ﰡ
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
المفردات:
الم في معناها ما قيل في أول سورة البقرة، وتقرأ: ألف. لام. ميم كما تقول: واحد. اثنان:
الْكِتابَ: القرآن. التَّوْراةَ: كلمة عبرانية معناها الشريعة، وتطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر الأخبار، سفر العدد، سفر التثنية. أما في عرف القرآن فهي: ما أنزل الله- تعالى- من الوحى على موسى- عليه السلام- ليبلغه قومه وفيها البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
الْإِنْجِيلَ: لفظ يوناني، ومعناه البشارة، ويطلق عند النصارى على أربعة كتب تعرف بالأناجيل، وعلى ما يسمونه العهد الجديد، والإنجيل الأربعة: كتب وجيزة في سيرة المسيح وشيء من تاريخه وتعليمه وليس لها سند متصل عند أهلها بل هم مختلفون في تاريخ كتابتها كثيرا، وأما الإنجيل في عرف القرآن: فهو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى ابن مريم وفيه البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
نزلت هذه الآيات في وقد نصارى نجران، كانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم وعلى رأسهم أميرهم ووزيرهم وحبرهم، ولما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعليهم الحبرات، تكلم منهم ثلاثة، فمرة قالوا: عيسى ابن مريم إله لأنه يحيى الموتى، وتارة هو ابن الله إذ لم يكن له أب، وتارة هو ثالث ثلاثة لقوله- تعالى- قلنا وفعلنا ولو كان واحدا لقال: قلت وفعلت، وحاجهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يدحض حجتهم ويزيل شبهتهم، ولكنهم عاندوا حتى طالبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمباهلة فامتنعوا، فأنزل الله من أول السورة إلى نيف وثمانين آية منها تقريرا لما احتج به النبي وبيانا لعنادهم وجحودهم.
المعنى:
بدأ الله السورة بإثبات التوحيد الذي هو أساس الدين ولرد اعتقادهم من أول الأمر، الله لا معبود بحق في الوجود إلا هو إذ ليس في الوجود صاحب سلطة حقيقية على النفوس يبعثها على تعظيمه والخضوع له قهرا منها معتقدة أن بيده منح الخير ورفع الضر إلا الله وحده دون سواه، الحي الدائم الحياة التي لا أول لها، القيوم على خلقه بالتدبير والتصريف قامت به السموات والأرض قبل خلق عيسى، فكيف تقوم قبل وجوده؟
إذا ليس إلها نزل عليك يا محمد القرآن بالحق لا شك فيه، ولا ريب أنه من عند الله أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيدا، مصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت وهو يصدقها لأنه جاء مطابقا لما أخبرت وبشرت.
وأنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل هداية للناس وإرشادا، فأنتم ترون أن الله أنزل الوحى وشرع الشرائع قبل وجود عيسى وبعده فلم يكن عيسى هو المنزل للكتب على الأنبياء، وإنما كان نبيّا مثلهم فكيف يكون إلها؟
وأنزل الله الفرقان ووهب العقل والوجدان ليفرق الإنسان بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهب العقول والأفهام.
إن الذين كفروا بآيات الله الواضحة التي تدل على كمال وصفه وسمو نعته بكل صفات الجمال والجلال والألوهية والربوبية لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب بما كانوا يظلمون ومنهم أنتم أيها المجادلون.
وكانوا يقولون عيسى إله لإخباره عن بعض المغيبات فيرد القرآن عليهم! إن الإله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وعيسى لم يكن كذلك.
وقالوا: عيسى ليس كغيره ولد من غير أب فهو إله... فرد الله عليهم: ليست الولادة من غير أب دليلا على الألوهية إذ المخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصوّر في الأرحام كيف يشاء وعيسى لم يصور أحدا بل صوّر هو في رحم أمه كما يصور جميع الخلق، أفيعقل أن يكون الذي صور في الرحم وخرج منه إلها.. ؟ لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الوالد والولد، العزيز الحكيم.
المحكم والمتشابه في القرآن [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧ الى ٩]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
مُحْكَماتٌ: ظاهرات الدلالة لا خلاف في معناها. مُتَشابِهاتٌ يقال:
اشتبه الأمر عليه: التبس، فالمتشابهات التي لم يظهر معناها ويتضح بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد، وقيل: ما استأثر الله بعلمه. زَيْغٌ: ميل عن الحق. تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ: معرفة حقيقية وبيان ما يؤول إليه في الواقع. الرَّاسِخُونَ: الثابتون في العلم المتأكدون منه.
المعنى:
كان النصارى يستدلون ببعض آيات القرآن التي يفيد ظاهرها تميّز عيسى على غيره من البشر كقوله في شأن عيسى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية ١٧١]، على أنه ثالث ثلاثة أو هو الإله أو ابنه... إلخ فيرد الله عليهم: إن القرآن الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم بعض آياته محكمات واضحات ظاهرات لا خلاف بين ظاهر اللفظ والمعنى المراد منها كقوله- تعالى- مثلا: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [سورة الإسراء آية ٢٣]. وكقوله في شأن عيسى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [سورة الزخرف الآية ٥٩] وكآيات الأحكام مثل: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام آية ١٥١]، وهكذا المحكم كل ما لا يحتمل من التأويل المعتد به إلا وجها واحدا.
وهنّ- أى: المحكمات- أمّ الكتاب وعماده ومعظمه وأصله الذي دعى الناس إليه ويمكنهم فهمه، وعنها يتفرع غيرها ويحمل عليها، وهي أكثر ما في القرآن. فإن اشتبه علينا من الآيات آية ردت إلى المحكم وحملت عليه، مثلا قوله تعالى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء ١٧١] ترد وتحمل على قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزخرف ٥٩] وقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران ٥٩] بمعنى أننا نؤمن بأن الكل من عند الله وأنه لا ينافي الأصل المحكم.
وأما الآيات المتشابهات كقوله- تعالى- في عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء ١٧١]. وكقوله: مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران ٥٥] في شأن عيسى.
وكقوله- تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه ٥] يَدُ اللَّهِ فَوْقَ
[الفتح ١٠] إلخ. فهذه آيات متشابهات تحتمل عدة معان، ويخالف ظاهر اللفظ فيها المعنى المراد فهي مما استأثر الله بعلمه.
فليس لكم أيها النصارى أن تحتجوا بأمثال هذه الآيات فإنها من المتشابه الذي يحتمل عدة معان والله أعلم بها، وكيف لا تدينون بقوله- تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[سورة النساء آية ١٧٢]. وتتمسكون بآيات استأثر الله بعلمها هو.
فأما الذين في قلوبهم زيغ وميل عن الحق إلى الباطل فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم ابتغاء فتنة الناس وإضلالهم، ولكن يؤولون القرآن تأويلا غير سائغ في العقل ولكنه موافق لأوهامهم وضلالهم.. وما يعلم تأويله وحقيقته إلا الله.
بعض القراء يقفون على (الله) والراسخون في العلم كلام مستأنف، وحجتهم في ذلك أنه وصفهم بالتسليم المطلق ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض.
على أن المتشابه ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة أو ما خالف ظاهر اللفظ فيه المراد منه، فهذا لا يعلم حقيقته إلا الله والراسخون في العلم كغيرهم وإنما خصوا بالذكر لأنهم يقفون عند ما يدركون بالحس والعقل، ولا يتطاولون إلى معرفة حقيقة المغيبات وإنما سبيلهم التسليم قائلين، آمنا به كل من عند ربنا.
وبعضهم لا يقف على لفظ الجلالة، والراسخون معطوف عليه على معنى لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم وذلك أن الله ذم الذين يبتغون التأويل لذهابهم إلى ما يخالف المحكم يبتغون الفتنة وإضلال الناس، والراسخون ليسوا كذلك فهم أهل اليقين الثابت يفيض الله عليهم فيفهمون المتشابه بما يتفق مع المحكم جاعلين المحكم أساسا ويؤمنون بأن الكل من عند الله، وهذا ابن عباس- رضى الله عنه-
يقول فيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» «١»
وإنما خص الراسخون في العلم بالذكر لئلا يقلدهم غيرهم في هذا الفهم.
بقي سؤال: لم نزل في القرآن المتشابه وقد نزل هاديا للناس جميعا والمتشابه يحول دون الهداية؟
ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة يوم لا شك فيه، فاغفر لنا ووفقنا واهدنا إنك لا تخلف الميعاد.
عاقبة الغرور بالمال والولد والأمثال على ذلك [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠ الى ١٣]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
وَقُودُ النَّارِ ما توقد به النار من حطب أو فحم. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ:
الدأب: مصدر دأب يدأب، أى: كدح، ثم استعمل فيما عليه الإنسان من شأنه وحاله. الْمِهادُ: الفراش الممهّد.
المناسبة:
بعد بيان الحق والصفات الواجبة لله وما نزله من الكتب خصوصا القرآن، وبيان فهم الناس لا سيما الراسخون من العلماء: شرع في بيان حال الكفرة بالقرآن المغرورين بالمال والولد.
والموصول في الآية يشمل وقد نجران واليهود أو كل كافر بالله.
المعنى:
يبين الله- سبحانه- حال الكفرة من النصارى واليهود والمشركين وسبب عنادهم وغرورهم الزائف في أموالهم وأولادهم: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سورة سبأ آية ٣٥] فيرد الله عليهم في غير موضع في القرآن.
إن الذين كفروا بآياتنا وكذبوا رسلنا واجترءوا على كلامنا لن تكون أموالهم ولا أولادهم بدلا لهم من الله ورسوله تغنيهم عنه، فإنهم إن تمادوا في غيهم وساروا في ضلالهم فأولئك البعيدون في درجات العتو والفساد هم وقود النار وأصحابها.
وذلك لأن حالهم كحال آل فرعون ومن قبله من المؤتفكات كقبائل عاد وثمود كان حالهم أنهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، والله سريع طلبه شديد عقابه، قوى عذابه.
سبب النزول:
روى عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس- رضى الله عنهم- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع وحذرهم أن
قل لهم يا محمد: ستغلبون أيها اليهود عن قريب في الدنيا ولا يغرنكم مالكم وأولادكم فالأمر ليس بكثرتهم وإنما هو بيد الله- سبحانه وتعالى- وقد تحقق هذا، بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم، وهذا من أوضح الشواهد على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم ورسالته.
وستحشرون في الآخرة إلى جهنم وبئس المهاد ما مهدتم لأنفسكم.
وتالله لقد كان لكم آية عظيمة دالة على صدق ما يقوله القرآن لكم: من أنكم ستغلبون آية في جماعتين التقتا كانت إحداهما معتزة بكثرتها مغرورة بمالها وعددها كافرة بالله وتقاتل في سبيل الشيطان.
والأخرى فئة قليلة العدد صابرة مؤمنة بالله تقاتل في سبيل الله.
وقد كان الأمر كذلك في موقعة بدر فقد كان المسلمون ثلاثمائة رجل تقريبا والكافرون حوالى الألف.
ومع هذا فقد رأى المؤمنون الكافرين مثلهم فقط لأن الله قللهم في أعينهم حتى يقاتل الرجل المسلم رجلين فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [سورة الأنفال آية ٦٦].
ويصح أن يكون المراد أن المؤمنين يرون أنفسهم مثلي ما هم عليه من العدد حتى يطمئنوا وتقوى روحهم، وجملة القول أن الآية ترشدنا إلى الاعتبار بمثل الواقعة المشار إليها فقد غلبت فئة قليلة فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين، ولذلك قال: إن في ذلك لعبرة لأصحاب الأبصار الصحيحة التي تنظر فتفكر فتعتبر.
الإنسان وشهواته في الدنيا [سورة آل عمران (٣) : آية ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ: حبب لهم. الشَّهَواتِ: جمع شهوة، وهي انفعال النفس بسبب الشعور بالحاجة إلى ما تستلذه. الْمُسَوَّمَةِ: المعلمة، وقيل: السائمة التي ترعى في المروج والمرعى. الْقَناطِيرِ: جمع قنطار، وهو المال الكثير.
المعنى:
أن وفد نصارى نجران وغيرهم من صناديد الكفر عرف في خلال كلامهم أنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، وما يمنعهم من إظهاره إلا خوفهم على ما عندهم من رئاسة كاذبة أو مال زائل، وذلك أنهم يحبون الدنيا حبا أعمى، فبين الله حب الإنسان للدنيا ومظاهرها ثم بين ما هو خير من ذلك كله.
وهذه الأصناف المذكورة قد زين الله حبها للناس وغرسه في قلوبهم حتى صار غريزة عندهم، ومن أحب شيئا ولم يزين له يوشك أن ينفر منه، ومن أحبه وزين له فلا يكاد يرجع عنه ولا يقبل فيه كلاما ولا يرى فيه عوجا... ولقد عبر القرآن عن هذه الأشياء بالشهوة مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها وإيذانا بشدة تعلق الناس بها، وللإشارة إلى أن حبها من طبيعة الإنسان الحيوانية، فإن الشهوة من صفات البهائم حتى يعتدل الإنسان في حبه لها.
إن الإسلام دين ودولة، وعمل واعتقاد، واعتدال وتوسط قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف ٣٢] فليس ديننا دين رهبنة وتقشف وزهد يفهم بعض الناس... فليس ممنوعا حب هذه الأصناف ولكن الممنوع المبالغة والإسراف فيها حتى تطغى على الناحية الدينية ومظاهرها.
والنساء والبنون زهرة الحياة ومتعة النفس ولكن إلى حد «الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة [إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب حفظته في نفسها وماله» ].
وأما البنون فهم فلذة أكبادنا وقرة أعيننا.
ولقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب».
والمال يكون مذموما إذا جعل صاحبه يطغى ويختال ويتكبر ويمنع حقوق الله والناس وأما إذا أعطى به الحقوق وقام بالواجبات الدينية والوطنية فنعم المال هو عدة وصلة وقربى إلى الله.
والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك كله متاع الحياة الدنيا وزينتها، وهذه الأصناف تذم إن كانت سببا في الشر والبعد عن الله وهذا هو المشاهد في الكثير الآن وعند ذلك تكون خطرا على صاحبها فإن كانت سببا في الخير ولم تمنع صاحبها من القيام بالواجب بل ساعدته كانت خيرا له.
ما هو خير من الدنيا وما فيها [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥ الى ١٧]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
المفردات:
مُطَهَّرَةٌ: طاهرات من دنس الفواحش والحيض والنفاس. الْقانِتِينَ:
المعنى:
قل لهم يا محمد:
أأخبركم بما هو خير مما سبق من زينة الدنيا ومتاعها؟ وفي التعبير (بخير) إشارة إلى أن ما مضى من النساء والبنين | إلخ فيه خير بلا شك بشرط أن يستعمل في حقه وألا يطغى حبه على غيره وعلى العمل لوجه الله. |
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ | الآية، أتم للبيان وأثبت للجنان. |
وقد جعل الله للمتقين نوعين من الجزاء: نوع مادى وهو الجنة، ونوع روحي وهو رضوان الله وهو أكبر وأعظم من كل نعمة وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [سورة التوبة آية ٧٢].
والتقوى أمر لا يعلمه إلا الخبير البصير بعباده، ولذا
يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «التقوى هاهنا»
(ويشير إلى صدره) ويختم الله الآية بقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.
ومن هم المتقون الله حقيقة؟؟ هم الذين يقولون: ربنا إننا آمنا بك وبرسلك وكتبك بقلوبنا إيمانا حقيقيا، ومن كان هكذا استحق المغفرة والوقاية من عذاب الله ولذا قالوا: فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ومن صفاتهم أنهم الصابرون الذين حبسوا أنفسهم عن كل مكروه ومحرم وصبروا على تقوى الله وعلى قضاء الله، ولا شك أن الصبر هو الذي يثبّت النفس عند زوابع الشهوات ولذا قرن التواصي بالصبر مع
والقنوت: المداومة على الخشوع والضراعة، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله نفقة واجبة ومندوبة، وهم المستغفرون بالأسحار، وخص وقت السحر لأن العمل فيه شاق والنفس فيه صافية والدعاء مستجاب، وأفضل صيغة للاستغفار ما
رواه البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علىّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» «٢».
الشهادة بالوحدانية والعدل وأن الدين الإسلام [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
(٢) أخرجه البخاري ١١/ ٨٢، ٨٣ في الدعوات باب أفضل الاستغفار.
شَهِدَ اللَّهُ الشهادة: عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم والإظهار والبيان.
الدِّينَ المراد به الملة والشرع. بَغْياً: حسدا أو ظلما.
المعنى:
أخبر الله- تعالى- ملائكته ورسله بأنه الواحد الأحد لا إله إلا هو، أخبرهم على علم وبين ذلك لهم أتم بيان، والملائكة أخبروا الرسل بتوحيد الله وبينوه لهم، وأولو العلم أخبروا بذلك وبينوه عالمين به ولا يزالون كذلك... شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم شهد هذه الشهادة قائما بالعدل في الدين والشريعة والكون والطبيعة وفي العبادات والآداب والمعاملات، فالله قد أتقن نظام الكون وأحكمه وعدل بين القوى الروحيّة والمادية، وكانت الأحكام الشرعية مبنية على أساس التوازن الصحيح بين الفرد والأمة وبين الفرد والخالق وبينه وبين نفسه وبينه وبين أخيه وبين الغنى والفقير وهكذا... إن الدين الذي ارتضاه الله وأحبه لعباده من يوم أن خلق الخلق إلى يوم الدين هو الإسلام، ولا شك أن جميع الأنبياء والمرسلين لا يختلفون في جوهر الدين وهو الإسلام والتوحيد والعدل في كل شيء وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران ٨٥] وما اختلف الذين أوتوه من أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم اليقيني بأن محمدا هو خاتم الأنبياء وهو المبشر به عندهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [سورة البقرة آية ١٤٦].
اختلفوا في شأنه حسدا من عند أنفسهم وبغيا بينهم وحرصا على الدنيا وما فيها.
ومن يكفر بآيات الله الدالة على صدق الأنبياء بعد هذا فإن الله سريع الحساب وشديد العقاب.
فإن حاجوك بعد هذا وجادلوك بعد أن جئتهم بالحق البين فقل لهم: إنى ومن معى من المؤمنين قد أسلمت وجهى لله وانقدت له وأقبلت عليه بعبادتي مخلصا لله وحده معرضا عما سواه، فإن كنتم مسلمين لله مخلصين له فما يمنعكم من اتباعى؟
قل لهم: أأسلمتم؟؟ فإن أسلموا لك فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم، وإن تولوا وأعرضوا فقل لهم: إنما علىّ البلاغ فقط، والله- سبحانه- البصير بخلقه العليم بحالهم فيحاسبهم ويجازيهم.
جزاء قتل الأنبياء ومن يأمر بالمعروف [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
المفردات:
فَبَشِّرْهُمْ: من البشارة والبشرى، وهي: الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه، وإطلاق هذا على الخبر الذي سيلقى للكفار من باب التهكم لأن وجوههم ستنقبض له.
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ: بطلت.
المعنى:
إن الذين يكفرون بآيات الله بعد معرفتها ويقتلون النبيين لأنهم قالوا: ربنا الله، يقتلونهم معتقدين أن قتلهم بغير حق ولا ذنب اللهم إلا قول الحق وتبليغ الرسالة، وهؤلاء هم اليهود، نسب إلى اليهود فعل آبائهم لأنهم راضون عنه، على أنهم هموا بقتل
وقتل هؤلاء جريمة كبرى وخسارة عظمى لأممهم، أما من قتل واستشهد في سبيل الله فقد وقع أجره على الله، وفي هذا العصر يسجل التاريخ أن هناك من قتل في سبيل الدعوة إلى الله والوطن وقتلهم جريمة في (حق الوطن) والدين وتسجيل على هؤلاء السفاكين القتلة جرمهم وذنبهم، وهؤلاء القتلة بشرهم بعذاب أليم وقعه شديد خطره، أولئك البعيدون في الضلال بطلت أعمالهم دنيا وأخرى وما لهم في الآخرة من ناصرين يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ «١».
الإعراض عن حكم الله مع الغرور [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
المفردات:
نَصِيباً: جزءا من التوراة. كِتابِ اللَّهِ قيل: هو التوراة، أو القرآن يَفْتَرُونَ: يختلقون ويكذبون.
روى أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أى دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم- عليه السلام- قالوا: إن إبراهيم كان يهوديا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها، فأبوا،
وقيل: نزلت في حكم الزنى، وقد اختلفوا لما زنى بعض أشرافهم واحتكموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فحكّم التوراة فأبوا، وقيل اختلف أحبارهم لما أسلم البعض وظل البعض على دينه واحتكموا إلى التوراة ثم أعرض من لم يسلم منهم، والوقائع تؤيد ذلك كله.
المعنى:
انظر يا محمد واعجب من هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من التوراة والباقي قد حرف وغيّر وضاع، وقد بقي الجزء الذي فيه بشارة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتعجب من عدم إيمانهم بك مع وضوح الدلالة وإعراضهم عن الكتاب الذي يؤمنون به، أو يعرضون عن القرآن، فهم إذا اختلفوا وحكموا التوراة في الخلاف وعلموا أن الحكم فيها على خلاف أهوائهم أعرضوا وتولوا بعد تردد.
وفي التعبير ب ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ إشارة إلى أنهم كانوا يترددون في قبول الحكم ثم يعرضون، وإلى بعد ما بين دعوتهم إلى كتاب الله وإعراضهم عنه وقوله تعالى: وَهُمْ مُعْرِضُونَ إشارة إلى دوام إعراضهم، وأنه ديدن لهم وطبيعة فيهم، وفي قوله: فَرِيقٌ مِنْهُمْ إشارة إلى أن منهم أمة يهدون بالحق وبه يهتدون كعبد الله بن سلام وغيره، وما شجعهم على هذا العناد والجحود إلا اعتقادهم الباطل أنهم لا تصيبهم النار إلا أياما قليلة، فاليهودى يعتقد أنه مهما فعل لا يدخل النار إلا أياما وبعدها يدخل الجنة، وغرهم ما كانوا يختلقونه في الدين كقولهم: إن الأنبياء ستشفع لنا ونحن أولاد الأنبياء وشعب الله المختار، ولقد رد الله عليهم فريتهم في غير موضع من القرآن.
فكيف بهم وعلى أى شكل يكونون إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه؟ يوم تنقطع فيه الأنساب ولا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم توضع فيه الموازين القسط فلا تظلم نفس شيئا وتوفى كل نفس ما كسبت من خير أو شر وهم لا يظلمون.
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
المفردات:
اللَّهُمَّ: يا الله. الْمُلْكِ: السلطة والتصرف في الأمور المادية والروحية.
