ﰡ
﴿الم﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ القائم بتدبير الخلق وحفظه. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الاسم الأعظم
﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ما قبله من الكتب: كالتوراة والإنجيل ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ﴾ على موسى ﴿وَالإِنْجِيلَ﴾ على عيسى
﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل مجيء إمام الرسل عليه الصلاة والسلام ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ القرآن الكريم؛ ويطلق «الفرقان» على سائر الكتب المنزلة؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل
﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ ذكراناً وإناثاً بيضاً وسوداً، حساناً وقباحاً
﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾ قطعية الدلالة؛ لا تحتمل اشتباهاً، ولا تأويلاً ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أي أصله، تحمل المتشابهات عليها، وترد إليها ﴿وَأَخَّرَ﴾ أي وآيات أخر ﴿مُتَشَابِهَاتٌ﴾ محتملات التأويل، لها معان متشابهة. وقد ذهب قوم - عفا الله تعالى عنهم - إلى أن القرآن كله محكم، لقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ وذهب آخرون إلى أنه كله متشابه؛ لقوله جل شأنه: ﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً﴾ وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ إذ أن معنى قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ﴾ أي في حسن النظم، وقوة التعبير، وأنه حق من عندالله. ومعنى ﴿مُّتَشَابِهاً﴾: أي يشبه بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضاً، ﴿أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ ذووا العقول
﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ﴾ لا تمل ﴿قُلُوبَنَا﴾ عن الحق ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ إلى الإيمان ﴿لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ﴾ لا شك ﴿فِيهِ﴾ وهو يوم القيامة
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ﴾ من عذابه لهم، وانتقامه منهم
﴿كَدَأْبِ﴾ كشأن وعادة ﴿آلَ فِرْعَوْنَ﴾ أي فرعون وقومه ﴿وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم الكافرة المعاندة؛ كعاد وثمود ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ التي أنزلناها على رسلنا ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ جازاهم بها، وعاقبهم عليها. يقال: أخذته بكذا: أي جازيته عليه
﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ﴾ يوم بدر ﴿وَتُحْشَرُونَ﴾ تجمعون يوم القيامة ﴿إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الفراش
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ﴾ برهان وعبرة
-[٦٠]- ﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾ فرقتين وجماعتين ﴿الْتَقَتَا﴾ للقتال يوم بدر ﴿فِئَةٌ﴾ مؤمنة ﴿تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي في سبيل نصرة دينه، وإعلاء كلمته ﴿وَأُخْرَى﴾ أي وفئة أخرى ﴿كَافِرَةٌ﴾ تحاول إطفاء جذوة الإيمان ﴿يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ﴾ أي يرى الكفار المؤمنين ضعفي عددهم، فتنخلع قلوبهم، أو يرى المؤمنون الكفار ضعفي عددهم - مع أنهم يزيدون عن الضعف زيادة كبيرة - فتقوى بذلك قلوبهم؛ وقد وعدهم الله تعالى بالنصر والغلبة: ﴿فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ (انظر الآيات ٤١ وما بعدها من سورة الأنفال» ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الخداع الذي بدا على أعين القوم؛ والذي تسبب في نصرة المؤمنين، وخذلان الكافرين ﴿لَعِبْرَةً﴾ لعظة ﴿لأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ لذوي البصائر
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ حبب إليهم، وزين الشيطان لهم ﴿حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾
والاستكثار من كل ذلك: يحبون النساء للشهوة؛ لا لابتغاء الولد الصالح، ويحبون البنين للطغيان والكثرة؛ لا للعبادة والقربى، ويحبون الذهب والفضة للجمع والكنز؛ لا للبذل والتصدق ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ الحسان المعلمة؛ يحبونها للفخر والزينة؛ لا للجهاد في سبيل الله ﴿وَالأَنْعَامُ﴾ وهي الماشية التي ترعى؛ وأكثر ما تطلق على الإبل ﴿وَالْحَرْثِ﴾ الزرع ﴿ذلِكَ﴾ كله ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يؤاخذ الإنسان على تصرفه فيها، والقيام بحقوقها ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ حسن المرجع؛ فمن شاء عمل لذلك؛ ولم تغره مفاتن الدنيا ومتاعها الزائل
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ﴾ المتاع المذكور: الشهوات من النساء، والبنين، والقناطير من الذهب والفضة، والخيل الفارهة، والزرع والضرع؛ فخير من ذلك كله: ما أعده الله تعالى للمتقين ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ﴾ فأين الشهوات الزائلات، والأموال الفانيات؛ من الجنات العاليات، التي عرضها كعرض السموات والأرض ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ﴾ أبداً لهم فيها ﴿أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ من الأدناس، ومن كل ما يستقذر عادة؛ كالحيض والنفاس ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ وهو خير من الجنات، وما فيها من الطيبات
﴿وَالْقَانِتِينَ﴾ الطائعين الداعين ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾ مما آتاهمالله؛ الذين وقاهم شح أنفسهم، وزادهم هدى وآتاهم تقواهم ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾ أواخر الليل، قبيل الصبح
﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ قرر، وبين لخلقه بالدلائل والآيات ﴿أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ﴾ يقررون ذلك أيضاً ﴿قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ﴾ مقيماً للعدل بين خلقه
﴿إِنَّ الدِّينَ
-[٦١]- عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ﴾ أي إن الدين الحق، المرضي المقبول، هو الإسلام.
وقد قال فيلسوف الإنجليز برناردشو في إحدى كتاباته عن الإسلام: هو دين المستقبل.
﴿فَإنْ حَآجُّوكَ﴾ جادلوك ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ﴾ أخلصت نفسي ﴿لِلَّهِ﴾ أنا ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ من المؤمنين ﴿وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ اليهود والنصارى ﴿وَالأُمِّيِّينَ﴾ الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب ﴿أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ﴾ وانقادوا ﴿فَقَدِ اهْتَدَواْ﴾ إلى الصراط المستقيم ﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا عن الإيمان ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ﴾ ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ﴾ هم أحبار اليهود ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ﴾ التوراة ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل رسول الله على جماعة من يهود فدعاهم إلىالله؛ فقال له نعيمبن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: «على ملة إبراهيم ودينه». فقالا: فإن إبراهيم كان يهودياً. فقال لهما رسولالله: «فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم». فأبوا عليه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
﴿فَكَيْفَ﴾ يكون حالهم ﴿إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك فيه؛ وهو يوم القيامة ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ في ذلك اليوم ﴿مَّا كَسَبَتْ﴾ جزاء ما عملت من خير أو شر ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ بزيادة عذاب، أو نقصان ثواب
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ﴾ أي تدخله فيه؛ بزيادة النهار ونقصان الليل ﴿وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ﴾ بزيادة الليل ونقصان النهار كما هو مشاهد في نهار الصيف والشتاء وليلهما ﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ الدجاجة وهي حية، من البيضة وهي ميتة، والإنسان وهو حي، من المني وهو ميت في الظاهر ﴿وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ البيضة وهي ميتة، من الدجاجة وهي حية، والمني وهو ميت ظاهراً من الإنسان وهو حي. أو تخرج النخلة والأشجار وهما أحياء بالفاكهة والثمار، من النواة والبذرة وهما لا نفع منهما، ولا حياة فيهما. وروي عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن» ولا بدع فالحياة الحقيقية: حياة القلوب لا الجسوم؛ ولا حياة بغيرها والحياة الأبدية: هي الإيمان ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ﴾ رزقه ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ بل بغير سبب؛ فقد يرزق تعالى الجاهل، ويمنع العاقل
﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ نهى سبحانه وتعالى عن موالاة الكفار دون المؤمنين؛ لما يترتب على ذلك من مضار دينية ودنيوية؛ إذ أن الكافر إن أظهر الود فخداع ونفاق، وإن أبان الإخلاص فخصام وشقاق وما أخر الأمم الإسلامية وأذلها بالاستعباد والاسترقاق: سوى موالاة الكفار، ومجانبة الأبرار (انظر آية ٥١ من سورة المائدة) ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ﴾ بأن يوالي الكافرين من دون المؤمنين ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي فقد برىء من الله تعالى، وبرىء الله منه ﴿إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أي إلا إذا واليتموهم بقدر، وصاحبتموهم بحذر؛ لتتقوا بذلك أذاهم، وتسلموا من كيدهم ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ أي يخوفكم بطشه وعقابه إذا لم تسمعوا قوله وتنزلوا على حكمه ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ فيؤاخذكم على ما فعلتم، ويعاقبكم على ما جنيتم
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ في الدنيا
-[٦٣]- ﴿مِّنْ خَيْرٍ﴾ أي أجره وثوابه ﴿مُّحْضَراً﴾ لم ينقص منه شيء ﴿أَمَداً﴾ مسافة وغاية
﴿قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا عن الطاعة ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ وسيعاملهم يوم القيامة معاملة الكاره لهم؛ والويل لمن أبغضه الله
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى﴾ اختار واجتبى ﴿وَنُوحاً وَآلَ﴾ لاتباع دينه ونشره ﴿وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ﴾ للإسلام. وآل الرجل: قومه وأتباعه، ومن هم على دينه. قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾
﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ في موالاةالله، وفي الدين
﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ﴾ أم مريم عليها السلام ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾ من الولد ﴿مُحَرَّراً﴾ خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس.
﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا﴾ أجيرها وأحصنها {بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} تقبل مريم التي نذرتها أمها ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾ وهو مجاز عن التربية الحسنة. قال ابن عطاء: ما كانت ثمرته مثل عيسى؛ فذاك أحسن النبات
-[٦٤]- ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي جعله الله تعالى يتكفل بتربيتها ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ الغرفة التي تجلس فيها، أو هو مكان العبادة ﴿وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾ طعاماً. قيل: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء ﴿قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ﴾ من أين لك ﴿هَذَا﴾ الذي أراه ﴿هُنَالِكَ﴾ عندما رأى زكريا مشاهد الرضا والقبول ﴿دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ ففي مواطن التجلي يستجاب الدعاء
﴿فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي﴾ فيه إشارة إلى أن الصلاة مفتاح للخيرات، وبها تجاب الدعوات؛ وقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ﴿مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ أي مصدقاً بعيسى عليه السلام؛ لأنه أتى إلى الحياة بكلمة ﴿كُنَّ﴾ فكان ﴿وَسَيِّداً وَحَصُوراً﴾ الحصور: الذي يحصر نفسه ويمنعها عن ملاذها وشهواتها، أو هو المعصوم من الذنوب؛ كأنه حصر نفسه عنها. وقيل: الحصور: الذي لا يأتي النساء ﴿قَالَ﴾ زكريا ﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ كيف يكون لي ولد ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ لا تلد لكبرها
﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّي آيَةً﴾ علامة على ذلك، أو مرني بأمر إذا وفقت إليه: أعلم منه إجابة دعوتي
﴿قَالَ آيَتُكَ﴾ علامتك ﴿أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً﴾ أي بالإشارة، لا بالنطق. وقد كان صيامهم عن الطعام والكلام ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً﴾ ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً﴾ اعبده ﴿وَسَبِّحْ﴾ بحمده ﴿بِالْعَشِيِّ﴾ وهو من الزوال إلى الغروب ﴿وَالإِبْكَارِ﴾ من طلوع الفجر إلى الضحى. والمراد: طول مدة التسبيح
﴿يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ اختارك ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من كل سوء. وقيل: من مس الرجال ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ﴾ قيل: على سائر النساء؛ من بدء الخليقة حتى قيام الساعة. وقيل: عالمي زمانها فحسب؛ وأنها عليها السلام لا تفضل فاطمةبنت محمد عليه الصلاة والسلام، ولا خديجة بنت خويلد؛ واستدلوا بقوله تعالى: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ولم يقل أحد: إن بني إسرائيل أفضل من أمة خير الأنام؛ بل أن تفضيلهم كان على عالمي زمانهم، أو من تقدمهم من الأمم ﴿يمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ أديمي الطاعة له، والخشوع والابتهال إليه.
﴿ذلِكَ﴾ المذكور من أمر مريم وأمها، وزكريا وابنه ﴿مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ﴾ الذي غاب عن علمك وعلم قومك ﴿نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾ آية لنبوتك، وبرهاناً على صدقك ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ في هذه العصور؛ حتى ترى ما فعلوا، وما فعل بهم؛ فتحكيه لقومك. ولكنا أطلعناك عليه من غيبنا الذي لا نطلع عليه إلا من ارتضينا ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ أطلعناك عليه ليؤمن بك من أنار الله بصيرته، ويهتدي بهديك من أراد الله هدايته ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ قبل ذلك عند ولادة مريم ﴿إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ﴾ ليرون ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ قيل: اختصم أهل مريم عليها السلام فيمن يكفلها؛ فاتفقوا على الاقتراع؛ وطريقته وقتذاك: أن يلقوا أقلامهم في النهر؛ ويحتمل أن تكون القرعة لصاحب القلم الذي يظل طافياً على الماء، أو الذي يكون رأسه إلى أعلى، أو أمثال ذلك
﴿يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ﴾ بعيسى عليه السلام؛ لأنه خلق بقول ﴿كُنَّ﴾ ﴿وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ أي ذا منزلة عالية في الدنيا، وعزة وكرامة في الآخرة
﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ وهو ما يفرش للطفل؛ وكلامه في المهد معجزة له، وتبرئة لأمه مما افتراه عليها المفترون ﴿وَكَهْلاً﴾ أي ويكلمهم كهلاً. والكهل: الذي جاوز الثلاثين، وخطه الشيب. والمراد بذلك نفي ما ادعاه الكافرون من ربوبيته؛ فذكر تعالى أنه عليه السلام يدركه ما يدرك البشر من التغير والانتقال من الصغر إلى الكبر، ومن حال إلى حال
﴿قَالَتْ﴾ مريم ﴿رَبِّ إِنِّي﴾ كيف ﴿يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ كسائر من يلدن
﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ﴾ الكتابة التي يخطها بيده ﴿وَالْحِكْمَةِ﴾ العلم النافع؛ والمراد بها الشرائع والأحكام ﴿وَالتَّوْرَاةَ﴾ الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام؛ وقد كان معمولاً به حتى بعثة عيسى عليه السلام {
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} معجزة دالة على صدقي ﴿وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ﴾ الذي ولد أعمى ﴿وَالأَبْرَصَ﴾ وهو بياض يصيب بعض الجلد؛ فيجعله مشوهاً. وخصا بالذكر: لأن المبتلى بهما لا يبرأ منهما ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بإرادته وقدرته؛ لا بإرادتي وقدرتي. قيل: إنه أحيا سامبن نوح؛ فكلمهم وهم ينظرون. وذهب بعض المفسرين المحدثين إلى أن المراد به إحياء موتى القلوب والنفوس؛ وهو تأويل فاسد، منكر لإحدى معجزات عيسى عليه السلام التي اختصه الله تعالى بها؛ وإلا فإن أكثر الصالحين يحيون موتى القلوب والنفوس ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ﴾ أخبركم.
