ﰡ
مكية، إلا قوله: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ.. إلى قوله: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «١» فإنها نزلت في وحشي، قاتل حمزة «٢». وهى خمس وسبعون آية فى مصحف البصرة، واثنان وسبعون فى مصحف الكوفة. ومناسبتها لما قبلها قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «٣»، فإنه عين التنزيل الذي صدّر به، حيث قال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢)قلت: تَنْزِيلُ: خبر، أي: هذا تنزيل، و «من الله» : صلة لتنزيل، أو: خبر ثان، أو: حال من التنزيل، عاملها:
معنى الإشارة.
يقول الحق جلّ جلاله: هذا الذي تتلوه هو تَنْزِيلُ الْكِتابِ، نزل مِنَ عند اللَّهِ الْعَزِيزِ في سلطانه الْحَكِيمِ في تدبيره. وإيثار الوصفين للإيذان بجريان أثريهما في الكتاب، بجريان أحكامه ونفوذ أوامره ونواهيه. إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ: ليس بتكرُّر لأن الأول كالعنوان للكتاب، والثاني لبيان ما في الكتاب. قال أبو السعود: والمراد بالكتاب: القرآن، وإظهاره على تقدير كونه هو المراد بالأول لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه. والباء إما متعلقة بالإنزال، أي: بسبب الحق وإظهاره، أو: بداعيته واقتضائه، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة، أو: من الكتاب، أي: أنزلناه إليه محقين في ذلك، أو: ملتبساً بالحق والصواب، أي: ما فيه حق لا ريب فيه موجب العمل به حتماً. قال القشيري: بالحق، أي: بالدين الحق والشرع الحق، وأنا مُحِق في إنزاله.
(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٦٠٢) لابن النّحاس فى تاريخه، عن ابن عباس- رضي الله عنهما.
(٣) الآية: ٨٧ من سورة (ص).
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣ الى ٤]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي: هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة لأنه المنفرد بصفات الألوهية، التي من جملتها: الاطلاع على السرائر والضمائر.
الإشارة: قال القشيري: كتابٌ عزيزٌ، نزل من ربٍّ عزيز، على عبدٍ عزيز، بلسان مَلَكٍ عزيز، في شأنِ أمةٍ عزيزة، بأمرٍ عزيز. وأنشدوا:
ورَدَ الرسولُ من الحبيب الأوَّلِ... بعد البلاء، وبعد طُول الأمل «١»
تنزيل تنزّهت قلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها، في كتاب الأحباب، عند قراءة فصولها. والعجب منها كيف لا تزهو سروراً بوصولها، وارتياحاً بحصولها، وكتابُ موسى في الألواح، ومنها كان يقرأ موسى، وكتاب نبينا صلّى الله عليه وسلم نَزَلَ به الروح، الأمين، على قلبك، وفَصْلٌ بين من يكون خطاب ربه مكتوباً في ألواحه، وبين من يكون خطاب ربه محفوظاً في قلبه، وكذلك أمته، بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «٢» هـ.
وقوله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، قال القشيري: العبادة: معانقة الطاعات على نعت الخضوع، وتكون بالنفس وبالقلب وبالروح، فالتي بالنفس- أي: بالجوارح- الإخلاص فيها: التباعد عن الانتقاص، والتي بالقلب، أي: كالفكرة والنظرة، الإخلاص فيها: التباعد عن رؤية الأشخاص- أي: الحس من حيث هو- والتي بالروح، الإخلاص فيها: التنقِّي عن رؤية طلب الاختصاص «٣».
قوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ هو ما يكون جملته لله، وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد، اللهم إلا أن يكون بأمره، فإنه إذا أَمَرَ العبدَ أن يحتسب الأجرَ على طاعته، فأطاعه، لا يخرج عن الإخلاص بامتثاله ما أمره به، ولولا هذا مَا صحَّ أن يكون في العالَم مُخْلِصٌ، يعني: أن جُل الناس إنما يطيعون لاحتساب الأجر، إلا الفرد النادر، فمَن زال عنه الحجاب فإنه يعبد الله بالله، شكراً، وإظهاراً للأدب، فإن قصد الاحتساب، ثم طرأ عليه خواطر بعد تحقق الإخلاص، فلا يضر، يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلم: «مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» «٤» وهذا في أصل القصد، والعوارض غير مضرة، كما هو صريح حديث آخر. والله تعالى أعلم.
(٢) الآية ٤٩ من سورة العنكبوت.
(٣) بتصرف.
(٤) بعض حديث، أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ح ٨١٠) ومسلم فى (الإمارة، باب مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ٣/ ١٥١٢، ح ١٩٠٤) من حديث أبى موسى الأشعري رضي الله عنه. وأول الحديث: (أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم، والرّجل يقاتل ليذكر، والرّجل يقاتل ليرى مكانه، فمن فى سبيل الله؟... )
الحديث. [.....]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا...
