وليست سورة آل عمران من أوائل ما نزل بالمدينة، فقد كان نزولها بعد فترة تقلبت فيها على المؤمنين أحوال من النصر والهزيمة في غزوات متعددة، واختلطوا بأهل الكتاب وجرى بينهم كثير من الحجاج والنقاش فيما يتصل بالدعوة المحمدية وفروعها. وقد نزلت " آل عمران " بعد سورة الأنفال التي تكلفت بالكلام على موقعة بدر، وبرزت العناية فيها بأمرين عظيمين لهما خطرهما في سعادة الأمم وشقائها.
أحدهما : تقرير الحق في قضية العالم الكبرى، وهي مسألة الألوهية وإنزال الكتب وما يتعلق بها من أمر الدين والوحي والرسالة.
والثاني : تقرير العلة التي من أجلها ينصرف الناس في كل زمان ومكان عن التوجه إلى معرفة الحق والعمل على إدراكه والتمسك به.
لذاك نجدها بدأت بتقرير الأمر الأول فذكرت وحدانية الله، وأنه وحده الحي الذي لا يدركه الفناء، القيوم الذي له الهيمنة على شئون الخلق بالإيجاد والتربية الجسمية والعقلية. كما قررت علمه المحيط وقدرته النافذة القاهرة. ثم قدّرت اصطفاء الله لبعض خلقه ﴿ رسلا مبشرين ومنذرين ﴾ يعرفون مهمتهم وهي دعوة الخلق إلى الحق، وأن الله تعالى أخذ على هؤلاء الرسل جميعا العهد والميثاق أن يصدِّق بعضهم بعضا في الحق وفي دعوة الناس إلى الله.
هذا هو العهد الذي حفظه عيسى عليه السلام وتوفي عليه وبه يلقى ربه يوم القيامة.
كما أبرزت السورة وحدة الدين عند الله وعلى لسان رسله جميعا. وقد خصت جماعة المسرفين في شأن عيسى، الزاعمين له ما ليس له من ألوهية أو بنوة أو حلول، فذكرت أنه لم يكن إلا رجلا من آل عمران الذين اصطفاهم الله من بين من اصطفى، وبينت أن الخوارق التي ظهرت على يده لم تكن إلا من سنّة الله في تأييد رسله بالمعجزات.
وبعد أن تكشف السورة لأولئك شُبهتهم التي ضلوا بها، تسلك معهم سبيلا آخر فتأمر الرسول الكريم أن يتقدم إليهم فيدعوهم إلى المباهلة : وهي أن يجتمعوا جميعا في صعيد واحد، ويستمطر الكل لعنة الله على الكاذب من الفريقين، فلم يقبلوا، بل خافوا وتولوا وانقطعوا عن الحِجاج. ثم ذكرت السورة أمورا كثيرة عن تفنّن أهل الكتاب في إضلال المؤمنين، كما بينت حيلهم وفنّدتها في كثير من الآيات البينات.
وبينما كانت السورة تقرر هذا المقصد على النحو الذي شرحناه باختصار، فقد عرضت أثناء ذلك بيان العلة التي تستحوذ على قلوب الناس، فتحُول بينهم وبين اعتناق الحق والعمل به. وهذا هو المقصد الثاني للسورة. وهي ترده إلى شيء واحد هو الاعتزاز بما لهم من أموال وأولاد وسلطان. فقد كان المشركون يتصورون أن إيمانهم بمحمد فيه زلزلة لما لهم من جاه وسلطان.. وهم يريدون الحفاظ على ذلك.
وبعد أن ترسِّخ السورة هذين المقصدين تتجه إلى جماعة المؤمنين، فتحذرهم ألا يتأثروا قليلا أو كثيرا بخطة هؤلاء المعاندين في الاغترار بمتاع الحياة الدنيا. وتطلب إليهم أن يعتصموا بحبل الله. ثم تبين لهم علاقاتهم بغير المؤمنين وكيف يجب عليهم أن يعاملوهم، شارحة ما يباح لهم وما لا يباح.
وهي تلفت نظرهم إلى واقعة بدر وكيف أنهم انتصروا فيها بالإيمان والصبر رغم قلة كانت لديهم في العدة والعدد، وكثرة لدى أعدائهم في الجانبين.
ثم توجه انتباههم إلى واقعة أحُد، يوم اعتمدوا على قوتهم وكثرتهم. يومذاك انهزموا، بعد أن خطفت أبصارهم زخارف الدنيا.
وهي تذكر أن تلك الهزيمة كانت ابتلاء من الله وتمحيصا للمؤمنين، وتقرر أن العاقبة لهم على كل حال. أما الشهداء فهم الفائزون، لأنهم أحياء عند ربهم يُرزقون.
بعد ذلك وجهت السورة نداءات إلهية لجماعة المؤمنين، وحرمت الربا قليله وكثيره، ثم نبهت المؤمنين إلى أنّ من شأن أرباب الحق أن ينالهم كثير من الأذى، بالقول والعمل، من حُماة الباطل. وأن واجب المؤمنين أن يتلقوا كل ذلك بالصبر والاحتمال.
وبعد هذا كله تُختم السورة بأمرين عظيمين :
الأول : رسم الطريق الذي يصل به الإنسان إلى معرفة الحق والإيمان به.
والثاني : هذه النصيحة الغالية التي ما تمسكت بها أمة إلا سمت وعزّت، ولا تخلت عنها أمة إلا أخذها الضعف فأفضى بها إلى الذل والهوان.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
ووجهُ اتصال هذه السورة بالتي قبلها : أن كلا منهما بدأ بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء به. وأن الأولى تأتي على ذكر آدم وخلْقه، والثانية على خلق عيسى. وكلاهما جرى على غير سنة سابقة في الخلق. وفي كل منهما محاجّة لأهل الكتاب. وقد جاء الحِجاج في " البقرة " بإسهاب في محاجة اليهود وباختصار في محاجة النصارى، وفي " آل عمران " عكس هذا.
وفي آخر كل من السورتين دعاء، كما أن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى وكأنها متممة لها، فبدئت الأولى بآيات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله تعالى ﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
ﰡ
روى الطبري في تفسيره أن الله عز وجل أخبر عباده أن الألوهية خاصة به دون ما سواه، وأن العبادة لا تجوز إلا له. وقد افتتح السورة بنفي الألوهية عن غيره احتجاجاً منه على طائفة من النصارى، قدمِتْ على رسول الله من نجران. وكانوا ستين راكباً فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، أميرهم العاقب، واسمه عبد المسيح، وهو صاحب مشورتهم الذي لا يصُدرون إلا عن رأيه. وكان منهم أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم. ولقد قدموا إلى المدينة، فدخلوا مسجد الرسول حين صلى العصر. وحانت صلاتهم فقاموا يصلّون في مسجد النبي، فقال لأصحابه دعوهم. فصلّوا إلى المشرق. فقام رؤساؤهم وكلّموا رسول الله في شأن المسيح، وأنه هو الله، وابن الله، وثالث ثلاثة. فقال لهم النبي : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى. قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى عليه الفناء ؟ قالوا : بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه. قالوا : بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ قالوا : لا، قال : أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. قالوا : بلى، قال : فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما عُلِّم ؟ قالوا : لا، قال : فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك ؟ قالوا : بلى، قال : ألستم تعملون أن ربنا لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب ولا يُحدث الحدث ؟ قالوا : بلى، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته امرأة كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذي كما يغذّى الصبي، ثم كان يَطعم الطعام، ويشرب الشراب، ويُحدث الحدث ؟ قالوا : بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ قال : فعرفوا ثم أبَوا إلا جحودا. فأنزل الله عز وجل ﴿ الم الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ إلى بضع وثمانين آية كما سيأتي.
والمعنى أن الله واحد لا إله غيره، وكل ما في العالم من تنسيق وإبداع يشهد بذلك. وهو الحي الذي لا يموت، القائم بأمر هذا لعالم يدبّره ويصرّفه.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي، « التوراة » بالإمالة في جميع القرآن. وقرأ نافع وحمزة بين اللفظين.
وأنزل من قبله التوراة والإنجيل لهداية الناس. فلما انحرفوا عنها أنزل الفرقان فارقاً بين الحق والباطل، ومبيناً الرشد من الغي. إنه الكتاب الصادق الدائم. أما الذين كفروا بآيات الله الناطقة بتوحيده وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل، فقد كذّبوا بالقرآن أولاً ثم بسائر الكتب تبعاً لذلك. فلهم عذاب شديد.
وفي التعبير بعد الخفاء إشارة إلى أن علمه لا يوازن بعلوم المخلوقين.
وكل ذلك يتم على أدق ما يكون، فمن المستحيل أن يكون هذا الخلق قد جاء من قبيل الاتفاق والمصادفة. أما عيسى بن مريم فقد صوّره الله في رحم أمه، ولو كان إلَهاً لما كان ممن اشتملت عليه رحم مخلوقة.
إن الله هو المنفرد بالخلق والتصوير، العزيز الذي لا يُغلب على ما قضى به عِلمه، الحكيم الذي يوجِد الأشياء على مقتضى الحكمة.
أُم الكتاب : أصله الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود.
وأخر متشابهات : محتملات لعدة معان لا يتضح المقصود فيها إلا بتدقيق النظر. زيغ : عدول عن الحق.
ابتغاء الفتنة : طلبا للفتنة.
الراسخون في العلم : المتمكنون منه.
لقد أنزل الله عليك القرآن وجعل فيه آيات محكمات، محدّدة المعنى بينة المقاصد، هي الأصل وإليها المرجع في الدين والفرائض والحدود. كما جعل فيه آيات متشابهات يدِقُّ معناها على كثير من الناس وتشتبه على غير الراسخين في العِلم. فأما الآيات المتشابهات فقد أُنزلت بحكمته تعالى لتبعث العلماء على تدقيق النظر ودقة الفكر في الاجتهاد. لكن أهل الشك والذين في قلوبهم ميل عن الحق، يتّبعون ما تشابه من الآيات رغبةً في إثارة الفتنة.. يؤوّلونها حسب أهوائهم، فيُضلّون وراءهم خلقاً كثيرا.
ولا يعلم تأويل هذه الآيات المتشابهات إلا الله والذين تثبتوا في العلم وتمكنوا منه، وهؤلاء يقولون : إننا نؤمن بالقرآن كاملاً، لا نفرق بين مُحكمه ومتشابهه. وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة، والعقول الراجحة.
هذا وقد استفاض الحديث حول أن في القرآن محكماً ومتشابهاً، وأن العلماء أمام هذه المتشابه فريقان : فريق السلف : الذي يرى التفويض وعدم الخوض في معناه، وفريق الخلف : الذي يرى التأويل وصرف اللفظ عن دلالته المعروفة إلى معنى يتفق مع ما دل عليه المحكم. ويعتبرون من ذلك أمثال قوله تعالى «الرحمنُ على العرش استوى »، «يد الله فوق أيديهم »، «بل يداه مبسوطتان » «والأرض جميعاً قبضتُهُ يوم القيامة والسّماواتُ مطويات بيمينه »، فيقولون أن معنى الاستواء هو : الاستيلاء. واليد بمعنى : القدرة. واليمين بمعنى : القوة. وبسطُ اليد بمعنى : كثرة المنح والعطاء، إلى غير ذلك.
وهناك أقوال كثيرة واختلافات كبيرة في هذا الموضوع لا طائل منها ولا فائدة.
وهذا تعليم من الله لنا أن نعرف حدودنا ونقف عندها، ونطلب منه تعالى دائما أن يثبِّتنا على الإيمان فلا يتركنا عرضة للتقلب والنسيان.
الدأب : العادة.
بعد أن بين الله لنا الدّين الحق وقرر التوحيد، ثم نوّه بشأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين بالمحكم والمتشابه به من آياته، شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود ويبين أسباب غرورهم بأموالهم وأولادهم، فقال ما تفسيره :
إن الذين كفروا وجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لن تنجيهم أموالهم الوافرة، ولا أولادهم الكثيرون من عذاب الله يوم القيامة، بل سيكونون حطبا لنار جهنم.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «سيغلبون ويحشرون » بالياء.
قراءات :
قرأ نافع «ترونهم مثليهم » بالتاء.
الأنعام : الإبل والبقر والغنم.
الخيل المسوّمة : الخيل الحسان المعدّة للركوب والقتال :
فُطر الناس على حب التملك وإشباع شهواتهم إلى الاستحواذ، كما في مجال التمتع بالنساء وكثرة البنين وتركيم قناطير الذهب والفضة واقتناء الخيل الحسان، والأنعام العائدة بالربح، والعقار، والأراضي المفلوحة.. ولكن ذلك كله لا يقاس بشيء مما عند الله الذي أعدّه لعباده في الحياة الآخرة. فلا ينبغي للناس أن يجعلوا همّهم في هذا المتاع العاجل، بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الثواب الآجل، والله عنده حسن المآب.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنّى أن يكون لهما ثالث، لا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ».
مطهرة : نظيفة خالية من الدنس.
الرضوان : الرضا.
القانتين : العابدين، المداومين على الطاعة والعبادة.
قل يا محمد، للناس الذين زُيّن لهم حب الشهوات التي أسلفنا : أيها الناس، هل أُخبركم بخير من ذلكم وأفضل لكم ؟ إن للذين اتقوا ربهم ثواباً عنده : هو جنات ظليلة تجري من تحتها الأنهار، وزوجات خلّصهن الله من كل ما يعيب النساء في الدنيا، ورضاء من الله يتمتعون في ظله بنعيم أكبر. إن الله هو البصير بعباده، الخبير بقرارة أنفسهم، ودخائل أحوالهم.
قراءات :
قرأ عاصم في رواية أبي بكر «رضوان » بضم الراء في جميع القرآن ما عدا قوله تعالى ﴿ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام ﴾ في سورة المائدة فإنه قرأها بكسر الراء. والباقون قرؤوها بكسر الراء.
الصابرين : على أداء الطاعات وترك المحرمات.
والصادقين : والصدق هو منتهى الكمال.
والقانتين : وهم الذي داوموا على العبادة والطاعة لله تعالى مع الخشوع والخضوع.
والمنفقين : أي الذين ينفقون المال في سبيل الله، عن طيب قلب وصدق نية..
والمستغفرين بالأسحار : الذين يتهجدون في آخر الليل، ساعة النوم، حين يشق على النفس القيام. وهو وقت عظيم تكون فيه النفوس صافية والقلوب فارغة عن مشاغل الدنيا.
بعد أن بين سبحانه وتعالى جزاء المتقين، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء، بيّن لنا هنا أصول الإيمان، فقال : شهد الله بما نصبه من الأدلة وأوحاه من الآيات أنه لا إله غيره، وأنه قائم على شؤون خلقه بالعدل، وشهدت بذلك ملائكته الأطهار وأهل العلم. إنه هو العزيز الذي لا يغلِب أحد على أمره، والحكيم الذي شملت حكمته كل شيء.
الإسلام : الخضوع والاستسلام.
إن الدين عند الله هو الإسلام، فجميع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء أساسُها التسليم والانقياد والخضوع. أما أهل الكتاب فقد اختلفوا في هذا الأمر من بعدما جاءهم اليقين على صحته، ولم يكن اختلافهم عن شُبهةٍ أو جهل، كلا بل من جرّاء التكبر وطلب الجاه والرياسة والمال. ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين، ووحدته، وحرمة الاختلاف فيه، فإن الله ما أسرع أن يحاسبه على ذلك.
الأميّون : مشركو العرب.
فإن جادلوك يا محمد، في هذا الدين بعد أن أقمتَ لهم الحجج فلا تجارهم، بل قل لهم : إني أخلصت عبادتي لله وحده، أنا ومن اتبعني من المؤمنين. وقل لهؤلاء اليهود والنصارى والمشركين من العرب : أأسلمتم مثل إسلامي بعد أن ظهرت لكم الدلائل ؟ فإن أسلموا فقد عرفوا طريق الهدى واتبعوه، وإن أعرضوا فليس عليك إلا أن تبلّغهم رسالة الله، والله بصير بعباده لا يخفى عليه شيء من أحوالهم وأعمالهم.
قراءات :
قرأ الكسائي «أن الدين عند الله الإسلام » بفتح أن والباقون بالكسر.
إن الذين يكفرون بدينك من يهود زمانك يا محمد، وكان أسلافهم يقتلون الأنبياء بغير حق، كما يقتلون الذين يأمرون بالعدل من الناس، لن ينالوا خيراً أبداً، بل لك أن تبشّرهم بعذاب مؤلم في الدنيا والآخرة.
قراءات :
قرأ حمزة : ويقاتلون الذي يأمرون بالقسط.
هؤلاء هم الذين خسروا أنفسهم وفسدت أعمالهم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا، فلأنهم لم ينالوا حمداً ولا ثناء من الناس، وأما في الآخرة فلأنهم فعلوا كل ما سبق من الشائنات. لذا فقد أعد لهم الله الخلود في النار، وما لهم من أحد يجنبهم بأس الله وعذابه.
الكتاب : التوراة.
يتولى : يعرض.