-[٦٦]- ﴿بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ قيل: إنه عليه السلام كان يقول لأحدهم: يا فلان لقد أكلت كذا في يومك، وادخرت كذا في بيتك؛ وذلك بغير تفكير، أو استنطاق لرمل أو أرقام؛ كما يفعل الدجاجلة. ولعل المراد أنه كان يعلمهم عناصر الأغذية وخواصها، وكيف يحفظونها ويدخرونها. وهو باب يدخل ضمن أبواب الأدوية والعلاجات: وقد تخصص فيها معجزة له عليه الصَّلاة والسَّلام
﴿وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ ما تقدمني ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ وقد كان تعالى حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم قال تعالى ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ وقال جل شأنه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ ﴿جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ معجزة دالة على صدقي، وحجة وعبرة؛ وهو كل ما قدمه من إبراء، وإحياء، وإخبار بغيب
﴿هَذَا صِرَاطٌ﴾ طريق ﴿مُّسْتَقِيمٍ﴾ ومن عجب أن يبرىء عيسى - لبني إسرائيل: الأكمه والأبرص، ويحيي لهم الموتى، ويخبرهم بالغيب الذي لا يعلمه سواهم، وما هو كائن في حلوقهم وبطونهم؛ فيأبون الانقياد لخير العباد، ويرفضون الإيمان للديان
﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ بالله، وإنكار بعثته، ونبوته: أراد أن يختار خلصاءه من بين من آمن منهم - وقليل ما هم - ﴿قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ أي من أنصاري لنصل معاً إلىالله، أو من أنصاري مع الله ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ حواري الرجل: صفوته وخاصته
﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ الذين يشهدون بوحدانيتك، ويؤمنون بصدق رسولك
﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ أي جازاهم الله على مكرهم بمكر أشد منه وأقسى. وهذا على سبيل المقابلة. والمكر: الخداع. قال تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾
﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ أي مستوفي أجلك. وقد اختلف في موته عليه الصَّلاة والسَّلام؛ وهل رفع حياً، أم رفعت روحه فحسب؟ واستدل كل فريق بما يراه مؤيداً لرأيه: فاستدل من قال بموته بقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ وعيسى عليه السلام من جملة النفوس التي كتب عليها الموت. ورد الفريق الآخر بأنه عليه السلام سيذوق الموت قبيل القيامة، وبعد نزوله إلى الأرض وحكمه بشريعة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام ونحن إذا قلنا برفع روحه فحسب؛ فإن سائر الأرواح ترفع إلى بارئها سبحانه وتعالى؛ ولا يكون ثمة فضل لعيسى عليه السلام اختصه الله تعالى به وزعم قوم بأنه مات ودفن بجهة سموها؛ ولعلها ببلاد الهند؛ والله تعالى أعلم بقوله وفعله أي إلى السماء
-[٦٧]- ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بتخليصك منهم ﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ﴾ وآمنوا بك ﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بك. وهم الهيود - قاتلهم الله - كفروا بموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
﴿ذلِكَ﴾ القصص ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ يا محمد
﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ﴾ في الخلق ﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾ خلقه من غير أب ولا أم، وخلق عيسى من غير أب؛ قال لهما: كونا فكانا
﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكين
﴿فَمَنْ حَآجَّكَ﴾ جادلك من النصارى أو المشركين ﴿مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ﴾ الذي جاءك ﴿مِّن الْعِلْمِ﴾ في هذا الكتاب الحق ﴿فَقُلْ﴾ لهؤلاء المجادلين ﴿نَدْعُ﴾ نتضرع إلى الله تعالى.
والمباهلة: أن يجتمع الفريقان ويخرجان بأبنائهم ونسائهم، ثم يدعون الله تعالى باللعنة على الكاذب منهما ﴿فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ الكافرين
﴿قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ﴾ اليهود والنصارى ﴿تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ﴾ مستوية؛ والسواء: العدل.
﴿يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ﴾ زعم كل من اليهود والنصارى: أن إبراهيم عليه السلام كان منهم؛ وجادلوا رسولالله فيه، فقيل لهم: إن اليهودية إنما كانت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل؛ وبين إبراهيم وموسى ألف عام، وبينه وبين عيسى ألفان فكيف يكون على دين لم يأت بعد، ولم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة؟
﴿هأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ﴾ من أمر موسى وعيسى ﴿فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ من أمر إبراهيم
﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً﴾ كما تزعمون ﴿وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً﴾ مائلاً إلى الدين الحق القيم؛ وهو الإسلام
﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ أي آمنوا به؛ وليس من بينهم اليهود أو النصارى ﴿وَهَذَا النَّبِيُّ﴾ محمد؛ لأنه نادى بدين إبراهيم وملته ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ فهؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم؛ لا من كذبوه
﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ جماعة من اليهود
﴿يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ القرآن ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ تعلمون أنه حق منزل من عند الله تعالى؛ لورود ذكر مجيء الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام في كتابكم
﴿يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ﴾ تخلطون
﴿وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ لطائفة أخرى منهم.
-[٦٩]- ﴿آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ﴾ أوله ﴿وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ﴾ وذلك أنهم تواصوا فيما بينهم أن يؤمن فريق منهم أول النهار، ثم يكفروا آخره؛ لأجل أن تتزلزل عقائد المسلمين؛ فيقولون في أنفسهم: ما دعا هؤلاء إلى الارتداد؛ إلا ظهور بطلان ديننا ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي لعل المؤمنين يرجعون عن إيمانهم
﴿وَلاَ تُؤْمِنُواْ﴾ لا تصدقوا ولا تطمئنوا في هذا السر الذي اتفقنا عليه ﴿إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ لئلا يطلع المسلمون عليه ﴿أَن يُؤْتَى﴾ بأن يؤتى ﴿أَحَدٌ﴾ من المؤمنين ﴿مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ﴾ من المعجزات والتوراة، وفلق البحر، والمن والسلوى، وأشباه ذلك ﴿أَوْ يُحَآجُّوكُمْ﴾ يجادلكم المؤمنون يوم القيامة ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ لأنكم أصح ديناً. قال تعالى رداً عليهم: مخاطباً خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ﴾ كله ﴿بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾ وقد آتاك النبوة، وأنزل عليك الكتاب بالحق
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ اليهود ﴿مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾ من الذهب؛ والمراد به المال الكثير ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ لأمانته ﴿ق﴾ واحد ﴿لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ لخيانته ﴿إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً﴾ أي ملحاً بالمطالبة والمقاضاة. وهو تحذير من معاملتهم وعدم الاغترار بأمانة بعضهم ﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ﴾ أي العرب ﴿سَبِيلٍ﴾ طريق للإثم؛ وذلك لأن اليهود لعنهم الله تعالى يستحلون أكل مال من عداهم من الأمم - مسلمين، أو نصارى، أو غيرهما - ويزعمون أن الله بذلك أمرهم. قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ بنسبة ذلك الإفك إليه؛ وقد أمر تعالى بالوفاء بالعقود والعهود والوعود - للمسلمين والكافرين على السواء - وقد حض على ذلك بقوله جل شأنه
﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ أدى أمانته ﴿وَاتَّقَى﴾ الله ربه في سائر معاملاته ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ فيعزهم في الدنيا، ويكرمهم وينعمهم في الآخرة
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ﴾ يستبدلون ﴿بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي يستبدلون الصدق والوفاء والأمانة بالكذب والإخلاف والخيانة؛ نظير ثمن قليل هو حطام الدنيا الزائل الفاني وذلك كمن يتفق مع آخر على بيع سلعة من السلع؛ فيزيد له إنسان في ثمنها فيبيعها له، وينقض اتفاقه مع الأول. أو من يخطب ابنة إنسان؛ فيعاهده أبوها على تزويجها له نظير مهر مقدر بينهما؛ فيأتي آخر فيزوجها له نظير زيادة في المهر. أو كمن يحلف ببراءته من دين هو عليه. قال: «من حلف على يمين يقتطع بها مال امرىء مسلم: لقي الله تعالى وهو عليه غضبان» وكيف يرجو الخير من يلقى الله تعالى يوم القيامة وهو عليه غضبان؟ أعاذنا الله تعالى من غضبه، وأنجانا من سخطه ومن علينا برضاه يوم نلقاه ﴿أُوْلَئِكَ﴾ الذين اشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمناً
-[٧٠]- قليلاً ﴿لاَ خَلاَقَ﴾ لا نصيب ﴿لَهُمْ فِي الآخِرَةِ﴾ من النعيم، والثواب المقيم ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ نظر عطف ورحمة، ولا يرعاهم ﴿وَلاَ يُزَكِّيهِمْ﴾ لا يطهرهم من ذنوبهم
﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾ أي من اليهود؛ وقد كانوا يقطنون حوالي مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام ﴿لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ﴾ يميلونها في النطق؛ يريدون بذلك أن يفهموا السامع أن ما ينطقون به هو من التوراة ﴿لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ التوراة ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ ما هو من التوراة؛ بل هو من عند أنفسهم
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ ما جاز له وما صح ﴿أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ﴾ الإنجيل ﴿وَالْحُكْمَ﴾ العلم والفقه ﴿وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ﴾ وهو تكذيب لمن يقول بألوهية المسيح عيسى ابن مريم ﴿وَلَكِنِ﴾ كان يقول للناس ﴿كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ﴾ نسبة إلى الرب تعالى؛ أي طائعين له، ومنفذين لأحكامه. أو كونوا علماء حكماء أتقياء
﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ﴾ أي ما كان لبشر أن يقول للناس: كونوا عباداً لي. ولا أن يأمركم ﴿أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ على يديه، وبأمر من مرسله تعالى
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ﴾ أخذ العهد عليهم بأن يصدق بعضهم بعضاً، ويؤمن بعضهم بما جاء به الآخر ﴿لَمَآ آتَيْتُكُم﴾ للذي آتيتكم ﴿مِن كِتَابِ﴾ أنزلته عليكم ﴿وَحِكْمَةٍ﴾ علم نافع أضفيته على أفهامكم ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ محمد سيد البشر عليه الصَّلاة والسَّلام ﴿مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾ من الكتب المنزلة ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ﴾ بذلك ﴿وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ﴾ الميثاق ﴿إِصْرِي﴾ أي عهدي.