قلت: «والذين» : مبتدأ، وما نَعْبُدُهُمْ: محكي بقول محذوف، حال من واو «اتخذوا» وجملة «إن الله» : خبر، والاستثناء مفرغ من أعم العلل، و «زلفى» : مصدر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي: لم يخلصوا في عبادتهم، بل شاوبُوها بعبادة غيره، كالأصنام، والملائكة، وعيسى، قائلين: ما نَعْبُدُهُمْ لشيء من الأشياء إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أي: تقريباً، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وبين خصمائهم، الذين هم المخلصون للدين، وقد حذف لدلالة الحال عليه، كقوله: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «١» على أحد الوجهين، أي: بين أحد منهم وبين غيره. قيل:
كان المسلمون إذا قالوا للمشركين: مَن خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، فإذا قالوا لهم: فمالكم تعبدون الأصنام؟
قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونآ إلى الله زلفى «٢».
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ يوم القيامة بين المتنازعين من المسلمين والمشركين فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من التوحيد والإشراك، وادعاء كل واحد صحة ما انتحله. وحكمُه تعالى هو إدخال الموحدين الجنة والمشركين النار.
وقيل: الموصول واقع على الأصنام، والعائد محذوف، أي: والذين اتخذوهم من دونه أولياء، قائلين: ما نعبدهم...
الخ، إن الله يحكم بينهم، أي: بين العبَدة والمعبودين فيما هم فيه يختلفون، حيث يرجون منها شفاعتها وهي تلعنهم، وهذا بعيد.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي: لا يُوفِّق للاهتداء مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ أي: راسخ في الكذب، مبالغ في الكفر، كما يُعرب عنه قراءة من قرأ: «كذاب» أو: «كذوب» «٣»، أي: لا يهديهما اليوم لدينه لسابق الشقاء، ولا في الآخرة
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٧/ ١٠٨) عن قتادة.
(٣) قرأ أنس بن مالك، والحسن، والأعرج، وابن يعمر: «كذّاب»، وقرأ زيد بن علىّ: «كذّوب»... انظر البحر المحيط (٧/ ٣٩٩).
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما يزعم مَن يقول: الملائكة بنات الله، والمسيح وعزيز ابن الله، تعالى الله عن قولهم عُلواً كبيراً، لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي: لاختار مِن خلقه ما يشاء، ممن له مناسبة صمدانية، كالملائكة، فإنهم منزهون عن نقائص البشرية، كالأ كل والشرب والنكاح، لكن لم يُرد ذلك لاستحالته في حقه تعالى.
قال القشيري: خاطَبَهم على قَدْرِ عقولهم وعقائدهم، فقال: لو أراد الله أن يتخذ ولدا بالتبنِّي والكرامة لاختار من الملائكة، الذين هم مبرءون من الأكل والشرب وأوصافِ الخلق، ثم أخبر عن تَقَدُّسه عن ذلك، فقال:
سُبْحانَهُ أي: تنزيهاً له عن اتخاذ الولد على الحقيقة لاستحالة معناه في نَعْتِه، ولا بالتبني، لتقدُّسه عن الجنسية، والمحالات تدل على وجه الإبعاد. هـ.
والحاصل: أن الولد في حقه تعالى إن كان عن طريق التولُّد فهو محال، عقلاً ونقلاً، وإن كان عن طريق التبني والكرامة فمُحال سمعاً، وقيل: وعقلاً. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: قوله، أي:
القشيري: لتقدُّسه عن الجنسية، يعني لوحدته وقهره، كما رمز إلى ذلك بذكر الاسمين، أي: الواحد القهّار، وهما عاملان في كل مخلوق، ومحال تعطيلهما بالتبني المقتضي للجنسية، المباينة للوحدانية والقهر، فلا يمكن إلا العبودية، عقلاً، ونقلاً، وحقيقة، وهذا أشد من كلام ابن عطية، فإنه جوّز اتخاذه على جهة التشريف والتبني عقلاً، وإن امتنع شرعاً، لعموم آية: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «١» لاتخاذ النسل المستحيل عقلاً ونقلاً، ولاتخاذ الاصطفاء الممتنع شرعاً. وهو أيضاً أشدُّ من كلام الزمخشري، حيث قال: معنى الآية: لو أراد الله اتخاذ الولد لا متنع ذلك، ولكنه يصطفي مَن يشاء من عباده، على وجه الاختصاص والتقريب، لا على وجه اتخاذه ولداً. هـ. فأجعل في الامتناع، وإن كان المتبادر منه شمول القسمين، وكذا قرر جواب «لو»، أي: لامتنع، وجعل قوله: لَاصْطَفى الذي هو ظاهر في كونه جواباً غير جواب «بل» على معنى الاستئناف، وهو خلاف المطروق والمفهوم من جري الكلام. والله أعلم.
وما ذكره الزمخشري أيضاً من الامتناع مع الإرادة هو فرض لتعلُّق الإرادة بالممتنع، وهي إنما تتعلق بالجائز، ويحتمل بناؤه على مذهبه الفاسد في إرادة بعض ما لم يقع، وهو شنيع مذهبه، بل ويلزمه عود القهر
قال تعالى: سُبْحانَهُ أي: تنزّه بالذات عن اتخاذ الولد، تنزهه الخاص به، على أن" سبحان" مصدر، من: سبّح: إذا بعّد. هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ: استئناف مبينٌ لتنزهه بحسب الصفات، إثر بيان تنزُّهه عنه بحسب الذات، فإن صفة الألوهية المستتبعة لسائر صفات الكمال، النافية لسمات النقصان، والوحدة الذاتية، الموجبة لامتناع المماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيره على الإطلاق، مما يقتضي تنزهه تعالى عما قالوه، قضاء متيقناً، وكذا وصف [القهارية] «١» لأن اتخاذ الولد شأنُ مَن يكون تحت ملكوت الغير، عرضة للفناء، ليقوم الولد مقامه عند فنائه، ومَن هو مستحيل الفناء، قهّار لكل الكائنات، كيف يتصور أن يتخذ من الأسماء الفانية مَن يقوم مقامه؟ قاله أبو السعود.