ألم تعلم يا محمد، حال هؤلاء الذين أُعطوا حظاً من التوراة، كيف يُعرضون عن العمل بموجبه حين يُدعون إليه إذا لم يوافق أهواءهم ! هذا دأب أرباب الديانات في طور انحلالها واضمحلالها.
روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم : كيف تفعلون بمن زنى منكم ؟ قالوا : نحمِّهما ونضربهما. فقال : لا تجدون في التوراة الرجم ؟ فقالوا : لا نجد فيه شيئاً. قال لهم عبد الله بن سلام- وكان من علمائهم وقد أسلم- : كذبتم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فلما جاؤوا بها وجدوا فيها آية الرجم، فأمر بهما النبي فرجما. فغضب جماعة من اليهود من ذلك، لأنهم يزعمون أن النار لن تمسّهم إلا أياماً معدودات.
وقد دفعهم إلى ذلك غرورهم بأنفسهم وتكبرهم، حتى لقد صدّقوا ما كانوا يفترون من الكذب على دينهم وما يحرّفون من كتبهم.
كيف سيكون حالهم إذا جمعناهم ليوم القيامة، وهو آتٍ لا ريب فيه، حيث توفّى كل نفس جزاء ما علمته من خير أو شر، وبالقسطاس المستقيم ! ! هناك العدل الكامل، ولا يظلم ربك أحداً.
تنزع الملك : تخلع الملك.
قل يا أيها النبي، ضارعاً إلى الله : يا رب، أنت وحدك مالك كل شيء، تمنح من تشاء الحكْم وتخلع ذلك عمن تشاء، وتهب العزة لمن تشاء من عبادك، وتضرب الذل والهوان على من تشاء. إن بقدرتك الخيرَ كله تتصرف فيه وحدك كما تشاء، وأنت على كل شيء قدير.
إنك لتُدخل بعض الليل في النهار فيقصُر الليل من حيث يطول النهار، وتدخل بعض النهار في الليل فيطول الليل من حيث يقصر النهار. كل هذا بحكمتك في خلق الكون، فهل من ينكر بعد هذا أن تؤتي النبوةَ والملك من تشاء ! إن تصرّفك بشؤون الناس كمثل تصرفك في الليل والنهار.
وتُخرج الحيَّ من الميت : كالعالِم من الجاهل والمؤمن من الكافر، والنخلة من النواة، والإنسان من النطفة، والطائر من البيضة.
وتُخرج الميت من الحيّ : كالجاهل من العالم، والكافر من المؤمن، والنواة من النخلة، والبيضة من الطائر.
وترزُق من تشاء بغير حساب : فتهب عطاءك الواسع من تشاء، فلا رقيب يحاسبك.
ومن كان هذا شأنه لا يعجزه أن يمنح رسوله وأصفياءه السيادة والسلطان كما وعدهم، إذا هم استقاموا على الطريقة المثلى، وساروا على الصراط المستقيم.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر «الميت » بسكون الياء.
في هذه الآية تحذير كبير من اتخاذ الكافرين أولياء، فالله سبحانه وتعالى نبّهنا في الآية السابقة أن نلتجئ إليه، وأفهمنا أن كل شيء بيده، وهنا يحذّرنا من أن نتخذ الكافرين أصدقاء وناصرين، فما دام الله وحده هو مالك الملك، يعزّ ويذل ويعطي ويمنع، فهل يجوز للمؤمنين أن يجعلوا لغير المؤمنين ولاية عليهم ؟ إن في هذا خذلاناً للدِّين وإضعافا للولاية الإسلامية، ومن يسلك هذا المسلك فإن الله يتخلى عنه. ولا يجوز للمؤمن أن يرضى بولاية الكافرين إلا مضطرا، فيتقي أذاهم بإظهار الولاء لهم.
وعلى المؤمنين أن يكونوا في الولاية الإسلامية، وهي ولاية الله، ولْيحذَروا أن يخرجوا منها إلى غير ولايته، فيتولى عقابهم بنفسه، كما هو حاصل اليوم، حيث ألقى طائفة من المسلمين بأنفسهم في أحضان أعدائهم وأعداء الله في الشرق والغرب، فأذاقهم الله الذل ونصَر عليهم اليهود. وهو سينصرهم لو رجعوا إليه، لا إلى مطامعهم، ووحدوا صفوفهم، وباعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله لا في سبيل الكراسي والمناصب.
وفي هذه الآية بيان وإيضاح لقوله تعالى :«ويحذِّركم الله نفسَه » أي : لأنها متصفة بعلم ذاتي محيط، وقدرة ذاتية تعم المقدورات بأسرها.. فلا تجسروا على عصيانه.
رءوف : رحيم أشد الرحمة.
واحذروا يوم تجدُ كل نفس عملها من الخير أو الشر حاضراً أمامها، فُتسَرُّ بالأول، وتتمنى للثاني أن يكون بعيداً عنها حتى لا تراه، خوفاً من العقاب. ويحذّركم الله عقابه إذا خرجتم من ولايته باقتراف الذنوب. كل هذا مع أنه رؤوف بعباده واسع المغفرة لهم. ومن رأفته بالناس أنه جعل الفطرة الإنسانية ميالة بطبعها إلى الخير، مبغضة لما يَعْرِض لها من الشر، كما جعل أثر الشر في النفس قابلاً للمحو بالتوبة والعمل الصالح.
لكن حب الله ليس دعوى باللسان ولا هياماً بالوجدان، بل هو اتباع لرسول الله وعملٌ بشريعة الله التي أتى بها نبيه الكريم. إن العمل هو الشاهد والأساس، أما القول وحده فلفظ يصّرفه اللسان كيف شاء، وقد يخدع به الناسَ، لكنه لن يخدع به الله فقد وسع علمُه كل شيء.
قال ابن كثير :«هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية. فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتّبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأعماله ».
فان أعرضوا عنك يا محمد، ولم يجيبوا دعوتك فهم كافرون بالله ورسوله، والله تعالى لا يحب الكافرين أمثالهم.
بعد أن بين الله تعالى أن الدين الحق هو الإسلام، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه كان بغياً منهم، وأن الفلاح منوط باتباع الرسول الكريم وطاعته، ذكر هنا بعضَ من اختارهم وجعل منهم الرسل الذين يبيّنون للناس طريق الله ومحبته. لقد اختار الله هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوة والرسالة فيهم، كما اصطفى محمداً لتبليغ رسالته.
فأول هؤلاء الصفوة المختارة آدم أبو البشر، اصطفاه ربه واجتباه.
ثم جاء بعده نوح، أبو البشر الثاني.
واصطفى إبراهيم وولديه.
واختار آل عمران ومنهم عيسى وأمه.
ولقد اختارهم ذريةً طيبة طاهرة، فهم يتوارثون الطُّهر والفضيلة والخير.
محرراً : مخصَّصا لعبادة الله.
اذكر أيها النبي، حال امرأة عمران حين ناجت ربها وهي حامل بنذْرِ ما في بطنها لخدمة الله تعالى قائلة : يا رب، إني نذرت ما في بطني خالصاً لخدمة بيتك، فاقبل مني ذلك إنك أنت السميع لكل قول، العليم بكل حال.
الرجيم : المطرود من الخير.
فلما وضعت بنتا، قالت معتذرة تناجي ربها : إني قد ولدت أنثى، ( وأنت أعلم بما ولدتُ )، وليس الذكر الذي تمنيت أن أنذره سادناً لبيتك كالأنثى التي وضعتها. ومع هذا فإني غير راجعة عما نويته من النذر. وإذا كانت الأنثى غير جديرة بسدانة المعبد فلتكن من العابدات القانتات، إني أجيرها يا ربّ بحفظك ورعايتك من الشيطان الرجيم.
قراءات :
قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب :«والله أعلم بما وضعتُ » على أنه كلامها.
كفلها زكريا : جعل زكريا كافلا لها.
المحراب : الغرفة، والمسجد، وأشرف جهة في المسجد.
أني لكِ هذا ؟ : من أين لك هذا.
فتقبّل الله مريم نذراً لأمها، وأجاب دعاءها. وجعل زكريا كافلاً لها. فكان كلما دخل زكريا عليها محرابها فوجد عندها ألوانا من الطعام لم تكن توجد تلك الأيام، قال لها : يا مريم من أين لك هذا والأيام جدب وقحط ؟ قالت : هو من عند الله الذي يرزق الناس جميعا، ويرزق من يشاء من الناس بغير عدد ولا إحصاء. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
سيدا : شريفا في العلم والعبادة.
حصورا : لا يأتي النساء، وهو يحبس نفسه عن كل ما ينافي الفضائل.
فاستجاب الله دعاءه ونادته الملائكة وهو قائم يتعبد في محرابه بأن الله يبشّرك بولد اسمه يحيى، ويؤمن بعيسى عليَه السلام الذي سيوجَد بكلمة من الله فيكون وجوده معجزة.
إن يحيى سيكون سيداً شريفاً عابدا قانتا، وحصوراً بعيدا عن كل الأدناس والشهوات، ونبياً من الصالحين. وكان يحيى ابن خالة عيسى.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف « فناداه الملائكة » بالإمالة والتذكير.
وقرأ حمزة وابن عامر «إن الله » بكسر همزة إن. وقرأ حمزة والكسائي «إن الله يبشّرُك » بفتح الياء وضم الشين بدون تشديد.
وعندما سمع زكريا هذه البشرى استبعد أن يكون له ولد وهو عجوز طاعن في السن وامرأته عقيم لا تلد، فردّ عليه الله بأنه متى شاء أمراً أوجَدَ له سببه.
ألا تكلم الناس : لا تستطيع الكلام.
الرمز : الإشارة.
فدعا زكريا ربه أن يجعل له علامة لتحقُّق هذه البشرى، فقال : علامة ذلك أن لا تقدر على كلام الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة ومع ذلك تظل تستطيع أن تذكر الله وتسبّحه أثناء تلك الأيام الثلاثة.
اقنتي : الزمي الطاعة مع الخضوع.
واذكر أيها النبي، إذ قالت الملائكة : يا مريم إن الله اختارك واختصك لتكوني أماً لنبي كريم، وطهّرك من كل دنس، وخصك بأمومة عيسى وفضّلك على نساء العالمين.
وجيها : شريفا عاليا.
واذكر يا محمد، حينما بشّرت الملائكة مريم بولد صالح، اسمه المسيح عيسى بن مريم، خلقه الله بكلمة منه، على غير السنَّة الجارية بين البشر في التوالد، بقوله «كن فيكون ». وقد جعله الله ذا مكانة عالية فيه هذه الدنيا حيث أعطاه النبوة، وفي الآخرة حيث أعطاه علو المنزلة مع الصفوة المقربين إلى الله من النبيّين أُولي العزم.
الكهل : الرجل من الثلاثين إلى الخمسين.
وقد ميزه الله بخصائص منها أن يكلّم الناس وهو طفل في مهده، كما يكلّمهم وهو رجل كامل الرجولة.
الحكمة : إصابة الحق بالعلم والعمل.
التوراة : الكتاب الذي أنزل على موسى.
الإنجيل : معناه «البشرى أو البشارة » وهو الكتاب الذي أنزل على عيسى.
وأن الله سوف يعلّم طفلها العلم الصحيح النافع، والتوراةَ التي أنزلت على موسى والإنجيل الذي سيوحيه إليه.
الإنجيل : كلمة يونانية وردت في القرآن الكريم، معناه «البشرى » وتطلق اليوم على كل من الأناجيل التي تترجِم للمسيح في مجموعة «العهد الجديد » وهي أربعة : متّى ومرقص ولوقا ويوحنا.
والأناجيل المتوازية هي الأناجيل الثلاثة ( متى ومرقص ولوقا )، سُميت كذلك لتقاربها من بعضها أكثر من تقاربها مع الإنجيل الرابع، إنجيل يوحنا، الذي يختلف عنها في غايته. وتسمى مشكلة صلات هذه الأناجيل الثلاثة بعضها ببعض «المشكلة المتوازية »، ومؤداها أن إنجيلي متّى ولوقا يحويان عناصر غير موجودة في إنجيل مرقص. وتتفق هذه الأناجيل الثلاثة في أنها تترجم للمسيح رغم وقوف كل منها في ترجمته عند حد معين، وتوضيح مزية خاصة من مزاياه، مع بعض الاختلاف في بعض الحوادث والتواريخ. أما إنجيل يوحنا فهو تأمل لاهوتي في تعاليم المسيح مع الاحتفاظ بالإطار التاريخي الأساسي.
وإنجيل لوقا الكتاب الثالث من العهد الجديد، وقد دُوّن في أواخر القرن الأول. وهو الإنجيل الوحيد الذي يتكلم عن ولادة المسيح كما يعرض لصَلبه وبعثه، وفيه نصوص لم ترد في الأناجيل الأخرى.
وإنجيل يوحنا هو الكتاب الرابع في العهد الجديد، وضعه الرسول يوحنا، وهو يختلف عن الأناجيل الثلاثة المذكورة في مادته وتعاليمه.
وقد أورد الدكتور محمد وصفي في كتابه :«المسيح والتثليث » أسماءً لسبعة وثلاثين إنجيلا، منها إنجيل برنابا، وهو مطبوع في مصر، وحديثاً في طبعة أنيقة في بيروت. وقد اقتنيته، وفيه نصوص كثيرة تخالف الأناجيل الأربعة مخالفة جوهرية. وفيه بشارة صريحة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولكن المسيحيين لا يعترفون به ويقولون إنه مزيف.
وفي كتاب الدكتور محمد وصفي «المسيح والتثليث » نصوص صريحة في مخالفة الأناجيل الأربعة لبعضها البعض واضحة جدا، وكذلك هنا اختلاف بين طبعات الكاثوليك وطبعات البروتستانت.
وقد قال ( فاستس ) في القرن الرابع وهو من علماء ( ماني كيز ) : إن الإنجيل المنسوب إلى متّى ليس من تصنيفه.
وقال ( اشلاير ماخر ) في كتابه «الأبحاث عن إنجيل لوقا » : ليس إنجيل لوقا إلا كتباً مختلفة كتبت في أزمنة غير معينة على أيدي قوم مجهولين.
وبعض الفرق المسيحية كالفرقة الموسونية والفرقة الأبيونية وفرقة يوني تيرن أسقطت البابين الأول والثاني من إنجيل لوقا، مع وجود الاختلاف الكبير بين كتابيهما وكتاب لوقا الحالي كذلك.
وقال العلامة الألماني رويس : إن إنجيل يوحنا مجرد رأي لأحد المسيحين نَزَعَ فيه إلى بيان رأيه الخاص فيما أتى به المسيح عليه السلام. ولقد أكد
( استارولن ) أن إنجيل يوحنا ليس إلا كتاباً كتبه بعض الطلبة من مدرسة الإسكندرية.
وقد استبعد مسيو ( موريس فرن ) في دائرة المعارف البريطانية، كون الأناجيل الثلاثة المعزوة إلى متى ومرقص ولوقا من تصنيفهم، وحين وصل إلى الكلام عن إنجيل يوحنا قال : لا شك أنه كتابٌ دخيل مزوَّر أراد أن يوجد تناقضاً بين أقوال القديسَين متى ويوحنا... ومن أراد الاستزادة فعلية أن يرجع إلى كتاب الدكتور محمد وصفي «المسيح والتثليث » وكتاب «إظهار الحق » للشيح رحمة الله الهندي. وكل هذه الأقوال والانتقادات من علماء المسيحية أنفسهم. ونحن نعتقد أن هذه الأناجيل كلها محرَّفة، مؤلفوها مجهولون، وأن الإنجيل الصحيح الكامل مفقود كما جاء في القرآن الكريم.
قراءات :
قرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب «يعلّمه » بالياء والباقون «ونعلمه » بالنون.
البرص : داء خبيث يُحدث بياضاً في الجلد ويجعله يتقشر، ويسبب للمصاب به حكَاً مؤلما.
لقد خلق الله عيسى ابن مريم على حال خاصة وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل مستدلاًّ على صدق رسالته إليهم بمعجزات من الله قائلا : لقد جئتكم بهذه المعجزات من عند الله، فأنا أصوِّر لكم من الطين مثل صورة الطير ثم أَنفخ فيها فتحيى طيوراً عادية بإرادة الله، وأشفي الأعمى فيعود بصيرا، والأبرص فيبرأ من دائه، بل وأُحيي الموتى، وكل ذلك بإذن الله وإرادته. وأُخبركم بما تدّخرون في بيوتكم من مأكول وغيره. إن كل هذه المعجزات إنما أظهرها الله على يديّ حجةً قاطعة على صحة نبوّتي وصدق رسالتي إليكم، لعلّكم تؤمنون بي وتصدّقونني.
قراءات :
قرأ أهل المدينة ونافع «فيكون طائرا بإذن الله »، وقرأ نافع «إني أخلق » بكسر همزة إن.
من هذا يتبين أن عيسى عليه السلام نبيّ مرسَل، لم يدّع أنه إلَه أو ابن الإلَه.
الأنصار : الأعوان المناصرون.
الحواريون : مفرده حواريّ وهو صفي الإنسان وناصره.