والإصر: العهد والذنب، والثقل.
﴿فَمَنْ تَوَلَّى﴾ أعرض عن الإيمان بمحمد؛ وقد آمن به الأنبياء قبل إيجاده
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ يطلبون ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ﴾ انقاد ﴿مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ من أملاك، وإنس وجن، ومخلوقات لا يعلمها سوى خالقها ﴿طَوْعاً﴾ بعد تدبر الأدلة والآيات، والحجج البينات ﴿وَكَرْهاً﴾ بالسيف، أو بعد معاينة العذاب؛ كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإغراق فرعون وقومه، وأمثال ذلك
﴿وَالأَسْبَاطَ﴾ حفدة يعقوب عليه السلام؛ ذراري أبنائه.
﴿وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ الدلائل الواضحات.
﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ﴾ أي بعد ارتدادهم أعمالهم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لذنوبهم. ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم.
﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ﴾ أي لن تنالوا بر الله تعالى وثوابه ومغفرته ﴿حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وهذا يكاد أن يكون منعدماً في هذا الزمان؛ لأنك ترى الرجل يتصدق بثوبه الممزق، ولقمته العفنة، وكل ما يكرهه ويستقذره؛ ثم يتيه عجباً، ويختال طرباً، ويميس فخراً، بما جاد به، ويعتقد أن الجنة لم تخلق إلا لأجله؛ فهيهات هيهات أن يدخل مثل هذا جنةالله، أو أن يتمتع برضوانه ولن ينال برالله، سوى من أنفق مما يحب في دنياه ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ فيؤاخذكم عليه إن كان مما تكرهون، ويثيبكم عليه إن كان مما تحبون فانظروا - هداكم الله - ماذا أنتم فاعلون
﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها - وقد كانا أحب الأشياء عنده - لمرضه بعرق النسا. و «إسرائيل» هو يعقوب عليه السلام
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ مكة؛ وهما لغتان فيها ﴿مُبَارَكاً﴾ كثير الخير والبركات؛ لما فيه من الثواب وتكفير السيئات
﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ حجج ظاهرات.
-[٧٣]- ﴿مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ﴾ وهو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت فأثرت فيه قدماه، ومنها أن الطير لا يعلوه أبداً؛ مع كثرته وشدته ﴿وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ﴾ أي طلب منهم، وفرض عليهم ﴿حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ بالمال، والصحة، والأمن ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ أي جحد فرضية الحج. أو هو من كفران النعم؛ أي من لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم، وسعة الرزق؛ ولم يحج ﴿فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ﴾ وهم الفقراء إليه، المتزلفون له، الطالبون مرضاته، المؤملون فضله
﴿قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ﴾ تمنعون ﴿عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عن دين الحق؛ وهو الإسلام ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ تطلبونها وتريدونها معوجة
﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ﴾ يحتمي به، ويلجأ إلى أوامره، ويهرع إلى مرضاته
﴿فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ﴾ طريق ﴿مُّسْتَقِيمٍ﴾ قويم واضح، موصل لكل خير
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ أي خافوا الله واحذروه، وائتمروا بأوامره، واجتنبوا نواهيه، وداوموا على ذلك حتى تموتوا وأنتم مسلمون
﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ بكتابه؛ لقوله: «القرآن حبل الله المتين».
-[٧٤]- ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ﴾ الشفا: الحافة ﴿فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا﴾ بأن هداكم للإسلام؛ وذلك لأن الكافر والمذنب - مثلهما في الدنيا - كمثل الواقف على حافة النار؛ فإذا مات: وقع فيها؛ فأنقذنا الله تعالى - بمنه وكرمه - من الوقوع في النار؛ بهدايتنا إلى الإيمان
﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ أي جماعة من مثقفيكم وعلمائكم ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ يرشدون إلى الإيمان، ويحضون على الإحسان، ويوجهون إلى البر، ويحثون على الشكر ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بالفعل الحسن الذي يقره العرف والشرع ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الذي يستقبحه الشرع، وينكره العقل ﴿وَأُوْلئِكَ﴾ الداعون إلى الخير، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ هذا وقد أوجب الله تعالى على سائر الأمة الإسلامية: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لما يترتب على تركهما من فشو المعاصي، وانتهاك حرمات الله تعالى. قال: «ما أقر قوم المنكر بين أظهرهم؛ إلا عمهم الله بعذاب محتضر» وها نحن أولاء - وقد دعونا إلى الشر، وأمرنا بالنكر، ونهينا عن الخير - نعاني قلة البركات، وفساد النفوس والثمرات، وقلة الأرباح، وكساد التجارات، وعقوق الأبناء، وتجبر الآباء ولا دواء لما نعانيه، وشفاء لما نلاقيه؛ سوى اللجوء إلى الله تعالى، والتمسك بأوامره، واجتناب نواهيه وزواجره
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ﴾ هم اليهود والنصارى؛ حيث تعادوا وكفر بعضهم بعضاً «وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء» ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ الآيات الواضحات
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ وجوه المؤمنين؛ ولو كانت سوداء ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ وجوه الكافرين؛ ولو كانت بيضاء ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ فيقال لهم ﴿أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ أي بعد أن كان الإيمان في متناول قلوبكم وعقولكم يقال لهم ذلك على سبيل إذلالهم والنكاية بهم
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ وجنته ورضوانه ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أبد الآبدين، ودهر الداهرين
﴿وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ ملكاً وخلقاً وعبيداً ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ﴾ في الدنيا والآخرة؛ فيقضي فيها حسبما تقتضيه المصلحة، وتستوجبه العدالة المطلقة
﴿كُنتُمْ﴾ يا أمة محمد ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ بسبب أنكم ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: صيرا الأمة الإسلامية خير الأمم وأفضلها كذلك تركهما يصير الإنسان أحط من العجماوات؛ فادأب - هديت وكفيت - على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لترضي نفسك، وترضي ربك؛ وتكفى ذل الحياة وبؤسها وليكن أمرك
-[٧٥]- بالمعروف ونهيك عن المنكر؛ ابتغاء وجه الله تعالى، ورغبة في مرضاته وحذار أن تفعل ذلك ابتغاء شهرة أو تظاهر فتهلك؛ وينقلب سعيك إلى خسران، وحقك إلى بطلان ﴿مِنْهُمْ﴾ أي من أهل الكتاب ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ كعبد اللهبن سلام وأصحابه ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الكافرون، الكائدون لكم
﴿لَن يَضُرُّوكُمْ﴾ بكفرهم وكيدهم ﴿إِلاَّ أَذًى﴾ يسيراً ﴿وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ﴾ لجبنهم، وضعف باطلهم أمام حقكم
﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ﴾ أي أينما وجدوا. نزلت في اليهود؛ وهي من الآيات البينات، والمعجزات الظاهرات، والمغيبات الواضحات؛ وليس أدل على ذلك من اضطهاد العالم أجمع لهم، وتشتيتهم في سائر الممالك، وتفريق شملهم؛ ولا يغرنك ما هم عليه الآن من ملك اغتصبوه، وحق استلبوه؛ سيرد إلى أهله بقوة السنان والإيمان؛ بعون الله تعالى وستضرب عليهم الذلة - التي كتبها الله تعالى عليهم - والمسكنة - التي أرادها الله لهم - وستحل عليهم اللعنة أينما ثقفوا (انظر آية ٦١ من سورة البقرة) ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ﴾ الحبل: السبب والعهد. أي أنهم لا يأمنون على أنفسهم إلا إذا كانوا يدفعون جزية، أو يتملقون مسلماً؛ وهذا نوع من الذلة كتبه الله تعالى عليهم ﴿وَبَآءُوا﴾ رجعوا ﴿بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ﴾ كتبت ﴿الْمَسْكَنَةُ﴾ الذلة والضعف؛ وها هم أولاء تعاونهم شتى الدول بالميرة والذخيرة، والعدة والعدد؛ فلم يزدهم ذلك إلا ذلاً وضعفاً وهواناً ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَآءَ﴾ كيحيى وزكريا عليهما السلام