تَنْزِعُ: تقلع وتخلع. تُولِجُ: تدخل.
كان المشركون ينكرون النبوة لشخص يأكل الطعام ويمشى في الأسواق، وأهل الكتاب ينكرون النبوة في غير بنى إسرائيل.
والقرآن ملئ بما يسلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويذكره بأن الأمر كله بيد الله ما شاء فعله.
سبب النزول:
وفي رواية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشر قومه بملك كسرى والروم وقصور صنعاء، فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يمنيكم ويعدكم الباطل. فنزلت الآية.
المعنى:
إذا تولوا عنك وأعرضوا فعليك أن تلجأ إلى الله مالك الملك وصاحب الأمر.
ولا عليك بأس في عناد وفد نجران، بل توجه إلى الله وقل:
يا الله يا مالك الملك، أنت المعطى والمانع، ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن، تؤتى الملك والنبوة من تشاء من عبادك، وأممك اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية ١٢٤] وتنزع
والله يعطى من يشاء من عباده الملك إما مع النبوة كما حصل لآل إبراهيم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ والنبوة وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [سورة النساء آية ٥٤] او ملكا فقط كما هو عند الملوك المعاصرين، وتنزع الملك ممن تشاء من الأفراد والأمم بسبب ظلمهم وفساد حكمهم وسوء سياستهم كما نزعت الملك والنبوة من بني إسرائيل لما خرجوا على الدين وأساءوا الحكم واستعملوا الرشوة والظلم سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. [سورة الأحزاب آية ٦٢].
وتعز من تشاء وتذل من تشاء، والعزة والذلة لا تتوقفان على الملك أو المال فكم من ملك ذليل، وفقير عزيز الجانب مهاب الطلعة.
بيدك وحدك الخير، فكل ما كان أو يكون لا يخلو من خير ونعمة لصاحبه أو للمجموعة، إنك يا رب على ما تشاء قدير.
ومن مظاهر القدرة وتمام الملك والعظمة أن الله يدخل الليل في النهار فيزيد، ويدخل النهار في الليل فيزيد، بيده الأمر والكون في قبضته والسموات والأرض مطويات بيمينه.
ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وهل المراد الحياة والموت المعنويان؟
وعلى ذلك فالمثال يخرج العالم من الجاهل والجاهل من العالم والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وإن أردنا حياة مادية فمثالها إخراج البيضة من الفرخة والفرخة من البيضة وإن قال الأطباء: إن في النطفة والبيضة حياة أجيب عن ذلك بأنها حياة بالعرف الخاص وأما العرف العام السائد فيفهم أن البيضة ليس فيها حياة.
ولعل المثال الذي يتفق عليه الكل خروج النبات من الحبة اليابسة والعكس، وما المانع أن يقال: إن الحيوان يخرج من الغذاء بمعنى أنه يتكون منه، ولا شك أنه ليس فيه حياة، وإذا كان هذا شأن المولى- جل شأنه- فلا مانع أن يخرج من العرب الجاهلين محمدا صلّى الله عليه وسلّم ويخرج من الأنبياء الإسرائيليين هؤلاء المفسدين.
ويرزق الله من يشاء بغير حساب يطلب منه ولا رقيب، وبغير تعب ولا مشقة فله خزائن السموات والأرض- سبحانه وتعالى-
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
المفردات:
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا: إلا أن تخافوا. تُقاةً اتقاء، أو شيئا يجب اتقاؤه.
مُحْضَراً أى: حاضرا. أَمَداً الأمد: المسافة، وقيل: مدة من الزمان قد تنحصر إذا قلت: أمد كذا.
سبب النزول:
روى أن بعض المؤمنين كانوا يغترون بقوة الكفار ويعتزون بهم، وقد وقعت حوادث لبعض المؤمنين كانوا يوالون فيها اليهود أو المشركين لقرابات وصلات.
فبعد ما أثبت القرآن أن الأمر بيد الله وأنه المعطى والمانع، وأنه على كل شيء قدير.
فيجب الالتجاء إليه وحده، وإذا كانت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فمن الخطأ الالتجاء إلى غير أوليائه.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء تلقون إليهم بالمودة وتسرون إليهم بأسراركم مؤثرين مصلحة الكفار على مصلحة المؤمنين، وإن كان في ذلك مصلحة جزئية فمصلحة المسلمين العامة أولى وأحق لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ [المجادلة ٢٢] ومن يفعل ذلك ويوالى الكافرين من دون المؤمنين فيعمل ضد مصلحتهم من حيث كونهم مؤمنين، أى: يكون جاسوسا مخلصا للكفار، فليس من ولاية الله في شيء، أى: يكون بينه وبين الله غاية البعد مطرودا من رحمته، ومن يتولهم منكم فإنه منهم.
إذن موالاة الكافرين أمر ينفر منه الشرع ولا يقره الدين في حال من الأحوال إلا في حال أن تخافوا منهم أمرا يجب اتقاؤه كالقتل مثلا، وهذا إذا كنت في دارهم فدارهم باللسان فقط إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [سورة النحل آية ١٠٦].
ويحذركم الله عقابه، وفي ذكر (نفسه) إشارة إلى أن الوعيد صادر من ذاته ونفسه وهو القادر على كل شيء وإلى الله المصير والمرجع.
قل لهم يا محمد: إن تخفوا ما في صدوركم وتكتموه أو تبدوه وتظهروه فالله يعلمه ويجازى عليه وهو يعلم ما في السموات لأنه يعلم بذات الصدور ومنها الميل إلى الكفار أو البعد عنهم، والله على كل شيء قدير.
واحذروا يوم تجد كل نفس ما عملت في الدنيا من خير مهما قل أو كثر وما عملت من شر مهما صغر أو كبر حاضرا أمامها تأخذ جزاءه وفائدته أو يحلق بها ضرره وخطره فإن كان العمل خيرا سرت له وتلقته باليمين، وإن كان شرا ودت لو يكون بينها وبين عملها بعد ما بين المشرقين، ولكن أين لها هذا؟
يؤخذ من الآية الشريفة وما لا لابسها من أسباب النزول:
١- أن الله حرم إفشاء الأسرار للكفار التي تضر الجماعة الإسلامية من حيث هي جماعة (الجاسوسية).
٢- معاملة الكفار غير الحربيين لا مانع أن تكون حسنة ما داموا لم يظاهروا علينا أحدا أو يضرونا بضرر.
٣- الكفار الذين آذونا أو ظاهروا على إخراجنا أو إخراج المسلمين من بلادهم كفلسطين مثلا فلا تحل موالاتهم بل تجب معاداتهم إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
والذى ينطبق عليهم هذا هم اليهود والإنجليز والفرنسيون والأمريكان وكل من يقف في سبيل استقلالنا.
محبة الله باتباع رسوله وطاعته [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
نزلت هذه الآية خطابا لوفد نجران فإنهم كانوا يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، والخطاب فيها عام، وقيل: نزلت ردا على جماعة ادعوا أمام الرسول- عليه السلام- أنهم يحبون ربهم.
قل لهم يا محمد: إن كنتم تحبون الله حقيقة فاتبعوني فإن ما جئت به من عنده مبين لصفاته وأوامره ونواهيه، والمحب الصادق حريص على معرفة المحبوب ومعرفة أمره ونهيه ليتقرب إليه بامتثال أمره واجتناب نهيه، فإن اتبعتمونى يحببكم الله ويوفقكم ويهديكم إلى سواء السبيل ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. قل لهم، أطيعوا الله باتباع كلامه، والرسول باتباع سنته والاهتداء بهديه واقتفاء أثره، فإن تولوا وأعرضوا ولم يجيبوك لدعوتك غرورا منهم بدعواهم محبون لله وأنهم أبناؤه فاعلم أن الله لا يحب الكافرين الذين لا ينظرون في آيات الله ويهتدون إلى الدين الحنيف.
اصطفاء الأنبياء وسلالتهم [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٧]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
اصْطَفى: اختار. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ الذرية: تطلق على الأولاد، والمراد ذرية شبه بعضها بعضا. مُحَرَّراً: معتقا خالصا للعبادة وخدمة المسجد.
أُعِيذُها العوذ: الالتجاء إلى الغير، ومعنى الاستعاذة بالله: الالتجاء إليه، وتكون بالدعاء والرجاء.
المناسبة:
لما بين الله أن محبته متوقفة على اتباع الرسول وأن طاعة الله مقرونة بطاعة الرسول، ناسب أن يبين الرسل ومن اصطفاهم من الخلق.
المعنى:
إن الله اختار آدم أبا البشر: خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له وأسكنه الجنة وهبط منها لحكمة، الله يعلمها، واصطفى نوحا وجعله أول رسول بعث إلى الناس لما عبدوا الأوثان. وانتقم له بإغراقهم ونجاته هو ومن اتبعه، واصطفى آل إبراهيم ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء، واصطفى من ذرية إبراهيم آل عمران، وعمران هذا هو أبو مريم وجد عيسى- عليه السلام-.
فالله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة الخلق وخيارهم وجعل النبوة والرسالة فيهم.
ذرية بعضها يشبه بعضا في الفضل والمزية فهم خيار من خيار من خيار.
واذكر وقت أن قالت امرأة عمران- قيل: كان اسمها حنة وكانت عاقرا لا تلد- رب إنى نذرت لك ما في بطني خالصا لوجهك ولعبادتك لا يشتغل بشيء آخر سوى خدمة بيتك، ودعت الله أن يتقبل منها هذا النذر، إنك يا رب أنت السميع لكل قول ودعاء العليم بنية صاحبه، وقد كان الله سميعا لقول امرأة عمران عليما بنيتها. ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكر أم أنثى، فلما وضعتها قالت متحسرة حزينة: إنى وضعتها أنثى وذلك أنه ما كان يؤخذ لخدمة البيت إلا الذكور لأن الأنثى تحيض وتلد فلا تصلح
قالت امرأة عمران: إنى سميتها مريم خادمة الرب آمل أن تكون بأمرك من العابدات وإنى أستعيذ بالله وأدعوه أن يقيها هي وذريتها (عيسى) من الشيطان وسلطانه عليهما فاستجاب الله دعاءها،
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من مسه إلا مريم وابنها» «١»
والمعنى في الحديث أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يؤثر فيه إلا مريم وابنها، فالحديث من باب التمثيل لا الحقيقة، وهذا لا يمنع أن إبليس كان يوسوس لعيسى- عليه السلام- كما ثبت في إنجيل مرقص، ومع هذا ما كان يطيعه، فقبل الله مريم من أمها بأبلغ قبول حسن، ورضى أن تكون محررة خالصة للعبادة وخدمة البيت ورباها تربية عالية تشمل الجسد والروح وكفاها فخرا بهذا.
وجعل زكريا (وكان رجلا معروفا بالخلق والتقوى وكان زوج خالتها) كافلا لها وراعيا حتى شبت وترعرعت وكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها خيرا كثيرا وفضلا من الرزق فيقول لها: يا مريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله رازق الناس بتسخير بعضهم لبعض، إن الله يرزق من يشاء من عباده بغير حساب.
العبرة من القصة:
المشركون وأهل الكتاب كانوا ينكرون على النبي صلّى الله عليه وسلّم نبوته لأنه بشر مثلهم وليس من بنى إسرائيل فيرد الله عليهم: إن الله اصطفى آدم أبا البشر ونوحا الأب الثاني واصطفى من ذريتهما آل إبراهيم ومن آل ابراهيم آل عمران.
والمشركون يعترفون باصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم لأنهم من سلالته، وبنو إسرائيل يعترفون بهذا، واصطفاء آل عمران لأنهم من سلالة بنى إسرائيل حفيد إبراهيم، وإذا كان الله اصطفى هؤلاء على غيرهم من غير مزية سبقت فما المانع له من اصطفاء محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى بنى إسرائيل على غيرهم.
قصة زكريا ويحيى [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
المفردات:
سَيِّداً السيد: الذي يسود قومه ويفضلهم في الشرف والعلم والخلق.
وَحَصُوراً الحصر: المنع، والمراد: منوعا نفسه من ارتكاب ما يعاب عليه.
آيَةً: علامة. رَمْزاً: إشارة. بِالْعَشِيِّ: الوقت من الزوال إلى الليل.
وَالْإِبْكارِ: من طلوع الشمس إلى الضحى.
عند ما رأى زكريا حال مريم وما هي عليه من التوفيق والهداية، وما يتفضل الله به عليها من الخير والكرم.
هنالك دعا زكريا ربه وتوجه إليه أن يرزقه ولدا صالحا طيبا طاهرا من نسل يعقوب- عليه السلام- إنك يا رب سميع لكل قول ودعاء.
فنادته الملائكة وهو قائم يدعو الله ويصلى في المحراب وقالت له: إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى موصوفا بأنه يصدق بعيسى ابن مريم- عليه السلام- وسمّى كلمة الله لأنه نشأ بكلمة الله كن لا على السنة الطبيعية من الولادة بين أب وأم.
وهذا- ولا شك- دليل على أنه مهدى موفق حيث إنه أول السابقين المصدقين بعيسى وهكذا السابقون إلى تصديق الرسل- عليهم السلام-.
وسيكون يحيى سيدا في قومه يفضلهم في الشرف والخلق والأدب، وسيكون منوعا لنفسه من كل ما يشينها ويحط من شأنها، ولا غرابة فهو في الدنيا نبي وإنه في الآخرة لمن الصالحين.
قال: رب أنى يكون لي غلام؟
قال الشيخ محمد عبده ما معناه: إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم وتوفيقه لها في الإجابة عن سؤاله. غاب عن حسه وهام في ملكوت الله، واستغرق قلبه في ملاحظة الله وحكمته ونطق بهذا الدعاء وهو على تلك الحال.
ولما آب من سفره وعاد من مشاهداته العليا إلى عالم الأسباب والمسببات سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة وهي على غير السنن الكونية إذ هو شيخ مسن وامرأته عاقر.
قال تعالى: مثل ذلك الخلق على غير السنة الطبيعية مع امرأة عمران يفعل الله ما يشاء في الكون، ومنه إيجاد ولد لك وامرأتك عاقر.
وهكذا يا أهل الكتاب لا تعجبوا من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فالله يفعل ما يشاء ولا تخلو أفعاله من حكم عالية قد تخفى على الناس.
مريم وفضل الله عليها [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
المفردات:
اقْنُتِي: الزمى الطاعة مع الخضوع. أَقْلامَهُمْ: قداحهم التي يستهمون بها ويقترعون.
المعنى:
عدّ الله مريم من أصحاب النفوس الطيبة الطاهرة التي إذا أكرمت بالغت في الطاعة، وإذا مدحت استماتت في العمل والاجتهاد.
فقالت الملائكة: يا مريم إن الله اختارك خالصة لخدمة البيت وسدانته، وقبلك وما كان يصلح لهذا إلا الرجال ولكنه طهّرك من كل دنس ورجس وعيب يمنع من
ذلك القصص المنزل عليك يا محمد وفيه أخبار مريم وزكريا من أنباء الغيب وأسرار الخلق التي لم تطلع عليها أنت ولا أحد من قومك وإنما توحى إليك بالروح الأمين جبريل، وما كنت معهم حينما جاءت امرأة عمران وألقت مريم في بيت المقدس، وتنافس الأحبار في رعايتها وخدمتها فهي بنت سيدهم وكبيرهم. واستهموا في ذلك فنال شرف رعايتها زكريا، وما كنت يا محمد لديهم إذ يختصمون.
ولقد نفى الله حضور النبي صلّى الله عليه وسلّم تلك المشاهد على سبيل التهكم بهم فلم يبق إلا الوحى من الله- تعالى- وأما تعليم البشر كما قالوا فرد الله عليهم بقوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «١» وهو النبي الأمى لم يقرأ ولم يكتب فلم تبق إلا المشاهدة وقد نفيت عنه صلّى الله عليه وسلّم.
قصة عيسى عليه السلام [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٥ الى ٥١]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ المراد بها: عيسى ابن مريم- عليه السلام-. وَجِيهاً: ذا وجاهة وكرامة في الدارين. كَهْلًا: الرجل التام السوىّ. قَضى: أراد شيئا. الْحِكْمَةَ: العلم النافع. الْأَكْمَهَ: من ولد أعمى.
هذا شروع في قصة عيسى بعد قصة أمه وقصة زكريا ويحيى أقاربه.
المعنى:
واذكر يا محمد لقومك وقت أن قالت الملائكة (والمراد بهم جبريل) : إن الله يبشرك يا مريم بعيسى، وعبر عنه (بكلمة منه) إيذانا بأنه خلق خلقا غير عادى استحقّ أن يوصف وحده بقوله: (كلمة منه) وإن كان في الواقع أن جميع الكائنات بكلمة الله إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
ومن أوصافه أنه يكلم الناس في المهد رضيعا حتى يدافع عن أمه وعند تمام رجولته وكلامه تام موزون موفق في كل حال وهو من الصالحين الذين أنعم الله عليهم وأصلح حالهم.
ولما بشر الله مريم بعيسى الفذ في تكوينه وخلقته الموصوف بما ذكر قالت مريم مستفهمة: أيكون هذا عن طريق الزواج أم لا؟ ويجوز أنها تكون سألت متعجبة مستعظمة قدرة الله القادر على كل شيء كيف يكون لي ولد وأنا لم أتزوج؟
قال تعالى: مثل ذلك الخلق البديع يخلق الله ما يشاء وقد خلق الخلق كما ترى وخلق السماء والأرض وخلق أبانا آدم من تراب بلا أب ولا أم ثم قال له كن فيكون.
وانظر إلى بلاغة القرآن حيث عبر في جانب زكريا كذلك يفعل الله ما يشاء، وهنا كذلك يخلق الله ما يشاء للإشارة إلى أن إيجاد ولد من شيخين عجوزين ليس كإيجاد ولد من أم فقط بلا أب فكان الخلق والإبداع أنسب بعيسى من يحيى.
ولذلك عقبه ببيان كيفية الخلق فقال: وإذا أراد أمرا من الأمور قال له كن فيكون والمراد بالأمر هنا الأمر التكويني لا الأمر التكليفي كما في قوله- تعالى- أقيموا الصلاة، مثلا.
وهذا تمثيل لعظمة الله ونفاذ أمره وسرعة إنجازه ما يريد حيث شبه حدوث ما يريد عند تعلق إرادته به حالا بطاعة المأمور القادر على الفعل للأمر المطاع، ومما يشبه هذا قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أى: أراد أن يكون فكانتا.
وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئا ويعده مستحيلا عادة ويذهب في تأويله المذاهب.
ومن أوصاف عيسى أن الله يعلمه الكتابة بالخط والعلم النافع والتوراة وقد كان عيسى عالما بها واقفا على أسرارها ويقيم الحجج على قومه بنصوصها، وقد علمه الله وأنزل عليه الإنجيل.
وكذلك يرسله رسولا إلى بنى إسرائيل كافة ناطقا ومحتجا على صدق رسالته بأنى أخلق- بمعنى أقدر وأصور لا أنشئ وأخترع- من الطين هيئة كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأمره لا بإذنى وأمرى فأنا مخلوق لا أقدر على هذا، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله، وقد أنكروا عليه ذلك فقال لهم: وأخبركم بما تأكلون في بيوتكم وما تدخرون وتحفظون وهكذا مما لا سبيل إلى إنكاره.
إن في ذلك لآية لكم على صدقى وصدق رسالتي إن كنتم مؤمنين بالله مصدقين بقدرته الكاملة على كل شيء.
وقد أرسل عيسى ابن مريم مصدقا لما تقدمه من التوراة ولم يأت ناسخا لها بل متفقا معها في الأصول العامة في الدين كالتوحيد والبعث... إلخ.
وإن يكن أرسل ليحل لكم بعض ما حرم عليكم بسبب ظلمكم وعنادكم يا بنى إسرائيل فقد حرم عليهم بعض الطيبات كالسمك والشحم فأحلها عيسى- عليه السلام- وجئتكم بآية من ربكم.
فاتقوا الله وخافوه وأطيعونى إن الله ربي وربكم فاعبدوه.
ترى أنه أمرهم بالتقوى والطاعة فيما جاء به عن ربه وختم ذلك بالتوحيد والاعتراف
قصة عيسى مع قومه [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٢ الى ٥٨]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
أَحَسَّ يقال: أحسّ الشيء: أدركه بإحدى الحواس الخمس، وإدراك الأمور المعنوية بها مجاز. الْحَوارِيُّونَ: هم أصحاب عيسى وأنصاره، والحور: البياض وصفوا به لبياض قلوبهم وصفاء سريرتهم. مَكَرُوا المكر: التدبير الخفى المفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسب. مُتَوَفِّيكَ التوفي: أخذ الشيء تماما.
شروع في قصة عيسى مع قومه حيث دعاهم للإيمان به فآمن به البعض وكفر به البعض، ولم يتعرض القرآن الكريم هنا إلى ولادته ونشأته إيجاز واختصارا، وإنما ذكر هنا ما يفيد تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبيان أن الآيات الكونية مهما عظمت لا يتوقف عليها الإيمان وإنما الإيمان يتوقف على هداية الله وتوفيقه.
المعنى:
فلما تحقق كفرهم عنده تحقّق ما يدرك بالحواس، وعلم علما أكيدا بأن منهم الجاحدين والمنكرين توجه إلى البحث عن المستعدين لقبول الدعوة ومن في قلوبهم نور الإيمان فقال: من ينصرني ملتجئا إلى الله؟ ومن الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصرتي ويكونون حزبى وجماعتي؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله ومن ينصر الرسول فقد نصر الله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء ٨٠] نحن أنصار الله آمنا به إيمانا صادقا واتبعنا رسله واشهد بأنا مسلمون إذ الإسلام في جوهره لا يختلف فيه دين عن دين.
ربنا آمنا وصدقنا بما أنزلت في كتابك واتبعنا الرسول عيسى ابن مريم، فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك بالصدق.
ومكر كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر وهموا بقتله وجمعوا جموعهم للفتك به وأبطل الله مكرهم فلم ينجحوا فيما دبروا وعبر عن ذلك بقوله: ومكر الله للمشاكلة، والمكر سيّئ وحسن، ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله والله خير الماكرين.
مكر الله بهم إذ قال الله يا عيسى: إنى موافيك أجلك كاملا ولن يعتدى عليك معتد أبدا، فهذه بشارة له بنجاته من مكرهم وتدبيرهم، ورافعك في مكان علىّ. فالرفع رفع مكانة لا مكان، كما قال تعالى في شأن إدريس- عليه السلام-: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم آية ٥٧] وكقوله في المؤمنين: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ
ومن إكرام الله لعيسى- عليه السلام- أنه قد جعل الذين اتبعوه في الدين وآمنوا به فوق الذين كفروا، والمراد أنهم أعلى منهم روحا وأحسن خلقا وأكمل آدابا، وقيل:
فوقهم في الحكم والسيادة وإن يكن هذا غير مطرد بالنسبة لليهود والنصارى.