فلما شعر عيسى من قومه اليهود إصراراً على نكران رسالته، وتكذيباً لمعجزاته وصُدوفاً، رغم كل ما قدمه لهم من نصائح ومواعظ، قال لأتباعه وتلاميذه : من الذين ينصرونني باتّباعي، وينصرفون إلى تأييد الله ودينه ورسوله ؟ فقال خاصة أصحابه : نحن أنصار دين الله ومحبوه، لقد آمنّا بك وبرسالتك من عنده، فاشهد علينا أيها الرسول أنّا مؤمنون بدعوتك، منقادون لربّك، مخلصون في عبادتنا له.
أما الذين أعرضوا عن عيسى من قومه، فقد طفقوا يكيدون له ويمكرون في تلفيق شيء يحاربون به دعوته، لكن الله أبطل كيدهم فلم ينجحوا، واللهُ أحكم المدبِّرين وأقواهم.
قراءات :
قرأ حفص ورويس «فيوفيهم » بالياء كما هو هنا. والباقون «فنوفيهم » بالنون.
الامتراء : الشك.
الابتهال : الملاعنة، ثم شاع استعماله في الدعاء.
روي في سبب نزول هذه الآية أن وفد نجران وعلى رأسهم السيد العاقب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا ؟ قال : ما أقول ؟ قالوا : هل رأيت إنساناً من غير أب، إن كنت صادقاً فأرنا مثله. فأنزل الله تعالى ﴿ إن مثَل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾ أي : إن شأنه في خلق الله إياه على غير مثال سابقٍ كشأن آدم، فقد خلقه من تراب من غير أُمٍ ولا أب. بل إن خلْقَ آدم أغربُ وأعجب. ذلك أن الله قادر على صنع المعجزات التي لا تدركها عقولنا، فهو إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.
وقد روي أن النجرانيّين لما دُعوا إلى المباهلة قالوا لسيّدهم العاقب : ما ترى ؟ فقال : والله لقد عرفتم نبوته، وها قد جاءكم بالفصل في أمر عيسى. والله ما باهلَ قوم نبياً إلا هلكوا، فإن أبيتم أن تبقوا على دينكم فوادِِِعوا الرجل وانصرفوا.
فأتوا رسول الله محتضناً حفيده الحسين، والحسن وفاطمة وعليّ يمشون خلفه وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأَمِّنوا، فلما رآهم كبير النصارى قال لقومه : إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلاً لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا.
وفي صحيح البخاري ومسلم أن العاقب والسيّد أتيا رسول الله فأراد أن يلاعنهما. فقال أحدهما لصاحبه : لا تلاعنه، فو الله لئن كان نبيا فلاعنَنا لا نفلح أبدا، فقالا له : نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلاً أمينا، فقال : قم يا أبا عبيدة، أنت أمين هذه الأمة.
وفي هذا التحدي ما يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول، أما امتناع نصارى نجران عن المباهلة فدليلٌ على شكّهم في موقفهم وكونهم على غير بينة فيما يعتقدون.
إن ما نقصّه عليك أيها النبي الكريم، هو الخبر اليقين فلا تلتفت إلى ما يفتريه اليهود على عيسى وأمه، ولا إلى ما يزعمه النصارى من تأليه وبنوّة، فالحقّ الذي لا مريةَ فيه أنه ليس هناك إلَه غير الله، وأنه تعالى هو ذو العزة الذي لا يغالبه فيها أحد، والحكمةِ التي لا يساويه فيها أحد حتى يكون شريكا له في ألوهيته، أو نِدّاً في ربوبيَّتهِ.
فإن أعرضوا عن الحق الذي تعرضه عليهم، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها، فهم مفسدون، والله أعلم بحال هؤلاء، ولسوف يجازيهم على سيئات أعمالهم.
كلمة سواء : كلمة عدل وإنصاف.
بعد أن بيّن الله تعالى لنا حقيقة الأمر في قضية عيسى وكيف عرضها محمد في دعوته إلى التوحيد والإسلام، وكيف عاند أهلُ الكتاب تلك الدعوة حتى اضطر النبي إلى دعوتهم إلى المباهلة، فخافوا وأحجموا عنها، طلب من رسوله الكريم أن يدعوهم هنا إلى أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعا. فقل يا محمد : يا أهل الكتاب، تعالوا إلى كلمة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب التي أُنزلت من عند الله، وهي أن لا نعبد إلا الله ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دونه، ولا نطيع أحداً غيره في تحليل أو تحريم. فإن أعرضوا عن هذه الدعوة، وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله، فقولوا لهم أيها المسلمون : اشهدوا بأننا منقادون لأحكام الله، ولا نعبد أحداً سواه.
روي عن عدّي بن حاتم قال : أتيت رسول الله وفي عنقي صليب من ذهب، فقال : يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ من سورة براءة :﴿ اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ﴾. فقلت له : يا رسول الله، لم يكونوا يعبودنهم، قال :«أما كانوا يحللون ويحرّمون، فتأخذون بأقوالهم ؟ » قلت : نعم فقال :«هو ذاك » يعني أَن هذا التحريم والتحليل يجعلهم بمثابة الأرباب.
يا أهل الكتاب، لما تتنازعون وتجادلون في دين إبراهيم، كلٌّ منكم يدعي أن إبراهيم كان على دينه هو ؟ إن إبراهيم له شريعة خاصة، وهو سابق في الوجود على التوراة والإنجيل، فكيف يكون على شريعة واحدة منهما ! أليست لكم عقول تدركون بها بطلان هذا الكلام الذي يناقض الواقع ! !
طائفة : جماعة.
أحبت طائفة من الأحبار والرؤساء أن يوقعوكم في الضلال بإلقاء الشبهات التي تشكّك في دينكم، وتردّكم إلى ما كنتم عليه من الكفر، وهم الخاسرون من عملهم هذا بإصرارهم على الضلال. لكنهم لا يشعرون بسوء حالهم، ولا يدركون أن عاقبة سعيهم هذا لاحقة بهم.
وقد نزلت هذه الآية عندما حاول بعض أحبار اليهود أن يدعوا حذيفة وعمَارا ومعاذ ابن جبل إلى اليهودية.
ولماذا تخلطون الحق الذي جاء به النبيّون من عند الله والبشارة بنبيٍّ من بني إسماعيل، بالباطل الذي لفقه أحباركم ورؤساؤكم ؟ لماذا تكتمون شأن محمد وهو مكتوب عندكم في التوراة والإنجيل، وأنتم تعلمون أنكم تفعلون ذلك عناداً وحسدا !
وقالت جماعة من أهل الكتاب لإخوانهم : يا هؤلاء، آمِنوا بالذي أُنزل على محمد في الصباح، واكفروا آخر النهار، بذلك قد تستطيعون أن تفتنوا أصحابه فيرجعوا عن دينهم.
روى ابن عباسٍ أن جماعة من اليهود قالوا بضعهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أُنزل على محمد وأصحابه غدوةً ونكفر به عشيّة، حتى نُلبِّسَ عليهم دينهم، فقد يقلّدوننا في ذلك، فيرجعون عن دينهم. فأنزل الله هذه الآيات.
وقد حذّر الله نبيه من مكر هؤلاء، وأطلعه على سرّهم حتى لا تؤثر هذه الحيلة في قلوب ضعفاء المؤمنين.
وقالوا أيضاً ﴿ وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾، أي : لا تُذعنوا إلاّ لمن كان من أهل دينكم يهوديا، خشية أن يدَّعيَ أحد أنه أوتي مثل ما عندكم أو يحتجّ عليكم عند ربكم، فقل لهم يا محمد : إن الهدى يأتي من عند الله يختاره لمن يشاء، وكذلك الفضلُ من عنده يمنّ به على من يشاء من عباده، فليس الهدى مقصورا على شعب بعيْنه ولا فرد بذاته.
الأميون : غير اليهود، وهنا العرب. ليس علينا في الأميين سبيل : لا مؤاخذة علينا مهما اغتصبنا من حقوقهم.
بعد أن بيّن الله سلوك أهل الكتاب في الاعتقاد، بيّن لنا هنا سلوكهم في المال والمعاملات، فقال : إن منهم طائفة تشاكس المسلمين وتكيد لهم ليرجعوا عن دينهم، وأخرى تستحلّ أكل أموالهم. وهي تزعم أن توراتهم لم تنههم إلا عن خيانة بني إسرائيل وحدهم. لكن ذلك ليس عاماً، فمنهم أفراد كعبد الله ابن سلام، استودعه قرشيّ ألفا ومائتي أوقية من الذهب فأداها إليه. ومع هذا فإن أغلب اليهود يستحلّون مال كل من لم يكن يهودياً. ينطلقون في ذلك من زعم أن غيرهم من العرب محتقر، فلا حقوق لهم، وليس على اليهود ذنب في أي إجرام يأتونه ضدهم. وهذه حال إسرائيل في الوقت الحاضر. ومعها النصارى المتهّودون في أمريكا، وعملاؤهم من الحكام في دول أخرى.
روى ابن جرير في التفسير، قال :«بايع اليهودَ رجال من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضَوهم ثمن بضاعتهم، فقالوا : ليس لكم علينا أمانة، ولا قضاء لكم عندنا، لأنكم غيّرتم دينكم الذي كنتم عليه. وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم ».
روي عن سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال :«كذب أعداءُ الله : ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ».
ويقولون على الله الكذب متعمّدين في ذلك، لأن ما جاء من عند الله فهو في كتابهم التوراة، وهي بين أيديهم، وليس فيها خيانة غير اليهود ولا أكل أموالهم بالباطل. بل إن في كتابهم «عليكم في الأميين سبيل »، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات. والقرآن لا يظلم اليهود بهذا القول، فإن التلمود عندهم مقدّس أكثر من التوراة، وفيه جاءت هذه النصوص.
يقول الدكتور روهلنج في كتابه «الكنز المرصود في قواعد التلمود » ترجمة الدكتور يوسف نصر الله :«لم يكتفِ اليهود بما جاء في توراتهم من تعاليم خبيثة تبيح الغدر والمكر وسفك الدماء، فأخذ الربيّون والحاخامات يفسرون التوراة حسب أهوائهم وبالشكل الذي يرضي غرائزهم الشريرة ونزوعَهم إلى عمل المنكرات واستعلاءهم على بقية أجناس البشر... الخ... ».
ويقدّس اليهود التلمود ويعتبرونه أهم من التوراة. وهم يرون أن من احتقر أقوال الحاخامات استحق الموت، وأنه لا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود واشتغل بالتوراة وحدها، لأن أقوال علماء التلمود أفضل مما جاء في شريعة موسى.
وقد أورد الدكتور روهلنج في كتابه المذكور نخبة من تعاليم التلمود تفضح اليهود وتبين فساد عقيدتهم، ومنها ما معناه «ليس علينا في الأميّين سبيل » هذه.
ومن النصوص التي أوردها الدكتور روهلنج ما يأتي :«الإسرائيلي عند الله أرفع من الملائكة، فإذا ضرب أميّ إسرائيلياً فكأنه ضرب العزة الإلَهية، ويستحق الموت. ولو لم يُخلق اليهود لانعدمت البركة من الأرض ولما خُلقت الأمطار والشمس. والفرق بين درجة الإنسان والحيوان كالفرق بين اليهودي وباقي الشعوب ». وهذا ما يطبقه النصارى المتهّودون في أوروبا وأمريكا في الوقت الحاضر. أما نصارى العرب فمواطنون لنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا.
وهناك نصوص كثيرة تقشعر منها الأبدان، فمن أراد الزيادة فليرجع إلى كتاب «الكنز المرصود » وأمثاله.
قراءات :
قرأ حمزة وأبو بكر وأبو عمرو «يؤده » و «لا يؤده » بإسكان الهاء، وقرأ قالون باختلاس كسرة الهاء فيهما. وكذا روي عن حفص. وقرأ الباقون بإشباع الكسرة في الهاء.
فالذين يشترون بعهد الله وبأيمانهم ثمناً قليلا من عرَض هذه الحياة الدنيا أو بالدنيا كلها، لن يكون لهم نصيب عند الله ولا قبول. بل لسوف يُعرِض عنهم يوم القيامة ولا يغفر لهم آثامهم، ولهم عذاب أليم. وهذا يشمل كل من خان الأمانة، أو نكث بالعهد، أو حلف على شيء وهو كاذب.
ومن هذا القبيل من يتفق مع آخر على بيع سلعة، فيزيده إنسان آخر في ثمنها فيبيعها للثاني وينقض اتفاقه مع الأول. وكذلك من يخطب فتاة، فيعاهده أبوها على تزويجها له نظير مهر مقدّر بينهما، فيأتي آخر بمهر أكثر فيزوجها له. ومثلُه من يحلف ببراءته من دَين عليه. وقد قال النبي الكريم «من حلَف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلمٍ لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ».
روى ابن جرير أن هذه الآية نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحُييّ بن أخطب، الذين حرّفوا التوراة وبدّلوا نعت رسول الله وحُكم الأمانات وغيرها فيها وأخذوا على ذلك الرشوة.
وروى الطبري عن أنس قال : ما خطبنا رسول الله إلا قال : " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ".
بين الله في هذه الآية حال طائفة ثالثة من أهل الكتاب يحرفون كتابهم، ويقولون عن التحريف إنه كلام الله، بينما هو من عندهم لا من عند الله. إنهم كاذبون فيما يقولون مفترون. وكان من هؤلاء بعض علماء اليهود مثل : كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحُيّي بن أخطب، وكان هذا من أشد الناس عداوة للنبي عليه الصلاة والسلام.
الحكم : الحكمة.
الربانيون : مفرده رباني، وهو المنسوب إلى الرب لأنه عالم به مواظب على طاعته.
لا ينبغي لأحد من البشر يُنزل الله عليه الكتاب، ويعلمه الحكمة، ويعطيه النبوة، أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، بل عليه أن يأمر الناس أن يكونوا خالصين لخالقهم بمقتضى ما علّمهم من الكتاب.
روى الطبري عن ابن عباس : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت أحبار اليهود ونصارى نجران عند رسول الله، ودعاهم إلى الإسلام، قالوا أتريدنا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى ابن مريم ؟ فقال نصراني من أهل نجران يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا ؟ فقال الرسول الكريم : " معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني ". فأنزل الله عز وجل قوله :﴿ ما كان لبشر........ الآية ﴾
وهذا منتهى الصراحة، فإن النبي يوقن أنه عبد، وأن الله هو الرب الذي يتجه إليه العباد بعبادتهم.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب " بما كنتم تعلمون الكتاب " والباقون " يعلمون " كما هو هنا.
القراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب : " ولا يأمركم " بنصب الراء. وقرأها الباقون بالرفع.
قراءات :
قرأ أهل البصرة وحفص ويعقوب " يبغون " بالياء، وقرأ الباقون " تبغون " بالتاء. وقرأ يعقوب " يرجعون " بكسر الجيم.
بعد أن بين سبحانه وتعالى أنه أخذ الميثاق من الأنبياء المتقدمين أن يؤمنوا بمحمد وينصروه، أمره هو أن يؤمن بالأنبياء جميعا، وذكَر المشاهير منهم.
هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله، وردِّه جميع الدعوات إلى أصلها الواحد، والإيمان بها جملة كما أرادها الله.
قل يا محمد : آمنتُ أنا ومن معي بوجود الله ووحدانيته وتصرفه في الأكوان، وصدّقنا بما أُنزل علينا وهو القرآن، وبما أنزل الله على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من الوحي لهداية أقوامهم. كذلك آمنا وصدّقنا بما أُنزل على موسى وعيسى من التوراة والإنجيل، وبما أُنزل على سائر النبيين،
لا نفضل واحدا منهم على الآخر، ونحن لله منقادون بالطاعة، لا نبتغي بذلك إلا التقرب إليه بتزكية أرواحنا، وتطهيرها من الذنوب والخطايا.
روى كثير من المحدّثين وأصحاب السِير أن أبا عامر الراهب وسويد بن الحارث وجماعة من الأنصار ارتدّوا عن الإسلام وذهبوا إلى قريش، ثم ندم سويد ونفر منهم فكتبوا إلى أهلهم : هل لنا من توبة، فنزلت هذه الآية. فعاد سويد ومن معه وحسُن إسلامهم. وأصر أبو عامر وجماعة ولحقوا ببلاد الروم وماتوا على الكفر.
البر : الخير، وبرّ الله رحمته ورضاه. البر : الجنة، وكل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر.
لن تنالوا الخير الكامل الذي تطلبونه إلا إذا أعطيتم مما تحبون من كرائم أموالكم في سبيل الله. وهو يعلم ما تنفقونه، قليلا كان أو كثيرا، طيبا أو رديئا، لأنه هو العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
لما نزلت هذه الآية بادر الصحابة إلى بذل أحسن ما عندهم من أموال، كل بحسب طاقته. وكذلك اقتفى أثرهم السلف الصالح. فقد تصدّق أبو طلحة الأنصاري بأحسن بستان في المدينة، وعمر بن الخطاب بسهم له في خيبر، وكان أحسن ما عنده. كذلك تصدّق زيد بن حارثة بأحسن فرس لديه.. والأخبار في هذا الموضوع كثيرة جدا. وفي هذه الآية الكريمة حث على فعل الخير وترغيب فيه، جعلنا الله ممن يستمعون القول ويتبعون أحسنه.
الحل : الحلال.