الإشارة: الحق سبحانه غيور، لا يرضى لغيره أنْ يَعْبُدَ معه غيره، كان على وجه الواسطة والتقريب، أو:
على وجه الاستقلال. لذلك حَرُم السجود لغير الله، وأما الخضوع للأولياء، العارفين بالله، على غير وجه العبادة، فهو عين الخضوع لله لأن الله تعالى أمر بالخضوع للرسل، الدالين على الله، وهم ورثتهم في الدلالة، لكن لا يكون ذلك على هيئة السجود، وإنما يكون على وجه تقبيل القدم أو الأرض بين أيديهم، كما قال الشاعر:
يا مَن يَلُوم خمرة المحبه | فخذوا عَنِّي هَيَ حَلالْ |
ومَن يرد يسقي منها عبهْ | خَدّ يضَع لأقدام الرَجالْ |
رأسِي حطَطت بكُلِّ شَيبه | هُم المَوالِي سَقَونِي زلالْ |
قال الله تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «٢». قلت: ولأجل هذا وجب على مَن أراد الوصول إلى الله أن يتخذ شيخاً عارفاً بأحكام الوقت، ذا بصيرة بدسائس النفس، فيأمره في كل وقت، وفي كل زمان، بما يناسبه ليُخرجه من هوى نفسه، وأسر طبعه، وإلا بقي في العنت والبُعد عن الله، يعبد الله على حرف، كلما زاد عبادة وقربا- فى
(٢) من الآية ٢٧ من سور الحديد
ونحن كَدُودِ القزِّ يحصرُنا الذي | صنعنا لدفع الحصر سجناً لنا مِنَّا «١» |
ثم ذكر دلائل توحيده تعالى، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥ الى ٦]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
يقول الحق جلّ جلاله: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي: وما بينهما من الموجودات، ملتبسة بِالْحَقِّ مشتملة على الحكم والمصالح الدينية والدنيوية يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ، التكوير: اللّف والليّ، يقال: كار العمامة على رأسه وكوّرها. والمعنى: أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه، ويلفه لف اللباس باللابس، أو: يغيّبه كما يغيب الملفوف باللفافة، أو: يجعله كاراً عليه كرُوراً متتابعاً، تتابع أكوار العمامة، وهذا بيان لكيفية تصرفه تعالى في السموات والأرض بعد بيان خلقهما، وعبّر بالمضارع للدلالة على التجرُّد.
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ: جعلهما منقادين لأمره. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، وهو يوم القيامة، أو:
كل منهما يجري لمنتهى دورته، أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على كل شيء، ومن جملتها: عقاب العصاة، الْغَفَّارُ: المبالغ في المغفرة، ولذلك لا يُعاجل بالعقوبة، ولا يمنع ما في هذه الصنائع البديعة من آثار رحمته.
وتصدير الجملة بحرف التنبيه، لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها.
ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها: عطف على محذوف، صفة لنفس، أي: من نفسٍ خلقها ثم جعل منها زوجها، أو:
على معنى: واحدة، أي: نفس وُجدت ثم جعل منها زوجها حواء، وعطفت بثم دلالة على مباينتها له فضلاً ومزية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، مع التراخي في الزمان. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذّر، ثم أخرج منه حوّاء، ففيه ثلاث آيات خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من قصيراه «١»، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما.
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ أي: قضى وجعل، أو: خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام، ثم أنزلها، أو: أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء، كالأمطار، وأشعة الكواكب، كما تقول الفلاسفة. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكراً وأنثى، وهي:
الإبل، والبقر، والضأن، والمعز. فالزوج اسم لواحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد، ووتر.
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ: استئناف لبيان كيفية خلقهم، وأطواهم المختلفة، الدالة على القدرة القاهرة. وصيغة المضارع للدلالة على التجرُّد. خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ: مصدر مؤكد، أي: يخلقكم فيها خلقاً كائناً من بعد خلق، أي: خلقاً مُدرَّجاً، حيواناً سويّاً، من بعد عظام مكسوة لحماً، من بعد عظام عارية، من بعد مضغة مخلَّقة، من بعد مضغة غير مخلَّقة، من بعد علقة، من بعد نطفة، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، أو: ظلمة الصلب، والبطن، والرحم.
ذلِكُمُ: إشارة إلى الحق تعالى، باعتبار أفعاله المذكورة، وهو مبتدأ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلته في العظمة والكبرياء، أي: ذلكم العظيم الشأن، الذي عددت أفعاله هو اللَّهُ رَبُّكُمْ أي: مربيكم بنعمة الإيجاد على الأطوار المتقدمة، وبنعمة الإمداد بعد نفخ الروح فيه. لَهُ الْمُلْكُ: التصرف التام على الإطلاق في الدارين. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ: لا متصرف غيره. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ: فكيف تصرفون عن عادته تعالى، مع وفور دواعيها، وانتفاء الصارف عنها بالكلية، إلى عبادة غيره، من غير داع إليها، مع كثرة الصوارف عنها؟ والله تعالى أعلم.