﴿لَيْسُواْ سَوَآءً﴾ أي ليس أهل الكتاب مستوين في الخير والشر ﴿مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ﴿مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ﴾ أي ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً﴾ لأن منهم أمة قائمة بأمرالله؛ يتلون آياته ﴿آنَآءَ اللَّيْلِ﴾ ساعاته
﴿وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ﴾ أي لن يعدموا ثوابه
﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾ أي مثل ما ينفق الذين كفروا ﴿فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ من بر، وصدقة، وصلة رحم ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ الصر: برد يضر الحرث والنبات ﴿أَصَابَتْ﴾ تلك الريح ﴿حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ﴾ بارتكاب المعاصي، وتعريض أنفسهم للعقاب ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾ أي أهلكت الريح ذلك الحرث. وقد وصف تعالى المؤمنين في إنفاقهم - وما يجلبه هذا الإنفاق عليهم من أجر عظيم، وخير عميم - بقوله جل شأنه ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ﴾ فضاعف تعالى أجر المؤمن المنفق إلى سبعمائة؛ ووعد أيضاً بأن يضاعف له هذه السبعمائة أضعافاً مضاعفة ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ﴾ هذا مثل المؤمن المنفق؛ أما مثل إنفاق الكافر فقد مثله الله تعالى بالريح التي تعصف بالنبات والأقوات، وتهلك الزرع والضرع ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ بذلك الجزاء ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالكفر
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً﴾ بطانة الرجل: خاصته وأصدقاؤه. ومنه بطانة الثوب؛ لملاصقتها له ﴿مِّن دُونِكُمْ﴾ أي من غير دينكم وجنسكم؛ لأن الأجنبي لا يعمل لخيرك، بل يدس ويكيد لك؛ فوجب الابتعاد عنه، والاحتراس منه؛ قال تعالى: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً﴾ أي أنهم لا يقصرون في إفسادكم، وإيصال الضرر بكم ﴿وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ﴾ أي ودوا ضرركم أشد الضرر وأبلغه؛ وهو من العنت: أي المشقة ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ بما يقذفونكم به من سباب، وما ينطقون به من كفر وهجر
﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ مما بدا من أفواههم
﴿هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ وتتخذون منهم بطانة هم ﴿وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ لأنهم مفطورون على كراهة من عداهم ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ بالكتب المنزلة كلها؛ بما في ذلك كتابهم؛ في حين أنهم لا يؤمنون بكتابكم، ولا بكتابهم أيضاً لأنهم لا يعملون بما في كتابهم ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ﴾ نافقوا و ﴿قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ﴾ بأنفسهم ﴿عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ وعض الأنامل: عادة يفعلها المغيظ المحنق، إذا لم ينل من عدوه منالاً ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بما في القلوب
﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ نصر أو غنيمة ﴿تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ بإخفاق مقصد أو بهزيمة من عدو ﴿يَفْرَحُواْ بِهَا﴾ أرأيتم أيها المؤمنون حال من ننهاكم عن اتخاذهم بطانة لكم، أو أولياء توالونهم من دون المؤمنين؟
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أي خرجت غدوة من أهلك. والغدوة: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس ﴿تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ تنزلهم ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ مواقف؛ أي ترتب جيوش المؤمنين: ميمنة وميسرة وقلباً وجناحين. وكان ذلك في وقعة أحد
﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ﴾ هم بنو سلمة، وبنو حارثة ﴿أَن تَفْشَلاَ﴾ تضعفا عن القتال ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ كافيهما وناصرهما ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ لا على أحد غيره قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ قليلون؛ نصركم - رغم قلتكم وضعفكم - على المشركين رغم كثرتهم وقوتهم
﴿وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ﴾ من وقتهم ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ معلمين
﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ﴾ أي هذا الإمداد ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ فلا تجزع لكثرة العدو ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ يهبه لمن يشاء بلا قدرة ولا قوة، ويمنعه عمن يشاء مع مزيد القدرة ووفور القوة؛ وقد وهبكم النصر على الكافرين مع قلتكم وكثرتهم، وضعفكم وقوتهم
﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي ليهلك طائفة منهم ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ يغيظهم ويذلهم ويخزيهم ﴿فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ﴾ فيرجعوا منهزمين.
﴿يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا﴾ كلٌ نهي جاء مصحوباً بنداء المؤمنين: ﴿يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ فهو من المحرمات؛ التي يأثم فاعلها، ويثاب تاركها: ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ ﴿لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ ﴿لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ ﴿لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ وأمثال ذلك. وأكل الربا من أفحش الموبقات المنهي عنها؛ خاصة إن كانت ﴿أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً﴾ وهو ما يسميه الربويون بالفوائد المركبة؛ وهو أن يضم المرابي فوائد الدين إلى أصله، ويحتسب الدين وفوائده وفوائد الفوائد؛ وهكذا حتى يتضاعف الدين ﴿أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً﴾ وليس معنى الآية: إباحة الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة؛ بل هو حرام قل أو كثر، ضوعف أو لم يضاعف؛ ويأثم فاعله؛ ويكفر مستحله لقوله تعالى:
﴿وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ الذين لا يطيعون الله فيما أمر، ولا يعبأون بتهديده ووعيده
﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي بادروا لفعل ما يوصل إليها؛ من فعل الطيبات، واجتناب المحرمات سارعوا إلى ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ هذا عرضها فكيف بطولها؟ والمراد بذلك وصفها بالسعة والبسط؛ فشبهها تعالى بأوسع ما علمه الناس وألفوه. أما وصفها الحقيقي: فهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب شر ﴿أُعِدَّتْ﴾ هذه الجنة، التي هذا وصفها، وهذه سعتها ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ الذين يرجون رحمة ربهم، ويخافون عذابه ووصف الله تعالى المتقين بقوله:
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ مما آتيناهم ﴿فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ﴾ في اليسر والعسر، في السعة والضيق، في السرور والحزن؛ لا يمنعهم مانع عن الإنفاق والإعطاء؛ أليس هذا أمر ربهم، وتوجيهه لهم؟ ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ يقال: كظم غيظه: إذا حبسه ومنعه ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ إذا صدر منهم ما يستوجب المؤاخذة
﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾ الفاحشة: الفعلة القبيحة، الخارجة عما أمر الله تعالى به. وقيل: الفاحشة: الزنا ﴿أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ﴾ بارتكاب المعاصي، وتعريضها للعقاب ﴿ذَكَرُواْ اللَّهَ﴾ تذكروا أمره ونهيه، وثوابه وعقابه ﴿فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ﴾ طلبوا منه تعالى غفرانها، وعاهدوه على تركها وعدم العودة إليها ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ أي لا أحد يغفرها ويمحوها سواه تعالى؛ بشرط الاستغفار، وعدم الإصرار ﴿وَلَمْ يُصِرُّواْ﴾ أي لم يقيموا ﴿عَلَى مَا فَعَلُواْ﴾ من الذنوب التي استوجبت الاستغفار وإلا فالعائد إلى ذنبه، كالمستهزىء بربه ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أن ما يفعلونه من الآثام.
﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ وقائع أو أمم
﴿هَذَا﴾ القرآن ﴿بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾ يبين لهم ما خفي عليهم ﴿وَهَدَى﴾ هداية لهم يهديهم إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم ﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ يتعظون بما فيه من الآيات، ويعتبرون بما فيه من الحادثات
﴿وَلاَ تَهِنُواْ﴾ من الوهن أي لا تضعفوا ﴿وَلاَ تَحْزَنُواْ﴾ ف الله تعالى معكم ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ بالغلبة والنصر على الكافرين
﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ القرح: واحد القروح؛ وهو كناية عن الغلب والهزيمة يوم أحد ﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ أي مستهم هزيمة منكرة يوم بدر ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي نصرفها بينهم: فننصر هؤلاء يوماً، وننصر أولئك يوماً آخر. ونفقر هؤلاء، ونغني هؤلاء؛ ثم نغني من أفقرنا، ونفقر من أغنينا كل شيء عندنا بمقدار وتقدير، ونظام وتدبير ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ علم ظهور ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بصبرهم على بلواهم، وشكرهم على نعمائهم
﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ يبتلي ويختبر ﴿وَيَمْحَقَ﴾ يهلك
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا﴾ لم ﴿يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ على ما أصابهم في سبيله
﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ﴾ تتمنون ﴿الْمَوْتُ﴾ في الجهاد؛ عند ما فاتتكم وقعة بدر التي انتصر فيها المسلمون ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي رأيتم أسبابه؛ في الجهاد يوم أُحد؛ فلم جبنتم وانهزمتم؟ أليس هو الموت الذي تتمنونه والشهادة التي تنشدونها؟ (انظر آية ٤٢ من سورة الزمر)
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ﴾ يعرض له ما عرض لسائر الرسل، ويجوز عليه ما جاز عليهم وهو كسائر البشر: يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق. ويمرض، ويموت (انظر آية ٤ من سورة القلم) ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ وماتوا حين حان أجلهم ﴿أَفإِنْ مَّاتَ﴾ كباقي مخلوقات الله تعالى ﴿أَوْ قُتِلَ﴾ كسائر المستشهدين في سبيله ﴿انْقَلَبْتُمْ﴾ رجعتم ﴿عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ والمراد: ارتددتم إلى الكفر بعد إيمانكم ﴿وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ فيكفر بعد إيمان، ويشك بعد إيقان ﴿فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً﴾ بل يضر نفسه، ويوردها مورد الهلكة
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ﴾ بإرادتها؛ بل تموت ﴿بِإِذُنِ اللَّهِ﴾ حين ينتهي أجلها المحدد لها فإذا جاء أجلها لا تستأخر ساعة ولا تستقدم ﴿كِتَاباً﴾ مكتوباً عند الله ﴿مُّؤَجَّلاً﴾ أي مؤقتاً بأجل معلوم؛ فلا ينفع الجبن، ولا تنجى الهزيمة ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ ﴿وَمَن يُرِدِ﴾
بعمله ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ﴾ ما كتب له ﴿مِنْهَآ﴾ وليس له حظ في ثواب الآخرة ﴿وَمَن يُرِدِ﴾ بعمله ﴿ثَوَابَ الآخِرَةِ﴾ وما أعده الله للمتقين ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ ما يستحقه من النعيم المقيم
﴿وَكَأَيِّن﴾ وكم ﴿مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ أي ربانيون؛ وهم العلماء العاملون، والمؤمنون الموحدون: حواريو الأنبياء وخاصتهم ﴿فَمَا وَهَنُواْ﴾ أي فما فتروا، وما انكسرت همتهم، أو ضعفت نفوسهم ﴿وَمَا اسْتَكَانُواْ﴾ وما خضعوا ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ في الحرب، وعلى البأساء والضراء، وعلى الطاعة، وعن المعصية
﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ أي لم يكن قولهم هذراً ولا لغواً ولا شكاية، ولا تأففاً وتضجراً؛ وإنما طاعة وصبراً؛ ولم يكن قولهم ﴿إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا﴾ تجاوزنا الحد فيما أمرتنا به، ونهيتنا عنه ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ في الحرب؛ فلا تزول من مكانها إلا إلى النصر والظفر من هنا نعلم أن واجب الإنسان حين يدعو ربه لدفع ملمة، أو رفع كربة: أن يتجرد من دنياه، ويستغفر من خطاياه، ويتجه إلى مولاه؛ فيستجيب دعاه ألا ترى - هداك الله تعالى إلى مرضاته - إلى قول العزيز الجليل:
﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ بالنصر والغنيمة والذكر الحسن ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ﴾ بالجنة والنعيم المخلد، ورضي عنهم وأرضاهم
﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ﴾ ناصركم ومتولي أموركم
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ﴾ منكم؛ فلا يستطيعون مقاتلتكم ﴿بِمَآ أَشْرَكُواْ﴾ أي بسبب إشراكهم ﴿بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ حجة أو برهاناً ﴿وَمَأْوَاهُمُ﴾ مرجعهم.
-[٨١]- ﴿مَثْوَى﴾ مقام
﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ تقتلونهم. والحس: القتل والاستئصال ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بأمره وإرادته وقدرته ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ جبنتم وضعفتم ﴿مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ﴾ من النصر والظفر والغنيمة، وانهزام العدو في مواقع عدة ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ الغنيمة؛ فترك مراكز القتال؛ ليفوز بها ﴿وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ وثوابها؛ فثبت في مراكزه حتى قتل؛ وفاز بالأجر والشهادة؛ وأنعم بهما من سعادة
﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ ردكم عن الكفار بالهزيمة ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ ليختبركم بالمصائب، وليظهر ثباتكم على الإيمان
﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ الإصعاد: الذهاب في صعيد الأرض، أو الإبعاد فيه. والصعيد: ما على وجه الأرض من تراب وحجر ونحوهما. والمعنى: تستبقون إلى الهرب في مستوى الأرض، وفي بطون الأودية والشعاب. وقيل: هو من الصعود؛ وأنهم صعدوا هاربين في أُحد ﴿وَلاَ تَلْوُونَ﴾ لا تلتفتون ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ يناديكم وأنتم منهزمين: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ جزاكم ﴿غُمّاً﴾ هزيمة ﴿بِغَمٍّ﴾ أي مقابل غمكم للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ومخالفتكم أمره. أو المعنى: غمكم بالهزيمة في أحد، مقابل غم الكافرين وهزيمتهم ببدر وهو كقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾
﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ﴾ والهزيمة ﴿أَمَنَةً نُّعَاساً﴾ أي أنزل تعالى على المؤمنين الأمن، وأزال عنهم الخوف حتى نعسوا ﴿يَغْشَى﴾ هذا النعاس ﴿طَآئِفَةٌ﴾ جماعة ﴿مَّنكُمْ﴾ وهم الذين كانوا مع الرسول في القتال، وعملوا بأمره، ولم تلههم الغنائم عن طاعته: فنعسوا من كثرة ما أمنوا. والنعاس في القتال: أمن من الله ورحمة، وفي الصلاة: من الشيطان ﴿وَطَآئِفَةٌ﴾ أخرى؛ وهم الذين خالفوا أمر الرسول، وانصرفوا إلى الغنائم؛ فتقدم المشركون وأثخنوا المؤمنين. وهذه الطائفة ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ والمحافظة على حياتهم؛ فهم من حذر الموت، وخشية القتل في شغل ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ﴾ الظن ﴿الْحَقِّ﴾ ويتوهمون أنه تعالى لا ينصر محمداً ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ الأولى، الذين كانوا يشركون بالله، ولا يعرفون رباً يعتمدون عليه، ويكلون أمورهم إليه ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم﴾ من النفاق ﴿مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ﴾ وذلك لأنهم كانوا يبدون للرسول الإسلام - وهم برآء منه - والحرص على الجهاد - وهم بعداء عنه ـ.