والمعروف الذي يحدثنا به التاريخ أن كل جماعة تتمسك بدينها وآدابه وأخلاقه لا بد أن تكون فوق الجميع هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فالمرجع لله وحده، فأما الذين كفروا فيعذبون العذاب الشديد الملائم لما اقترفوا من ذنب في الدنيا وما لهم في الآخرة من ناصر ومعين.
وأما الذين آمنوا وعملوا صالحا فأولئك يوفيهم الله حقهم ويعطيهم أجرهم والله لا يحب الظالمين ولا يهديهم إلى الخير أبدا.
ذلك الذي تقدم من خبر عيسى نتلوه عليك يا محمد وهو من الآيات الواضحات الدالة على صدق نبوتك وهو من الذكر الحكيم.
الرد على ألوهية عيسى وقصة المباهلة [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
حَاجَّكَ: جادلك. نَبْتَهِلْ ابتهل الرجل: دعا وتضرع، وابتهل القوم:
تلاعنوا، والبهلة: اللعنة.
سبب النزول:
روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما لك تشتم صاحبنا؟ قال: ما أقول؟
قالوا: تقول: إنه عبد الله. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله، فنزلت هذه الآية: إن مثل عيسى عند الله
: وحقا صدق الله إذ يقول: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سورة الفرقان آية ٣٣].
المعنى:
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم كلاهما خلق خلقا غريبا غير عادى فآدم خلق من غير أب ولا أم خلقه من تراب وقدره جسدا من طين ثم قال له كن فكان وعيسى خلق من غير أب فقط.
فقد شبه الغريب بالأغرب منه.
البيان الحق والقول الصدق من ربك بلا مراء ولا شك فلا تكن يا محمد أنت وأمتك من الممترين الشاكين وهذا الأسلوب يثير في النبي الكريم وأمته معاني اليقين والاطمئنان إلى الأخبار السماوية.
روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حاجوه بعد هذا طلب منهم المباهلة وخرج هو والحسن والحسين وفاطمة وعلى فلما طلب منهم المباهلة قالوا: أنظرنا.
ثم تشاوروا وقالوا: ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا، فلما كان الغد صالحوا النبي صلّى الله عليه وسلّم على الجزية وهي ألفان من الثياب ألف في صفر وألف في رجب ومعها دراهم.
وقد روى غير ذلك إلا أن الكل قد أجمع على أنهم طولبوا بالمباهلة فأبوا وقد خرج محمد صلّى الله عليه وسلّم وآل بيته الكرام لمباهلتهم.
فمن حاجك في شأن عيسى بعد هذا فقل لهم: تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نتباهل وندعو الله أن يلعن الكاذب ويطرده من رحمته.
فما أمكنهم أن يقدموا على المباهلة كما روى سابقا إن هذا لهو القصص الحق لا مرية فيه ولا جدال وليس هناك إله إلا الله العزيز الذي لا يغالب، الحكيم في كل شيء.
فإن تولوا بعد هذا فإن الله عليم بالمفسدين الذين هم منهم وسيجازيهم على ذلك.
كلمة التوحيد وملة إبراهيم [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٤ الى ٦٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
سَواءٍ السواء: العدل والوسط. أَرْباباً: جمع رب، وهو السيد المربى المطاع فيما يأمر. تُحَاجُّونَ: تخاصمون وتجادلون. حَنِيفاً: مائلا عن الباطل. مُسْلِماً منقادا لله وحده.
المعنى:
بين الله القصص الحق والخبر الصدق في عيسى وأن أهل الكتاب قد أفرط البعض فجعله إلها وفرط البعض الآخر فنعته بما لا يصح، وانتهى أمرهم إلى المباهلة فغلبهم الرسول فيها بالعاطفة بعد الحجة والبرهان.
ثم أراد القرآن أن يسلك بهم سبيلا آخر حيث دعاهم إلى شيء لا يمكن أن يفلتوا منه ويتملصوا وهو: تعالوا إلى العدل والوسط والكلمة السواء: ألا نعبد إلا الله وألا نشرك وشيئا وألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من غير الله فكل دين لا يختلف عن الآخر في إثبات الوحدانية والربوبية لله تعالى.
وإذا كان الأمر كذلك فهيا بنا جميعا إلى الأمر الوسط المسلّم من الجميع.
وإن اعترضنا شيء وجب أن نرده إلى أصل التوحيد وكلمته فلا نقول إذن: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله فإن تولى اليهود والنصارى بعد هذا وأعرضوا فقولوا لهم:
اشهدوا بأنا مسلمون حقا منقادون لله نعبده وحده مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أما أنتم فلا!!!
المحاجة في إبراهيم:
روى أن اليهود قالوا: إن إبراهيم كان يهوديا، وقال النصارى: إنه كان نصرانيا وتحاكموا إلى رسول الله فنزلت الآية
: يا أهل الكتاب لم تتخاصمون في شأن إبراهيم وشريعته وقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعده فكيف تدعون أنه كان يهوديا أو نصرانيا أعميتم عن إدراك أبسط الأشياء فلا تعقلون.
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مائلا عن الشرك بالله والوثنية.
فلم يقل: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله بل كان مسلما منقادا لله- سبحانه وتعالى- وما كان من المشركين كأهل الكتاب والمشركين من العرب وما لكم ولإبراهيم؟؟
إن أولى الناس وأحقهم بإبراهيم من اتبعوه من المؤمنين به خصوصا هذا النبي محمد والذين معه من المؤمنين، إذ الكل متفق معه في الوحدانية والألوهية لله تعالى، والله ولى المؤمنين.
من مواقف أهل الكتاب [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٩ الى ٧٤]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
يُضِلُّونَكُمْ: يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الإسلام والمخالفة له، والضلال: نوع من الهلاك. تَلْبِسُونَ: تخلطون. وَجْهَ النَّهارِ: أول النهار.
المعنى:
روى أن معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر دعاهم اليهود إلى دينهم فنزلت هذه الآية
، ودت جماعة من أهل الكتاب لو يصدونكم عن دينكم ويخرجونكم من شرعكم بشتى الأساليب وكل الطرق، أحبوا ذلك حبا عميقا من قلوبهم وبذلوا لردتكم عن دينكم كل مرتخص وغال، وفي الواقع ما يضلون إلا أنفسهم إذ قد شغلوها بما لا يجدي بل بما يضر ويلهى عن النظر فيما ينفع وما يشعرون بذلك لأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا، وأما جزاؤهم على ذلك فالله أعلم به.
يا أهل الكتاب قد أرسلت لكم رسل ومعهم كتب فيها ما فيها من العقائد والأعمال والبشارة بالنبي المبعوث من ولد إسماعيل وهو عربي أمى، فلم تكفرون بآيات الله التي نزلت في التوراة والإنجيل؟ لأنكم لم تعملوا بمقتضاها، والآيات التي في القرآن لأنكم لم تؤمنوا بها، والعجب العجاب أنكم تقرون وتشهدون بصدق رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدق بشارته التي في كتبكم.
يا أهل الكتاب لم تخلطون الحق بالباطل وتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وتخلطون كلام الله المنزل بكلامكم المخترع الباطل وتكتمون الحق الصريح الواضح وهو ما يتعلق بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن الغريب أنكم تعلمون خطأكم وخطر هذا العمل.
ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الرسالة والنبوة إلا لمن تبع دينكم،
أى: لا تعترفوا أمام العرب مثلا بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبي من غير بنى إسرائيل وهذا مبنى على أنهم ينكرون جواز بعثة نبي من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لا اعتقادا، وأنهم كانوا لا يصرحون باعتقادهم المستكن في أنفسهم إلا لمن آمنوا له من قومهم وهذا مكرهم وخداعهم لئلا يزداد المسلمون ثباتا على الدين، والمشركون دخولا فيه، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم لأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم يوم القيامة ويغالبونكم عند الله بالحجة، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراض على معنى: ليس إظهاركم أو إخفاؤكم له دخل في الهداية بل الهداية من الله والتوفيق، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
الأمانة والوفاء بالعهد عند اليهود [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
(قنطار) القنطار: العقدة الكبيرة من المال، أى: المقدار الكبير منه، وقيل: هو اسم للمعيار الذي يوزن به كالرطل والأوقية. الْأُمِّيِّينَ: العرب. سَبِيلٌ:
ذنب وتبعة. بِعَهْدِهِ العهد: ما تلتزم الوفاء به لغيرك. وَأَيْمانِهِمْ: جمع يمين، وهو في الأصل يطلق على اليد المقابلة للشمال، ثم أطلق على الحلف بالله لأن المتعاهد يضع يمينه على يمين صاحبه ويحلف على العهد.
المعنى:
تقدمت صفة ثابتة لبعض أهل الكتاب خصوصا اليهود وهي حبهم العميق لفتنة المسلمين وإضلالهم.
ومنهم من يتصف بالخيانة وعدم الوفاء واستحلال أكل أموال غير اليهود.
ولقد أنصفهم القرآن حيث قال: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بقطع النظر عن دينك، كالسموءل بن عاديا اليهودي.
وكل جماعة فيهم الصالح والطالح، وإن تكن الجماعة اليهودية أغلبها طالح فاسد.
وانظر إلى تعبير القرآن الكريم يقول: ومن أهل الكتاب بدل ومنهم للإشارة إلى أن هذه الصفات يعتمدون فيها على الكتب المنزلة عليهم فهم يستحلون أكل مال غير اليهود باسم التوراة التي حرفوها، فهم قد زعموا أن التوراة لم تنههم إلا عن خيانة إخوانهم الإسرائيليين وأما الأميون فليس عليهم ذنب في أكل أموالهم إذ هم شعب الله المختار ومن سواهم لا حرمة له عند الله، فهو مبغوض ولا حق له ولا حرمة وعند ذلك يحل أكل ماله ومثل الأميين غيرهم مما عدا اليهود.
وهم يقولون على الله الكذب ويفترونه إذ كل الشعوب والأمم سواء لا فضل لعربي على عجميّ إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات آية ١٣].
والذي سول لهم هذا الزعم وأباح لهم هذا الكذب شياطينهم وأحبارهم فهم الذين حرفوا التوراة وبدلوها.
وإذا كان هذا جزاء الذين يوفون بعهدهم في المعاملات الدنيوية أفلا يكون الجزاء أوفى لمن يوفى بعهد الله في الدين والمعاملة بينه وبين ربه.
ثم بيّن الله- تعالى- جزاء أهل الغدر والحلف مع بيان السبب الذي يحملهم على ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا... الآية، روى أنها نزلت في اليهود كتموا ما أنزل الله وبدلوا وحلفوا على ذلك أنه من عند الله، وقد أضاف العهد هنا إلى الله لأنه عهد إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء فيما يتعاهدون ويتعاقدون، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها كما عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا فعهد الله يشمل كل هذا.
ولما كان الناكث للعهد لا بد أن يأخذ شيئا في مقابل نكثه العهد، عبر عن ذلك بالشراء الذي هو معاوضة ومبادلة في الجملة وسمى ذلك العوض قليلا لأنه مهما كان كثيرا فهو في الواقع قليل بالنسبة لجرمه وذنبه.
أولئك الناقضون العهد لا نصيب لهم في الآخرة أصلا ولا يكلمهم الله يوم القيامة غضبا عليهم، ولا ينظر إليهم نظرة عطف ورحمة ولا يزكيهم بالثناء عليهم أصلا ولهم عذاب أليم.
من كذبهم وافترائهم على الله أيضا [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٨]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ من اللّىّ: وهو اللف، أى: يفتلون ألسنتهم ليميلوها عن الآيات المنزلة إلى العبارات المحرفة.
المعنى:
وإن منهم لجماعة من أحبارهم وعلمائهم يفتلون ألسنتهم ويميلونها عن الآيات المنزلة بأن يزيدوا في كلام الله أو ينقصوا أو يحرفوا الكلم عن مواضعه، ويقرءون كلامهم بنغم وترتيل فيوهمون الناس بأنه من التوراة وأن الكتاب جاء بذلك لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ والواقع أنه ليس منه، ويقولون على الله الكذب ويفترونه وهم يعلمون أنه ليس من عند الله ولكن من عند الشيطان والهوى.
فهم لا يعرّضون ولكن يصرحون بذلك لقسوة قلوبهم وفرط جرأتهم وغرورهم.
الرد على أهل الكتاب في إشراكهم بالله [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
المفردات:
رَبَّانِيِّينَ: نسبة إلى الرب، وهو المتشدد في الدين الملتزم طاعة الله.
أَرْباباً جمع رب.
قيل: إن رافع القرظي من اليهود ورئيس وقد نجران من النصارى قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال- عليه الصلاة والسلام-: معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرنى فنزلت هذه الآية
. المعنى:
لا يصح لبشر يمن الله عليه بالكتاب ويهديه إلى الحكمة والصواب في فهم ما أنزل عليه، ويؤتيه النبوة والرسالة ثم بعد هذا يقول للناس: كونوا عبادا لي من دون الله، أى: اعبدوني وحدي أو اعبدوني مع الله، فهذا هو الشرك بعينه، ولكن يقول:
كونوا- أيها الناس- ربانيين متمسكين بالدين مطيعين لله أتم طاعة بسبب كونكم تعلّمون الكتاب لغيركم وبسبب كونكم تدرسونه وتتعلمونه، ولا يعقل أن يأمركم باتخاذ الملائكة والأنبياء آلهة تعبد من دون الله كما فعلت اليهود مع عزير والنصارى مع المسيح، أيأمركم هذا النبي بالكفر والفسوق والعصيان بعد أن أرسل هاديا لكم وكنتم مسلمين منقادين لله بالطبيعة والفطرة التي فطر الناس عليها.
ويؤخذ من هذه الآية أن التعليم الديني والدراسة للإسلام إن لم تكن مصحوبة بالعمل والطاعة كانت وبالا على صاحبها، بل كان السراج يضيء للناس ويحرق نفسه.
الميثاق المأخوذ على أهل الكتاب [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨١ الى ٨٣]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ: قبله، الميثاق: العهد المؤكد. أَقْرَرْنا الإقرار قر الشيء:
إذا ثبت ولزم قرارة مكانه، وأقر بالشيء إذا نطق بما يدل على ثبوته. إِصْرِي الإصر: العهد المؤكد الذي يمنعه من التهاون.
هذه السورة الكريمة من أولها إلى هنا يدور معناها على إثبات رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يجب أن يؤمن به الكل. وأن دينه هو الحق وهو الإسلام، وكل من تقدمه من الأنبياء والأمم قد أخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا به إذا أدركوه فما بال أهل الكتاب اليوم قد نقضوا العهد والميثاق وأعرضوا عن هذا الدين.
المعنى:
واذكر يا محمد وقت أن قبل الله الميثاق المأخوذ على الأنبياء وتدخل أممهم معهم تبعا لهم مهما آتيناكم أيها المخاطبون من كتاب وحكم ونبوة ثم جاءكم رسول هو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله مصدقا لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه.
قال الله- تعالى- لمن أخذ عليهم الميثاق: أأقررتم وقبلتم ذلك الذي ذكر من الإيمان بالرسول المصدق لما معكم ونصرته أقبلتم عهدي وميثاقي المؤكد؟
قالوا: أقررنا، ونطقوا بما يدل على ثبوته قال تعالى: فليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم جميعا لا يغيب عن علمي شيء.
فمن تولى بعد هذا الميثاق المأخوذ قديما ولم يؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان المصدق لمن تقدمه ولم ينصره كما حصل من أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأولئك هم الفاسقون الخارجون من ميثاق الله الناقضون عهده.
أيتولون بعد هذا البيان فيبغون غير دين الله الذي هو الإسلام؟! ولله استسلم من في السموات والأرض وخضعوا له وانقادوا لتصرفه بالتكوين والإيجاد هنا إذ هو المتصرف فيهم وهم الخاضعون له، فكل ما يحل بالناس إن كان عن رضا فهم طائعون وإن كان عن غير رضا فهم كارهون، وإلى الله المرجع والمآب.
إيمان المؤمنين بكل الأنبياء [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
المعنى:
قل يا محمد أنت وأمتك: آمنّا بالله الواحد الأحد وما أنزل علينا نحن الأمة المحمدية، وقدم الإيمان بالله على الإيمان بالمنزل لأنه الأصل والأساس، وقدم المنزل علينا على المنزل على الأنبياء السابقين لأنه هو الأصل فهو مصدر المعرفة وما سواه قد غير وبدل فلا يصلح أساسا للمعرفة، والمنزل علينا هو القرآن الكريم، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وأولاده وما أوتى موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل والنبيون كداود وسليمان وغيرهم مما لا يعلمهم إلا الله- سبحانه وتعالى-.
أمرنا بشيئين: الإيمان بالله والنبيين إيمانا لا نفرق فيه بين أحد منهم بل نؤمن بالكل على أنه نبي مرسل من قبل المولى- جل شأنه- لأمته يهديها إلى سواء السبيل،
ومن يبتغ غير الإسلام الذي هو دين الأنبياء والدين الذي ارتضاه الله لعباده ومن يبتغ غيره دينا فلن يقبل منه قطعا وهو في الآخرة من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ولم يزكوها بالإسلام.
حكم الكفر بعد الإيمان [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
المفردات:
ما في هذه الآيات تقدم شرحه.
المعنى:
ورد في سبب النزول أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم وأقروا بذلك وشهدوا أنه حق ولذا كانوا يستفتحون به على المشركين، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب وأنكروه وكفروا به بعد إيمان، وروى في أسباب النزول عدة روايات أخرى في الذين ارتدوا بعد إسلامهم.
خالدين في النار لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يمهلون بل سيأخذون أخذ عزيز مقتدر.
هذا جزاؤهم إلا من تاب منهم بعد ذلك ورجع إلى الله وأصلح عمله وقلبه فإن الله غفور لما سبق، رحيم بعباده حيث يقبل توبة التائب.
أصناف الكفار [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
المفردات:
ما فيها من المفردات قد تقدم.
المعنى:
هؤلاء الكفار ثلاثة أصناف: صنف كفر بعد إيمان ثم تاب توبة صادقة من بعد ذلك فأولئك يقبل الله توبتهم إنه هو الغفور الرحيم.
وصنف كفروا بالله وماتوا وهم كفار، فلن يقبل من هؤلاء فدية مهما كثرت ولو كانت ملء الأرض ذهبا، أولئك لهم عذاب أليم وما لهم في الآخرة من ناصر ولا شفيع.
الإنفاق أيضا [سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
بعد أن حاج الله أهل الكتاب وأبان أنهم يلبسون الحقّ بالباطل وأنهم لم يؤمنوا بالله حقا، بل يكتمون الحق وهم يعلمون أن محمدا رسول الله قد بشر به في التوراة والإنجيل.
بعد هذا أراد أن يدلل على عدم إيمانهم بشح نفوسهم وبخلهم بالإنفاق في الخير، والإنفاق لعمري أكبر دليل على صدق الإيمان.
وإنهم لن يصلوا إلى البر ولن يكونوا بارين بالله إلا إذا أنفقوا ما يحبون من كريم ما يملكون، أما وقد شحت نفوسهم برديء المال فضلا عن كريمه فهم بعيدون عن الصدق في دعواهم الإيمان والطاعة لمولاهم، وما تنفقون من شيء سواء كان كريما أو رديئا فإن الله به عليم ولا يخفى عليه إخلاصكم ورياؤكم.
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
المفردات:
الطَّعامِ المراد به: المطعومات كلها، وكثر استعماله في الخبز والبرّ.
حِلًّا: حلالا. إِسْرائِيلَ: لقب يعقوب بن إبراهيم، ومعناه الأمير المجاهد مع الله، ثم شاع إطلاقه على جميع ذريته، وهو المراد هنا. افْتَرى
: اختلق وكذب. حَنِيفاً: مائلا عن الباطل إلى الحق.
المناسبة:
ما تقدم من أول السورة إلى هنا في إثبات التوحيد ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وما استتبع ذلك من محاجة أهل الكتاب وبطلان شبههم.
وهنا رد عليهم في شبهتين، الأولى: في قولهم: كيف تدعى يا محمد أنك على ملة إبراهيم والنبيين من بعده وأنت تستحل ما كان محرما عندهم من الطعام كلحم الإبل وغيره؟ فنزلت الآية: (كل الطعام) ردا عليهم في دعواهم أن تحريم بعض المطعومات كان من الله على لسان إبراهيم ويعقوب. والثانية تتعلق بمكة وتعظيمها.
كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل ولإبراهيم من قبله إلا ما استثنى (وهو ما حرم إسرائيل على نفسه) إذ كل الطعام كان حلالا من قبل أن تنزل التوراة ثم حرم الله عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم على أفعالهم «١»، قال- تعالى-: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [النساء ١٦٠] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ [سورة الأنعام آية ١٤٦].
وفي هذا رد على اليهود في دعواهم البراءة مما نسبه إليهم القرآن من الظلم والصد عن سبيل الله كثيرا، وبيان أن تحريم ما حرم على إسرائيل لم يكن إلا تأديبا على جرائم ارتكبوها وسيئات اجترحوها، والنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته لم يرتكبوا هذا السيئات، فكيف تحرم عليهم هذه الطيبات؟ وبيان أن إبراهيم لم يكن محرما عليه شيء من هذا إذا التحريم حصل بعد نزول التوراة وكل الطعام كان حلالا قبلها.
وهنا سؤال: ما المراد بإسرائيل؟ وما الذي حرمه على نفسه؟
وفي الإجابة على هذا خاض كثير من المفسرين، ونقل بعضهم روايات الله يعلم أنها إسرائيليات مدسوسة، كلها تدور على أن إسرائيل هو يعقوب وقد حرم لحوم الإبل على نفسه، وقيل: شحومها، وقيل: العرق الذي على الفخد.
ولكن يرد هذا أن يعقوب بينه وبين نزول التوراة زمن كثير فأى فائدة في التقييد بقوله من قبل أن تنزل التوراة؟
والظاهر أن المراد من إسرائيل بنو إسرائيل، أى: الشعب نفسه وقد حرم على نفسه بعض الأشياء وذلك بسبب أعماله كما مر، وكما وصفهم القرآن بقوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ [سورة النساء آية ١٦٠].
ومن باب أولى لم يكن عند إبراهيم محرم.
قل يا محمد: فأتوا بالتوراة كتابكم فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم لا تخافون تكذيبها لكم.
روى أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرا
، وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه يعلم ما في التوراة وأنها مؤيدة لما في القرآن، وأن النبي أولى بإبراهيم، وملته لا تختلف عن ملته إذ كل منهما مائل عن الباطل إلى الحق وما كان حلالا عند إبراهيم فهو حلال عند المسلمين.
