ﴾ : الإشارة منه أنه صرف قوماً عنه فشغلهم بغيره عنه، وآخرون صرفهم عن كل غير فأفردهم له ؛ فالزاهدون صرفهم عن الدنيا، والعابدون صرفهم عن اتباع الهوى، والمريدون صرفهم عن المنى، والموحِّدون صرفهم عما هو غيرٌ وسوى.
فأمَّا الطائفة التي أهمتهم أنفسهم - فبقوا في وحشة نفوسهم، ومِنْ عاجل عقوبتهم سوءُ عقيدتهم في الطريقة بعد إيمانهم بها ؛ قال تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾[ الأنعام : ١١٠ ].
والإشارة في قوله تعالى :﴿ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ شَيء ﴾ لهؤلاء أنهم يتحيَّرون في أمرهم فلا إقبال لهم على الصواب بالحقيقة، ولا إعراض بالكلية، يحيلون فترتهم على سوء اختيارهم، ويضيفون صفوة - لو كانت لقلوبهم - إلى اجتهادهم، وينسَوْن ربَّهم في الحالين، فلا يبصرون تقدير الحق سبحانه. قال تعالى :
﴿ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ ﴾ : فَمَنْ عَرَفَ أن المنشئ الله انسلخ عن اختياره وأحواله كانسلاخ الشَّعْرِ عن العجين، وسَلَّمَ أموره إلى الله بالكلية. وأمارة مَنْ تحقق بذلك أن يستريح من كدِّ تدبيره، ويعيش في سعة شهود تقديره.
وقوله :﴿ يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ﴾ : لم يُخْلِصُوا في عقائدهم، وأضمروا خلاف ما أظهروا، وأعلنوا غير ما ستروا، وأحالوا الكائنات على أسبابٍ توهموها.
قال تعالى :﴿ قُلْ لَّوْ كُنتُم فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ﴾.
أخبر أن التقدير لا يُزَاحَم، والقَدَر لا يُكابَرَ، وأن الكائناتِ محتومة، وأن الله غالب على أمره.
وقوله :﴿ وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ ﴾ : فأمّا أهل الحقائق فإنه تعالى ينتزع من قلوبهم كل آفةٍ وحجبة، ويستخلص أسرارهم بالإقبال والزلفة، فتصبح قلوبهم خالصةً من الشوائب، صافيةً عن العلائق، منفردةً للحق، مجرَّدَةً عن الخلق، مُحَرَّرة عن الحظِّ والنَّفْس، ظاهرةً عليها آثارُ الإقبال، غالباً عليها حُسْنُ التَوَلِّي، باديةً فيها أنوارُ التجلي.
قابَلَهم نصحُ الناصحين، ودعوة المنى، ووساوس الشياطين فركنوا إلى الغيبة، وآثروا الهوى على التُّقَى فبقوا عنه، ولم يتهنَّوا بما آثروه عليه.
ويقال إن من خصائص رحمته - سبحانه - عليه أنْ قَوّاه حتى صَحِبَهُم، وصبر على تبليغ الرسالة إليهم، وعلى ما كان يقاسيه من اختلافهم - مع سلطان ما كان مستغرقاً له ولجميع أوقاته من استيلاء الحق عليه، فلولا قوة إلهية لستأثره الحق بها وإلا متى أطلق صحبتهم ؟ !
ألا ترى إلى موسى عليه السلام لما كان قريب العهد بسماع كلامه كيف لم يصبر على مخاطبة أخيه فأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه ؟
ويقال لولا أنه صلى الله عليه وسلم شاهدهم محواً فيما كان يَجْرِي عليهم من أحكام التصريف، وتحقَّق أن منشئها الله - لما أطاق صحبتهم.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ : لو سَقْيتَهم صِرْفَ شراب التوحيدِ غيرَ ممزوجٍ بما فيه لهم حظٌّ لتفرقوا عنك، هائمين على وجوههم، غير مطيقين للوقوف لحظةً، ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ ﴾ فيما يكون تقصيراً منهم في حقك وتوقيرك، وما عثرت عليه مِنْ تفريطهم في خدمتنا وطاعتنا - فانتصِبْ لهم شفيعاً إلينا.
ويقال :﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ ﴾ فاعف - أنت - عنهم فإن حكمك حكمُنا، فأنت لا تعفو إلا وقد عَفَوْنا، ثم ردَّه عن هذه الصفة بما أثبته في مقام العبودية، ونقله إلى وصف التفرقة فقال : ثم قِفْ في محل التذلل مبتهلاً إلينا في استغفارهم. وكذا سُنَّتُه - سبحانه - مع أنبيائه عليهم السلام وأوليائه، يردُّهم مِنْ جمعٍ إلى فرقٍ ومن فَرْقٍ إلى جمع، فقوله :﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ ﴾ جمع، وقوله :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لهُمْ ﴾ فرق.