-[٨٢]- ﴿لَبَرَزَ﴾ خرج ﴿الَّذِينَ كُتِبَ﴾ قضى ﴿عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ مصارعهم ﴿وَلِيَبْتَلِيَ﴾ يختبر ﴿مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ من إيمان وإخلاص، أو كفر ونفاق ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ يميز حقيقة ﴿مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ من حب له، وتفان في سبيله، أو حب للذات، وتفان في الملذات ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بما في القلوب
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ﴾ انهزموا ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ الجيشان: جمع المسلمين، وجمع الكافرين؛ بأحد ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ أوقعهم في الزلة ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾ عملوا من الذنوب.
﴿وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ﴾ سافروا فيها، وتعرضوا للمتاعب والأخطار ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ جمع غاز ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا﴾ في ديارهم ﴿مَا مَاتُواْ﴾ في أسفارهم ﴿وَمَا قُتِلُواْ﴾ في غزواتهم. ونسوا أنهم لو كانوا في بيوتهم وكتب عليهم الموت؛ لسعى إليهم، أو سعوا إليه، وأن قضاء الله تعالى لا يدفع، وأمره لا يرد ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ﴾ القول الذي يقولونه، والتفكير الذي يفكرونه ﴿حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ تحز في نفوسهم ﴿وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ فلا يمنع من الموت قعود، ولا يكون القعود سبباً في الخلود
﴿لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ لذنوبكم ﴿وَرَحْمَةً﴾ منه لكم ﴿خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ من المال الفاني
﴿وَلَئِنْ مُّتُّمْ﴾ في فراشكم، أو أسفاركم ﴿أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ في حربكم وجهادكم ﴿لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ فيجزيكم خير ما عملتم
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ أي فبرحمة عظيمة كائنة من الله تعالى لهم؛ عاملتهم بهذا الرفق والتلطف ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً﴾ جافياً ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ قاسيه ﴿لاَنْفَضُّواْ﴾ تفرقوا ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ ما تقدم من ذنوبهم ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ تكريماً لهم، وتطييباً لنفوسهم: يا لله؛ عفو ومغفرة، ورفعة تبلغ حد المشاورة يأمر المولى عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم في الأمر - وهو خير الأنام، وهاديهم ومرشدهم - وكل الناس مهما ارتقوا وعلوا فمن مدده يغترفون، ومن فيضه يستقون ولكن الله تعالى أراد بهذه الآية أن يعلمنا التدبر في الأمور، والتشاور فيها؛ وما المبادىء الديمقراطية، والنظم الدستورية، والمجالس النيابية؛ إلا نتيجة تعاليم هذا الكتاب الكريم؛ فله تعالى الحمد على ما منَّ به وأنعم
-[٨٣]- ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ﴾ أي إذا استقر رأيك على إمضاء أمر من الأمور، وطابت نفسك له، وشاورت إخوانك وأحباءك، واستخرت إلهك ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ اعتمد على معونته ونصرته؛ فإنه لا شك معينك وناصرك
﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ وحده ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ الصادقون في الإيمان (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أن يخون. يقال: غل من المغنم: إذا أخذ منه خفية ﴿وَمَن يَغْلُلْ﴾ منكم ﴿يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ المعنى: أنه يأت حاملاً ذنب الغلول وإثمه ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ تعطى جزاء ما عملت وافياً؛ غير زائد ولا منقوص. قيل: نزلت حينما افتقدوا قطيفة من مغانم بدر؛ فقال بعضهم: لعل محمداً أخذها لنفسه. وقيل: ﴿أَنْ يَغُلَّ﴾ أي يكتم شيئاً مما أنزله الله تعالى عليه؛ رهبة من الناس أو رغبة
﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ أطاعه واتبع أمره، ولم يغل من مغنم، ولم يكتم علماً ﴿كَمَنْ﴾ غل في المغنم، وعصى مولاه، و ﴿بَآءَ﴾ رجع ﴿بِسَخْطٍ﴾ غضب ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ لا يستويان
﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ﴾ فالمتبع لرضوانه في جنات النعيم، والذي باء بسخطه في العذاب الأليم
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ﴾ تفضل عليهم وأكرمهم وأعزهم ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً﴾ محمداً: خاتم الرسل وإمامهم؛ عليه أفضل الصلاة وأتم السلام ﴿مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي من جنسهم، ولسانهم ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ من القرآن الكريم ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ يطهرهم من دنس الكفر والمعاصي ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿وَالْحِكْمَةِ﴾ العلم النافع
﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ﴾ أي أو حين أصابتكم ﴿مُّصِيبَةٍ﴾ يريد ما أصابهم يوم أُحد؛ من قتل وجراح ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا﴾ يوم بدر؛ فقد قتل من المسلمين بأحد سبعون رجلاً، وكان المسلمون قد قتلوا منهم ببدر سبعين وأسروا مثلهم ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا﴾ كيف يكون هذا؟ ومن أين أصابنا هذا ونحن مؤمنون وهم كافرون ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ لأنكم خذلتم الرسول، ولم تطيعوا أمره، وهرعتم إلى الغنائم، وتركتم مراكز القتال التي أمركم بالوقوف فيها؛ فكرَّ عليكم المشركون، ونالوا منكم ما نالوا؛ فلا تلوموا إلا أنفسكم
﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾ يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن من دعي للجهاد فلم يلب؛ كان للكفر أقرب منه للإيمان وجدير بمن سمع نداء الدين والوطن والواجب؛ فلم يلب هذا النداء؛ أن يموت إن شاء يهودياً أو نصرانياً ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ وهو قولهم: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾
﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ﴾ عن الجهاد؛ كفراً وجبناً ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ أي لو أطاعنا الذين خرجوا للقتال ﴿مَا قُتِلُوا﴾ ولكانوا سالمين مثلنا. قال الله تعالى لهم رداً عليهم ﴿قُلْ فَادْرَءُوا﴾ ادفعوا ﴿عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ﴾ بقعودكم عن الجهاد ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما تقولون
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ﴾ لا تظنن ﴿الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في الجهاد؛ لإعلاء دينه، ونصرة نبيه. لا تحسبنهم ﴿أَمْوَاتاً﴾ كسائر الأموات؛ الذين لا يحيون، ولا يبعثون إلا يوم القيامة ﴿بَلِ﴾ هم ﴿أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ يأكلون ويشربون، ويتلذذون ويتنعمون، ويضحكون ويمرحون
﴿فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ من نعيم مقيم، ورزق كريم ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم﴾ أي يستبشرون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يموتوا في الجهاد بعد، وبما سيؤول إليه حالهم بعد موتهم؛ من إكرام كإكرامهم، ونعيم كنعيمهم
﴿مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ﴾ الهزيمة بأحد.
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ أي قال لهم المنافقون ﴿لِلَّهِ﴾ الكفار ﴿قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ الجموع للقائكم ومحاربتكم ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ خافوهم ﴿فَزَادَهُمُ﴾ هذا التخويف، وذلك القول. أو زادهم تجمع الأعداء عليهم ﴿إِيمَاناً﴾ بالله، ووثوقاً بنصره الذي وعد به ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ كافينا وناصرنا
﴿فَانْقَلَبُواْ﴾ رجعوا ﴿بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ نصر وغنيمة ﴿لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ لم يصبهم قتل أو هزيمة ﴿وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ ما يوجب رضاءه تعالى
﴿إِنَّمَا ذلِكُمُ﴾ الذي يلقي الرعب في قلوب المؤمنين، ويصرف النفوس عن الجهاد في سبيل الله، ويخوفهم من الكافرين ﴿إِنَّمَا ذلِكُمُ﴾ هو ﴿الشَّيْطَانِ﴾ اللعين: عدو المؤمنين، وولي الكافرين ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي يخوفكم أتباعه من الكافرين
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ أي نمهلهم بدون جزاء وعذاب ﴿خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ﴾ أي ليس ذلك الإمهال خير لهم؛ بل هو شر كبير ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ نؤخرهم ﴿لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً﴾ على إثمهم
﴿مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ﴾ ليترك ﴿الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ من الفوضى والاضطراب؛ فبعضكم يؤمن ب الله تعالى إيماناً حقيقياً، وبعضكم ينافق، وبعضكم يعبد الله على حرف؛ فما كان الله ليترككم على هذه الصورة ﴿حَتَّى يَمِيزَ﴾ يفصل ويبين ﴿الْخَبِيثَ﴾ الكافر والمنافق ﴿مِنَ الطَّيِّبِ﴾ المؤمن الصادق الإيمان ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ أي ما كان ليطلعكم على ضمائر الناس؛ فتعرفوا ما فيها من كفر ونفاق؛ ولكنه تعالى يختبرهم بالتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والهجرة وأشباههما؛ فيميز المؤمن والطائع، من الكافر والمنافق.