فمن افترى على الله الكذب، وادعى ما لم ينزل الله في كتاب، فأولئك هم الظالمون بتحويل الحق، والكذب على الله.
قل يا محمد: صدق الله فيما أنبأنى به من أنى على دين إبراهيم وأنا أولى الناس به، وإنه لم يحرم الله شيئا على إسرائيل قبل التوراة وقامت الحجة عليكم بذلك، وإذا كان الأمر كذلك فاتبعوا ملة إبراهيم التي أدعوكم إليها فهي الطريق الوسط لا إفراط فيه ولا تفريط، وما كان إبراهيم من المشركين مع الله غيره.
شرف بيت الله الحرام، والحج [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
المفردات:
بِبَكَّةَ أى: مكة، والعرب كثيرا ما تبدل الباء ميما وبالعكس.
وهذه هي الشبهة الثانية التي أثارها أهل الكتاب تكذيبا للنبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوى أنه على ملة إبراهيم. كيف تدعى أنك على ملة إبراهيم وأنك أولى الناس به، وإبراهيم وإسحاق والأنبياء بعدهم كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا لعظمته، ولما تحولت إلى الكعبة فخالفت الجميع؟ والآية الكريمة تزيل الشبهة بأوضح بيان.
المعنى:
إن البيت الحرام الذي هو قبلة المسلمين في الصلاة والدعاء، وإليه تتجه أنظارهم وتهفو قلوبهم، أول بيت وضع معبدا للناس وأسس لذكر الله فيه، بناه إبراهيم وإسماعيل وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ثم بنى المسجد الأقصى بعد ذلك بقرون، بناه سليمان بن داود.
فصح بهذا أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم على ملة إبراهيم وإسماعيل ويتوجه كما يتوجهون.
فالبيت الحرام أول بيت وضع ليعبد الناس فيه ربهم، وهذه الأولية في الزمان يلزمها الأولية في الشرف والمكانة. ولهذا البيت مزايا:
فهو مبارك كثير الخيرات. إذ هو بصحراء وتجبى إليه ثمرات كل شيء، ففيه الفواكه وفيه من خيرات الله الشيء الكثير، ولا مانع أن يكون كثير البركة في الثواب والأجر وهو هداية للناس. ويتوجهون إليه في صلاتهم وتهواه أفئدتهم، على أنه مصدر لهداية النفوس التي تحجه وتعتمر فيه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [سورة ابراهيم آية ٣٧]، وفيه آيات واضحات لا تخفى على أحد. منها مقام إبراهيم للصلاة والعبادة، تعرف ذلك العرب جميعا بالتواتر.
ومن دخل حرمه كان آمنا على نفسه مطمئنا على ماله حتى ولو كان مطلوبا للثأر، يعرف ذلك العرب في الجاهلية، وقد أقرهم الإسلام على ذلك.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ.
وما حصل في أيام الحجاج فهو من أفاعيل السياسة، وما كان أحد في الجيش يعتقد حل ذلك.
ومن مزاياه العالية وجوب الحج إليه على المستطيع من المسلمين.
فواجب الله على الناس أن يحج المستطيع منهم، فهو ركن من أركان الدين، وفريضة من فرائض الإسلام، وقد مضت بعض أحكامه في الجزء الثاني واستطاعة الحج أمر موكول للإنسان وضميره ودينه، أما تفسيرها بوجود الزاد والراحلة وأمن الطريق والقدرة على السفر فهذا كله يرجع إلى الدين، ومن جحد ما تقدم وكفر ولم يمتثل أمر الله في الحج وغيره فإن الله لم يوجبه لحاجته إذ هو الغنى عن العالمين جميعا.
أهل الكتاب وعنادهم وما يضمرونه للإسلام [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
المفردات:
شَهِيدٌ الشهيد: العالم بالشيء المطلع عليه. تَصُدُّونَ: تصرفون.
تَبْغُونَها: تطلبونها. عِوَجاً العوج: الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين مثلا، والمراد هنا: الزيغ والتحريف.
بعد أن ذكر الله- سبحانه وتعالى- الأدلة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم واعتراضهم على ذلك ومناقشتهم حتى أفحموا، وبخهم الله على ذلك وعلى كفرهم فقال قُلْ لهم يا محمد: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ التي دلتكم على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم؟ وعلى أى أساس تسيرون؟ قل: هاتوا برهانكم إن كان عندكم برهان، وإذا لم يكن عندكم دليل ولا برهان فاعلموا أن الله شهيد عليكم وسيجازيكم على ما تعملون.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بمحمد؟ قاصدين بصدكم أن تكون سبيل الله معوجة في نظر من يؤمن لكم ويصدق كلامكم، فأنتم تطلبون لدين الله اعوجاجا وميلا عن القصد- وهي أقوم طريقا وأهدى سبيلا- بتغييركم صفة محمد وكذبكم على الله والحال أنكم تشهدون بصدقه في أعماق نفوسكم، وأنتم الشهود العدول عند قومكم الذين يستأمرونكم ويهتدون بهديكم، ولكن قاتل الله الحسد الكامن والداء الباطن الذي تغلغل في نفوس زعماء وعلماء اليهود والنصارى، وما الله بغافل عن خباياكم وسيجازيكم عليها.
توجيهات وعظات [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
يَعْتَصِمْ اعتصم بالشيء: تمسك به فمنع نفسه من الوقوع في الهلاك. حَقَّ تُقاتِهِ: تقاته وتقواه بمعنى واحد، والحق، أى: الواجب الثابت، وأصل الكلام:
اتقاء حقا، والمراد: اتقوه التقوى الواجبة. بِحَبْلِ اللَّهِ: هو العهد أو القرآن.
شَفا حُفْرَةٍ: طرفها، وأشفى على الشيء: أشرف عليه. أُمَّةٌ: جماعة متحدة مؤتلفة. إِلَى الْخَيْرِ أى: المنافع في الدنيا والآخرة. تَبْيَضُّ: تشرق وتسر. وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ: تكتئب وتحزن. ظُلْماً الظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
روى أنه مر شاس بن قيس اليهودي- وكان شديد الكفر كثير الحسد على المسلمين- مر بنفر من الأنصار يتحدثون فغاظه ذلك حيث اتحد الأوس والخزرج، واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية، وقال اللعين: ما لنا معهم إذا تجمعوا من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معه: أن اذهب إليهم وذكرهم بيوم بعاث- كان بين الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس- وما قيل فيه من الأشعار فتنازع القوم وتصايحوا: السيوف السيوف.
وجمع كل فريق منهم جموعه، فبلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا فخرج إليهم ومعه المهاجرون والأنصار وقال: أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم؟ فعرف القوم أنها نزعة الشيطان وكيد العدو فألقوا السلاح وبكوا وتعانقوا ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن جرير: نزل قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ الآية في شأن شاس اليهودي.
ونزلت الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا | في الأنصار [آل عمران ١٤٩]. |
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب فيما يكيدون لكم ويوقعون بينكم من العداوة والبغضاء، يردوكم بعد أن منّ الله عليكم بالإيمان والمحبة والصفاء كافرين بالله والدين والخلق الكريم وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [سورة البقرة آية ١٠٩].
وكيف تكفرون بالله؟ وكيف تطيعونهم فيما يأمرون به ويشيرون؟ والحال أنكم تتلى عليكم آيات الله. وهي روح الهداية وجماع الخير وحفاظ الإيمان تتلى غضة ندية.
وبين أظهركم رسول الله إمام المرسلين ورسول المحبة والخير والألفة والرشاد، فهل يليق بمن أوتوا هذا أن يتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل؟
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله اتقاء حقا وأدوا واجب التقوى الذي يطلب منكم فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة التغابن آية ١٦] على معنى: بالغوا في التقوى وأدوها كاملة حتى لا تتركوا من المستطاع شيئا.
ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله، أى: لا تكوننّ على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت.
وتمسكوا بكتاب الله وعهده واعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا عنه أبدا فإن الداء العضال داء الفرقة والانحلال.
وفي الآية تمثيل الاستيثاق بالعهد أو القرآن والوثوق بحمايته، باستمساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل متين وثيق يأمن انقطاعه.
وحبل الله هو الإيمان والطاعة، أو القرآن
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «القرآن حبل الله المتين، لا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد، من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به فقد هدى إلى صراط مستقيم».
وقد كان العرب الجاهليون في حروب مستعرة وعداوات وإحن خاصة الأوس والخزرج، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه أفواجا، سل من قلوبهم سخائم الحقد وطهر أرواحهم من نكد العداوة، وأصبحوا بنعمة الله إخوانا متحابين متعاطفين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة يدينون بمبدأ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات آية ١٠]
وبالحديث: «مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها نعم كان العرب على حافة حفرة من النار بسبب شركهم ووثنيتهم لا يفصلهم عن النار إلا الموت فأنقذهم الله بالإسلام والتوحيد: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم آية ٣٤].
مثل هذا البيان القيم والتوجيه السديد يبين الله آياته لكم، وهو في هذا البيان كالذي يرجو منكم الهداية والسداد لعلكم تهتدون.
١- يجب علينا ألا نؤمن لغير من اتبع ديننا خاصة إذا أشار علينا بالفرقة والخلاف.
٢- إذا دهانا أمر أو حل بنا خطر نلجأ إلى القرآن والحديث نستهديهما، ونستلهم رأيهما ففيهما الخير والرشاد في الدنيا والآخرة.
٣- الاتحاد وعدم الخلاف والشقاق مع الاعتصام بالعهد والقرآن.
أمرنا الله بالاعتصام بحبله والتمسك بدينه ونهانا عن التفرق والاختلاف فقد أنعم علينا بالإسلام وألف بين قلوبنا بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم لكنه يعلم أن هناك نفوسا يصدأ قلبها سريعا ولا يجلوها إلا الوعظ والإرشاد والتذكير بالله واليوم الآخر، فأرشدنا إلى ذلك حيث قال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ (الآية)، فهذه وما بعدها متممة لقوله- تعالى-: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً.
خاطب الله- سبحانه وتعالى- الأمة الإسلامية بأسلوب الأمر الصريح فقال:
ولتكن منكم أيها المسلمون أمة لها كيان ونظام. أمة مؤتلفة الأعضاء موحدة الجهات لا ترهب أحدا ولا تخاف شيئا، دينها قول الحق ورفع الظلم ولو كان عند سلطان جائر.
لا تخشى في الله لومة لائم، لها رئاسة وقانون. كل ذلك قد أشارت إليه كلمة واحدة وهي (أمة) إذ هناك فرق بين قولك: جماعة وأمة.
فعلى المسلمين جميعا واجب هو تكوين تلك الأمة. لتكون بهذا الوضع. وعلى الأمة المكونة واجب أن تقوم بمهمة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والذب عن حياض الدين ورفع منارة الحق والعدل، فالمسلمون جميعا مكلفون بتكوين جماعة خاصة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فهذه الجماعة المكونة بهذا الوضع السابق لها حق الإشراف والتكوين والتوجيه والحساب والعمل على خدمة المسلمين، وهذا أشبه بمجلس الأمة! وعلى الأمة جميعا اختيار طائفة خاصة تقوم بتلك المهمة على سبيل الوجوب.
وفي سبيل قيامها بواجبها يجب أن تتوافر فيها شروط العلم الديني والعلوم التي يحتاج
فإذا توافرت هذه الشروط فأولئك البعيدون في درجات الكمال هم المفلحون في الدنيا والآخرة، وأمة هداتها وقادتها بهذا الوضع لا بد أن تكون العزة والكرامة لها.
ولا تكونوا- أيها المسلمون- كالذين تفرقوا واختلفوا اختلافا كثيرا كما حصل لليهود والنصارى من بعد ما جاءتهم البينات الواضحات التي تهديهم إلى السبيل لو اتبعوها، وما ذلك إلا لأنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولم تكن فيهم أمة تهديهم إلى الخير وترشدهم إلى الطريق لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (الآيتان ٧٨، ٧٩ من سورة المائدة).
والاختلاف المنهي عنه هو الاختلاف في الأصول العامة للدين وتحكم الهوى وإدخال السياسة المذهبية، والبعد عن مناهل الشريعة والأخذ بالمتشابه.
أما الخلاف في الوسائل وكيفية الأداء كاختلاف المذاهب عندنا في كيفية الوضوء لتعدد فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ولأن القرآن يسمح بكل صورة قال بها إمام من الأئمة، فلا شيء فيه إذ كلهم من رسول الله ملتمس.
والمسلمون قد اختلفوا شيعا وأحزابا لما تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتركوا روح الدين واشتغلوا بالأمور الشكلية.
والأمة التي فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فأولئك جميعا هم المفلحون، وأولئك المختلفون والمتفرقون التاركون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لهم عذاب عظيم. لا يعرف له حد ولا يدرى له كنه.
يوم تبيض وجوه المؤمنين وتشرق ويسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وتسود وجوه المختلفين الذين لم يتواصوا بالحق والصبر من أهل الكتاب والمنافقين، وتظلم وتكتئب حينما يرون ما أعد لهم من العذاب المقيم، فأما الذين اسودت وجوههم فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا: أكفرتم بالرسول محمد بعد إيمانكم به؟ فقد كنتم على علم ببعثته وعندكم أوصافه والبشارة به، ولكن كفرتم به حسدا وحقدا، وكانوا قبل البعثة
وهذا جزاؤكم أن تذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون.
وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله وجنته ورضوانه هم خالدون.
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق الثابت فلا عذر بعد هذا لو اختلفت أمتك وأهملت الاعتصام بحبل الله وتفرقت شيعا وأحزابا، ولم تتواص بالحق والصبر، وما الله يريد بهذه التوجيهات والأحكام ظلما للعباد، حاشا لله أن يضع شيئا في غير موضعه، بل كل هذا لمصلحتهم في الدنيا والآخرة، وكيف لا يكون ذلك؟ ولله في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وحكما، وإلى الله وحده ترجع الأمور.
فضل الأمة الإسلامية على غيرها [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٠ الى ١١٢]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
(كان) فعل يدل على الوجود والحصول في الماضي بقطع النظر عن الدوام أو الانقطاع، وقد يستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
الْأَذى: الضرر البسيط. يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ: كناية عن الانهزام، فالمنهزم يحول ظهره إلى عدوه. ضُرِبَتْ: ألصقت بهم وأثرت فيهم. الذِّلَّةُ: الذل.
ثُقِفُوا: وجدوا. بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ الحبل: العهد. وَباؤُ: رجعوا، والمراد كانوا أحقّاء بغضب الله، مأخوذ هذا من البواء، أى: المساواة، يقال: باء فلان بدم فلان: إذا كان حقيقا أن يقتل به لمساواته له، والمراد حلوا في العذاب، من المباءة، وهو: المكان. يَعْتَدُونَ: يتجاوزون الحد.
هذا كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاعتصام بالله والاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير على أنه تحريض وإلهاب للهمم.
المعنى:
أنتم خير أمة في الوجود الآن، وذلك لأن جميع الأمم قد غلب عليها الفساد وعمتها الفوضى، فلا يعرف فيها معروف ولا ينكر فيها منكر، فأنتم خير أمة أخرجت للناس، وذلك لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله إيمانا كاملا صادقا «والإيمان بالله على هذا النحو لا يكون إلا إذا استوعب صاحبه جميع ما يجب الإيمان به، فلو أخلّ بشيء لم يكن مؤمنا بالله- تعالى- إيمانا كاملا، وإنما قدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان بالله لأنهما أظهر في بيان فضل المسلمين على غيرهم، على أن الإيمان يدعيه أهل الكتاب وإن تكن دعوى باطلة».
ولو أن أهل الكتاب آمنوا إيمانا حقيقيا لكان خيرا لهم إذ هم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، أو يؤمنون ببعض الرسل كموسى وعيسى، ويكفرون بمحمد، على أنهم كيف يدعون الإيمان وفي صلب كتبهم البشارة بمحمد وصفته فأنكروا كل ذلك ولم يؤمنوا به؟
ولو سئل أحبار اليهود عن أنفسهم لما قالوا أكثر من ذلك.
هؤلاء اليهود موصوفون بما يأتى:
لن يضروكم أبدا إلا ضررا بسيطا كالهجاء والخوض في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي عرضه والتنفير من الدين الإسلامى.
وإن يقاتلوكم ينهزموا أمامكم ويولوكم الأدبار، وهذا ليس بالجديد على أمثالهم ثم بعد هذا لا ينصرون أبدا.
وصفهم القرآن بثلاث: عدم الضرر. والفرار في الحرب. وعدم النصر ولكن هذا مع من؟ مع قوم نصروا الله فنصرهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ فما دمنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله إيمانا صحيحا فلا بد أن نكون أقويا أعزاء، وما داموا هم فاسقين خارجين عن حدود الله والطاعة والإيمان يكون هذا الحكم لنا ولهم، وإذا لم نكن كذلك فحالنا وحالهم كما نرى الآن.
وقد وصفوا كذلك بأن الذل قد ألصق بهم حتى أثر فيهم كما يؤثر الضرب في النقد فلا خلاص لهم من الذل أبدا إلا بسبب عهد لهم من الله وهو ما قررته الشريعة لهم من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء، وعهد من الناس وهو ما تقتضيه المشاركة في الوطن والحاجة والانتفاع في الصناعة والتجارة. أو المراد عهد من الناس يحميهم.
وصاروا مستحقين لغضب الله مستوجبين سخطه قد أحاطت بهم المسكنة إحاطة المكان بمن فيه، فهم في الذل والحاجة أبدا.
ولا شك أنهم كذلك إلى الأبد وإن كانوا مياسير وأغنياء لأنهم ورثوا صفات الذل وضعف النفس وامتهانها بل بيع الشرف لأجل المال فهم في فقر دائم وذل مستمر ومتألهين المال، وفي الجزء الأول توضيح المقام فارجع إليه ص (٣١).
ونسبة القتل إلى المعاصرين من اليهود كما قلنا لأنهم منتسبون إلى من فعل هذا الفعل وراضون عنه، بل معتزون بهذا النسب، على أنهم حاولوا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارا.
المؤمنون من أهل الكتاب [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٣ الى ١١٥]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
المفردات:
قائِمَةٌ: مستقيمة عادلة، مأخوذ من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى استقام. آناءَ اللَّيْلِ: جمع آن، والمراد: ساعات الليل. يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ: يبادرون إلى فعل الخيرات. يُكْفَرُوهُ: يمنعوه ثوابه.
لما وصف أهل الكتاب بأن منهم المؤمنين، ومنهم الفاسقين ثم بين حالهم ومآلهم خاصة اليهود، كان من العدل أن يبين حال المؤمنين منهم وإن كانوا قلة.
المعنى:
ليس أهل الكتاب متساوين في أصل الاتصاف بالقبائح، بل منهم من تقدمت صفته. ومنهم أمة مستقيمة على طاعة الله، ثابتة على أمره، من صفاتهم أنهم يتلون آيات الله ويقرءون القرآن خاصة في ساعات الليل وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨ الإسراء).
ففي صلاة الليل والتهجد يكثرون من قراءة القرآن وحدهم، حيث ينام الكون كله وحارسه لا ينام- سبحانه وتعالى- وهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا خالصا لا شبهة فيه ولا نفاق معه، إيمانا بكل ما يجب الإيمان به.
فهم قد كملوا أنفسهم بالقرآن وتلاوته، والإيمان وحلاوته، ثم أرادوا لسمو أنفسهم وطهارة ضميرهم أن يكملوا غيرهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويبادروا إلى فعل الخيرات بسرعة وبلا إمهال، وهكذا شأن المؤمنين أمثال عبد الله بن سلام ومن على شاكلته، أولئك عند الله من الصالحين الذين صلح حالهم وعلت درجاتهم.
وفي هذا رد على اليهود حيث زعموا أن من آمن منهم هم شرارهم لا خيارهم، إذ لو كان فيهم خير لما آمنوا.
وما يفعلون من الطاعات فلن يحرموا ثوابه، ولن يمنعوا جزاءه. والله شكور عليم بالمتقين، فلن ينسى ولا يهمل، وليس ممن يجهل الجزاء، وهو القادر على كل شيء، البصير بكل عمل.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
المفردات:
لَنْ تُغْنِيَ: لن تجزى عنهم. رٌّ
: برد شديد. رْثَ
الحرث:
إثارة الأرض للزرع، والمراد النبات المزروع.
المعنى:
كثيرا ما افتخر الكفار وقالوا: نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، ولفظ الكفار هنا يشمل اليهود والمنافقين جميعا.
فهم لن تجزى عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ أولئك هم الملازمون للنار لا ينفكون عنها، هم فيها ماكثون مكثا الله أعلم به. ثم ضرب الله مثلا من أروع الأمثلة التي وردت في القرآن لأموالهم التي ينفقونها في أغراض الدنيا للرياء والسمعة والمفاخرة وكسب الثناء لا يبغون بذلك وجه الله بل كان منهم من ينفق ماله ليصد عن سبيل الله.
مثل المال الذي ينفقونه هكذا كمثل ريح فيها برد شديد أتت على الزرع فأهلكته.
فأنت معى في أن المال الذي ينفق في لذاتهم وتأييد كلمة الباطل والصد عن سبيل الله
أليس هذا المال كالريح المرسلة بالهلاك والبرد الشديد فتأتى على الزرع المرجو ثمرته ونفعه فتبيده وتهلكه؟! فهم إذا أنفقوا المال للشيطان ورجوا منه الثواب والنفع ثم قدموا الآخرة فلم يروا إلا الحسرة والندامة كانوا كمن يزرع زرعا وتوقع منه خيرا ونفعا فأصابته ريح فأحرقته فوقف مبهوتا حائرا وحقّا إن الله يتقبل من المتقين ويثيب المخلصين.
وما ظلمهم الله بل جازاهم وكافأهم وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ولكن هم الظالمون لأنفسهم.
صداقة المؤمنين للكافرين وخطرها [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٨ الى ١٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
بِطانَةً بطانة الرجل: خاصته وأهل مشورته ومستودع سره، قد أشبهوا بطانة الثوب. مِنْ دُونِكُمْ: من غيركم. لا يَأْلُونَكُمْ: ألى في الأمر: قصر فيه، ثم استعمل بمعنى منع، فقيل: لا آلوك نصحا، والمعنى هنا: لا يقصرون أبدا في إيصال الخبال لكم. الخبال: الفساد، وقد يكون في الأفعال والأبدان والعقول.
الْعَنَتَ: هو المشقة. الْأَنامِلَ: أطراف الأصابع. عَضُّوا عض الأنامل: يراد به شدة الغيظ أحيانا، وأحيانا الندم. الكيد: الاحتيال للإيقاع في المكروه.