إسرائيل : لقب يعقوب.
افترى : اختلق الكذب.
كان اليهود يتصيّدون كل شبهة لينفَذوا منها إلى الطعن في صحة الرسالة المحمدية، وإشاعة الاضطراب والفتنة في عقول المؤمنين. ومن الشبهات التي أوردوها أنهم قالوا للنبي : أنت تدّعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها مع أن ذلك حرام في دين إبراهيم ؟ فردّ عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل، ولإبراهيم من قبله، إلا ما حرّم إسرائيل ( وهو يعقوب ) على نفسه من قبل أن تنزل التوراة. وذلك أنه مرض مرضا شديدا وأصابه عِرق النَّسا فنذر لله لئن عافاه من هذا المرض ليمتنعنّ عن أكل لحوم الإبل وألبانها، وكانت أحبّ شيء إلى نفسه. فقبل الله منه نذره. ثم جرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حرم. كذلك حرم على بني إسرائيل مطاعم أخرى عقوبة لهم على معصيات ارتكبوها سيأتي ذكرها في سورة الأنعام.
وهنا في هذه الآية الكريمة يرد الله عليهم ويبين أن الأصل في هذه المطاعم هو الحل، وأنها حُرمت عليهم لأسباب خاصة بهم. فإذا أحلها للمسلمين فهو رجوع إلى الأصل، وهو أمر لا يثير الاعتراض ولا الشك في صحة هذا القرآن.
وقد أمر الله رسوله أن يطلب منهم أن يأتوا من التوراة بدليل يثبت أن شريعة إبراهيم تحرم ذلك، فعجزوا، لأن قولهم كان مجرد فرية منهم وكذبة لفّقوها. كانوا يكذبون على الله وعلى الأنبياء السابقين. فأولئك هم الظالمون لأنفسهم المستحقون لعذاب الله.
الحل : الحلال.
إسرائيل : لقب يعقوب.
افترى : اختلق الكذب.
كان اليهود يتصيّدون كل شبهة لينفَذوا منها إلى الطعن في صحة الرسالة المحمدية، وإشاعة الاضطراب والفتنة في عقول المؤمنين. ومن الشبهات التي أوردوها أنهم قالوا للنبي : أنت تدّعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها مع أن ذلك حرام في دين إبراهيم ؟ فردّ عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل، ولإبراهيم من قبله، إلا ما حرّم إسرائيل ( وهو يعقوب ) على نفسه من قبل أن تنزل التوراة. وذلك أنه مرض مرضا شديدا وأصابه عِرق النَّسا فنذر لله لئن عافاه من هذا المرض ليمتنعنّ عن أكل لحوم الإبل وألبانها، وكانت أحبّ شيء إلى نفسه. فقبل الله منه نذره. ثم جرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حرم. كذلك حرم على بني إسرائيل مطاعم أخرى عقوبة لهم على معصيات ارتكبوها سيأتي ذكرها في سورة الأنعام.
وهنا في هذه الآية الكريمة يرد الله عليهم ويبين أن الأصل في هذه المطاعم هو الحل، وأنها حُرمت عليهم لأسباب خاصة بهم. فإذا أحلها للمسلمين فهو رجوع إلى الأصل، وهو أمر لا يثير الاعتراض ولا الشك في صحة هذا القرآن.
وقد أمر الله رسوله أن يطلب منهم أن يأتوا من التوراة بدليل يثبت أن شريعة إبراهيم تحرم ذلك، فعجزوا، لأن قولهم كان مجرد فرية منهم وكذبة لفّقوها. كانوا يكذبون على الله وعلى الأنبياء السابقين. فأولئك هم الظالمون لأنفسهم المستحقون لعذاب الله.
مقام إبراهيم : الحجر الذي كان يقف عليه لبناء الكعبة.
إن أول بيت من بيوت العبادة الصحيحة هو البيت الحرام في مكة المكرمة، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه. وهو مبارك لما أُفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شيء مع كونه بواد غير ذي زرع.
روي عن عمر بن الخطاب قال : " لو ظفرت بقاتل الخطّاب ما مسَسْته حتى يخرج ". وقال أبو حنيفة : من وجب قتله فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرض له حتى يخرج منه، ويجب العمل على إخراجه.
وقد اتفق العرب جميعا على تعظيم الكعبة في الجاهلية وأقرّ ذلك الإسلام. والحج إلى البيت واجب على المستطيع، وتختلف الاستطاعة باختلاف الأشخاص، والبعد عن البيت أو القرب منه، وكلٌّ مكلف أدرى بنفسه في ذلك.
والحج فريضة، في العمر مرة، عندما تتوافر القدرة من الصحة والأمن الكافي. وهو مؤتمر المسلمين السنوي العام، يتلاقون فيه عند البيت الذي بدأت منه الملة الحنيفية على يد إبراهيم وصدرت من عنده دعوة محمد. لذا جعله الله أول بيت خالص في الأرض لعبادته.
أما من كفر وتمرد على أمر الله وجحد دينه، فإنه الخاسر. ذلك أن الله غني عن العالمين، لا يحتاجهم، ولا يصله شيء من عبادتهم إلا ما يطهر أنفسهم ويقيم مجتمعهم.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " ولله على الناس حج البيت... " بكسر الحاء، والباقون بالفتح.
الشهيد : العالم بالشيء المطَّلَع عليه.
بعد أن أورد سبحانه الأدلة على نبوة محمد بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة المصدِّقة، ثم ذكر شبهات الجاحدين وأبطلها، جاء في هذه الآيات يبكّت اليهود والنصارى على كفرهم بآيات الله وصدّهم الناس عن سبيله بادّعاء أنها سبل معوجة، مع أنهم يشهدون أنها أقوم سبيل.
قل يا محمد : يا أهل الكتاب، لماذا تكفرون بالآيات الواضحة الدالة على نبوة محمد وصدقه ؟ إن الله مطلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية منها.
تبغونها عوجا : تطلبون لسبيل الله الاعوجاج.
ومالكم يا أهل الكتاب، تصرفون من آمن بمحمد عن الهدى ؟ ومالكم تبغون أن تصوّروا دعوة محمد معوجّة وأنتم تعلمون أنها حق ! ؟ إن الله غير غافل عن أعمالكم.
وفي ذلك إشارة إلى أن اليهود كانوا يحاولون فتنة المسلمين عن دينهم وردَّهم إلى الكفر بشتى الطرق، وكان يَغيظهم أن يروا الأوس متآلفين متحابين بعد أن كانوا من قبل يتحاربون ويقتل بعضهم بعضا.
روى ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : مرّ شاس بن قيس اليهودي ( وكان شيخا كبير السن يكره المسلمين ) على جماعة من الأنصار، فغاظه ما رأى من تآلفهم على الإسلام. فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكّرهم بيوم بُعاث، وينشدهم بعض الشعر الذي قيل فيه. فتنازعوا وثاروا على بعض بالسلاح. ولما بلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم توجه إليهم ومعه بعض أصحابه وقال : أتدعون دعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام ! فألقوا السلاح وعلموا أنها فتنة من الشياطين وكيد من عدوهم. ثم إنهم استغفروا الله وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع الرسول.
يا أيها الذين آمنوا خافوا الله كما يجب، بأداء فروضه وتجنّب مناهيه.
فسّر عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل تقوى الله بقوله : " تقوى الله أن يُطاع فلا يعصى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُذكر فلا ينسى ".
ولا تموتن أيها المسلمون، إلا ونفوسكم خالصة لله.
إياكم والفُرقة، فإنها أكبر داء يهدم مجتمعكم، وتذكّروا نعمة الله عليكم حين كنتم في الجاهلية أعداء متفرقين فجمعكم على الإسلام وآلف بين قلوبكم فصرتم بنعمته إخوانا متحابين. لقد كنتم من جراء جاهليتكم العمياء وتفرّقكم على طرف حفرة من النار يوشك أن ينهار في جهنم، فخلّصكم الله من ذلك بالإسلام، وهو يبين لكم آياته لطرق الخير لعلكم تهتدون.
الخير : ما فيه صلاح الناس في الدين والدنيا وهنا هو الإسلام.
المعروف : ما استحسنه الشرع والعقل.
بعد أن أرشد الكتاب المؤمنين إلى صلاح أنفسهم، وتزكيتها بالعمل بتقوى الله والتمسك بحبله المتين، بين لهم واجبهم الذي يقوم على القاعدتين اللتين مر ذكرهما : الإيمان بالله، والأخوة في الله. وهذا واجب ضروري لإقامة دين الله على الأرض، وتغليب الحق على الباطل. لذلك وجب على المسلمين أن تكون فيهم جماعة متميزة تقوم بالدعوة إلى الخير وصلاح البشرية. ويجب أن تكون هذه الطائفة معيّنة من قبل الحاكم وأن تتمتع بالسلطة الكافية لإنجاز ذلك، وأن يقوم كل واحد منها باختصاصه حتى لا تحدث الفوضى وتضطرب الأمور.
هذا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف عسير يتطلب القيام به مؤمنين حقا، متحلّين بالخلق العظيم والصبر والفهم والمرونة، لأنهم سوف يصطدمون بأصحاب المصالح وذوي النفوذ والكبرياء والغرور. وعلى هذا فلا بد من اختيار جماعة يكون عملها خالصا لوجه الله ويؤتي ثمره على أحسن الوجوه، حتى يصدق على أفرادها قوله تعالى ﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾. وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه " أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن غضِب لله غضب الله له ". قال تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم-١٠٥ المائدة ﴾.
" والمراد*١ بالخير هنا الإسلام، وبالمعروف طاعة الله، وبالمنكر معصيته، ومحصل المعنى أنه لابد من وجود جماعة تدعو غير المسلمين إلى الإسلام، وتدعو المسلمين إلى ما يرضي الله، ويثيب عليه، وترك ما يغضبه، ويعاقب عليه.
ولفظ ( منكم ) في الآية قرينة على أن وجوب الأمر بالمعروف على سبيل الكفاية، دون العين، إذا قام به البعض سقط عن الكل.
وليس من الضروري أن يكون القائم بهذه المهمة عادلا، بحيث لا يجوز للفاسق أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.. كلا، لأمرين : الأول أن شرط الحكم تماما كالحكم لا يثبت إلا بدليل، ولا دليل على شرط العدالة هنا لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من العقل. الثاني أن حكم الآمر بالمعروف لا يناط بطاعة أو معصية غيره من الأحكام.
وكثير من الفقهاء اشترطوا لوجوب الأمر بالمعروف أن يكون الآمر آمنا على نفسه، بحيث لا يصيبه أي ضرر إذا أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر.
ولكن هذا الشرط لا يطّرد في جميع الموارد، فإن قتال من يحاربنا من أجل ديننا وبلادنا واجب، مع العلم بأن القتال يستدعي الضرر بطبعه : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن-١١١ التوبة ". ويجوز لكل إنسان أن يضحي بحياته إذا تيقن أن في هذه التضحية مصلحة عامة، وفائدة للعباد والبلاد أهم وأعظم من حياته، بل هو مشكور عند الله والناس، وفي الحديث : " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ".
وخلاصة القول : يجب دفع الضرر لو كانت له فائدة في الأصل، كما يجوز للإنسان أن يقدم على قطع عضو سقيم من أعضائه، حرصا على حياته، وخوفا على نفسه من الهلاك.
هذا، إلى أن للأسلوب أثره البالغ، فبعض الأساليب تُنفّر من الحق، وتجر صاحبها إلى المتاعب والويلات، وبعضها تفرض الفكرة على سامعها فرضا من حيث لا يشعر.. والعاقل الحكيم يعطي لكل مقام ما يناسبه من القسوة واللين. وقد كان فرعون في أوج سلطانه وطغيانه، ولم يكن لموسى وهارون ناصر ولا معين، ومع ذلك أمرهما أن يدعواه إلى الحق، ولكن بأسلوب هين لين.. حتى خالق الكون جلّت كلمته يخاطب عباده تارة بأسلوب التهديد والوعيد، ويقول لهم :﴿ أنكم منّا لا تنصرون-٦٥ المؤمنون ﴾. وتارة يقول لهم برفق :﴿ ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم-٢٢ النور ﴾.
وبالجملة إن إعلان الدعوة الإسلامية على الملأ، وتآمر المسلمين فيما بينهم بالمعروف، وتناهيهم عن المنكر، إن هذا ركيزة من ركائز الإسلام، ومن ثم يحتم وجود فئة معينة تقوم بهذه المهمة، تماما كما يحتم وجود سلطة تحافظ على الأمن والنظام، وفئة تختص بالصناعة، وأخرى بالزراعة، وما إلى ذاك مما لا تتم الحياة إلا به.
وهذا الأصل من الأصول الأساسية لكل دين، وكل مبدأ، ولو كان زمنيا، لأنه الوسيلة المجدية لبث الدعوة وانتصارها، وردع أعدائها.. ولا شيء أدل على ذلك من اهتمام أصحاب المذاهب السياسية والاقتصادية بوسائل الإعلام، وتطورها وبذل الملايين في سبيلها، ومن وقوف الدعاية بشتى أساليبها مع المدفع جنبا إلى جنب، وما ذاك إلا لأنهم أدركوا بتجاربهم أن الرأي العام أمضى سلاحا، وأقوى أثرا من الصواريخ والقنابل. وقد اشتهر عن أحد أقطاب الحلفاء بعد انتصارهم في الحرب العالمية أنه قال : " لقد انتصرنا في المعركة بقنابل من ورق ". يعني الصحف والنشرات.
وتسأل : كيف تجمع بين قوله تعالى :﴿ ولتكن أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ وبين قوله سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم-١٠٥ المائدة ﴾، حيث أفادت الأولى وجوب الأمر بالمعروف، ودلت الثانية على عدم وجوبه بقرينة ( عليكم أنفسكم ) ؟
الجواب : المقصود بالآية الثانية أن من قام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه المطلوب فلا يضره ضلال من ضل، وإعراض من أعرض، ما دام قد أدى ما عليه :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب-٤٠ الرعد ﴾.
سؤال ثان : لقد اشتهر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". وهذا الترتيب يتنافى مع ما هو معروف شرعا وعقلا وعرفا من أن تغيير المنكر إنما يبتدئ أولا باللسان، فإن لم يُجدِ فبالحرب، فما هو الوجه لقول الرسول الأعظم ؟.
الجواب : فرق بعيد بين تغيير المنكر، وبين النهي عن المنكر، فإن النهي عن المنكر يكون قبل وقوعه- في الغالب- فهو أشبه بالوقاية، كما لو احتملت أن شخصا يفكر بالسرقة، فتنهاه عنها.
أما تغيير المنكر فيكون بعد وقوعه، كما لو علمت أن شخصا سرق محفظة الغير، فإن كنت قادرا على انتزاعها من السارق، وردها إلى صاحبها وجب عليك أن تباشر ذلك بنفسك إذا انحصر الرد بفعلك خاصة، ولم يلحقك أي ضرر، فإن لم تستطع وجب عليك أن تأمر السارق برد المحفظة إلى صاحبها، وتنهاه عن إمساكها، فإن لم تستطع مقتَّ السارق، ولم ترض بفعله بينك وبين ربك.. وموضوع الحديث النبوي تغيير المنكر، لا النهي عن المنكر ".
متى يكون ذلك العذاب العظيم للذين تفرقوا واختلفوا ؟ سيكون ذلك يوم القيامة. عندئذٍ تبيضٌّ بالسرور وجوه المؤمنين لما تعلم من حسن العاقبة، وتسودُّ بالكآبة والحزن وجوه الكافرين، ويقال لهم : أكفرتم بعد أن فُطرتم على الإيمان وجاءتكم البينات عليه ! إذنْ ذوقوا العذاب الحق جزاءَ كفركم.
والظلم الوارد هنا والذي ينفيه تعالى عن نفسه هو ما ينافي مصلحة العباد من حاجتهم إلى العدالة.
ولو صدَق اليهود والنصارى في إيمانهم مثلكم لكان خيراً لهم مما هم عليه الآن، ومع هذا فمنهم المؤمنون المخلصون في عقائدهم وأعمالهم، كعبد الله بن سلام، ورهطه، وأكثرُهم فاسقون خارجون عن دينهم وعن حدود الإيمان وواجباته.
يولّوكم الأدبار : يهربوا منكم.
لن يضركم هؤلاء الفاسقون بضرر كبير يلحقكم منهم، وإنما هو أذى يسير لا يبقى له أثر، وإن يقاتلوكم ينهزموا فارّين من لقائكم دون أن يظفروا بشيء، ثم إنهم لا يُنصرون عليكم أبداً ما داموا على فسقهم ودمتم متمسكين بدينكم.
وباؤوا : رجعوا.