ثم أمرهم بالشكر عليها، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنْ تَكْفُرُوا به تعالى، بعد مشاهدة هذه النعم الجسمية، وشئونه العظيمة، الموجبة للإيمان والشكر، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي: فاعلموا أنه تعالى غَنِي عن إيمانكم وشكركم، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ لأن الكفر ليس برضا الله، وإن كان بإرادته، وعدمُ رضاه تعالى بالكفر لأجل منفعتهم، ودفع مضرتهم، رحمة بهم، لا لتضرره تعالى به. وَإِنْ تَشْكُرُوا وتؤمنوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي: يرضى الشكر لأجلكم ومنفعتكم لأنه سبب الفوز بسعادة الدارين.
وإنما قال: لِعِبادِهِ ولم يقل «لكم»، لتعميم الحكم، وتعليله بكونهم عباده تعالى، والحاصل: أن وقوع الطاعة والإيمان هو بقدرته تعالى، وإرادته ورضاه، وأما الكفر والمعاصي فهو بقضائه وإرادته، ولم يرضها من عبده شرعاً، وإن رضيها تكويناً لتقوم الحجة على العبد، ويظهر صورة العدل، ولا يظلم ربك أحداً، وإن كان الكل منه وإليه.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: بيان لعدم سريان كفر الكافر إلى غيره، أي: ولا تحمل نفس حاملة لوزرها حمل نفس أخرى، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ بالبعث بعد الموت، فَيُنَبِّئُكُمْ يُخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
الإشارة: قد تقدّم الكلام على الشكر في سورة سبأ «١» قال القشيري: قوله تعالى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ إن أطعتني شكرتُك، وإن ذكرتني ذكرتُك، وإن خطوت لأجلي خطوةً ملأتُ السموات والأرض من شكرك، وأنشدوا.
لو عَلِمْنا أن الزيارةَ حقٌ | لَفَرَشْنَا الخدودَ أرضاً لِتَرْضَى |
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٨]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ أي: جنس الإنسان ضُرٌّ من مرض وغيره دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إليه راجعاً إليه مما كان يدعوه في حالة الرخاء لعِلمه بأنه بمعزل عن القدرة على كشف ضره، وهذا وصف للجنس ببعض أفراده، كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ «٢» وقيل: المراد أبو جهل، أو: كل كافر.
ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ أي: أعطاه نعمة عظيمة من جنابه، من التخوُّل، وهو التعهُّد، يقال: فلان خائل مال، إذا كان متعهّداً إليه حسن القيام به. وفي الصحاح: خَوَّله اللهُ الشيء: ملَّكه إياه. وفي القاموس: وخوَّله اللهُ المالَ:
أعطاه إياه.
قال ابن عطية: خوَّله، أي: ملَّكه، وحكمه فيها ابتداء من الله، لا مجازاة، ولا يقال في الجزاء: خوّل. هـ. أو:
من الخوَل، وهو الافتخار، أي: جعله يخول، أي: يختال ويفتخر بنعمه. نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أي:
نسيَ الضر الذي كان يدعو الله تعالى كشفه من قبل التخويل، أو: نسي ربه الذي كان يدعو ويتضرّع إليه، على أن
(٢) من الآية ٣٤ من سورة إبراهيم.
«٢».
وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً: شركاء في العبادة لِيُضِلَّ «٣» بذلك عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو التوحيد. أي:
ليُضل غيره، أو: ليزداد ضلالاً، أو: يثبت عليه، على القراءتين، وإلا فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور. واللام للعاقبة، كما في قوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «٤» غير أن هذا أقرب للحقيقة لأن الجاعل هنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال، وإن لم يعرف لجهله أنهما إضلال وضلال، وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلاً. قاله أبو السعود.
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي: تمتعاً قليلاً، أو: زماناً قليلاً في الدنيا، وهو تهديد لذلك الضال المضل، وبيان لحاله ومآله. إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أي: من ملازميها، والمعذَّبين فيها على الدوام، وهو تعليل لقلة التمتُّع.
وفيه من الإقناط من النجاة ما لا يخفى، كأنه قيل: إذا أبيتَ قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك أن تؤمَر بتركه لتذوق عقوبته.
الإشارة: الصفة الممدوحة في الإنسان: أن يكون إذا مسَّه الضر التجأ إلى سيده، مع الرضا والتسليم، فإذا كشف عنه شكر الله وحمده، ودام على شكره، ونسب التأثير إلى الأسباب والعلل، وهو صريح الآية. وبالله التوفيق.
ثم ذكر حال من شكر، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٩]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
يقول الحق جلّ جلاله: أَمَّنْ «٥» هُوَ قانِتٌ أي: مطيع، قائم بواجب الطاعات، دائم على أداء وظائف العبادات، آناءَ اللَّيْلِ أي: في ساعات الليل، حالتي السراء والضراء، كمَن ليس كذلك، بل إنما يفزع إلى الله
(٢) من الآية ٢ من سورة الحج.