هذه الآيات وأشباهها كثير، نزلت في قوم كانوا يتخذون مع الأعداء والكفار صلات وصداقات تبيح لهم إخبارهم بالأسرار والتحدث إليهم في شئون المؤمنين، وفي هذا خطر كل الخطر على كيان الأمة الإسلامية بلا شك، فنهوا عن هذا في غير موضع من القرآن.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا يليق بكم مع هذا الوصف الكريم، والنعت الجليل وهو الإيمان بالله ورسوله، لا يليق أن تتخذوا من غير المسلمين أخصاء وأصدقاء تؤثرونهم بالمودة وتطلعونهم على دخائلكم وأسراركم وكيف يكون منكم مودة لهم وهم كما وصف القرآن ونطق الواقع لا يقصرون في إيصال الفساد والخبال بكم وينفقون جهدهم كله في توفير الضرر لكم؟
وهم يتمنون لكم كل عنت ومشقة فإن لم يستطيعوا حربكم وإيذاءكم فهم يريدون من صميم قلوبهم كل فساد وألم لكم.
ألم تظهر البغضاء لكم والحسد عليكم من فلتات ألسنتهم وبين ثنايا حديثهم؟ وما في صدورهم من الحسد الكامن والداء الباطن كثير وكثير.
أيها المؤمنون قد بينا لكم الآيات والعبر التي ترشدكم إلى الخير وتهديكم إلى سواء السبيل، إن كنتم تعقلون فاتبعوها.
ولا غرابة في هذا فعداوتهم لكم شديدة وحسدهم لكم من عند أنفسهم، فإن مستكم حسنة استاءوا بها وإن أصابتكم سيئة فرحوا لها ثم انظر إلى تعبير القرآن بإساءتهم عند مس الحسنة وبفرحهم عند إصابة السيئة فهم لا يفرحون حتى تتمكن الإصابة ويستاءون عند أدنى مس للحسنة، ألا قاتلهم الله ولعنهم! وأما العلاج والمخلص الوحيد فهو دواء القرآن لكل هذا: الصبر والتقوى. فإن تصبروا في كل حال وتتقوا الله وتأخذوا الوقاية لكم من كيد عدوكم فإن الله ضمن لكم أنهم لن يضروكم شيئا من الضرر، إن الله بما يعملون محيط، وعليم خبير بكل خفاياهم وكيدهم فسيرده في نحورهم ويجازيهم على كل ذلك بشرط أن تصبروا وتتقوا.
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ الآيات من هنا إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم لا سيما غزوة أحد، لهذا رأينا أن نذكر شيئا من أخبار غزوة بدر وغزوة أحد حتى تستبين لنا الآيات وندرك حكمها وأحكامها.
غزوة بدر
كانت في السنة الثانية للهجرة، وبدر اسم لبئر بين مكة والمدينة سميت باسم صاحبها، وكانت هذه الواقعة نصرا مؤزرا للمسلمين وكارثة على المشركين زلزلت مكانتهم عند العرب بقدر ما مكنت للمسلمين في نفوس أهل الجزيرة.
ودعا النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها دعاءه المشهور:
«اللهم أنجز ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض».
قال راوي الحديث: فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده ثم التزمه من ورائه إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ (الآية).
غزوة أحد
كانت في السنة الثالثة للهجرة بعد غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون وهم قلة، وذلك أن قريشا حينما عادت إلى مكة بعد غزوة بدر أجمعوا أمرهم، وأنفقوا الكثير من أموالهم ليصدوا عن سبيل الله وجهزوا جيشا عدته ثلاثة آلاف مقاتل يقصدون النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة.
ولما وصل خبرهم إلى المدينة استشار محمد صلّى الله عليه وسلّم القائد والسياسى الموفق أصحابه، فأما الشيوخ ومعهم عبد الله بن أبىّ زعيم المنافقين ورأس اليهود في المدينة، فقالوا: نبقى في المدينة ونحصنها ونقاتلهم في الأزقة والدروب، وترمى النساء والولدان من على الآكام والبيوت.
وأما الشباب ومن لم يكن له شرف القتال في بدر، فأشاروا بالحرب وقالوا: هذه فرصة، وكان عمرو بن عبد المطلب يرى هذا الرأى أما النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يميل إلى رأى الشيوخ، وقد رأى في المنام أنه في درع حصينة وأن سيفه ذا العقال انكسرت ظبته (حده) وأنه رأى بقرة تذبح وأن معه كبشا، وقد أول الرؤيا: الحصن: المدينة، كسر السيف، موت عزيز لديه من أهل بيته، ذبح البقرة: قتل بعض أصحابه، الكبش: للفتك بزعيم من زعماء الشرك، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رجع لرأى الأغلبية القائلين بالحرب والساعين إليه فلبس وتجهز، وما قبل الرجوع بعد هذا
وقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يرجع حتى يقاتل».
وهم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار وكادوا ألا يخرجوا إلى أحد، ثم وفقهم الله فخرجوا، وذلك قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا (الآية).
فلم يبق بعد رجوع المنافقين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا سبعمائة رجل.
وذكر له قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى.
وصفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فجعل الرماة خمسين رجلا عليهم عبد الله بن جبير، وعلى أحد الجناحين الزبير بن العوام وعلى الآخر المنذر بن عمر. وجعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وكان اللواء مع مصعب بن عمير فتقدم به بين يدي رسول الله.
وأما المشركون فجعلوا على المينة خالد بن الوليد القائد المشهور وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل ومعهم مائتا فارس على رأسهم صفوان بن أمية، وعلى رماتهم وكانوا مائة عبد الله بن أبى ربيعة، ولواؤهم مع طلحة بن أبى طلحة من بنى عبد الدار.
وكان مع المشركين نساء بزعامة هند بنت عتبة، يضربن بالدفوف ويمشين وراء الصفوف وأمامها قائلات:
نحن بنات طارق... نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق... ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق... فراق غير وامق
وتقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الرماة
فقال لهم: احموا ظهورنا فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا، وإياكم أن تبرحوا مكانكم سواء قتلناهم أو قتلونا فلا تعينونا ولا تدافعوا عنا، اللهم فاشهد.
وقد خطب المسلمين خطبة طويلة حثهم فيها على الصبر والتقوى!! وقامت الحرب وما لبث أن دارت دائرة الحرب وانهزم المشركون وسقط لواؤهم من يد طلحة بعد قتله فحمله ابنه ثم أخوه وهكذا أخذ المسلمون يفتكون بالمشركين!!
فتنبه خالد بن الوليد ومن معه وانقضوا على المسلمين كالصاعقة وأشرعوا سيوفهم ورماحهم، ودارت الدائرة على المسلمين وانفرط عقدهم وسمع مناد ينادى: إن محمدا قد قتل، فأسرع المشركون واهتبلوا تلك الفرصة واختلط الأمر على المسلمين حتى صار يضرب بعضهم بعضا وولوا هاربين في الجبل، والرسول يدعوهم في أخراهم
ويقول: «إلىّ عباد الله إلىّ عباد الله أنا رسول الله».
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ وصار أبو سفيان يقول: يا معشر قريش أيكم قتل محمدا؟ فقال عمر بن قميئة: أنا قتلته.
وقد نجى الله رسوله، وكان النبل يأتيه من كل جانب، ولكن الله يعصمه من الناس، وكان أول من بشر بنجاته كعب بن مالك.
وقد أصيب رسول الله يوم أحد فكسرت رباعيته وشج وجهه حتى غاب حلق المغفر في وجنتيه وأصيبت ركبتاه.
وكان سالم مولى أبى حذيفة- رضى الله عنه- يغسل الدم عن وجه الرسول وهو يقول صلّى الله عليه وسلّم: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ وهو يدعوهم إلى الله- عز وجل-؟» فنزل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ.
ورأى صلّى الله عليه وسلّم سيف علىّ مختضبا فقال: إن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم ابن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وسيف أبى دجانة غير مذموم: ولا تنس الحباب بن المنذر وشماس بن عثمان وغيرهم ممن أبلوا بلاء حسنا.
ولم يقتل صلّى الله عليه وسلّم في حياته سوى أبىّ بن خلف أحد الذين تعاقدوا على قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيه نزلت آية: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. [سورة الأنفال آية ١٧].
وفيها قتل من المسلمين سبعون منهم حمزة سيد الشهداء وحبيب رسول الله، وقد بكى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارا.
وأما الحكمة في الهزيمة فليمحص الله الذين آمنوا ويعلمهم أن الأسباب والمسببات لا بد منها في تحصيل النصر، وأن قتل الرسول أو موته ليس سببا في ترك الدين والانقلاب على الأعقاب، وما أصابهم فمن أنفسهم.
ما نزل من القرآن في غزوتى بدر وأحد [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢١ الى ١٢٩]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
غَدَوْتَ: خرجت في الغداة، وهي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
تُبَوِّئُ: تهيء وتعد. مَقاعِدَ: أماكن وأنظمة للقتال. هَمَّتْ الهمّ:
حديث النفس واتجاهها إلى الشيء. أَنْ تَفْشَلا: تجبنا وتضعفا. أَذِلَّةٌ: قلة في العدد والعدد. يَكْفِيَكُمْ الكفاية: مرتبة دون الغنى وهي سد الحاجة.
يُمِدَّكُمْ الإمداد: إعطاء الشيء حالا بعد حال. بَلى: كلمة جواب كنعم إلا أنها لا تقع إلا بعد نفى، وتفيد إثبات ما بعدها. فوركم الفور: الحال السريعة. مُسَوِّمِينَ: معلمين. يَكْبِتَهُمْ من الكبت: وهو شدة الغيظ.
المعنى:
واذكر يا محمد وقت أن خرجت غدوة السبت لسبع خلون من شوال تبوئ المؤمنين وتنزلهم أماكن خاصة للقتال: فهؤلاء في موضع الرماة، وهؤلاء في الميمنة، وهؤلاء في الميسرة، وهكذا.
والله سميع لكل قول عليم بكل نية وفعل فهو العليم بما دار حينما شاورت الناس وهل كان رأى البعض عن إخلاص ونفاق أو لا؟
واذكر إذ همت طائفتان من الأنصار هم بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج لما رأوا انخذال عبد الله بن أبى بن سلول حدثتهم أنفسهم بالفرار ولكن الله عصمهم من الذلة ومنعهم من الجبن والفشل، وكيف لا والله وليهم ومتولى أمورهم؟... وعلى الله فليتوكل المؤمنون وليعتمدوا عليه لا على حولهم وقوتهم، وليس هذا يمنع من الأخذ
ولذلك ذكرهم الله بغزوة بدر حيث نصرهم على عدوهم لما كانوا متوكلين عليه ممتثلين أمره وأمر رسوله، ولقد نصركم الله ببدر وأنتم قلة إذ كنتم ثلاثمائة، والكفار ألف مقاتل، فلا عدد معكم ولا عدد، وهذا معنى الذلة.
فاتقوا الله بالثبات مع رسوله والصبر والوقوف عند أمره، فإن هذا عدة الشكر والشكر سبب النعم والنصر.
واذكر يا محمد وقت قولك للمؤمنين يوم أحد- وقد رأوا العدو يفوقهم وانخذل عنهم عبد الله بن أبىّ وأصحابه-: ألن يكفيكم إمداد الله لكم بثلاثة آلاف من الملائكة؟؟ بلى يكفيكم الإمداد بهذا، ومع ذلك إن تصبروا على الغنائم وشدة الجهاد ونزال العدو وتتقوا الله وتطيعوا أمر نبيكم ولا تتنازعوا ولا تختلفوا على الغنائم ويأتيكم المشركون من ساعتهم هذه بسرعة، نعم إن حصل هذا وهو الصبر والتقوى بمعانيهما، وإتيان العدو بسرعة يعجل الله نصركم وييسر أمركم ويمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مرسلين فاتكين بالعدو وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً.
الظاهر- والله أعلم- أن الله أمد المؤمنين يوم بدر بالملائكة لقوله- تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال الآية ٩].
وأما في غزوة أحد فقد وعد النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤمنين أن الله سيمدهم بثلاثة آلاف بل بخمسة آلاف إن صبروا واتقوا... ولم يتحقق الشرط وخالفوا النبي، ولو أمدهم لهزموا الكفار من فورهم.
والإمداد بالملائكة يجوز أن يكون من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم، أى:
إمداد مادى، وفي هذا روايات كثيرة، ويجوز أن يكون من قبيل الإمداد المعنوي وهذا هو الظاهر- والله أعلم- فيكون عمل الملائكة بالجيش عملا روحيا معنويا كتثبيت القلوب وتقوية النفوس وإذاعة روح الطمأنينة فيقاتل الجيش عن عقيدة، وفي جانب العدو يشيعون روح الهزيمة والانخذال ويكثرون سواد المسلمين في نظرهم.
وما جعل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الآية إلا بشرى لكم يبشركم بها كي تطمئن قلوبكم ويهدأ روعكم بوعده بالنصر لكم.
وما النصر على الأعداء إلا من عند الله وحده بقطع النظر عن العدو وعدده وعدده مهما كانت فالله هو العزيز الذي لا يغالب الحكيم في كل شيء يفعله.
وليس معنى هذا ترك الأخذ بالأسباب بل الواجب أن تأخذ بها معتقدا أن الله فوق هذه الأسباب وأنه خالقها وليست مؤثرة بطبعها، فالاعتماد على الله والتوكل عليه بعد الأخذ بها، ولعل انهزام المسلمين في أحد لعدم أخذهم بالأسباب كمخالفتهم للقائد ونزاعهم وخلافهم وغزوهم بأنفسهم.
فعل الله ما فعل من نصركم يوم بدر وإمدادكم بالملائكة ليقطع ويهلك طائفة من رءوس الكفر والشرك بالقتل والأسر أو يكبتهم ويغيظهم ويخزيهم فينقلبوا خائبين غير ظافرين وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً»
أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا إلى الله، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر والشقاق فإنهم ظالمون لأنفسهم.
وأما أنت يا محمد فليس لك من الأمر شيء «٢» إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب فلا تبتئس ولا تتألم منهم وتدعو عليهم بقولك «كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا» ! لا تفعل هذا فربما يتوب الله على بعضهم، وقد تاب على أبى سفيان والحارث بن هشام وسهل بن عمر وصفوان بن أمية.
ثم أكد الله- سبحانه وتعالى- أن الأمر بيده بقوله: ولله ملك السموات والأرض وما فيهما يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بحكمته وعدله، وهو الغفور الذي يستر الذنوب إن أحب، الرحيم بالخلق حيث يترك العقاب بالحكمة التامة والسنن المحكمة.
(٢) وعلى هذا فقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ معترض، وما بعده معطوف على ما قبله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
المفردات:
أَضْعافاً ضعف الشيء: مثله، فإذا ضاعفت الشيء ضممت إليه مثله.
سارِعُوا: أسرعوا، والمراد: اعملوا ما به تحصلون على مغفرة من الله وجنة.
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ: هما حالتا السرور والضرر، أى: الرخاء والشدة
المناسبة:
لما نهى الله المؤمنين عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين لأنهم خطر عليهم وبين أنهم إن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا، ثم ضرب الله المثل لبيان أثر التقوى والصبر في غزوتى بدر وأحد وما فعله الكفار وخاصة اليهود والمنافقين، بين بعد هذا وذاك فحش صفة لازمة لليهود وحذر منها المسلمين وهي الربا واستتبع هذا ذكر لون من ألوان الترغيب والترهيب.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا لا يليق بكم وقد خالط قلوبكم نور الإسلام وبرد اليقين أن تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة كما كنتم تفعلون في الجاهلية- وهذه ثانى آية في الربا.
فقد كانوا يعطون المائة حتى إذا حل أجلها فإما أن يدفع المدين وإما أن يزيد في الدين وهكذا حتى يصبح المال المقروض أضعافا مضاعفة، وهذا ما يسمى ربا النسيئة أو الربح المركب وهو ما ورد فيه نص القرآن كما قال ابن عباس- رضى الله عنه-.
وضابطه:
كل قرض جر نفعا للمقرض في مقابل النسيئة، أى: التأخير والأجل سواء كانت المنفعة نقدا أو عينا كثيرة أو قليلة وعلى ذلك فالتعامل مع المصارف بفائدة ٣ در صد أو ٤ در صد مثلا هو ربا ونسيئة بدليل قوله- تعالى-: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ «١» أى: بدون زيادة أصلا، أما ربا الفضل فهو بيع ربوى بمثله مع زيادة في أحد المثلين، كبيع إردب قمح جيد بإردب وكيلتين من القمح مع رضا الطرفين وهو يكون في المطعومات كالبر والذرة والشعير وكل ما تجب فيه الزكاة من الحبوب وكذا النقدان.
روى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا سواء بسواء... إنى أخشى عليكم الرماء، أى: الربا» «١»
. وكذا حديث أبى سعيد الخدري المتقدم.
والجمهور من العلماء على أن الربا بنوعيه خطر على الأمة والفرد كما بينا ذلك في آية البقرة لا فرق بين ربا النسيئة وربا الفضل سواء كانت الزيادة قليلة أم كثيرة، والتقيد بالأضعاف المضاعفة في الآية هنا لبيان الواقع الذي كان يحصل عندهم في الجاهلية فلا مفهوم له، وقد تكون هذه الآية هي المرحلة الوسطى بين الإشارة التي في سورة الروم آية ٢٩ وبين التحريم الكلى القاطع في سورة البقرة كما تقدم.
وبعض العلماء يرى أن ربا النسيئة ثابت بنص القرآن وخطره ظاهر جسيم إذ هو الربح المركب الذي يتضاعف فيه مال المرابى إلى أضعاف كثيرة وهو الذي لعن الله آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده وآذن صاحبه بالحرب إن لم يكف وهو صفة اليهود وديدنهم.
وأما ربا الفضل فثابت بالحديث، وخطره قليل وتحريمه ليس لذاته بل أمر عارض، فإنه قد يجر إلى ربا النسيئة فتحريمه من باب سد الذرائع فهو يباح عند الضرورة والحاجة.
وأنت كمسلم تقدر ضرورتك.
والرأى عندي أن الواجب على الحكومة أو الأغنياء أن ينشئوا مصرفا للتسليف بلا فائدة كمؤسسة القرض الحسن ومصاريف الموظفين والعمال واستهلاك المبانى والمصارف إن لم تكن على حساب الحكومة فلا مانع من أن تؤخذ من المدين.
واتقوا الله في كل ما تأتون وتذرون خاصة الربا، ولا تكن قلوبكم كقلوب اليهود.
فإنكم إن اتقيتم الله حق تقواه كنتم كمن يرجو الفلاح في الدنيا والآخرة.
واتقوا النار التي أعدت للذين يبتعدون عن الله ولا يمتثلون أمره، لا سيما هذا الداء الوبيل فإنه من أكبر الكبائر حتى كأن صاحبه في عداد الكافرين.
وانظر يا أخى كيف نفّر القرآن من الربا وأكد ذلك بأربعة تأكيدات: اتقوا الله، اتقوا النار، أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وفي هذا كله فلاح وبعد عن النار ورحمة وأى رحمة؟
وبادر بعمل الطاعات كالبر والصدقة والبعد عن الآثام كالربا وغيره، وبادروا إلى مغفرة من ربكم وإلى جنة أعدت للعاملين جنة واسعة فسيحة عرضها كعرض السماء والأرض معا وهذا بيان لأقصى ما يتصوره الخيال وتمثيل لعظمتها وكبرها وخص العرض لأنه أقل من الطول.
هذه الجنة أعدت للمتقين، الذين أخذوا الوقاية لأنفسهم من عذاب الله بالعمل الصالح وها هي ذي أوصافهم:
١- المنفقون في السراء والضراء في الشدة والرخاء في كل حال وعلى كل وضع ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة ٢٨٦] وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطلاق ٧].
فانظر إلى المؤمنين كيف يبذلون لله ويعطون الفقراء من غير عوض؟ والمرابين الذين يستنزفون دماء المحتاجين ويخربون بيوت المدينين ويأكلون مال الغير بغير حق بل وبمنتهى الظلم والقسوة.
٢- وهم الذين يكتمون غيظهم ويملكون أنفسهم عند الغضب فلا يعتدون على الغير خاصة إذا كانوا في قوة ومنعة.
٣- وهم الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس فلا حقد ولا ألم في نفوسهم بل يعفون عن طيب خاطر وطواعية.
٤- وهناك صفة أعلى إذ هم مع كظم الغيظ والعفو عن الناس يحسنون إليهم ولذلك أحبهم الله ووصفهم بالإحسان والله يحب المحسنين.
روى أن جارية لعلى بن الحسين- رضى الله عنهما- جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة: فسقط الإبريق من يدها، فشجه، فرفع رأسه فقالت: إن الله يقول:
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ فقال: قد كظمت غيظي. فقالت: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفوت عنك. قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله.
٥- وهم الذين إذا فعلوا ذنبا كبيرا يتعدى ضرره إلى الغير كالزنا والربا والسرقة
سنة الله في الخلق والعاقبة للمتقين [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٧ الى ١٤١]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
كان الكلام في وقعة بدر وأحد وما حصل للمؤمنين فيهما وموقف الكفار وصفتهم مع بيان صفة المؤمنين وجزائهم.
ثم بعد هذا ذكر القرآن سنة الله في الخلق وأن ما حصل كان موافقا للسنة مع بيان الحكمة فيما وقع.
المعنى:
انظروا أيها المسلمون فأنتم أولى بالنظر والاعتبار، انظروا إلى من تقدمكم من الأمم، سيروا في الأرض حتى تقفوا على أخبار الماضين فستجدون أن لله طريقا واحدا لا يختلف: سُنَّةَ اللَّهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا «١» فإن أنتم أيها المسلمون سرتم سير الطائعين الموفقين، وصلتم إلى ما وصلوا إليه حتما، وإن سرتم سير العصاة المكذبين كانت عاقبتكم خسرا، وفي هذا تنبيه لمن خالف النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد.
فكأنهم انتصروا يوم بدر لسلوكهم سبيل الطائعين المتوكلين على الله وهزموا يوم أحد لأنهم تنازعوا ففشلوا وخالفوا أمر الرسول ولم يصبروا ولم يتقوا كما أمروا، ففي الآية الكريمة سبيل الأمن والخوف، وفي طيها الوعد والوعيد، والقرآن الكريم يشير في جملته إلى أن مشيئة الله تسير على نظم ثابتة قد ربطت فيها الأسباب بالمسببات وإن يكن الله قادرا على كل شيء، ففي الحرب أو الزرع أو التجارة مثلا إذا سار فيها صاحبها على الطرق المألوفة والنظم المحكمة نجح وإن كان شريرا مجوسيا. وإن جانب المألوف وركب رأسه واتبع غير المعقول كان من الخاسرين ولو كان شريفا علويّا، وأحق الناس بالسير على المعقول والاستفادة بهدى القرآن هم المؤمنون في كل ما يأتون ويذرون والسير في الأرض ومشاهدة الآثار أثبت في معرفة الأخبار من التاريخ
ورواية الأخبار «فما راء كمن سمعا».