ولقد أخبر سبحانه وتعالى بأنه كَتب عليهم الذلة في أي مكان وُجدوا فيه، إلا بعهد من الله وعهد من المسلمين. والعهدُ ما قررته الشريعة إذا دخلوا في حكمها من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء. وهكذا كان حالهم مع المسلمين، فقد كان الرسول الكريم يحسن معاملتهم، وكذلك الخلفاء الراشدون. وكانوا يعيشون مع المسلمين في أحسن حال، ولا زالوا إلى اليوم يعيشون متمتعين بكل الحقوق كما نشاهد ذلك في المغرب العربي وما بقي منهم في البلاد الشامية، والعراق وغيرها من بلاد الإسلام. لكنهم غدروا وكادوا. وهذه طبيعتهم. لذلك فإنهم قد استوجبوا غضب الله، وأحاطت بهم المسكنة والصغار، فلقد كفروا بآيات الله الدالة على نبوة محمد، وكانوا يقتلون أنبياءهم بغير حق. وهذا إخبار عن أسلافهم، لكنهم هم راضون عن ذلك الكفر والقتل بسبب عصيانهم وتمردهم واعتدائهم على حدود الله.
قائمة : مستقيمة عادلة.
آناء الليل : ساعات الليل.
قال ابن عباس وقتادة وابن جريْج : نزلت هذه الآيات لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه. فقالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا شِرارنا.
ليس جميع أهل الكتاب متساوين في الأعمال القبيحة والكفر، بل إن فيهم جماعة قويمة السيرة عادلة، آمنوا بمحمد، وهم يقرأون القرآن ساعات من الليل وهم ساجدون.
في هذه الآيات ردٌّ على اليهود المتعنتين الذين قالوا لمن أسلم منهم : لقد خسرتم بدخولكم في الإسلام، وفيها إشارة إلى المؤمنين وتطمينٌ لهم أنهم فازوا بالسعادة العظمى والدرجات العليا، كي يزول من صدورهم أثر كلام أولئك الطغاة المتمردين.
إن الذين كفروا من أهل الكتاب، ومشركي مكة، وغيرهم من مِثلهم في كل مكان وزمان، لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم شيئاً. ولن تنجيهم من عذاب النار يوم القيامة، فهم خالدون فيها.
لا يألونك خبالاً : لا يقصّرون في دفْعكم إلى الفساد.
ودّوا ما عنتّم : تمنّوا عَنَتَكم، شدة ضرركم.
في هذه الآية وما بعدها تحذير للمؤمنين من مخالطة الكافرين حتى لا يطَّلِعوا على أسرارهم.
اسمعوا يا أيها الذين آمنوا : لا تتخذوا أصفياء لكم من غير أهل دينكم، تستعينون بهم، وتُطلعونهم على أسراركم. إنهم لا يقصّرون في مضرتكم وإفساد أموركم، بل يتمنون أن يصيبكم أشد الضرر في دينكم وديناكم. ولقد ظهرتْ أمارات بغضهم لكم في فلتات ألسنتهم وتكذيب نبيكم وكتابكم، أما ما تضمره قلوبهم من الحقد عليكم فهو أعظمُ من ذلك بكثير. ها نحن قد أظهرنا لكم العلامات الواضحة التي يتميز بها العدو من الصديق، فانتبهوا واحذورا.
عضّوا عليكم الأنامل : كنايةً عن شدة الغيظ، والأنامل : أطراف الأصابع.
ذات الصدور : الخواطر التي في نفس الإنسان.
وهذا تحذير من أولئك الأشرار، واتخاذهم أصفياء للمؤمنين.
ها أنتم أيّها المؤمنون، تحبون أولئك الكفار المنافقين لما لبعضكم معهم من قرابة أو صداقة أو مصلحة، وقد نهاكم الله عن اتخاذهم كذلك. إنهم لا يحبونكم لتعصّبهم لدينهم. ( والسبب في ذلك أن كثيراً من الأنصار كان لهم قرابة أو نسب أو صداقة مع مواطنيهم في المدينة، فلما أسلموا بقي أولئك على كفرهم وعنادهم وكيدهم للإسلام، وبقي المسلمون بطيبة قلوبهم وصفاء نيَّتهم على حالهم السابقة معهم حتى نهاهم الله عن ذلك ).
وإذا لقوكم أظهروا لكم الإيمان وقالوا آمنّا وصدّقنا بما جاء به محمد، أما حين يفارقونكم فإنهم يكشفون لبعض عن حقيقة أنفسهم ويبرزون شدة العداوة لكم، وقد يعضّون أطراف أصابعهم غيظاً منكم. قل يا محمد : موتوا بغيظكم. وهذا دعاء عليهم بازدياد الغيظ حتى يهلكوا. إن الله عليم بما تخفيه صدورهم من الحقد والحسد.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب :«لاَ يضِرْكم » وفعلُه ضار يضير، وقرأ الباقون بتشديد الراء.
تبوِّىء : تُهيّىءُ وتعيّن مراكز القتال للمسلمين.
وقعة أحُد
من هذه الآيات إلى ستين آية بعدها يعالج التنزيل وقعة أُحُد. ويتخلل ذلك تذكيرُ المؤمنين كيف نصرهم الله يوم بدر، لأنهم أطاعوا الله ورسوله وكانوا يداً واحدة. أما معركة أحد فقد بدأت بالنصر للمؤمنين، وانتهت بالدائرة عليهم، لأنهم عصوا أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام. وكانت المعركة كارثة كادت تمحو المسلمين لولا فضل من الله.
اذكر يا محمد، إذ خرجت مبكراً ( صباح السبت، سابع شوال، سنة ثلاث للهجرة ) تهيّئ أمكنة القتال للمؤمنين. يومذاك رتب الرسول الناس فجعل الرماة في موضع مرتفع ( وهم خمسون رجلا )، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وأفهمه وأصحابه أن يلزموا مراكزهم، وأن لا يفارقوه أبدا مهما كانت نتيجة المعركة. كذلك رتب الفرسان في أماكنهم وعيّن لبقية المقاتلين مراكزهم. ودارت المعركة، وانهزم المشركون، فقال الرماة المسلمون : لقد انهزم المشركون. لذلك تركوا مراكزهم رغم أمر الرسول ألا يبرحوها، وقالوا : الغنيمةَ الغنيمة. ولقد نبههم أميرهم إلى خطأهم فلم يسمعوا وذهبوا في طلب الغنيمة. بذلك كشفوا ظهر المسلمين. وعندئذٍ جاء خالد بن الوليد، آمر فرسان المشركين، وكرّ على المسلمين من ورائهم وأَعمل فيهم السيف. ورجع المشركون حين رأوا خالداً والفرسان قد أحاطوا بالمسلمين، وانقلبت المعركة، وكثر القتل، واستشهد عدد من المسلمين وجُرح النبي صلى الله عليه وسلم. وكل ذلك بسبب مخالفة المسلمين لأوامر رسول الله.
إذ همّت طائفتان من جيشك يا محمد أن تجبُنا وترجعا ( وهما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس ) فقد تزعزعت نفوسهم عند ما رأوا عبد الله بن أُبيّ، رئيس المنافقين، ينسحب بثلاثمائة رجل.. لكن الله تولاّهما وثبتهما، وصرف الفشل عنهما. فعلى المؤمنين أن يأخذوا من هذا عبرة ويتوكلوا على الله، فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة إذا أطاعوا وثبتوا.
أن يمدكم : يرسل لكم مددا.
منزلين : من السماء.
بلى : حرف جواب يأتي بعد النفي والاستفهام المقترن بالنفي.
من فورهم هذا : من ساعتهم هذه.
مسوّمين : مرسَلين، أو معلَّمين.
ليقطع طرفا من الذين كفروا : يُضْعِفهم بقتل رؤسائهم وصناديدهم.
يكبتهم : يخزيهم.
يوم بدر ( ثانية ).
جاء التنزيل بهذه الآيات ليذكّر المؤمنين أن الله نصرهم يوم بدرٍ رغم كونهم قلة ضعفاء، لأنهم ثبتوا وصبروا، فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنكم إن تصبروا ينصركم الله دائماً كما نصركم في ذلك اليوم العصيب.
ويقع ماء بدر على مسيرة مائة وعشرين ميلاً إلى الجنوب الغربي من المدينة، وكان اللقاء فيها بين المسلمين وكفار قريش يوم الثلاثاء في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة. وكان عدد المسلمين ٣١٣ رجلاً معهم ثمانية سيوف فقط ويحمل الباقون منهم قوساً أو عصا عزّلاً. أما المشركون فكانوا نحو ألف مقاتل بكامل أسلحتهم وعُددهم.
وقد أنجز الله وعده في هذه المعركة غير المتكافئة، فكان النصر للمؤمنين رغم قلّتهم وندرة سلاحهم. وبفضل ذلك الانتصار صارت كلمة الإيمان هي العليا. وكانت بدر مقدمةً لانتصارات متلاحقة عَقَبتها حتى امتد ظل الإسلام على الجزيرة كلها.
قرأ ابن عامر «منزلين » بتشديد الزاي، والباقون «مُنزَلين ». وقرأ ابن عامر
قراءات :
وأبو عمرو ويعقوب :«مسوِّمين » بكسر الواو، والباقون بفتحها.
وقد دل قوله الله هذا دلالة لا تقبل التأويل أنه جلّت قدرته قد أمد المسلمين بالملائكة في بعض حروبهم. وقد دلت الروايات الكثيرة، واتفق المسلمون على أن الله أنزل الملائكة يوم بدر لنصرة المؤمنين، واختلفوا في إنزالهم يوم أحد، وليس من شك أن الله سبحانه أنزل الملائكة يوم بدر لنُصرة المؤمنين ولكن لا نعلم نوع هذا النصر : هل كان نصراً مادياً كالقتل، أو نصراً معنوياً كتخويف المشركين، وحصول الطمأنينة للمؤمنين ؟ الله أعلم ولا يجب علينا البحث والتنقيب عن ذلك، على أنه إذا بحثنا فلن نصل إلى يقين.
أضعافا مضاعفة : زيادات متكررة.
في هذه الآية الكريمة ينهانا الله عن التعامل بالربا، كما كانت تفعل اليهود وأثرياء المشركين، فيقول : أيها المؤمنون، لا تأكلوا الربا في إسلامكم بعد أن هداكم الله، كما كنتم تفعلون في جاهليتكم. وكانت طريقة التعامل بالربا في الجاهلية، أن يكون للرجل مال على آخر إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول المدين : أجّلْ دَينك وأزيدك عليه. فيفعلان ذلك. هذا هو الربا أضعافا مضاعفة، وهو الذي يسمى الآن الربا الفاحش أو الربا المركّب، ويسمى أيضاً ربا النسيئة.
وهناك نوع آخر من الربا هو ربا الفضل، وهو الذي ورد النهي عنه بالحديث الشريف :«لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثل بمثل سواء بسواء، ولا تشفوا بعضه على بعض، إني أخشى عليكم الرماء، يعني الرباء » ومعنى لا تشفوا : لا تزيدوا.
وهذه أول آية نزلت في تحريم الربا. وهو بلاء كبير وشر عظيم، وطالما هدم بيوتاً ودمر مجتمعات. وقد بلغ درجة من الفظاعة في الجاهلية حتى ألجأ بعض الناس أن يرهنوا زوجاتهم لدائنيهم. لهذا حرّمه الإسلام وشدّد في منعه، ولذلك رافق الآية تهديد ظاهر وأمر صريح. فقال تعالى :﴿ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي : أطيعوا فيم نُهيتم عنه من التعامل بالربا كيما يكون ذلك سبب فلاحكم في دنياكم وسعادتكم في الآخرة.
﴿ واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ أي ابتعِدوا عنها بامتناعكم عن التعامل بالربا، فإنما هي قد هيئت للكافرين. وقد قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله : هذه أخوفُ آية في القرآن، حيث أوعد الله المتعاملين بالربا بالنار المعدَّة للكافرين.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر :«سارعوا » بدون واو.
الضّراء : الشدة والضيق.
الكاظمين الغيظ : الذين يضبطون أعصابهم فيكفّون عن الانتقام.
بعد أن نهى سبحانه عن الربا من خلال الآيات التي سبق، وفيها تلوح صورة الغني القاسي القلب الذي يحصر همَّه كله في جمع المال من أية جهة كانت، بيّن لنا في هذه الآيات صورة الأغنياء المتقِين الذين ينفقون أموالهم في السرّاء والضراء، ويأخذون بيد الفقراء فيبذلون لهم الأموال ابتغاء مرضاة الله فقال : إنهم الذين ينفقون أموالهم إرضاءً لله في حالة الضيق والعسر، وفي حالة الرخاء واليسر. ونحن نعلم أن بذل المال للفقراء والمحتاجين وفي سبيل الله من أهمِّ علامات التقوى. كما أن الشحَّ والبخلَ من علامة عدم التقوى. والتقوى هي السبيل الموصل إلى الجنة. وهم أيضا ﴿ والكاظمين الغيظ ﴾ أي الذين يمسكون أنفسهم عن الانتقام مع القدرة عليه.
ثم أردف تعالى بمزية عظيمة أخرى وهي قوله :﴿ والعافين عَنِ الناس ﴾ أي الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس ويتركون مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك. وتلك منزلةٌ من ضبط النفس وملْكِ زمامها قلّ من يصل إليها. وهي أرقى من كظم الغيظ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة، فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نكظم غيظنا ونعفو عن الناس وننسى إساءتهم. وقد روى الطبراني عن أُبيّ بن كعب أن رسول الله قال :«من سرَّه أن يُشرف له البنيان، وتُرفع له الدرجات فليعفُ عمَّن ظلمه، ويعطِ من حرمه، ويصل من قطعه ».
﴿ والله يُحِبُّ المحسنين ﴾ أي : أولئك الذين يتفضلون على عباده البائسين يواسونهم ببعض ما أُنعم عليهم.
وإليك صفةً أخرى من صفات المتقين وهي أنهم : إذا فعلوا ذنباً يؤذي غيرهم أو يتعلق بأنفسهم، ذكروا عند ذلك وعد الله ووعيده فرجعوا إليه راجين رحمته تائبين ومستغفرين. وهكذا نجدهم لا يصرّون على ما فعلوا من الذنوب في الحالين. ولهذا قال الرسول الكريم «لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار ».
فيكون المعنى : لقد مضى من قبلكم أيها المؤمنون، كثير من الأمم السالفة، كذّبوا رسله وجحدوا نبوّتهم، كعاد وثمود وقوم صالح وقوم لوط الذين أهلكهم الله بأنواع العذاب، فبقيت لهم آثار في الديار فيها أعظم الاعتبار والاتعاظ، فسيروا في الأرض وانظروا إلى آثارهم وديارهم الخاوية وتأملوا ما حلّ بهم. فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقِبتُكم الصلاح، وإن سلكتم سبيل المكذِّبين مثلهم كان حالكم كحالهم.
والمراد أن مشيئة الله في خلقه تسير على سنن حكيمة، ومن سار عليها ظفر، ومن خرج عنها خسر. وعلى هذا فلا عجب أن ينهزم المسلمون يوم أُحُد، بعد أن ركبهم الغرور وخالفوا النظام الذي عيّنه لهم رسول الله.
لا تحزنوا : لا تتألموا. الحزن ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب.
في هذه الآية جاء ما يسلّي المؤمنين عما أصابهم من الهزيمة في وقعة أُحد ويقول لهم : إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنَّة الثابتة بل مجرد حادث عابر.
ولا تضعفوا عن الجهاد في سبيل الله بسبب ما نالكم من القتل والجروح والفشل يوم أُحد، ولا تحزنوا على ما فقدتم من الشهداء في ذلك اليوم. كيف يلحقكم الوهن والحزن، وأنتم الغالبون بتأييد الله، جزاء إيمانكم، وحفاظاً للحق الذي تدافعون عنه ! ؟ لقد مضت سُنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين.
نداولها : نصرفها، ونعاقبها فنجعل الغلبة لهؤلاء تارة ولأولئك أخرى.
وإن يكن قد لحقكم يوم أُحدٍ قتل أو جرح، فقد أصاب خصومكم مثلُه. لقد أوقعتم بهم يوم بدر، والأيام دُولة بين الناس. هذه سنة الله في خلقه، يكون النصر لهؤلاء أحياناً ولأولئك أخرى، ولكن الغلبة النهائية دائما لمن اتبع الحق. ما هو إلا اختبار للمؤمنين ليعلم الله الثابتين على الإيمان، وليكرم أناساً بالاستشهاد. قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم « قرح » بضم القاف، والباقون بفتح القاف. وهما لغتان.
يمحق الكافرين : يُنقصهم.
كذلك ليخلّص الله أحباءه المؤمنين من الذنوب، ويطهرهم من مرضى القلوب وضعفاء الإيمان، فيغدون صلاباً على أيديهم يُستأصل الكفر كله.
لا يزال الحديث موجّهاً إلى من شهد معركة أُحد من المؤمنين. والقرآن يخاطبهم في الآية بصورة السؤال : لا تظنوا أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة دون أن يتبين منكم المجاهدون الصابرون الذين تُطهّرهم المحن والشدائد. واعلموا أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، زادُه الصبر على مشاق الطريق، فتحمّلوها.
هنا يبين لنا سبحانه وتعالى أن طريق السعادة في الآخرة هو الصبر والجهاد في سبيل الله. كما أن طريقها في الدنيا هو اتباع الحق والتزام الإنصاف والعدل بين الناس. فسُنة الله واحدة لا تتبدل.