(٣) قرأ الجمهور: «ليضل» بضم الياء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بفتحها. انظر الإتحاف (٢/ ٤٢٧) والبحر المحيط (٧/ ٤٠١).
(٤) الآية ٨ من سورة القصص. [.....]
(٥) قرأ نافع، وابن كثير، وحمزة: بتخفيف الميم، على أنها موصولة، دخلت عليها همزة الاستفهام التقريرى، ومقابله محذوف لفهم المعنى، والتقدير: أمن هو قانت. إلخ كمن جعل لله أندادا. وقرأ الباقون بالتشديد. والتوجيه ذكره الشيخ المفسر- رحمه الله. انظر:
إتحاف فضلاء البشر (٢/ ٤٢٨).
حال كون القانت ساجِداً وَقائِماً أي: جامعاً بين الوصفين المحمودين. وتقديم السجود على القيام لكونه أدخل في معنى العبادة. يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي: عذاب الآخرة، حال أخرى، أو: استئناف، جواب عما نشأ من حكاية حاله من القنوت والسجود، كأنه قيل: فما باله يفعل ذلك؟ فيقل: يحذر الآخرة، وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي:
الجنة، فينجو بذلك مما يحذره، ويفوز بما يرجوه، كما ينبئ عنه التعرُّض لعنوان الربوبية، المنبئة عن التبليغ إلى الكمال، مع الإضافة إلى ضمير الراجي.
ودلّت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء، يرجو رحمته، لا عمله، ويحذر عقابه لتقصيره في عمله، ثم الرجاء إذا جاوز حدّه يكون أمناً. والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياساً، وقد قال تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «١»، ولا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «٢»، فيجب ألا يجاوز أحدهما حدَّه بل يكون كالطائر بين جناحيه، إلا في حالة المرض، فيغلب الرجاء، ليحسن ظنه بالله. ومذهب محققي الصوفية: تغليب الرجاء مطلقاً، لهم ولعباد الله لغلبة حسن ظنهم بربهم.
والآية، قيل: نزلت في عثمان رضي الله عنه كان يحيي الليل، وقيل: في عمار وأبي حذيفة «٣»، وهي عامة لمَن سواهم.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ حقائق الأحوال، فيعلمون بموجب علمهم، كالقانت المذكور، وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ شيئاً فيعلمون بمقتضى جهلهم، كدأب الكافر المتقدم. والاستفهام للتنبيه على أن يكون الأولين في أعلى معارج الخير، وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور، بحيث لا يكاد يخفى على أحد.
قال النسفي: أي: يعلمون ويعملون به، كأنه جعل مَن لا يعمل غير عالم، وفيه ازدراءٌ عظيمٌ بالذين يقْتَنون- أي: يدخرون- العلوم، ثم لا يَقْنُتون، ويَتفننون فيها، ثم يُفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء. أو: يريد به التشبيه، أي: كما لا يستوي العالم والجاهل، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. هـ.
(٢) من الآية ٨٧ من سورة يوسف.
(٣) انظر الدر المنثور (٥/ ٦٠٥) وتفسير البغوي (٧/ ١١) وأسباب النّزول للواحدى (ص ٣٨٢).
التمكُّن من شهود الذات الأقدس، عاجلاً وآجلاً، وقنوت الصالحين، وهي عبادة الجوارح، كالركوع والسجود والتلاوة، وغيرها من أعمال الجوارح، وثمرتها نعيم الجنان بالحور والولدان، مع الرضا والرضوان، ورؤية وجه الرحمن.
رُوي عن قبيصة بن سفيان، قال: رأيت سفيان الثوري في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فأنشأ يقول:
نظرتُ إِلَى ربِّي عِياناً فقال لي... هنيئاً رضائي عنك يا ابنَ سعيدِ
لقد كنتَ قوَّاماً إذا الليلُ قد دَجا... بِعَبْرة محزونٍ وقلب عميدِ
فدونك فاختر أيّ قصر تريدُه... وزرني فإني منك غيرُ بعيدِ
وكان شعبةُ ومِسْعَر رجلين صالحين، وكانا من ثقة المحدِّثين، فماتا، قال أبو أحمد اليزيدي: فرأيتهما في المنام، وكنتُ إلى شعبة أميل مني إلى مسعر، فقلت لشعبة: يا أبا بسطام ما فعل الله بك؟ فقال: يا بني احفظ ما أقول لك:
حَباني إلهي في الجِنان بقُبة... لها ألفُ باب من لجَيْن «١» وجوهرا
وقال لي الجبارُ: يا شعبة الذي... تبحَّر في جمع العلوم وأكثرا
تمتعْ بقربي، إنني عنك ذو رضا... وعن عبديَ القوَّام في الليل مِسعرا
كفى مسعراً عزّاً بأنْ سيزورُني... وأكشفُ عن وجهي ويدنو لينظروا
وهذا فَعالي بالذين تنسَّكوا... ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا.
وقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي: لا يستوي العالم بالله مع الجاهل به، العالم يعبده على العيان، والجاهل به في مقام الاستدلال والبرهان. العالم بالله يستدل بالله على غيره، والجاهل يستدل بالأشياء على الله، وشتّان بين مَن يستدل به أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله، وأثبت الأمر
قال القشيري: العلم المخلوق على ضربين: علم مجلوبٌ بكسب العبد، وموهوبٌ من قِبَلِ الربِّ.. انظر تمامه.
ثم أمر بالتقوى، التي هى أصل القنوت، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٠]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
قلت: فِي هذِهِ: متعلق بأحسنوا، أو: بحسنة، على أنه بيان لمكانها، أو: حال من ضميرها في الظرف.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم بأن يحثّهم على التقوى ويُذكِّرهم بها، بعد تخصيص التذكير بأولي الألباب، إيذاناً بأن أُولي الألباب هم أهل التقوى، وفي إضافتهم إلى ضمير الجلالة بقوله: يا عِبادِ تشريف لهم، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به، وهو التقوى.
ثم حرَّض على الامتثال بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي: اتقوا الله وأطاعوه فِي هذِهِ الدُّنْيا الفانية، التي هي مزرعة الآخرة. حَسَنَةٌ أي: حسنةٌ عظيمة، لا يُكتنه كُنهها، وهي الجنة ونعيمها، أو: للذين أحسنوا بالطاعة والإخلاص حسنة معجّلة في الدنيا، وهي الصحة والعافية، والحياة الطيبة، أو: للذين أحسنوا، أي: حصلوا مقام الإحسان- الذي عبّر عنه عليه الصلاة والسّلام بقوله: «أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه» - حسنة كبيرة، وهي لذة الشهود، والأنس بالملك الودود في الدارين.
ولمّا كان الخروج من الوطن صعباً على النفوس، يحتاج إلى صبر كبير رغّب في الصبر بقوله: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة الأوطان، وتحمُّل مشاق الطاعات، وتحقيق الإحسان، أَجْرَهُمْ في مقابلة ما كابدوه من الصبر، بِغَيْرِ حِسابٍ بحيث لا يحصى ولا يحصر بل يصب عليهم الأجر صبا، فلهم مالا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: (لا يهدي إليه حساب الحسّاب، ولا يُعرف)، وفي الحديث: «أنه يُنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصيام والحج، فيوفّون بها أجورهم، ولا تنصب لأهل البلاء بل يُصب عليهم الأجر صبّاً، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» «١». وكل ما يشق على النفس ويتعبها فهو بلاء، والله تعالى أعلم.
الإشارة: بالتقوى الكاملة يصير العبد من أُولي الألباب، فبقدر ما تعظم التقوى يعظم إشراق النور في القلب، ويتصفّى من الرذائل، وقد تقدّم الكلام عليها مستوفياً عند قوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ «٢» فمَن أحسن في تقواه أحسن الله عاقبته ومثواه، وحفظه في دنياه وأخراه.
فمَن تعذّرت عليه التقوى في وطنه، فليهاجر منه إلى غيره، والهجرة سُنَّة نبوية، وليتجرّع الصبر على مفارقة الأوطان، ومهاجرة العشائر والإخوان، لينخرط في سلك أهل الإحسان، قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ «٣» الآية.
قال القشيري: الصبر: حَبْسُ النفس على ما تكره، ويقال: تجرُّعُ كاسات التقدير، من غير استكراهٍ ولا تعبيس، ويقال: التهدُّف «٤» لسهام البلاء. هـ.
(٢) الآية ١٠٠ من سورة النّساء.
(٣) الآية ١٠٠ من سورة التوبة.
(٤) التهدف: الدنو والاستقبال.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١١ الى ١٦]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ حال كوني مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ من كل ما ينافيه من الشرك والرياء، وما أمر به ﷺ يُؤمر به أمته بل هم المقصودون. ثم قال: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي: وأُمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة لأن إحراز قصَبِ السبق في الدين بالإخلاص فيه، فالإسلام الحقيقي هو المنعوت بالإخلاص، والتقدير: أُمرت بالعبادة والإخلاص فيها، وأُمرت بذلك لأن أكون أول المخلصين.
أو: تكون اللام زائدة، وهو أظهر، كقوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ «١» أي: من قومي، أو: من أهل زماني، أو: أكون أول مَن دعا غيره إلى ما دعا إليه نفسه، وهو الإسلام، وحاصله: أُمرت بإخلاص الدين، وأُمرت أن أكون من السابقين في ذلك زماناً ورتبة لأنه داع إلى الإسلام، والداعي إلى الشيء ينبغي أن يكون متحلياً به، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء، لا الملوك والمتجبرين.
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص، والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة. وُصف بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال.
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ لا غيره، لا استقلالاً ولا اشتراكاً. وليس بتكرار لأن الأول إخبار عن كونه مأموراً بالإخلاص في الدين، وبالسبق إليه، وهذا إخبار بأنه امتثل الأمر، وفعل ما أُمر به. وقدِّم المفعول لأنه جواب لقول الكفرة: أعْبُدْ
قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الكاملين في الخسران، الذي هو عبارة عن: إضاعة ما يهمه، وإتلاف ما لا بد منه، هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها للعطب، وَأَهْلِيهِمْ بتعريضهم للتفرُّق عنهم، فرقاً لا جمع بعده إما في عذاب الأبد، إن ماتوا على الكفر معهم، أو: في الجنة، إن آمنوا، فلا يرونهم أبداً. وقيل: خسروا أهلهم لأنهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم أهل في الجنة، أو: خسروا أهلهم الذين كانوا يتمتعون بهم، لو آمنوا. أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الذي لا خسران أظهر منه. وتصدير الجملة بحرف التنبيه، والإشارة بذلك إلى بُعد منزلة المشار إليه في الشر. وتوسيط ضمير الفصل، وتعريف الخسران، ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هو له وفظاعته، وأنه لا خسران وراءه، مالا يخفى.