ويقال :﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ ﴾ وتجاوز عنهم في حقوقك، ولا تكتفِ بذلك ما لم تستغفِرْ لهم إكمالاً للكرم ؛ ولهذا كان يقول :" اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ".
ويقال ما يُقصِّرون في حقِّك تعلَّق به حقَّان : حقك وحقي، فإذا عفوتَ أنت فلا يكفي هذا القَدْرُ بل إنْ لَمْ أتجاوز عنهم في حقي كانوا مستوجبين للعقوبة ؛ فمن أرضى خصمَه لا يَنْجَبِر حالُه ما لم يغفر الله له فيما ترك من أمره.
وقوله :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ ﴾ أي أثْبِتْ لهم محلاً ؛ فإنَّ المعفوَ عنه في صدار الخجلة لا يرى لنفسه مقام الكَرامة، فإذا شاورتَهم أزَلْت عنهم انكسارهم، وطيَّبْتَ لهم قلوبهم.
ويقال تجَنَّسوا في أحوالهم : فَمِنْ مُقَصِّر في حقه أُمِرَ بالعفو عنه، ومن مرتكب لذنوبه أُمِرَ بالاستغفار له، ومن مطيعٍ غير مقصرٍ أُمِرَ بمشاورته.
ثم قال :﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ﴾ أي لا تتكل على رأي مخلوق وكِلْ الأمور إليّ، فإنا لا نخليك عن تصريف القبض بحالٍ.
وحقيقة التوكل شهود التقدير، واستراحة القلوب عن كد التدبير.
﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ﴾ يذيقهم بَرْدَ الكفاية ليزول عنهم كل لغبٍ ونَصَبٍ، وإنه يعامل كلاً بما يستوجبه ؛ فقومٌ يغنيهم - عند توكلهم - بعطائه، وآخرون يكفيهم - عند توكلهم - بلقائه، وقوم يرضيهم في عموم أحوالهم حتى يكتفون ببقائه، ويقفون معه به له - على تلوينات قَدَرِه وقضائه.
ويقال ينصركم الله بتأييد الظواهر وتسديد السرائر.
ويقال للنصرة إنما تكون على العدو، وأعدى عدوك نَفْسُكَ التي بين جنبيك. والنصرة على النَّفْس بأن تهزم دواعي مُنَّتِها بعواصم رحمته حتى تَنْفَضَّ جنود الشهوات بهجوم وفود المنازلات فتبقى الولاية لله خالصةً من شبهات الدواعي التي هي أوصاف البشرية، وشهوات النفوس وأمانيها، التي هي آثار الحجبة وموانع القربة.
﴿ وَإِن يَخْذُلْكُمْ ﴾ الخذلان التخلية مع المعاصي، فَمَنْ نَصَرَه قبض على يديه عن تعاطي المكروه، ومن خَذَلَه أَلقى حَبْله على غاربه، وَوَكَلَه إلى سوء اختياره، فيفترق عليه الحال في أودية الشهوات، فمرة يُشَرِّق غير محتشِم، وتارة يُغَرِّب غير مُحترِم، ألا ومن سبَّبه الحق فلا آخذ بيده، ومن أسلمه فلا مجيرَ له.
﴿ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ﴾ : في وجدان الأمان عند صدق الابتهال، وإسبال ثوب العفو على هناة الجُرْم عند خلوص الالتجاء، بالتبري من المنَّة والحول.
ويقال لما كان حديث النصرة قال :﴿ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ﴾، ولما كان حديث الخذلان لم يقل " فلا ناصر لكم " بل قال بالتلويح والرمز :﴿ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُمْ مِّن بَعْدِهِ ﴾ : وفي هذا لطيفةٌ في مراعاة دقائق أحكام الخطاب.
ويقال ما كان لنبي من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يضل أسرارنا في غير أهلها، بل يُنْزِلون كل أحدٍ عندما يستوجبه، وفي الأثر " أُمِرْنَا أن نُنْزِلَ الناسَ منازلهم ".
وكذا المَلُولُ إذا أراد قطيعةً | ملَّ الوصال وقال كان وكانا |
قُلْ لهم - يا محمد - استديموا لأنفسكم الحياة، وادفعوا عنها هجوم الوفاة !
ومتى تقدرون على ذلك ؟ ! هيهات هيهات !.