وفي ذلك اليوم ثبت جماعة من الصحابة مع الرسول ( وكانوا نحو ثلاثين رجلا ) وذبّوا عنه إلى أن انتهت المعركة، فيما تزعزع كثير منهم وضعفوا. وحين ارتفعت الصيحة أن محمداً قد قُتل كان لها وقعها الشديد على المسلمين، حتى إن الكثيرين منهم فروا مصعِّدين في الجبل، والرسول عليه السلام يناديهم وهم مولّون، حتى رجعوا إليه وثبّت الله قلوبهم. وهنا ينبّهنا القرآن الكريم إلى أن الرسول بشرٌ يمكن أن يموت، لكن رسالته تظل باقية إلى الأبد.
فالله سبحانه وتعالى هنا يخاطب هؤلاء بقوله : ليس محمد إلا رسولا قد مضت قبله الرسل، فماتوا وقُتل بعضهم ولم يُكتب لأحد منهم الخلود. وسيموت محمد كما ماتوا، أفإن مات أو قُتل رجعتم على أعقابكم إلى الكفر ! إن من يرجع إلى الكفر في تلك الحال لن يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه، بتعريضها للعذاب.
ويرشدنا الله في هذه الآية إلى أن نتّبع الرسول ونسترشد برسالته وهدية ودينه، أما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم، وما يعرض له من حياة وموت، فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا لخضوعنا نحن. ذلك أن محمداً بشر مثلنا خاضع لسنن الله.
وفي الآية تحريض على الجهاد، والذي تركناه اليوم لليهود، فهم يجاهدون عن وطنهم المزعوم ونحن قاعدون مستسلمون لنكبة وطننا الحق، نريد من الأمم أن تحل قضيّتنا. ألا بئس ما نحن فيه ! ما دام الأجل محتوماً، ومؤقتا بميقات، فلماذا هذا الجُبن والخور !
﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا... ﴾
ومن قصَد بعمله حظَّ الدنيا أعطاه الله ثوابها، ومن قصد الآخرة أعطاه الله حظاً من ثوابها وأجزله له، وسيجزي الله الشاكرين لنعمائه، وهم الذين أطاعوه فيما أمرهم به وجاهدوا وصبروا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كرر تعالى : قوله :﴿ وَسَيَجْزِي الله الشاكرين ﴾ حتى يعلم كل إنسان أن الله كريم لا يُضيع أجر من أحسن عملا.
ما أكثر الأنبياء الذين قاتل معهم جماعات ممن آمنوا بهم، فما خافوا ولا ضعفوا ولا خضعوا، ولا ولّوا الأدبار منهزمين، بل ثبتوا وصبروا على ما أصابهم في سبيل الله، والله يحب الصابرين.
فعليكم يا أصحاب محمد أن تعتبروا بحال أولئك الرَّبِّيين وتصبروا كما صبروا. ولذلك طُلب إليكم أن تعرفوا عاقبة من سبقكم من الأمم، وتقتدوا بعمل الصادقين منهم، وتقولوا مثل قولهم عند اشتداد الحرب ونزول الكوارث.
قراءات :
قرأ ابن كثير :«كأين » بدون تشديد، والباقون «كأين » بتشديد الياء. والمعنى واحد.
ذلك أنهم مع ثباتهم وصبرهم ضرعوا إلى الله بالدعاء قائلين : ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وتجاوْز عما يكون منّا من إسراف في أعمالنا، وثبِّتنا في مواطن الحرب، ربّنا وانصرنا على أعداء دينك الذين جحدوا ألوهيتك.
وفي هذا إشارة إلى أن الذنوب والإسراف في الأمور من عوامل الخذلان، فيما الطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح.
والله تعالى يتلو على نبيّه هذه الآيات ليعلّمنا الاقتداء بالصالحين من الأمم السابقة، ويؤدبنا بأدب المؤمنين مع ربهم، ويُفهمنا أننا إذا أخلصنا حقاً وثبتنا على مبادئنا ثم طلبنا منه النصر، فإنه يجيبنا وينصرنا بكرمه وفضله.
لا يزال الحديث في معركة أحد، وما حدث يومذاك من بلبلة في الأفكار وإرجاف من المشركين والمنافقين واليهود. فقد انتهزوا جميعاً ما أصاب المسلمين من الهزيمة وأخذوا يثبطون عزائمهم، ويخّوِفونهم عاقبة السير مع محمد، ويصورون لهم مخاوف الحرب ضد مشركي قريش وحلفائهم. ونحن نعرف أن جو الهزيمة لهو أ صلح الأجواء لبلبلة النفوس، وإشاعة عدم الثقة في القيادة، وتزيين الانسحاب من المعركة. لذلك نجده تعالى بعد أن رغّب المؤمنين في الاقتداء بأنصار الأنبياء الصادقين المخلصين، ينهاهم في الآية نفسها عن متابعة الكفار والمنافقين.
﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ... ﴾ إن تطيعوا أعداء الله الذين أرجفوا يوم أُحد أن محمداً قد قتل، وأنه لو كان رسولاً حقا لما هُزم، فإنهم سيطلبون إليكم أن ترجعوا إلى دينكم الذي كنتم عليه، وبذلك تخسرون الدنيا والآخرة. وأيّ خسارة أشد من الارتداد عن الإيمان إلى الكفرِ ! أما إذا حدثتم أنفسكم بأنه قد يترتب على الميل إليهم من طرفكم قدرٌ من الحماية والنصر، فاعلَموا أن ذلك وهمٌ خادع ( وهذا ما يفعله بعض حكام المسلمين مع أميركا في الوقت الحاضر ).
إن الله مولاكم، وهو ناصركم ومعين لكم وحاميكم.. فلا تخشوهم، إن الله أعظم الناصرين.
المثوى : المأوى، ومقر الإنسان.
ولا يضعْفكم ما أصابكم من خذلان يوم أحد، فنحن سنلقي الرعب في قلوب أعدائكم، جزاءً لهم على إشراكهم بالله في العبادة. وسيكون مقرهم النار، وبئس مقام الظالمين.
فشلتم : ضعفتم.
ليبتليكم : ليختبركم.
في هذه الآية الكريمة والتي بعدها تصوير للمعركة، وعرض كامل لمشهدها، ولتداول النصر والهزيمة فيها، ثم ما تبعها من فرار. ومع ذلك التصوير توجيهات قرآنية، وتربية وتعليم بأسلوب قرآني حكيم.
« ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾. ما زال الكلام والخطاب مع الأصحاب الذين كانوا في أُحد.. وكان ( صلى الله عليه وسلم ) قد وعدهم النصر يومئذ إن امتثلوا أمره. وقد وفى الله لهم بما قاله على لسان نبيه، ذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أقام الرماة عند الجبل صيانة لمؤخرة المسلمين، وأوصاهم أن لا يبرحوا مكانهم، حتى ولو رأوا العدو تتخطفه الطير، ووعدهم النصر بهذا الشرط. وكان الرماة خمسين رجلاً.
ولما ابتدأت المعركة شرع الرماة يرشقون المشركين، وبقية الأصحاب يضربونهم بالسيوف، وقتلوهم قتلاً ذريعاً، حتى انهزموا، وهذا معنى ﴿ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾، أي : تقتلونهم بأمر الله. وفي تفسير ابن جرير الطبري والمراغي وغيرهما أن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين المعروف بكبش الكتيبة قام فقال : يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجّلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟. فقام إليه علي بن أبي طالب ( ع ) وضربه فقطع رِجله. وسقط، فانكشفت عورته، فقال طلحة لعلي : أنشدك الله والرحم يا ابن عم.. فتركه علي ( ع ) وكبّر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ). وقال لعلي أصحابُه : ما منعك أن تجهز عليه ؟. قال : ناشدني الله والرحم.. هذا هو عليٌّ في خلقه، يفيض قلبه بالحنان والرحمة، حتى على أعدى أعدائه الذي برز له شاهراً السيف في وجهه مصمماً على قتاله وقتله.
﴿ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ ﴾. بعد أن ولى المشركون الدبر- وكانوا ثلاثة آلاف مشرك- امتلأ الوادي بما خلفوه من الغنائم. وحين رآها الرماة، وإخوانهم المسلمون ينتهبونها دونهم عصَف بهم ريح الطمع، واختلفوا فيما بينهم، وقال بعضهم : ما بقاؤنا هنا ؟ وتجاهلوا وصية النبي وتشديده عليهم بالبقاء. فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير : امكثوا ولا تخالفوا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ).. ولكن أكثرهم غادروا مواقعهم هابطين إلى انتهاب الأسلاب والأموال، وتركوا أميرهم عبد الله في نفر دون العشرة، وإلى هذا التنازع والعصيان يشير قوله تعالى :﴿ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ ﴾. أما قوله :﴿ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ ﴾ فيشير إلى انهزام المشركين وغنائمهم.
وكان خالد بن الوليد يحارب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أبي سفيان، وحين رأى مؤخرة المسلمين مكشوفة بعد أن أخلاها الرماة اغتنم الفرصة، وانقضّ مع جماعة من المشركين على البقية الباقية من الرماة، وقاتل هؤلاء بشجاعة وحرارة، حتى استشهدوا جميعاً، وخلا ظهر المسلمين، ورجع المشركون إلى الميدان، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، وأكثروا فيهم القتل والجراح، ودارت الدائرة عليهم بعد أن كانت لهم.. وهذه النتيجة الحتمية للتنازع والتخاصم.
﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ﴾. وهم الرماة الذين تركوا مقاعدهم طمعاً بالغنيمة. ﴿ وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ﴾. وهم الذين ثبتوا مكانهم مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى نالوا الشهادة. ﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ﴾. أي ردكم عن الكفار بعد أن نصركم عليهم بسبب تنازعكم وعصيانكم. ﴿ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾. أي : عاملكم معاملة من يمتحنكم ليظهر ثباتكم على الإيمان، وصبركم على الشدائد، ويميز بين المخلصين والمنافقين. ﴿ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين ﴾. وكثيراً ما يخطئ الإنسان عن طيش، ثم يؤوب إلى رشده، فيعفو الله عما سلف منه، أما من عاد فينتقم الله منه.
برز : خرج.
إلى مضاجعهم : إلى مصارعهم وقبورهم.
ذات الصدور : السرائر.
بعد أن انتهت المعركة ورجع بعض من انهزم من المسلمين وتجمّعوا حول الرسول الكريم، وقف أبو سفيان وصاح : أُعلُ هُبَل، يوم أُحد بيوم بدر، لنا العزّى ولا عُزّى لكم. فقال رسول الله لعُمر : قل : الله أعلى وأجل، الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان : أفيكم محمد ؟ قالوا : نعم، قال : لقد حدثتْ مُثْلَةٌ لم آمر بها ولم تسؤني، ( يعني بذلك ما حدث من التمثيل بجثّة حمزة وغيرها من قتلى المسلمين ) ثم قال : الموعد بيننا بدرٌ في العام القابل. فخاف المسلمون أن يذهب المشركون إلى المدينة. وفي تلك اللحظة بعث الله النعاس على طائفة المؤمنين الصادقين في إيمانهم تطميناً لقلوبهم، وفي النوم راحة كبرى للأعصاب المرهقة وقت الشدائد.
قال أبو طلحة : غشينا النعاسُ يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه.
ورفعتُ رأسي فجعلت أَنظر ما منهم يومئذ إلا يميد تحت حَجَفته من النعاس. وذلك قوله تعالى :
﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً ﴾.
والحجفة : الترس من الجلد.
هذه إحدى طائفتي المسلمين الذين قاتلوا يوم أُحد. أما طائفة الإيمان المزعزع فقد أذلهم الخوفُ، ولم يكن لهم همٌّ إلا أنفسهم. وذلك لأنهم كانوا مكذِّبين بالرسول في قلوبهم، فظنوا بالله الظنون الباطلة وأخذوا يقولون مستنكرين : هل لنا من النصر والفتح نصيب ؟. لهؤلاء قل يا محمد : الأمر كله لله في النصر والهزيمة. وحتى حين يسألونك فإنهم في الواقع يخفون في أنفسهم ما لا يستطيعون إعلانه لك، فهم يُظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر، لكنهم يبطِنون الإنكار والتكذيب. فلسان حالهم يقول : لو كان أمر النصر بيد إله محمد كما ادعى محمد- لما غُلبنا، ولما قُتل من قُتل من أصحابه في هذه المعركة !.
قل لهم يا محمد : لو كنتم في منازلكم وفيكم من كُتِبَ عليه القتل لخرجوا إلى مصارعهم فقُتلوا. أما الهزيمة فقد جازانا بها الله ليمتحن ما في صدورنا من الصدق والإخلاص أو عدمه، ويمحصّ ما في قلوبنا من وساوس الشيطان، والله عليم بذات الصدور.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «تغشى » بالتاء، والباقون «يغشى » بالياء. وقرأ أبو عمرو ويعقوب «قل إن الأمر كلُّه » برفع اللام. والباقون بنصبها.
استزلهم الشيطان : جرهم إلى الخطأ.
إن الذين انهزموا منكم يا معشر المسلمين، يوم أحد إنما جرّهم الشيطان إلى الزلل والخطأ، فعصَوا أمر الرسول وبارحوا المكان الذي أوقفهم فيه على الجبل. لقد رأوا النصر للمسلمين في أول المعركة فهبطوا إلى السهل طمعاً في الغنيمة. عند ذلك هاجمهم خالد بن الوليد بخيل المشركين، وقتل من بقي من الرماة، وأحدث الخلل في صفوف المسلمين. ولقد فر أكثر المقاتلين، ولم يبق مع النبي إلا ثلاثة عشر رجلاً : منهم خمسة من المهاجرين هم : أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وثمانية من الأنصار. وقد انهزم بعضهم ولم يعد إلا بعد ثلاثة أيام.
من هذا يتبين أن عملاً بسيطا لا يقدّره الإنسان قد يجر إلى نكبة كبرى، ويكون بعمله هذا قد قدّم أعظم مساعدة لعدوه. وهذا ما نحن فيه اليوم، فإننا بتفرقنا ومعاداتنا لبعضنا البعض، إنما نقدم أعظم خدمة لليهود وحلفائهم، منّا ومن غيرنا.
وفي الآية تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئةَ فتفقد ثقتها في قوتها، ويختلّ توازنها، فَتَبِيتُ عرضةً للوساوس والهواجس. وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس فيقودها إلى الزلل والخطأ، وتحل بها النكبة والهزيمة....
ولكن الله أدرك أصحاب أُحد برحمته، فلم يدع الشيطان يتسلط عليهم، بل عفا عنهم، ثم أخبرهم بأنه غفور حليم. ونحن نسأل الله تعالى أن يردّنا إلى طريقه المستقيم، ويدركنا برحمته فيوحّد كلمتنا ويعيد إلينا ثقتنا بأنفسنا، لننظم صفوفنا ونسترد ما اغتُصب من بلادنا.
ضربوا في الأرض : سافروا فيها للتجارة وغيرها.
غزى : جمع غاز، محاربون، مجاهدون.
يا أيها المؤمنون، لا تكونوا كأولئك المنافقين الذين قالوا في شأن إخوانهم حين سافروا للتجارة والكسب فماتوا، أو كانوا غزاة في وطنهم أو في بلاد أخرى فقُتلوا، لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فقد جعل الله ذلك القول والظن حسرة في قلوبهم. إن الله هو الذي يحيي ويميت، وليس للإقامة والسفر مدخل في ذلك. والله مطّلع على ما تعملون، بصير بما تكفرون فيه، لا يخفى عليه شيء مما تكتمون في أنفسكم من وساوس الشيطان.
القراءات : قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «والله يعلمون » بالياء.
القراءات : قرأ نافع وحمزة والكسائي «متم » بكسر الميم.
﴿ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴾. فبأي سبب كان موتكم فإنكم راجعون إلى الله لا إلى غيره، فيجزي كلاً منكم بما يستحق. فآثِروا ما يقرّبكم إليه من العمل الطيب والجهاد في سبيله، ولا تركنوا إلى الدنيا ولذاتها الزائلة، أيها المؤمنون.
قراءات :
قرأ نافع وحمزة والكسائي «متم » بكسر الميم. وقرأ غير حفص «خير مما تجمعون » بالتاء.
الفظ : الشرس الأخلاق، الجافي العشرة.
القلب الغليظ : القاسي الذي لا يتأثر باللطف والرقة.
انفض : تفرق.
المشاورة : أخذ آراء الذين حولك من العقلاء وذوي الرأي.
التوكل : تفويض الأمر إلى الله، للثقة بحسن تدبيره، مع أخذ الأهبة واستكمال العدة.
بعد أن أرشد الله المؤمنين في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، اتجه في الخطاب هنا إلى الرسول الكريم بهذا التعبير الدقيق اللبق، والمدح العظيم. فهو يريد أن يلطّف الجو بعد معركة أحد، ويخفف مما في نفس الرسول على القوم الذين كانوا سبباً في تلك النكبة.
ويتوجه سبحانه إلى الرسول بهذه الآية والتي بعدها يطيّب قلبه، وإلى المسلمين يشعرهم بنعمة الله عليهم به، ويذكّرهم رحمة الله الممثلة في خُلقه الكريم.