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ أي: لهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض، كائنة من النار، وَمِنْ تَحْتِهِمْ أيضاً ظُلَلٌ أي: أطباق كثيرة، بعضها تحت بعض، هي ظلل لآخرين. ذلِكَ العذاب الفظيع هو الذي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ويُحذِّرهم إياه ليجتنبوا ما يوقعهم فيه. يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ولا تتعرضوا لِما يُوجب سخطي. وهذه موعظة من الله بالغة، منطوية على غاية اللطف والرحمة، جعلنا الله من أهلها بمنِّه وكرمه.
الإشارة: الإخلاص سر بين الله وبين عبده، لا يطلع عليه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده، وهو الغيبة عما سوى الله، فلا يرى في الدارين إلا الله، ولا يعتمد إلا عليه، ولا يخاف إلا منه، ولا يرجو إلا إياه. والإسلام هو:
الانقياد بالجوارح في الظاهر للأحكام التكليفية، والاستسلام في الباطن للأحكام القهرية التعريفية، فالإسلام صورة، والاستسلام روحها، فالإسلام بلا استسلام جسد بلا روح.
وقوله تعالى: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ هو تهديد لمَن عبدَ نفسه وهواه، وهو الخسران المبين. ويقال: الخاسر:
مَن خسر أيام عمره بالبطالة والتقصير، وخسر آخرته بعدم التأهُّب والتشمير، وخسر مولاه بعدم الوصول إلى
ثم ذكر ضد أهل الخسران، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
قلت: أَنْ يَعْبُدُوها: بدل اشتمال من «الطاغوت»، والطاغوت: فعلوت، من الطغيان، بتقديم اللام على العين، وأصله: طغيوت، ثم طيغوت، ثم طاغوت.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أي: البالغ [أقصى] «١» غاية الطغيان، وهو الشيطان أَنْ يَعْبُدُوها أي: اجتنبوا عبادة الطاغوت، الذي هو الشيطان، أو: كل ما عُبد من دون الله، وكل مَن عَبَد غيرَ الله فإنما عَبَد الشيطان لأنه هو المزيّن لها، والحامل عليها. وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي: وأقبلوا إليه، معرضين عما سواه، إقبالاً كليّاً، لَهُمُ الْبُشْرى بالنعيم المقيم، على ألسنة الرسل والملائكة، عند حضور الموت، وحين يُحشرون، وبعد ذلك.
فَبَشِّرْ عِبادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ أي: ما نزل من الوحي فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أرجحه وأكثره ثواباً، أو: أبْينه، الذي هو ضد المتشابه. وهؤلاء هم الموصوفون باجتناب الطاغوت، والإنابة إلى ربهم، لكن وضع موضع ضميرهم الظاهر تشريفاً لهم بالإضافة، ودلالةً على أن مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نُقاداً في الدين، يُميِّزون الحق من الباطل، ويُؤثرون الأفضل.
أُولئِكَ المنعوتون بتلك المحاسن الجملية هم الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ لدينه، والإشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجليلة، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو رتبهم، وبُعد منزلتهم في الفضل.
وفيه دليل على أنَّ الهداية تحصل بفضل الله تعالى، لقوله: هَداهُمُ اللَّهُ، وقبول النفس لها لقوله: هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ الإشارة: مذهب الصوفية: الأخذ بالعزائم، والأرجح من كل شيء، عقداً، وقولاً، وعملاً، فأخذوا من العقائد مقام العيان، ولم يقنعوا بالدليل والبرهان، وأخذوا من الأقوال ألينها وأطيبها، ويجمع ذلك: حسن الخلق مع كل مخلوق، فآثروا العفو على القصاص، والصفح على العتاب، وغير ذلك من عزائم الشريعة على رخصها، ومن الأذكار: أرجحها وأجمعها، وهو الاسم المفرد، الذي هو سلطان الأسماء، ومن الأعمال: أعظمها وأرجحها، وهو عمل القلوب، الذي هو الذرة منه تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، كعبادة الفكرة والنظرة، وفي الحديث:
«تفكُّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة» «١»، فأوقاتهم كلها ليلة القدر، وكالتخلُّق بمكارم الأخلاق، كالرضا، والتسليم، والحلم، والسخاء، والكرم، وغير ذلك من محاسن الخِلل، الذي هو من عمل القلوب، فهم الذين تحققت فيهم البشارة بقوله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
وقال الورتجبي- بعد كلام: ويَتبع الكلام الأزلي- الذي هو الخطاب- بالفهم العجيب، والعلم الغريب، والإدراك الصافي، وانفراد الحق عن المخلوق، في المحبة، والشوق، والمعرفة، والتوحيد، والإخلاص، والعبودية، والربوبية، والحرية، فهذا أفضل وِرد بالبديهة، من حيث ظهور الأنباء العجيبة، والروح القدسية، والإلهامات الربانية.. انظر بقية كلامه. وقال القشيري: الاستماع يكون لكل شيء، والاتباع يكون للأحسن. ثم قال: مَن عرف الله لا يسمع إلا بالله. هـ. أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ إلى صريح معرفته العيانية. وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ، ولب الشيء: قلبه وخالصه، فقلوبهم خالصة لمولاهم، وأرواحهم متنعمة بشهود حبيبها، وأسرارهم متنزهة في رياض ملكوت سيدها. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ضدهم، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٩]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، وهم عبَدَة الطاغوت ومتبعو خطواتها، كما يلُوح إليه التعبير عنهم ب «مَن حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب»، فإن المراد بها قوله تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «١»، وقوله تعالى: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ «٢»، أي: أفمن حقّت عليه كلمة الشقاء، تقدر أن تهديه وتُنقذه من الكفر، الذي هو سبب النار؟ أو: تقول: المحكوم عليه بالنار بمنزلة الداخل فيها، فاجتهاده صلّى الله عليه وسلم في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار بعد الدخول فيها، وهو لا يفيد. فالمراد:
تسكينه صلّى الله عليه وسلم وتفريغه من الحرص عليهم.