ويقال إن الذي وارثُه الحي الذي لم يزل فليس بميت - وإن قُتِل :
وإن كانت العبدان للموت أُنْشِئَتْ | فقتل امرئ في الله - لا شكَّ - أفضلُ |
استجابة الحق بالتحقق بالصفاء في حق الربوبية، واستجابة الرسول عليه السلام بالوفاء في إقامة العبودية.
﴿ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ ﴾ : في ابتداء معاملاتهم قبل ظهور أنوار التجلي على قلوبهم، وابتسام الحقائق في أسرارهم.
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ ﴾ :" الإحسان أن تعبد الله كأنَّك تراه. . . " - وهو المشاهدة والتقوى -. . . " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " - وهو المراقبة في حال المجاهدة.
﴿ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ لأهل البداية مؤجَّلاً، ولأهل النهاية مُعجَّلاً.
ومن أمارات اليقين استقلالُ القلوب بالله عند انقطاع المُنَى مِن الخَلْق في توهم الإنجاد والإعانة.
كذلك العبد إذا صدق في ابتهاله إلى الله، ورجوعه إليه عن مخالفته، آواه إلى كنف قربته، وتداركه بحسن لطفه.
فما نحن عذِّبْنَا بِبُعْدِ ديارهم | ولا نحن ساقتنا إليهم نوازعُ |
﴿ سِنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾[ الأعراف : ١٨٢ ] نملي لهم فيظنون ذلك إنعاماً، ولا يحسبونه انتقاماً، فإذا برزت لهم كوامنُ التقدير عند مغاراتها علموا أنهم لفي خسران، وقد اتَّضح لكلِّ ذي بصيرة أن ما يكون سببَ العصيان وموجبَ النسيان غيرُ معدودٍ من جملة الإنعام.
﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ ﴾ : فإنَّ أسرار الغيب لا تظهر للمتلوثين بأدناس البشرية، وإن الحق سبحانه مستأثر بعلم ما جلَّ وقلَّ، فيختص من يشاء من أنبيائه بمعرفة بعض أسراره.
والبخل - على لسان العلماء - منع الواجب، وعلى مقتضى الإشارة إبقاءُ شيءٍ ولو ذرةً من المال أو نَفَساً من الأحوال.
ويقال علم أن في المؤمنين مَنْ يغتاب الناس، وذلك قبيح من قالتهم، فَأَظْهَرَ قُبْحاً فوق ذلك ليتصاغر قبح قول المؤمنين بالإضافة إلى قبح قول الكفار، فكأنه قال : لئن قبحت قالتهم في الاغتياب فأقبحُ من قولهم قولُ الكفار حيث قالوا في وصفنا ما لا يليق بنعمتنا.
وفيه أيضاً إشارة إلى الدعاء إلى الخَلْق، والتجاوز عن الخَصْم، فإن الله - سبحانه - لم يسلبهم ما أولاهم مع قبيح ما ارتكبوه من التقصير في حقوقه.
قوله :﴿ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ﴾ : هذه الكلمة من موجبات الخجلة لأهل التقصير بأدقّ إشارة ؛ يعني أنهم وإنْ نَسُوا أحوالهم وأقوالَهم فإنا ننشر لهم ما كتبنا عليهم قال قائلهم :
صحائفُ عِنْدِي للعِتاب طويتها | سَتُنْشَرُ يوماً والعتابُ يطولُ |
سأصبر حتى يجمع الله بيننا | فإنْ نلتقِ يوماً فسوف أقول |
﴿ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الغُرُورِ ﴾ : لأن ما هو آتِ فقريبٌ.
﴿ سَنُرِيَهُمْ آيَاتِنَا فِى الآفاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ﴾[ فصلت : ٥٣ ] ؛ فالآيات الظاهرة توجِب علم اليقين، والآيات الباطنة توجِب عين اليقين.
والإشارة من اختلاف الليل والنهار إلى اختلاف ليالي العباد ؛ فليالي أهل الوصلة قصيرة، وليالي أهل الفراق طويلة ؛ فهذا يقول :
شهور ينقضين وما شعرنا | بأنصافٍ لهن ولا سِرار |
صباحك سكر والمساء خمار | فنمت وأيام السرور قصار |
ليالي أقر الظاعنين (. . . ) | شَكَوْتَ وليلُ العاشقين طويلُ |
لستُ أدري أطال لَيْلِيَ أمْ لا ؟ | كيف يدري بذاك من يَتَقَلَّى ؟ ! |
لو تَفَرَّغْتُ لاستطالةِ لَيْلِي | ورعَيْتُ النجوم كنتُ مُحِلاَّ |
ويذكرون الله قياماً على بساط الخدمة ثم يقعدون على بساط القربة.