كل إنسان له عقل يفكر به يعرف أن لله سنة في الكون لا تختلف عند جميع الناس في كل العصور مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم والله يهدى من يحب إلى صراط مستقيم.
وإذا كان المؤمنون هم المنتفعين بما ذكر يجب ألا يضعفوا لما أصابهم من مس السلاح عند القتال وما يلزمه من التدبير، ولا يحزنوا على من قتل منهم في أحد فهو شهيد مكرم عند الله يوم القيامة، وما وقع ليس نصرا للمشركين ولكنه درس شديد للمسلمين، ولذا
ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو خيرت بين الهزيمة والنصر يوم أحد لاخترت الهزيمة»
لما في تلك الغزوة من التربية لكم على تحمل المشاق وبيان أن خروجكم على نبيكم ومخالفة أمره خروج على سنة الله في أسباب الظفر فلا تعودوا لمثله أبدا!! وكيف تهنون وتحزنون والحال أنكم الأعلون بمقتضى سنة الله في جعل العاقبة للمتقين؟ ألا تعلمون أن قتلاهم في النار وقتلاكم في الجنة؟! والمراد بالنهى عن الوهن والحزن النهى عن الاستسلام إلى ذلك، بمعنى التأهب والاستعداد مع العزيمة الصادقة والتوكل على الله والوثوق بالنصر، فإن الله وعد بذلك إن كنتم مؤمنين فاعملوا بهذا.
وكيف تضعفون ولا تعلمون حقيقة ما أصابكم من الألم، فأنتم إن أصابكم ألم في أحد فقد أصاب الكفار ألم أكثر منه في بدر، وإن هزمتم في أحد فقد انتصرتم في بدر.
فيوم لنا ويوم علينا | ويوما نساء ويوما نسرّ |
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موقعة أحد: «لا يذهب معنا في القتال (غزوة حمراء الأسد) إلا من قاتل»
فذهب المؤمنون وهم في أشد التعب والنصب.
لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا هذه العبارة وأمثالها تفيد تحقيق الإيمان وحصوله في الخارج حتى يحصل علم الله به، فإذا علم الله إيمان فلان كان لا بد أن يكون إيمانه
وليكرم الله أناسا منكم بالشهادة والقتل في سبيل الله والاستشهاد درجة عظيمة سيأتى بيانها فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ (سورة النساء ٦٩) وهذه الشهادة لا يعطيها الله إلا لمن أحبه واصطفاه والله لا يحب الظالمين أبدا.
وليمحص الله الذين آمنوا، فهذه الحوادث العنيفة التي ترج المجتمع تمحص الإيمان الخالص من الإيمان المشوب بالضعف والاستكانة حتى تصفو النفوس فلا يبقى فيها درن.
وكثير من الناس مصابون بداء الغرور الديني فهم يفهمون في أنفسهم أنهم كاملوا الإيمان حتى إذا ما محصوا بالابتلاء قلّ الديانون وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ففي غزوة أحد تخلف البعض وفر البعض.
وصعدوا في الجبل لا يلوون على أحد، وثبت البعض حول النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل، واتخذ البعض نفسه ترسا واقيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم رضى الله عن الجميع ووفقنا حتى نقتدي بهم.
ومن الحكم العالية محق الكافرين فإنهم إذا ظفروا مرة طغوا وبغوا فيكون هلاكهم مرة واحدة، وإذا هزموا كما في بدر، تقلمت أظفارهم وأصابهم الضعف والهلاك شيئا فشيئا حتى يبادروا، والعاقبة للمتقين.
دروس لمن شهد غزوة أحد [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٢ الى ١٥١]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
وَلَمَّا بمعنى (لم) إلا أن مدخولها متوقع الحصول، فالمراد نفى الجهاد في الماضي وتوقعه في المستقبل. الجهاد: احتمال المشقة ومكافحة الشدائد. تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ المراد: تمنى الشهادة في سبيل الله. تَلْقَوْهُ: تشاهدوا هوله وتروا خطره. انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ انقلب على عقبيه ونكص على عقبيه: رجع وراءه، والمراد: رجعتم كفارا بعد إيمانكم.
مُؤَجَّلًا: ذا أجل، وهو المدة المضروبة للشيء. كَأَيِّنْ: كلمة تفيد الكثرة. رِبِّيُّونَ: جماعات كثيرة واحدهم ربّىّ وهو الجماعة. اسْتَكانُوا الاستكانة: الاستسلام والخضوع لأن صاحبها يستكين للخصم. إِسْرافَنا:
مجاوزة الحد في كل شيء.
الرُّعْبَ: شدة الخوف. سُلْطاناً: برهانا وحجة، ولما فيهما من القوة على دفع الباطل سمى سلطانا. مَثْوَى المثوى: المكان الذي يكون مقر الإنسان ومأواه.
يبين الله في هذه الآيات أن الثواب في الآخرة منوط بالجهاد والصبر، كما أن الفوز في الدنيا منوط بإقامة العدل وسلوك الطرق المألوفة، فسنة الله لا تختلف، وقد ذكر مع هذا عتابا لبعض من شهد أحدا.
المعنى:
لا ينبغي لكم أن تظنوا بالله الظنون وتصابوا بداء الغرور فتفهموا أن دخول الجنة لا يكون من غير جهاد في الله وصبر على البأساء والضراء وحين البأس «لا»... إن دخول الجنة لا يكون إلا بالجهاد الكامل لإعلاء كلمة الله ورفع راية الوطن، وإنما يكون بجهاد العدو وجهاد النفس خاصة في الشباب، وجهاد حب المال عند البذل في الأعمال العامة النافعة وغير ذلك.
وتمكن الصبر في أنفسكم تمام التمكن على أداء التكاليف وعلى الطاعة وعلى البلاء والحوادث.
روى عن الحسن أنه قال: بلغني أن رجالا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون: لئن لقينا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لنفعلن ولنفعلن فابتلوا بذلك، فلا والله ما كلهم صادق، فأنزل الله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ.
نعم لقد كان كثير منكم يتمنى لو يستشهد في سبيل الله تمنيا من نفسه استحق أن يعبر عنه المولى بهذا التأكيد: وَلَقَدْ كُنْتُمْ حتى إذا جد الجد وقامت الحرب وشاهدتم بأعينكم مشاهدة كاملة وأنتم تنظرون نظرة فاحصة ليست عاجلة، توانيتم وانحزتم إلى الجبل وأصعدتم فيه لا تلوون على أحد والرسول يدعوكم فلا يجيبه أحد.
وهذا عتاب وأى عتاب؟ نعم كان مع النبي من بايعه على الموت ودافع عنه دفاعا مجيدا حتى قتل البعض ونجا البعض كما تقدم في سرد حوادث الغزوة، ومع هذا كان الخطاب عاما ليكون الإرشاد عاما فيتهم المؤمنون الصادقون أنفسهم ليزدادوا إيمانا وليرعوى المقصرون فلا يعودوا لمثلها أبدا.
في هذه الغزوة- كما قلنا سابقا- أشيع قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانت الإشاعة سببا في شيوع قالة السوء، حتى قال بعض المنافقين: لو كان نبيا ما قتل!! من لنا برسول إلى عبد الله بن أبىّ ليأخذ لنا الأمان عند أبى سفيان؟ وهكذا مما جعل أنس بن النضر يبرأ إلى الله من مثل هذا الكلام ويقاتل حتى يقتل دفاعا عن الدين.
وكانت هذه الإشاعة سببا في انفضاض بعض الناس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعاتبهم الله بقوله. وما محمد إلا رسول كمن سبقه من الرسل فهم قد خلوا وانتهت حياتهم بموت كموسى وعيسى، أو قتل كزكريا ويحيى، ومع هذا ظلت ديانتهم كما هي وأتباعهم متمسكون بها، فالمعقول أن تظلوا كما كنتم ولو مات أو قتل فإن الرسول بشر كسائر الأنبياء له في الدنيا مهمة تنتهي بانتهاء أجله، ومن كان يعبد الله فإن الله باق، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات.
أفتنقلبون على أعقابكم فترتدون عن دينكم أو يطير صوابكم لو مات أو قتل مع أنه
ومن ينقلب على عقبيه ويعود إلى الكفر فلن يضر الله بشيء من الضرر، وإنما يضر نفسه وأما من ثبت على دينه وجاز هذا الامتحان الدقيق فهو من المجاهدين الصابرين الشاكرين الذين سيجزيهم الله خير الجزاء، وقد كانت هذه الآية تمهيدا لموت النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أداء رسالته وقولا فصلا لأمثال عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.
ثم بعد ما لام القرآن المؤمنين على ما بدر منهم حينما بلغهم قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر لهم:
بأنه رسول كبقية الرسل، لم يطلب لنفسه العبادة، حتى إذا مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم كافرين، وإنما كان يأمركم بعبادة الله، والله حي لم يمت، ومهمته البلاغ فقط، فإذا ليس لوجوده دخل في استمرار عبادة الله.
وهنا يلومهم أيضا على أن النبي لو قتل- كما أشيع- ما كان لكم أن تفعلوا ما فعلتم.
ليس من شأن النفوس، ولا من سنة الله فيها، أن تموت بغير إذنه أو مشيئته، التي يجرى بها النظام العام في الكون، وارتباط الأسباب بالمسببات، فالله وحده هو المتصرف في كل شيء، وله الأمر فيأذن للملك يقبض الروح في الموت العادي وغيره، في الإنس والجن حتى في نفسه، الموكل بقبض الأرواح.
كتب هذا كتابا محكما مؤقتا بوقت لا يتعداه، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة النحل آية ٦١] وإذا كان العمر لله، وانقضاؤه بإذنه وإرادته. فكيف يصح الجبن والوهن والضعف والانخذال؟؟
ومن يرد ثواب الدنيا بجهده وعمله، وأعطاه الله شيئا من ثوابها. ومن يرد ثواب الآخرة وجزاءها أعطاه الله شيئا من ثوابها، على حسب إرادته ومشيئته في كلا الحالين، وأما أنتم يا من ضعفتم وفشلتم وتنازعتم وخالفتم أمر نبيكم وقائدكم لأجل الغنيمة، ما الذي تريدون بعملكم؟ إن كنتم تريدون الدنيا فالله لا يمنعكم من ذلك، ولكن ليس هذا طريقها، إن العمل الذي يدعوكم إليه محمد صلّى الله عليه وسلّم هو للدنيا والآخرة.
ولا تنس أن التعبير بقوله: يُرِدْ دليل على أن الإرادة للشخص هي التي تكيف العمل فتارة يكون خيرا وتارة يكون شرا
«إنما الأعمال بالنيات»
أما الله- سبحانه وتعالى- فسيجزى الشاكرين نعمه. الواقفين عند حدوده، الثابتين مع نبيه.
فآتاهم الله ثواب الدنيا والسعادة فيها بالرضا والقناعة والعزة وحسن التوكل على الله، وثواب الآخرة وهو الجزاء الأوفى، أولئك رضى الله عنهم ورضوا عنه وذلك هو الفوز العظيم.
وأنتم يا أصحاب الرسول محمد وخاتم الأنبياء والمرسلين أولى بهذا.
روى أن بعض المنافقين حينما أذيع خبر مقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
من لنا برسول إلى ابن أبىّ يأخذ أمانا لنا عند أبى سفيان؟ وقال بعضهم: لو كان نبيا ما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم، وهذا أبو سفيان ينادى: العزى لنا ولا عزى لكم، فنزلت هذه الآيات.
وبعد ما رغب المؤمنين في الاقتداء بأنصار الأنبياء السابقين وبين جزاء هذا وحذرهم من متابعة الكفار فإن في ذلك خسارة لهم.
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا كأبى سفيان وعبد الله بن أبى والداعين إليهما، إن تطيعوهم يردوكم كافرين كما كنتم، خاسرين في الدنيا بالذلة بعد العزة وتحكم العدو فيكم، وحرمانكم من السعادة والملك الذي وعده الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً. «١» وأما خسران الآخرة فعذاب شديد يوم القيامة.
بل الله مولاكم ولا مولى لهم، فلا يليق أن تفكروا في ولاية أبى سفيان أو غيره ولا
سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب بسبب شركهم بالله أصناما وحجارة، ليس لهم في هذا حجة ولا برهان، بل هم إذا خلوا إلى أنفسهم وجدوها تعبد معبودات كل حجتهم في عبادتها أنهم وجدوا آباءهم لها عابدين إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وعبادتهم الأصنام تورث في عقولهم خبالا وفي نفوسهم ضعفا وأى ضعف؟ وإذا رأوكم متمسكين بدينكم كان ذلك أدعى إلى إلقاء الرعب في قلوبهم وشكهم في أنفسهم، وهذا ما حصل ويحصل.
هذا حالهم في الدنيا، وفي الآخرة مأواهم النار وبئس القرار فإنهم الظالمون المشركون.
أما إذا رأيت المؤمنين مع الكافرين وقد انعكست الآية، وقد ألقى الرعب في قلوب المؤمنين فاعلم أنهم ليسوا مؤمنين حقا ولكنهم مسلمون بالوراثة والاسم فقط.
ما أصاب المسلمين في أحد، وسببه [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٥]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
تَحُسُّونَهُمْ: تقتلونهم، من حسه، أى: أذهب حسه بالقتل. بِإِذْنِهِ:
بأمره ودعوته. فَشِلْتُمْ: جبنتم وضعفتم. صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ: كفّكم عنهم وحوّلكم. لِيَبْتَلِيَكُمْ: ليختبركم، والمراد: ليعاملكم معاملة من يختبر وإلا فالله عالم لا يحتاج إلى اختبار. تُصْعِدُونَ من أصعد بمعنى أبعد في الذهاب وأمعن فيه.
لَبَرَزَ: لخرج. مَضاجِعِهِمْ: مصارعهم التي يصرعون فيها.
اسْتَزَلَّهُمُ: أوقعهم في الزلل والخطأ.
سبب النزول:
روى الواحدي عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد قال الناس: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى النصر؟
فأنزل الله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ (الآية). وتلاها ذكر الحوادث وأسبابها.
المعنى:
وتالله لقد وفّى لكم ربكم وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم المشركين وقت أن أخذتم تقتلونهم قتلا وتفتكون بهم فتكا، كل ذلك بتيسير الله ومعونته، وإذنه وإرادته.
نعم صدقكم الله وعده، حتى ضعفتم في الرأى وجبنتم في الحرب، وفشلتم وتنازعتم واختلفتم فقال قائل: فيم وقوفنا وقد انهزم المشركون؟ وقال بعضهم: لا نخالف أمر الرسول أبدا، وما ثبت مكانه إلا عبد الله بن جبير في نفر قليل من أصحابه، وكان ما كان من أمر انهزامكم مما ذكر في (غزوة أحد).
منكم من يريد الدنيا وهم الذين تركوا أماكنهم طلبا للغنيمة، ومنكم من يريد الآخرة وهم الذين ثبتوا في مكانهم ولم يخالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
ثم كفّكم عنهم حتى تحولت الحرب ودالت الدولة. فعل هذا بكم ليمتحن إيمانكم ويتبين أمركم، فيظهر الصادقون من المنافقين، ولقد عفا الله عنكم بذلك الابتلاء الذي محا أثر الذنب من نفوسكم وتاب عليكم لما ندمتم على ما فرط منكم، إنه هو التواب الرحيم وهو ذو الفضل العظيم على المؤمنين وكم نقمة في طيها نعم.
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوكم قائلا: «إلىّ عباد الله، إلىّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة»
يدعوكم في الجماعة المتأخرة الذين ثبتوا مكانهم ولم تنخلع قلوبهم وظلوا يدافعون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
صرفكم عنهم وقت أن كنتم تصعدون في الجبل وتبعدون في السير ألحقتموه للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعصيانكم أمره، ومخالفة رأيه، ويصح أن يفهم (أصابكم غما بعد غم) هزيمة المشركين وإشاعة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم وقتل الأحبة وفوات النصر والغنيمة.
وما فعل بكم كله إلا ليمرنكم على الشدائد فإنها هي التي تخلق الرجال والأمم ولئلا تحزنوا على شيء فات، ولا ما أصابكم من عدوكم، والله خبير بأعمالكم فمجازيكم عليها.
روى الزبير- رضى الله عنه- أنه قال: لقد رأيتنى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتد علينا الخوف فأرسل الله علينا النوم والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا.
ثم أنزل الله الأمن على القلوب والطمأنينة على النفوس بالنعاس حتى كان يسقط السيف من أحدهم فيأخذه، والنعاس في هذه الحالة نعمة من نعم الله وحدّ فاصل بين حالتي الأمن والخوف، فإنه لا ينام الخائف أبدا.
هذا النعاس غشى طائفة من الناس هم المؤمنون الصادقون الملتفون حول رسول الله.
وهناك طائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم، وملأ الخوف قلوبهم ما بهم إلا همّ أنفسهم لا همّ الدين ولا همّ الرسول والمسلمين، وذلك لأنهم لا يثقون بنصر الله ولا يؤمنون بالرسول، فقلوبهم هواء، وهؤلاء هم المنافقون كمعتب بن قشير ومن لف لفه من أتباع ابن أبىّ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية الأولى.
يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لنا من الأمر والنصر نصيب؟ يسألون كالمؤمنين في الظاهر والواقع أنهم ينكرون أن لهم شيئا من النصر والغلب.
. «٢»
هم يضمرون في أنفسهم العداوة والحقد لكم ويظهرون غير ذلك ولا غرابة فهم المنافقون والمخادعون.
يقولون: لو كان لنا من النصر والفوز نصيب ما قتلنا ها هنا، فهزيمتنا دليل واضح على أن النصر لن يأتى لنا وأن محمدا ليس نبيا إذ لو كان نبيا ما هزم، فهم يربطون بين النبوة والنصر. وما علموا أن النصر من عند الله وتوفيقه وأن الهزيمة من أعمالهم ومخالفتهم، ومع ذلك فالعاقبة للمتقين.
وهؤلاء ختم الله على قلوبهم، فغفلوا عن أن الأعمار بيد الله وأن النصر من عنده وأن الذين كتب عليهم القتل، لا بد من حصوله ولو كانوا في بروج مشيدة.
قل لهم: لو كنتم في بيوتكم وقد كتب عليكم القتل، لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى حيث يصرعون ويقتلون، فالحذر لا ينجى من القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير والأمر كله بيد الله والعاقبة للمتقين.
وقد فعل الله ما فعل، ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص والتقوى، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان حتى تصل إلى الغاية القصوى في اليقين، والله عليم بصاحبات الصدور التي لا تنفك عنها من الأسرار والضمائر فهو لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو الغنى عن الابتلاء والاختبار ولكن يفعل هذا لينكشف حال الناس بعضهم لبعض فلا ينخدع إنسان بظاهر أخيه.
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان من المشركين والمسلمين وتركوا أماكنهم أو تولوا منهزمين، إنما أوقعهم الشيطان في هذا الخطأ بسبب بعض أفعالهم السابقة فإن الذنب الذي يفعله الإنسان يترك نكتة سوداء في القلب يرتكز عليها الشيطان فينفذ منها إلى الإنسان ويوحى إليه بالسوء.
ولقد عفا الله عنهم لما تابوا وأنابوا وكانت عقوباتهم في الدنيا جوابر لهم، إن الله غفور للذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة.
(٢) سورة الصافات آية ١٧٣.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
المفردات:
ضَرَبُوا: سافروا في الأرض للتجارة والكسب. لِإِخْوانِهِمْ: لأجل إخوانهم، أى: في شأنهم والمراد بالأخوة ما هو أعم من أخوة النسب والدين والمودة:
غُزًّى: جمع غاز، وهو المقاتل. حَسْرَةً: ندامة في قلوبهم.
لما بين الله فيما مضى سبب الهزيمة وأن الشيطان قد استزلهم ببعض ما كسبوا.
بين هنا ما يوسوس به الشيطان للناس فيعتقدون هذا الخطأ الفاسد.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تكونوا كأولئك المنافقين الذين طمس الله على قلوبهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فأصبحوا لا يهتدون إلى صواب في رأى، فهم يقولون في شأن إخوانهم في الدين والرأى! حينما يسافرون للتجارة والكسب أو
عجبا لهؤلاء البله أهم يظنون أن المنايا ترسل بلا حساب، وأن الهلاك لا يكون إلا بالسفر أو الحرب؟! ولله در خالد بن الوليد الذي يقول: ما في شبر من جسدي إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح وها أنا ذا أموت على الفراش كالبعير، فلا نامت أعين الجبناء!! ألم يسمعوا قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا «١».
وإذا لم يكن من الموت بدّ | فمن العجز أن تموت جبانا |
ولست أبالى حين أقتل مسلما | على أى جنب كان في الله مصرعي |
فأنتم المؤمنون المعتقدون أن الله يحيى ويميت وأنه هو المؤثر وحده وأنه يقول: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «٣» والله بما تعملون بصير، فلا تخفى عليه خافية من خفايا نفوسكم ومعتقداتكم، وفي هذا ترغيب للمؤمنين وتهديد للكافرين، وتالله- أيها المسلمون- لئن قتلتم في سبيل الله أو متم فهناك مغفرة الله ورضوانه خير بكثير جدا مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية.
ألا ترى معى أن القرآن يربى فينا روح التضحية والكفاح من أجل العقيدة ورفع لواء الإسلام ويعدنا بأن من يقتل في سبيل الله فهو حي يرزق عند ربه وعند الناس حي بالذكر الطيب والثناء الجميل.
وانظر إلى تقديم القتل في الجهاد والموت في غيره اعتبارا بالكثير الغالب.
(٢) سورة آل عمران آية ١٨٥.
(٣) سورة النساء آية ٧٨.
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
المفردات:
لِنْتَ لَهُمْ اللين: الرفق والسهولة في المعاملة. فَظًّا الفظ: السيئ الخلق الشرس. غَلِيظَ الْقَلْبِ: قاسيه الذي لا يتأثر بشيء. لَانْفَضُّوا مِنْ
: لتفرقوا من حولك. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ التوكل: الاعتماد عليه.
يَغُلَّ الغل: الأخذ خفية كالسرقة، ثم شاع في الأخذ من الغنيمة قبل التقسيم.
السّخط: الغضب العظيم. مَأْواهُ: مصيره من: تفضل وأنعم.