-[٨٦]- ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي﴾ يختار ﴿مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ﴾ فيصطفيه فيطلعه على ما في ضمائر بعض الناس
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ من الأموال والأرزاق، لا يحسبون أن بخلهم به ﴿هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ﴾ في الحقيقة ﴿شَرٌّ لَّهُمْ﴾ في الدنيا بالأمراض، وبغض الناس لهم. وفي الآخرة ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ﴾ هو كناية عن إحاطة إثم البخل بهم؛ كإحاطة الطوق بالعنق ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ ملكهما، وما فيهما، ومن فيهما ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من خير أو شر ﴿خَبِيرٌ﴾ فيثيبكم عليه
﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾ قاله اليهود لعنهم الله تعالى؛ حين نزل قوله تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾ في صحائف أعمالهم؛ ليجازوا عليه يوم القيامة ﴿وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ﴾ ونكتب أيضاً قتلهم الأنبياء: كزكريا ويحيى عليهما السلام ﴿وَنَقُولُ﴾ لهم يوم القيامة ﴿ذُوقُواْ﴾ أيها الأغنياء الأغبياء ﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذلِكَ﴾ العذاب
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ من كفر ونكر ألم تقتلوا الأنبياء؟ ألم تقولوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾؟ وهم اليهود أيضاً
﴿إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ أوصانا وأمرنا ﴿أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ أي حتى يقدم هذا الرسول قرباناً؛ فتنزل نار من السماء فتأكله. وهذا افتراء منهم على الله حيث لم يعهد إليهم بذلك ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد
﴿قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالآيات الواضحات والمعجزات الظاهرات ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ أي بالقرابين التي تأكلها النار ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ وقد جاءوا بما عهد إليكم به الله في زعمكم
﴿فَإِن كَذَّبُوكَ﴾ بعد أن أفحمتهم ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا﴾ أقوامهم
-[٨٧]- ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالحجج والمعجزات ﴿وَالزُّبُرِ﴾ الصحف. جمع زبور؛ من الزبر: وهو الكتابة ﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ الذي ينير العقول من ظلمات الجهل، والقلوب من ظلمات الكفر
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ حتماً ولا يبقى غير وجه الله تعالى. وهذه الدنيا - كما أنها ليست بدار خلود - فإنها ليست بدار جزاء؛ فقد يغني الله تعالى فيها الشقي، ويفقر التقي ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾ كاملة ﴿يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ فيدخل الجنة من ابتغاها وعمل لها، ويصلى النار من كفر بالله، ولم يعبأ بوعده ووعيده ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ﴾ بأمر الله ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾ بفضله ورضاه ﴿فَقَدْ فَازَ﴾ فوزاً عظيماً ﴿وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ يتمتع بها من يغتر بزخرفها؛ وقد قلت فيها:
تعلموا أنما دنياكم عرض
ما لامرىء عاقل في جمعها غرض
دنيا تهم إذا ما أقبلت وإذا
ما أدبرت فهي في قلب الفتى مرض
فكم لفرقتها أشفى على تلف
صب بها مولع في حبها حرض
وهي الغرور فمن يبغ الركون لها
فإنه بين أهل الحق معترض
صلوا وصوموا وهشوا للزكاة إذا
ما كان مال، وقولوا: الحج مفترض
وارضوا بما قسم الرحمن بينكموا
فحسبكم أن تكونوا في الذين رضوا
ولا تظنوا دوام الحال، واعتبروا
بمن ترون عياناً، أو من انقرضوا
﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ لتختبرن وتمتحنن ﴿فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ بذهابها ونقصانها ﴿وأَنْفُسَكُمْ﴾ بالأمراض والأوبئة وفقد الأحبة ﴿وَأَن تَصْبِرُواْ﴾ على ذلك البلاء ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ الله ﴿فَإِنَّ ذلِكَ﴾ الصبر والتقوى أي من الأمور الواجبة الاتباع؛ التي يحرص عليها، ويعزم على أدائها
﴿فَنَبَذُوهُ﴾ طرحوا هذا الميثاق، وذلك الكتاب ﴿وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ﴾ فلم يبينوه للناس، وكتموا ما فيه عنهم
﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ﴾ من الأعمال، ويظنون أنهم من خيار الصلحاء الأتقياء ﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ﴾ أي يحبون أن يشتهر عنهم التقى وليسوا بالأتقياء، والصلاح؛ وليسوا بالصلحاء وهذا هو الرياء كل الرياء ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ﴾ بمنجاة ﴿مِّنَ الْعَذَابِ﴾ وذلك لأن أعمالهم مردودة عليهم، وعباداتهم غير مقبولة منهم؛ لأن الرياء يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ جزاء مراءاتهم للناس، وتركهم الإخلاص
﴿وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾ وما فيها من كواكب وأجرام ﴿والأَرْضِ﴾ وما عليها من دواب وحيوان وإنسان.
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وما فيها من عجب عجاب ﴿وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ بالزيادة والنقصان، والنور والظلمة ﴿لآيَاتٍ﴾ لعبر ﴿لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ ذوي العقول
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ﴾ يتذكرونه ﴿قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ والمراد بذكر الله في هذه الحالات: هو خشيته ومراقبته في كل حالة؛ وليس كما يدعيه أرباب الطرق: من أن تأويله ما يفعلونه في مراقصهم مما يتنافى مع الدين وآدابه وقيل: المراد بالذكر: الصلاة؛ وليس بشيء. قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وكيف خلقهما الله تعالى، وكيف حفظهما، وكيف رزق من فيهما؟ قائلين في حال ذكرهم وتفكرهم ﴿رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا﴾ الكون عبثاً و ﴿بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾ تنزهت وتعاليت عما يقوله الكافرون (أنظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)
﴿رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً﴾ هو الرسول أو القرآن الكريم ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا﴾ استر وامح الاْبْرَارِ} جمع بر، أو بار؛ وهم المستمسكون بالشريعة، المحافظون على حدود الله تعالى
﴿وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا﴾ من الفضل والرحمة والمغفرة ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾ أي على ألسنة رسلك
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أجاب دعاءهم، قائلاً لهم ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ وسأجزي كلاً بما فعل ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ يستوي في الأعمال الذكور والإناث ﴿لأُكَفِّرَنَّ﴾ لأمحون
-[٨٩]- ﴿ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ﴾ وجزاء لأعمالهم
﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ﴾ يا محمد، أو «لا يغرنك» أيها المؤمن ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ﴾ بالأموال والتجارة؛ فهذا
﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ في الدنيا ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ﴾ مرجعهم ﴿جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الفراش
﴿نُزُلاً﴾ موضع إكرام. والنزل: ما يعد لنزول الضيف وإكرامه.
﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ﴾ المتقين ﴿وَأَنْ﴾ اليهود والنصارى
﴿لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ ورسوله ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ من القرآن ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ من التوراة والإنجيل.
﴿وَصَابِرُواْ﴾ أي غالبوا الأعداء في الصبر على أهوال القتال، وشدائد الحروب
﴿وَرَابِطُواْ﴾ أي لازموا حدود بلادكم وثغوركم؛ مستعدين للدفاع والكفاح والغزو.
89
سورة النساء
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
90