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين ﴾ من رحمة الله عليك أن عاملتَ أصحابك بعد رجوعهم باللين والرفق، وهذا شيء خصّك الله به، فقد حباك بآداب القرآن العالية وحِكمه السامية، فهانت عليك المصائب. هذا مع أنَّ كثيرا من أصحابك قد استحقوا اللوم والتعنيف، إذ تركوك وقت اشتداد الهول فيما الحرب قائمة على أشدها.
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ ولو كنت يا محمد، رجلاً خشناً جافيا في معاملتهم لتفرقوا عنك، ونفرت قلوبهم منك، فلم تتم هدايتُهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم.
هكذا يجب أن تكون أخلاق الزعيم والقائد والحاكم، فإن الناس في حاجة إلى رعاية فائقة وقلب رحيم، وحلِم لا يضيق بجهلهم وأخطائهم، لا إلى حاكم متعالٍ يتطاول بالغطرسة وادّعاء العظمة في غير حق. وما أرحمَ ما كان قلب الرسول الكريم، وما أجمل ما كانت سيرته مع الناس، ما غضِب لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، بل وَسِعَهم حلمُه وبره وعطفه. وسيرته طافحة بذلك.
﴿ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ﴾ ما أحلى هذا الكلام وما أرقّه وأعطفه ! وما أعظم قوله سبحانه ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ﴾، فهو نص قاطع في تقرير مبدأ الشورى في الحكم الإسلامي، لا الاستئثار بالسلطة الفردية المتحكمة. وإنه لمبدأ عظيم هذا الذي يقرره القرآن بصدد ذلك، وهو المعمول به اليوم عند الأمم الراقية التي سبقتنا. أما نحن فقد تأخرنا لأننا أدرنا ظهرنا لهذه التعاليم الحكيمة الراشدة، واتّبعنا مبدأ التسلُّط والقهر. واتخذنا اسم «الرعيّة » وكأنه من الرعي للسائمة لا من الرعاية للبشَر.
فإذا عقدت عزمك يا محمد، على أمر بعد المشاورة، فامض فيه متوكلاً على الله، إن الله يحب الواثقين به، فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم.
إذنْ فالتوكل يجب أن يكون مقروناً بالسعي والعزم والعمل، لا نابعاً من التقصير ورغبة في التخلص من العناء، وإلا فهو تواكلٌ يمقُتُه الله.
في الحديث المعروف الذي رواه الترمذي والبيهقي وأبو نعيم وابن أبي الدنيا وابن حبّان. «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أعقلُ ناقتي وأتوكل أو أطلقها وأتوكل ؟ فقال له الرسول الكريم :«اعقِلها وتوكل ».
وقد سار هذا الحديث مثلاً.
تُوفّى : تعطى.
روي أن هذه الآية نزلت يوم أحد عندما ترك الرماة موقعهم على الجبل طلباً للغنيمة، إذ قالوا : نخشى أن يقول النبي : مَن أخذ شيئاً فهو له، وأن لا يقسم الغنائم كما قسمها يوم بدر. فقال لهم الرسول : ألم أعهد إليكم ألا تتركوا موضعكم حتى يأتيكم أمري ؟ فأجابوا : تركنا بقية إخواننا وقوفا. فقال لهم : بل ظننتم أنا نغلّ ولا نقسم.
وكان بعض المنافقين قد أشاعوا أن الغنائم يوم بدر قد اختفت، واتهموا الرسول الكريم أنه أخفاها. فكذّبهم الله. والمعنى هنا : لا يجوز لنبي أن يخون في الغنائم، لأن النبوة أساسها الأمانة. وفي هذا نفي الخيانة عن جميع الأنبياء. لقد عصمهم الله من الغلول والخيانة، لأن النبوة أعلى المناصب الإنسانية، فصاحبُها معصوم عن كل ما فيه دناءة وخسة. أما الناس فقد يقع منهم ذلك، فمن فعله أتى بما غل به يوم القيامة، ليفتضَح فيه أمره ويزيد به عذابه.
﴿ ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ يومذاك تعطى كل نفس جزاء ما عملت وافيا تاما، لا تلقى ظلماً بنقصان في الثواب أو زيادة في العقاب.
روى عبد الله بن أحمد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم والغُلول، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أَدُّوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد، في الحضر والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة. إنه لَينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم. وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذْكم في الله لومةُ لائم.
وهناك أحاديث كثرة في هذا الموضوع.
وقد علمتْ هذه الآية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية السلف الصالح من المسلمين حتى أتوا بالعجب العجاب :
حُملت الغنائم إلى عمر بن الخطاب بعد القادسية، وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقوَّمان بثمن، فنظرَ رضي الله عنه إلى ما أدَّاه الجندُ في غبطة وقال :«إن قوماً أدوا هذا لأمِيرهم لأمناء ».
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب :«أن يُغَل » على البناء للمفعول، والمعنى على هذه القراءة ما صح لنبي أن ينسب إلى الغلول أو يخونه أحد، أما عند قراءاتها «يغُل » بفتح الياء وضم الغين فالمعنى المقصود أن يخون في الغنائم.
مأواه : منزله.
أردف الله تعالى بهذه الآية ليبين أن جزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين، أفمن اتقى وسعى في تحصيل رضا الله بالعمل الطيب والطاعة التامة مثلُ الذي باء بغضب عظيم من الله بسبب عصيانه وغلوله وخيانته ! ! كلا، إن منزل العاصي الذي غلّ وخان هو جهنم، وساءت منقلبا.
الكتاب : القرآن.
الحكمة : السنَّة، والمعرفة بجميع أنواعها.
لقد مرّ نظير الآية في سورة البقرة، الآية ١٢٩.
بعد أن نفى الله الغلول والخيانة عن النبي الكريم على أبلغ وجه، أكد ذلك بهذه الآية، فأبان أنه قد تفضل على المؤمنين بأن يبعث فيهم رسولا منهم، وُلد في بلدهم فعرفوه حق المعرفة، ولم يروا فيه طوال حياته إلا الصدق والأمانة حتى فاز بلقب محمد الأمين. وقد جاء هذا الرسول يتلو عليهم آيات الله الدالة على القدرة والوحدانية، ويوجه النفوس إلى الاستفادة منها والاعتبار بها.
هذا كما جاء محمد ليزكّيهم، أي يطهّرهم من العقائد الزائفة، ويطهر بيوتهم وأعراضهم ومجتمعهم من دنس الجاهلية وشِركها، كذلك جاء يعلّمهم القرآن والكتابة والقراءة بعد أن كانوا أُميّين ضالين.
«وعلى١* أية حال، فقد تضمنت هذه الآية الأمور التالية :
- أن الرسول إحسان من الله إلى الخلق، لأن الرسول ينقلهم من الجهل إلى العلم، ومن المذلَة إلى الكرامة، ومن معصية الله وعقابه إلى طاعته وثوابه.
- أن هذا الإحسان قد تضاعف على العرب بالخصوص لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) منهم، يباهون به جميع الأمم.
- أنه يتلو عليهم آيات الله الدالة على وحدانيته، وقدرته وعلمه وحكمته.
- أنه يطهّرهم من أرجاس الشرك والوثنية، ومن الأساطير والخرافات والتقاليد الضارة، والعادات القبيحة.
- يعلّمهم الكتاب أي القرآن الذي جَمَعَ كلمتهم، وحفظ لغتهم، وحثّهم على العلم ومكارم الأخلاق، ويعلمهم الرسول أيضاً الحكمة، وهي وضع الأشياء في مواضعها، وقيل : إن المراد بها هنا الفقه.. »
يقول جعفر بن أبي طالب الصحابي الجليل مخاطباً النجاشي عندما لجأ إليه المسلمون في أول بدء الدعوة :«أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله وحده لنوحّده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرَنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصِلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً وأمرَنا بالصلاة والزكاة والصيام ».
وقد كان سبب تعجبهم أن بعضهم قال : نحن ننصر دين الله وفينا رسوله، وهم ينصرون الشرك بالله، ومع ذلك يُنصرون علينا ؟ فرد الله عليهم بهذه الآية بقوله :﴿ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا ﴾، و ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ أي : إن الذي أصابكم إنما هو من عند أنفسكم : لقد خالفتم الرسول في أمور كثيرة، فقد كان من رأيه البقاء في المدينة ومحاربة المشركين فيها إذا هاجموا، لكنكم تحمستم وأردتم الخروج للقاء العدو. ثم إنكم تنازعتم الرأي فيما بينكم. ثم كانت الطامة الكبرى بمخالفة الرماة منكم أمر الرسول ونزولهم عن الجبل.. كل هذه المخالفات أدّت إلى الهزيمة. والله قادر على كل شيء، ومن مقتضى قدرته أن تنفُذ سُنَنُه، وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته، وألا تتعطل سُنّته التي أقام عليها الكون والحياة.
ثم أكد الله كفرهم ونفاقهم بقوله :﴿ والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ من الكفر والكيد للمسلمين وتربُّص الدوائر بهم.
ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس.
قال الذين تخلّفوا عن القتال ورجعوا إلى المدينة، في شأن إخوانهم الذين خرجوا وقُتلوا : لو أنهم أطاعونا وقعدوا مثلنا لنجَوا من القتل كما نجونا. وهكذا لم يكتفِ المنافقون بالتخلف والاعتذار الكاذب، وما أحدثه ذلك من رجة وبلبلة في النفوس، بل راحوا يثيرون الحسرة في قلوب أهل الشهداء بعد المعركة. فرد الله تعالى عليهم رداً قاسياً دحض حجتهم وأبان كذبهم، كما وبخهم على ما قالوا فأبلغ نبيَّه أن يتحداهم ﴿ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾، أي ادفعوا عن أنفسكم الموت إن كان الحذَر يمنع من القدَر كما تزعمون.
قرأ ابن عام :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ ﴾ بشديد التاء مع الكسرة.
حسبنا الله : كفانا الله. فانقلبوا : فرجعوا.
في هذه الآية وصف عظيم للمؤمنين الصادقين، وهم الذين لبّوا دعوة الرسول إلى استئناف الجهاد من بعد ما أصابهم من جرح وآلام يوم أُحُد. لقد اتقوا عصيان ربهم ورسوله الكريم، فاستحقوا الأجر العظيم على ما قاموا به من جليل الأعمال.
وذلك أن أبا سفيان وأصحابه، لما رجعوا من أحد، ندموا وهمُّوا بالرجوع حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين. فبلغ ذلك رسولَ الله، فأراد أن يُرهبَهم ويريهم القوة من نفسه وأصحابه، فندب أصحابه للخروج في أثر أبي سفيان، وقال : لا يخرجنّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس. وهكذا خرج مع جماعة من أصحابه وفيهم عدد من الجرحى قد تحاملوا على أنفسهم، حتى بلغوا مكانا اسمه «حمراء الأسَد » وعندما سمع أبو سيفيان بخروج النبي وأصحابه في طلبه، خشي العاقبة، فأسرع في جماعته منقلباً إلى مكة.
إن هؤلاء الذين خوّفهم الناس بأن قالوا لهم : إن أعداءكم قد جمعوا لكم جيشاً كثيفا فخافوهم، لكنهم لم يضعفوا، بل ازدادوا إيمانا بالله وثقة من نصره، كما أجابوا : ليس يهمَّنا هؤلاء الذين جمعوا الجموع، فالله معنا لا يعجزه أن ينصرنا على قلّتنا وكثرتهم، ثم خرجوا مع رسول الله للقاء العدو، لكنهم لم يلقوه لأنه أسرع خائفا إلى مكة، فرجعوا بدورهم إلى المدينة مع الرسول.
روى البيهقي عن ابن عباس أن عيراً مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم باعها، فربح مالاً، فقسمه بين أصحابه، فذلك من فضل الله.
إثما : ذنبا.
ولا يحسبنّ هؤلاء الكافرون أن إمهالَنا لهم، حين نمد في أعمارهم ونهيّئ لهم أسباب النعيم في حياتهم الدنيا هو خير لهم، كلا، إن إطالة العمر وسعة الرزق دون إيمان ولا عمل صالح يُفْضِيان بهم إلى الاستمرار في المعاصي.. ومن ثَم استحقاق ما أعد الله لهم من عذاب مهين مقابلَ ما كانوا فيه من مقام ومكانة ونعمة.
يجتبي : يختار.
يبين الله تعالى هنا أن الشدائد هي محكّ صدق الإيمان، ولذلك يقول : ما كان الله ليترككم يا معشر المؤمنين، على ما أنتم من اختلاط المؤمن بالمنافق حتى يميز بينكم بالمحنة والتكاليف والشدائد. بذلك يَظهر المنافق الخبيث والمؤمن الطيب الصادق الإيمان. ولم يكن من شأنه تعالى أن يُطلع الناس على الغيب، فلو فعل ذلك لأخرج الإنسان من طبيعته. لذا جرت سنته بأن يميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد، كما تم يوم أُحد، حيث ابتلى المؤمنين بظهور العدو عليهم، جزاء ما فعلوا من المخالفة. وقد قال تعالى ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾.
ولكن الله يصطفي من رسُله من يشاء، فيطلعه على ما يشاء من الغيب، فيعلم ذلك الرسول المؤمنَ من المنافق. أما أنتم يا أصحاب محمد، ﴿ فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ﴾ الذين ذكرهم في كتابه. وإن تؤمنوا بما جاؤوا به من أخبار الغيب وتتقوا الله بترك ما نهى عنه، وفعل ما أمر به، فلكم أجر عظيم لا يقدَّر ولا يوصف.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«يُمَيِّز » بضم الياء الأولى وفتح الميم وكسر الياء الثانية وتشديدها، والباقون :«يَمِيز » بفتح الياء وكسر الميم.
كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد، وهنا شرع يحثُّ على بذل المال في سبيل ذلك. والمال بطبعه عزيز جدًّا على الناس، حتى إن بعضهم لَيفدي نفسه من أجل ماله. لذلك ذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله على الجهاد، واللهُ يرث الأرض و السماوات، ويبقي الملك له وحده.
قراءات :
قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ بالتاء كما هو هنا، والباقون «يعملون » بالياء.
بقربان : هو ما يذبح من الأنعام تقربا إلى الله.
بالبينات : الآيات الواضحة.
أبو بكر وفنحاص.
روى الطبري عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر بيت المدارس فوجدَ من يهودَ ناساً كثيرا، قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم. فقال أبو بكر لفنحاص : ويحك يا فنحاص، اتَّق الله وأسلم، فوالله إنك لَتعلم أن محمداً رسول الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. قال فنحاص : واللهِ يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لَفقير. وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا. وإنّا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، يشير إلى قوله تعالى ﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾. فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال : والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك، لضربتُ عنقك يا عدو الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله، فقال : يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبُك. فقال رسول الله لأبي بكر : ما حَمَلَكَ على ما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيما.. زعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء. فلما قال ذلك غضبتُ لله مما قال، فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص، وقال : ما قلت ذلك. فأنزل الله تعالى ردّاً عليه وتصديقاً لأبي بكر ﴿ لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين... الآية ﴾.
المدارس : مكان الدرس، وبَيْعة اليهود، وهم يلفظونها مدارش.
قد سمع الله من قالوا هذه المقالة المنكرة ولم يَخْفَ عليه شيء. وسيجزيهم على ذلك أشد الجزاء، ولقد سجّل عليهم ذلك القولَ الشنيع كما سجل عليهم قتلهم الأنبياء ظلماً وعدوانا، وسينتقم منهم يوم القيامة، ويقول لهم : ذوقوا عذاب النار المحرقة.
﴿ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ فلا يكون عقابه إلا عدلاً ولا يعاقب غير المستحق للعقاب.
قراءات :
قرأ حمزة :«سيكتب ما قالوا » بالياء المضمومة، و«قتلهم » بضم اللام، و «يقول » بالياء.
رويَ عن ابن عباس أن كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وفنحاص، وجماعة من أحبار اليهود أتوا رسول الله فقالوا : يا محمد، تزعم أنك رسول الله، وأنه أوحى إليك كتاباً، وقد عهد إلينا في التوراة ألا نؤمن لرَسولٍ حتى يأتينا بقربان تأكله.... الخ.
وفي الآية رد صريح ومجابهة قوية تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر.
فإن كذّبوك أيها النبي، بعد أن جئتهم بالبينات الساطعة، والكتاب الهادي إلى سواء السبيل، فلا تأسَ عليهم ولا تحزن لعنادهم وكفرهم. لقد جاء قبلك رسل كثيرون كذّبهم أقوامهم، ومع أنهم جاؤوهم بالأدلة الساطعة والكتب السماوية الدالة على صدق رسالتهم، فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك. ذلك أن نفوسهم منصرفة عن طلب الحق وتحرّي سبل الخير.
قراءات :
قرأ ابن عامر «وبالزبر » بإعادة حرف العطف. وقرأ هشام «وبالكتاب ».
متاع الغرور : المتاع كل ما يُنتفع به ويتمتع به. الغرور : الخداع والغفلة وكل زخرف باطل.