أَنْفُسِهِمْ: جنسهم. يُزَكِّيهِمْ: يطهرهم من أدران الوثنية وزائف العقائد.
المناسبة:
نعمة تتلوا نعمة، وفضل يتلو فضلا من الله ورحمة، فقد عفا عنهم وتاب عليهم ووفقهم لما فيه خير الدنيا والآخرة، وبرحمته وفضله كانت أخلاق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وحسن معاملته للناس وإرشادهم إلى الخير والفلاح.
المعنى:
خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم إثر خطاب المؤمنين، فبرحمته- تعالى- وهدايته كنت سهلا في معاملتهم، لينا في إرشادهم وهدايتهم وقبول عذرهم، فيما فرط منهم.
وهكذا كان الرسول مثلا أعلى للرئيس الحكيم والزعيم الموفق.
ولو كنت (لا قدر الله) سيّئ الخلق، ضيق العقل، فظا جافى القلب، غليظ الكبد ما اجتمعوا حولك، وما تعلقت قلوبهم بك وكيف هذا؟ وقد أرسلت رحمة للعالمين وشهد لك القرآن وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سورة القلم آية ٤٢ وإذا كنت- يا رسول الله- بهذا الوصف فاعف عنهم، وتجاوز عما يبدر منهم واطلب لهم المغفرة من الله إنه هو الغفور الرحيم، وشاورهم في أمور الدولة ونظام الجماعة في الحرب والسياسة والاقتصاد والاجتماع أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ.
أما أمور الدين فالقرآن هو الحكم وقد شهد لك بأنك لا تنطق عن الهوى، ولذا كانوا جميعا يقفون عند رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم والوحى في الدين وأحكامه، والمراد: ذم على ما أنت عليه كما فعلت في بدر وأحد من مشاورة أصحابك، وإن حصل خطأ في بعض
ولذا كان رسول الله دائم الاستشارة في الأمور كلها.
فالحكومة الإسلامية حكومة شورية عادلة دستورها القرآن وهاديها المصطفى وسنته، وليست الحكومات العباسية والأموية وغيرها دليلا عليها بل هي ملك عضوض وحكومات مادية استبدادية لم تحكّم القرآن في كل مشكلاتها.
فإذا محص الرأى وظهر فانزل على حكم الأغلبية واعزم وسر على بركة الله واعتمد عليه وحده، فإن الإنسان مهما بعد نظره وحصف رأيه لا يرى من حجاب الغيب شيئا، وعلى الله فليتوكل المؤمنون فإنه هاديهم إلى الصراط المستقيم.
والتوكل على الله يكون بعد البحث والنظر واستقصاء الجزئيات التي مرت، فأنت مكلف بطرق الأسباب الظاهرة والطرق المنتجة غالبا وبعد هذا لا تعتقد أن هذه الأسباب مؤثرة بطبعها وأنك واصل قطعا إلى ما تحب، لا، اعتقد أن هناك قوة فوق القوى وإرادة فوق كل إرادة هي إرادة الله- سبحانه وتعالى- فتوكل عليه واطلب منه التوفيق والسداد.
فالله إن ينصركم فلا غالب لكم أبدا: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ «١».
وإن يخذلكم الله فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟ لا أحد، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون لأنه لا ناصر لهم سواه.
روى الكلبي ومقاتل: أنه قيل للرماة الذين تركوا أماكنهم يوم أحد: لم تركتم أماكنكم؟ فقالوا: نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم من أخذ شيئا من مغنم فهو له وألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى؟ فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال لهم: بلى ظننتم أننا نغل ولا نقسم.
إن الله قد عصم أنبياءه ورفع درجاتهم عن سفساف الأمور التي يترفع عنها متوسطو الناس، فما يصح ولا يليق بمكانة النبوة التي رفعها الله أن يأخذ نبي شيئا من الغنائم
ومعنى الإتيان: أن الله يعلمها حق العلم ضرورة أن من يأتى بالشيء يعرفه.
وبعض المفسرين يرى أن معنى الإتيان أن الذي غل يأتى يوم القيامة وقد حمل المسروق في عنقه واستدلوا على ذلك بعدة روايات يمكن تأويلها.
ثم توفى كل نفس يوم القيامة ما كسبت من خير أو شر وهم لا يظلمون وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سورة الكهف آية ٤٩].
وإذا كانت كل نفس توفى أجرها كاملا من خير وشر فهل يعقل أن يسوى بين المحسن والمسيء؟ أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ «١» ؟ أفمن اتبع رضوان الله وعمل عملا صالحا وابتعد عن الغل والفحش والمنكر حتى كأن رضوان الله أمامه.
وقائده فلا يرى إلا حيث يرضى الله، ولا يكون حيث يغضب الله، أهذا يكون كمن رجع بغضب من الله يوازيه ويساوى ذنبه وجرمه، واتخذ غضب الله مكانا يبوء إليه ولا يتركه؟؟
أظن لا يسوى الله بين هذا وذاك!! إن كلا ممن اتبع رضوان الله من المؤمنين ومن باء بغضب الله الشديد لهم درجات ومنازل عند ربهم يوم القيامة فأعلى الدرجات: الرّفيق الأعلى درجة النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلّى الله عليه وسلّم وأسفلها الدرك الأسفل: درك أولئك المنافقين والمشركين والكافرين، ولا غرابة فالله بصير بما يعملون.
وكيف تظنون بنبيكم المصطفى هذه الظنون؟
ولقد منّ الله وتفضل به على الناس أجمع إذ أرسله رسولا ورحمة للعالمين ومنّ عليكم أنتم إذ أرسله من أنفسكم وجنسكم فهو عربي من ولد إسماعيل، وإذا كان كذلك كنتم أدرى الناس به وبخلقه وصدقه وطبعه ولسانه، وعلى هذا كنتم السابقين إلى الإسلام
وهو يتلوا عليكم آياته الدالة على قدرته ووحدانيته وعلمه وكمال نعمته إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران آية ١٩٠].
وهو يزكيكم ويطهركم من كل دنس ورجس، فقد أخرج من العرب الجاهليين أمة لها نظام وحكم وسياسة وإدارة حكمت أقوى الأمم من الفرس والروم.
ويعلمكم الكتاب والقرآن والكتابة والحكمة، حتى كان منكم الكتاب والعلماء والحكماء والقادة في جميع العلوم والمعارف وقد كانوا من قبل بعثته لفي ضلال مبين.
بعض قبائح المنافقين وأعمالهم [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٨]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
مُصِيبَةٌ: ما أصابهم يوم أحد من الهزيمة وقتل سبعين من المسلمين. أَنَّى هذا أى: من أين لنا هذا؟ وهو تركيب يفيد التعجب الْجَمْعانِ: جمع المسلمين وجمع المشركين. فَادْرَؤُا: فادفعوا عن أنفسكم...
لما حكى الله قولهم واتهامهم النبي صلّى الله عليه وسلّم المعصوم من كل عيب وخطأ أردف هذا ببيان خطئهم فيما قالوا وفعلوا يوم أحد!
المعنى:
يقول- سبحانه وتعالى- منكرا لقولهم هذا رادّا لفعلهم وأنه لا يليق: أفعلتم ما فعلتم وفشلتم وتنازعتم وعصيتم أمر رسولكم، ولما أصابتكم مصيبة في أحد قد أصابهم ضعفاها يوم بدر- وذلك أنهم قتل منهم في أحد سبعون، وقد قتلوا يوم بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين- قلتم أيها المنافقون حين هزمتم في أحد: من أين لنا هذا؟!! تعجبا، أى: من أين جاءت لنا هذه المصائب كأنهم فهموا أن النصر دائما في جانب المسلمين مهما خالفوا وعصوا أوامر الدين.
وللأسف توجد فئة من المسلمين يفهمون مثل هذا الفهم ويعتقدون أن الله ناصر المسلمين وإن خالفوه وعصوا رسوله فالله- سبحانه- ينكر عليهم تعجبهم قائلا: إن كنتم هزمتم في أحد فقد هزمتم المشركين في بدر على أن هزيمتكم في أحد أنتم سببها قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ واعلموا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلم يكن هناك شيء خارج عن قدرته ولكنه- سبحانه- لحكم هو يعلمها- وقد صرح القرآن ببعضها- أراد لكم هذا المصير في غزوة أحد، وما أصابكم يوم التقى الجمعان في أحد، فبإذن الله وإرادته وتقديره لأن كل شيء في الوجود خاضع لإرادته وحكمته.
وقد حصل هذا، ليعلم الله المؤمنين، ويتميزوا عن غيرهم فيعرفوا أنفسهم، والمراد: تحقيق إيمان الذين آمنوا وظهوره في الخارج.
وكذا يتحقق نفاق الذين نافقوا منكم فقد كانوا حينما خرجوا من المدينة إلى أحد ألف مقاتل ثم رجع عبد الله بن أبىّ ومن معه من المنافقين في الطريق وكانوا ثلاثمائة
إن هؤلاء الذين نافقوا قيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله وجاهدوا للدفاع عن الدين والحق والعدل ابتغاء مرضاة الله لا ابتغاء مكسب أو عرض دنيوى، أو: تعالوا قاتلوا على أنه دفاع عن النفس والأهل والوطن فإن هزيمة المسلمين هزيمة لسكان المدينة وضياع لكرامتها، فما كان من هؤلاء المنافقين إلا أنهم زاغوا وقعدوا وتكاسلوا قائلين: لو نعلم أنكم تلقون قتالا في غزوتكم هذه لاتبعناكم وسرنا معكم ولكننا نعلم أنكم لا تقاتلون.
وقيل في معنى كلامهم: لو نعلم أنكم ذاهبون لقتال لذهبنا معكم ولكنكم ذاهبون لهلاك محقق فنحن لا نذهب معكم هؤلاء الناس يوم أن قالوا هذه المقالة وتخلفوا عن جيش المسلمين هم يومئذ للكفر أقرب منهم للإيمان، فقد ظهرت حقيقتهم، فبعد أن كانوا مستورين يطلق عليهم لفظ الإيمان أصبحوا لا ينطبق عليهم الوصف وصاروا أقرب إلى الكفر فإن من يقعد عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأوطان لا يصح أن ينطبق عليه وصف المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحجرات آية ١٥].
هؤلاء يقولون: نحن مؤمنون- بأفواههم فقط- وهذا ديدن المنافقين يقولون ما ليس في قلوبهم، وهل يخلو نفاق من كذب وبهتان؟ والله أعلم بما يكتمون من الكفر والعداوة للمسلمين وتمنى هزيمتهم وزوالهم.
هذه مقالتهم عن القتال لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ ولهم مقالة أخرى بعد الموقعة أشد خطرا وضررا.
إنهم قالوا لأجل إخوانهم ومن على شاكلتهم في الجنس والدين والجوار وقعدوا عن القتال وتخلفوا عن شرف الجهاد، قالوا في شأن إخوانهم: لو أطاعونا ولم يسيروا مع المسلمين ما قتلوا كأنهم حصروا أسباب الموت والهلاك في ذهابهم إلى ساحة القتال! تبّا لهؤلاء الجبناء الرعاديد!! ألم يعلموا أن كثيرا ممن يذهب إلى القتال ينجو ومن يتخلف يموت وهل سبب الموت القتال فقط؟!
المستشهدون والمجاهدون في سبيل الله وجزاؤهم [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٩ الى ١٧٥]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
المفردات:
يَسْتَبْشِرُونَ الاستبشار: السرور الحاصل بالبشارة. لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ
المراد بهم: المقاتلون في سبيل الله ولم يستشهدوا. الْقَرْحُ: الألم الشديد، والمراد به: ما حصل يوم أحد. أَحْسَنُوا الإحسان: إتقان العمل على أكمل وجه. وَاتَّقَوْا أى: أخذوا الوقاية من عذاب الله وخافوا الإساءة والتقصير في العمل. حَسْبُنَا اللَّهُ: كافينا. الْوَكِيلُ: الذي توكل إليه الأمور.
فَانْقَلَبُوا: فرجعوا بسرعة. الشَّيْطانُ هل هو إبليس؟ أو هو نعيم بن مسعود؟
سبب النزول:
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن منقلبهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا؟» فقال الله تعالى: «أنا أبلغهم عنكم» فنزلت هذه الآية.
والآيات مرتبطة بما قبلها إذ بعد أن ذكر الله مقالة المنافقين في القتال وقولهم لإخوانهم: لو قعدتم معنا ما قتلتم. أردف هذا بما يلاقيه المقاتلون في سبيل الله خاصة المستشهدين حتى لا يلقوا بالا لأقوال المنافقين وليكون ذلك حثّا للمؤمنين على الجهاد وتربية لهم على نصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله.
المعنى:
ولا تحسبن أن الذين جاهدوا في سبيل الله وقاتلوا وقتلوا أمواتا لا يبعثون ولا يجازون على ما قدموا، لا: بل هم أحياء بعد استشهادهم مكرمون عند ربهم مختصون بتلك المكانة العليا التي استأثروا بها (فالعندية هنا) عندية مكانة وتشريف لا عندية مكان وحدود. هم أحياء عند ربهم حياة مؤكدة ثابتة بدليل قوله: يُرْزَقُونَ والحياة التي عناها القرآن وأكدها حياة غيبية الله أعلم بها، وليس من الخير البحث في أنها حياة مادية أو روحية بل نؤمن بما جاء به القرآن تاركين التفصيل والجدل فيما لا يجدي.
وهم يستبشرون ويفرحون بما يتجدد لهم من نعمة الحياة عند ربهم ورزقه لهم ويفرحون بما آتاهم الله من فضله.
الخلاصة: أن الله- سبحانه وتعالى- ذكر الشهداء وأنهم أحياء عنده يرزقون، وأنهم فرحون بما حباهم الله من فضل وكرامة، وهذا الفضل مجمل، تفصيله ما بعده، أى: فضل يعود على إخوانهم في الحرب وفضل يعود عليهم أنفسهم وهو الخاص بهم في دار الكرامة وقد كرر للتأكيد، وفرحون بمن يجاهد في سبيل الله ولم يستشهد بعد، وهم من خلّفوهم في الحرب هؤلاء المجاهدون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ليذهب الخيال في تصورهما كل مذهب ثم ختم الآية بالكلام على إخوانهم في الجهاد، بقوله: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، فالمراد بهم: المجاهدون الذين لم يستشهدوا بعد، وقد وصفهم بقوله:
الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم من الجراح والألم الشديد في غزوة أحد ولبوا نداء الرسول حينما طلبهم للقاء أبى سفيان في غزوة حمراء الأسد «١» الذين أحسنوا منهم العمل وأتقنوه واتقوا عاقبة تقصيرهم في العمل، وخافوا الله زيادة على ما هم عليه من الألم، أجر عظيم يتناسب مع عملهم وجهودهم، الذين قال لهم الناس- وهم نعيم بن مسعود كما ورد في بعض الروايات-: إن الناس- وهم قريش- قد
روى أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فبلغوا الروحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا على تركهم بقايا المسلمين، وهموا بالرجوع ليستأصلوا ما بقي من المؤمنين بعد أحد فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في أثر أبى سفيان وقال: لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس (القتال في أحد) فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جماعة من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد- موضع على ثمانية أميال من المدينة- (وكان بأصحابه القرح والألم) فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا إلى مكة مسرعين، فنزلت الآية
.
وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ: كافينا الله ونعم الوكيل، فهو على كل شيء قدير ونعم المولى ونعم النصير.
وفي الحديث: «إذا وقفتم في الأمر العظيم فقولوا:
حسبنا الله ونعم الوكيل»
وفي رواية: للبخاري عن ابن عباس: قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم.
لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه أعطاهم من الجزاء أربعة: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا، فرضّاهم عنه ورضى عنهم وذلك هو الفوز العظيم، وفي هذا إشارة إلى الخسارة الفادحة التي لحقت بالقاعدين المتخلفين المنافقين وذلك معنى قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ (الآية).
إنما ذلك الشيطان- وهو نعيم بن مسعود- المثبط للمسلمين يخوف أولياءه الذين قعدوا عن رسول الله، وقيل: المعنى إنما ذلك قول إبليس الملعون يخوفكم أولياءه من صناديد الكفار كأبى سفيان، فلا تخافوهم وخافوني فاتبعوا أمرى وجاهدوا مع رسولي، سارعوا إلى ما يأمركم به إن كنتم مؤمنين حقا.
ما يؤخذ من الآية:
١- أن المؤمن القوى لا يكون جبانا، بل الجبن لا يجتمع مع الإسلام الكامل.
٢- مكانة الاستشهاد في سبيل الله وجزاؤه عند الله.
٣- أن الخوف يجب أن يكون من الله فقط لا من الأعداء مهما كانوا.
٤- على المؤمن أن يعالج أسباب الخوف فلا يسترسل فيها حتى على تلك العادة الرذيلة.
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
المفردات:
وَلا يَحْزُنْكَ حزن يحزن، وأحزن يحزن: بمعنى يكدرك ويؤلمك.
حَظًّا: نصيبا. اشْتَرَوُا الْكُفْرَ: أخذوا الكفر بدلا من الإيمان بفعل المشترى يعطى شيئا ويأخذ بدله. نُمْلِي: نمهل، والإملاء: الإمهال والتملية بين الإنسان وشأنه يفعل ما يشاء، مأخوذ هذا من قولهم: أملى لفرسه: إذا أرخى لها الحبل لترعى ما تشاء.. لِيَذَرَ: ليترك. يَمِيزَ أى: من مازه بمعنى ميّزه. الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ المراد بهما: المؤمن والمنافق. يَجْتَبِي: يختار.
لما أظهر الكافرون والمنافقون ما كانوا يضمرونه للنبي صلّى الله عليه وسلّم من أمثال قولهم: لو كان
المعنى:
ولا يحزنك يا محمد الذين يسارعون في نصرة الكفر والسعى في إعلاء كلمته ويبذلون المال والرجال في خدمته كأبى سفيان وغيره من صناديد الكفار واليهود والمنافقين.
ولا يحزنك هؤلاء لأنهم يحاربونك فيضرونك إنما يحاربون الله القوى القدير، فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم والعاقبة عليهم. وقيل: المعنى إنهم لن يضروا حزب الله من المؤمنين لأن الله ناصرهم فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم، وقد بين الله ذلك بقوله:
يريد الله ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة من الثواب لأن طبيعتهم قد فسدت، وميلهم دائما إلى الشر والضرر، وهكذا سنة الله وإرادته مع أمثالهم، ولهم عذاب في الدنيا والآخرة سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ «١» عذابا عظيما هائلا يستحقونه لمساعدتهم في نصرة الكفر وتأييده، وهل هذا الجزاء للمسارعين في نصرة الكفر فقط؟ لا. بل كل من اختار الكفر وآثره على الإيمان ظنا منه أنه ربح في هذا الاستبدال لن يضر الله شيئا من الضرر، بل الضرر عليهم ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ولهم عذاب أليم مؤلم للغاية في الدنيا والآخرة.
وإذا كان هذا حال الكفار فكيف ترى أن الله يمد لهم في الدنيا ويملى لهم في أعمالهم؟
ولذا أجاب الله بقوله: (ولا يحسبن الذين كفروا) أن إملاءنا لهم خير فإن الإملاء يكون خيرا إذا كان صاحبه يستغله في عمل الخير له، وهؤلاء يملى لهم الله فتكون عاقبتهم أنهم يزدادون إثما على إثم ويبالغون في الباطل والبهتان، فلهم عذاب مهين، وإنما نملي لهم ليتوبوا، ويقلعوا عما هم فيه فيكون الإملاء خيرا، ولكن جرى في علم الله أن بعضهم لن يعود إلى الخير ويؤوب إلى الرشد فهؤلاء لهم عذاب مهين، وأى إهانة أشد من هذا؟؟
وما كان الله ليترك المؤمنين على حالهم فلا يميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن هذا يضر جماعة المسلمين، فإنه لا بد للجماعة من أن تعرف قوتها الحقيقية فتسير
ولذلك جرت سنة الله أن يميز بالابتلاء سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [سورة الأحزاب ٦٢] ولكن الله يختار من يشاء من رسله لأن مرتبة الاطلاع على الغيب مرتبة عليا عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [سورة الجن آية ٢٦ و ٢٧] فالرسول يطلعه الله على بعض الغيب فيخبر ببعضه عباده فيكون منهم الذين يؤمنون بالغيب، ولذا ختم الآية بقوله: فآمنوا بالله وما يخبر به رسوله. وإن تؤمنوا بذلك وتتقوا الله فلكم أجر عظيم وثواب جزيل. وفقنا الله لأن نكون من هؤلاء.
البخل شر يوم القيامة [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٤]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
سَيُطَوَّقُونَ: إما من الطاقة، فالمعنى: سيكلفون ذلك يوم القيامة.
وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ «١» أو: من الطوق، فالمعنى سيلزمون إثمه في الآخرة كما يلزم الطوق الرقبة فلا يجدون عنه مصرفا. مِيراثُ: ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. سَنَكْتُبُ ما قالُوا: سنسجل ما قالوه، والمراد: إننا سنعاقبهم عليه. ذُوقُوا: أصل الذوق: إدراك المطعومات بالفم، ثم أريد به هنا إدراك المحسوسات مطلقا. الْحَرِيقِ: المحرق والمؤلم، والمراد: عذاب هو المحرق والمؤلم.
عَهِدَ إِلَيْنا: أمرنا به في التوراة. القربان: ما يتقرب به إلى الله.
الزُّبُرِ: جمع زبور، وهو الكتاب. الْمُنِيرِ الذي ينير الطريق، والمراد الإنجيل.
كان ما مضى من التحريض على بذل النفس في الحرب وجزاء الاستشهاد، وهنا علاج لمرض من أخطر الأمراض وهو البخل، إذ حياة الأمم متوقفة على بذل النفس والمال. وإلى هنا انتهى الكلام عن غزوة أحد وما يتعلق بها.
المعنى:
ولا يظن أحد أن بخل الذين يبخلون بما حباهم الله من فضله خير لهم كما يتوهمون أن كنز المال ينفع في الملمات وأن الجود يفقر، والإقدام قتّال، لا: بل هو شر مستطير
أما خطره في الدنيا فظاهر في الحملات الشعواء على الأغنياء الجشعين وشيوع الأفكار الهدامة للنظم الاجتماعية العامة، وأما شره في الآخرة فما عبر القرآن الكريم بأنهم سيلزمون عاقبة بخلهم إلزام الطوق في العنق فلا يجدون عنه صرفا ولا محيلا.
وفي بعض الروايات عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في مانع الزكاة.
يطوق بشجاع أقرع، وروى بشجاع أسود، وقيل: يجعل ما بخل به حية يطوقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول: أنا مالك أنا كنزك.