ومَنْ لم يَسْلَمْ في بداية قيامه عن التقصير لم يسلم له قعودٌ في نهايته بوصف الحضور.
والذكر طريق الحق - سبحانه - فما سلك المريدون طريقاً أصحَّ وأوضح من طريق الذكر، وإن لم يكن فيه سوى قوله :" أنا جليس من ذكرني " لكان ذلك كافياً.
والذاكرون على أقسام، وذلك لتباين أحوالهم : فذكر يوجب قبض الذاكر لما يذكره من نَقْصٍ سَلَفَ له، أو قُبْحٍ حصل منه، فيمنعه خجله عن ذكره، فذلك ذكر قبض.
وذكر يوجب بسط الذاكر لما يجد من لذائذ الذكر ثم تقريب الحقِّ إياه بجميل إقباله عليه.
وذاكر هو محو في شهود مذكوره ؛ فالذكر يجري على لسانه عادةً، وقلبه مُصْطَلَمٌ فيما بدا له.
وذاكر هو محل الإجلال يأنف من ذكره ويستقذر وصفه، فكأنه لتصاغره عنه لا يريد أن يكون له في الدنيا والآخرة ( ثناء ) ولا بقاء، ولا كون ولا بهاء، قال قائلهم :
ما إن ذكرتك إلا همّ يلعنني | قلبي وروحي وسرى عند ذكراكا |
حتى كأنَّ رقيباً منك يهتف بي | إياك ويحك والتذكار إياكا |
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ ﴾.
التفكر نعمة كل طالب، وثمرته الوصال بشرط العلم، فإذا سلم الذكر عن الشوائب ورد صاحبه على مناهل التحقيق، وإذا حصل الشهود والحضور سما صاحبه عن الفكر إلى حدود الذكر، فالذكر سرمد.
ثم فكر الزاهدين في فناء الدنيا وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكرة زهداً فيها.
وفكر العابدين في جميل الثواب فيزدادون نشاطاً عليه ورغبةً فيه.
وفكر العارفين في الآلاء والنعم فيزدادون محبةً للحق سبحانه.
قوله جلّ ذكره :﴿ سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
التسبيح يشير إلى سبح الأسرار في بحار التعظيم.
والإيمان الدخول في مُوجِبات الأَمَان، وإنما يؤمِن بالحق من أَمَّنَه الحق، فأَمَانُ الحق للعبد - الذي هو إجارته - يوجِب إيمانَ العبدِ بالحق الذي هو تصديقه ومعرفته.
﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ ﴾ : وهم المختصون بحقائق التوحيد، القائمون لله بشرائط التفريد، والواقفون مع الله بخصائص التجريد.
﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا ﴾ : يعني الديار والمزار، وجميع المخالفين والموافقين من الأغيار.
﴿ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ﴾ : إلى مفارقة معاهدهم من مألوفاتهم.
﴿ وَأُوذُوا فِى سَبِيلِي ﴾ : عُيِّروا بالفقر والملام، وفتنوا بفنون المحن والآلام.
﴿ وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ﴾ : ذاقوا من اختلاف الأطوار الحلو والمر.
﴿ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ : يعني لنعطينَّهم فوق آمالهم وأكثر، مما استوجبوه بأعمالهم وأحوالهم.
والرباط نوع من الصبر ولكن على وجه مخصوص.
ويقال أول الصبر التصبر، ثم الصبر ثم المصابرة ثم الاصطبار وهو نهاية.
ويقال اصبروا على الطاعات وعن المخالفات، وتصابروا في ترك الهوى والشهوات، وقطع المنى والعلاقات، ورابطوا بالاستقامة في الصحبة في عموم الأوقات والحالات.
ويقال اصبروا بنفوسكم وصابروا بقلوبكم، ورابطوا بأسراركم.
ويقال اصبروا على ملاحظة الثواب، وصابروا على ابتغاء القربة، ورابطوا في محل الدنوِّ والزلفة - على شهود الجمال والعِزَّة.
والصبر مُرٌّ مَذَاقُه إذا كان العبد يتحسَّاه على الغيبة، وهو لذيذٌ طعمُه إذا شربه على الشهود والرؤية.
﴿ واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ : الفَلاَحُ الظَّفَرُ بالبُغْيَة، وهِمَّتُهم اليوم الظفر بنفوسهم، فعند ذلك يتم خلاصهم، وإذا ظفروا بنفوسهم ذبحوها بسيوف المجاهدة، وصلبوها على عيدان المكابدة، وبعد فنائهم عنها يحصل بقاءهم بالله.