بعد كل ما تقدم يتجه الخطاب إلى المسلمين، يحدثهم عن القيم التي ينبغي لهم أن يحرصوا عليها، ويضحّوا من أجلها. وهو يخبرهم أن هناك متاعب وآلاما، فيجب أن يتجمّلوا بالصبر والتقوى. كما يذكّرهم بحقيقة مقررة، وهي أن الحياة في هذه الأرض محددة بأجل موقوت ثم تأتي نهايتها، فيموت الصالحون والطالحون، المجاهدون والقاعدون، الشجعان والجبناء، العلماء والأنبياء. كل نفس ذائقة الموت لا محالة والبقاءُ للهِ وحده.. يومذاك يعطى العباد جزاء أعمالهم وافيا، فمن خلَص من العذاب وأُبعد عن النار فقد فاز فوزاً عظيما.
روى الإمام أحمد ومسلم عن عبدا لله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله «من أحبّ أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركْه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه ».
وما حياتنا هذه التي نتمتع بلذاتها، من مأكل ومشرب أو جاه ومنصب وسيادة، إلا متاع الغرور، لأنها تخدع صاحبها وتشغله كل حين بجلْبِ لذاتها ورفع آلامها ومهما عاش الإنسان وجمع من مالٍ أو حصل على منصب، فإنه مفارق هذا كله في نهاية الأمر. وما الحياة الدنيا إلا كما قال الشاعر :
« فما قضى أحد منها لُبانتَه | ولا انتهى أربٌ إلا إلى أرب » |
من عزم الأمور : من صواب الرأي والتدبير.
ستُختبرون أيها المؤمنون، في أموالكم بالنقص والإنفاق والبذل في جميع وجوه البر، وفي أنفسكم : بالجهاد، وبالقتل في سبيل الله، والأمراض والآلام. وسوف تسمعون من اليهود والنصارى والمشركين كثيرا مما يؤذيكم من السب والطعن، فإن قابلتم ذلك كله بالصبر والتقوى، كان ذلك من صواب الرأي وحسن التصرف، وهو ما يجب العزم على التمسّك به.
فنبذوه : فرموه.
واشتروا به ثمنا قليلا : وأخذوا بدله شيئاً قليلا من مطامع الدنيا.
بعد أن بين الله تعالى شُبهة اليهود ومطامعهم في نبوة سيدنا محمد، جاء هنا يفضح موقف أهل الكتاب جميعاً في مخالفتهم عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب. وقد تضمّن سياق السورة الكثير من أباطيل أهل الكتاب وأقاويلهم، وبخاصة اليهود. ومن أبرزِها كتمانهم للحق الذي يعلمونه حق العلم، بغية إحداث البلبلة والاضطراب في الدين الإسلامي، وإنكاراً لوحدة المبادئ بينه وبين الأديان التي قبله. هذا مع أن التوراة بين أيديهم، ومنها يعلمون أن ما جاء به محمد هو الحق من عند الله. إذنْ، لماذا يكتمون الحق ولا يبالون به ؟ طمعاً في حطام تافه من عرض الدنيا !
هنا يكشف الله ألاعيبهم، ثم يخاطب رسوله والمؤمنين : اذكروا حين أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب بلسان أنبيائهم أن يوضحوا معانيه ولا يحرّفوه عن مواضعه، أو يخفوا شيئا من آياته عن الناس.. لكنهم ألقوه وراء ظهورهم واستبدلوا به حطام الدنيا ليتمتعوا بلذاتها الفانية، ﴿ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾.
وينطبق هذا على المسلمين اليوم، فهم قد اتبعوا أهواءهم وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم. من ثم أصبحوا حيارى، لا يدرون ماذا يعملون، فيما تتخطفهم الأمم من كل جانب.
قال الزمخشري رحمه الله : كفى بهذه الآية دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبيّنوا الحق للناس وما علِموه، وأن لا يكتموا منه شيئا. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما أخذ الله على أَهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا.
وها نحن نرى كلتا الطائفتين مقصرة أشد التقصير. وعذاب الجهّال منصبٌّ على رؤوس العالمِين. وقد ألهى هؤلاء الطمعُ في المال والجاه.
ولا منافاة بين الروايتين، لأن الآية عامة في جميع ما ذُكر. وهي وإن كانت في اليهود والمنافقين ففيها ترهيب للمؤمنين، وتنسحب على كل ما يجب أن يُحمد بما لم يفعل. وقد جاء عن النبي في الصحيحين :
«من ادّعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة ».
ومعنى الآية : لا تظننّ أيها النبي، أن الذين يفرحون دائما بما يأتون من أفعال قبيحة، ويحبون الثناء بما لم يفعلوه، سيكونون في نجوة من العذاب، فقد أعدّ الله لهم عذاباً عظيما يوم القيامة لا مفر منه.
قراءات
قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لا يحسبن الذين يفرحون... » بفتح الياء وضم الباء.
اختلاف الليل والنهار : تعاقبهما.
الألباب : العقول.
وعلى جنوبهم : مضطجعين.
الأبرار : المحسنون، واحدُها بار أو بَر.
على رسُلك : على أَلسنة رسلك.
من أسلوب القرآن الكريم أنه يجذب النفوس والعقول من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فيأتي بين الآيات وفي أواخر السور بآيات مشوّقة تريح الأعصاب وتشوق القلوب.
فقد اشتملت هذه الآية الحكيمة على أمر هو :
لما طال الكلام في تقرير الأخذ والرد والجواب عن شبهات المبطلين، عاد التنزيل إلى إثارة القلوب بِذِكر ما يدل على التوحيد والألوهية. فقال : إن هذا الكون بذاته كتابٌ مفتوح، يحمل دلائل الإيمان وآياته، ويشير إلى أن وراء هذا الكون يداً تدبره بحكمة، ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا حياةً أخرى، وحساباً وجزاء.
هذا ما اتفقت على وجوده الأديان الكتابيّة، وان اختلفت في تمثيل الحياة الأخرى.
وقد آمن الفلاسفة بالحياة الأخرى قبل الأديان الكتابية جميعاً وبعد مجيئها أيضا. فمن أشهر المؤمنين بها قبل الأديان «أفلاطون »، ومن أشهرهم بعدها «عمانويل كانت »، وهما يجمعان أطراف الآراء الفلسفية في سبب الإيمان ببقاء النفس بعد الموت.... ونريد من الإشارة الموجزة إلى رأي هذين الفيلسوفين، أن يذكر الناظرون في مسألة الحياة بعد الموت أنها مسألة بحث وتفكير، لا قضية اعتقاد وإيمان فحسب.. إن العقل لا يخرجها من تناول بحثه، فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال. وعلى هذا، ينبغي أن يروض فكره كلُّ من ينظر إلى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم. وإنما يدرك هذه الدلائل، ويرى هذه الحكمة «أُولو الألباب » من الناس، لا الذين يمرون بهذا الكتاب المفتوح وأعينهم مغمضة، وعقولهم مغلقة غير واعين.
وها هو التفسير باقتضاب :
إن في خلق الله للسماوات و الأرض، بما فيهما من إبداع، وإحكام نظام، وبديع تقدير، وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق نحسّ آثاره في أجسامنا بفعل حرارة الشمس وبرد الليل، لدلائل بيناتٍ لأصحاب العقول المدركة على وحدانية الله، وكمال قدرته.
وفي هذه الآية إشارة إلى حقائق مذهلة في هذا الكون العجيب، ذلك أن السماء ما هي إلا آية من آيات الله تبدو لنا بتأثير الأشعة الشمسية على الغلاف الجوي المحيط بالأرض.
فعندما تسقط هذه الأشعة على ذريرات العناصر الكيماوية التي يتألف منها الجو، وما يحمله من دقائق عالقة به، تنعكس هذه الأشعة وتتشتت، فنرى نحن الضوء الأبيض الذي يتألف من جميع الألوان المرئية.
وصفوة القول، أن ضوء النهار يتطلب الإشعاع الشمسي، وكميةً متناسية من الغبار الجوي. فقد حدث في سنة ١٩٤٤ أن أظلمت السماء فجأة في وضح النهار، ولشدة ظلمتها صار النهار كأنه الليل. وقد ظل الأمر كذلك زمناً وجيزاً، ثم تحولت السماء إلى لون أحمر، تدرّج إلى لون برتقالي، فأصفر، حتى عادت إلى حالتها الطبيعية، بعد نحو ساعة أو أكثر.
وقد تبين فيما بعد أن هذه الظاهرة نشأت من تفتُّت نيزك في السماء، استحال إلى رماد، وحملته الرياح إلى مسافات بعيدة من أواسط إفريقية إلى شمالها، ثم إلى غربي آسيا، حيث شوهدت هذه الظاهرة في سورية. وتفسير ذلك أن الغبار المعلق في الفضاء قد حجب نور الشمس، فلما قلّت كثافته أخذ الضوءُ في الاحمرار والاصفرار إلى أن عاد طبيعيا.
أما ما نراه في هذه السماء من نجوم وأجرام سماوية ومجرّات وكائنات، فهي أمور كُتب فيها مجلدات وموسوعات يتطلب التعرف على أنظمتها دراسة واسعة وتخصصا كبيرا، وهي مظهر من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى التي تتجلى في خلقه كلَّ ذلك.
والأرض أهم عالم عرفناه، وفيها أحوال لا تُوجد مثلها في شيء من هذا الكون الواسع. هي على ضخامتها في نظرنا لا تساوي في الحقيقة ذرة في هذا الكون العجيب. ولو أن حجمها كان أقل أو أكثر مما هي عليه الآن، لاستحالت الحياة فوقها. وهي تدور بسرعة مقدراها ألف ميل في الساعة، وفيها جاذبية غير عادية، وهي تشد كل شيء إليها بفعل تلك الجاذبية.
وتُكمل الأرض دورة واحدة حول محورها كل أربع وعشرين ساعة، ولو فرضنا أن انخفضت هذه السرعة إلى مائتي ميل في الساعة، لطالت أوقات لَيلِنا ونهارنا عشرات المرات، عما هي عليه الآن. ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس كل شيء فوق الأرض، فإن بقي بعد ذلك شيء قضت عليه البرودة الشديدة في الليل.
ثم إن هذه الأرض دائرة في الفضاء حول الشمس، وعلى زاوية محددة، الأمر الذي تنشأ عنه فصول السنة، وصلاحية البقاع للزراعة والسكن، فلو لم تَسِر الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طوال السنة، ولسار بخار البحار شمالاً وجنوبا، ولما بقي على الأرض غير جبال الثلج وفيافي الصحراوات.. إذ ذاك تغدو الحياة على هذه الأرض مستحيلة تماماً.
ولو كانت قشرة الأرض أكثر سُمكاً مما هي الآن بمقدار عشرة أقدام لما وجد الأوكسجين، لأن القشرة الأرضية ستمتص الأوكسجين في تلك الحال. وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية.
وكذلك لو كانت البحار أعمق مما هي الآن بضعة أقدام، لانجذبَ إليها غاز ثاني أوكسيد الكربون، والأوكسجين، ولاستحال وجود النباتات عند ذلك.
ويحيط بالأرض غلاف جوي خليط من الغازات التي تحتفظ بخصائصها، وأقربُ طبقات الأرض إلى سطحها تسمى تروبوسفير، وهي تمتد إلى ارتفاع ثمانية كليو مترات عند القطبين والى ١١ كم في خطوط العرض الوسطى، و١٢ كم عند خط الاستواء. وفي هذه الطبقة يحدث خلط مستمر للهواء نتيجة للتيارات الصاعدة والهابطة.... ويتركب الغلاف الجوي من الأزوت والأوكسجين، والأرغون، وثاني أوكسيد الكربون، وكميات ضئيلة من غازات النيون والكريتون والهيليوم والأيدروجين والكسينون والأوزون، بالإضافة إلى كميات متغيرة من بخار الماء والغبار. ولكل هذه المواد نسب معينة محددة لا تزيد ولا تنقص.
ولو كان الغلاف الجوي للأرض ألطف مما عليه الآن، لاخترقت النيازك الغلاف الخارجي منه كل يوم، ولرأينا هذه النيازك مضيئة في الليل، ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها. فولا أن غلاف الأرض الهوائي يقينا من هذه الشهب لأحرقتنا. ذلك أن سرعتها أكبر من سرعة طلقة البندقية بتسعين مرة، كما أن حرارتها الشديدة كافية لإهلاك كل ما على سطح الأرض.
والآن. ألا يدل هذا التوازن الدقيق العجيب جداً على قدرة الخالق وبديع صنعه ! الحق أنه لم يكن صدفة، ولا وُجد عفوا كما يقول المبطلون الجاهلون.
لكن، من يدرك ذلك ؟ إنهم أولوا الألباب،
وهو فهم الذين ينظرون إليه ثم يستحضرون في نفوسهم عظمة الله وجلاله. ومن ثم تجدهم لا يغفلون عنه تعالى في جميع أحوالهم : قائمين، وقاعدين، وعلى جنوبهم. وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض، وما فيها من عجائب ثم يقولون : ربنا ما خلقتَ كل هذا الكون العجيب عبثا، بل وِفق حكمة قدّرتَها، إنك أنت العزيز الحكيم.
وفي هذا تعليم للمؤمنين كيف يخاطبون ربهم عندما يهتدون إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه في بدائع خلقه، فوفّقنا يا ربُّ بعنايتك إلى العمل الصالح حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار.
ولقد استجاب لهم ربهم طلبهم بعد تلك المناجاة اللطيفة، والدعاء الخالص، فطمأنهم إلى أنه لا يُضيع ثواب عامل، ذكراً كان أم أنثى، فكلّهم سواء في الإنسانية.
وفي هذه الآية نصٌّ على أن الذكر والأنثى متساويان عند الله ولا تفاضل بينهما إلا بالأعمال.
بعد ذلك ينتقل البحث إلى المهاجرين من مكّة، فالذين هاجروا يريدون وجه الله، أو أُخرجوا من ديارهم ونالهم الأذى في سبيل الله، وقاتلوا وتعرضوا للقتل، قد كتب الله على نفسه أن سيمحو عنهم سيئاتهم، ويُدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. والله وحده عنده الثواب الجميل.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا »، وقرأ ابن كثير وابن عامر «وقتلوا » بتشديد التاء.
تقلب الذين كفروا : تصرُّفهم في التجارة والمكاسب.
بعد تلك المناجاة الروحية وما فيها من ابتهالات ودعوات، وما تلاها من تبشير من الله تعالى للمؤمنين بالثواب العظيم، جاء التبصير للمؤمنين. وكانوا في غاية الفقر، لا سيما المهاجرون، فيما كان مشركو قريش في رخاء وعيش لين. لذا ذكر الله تعالى هنا ما يسلّي المسلمين ويصبّرهم على تلك الشدة.
فبيَّن هنا أن رخاء المشركين متاع زائل، فلا ينبغي للعاقل أن يوازنه بالنعيم الخالد المقيم. فقال تعالى : لا يغرَّنك يا محمد، أنت والمؤمنين، ما ترى الذين كفروا يتقلّبون فيه من النعيم،
المهاد : المكان الممهد.
ذلك كلّه متاع قليل زائل ثم ينتهون إلى جهنم.
الأبرار : جمع بارّ وبَرٍّ : كل متصف بالخير ومتوسع فيه.
وبعد أن بين حال الكافرين ومآل أمرهم، شرح عاقبة المؤمنين فقال : أما الذين آمنوا بالله ورسوله واتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيّات، فإن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، مخلَّدين فيها، في نعيم من كرم الله وضيافته. ولا شك أن ما عند الله من الكرامة أفضل على التحقيق مما يتقلب فيه الذين كفروا من المتاع القليل.
يا أيها المؤمنون، اصبروا على شدائد الدنيا وآلامها، وألجِموا شهوات النفس وأطماعها، واصبروا على انحراف الناس ونقصهم وسوء أعمالهم، فالصبر شيء عظيم. ولقد حث الله تعالى عليه في نيِّفٍ ومائة آية من القرآن الكريم، وما ذلك إلا لعلو منزلته، وكونه من أكبر علائم النجاح في الدارين.
أما ﴿ وَصَابِرُواْ ﴾ فتعني : تحمَّلوا المكاره التي تلحقكم من سواكم، وصابِروا الأعداء دون أن ينفذ صبركم على طول المجاهدة، وسيكون لكم النصر بإذن الله.
﴿ وَرَابِطُواْ ﴾ في سبيل الله، وأصلُ المرابطة : الإقامة في الثغور على حدود الأعداء ومواقع الجهاد، أما الآن فقد بات معناها الجهاد في جميع ألوانه والاستعدادُ له بكل ما ولّده هذا العصر من وسائل الدفاع والأسلحة الحديثة.
ما ترك الجهادَ قومٌ إلا وَقَرَنهم الله بالذل، فلننظر إلى ما نحن عليه الآن من فرقة ونزاع واختلاف بين زعمائنا وحكامنا، وما يصدر من بعضهم من تبجح وتصريحات، فهل نحن في مستوى قضيتنا ؟ ؟
﴿ واتقوا الله ﴾ والتقوى تصاحب ما سبق، فهي الحارس اليقظ في الضمير تحرسه من أن يغفل، أو يضعف، أو يحيد عن الطريق القويم. فالصبر والمصابرة والجهاد بدون تقوى الله لا قيمة لها ولا فائدة منها.
﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ في الدنيا والآخرة، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لنكون من هؤلاء، فنفوز مع الفائزين برضاه في الدارين، وصدق الله العظيم.