وكيف تبخلون بالمال أو الجاه أو العلم؟ لأن هذا كله مما آتاه الله، والآية مطابقة يدخل فيها كل ذلك وإن كان دخول المال فيها دخولا أوليا؟
وكيف تبخلون بالمال وتكنزونه للولد والوارث؟ ولله- سبحانه- ما في السموات والأرض مما يتوارثه أهلوها من مال وغيره فما لهم يبخلون بملكه وقد طلبه منهم؟ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد ٧] وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة ٣] وفي الآية إيماء إلى أن كل ما منحه الله للإنسان من مال أو جاه أو قوة أو علم هو عرض زائل وعارية مستردة، وصاحبه فان غير باق، ولله تصريف الأمور، فربما جمعت المال ليرثه ابنك حتى يكون غنيا والله لم يقدر له ذلك فيضيع ما جمعت، ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير لا تخفى عليه منكم خافية.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة ٢٤٥ الحديد ١١] فقالوا: يا محمد؟ أفقير ربك؟ يسأل عباده القرض ونحن أغنياء؟ فأنزل الله: لقد سمع الله... الآية
وفي رواية وقع نقاش بين أبى بكر- رضى الله عنه- وفنحاص اليهودي في هذا الموضوع فلطمه أبو بكر فشكا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال لأبى بكر: لم فعلت؟
قال: يا رسول الله، إن عدو الله قال: إن الله فقير ونحن أغنياء فأنكر فنحاص ذلك فنزلت الآية
تأييدا لكلام أبى بكر وتسجيلا على فنحاص، والمعنى: سنحفظ عليهم مقالتهم ونحصيها عليهم فيعاقبون على ما قالوا أشد العقوبة.
ولا غرابة في ذلك فهم اليهود الذين مرنوا على النفاق ومردوا على السوءات فهم الذين قتلوا الأنبياء قديما بغير حق ولا ذنب إلا أنهم يقولون: ربنا الله، ونسبة القتل
وهؤلاء اليهود حاولوا مرارا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم (وما حادثة أكلة خيبر ببعيدة).
وجزاء هؤلاء أن الله سينتقم منهم أشد الانتقام ويقول لهم إهانة وتنكيلا بهم وتعذيبا:
ذوقوا عذابا هو الحريق المؤلم فإنكم أهل له كما أذقتم المؤمنين سابقا عذاب الدنيا وألمها.
هذا العذاب الأليم لهم بما قدمته أيديهم وجنته جوارحهم، وذكر الأيدى للتغليب وللتأكيد بأنهم فعلوا ما فعلوا بأنفسهم.
ولأن الله هو الحكم العدل وليس بذي ظلم للعبيد أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ
«١» ! أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ ما لكم كيف تحكمون!!؟ فما ترك عقاب المسيء مساواة بينه وبين المحسن، ولا شك أن هذا وضع للشيء في غير موضعه، سبحانه وتعالى عما يشركون!! هؤلاء اليهود لهم السوءات الكبيرة فهم البخلاء بالمال، المانعون للزكاة، القاتلون للأنبياء، الظالمون في كل عمل، القائلون كذبا: إن الله عهد إلينا ألّا نؤمن برسول أيا كان حتى يأتينا بقربان نتقرب به إلى الله فتأكله النار، وكانوا يفترون على الله الكذب ويذيعون أن الله أوحى إليهم في التوراة هذه المقالة.
فرد الله عليهم أن هذه معجزة، والمعجزة سيقت لتأكيد الرسالة وإثبات صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم المبعوث، وقد أرسلت لكم المعجزات وأتتكم الرسل بالبينات الواضحات الدالات على صدقهم فلم كذبتموهم ولم تصدقوهم؟ ولم قتلتموهم إن كنتم صادقين؟
فإن كذبوك يا محمد بعد هذا كله فقد كذبت رسل قبلك كثيرة جاءوا بالبينات المعجزات وأيدوا بالكتب خاصة الكتاب المنير وهو الإنجيل، وهذه تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
المفردات:
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ: تعطونها وافية غير منقوصة. زُحْزِحَ: نحّى عنها وأبعد. مَتاعُ: ما يتمتع وينتفع به. الْغُرُورِ: مصدر غره، أى: خدعه.
لَتُبْلَوُنَّ البلاء: الاختبار، والمراد: لتعاملن معاملة المختبرين حتى تظهر حالكم على حقيقتها. أَذىً كَثِيراً كالطعن في الدين والكذب على الله ورسوله.
والصبر: حبس النفس على ما تكره، ومقاومة الجزع بالتقوى والرضا. مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ: من معزومات الأمور، أى: مما يجب العزم عليه من الأمور، أو مما عزمه الله أن يكون بمعنى مما حتم أن يكون.
المعنى:
ما مضى كان في تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم ببيان حال الناس مع الأنبياء قديما وحديثا..
وهنا تسلية عامة للنبي وأصحابه.
وأنتم لا تيأسوا ولا تحزنوا من ضر أصابكم أو ألم حاق بكم فكل نفس ذائقة الموت، وإنما تأخذون حقكم وجزاءكم وافيا كاملا غير منقوص يوم القيامة، يوم الجزاء والوفاء، يوم القسطاس والميزان، يوم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
فمن نحّى عن النار وأبعد عنها وأدخل الجنة فقد فاز فوزا عظيما، وهذا التعبير فيه إشارة إلى أن أعمال الناس في مجموعها تدعو أصحابها إلى النار لأن الإنسان فيه معاني الحيوانية والشهوة أكثر بكثير من معاني الخير، فكأن كل شخص مشرف عليها، وأن مجرد الزحزحة عنها فوز وأى فوز؟! فالمزحزحون عن النار: من غلبت صفاتهم الروحانية على صفاتهم الحيوانية فأخلصوا أو اتجهوا لله- سبحانه وتعالى-.
وما الحياة الدنيا- والمراد منها حياتنا هذه ومعيشتنا الحاضرة التي نشغلها باللذات الجسمانية كالأكل والشرب أو المعنوية كالجاه والمنصب والسيادة- هذه الحياة متاع الغرور لأن صاحبها دائما مغرور بها مخدوع.
شبه الدنيا بصفقة خاسرة اشتراها صاحبها من النفس والشيطان والهوى وقد غشه فيها البائع وغره ودلس عليه، فلما انتهى الأمر تبين فسادها ورداءتها.
فالواجب على العاقل ألا يغتر بها وألا يسرف في حبها ويترامى في أحضان مظاهرها وإلا أصابه شررها، والويل له عند فراقها.
وبعد هذا سلّى الله نبيه المصطفى بتسلية عامة في الحرب والسلم: وهي كما لقى من الكفار يوم أحد ما لقى!! سيلقى أذى كثيرا في النفس والمال.
والمقصود من هذا توطين النفس وتربيتها على تحمل الأذى والشدائد.
والابتلاء من الله في الأموال يكون بطلب البذل في جميع وجوه الخير والبر وفيما يعرض من الحوائج والآفات، والابتلاء في النفس يكون بطلب الدفاع والجهاد في سبيل الله والقتل في الحرب والموت العادي في الأهل والأولاد.
ولكن العلاج الوحيد والدواء الرباني لكل ما مضى هو الصبر والتقوى ونعم هذا الدواء لكل داء.
إن تصبروا وتتقوا يؤتكم أجرين من رحمته وذلك هو الفوز العظيم.
بعض قبائح أهل الكتاب [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٧ الى ١٨٩]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
المفردات:
مِيثاقَ: هو العهد المؤكد الذي أخذ على أهل الكتاب بوساطة الأنبياء.
لَتُبَيِّنُنَّهُ: لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار حتى يعرفه الناس على وجهه الصحيح. فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ: هذه العبارة مثل في ترك الأمر، ويقتضيها وضع الأمر نصب أعينهم. أَتَوْا: فعلوا. بِمَفازَةٍ: فوز من العذاب.
المناسبة:
إيذاء أهل الكتاب للنبي كثير، والعجيب أن يطعنوا في الدين وهم قد أمروا بأن
المعنى:
واذكر يا محمد وقت أن أخذ الله العهد المؤكد بوساطة الأنبياء على أهل الكتاب، وأقسم عليهم ليبينن الكتاب للناس ويظهرونه ولا يحرفونه عن موضعه حتى يفهمه الناس ولا يضطربون فيه.
وقد نبذ أهل الكتاب التوراة والإنجيل وراءهم ظهريا.
فكان منهم أمة يحملون الكتاب كما يحمل الحمار الأسفار فلا يعرفون منه شيئا، ومنهم الذين يحرفون الكلم عن موضعه ويغيرون ويبدلون ويشترون به ثمنا قليلا، ومنهم الذين لا يعلمون منه إلا أمانى يتمنونها ومشتهيات يشتهونها.
واشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا الفانية كالرياسة الكاذبة والمال الزائل، فكانوا مغبونين في هذا البيع والشراء الذي فيه العرض الفاني بدل النعيم الباقي فبئس ما يشترون.
روى الشيخان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل اليهود عن شيء في كتبهم فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيده لهم
وروى الشيخان من حديث أبى سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية
وهي تحتمل المعنيين... والقرآن الكريم بين فيها حالا أخرى لأهل الكتاب حتى لا نكون مثلهم وهي أنهم كانوا يفرحون بما أوتوا من التأويل والتحريف للكتاب ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم قادة وأئمة يهتدى بهم، وهذا فرح باطل وغرور كاذب، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب وعلماؤه وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك وإنما فعلوا نقيضه، وهؤلاء قد اشتبه أمرهم على الناس فهم يحسبون أنهم أولياء الله وأنصار دينه، وهم الذين حرفوه وغيروه فلا تحسبنهم بمفازة ومنجاة من العذاب بل لهم عذاب أليم غاية الألم في الدنيا والآخرة.
وفي هذا تسلية ووعد بالنصر للنبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه.
ما تشير إليه الآية:
إن الواجب على العلماء وعلى كل من يفهم كتاب الله أن يبينه ويوضحه ويظهر ما فيه من عظة وأسرار في الأحكام العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والأحكام الدينية وعلاقتها بصالح الأمة- وها نحن نأمل أن يوقظ الله العلماء فيثابروا ويتعاونوا ويستهينوا بالصعاب حتى يخرجوا للناس كنوز الدين بما يلائم المجتمع الحاضر. فإن الواجب ينحصر في شيئين:
(أ) تبيين الدين وحقيقته لغير المؤمنين حتى يهتدوا به ويدخلوا فيه.
(ب) تبينه للمسلمين حتى يهتدوا به ويفهموه على حقيقته ويعرفوا مخلصين أنه الطريق الوحيد للخلاص من كل ما يضرنا ويؤذينا من خلق فاسد وداء كامن ومستعمر جاثم، فو الله! أيها الناس: لا خلاص لنا إلا بالدين ولا خير إلا في القرآن، فتعلموه وافهموه وادرسوه تكونوا من الناجين في الآخرة.
وقد روى عن على- كرم الله وجهه- أنه قال: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
خَلْقِ الخلق: التقدير والترتيب الدال على النظام والإحكام. السَّماواتِ السماء: ما علاك. وَالْأَرْضِ: ما نعيش عليها. لَآياتٍ: لأدلة على وجود الله وقدرته ووحدانيته وعلمه. الْأَلْبابِ: العقول. باطِلًا: عبثا لا نتيجة له. سُبْحانَكَ: تنزيها لله عما لا يليق به. الذَّنْبِ: هو الكبيرة، وقيل:
ما كان بينك وبين ربك. السيئة: هي الصغيرة، وقيل: ما كان بينك وبين الخلق.
المناسبة:
قال الإمام الرازي: اعلم أن المقصود من الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الكلام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والألوهية والكبرياء، والجلال لله- سبحانه وتعالى- فذكر هذه الآية.
المعنى:
ما هذا الكون البديع الصنع؟ وما هذا العالم المحكم الترتيب، وما هذه السماء وأعاجيبها، وما بال نجومها وأفلاكها، وما هذه الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها؟! وما هذه الأرض وما طحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، وأنبت فيها كل نبت وأرساها، وشق فيها أنهارها وحلاها، وما هذا الليل والنهار، وهذا الفلك الدوار، ليل يزحف بجحافله، ونهار يختفى بمعالمه، ثم لا يلبث أن تعاد الكرة بنظام ومسرة، أليس يدل هذا على الخبير البصير؟ المحكم التدبير، الواحد القدير؟ إن في ذلك لآيات لأولى الأبصار!!
عن عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: هل لك يا عائشة أن تأذنى لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت: يا رسول الله إنى لأحب قربك وأحب هواك (ما تهوى
وأولوا العقول والأرواح الطيبة هم الذين ينظرون إلى السماء والأرض وما فيهما فيذكرون الله ويذكرون نعمه وفضله على العالم في كل حال من قيام وقعود واجتماع ذكر بالقلب حتى يطمئن أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعد آية ٢٨] ثم يتبعون ذكر الله بالتفكير في بديع صنعه وأسرار خلقه وما في هذه العوالم من منافع وحكم وأسرار تدل على كمال العلم وتمام القدرة والوحدانية التامة في الذات والصفات والأفعال.
والمراد التفكر في خلق الله لا في ذات، الله، فقد ورد «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق» ومع التفكر اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا، وما حال هؤلاء الذين يجمعون بين التذكر والتفكير؟ يقولون باللسان وقلبهم بين الخوف والرجاء: ربنا ما خلقت هذا الكون باطلا وما خلقت هذا الخلق عبثا أو كمّا مهملا! بل لا بد لهذا الخلق من نهاية يأخذ المطيع والعاصي جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإذا كان كذلك فقنا يا ربنا واصرف عنا عذاب النار بعنايتك وتوفيقك لنا. واجعلنا مع الأبرار بهدايتك ورحمتك يا أرحم الراحمين، ثم إنهم بعد أن يصلوا بالفكر والذكر إلى حقيقة هذا العالم ومآله وقد دعوا ربهم أن يقيهم عذاب جهنم في الحياة الثانية يقولون متضرعين: ربنا إنك من تدخله النار فقد أهنته وأخزيته لأن من يعصيك فأنت قاهره ومذلّه، وكيف لا وقد سخرت هذا العالم وأخضعته لكمال قدرتك وعظيم إرادتك، فمن عاداك فلا ملجأ منك إلا إليك، وليس له شفيع أو نصير، وما للظالمين من أنصار!! وقد وصف من يدخل النار بأنه يستحق هذا لظلمه وتجاوزه الحد المعقول، هذا ما نتجه الفكر والنظر الصحيح في الكون وما فيه.
وأما السمع فحينما سمعوا نداء الرسل الكرام قالوا: ربنا إننا سمعنا رسولا ينادى
التقصير في حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم لبعض، ربنا وأمتنا مع الأبرار الأطهار من عبادك المخلصين، ربنا وأعطنا ما وعدتنا (وأنت الصادق الوعد) من حسن الجزاء والنصر في الدنيا والنعيم السابغ في الآخرة جزاء على تصديق رسلك واتباعهم، ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة يوم تكشف السرائر وتهتك الحجب والستائر.
إنك يا رب لا تخلف الميعاد وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «١».
فاستجاب لهم ربهم بأن أعطى كل عامل جزاء عمله كاملا غير منقوص سواء كان ذكرا أو أنثى. لا فرق عنده، بل العدل يقتضى المساواة التامة في الجزاء، وقد أشير إلى أن هذا الجزاء إنما هو باعتبار العمل لا باعتبار شيء آخر:
«يا فاطمة لا أغنى عنك من الله شيئا» «٢» حديث شريف.
وإنه لا فرق بين الذكر والأنثى بعضكم من بعض، فالرجل مولود من الأنثى والأنثى مولودة من الرجل، إذ كلهم لآدم وآدم من تراب.
وقد أتبع هذا الحكم ببيان سببه، فلا غرابة في هذا فالذين هاجروا من ديارهم وتركوا أموالهم وأولادهم وديارهم إرضاء لله ورسوله، أو أخرجوا منها عنوة وأوذوا في سبيلي وابتغاء مرضاتي وقاتلوا وقتلوا. لأكفرن عن هؤلاء جميعا سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أثابهم الله ثوابا من عنده وذلك هو الفوز العظيم. والله عنده حسن الثواب، وحيث ربط القرآن الكريم هذا الجزاء العظيم بالهجرة والقتال والإيذاء في سبيل الله يمكننا أن نؤكد ما قلناه أولا من أن السبب في الجزاء هو العمل وأنه لا فرق بين ذكر وأنثى، وإنما الفرق بين عمل وعمل، وإخلاص وعدمه.
(٢) أخرجه البخاري في كتاب التفسير حديث رقم ٤٧٧١.
أن الله وعد من فعل ذلك بأمور ثلاثة:
١- محو السيئات وغفران الذنوب جوابا لقولهم: فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.
٢- هذا الثواب مقرون بالتبجيل والإجلال جوابا لطلبهم: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ.
٣- إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهذا ما طلبوه بقولهم: وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ.
يستفاد من الآية:
(أ) أن الجزاء منوط بالعمل لا بشيء آخر.
(ب) أن الإسلام يمحو الفوارق بين الذكر والأنثى في العمل والثواب، وهو أول دين كرم المرأة وعرف لها حقوقها، وليس أخذها نصف الرجل في الميراث هضمها لحقها، بل هي مكرمة عند زوجها أو أخيها، والرجل مكلف بزوجة أخرى والولاية لحفظها وصونها وقصرها على ما هو أهم من ذلك.
المؤمنون والكافرون وجزاء كل [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ٢٠٠]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
لا يَغُرَّنَّكَ الغرة: غفلة في اليقظة، يقال: غرّنى ظاهره، أى: قبلته في غفلة عن امتحانه. تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا: تصرفهم في التجارة والمكاسب. مَتاعٌ المتاع: ما يتمتع به صاحبه، ووصف بالقلة لأنه قصير الأمد زائل وكل زائل قليل.
جَهَنَّمُ: اسم للدار التي يجازى فيها الكافرون في الآخرة. الْمِهادُ: المكان الممهد الموطأ كالفراش، والمراد به جهنم وسميت بذلك تهكما. نُزُلًا النزل: ما أعد للضيف من الزاد وغيره. الأبرار: جمع بار، وهو: التقى المبالغ في التقوى. خاشِعِينَ الخشوع: الخضوع. اصْبِرُوا: احبسوا أنفسكم على امتثال الدين وتكاليفه وعن الجزع مما ينالكم. وَصابِرُوا: أسبقوا الكفار في الصبر على الشدائد في الحرب. وَرابِطُوا أقيموا في الثغور وحصنوها. تُفْلِحُونَ الفلاح: الفوز.
المناسبة:
قال الإمام الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في النعيم ذكر الله- تعالى- في هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدائد، وذلك ببيان جزاء كل في الآخرة، وأما الدنيا
المعنى:
لا يغرنك ما ترى من هؤلاء الكفار وتقلبهم في الدنيا وتجارتهم ومكاسبهم فإنه متاع زائل وعرض فإن، وكل زائل قليل، ومثله لا يعتد به ولا ينظر إليه فإن مأواهم ونهايتهم جهنم وبئس ما مهدوا لأنفسهم وأعدوا لها بما جنته أيديهم، فاستحقوا غضب الله عليهم غضبا سرمديا لا نهاية له ولا أمد حيث شاء الله.
روى أن بعض المؤمنين قال: إن بعض أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت هذه الآية.
ثم بعد أن بين الله حال الكفار ومآل أمرهم في الآخرة أردف ذلك ببيان حال المؤمنين في الدنيا والآخرة ليظهر الفرق جليا وليعرف المسلمون أنهم ليسوا مغبونين في شيء لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات واجتناب المنهيات لهم جنات المأوى تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها، تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار.
وما عند الله بعد هذا خير للأبرار الذين فعلوا البر وأخلصوا فيه وأى خير بجانب ما أعد لهم؟!! فالخيرية ليست على بابها، أى: ما أعد للمؤمنين المتقين هو خير، وما سواه مما أعد للكفار شر.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف ١٠٧] الآية الكريمة حيث قال الله: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أشار إلى أن المؤمن في الآخرة ضيف على كريم يداه مبسوطتان بالخير، قوى قادر على كل شيء، ملك الملوك، وانظر إلى الكرامة التي خصوا بها من النزل من عند الله.
وقد عرفت حال الكفار الذين ماتوا على كفرهم وظلموا معاندين، أما من أسلم منهم كعبد الله بن سلام أو من أسلم من نصارى نجران أو النجاشيّ عظيم الحبشة فالآية تحتمل كل هذا، وإن من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله إيمانا حقيقيا خالصا لا نفاق فيه
١- الإيمان بالله إيمانا صادقا خالصا.
٢- الإيمان بالقرآن المنزل عليكم ولا شك أنه الأساس لما أتى بعده، وهو الحق الذي لا شبهة فيه ولا تحريف.
٣- الإيمان بما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل وإن يكن فيه تحريف، أى: أنهم كانوا مؤمنين به فأرواحهم طاهرة نقية، ولا شك أن من يؤمن بالكتب السماوية إيمانا حقيقيا ويترك العناد والحسد والبغضاء والكذب على الله لا بد وأن يؤمن بالقرآن والنبي.
٤- الخشوع لله والخضوع له، وهو ثمرة الإيمان الصحيح ومتى كان القلب خاشعا ممتلئا بخوف الله خضعت له جميع الجوارح «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب» «١».
وإذا حلّت الهداية قلبا | نشطت في العبادة الأعضاء |
إن الله سريع الحساب يحاسب الكل ويجازى الكل في أقل من لمح البصر، وقد ختم الله السورة بهذه النصيحة الغالية للمؤمنين التي تنفعهم في الدنيا والآخرة بقوله:
يا أيها الذين آمنوا: اصبروا على تكاليف الدين وعلى ما يلمّ بكم من المصائب والشدائد، وصابروا الكفار واغلبوهم في الصبر فتكونوا أكثر تحملا لشدائد الحروب وضرائها، وخص المصابرة بالذكر لأهمّيّتها وخطرها، ورابطوا عند الثغور وخاصة بالخيل وما يلائم قوة الكفار في كل عصر وزمن.
واتقوا الله وخافوه واحذروه وراقبوه في السر والعلن لعلكم تفلحون. ولا شك أن من يبذل هذه التضحية ويبالغ فيها كأنه يرجو فلاحا، والصبر والمصابرة ومغالبة الأعداء
هذه سورة آل عمران!! أرأيت فيها غير تكوين العقيدة الإسلامية الصحيحة بمناقشته أهل الكتاب- وخاصة المسيحيين- في عقائدهم؟! أرأيت فيها غير تكوين الفرد المسلم والمجتمع المسلم في السلم والحرب؟ لم يكن فيها- علم الله- غير هذا!!