الإشارة: مَن سبق له الإبعاد لا يفيده الكد والاجتهاد، ومَن أسدل بينه وبينه الحجاب، لا يفيده إلا الوقوف بالباب، حتى يحنّ الكريمُ الوهاب، فإنّ العواقب فى هذه الدار مبهمة، والأعمال بالخواتم. قال القشيري: والذين حقت عليهم كلمةُ العذاب، فإنهم اليوم اليوم لا يخرجون من حجاب قلوبهم. هـ. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان المراد بقوله: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ هم الذين قيل في حقهم: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ «٣» استدرك عنهم أهل التقى، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٠]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
(٢) الآية ١٨ من سورة الأعراف.
(٣) الآية ١٦ من السورة.
فبيَّن هنا أن لهم درجات عالية في جنات النعيم، في مقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم، فهي في مقابلة قوله لَهُمْ: مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ في حق الكفار، أي: لكن أهل التقى لهم عَلالِي، بعضها فوق بعض مَبْنِيَّةٌ بناء المنازل المؤسسة على الأرض في الرصانة والإحكام. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي:
من تحت تلك الغرف الْأَنْهارُ من غير تفاوت بين العلو والسفل. وَعْدَ اللَّهِ أي: وعد الله ذلك وعداً، فهو مصدر مؤكد لقوله: لَهُمْ غُرَفٌ فإنه في قوة الوعد. لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ لاستحالته عليه سبحانه.
الإشارة: مَن اتقى الله فيما أمر ونهى، كانت له درجات حسية، مبنية من الذهب والفضة، يترقَّى فيها على قدر عمله وتقواه. ومَن اتقى ما يشغل عن الله من جنس الكائنات، كانت له درجات ومقامات معنوية، قُربية اصطفائية، يرتقي فيها بقدر تقواه وسعيه إلى مولاه، وعد الله لا يُخلف الله الميعاد. قال القشيري: وَعَدَ المطيعين الجنة- ولا محالة- لا يُخلفه، ووَعَدَ المذنبين المغفرة، ولا محالة- يغفر لهم، ووَعَدَ المريدين القاصدين بالوصول، فإذا لم تقع لهم فترة فلا محالةَ يَصدقُ وَعْده. هـ.
ثم برهن على ما أوعد ووعد مما يكون بعد البعث من آثار قدرته، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مآء فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ أيها السامع أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر، وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء، ينزل منها إلى الصخرة، فيقسمه الله تعالى بين البقاع. فَسَلَكَهُ: أدخله ونظمه يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي: عيوناً ومجاري في الأرض، كجري الدماء في العروق في الأجساد، أو: مياهاً
(٢) من الآية ١٠ من سورة الزمر.
ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ: أصنافه، من بُر وشعير وغيرهما، أو: كيفياته من الألوان، كالصفرة والخضرة والحمرة، والطعوم وغيرهما. وثُمَّ: للتراخي في الرتبة والزمان، وصيغة المضارع: لاستحضار الصورة البديعة، ثُمَّ يَهِيجُ أي: يتم جفافه، ويشرف على أن يثور من منابته، ويستقل على وجه الأرض، ساتراً لها، فَتَراهُ مُصْفَرًّا من بعد خضرته ونَضرته، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فُتاتاً متكسرة، كأن لم يغنَ بالأمس، فمَن قدر على هذا قدر على إنشاء الخلق بعد فنائهم ومجازاتهم.
وقيل: المراد من الآية: تمثيل الحياةِ الدنيا، في سرعة الزوال، وقُرب الاضمحلال، بما ذكر من أحوال الزرع، ترغيباً عن زخارفها وزينتها، وتحذيراً من الاغترار بمَن سُرّ بها، كما في قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ «١»... الآية، وقيل: للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغُرف، بما يشاهد من إنزال المياه من السماء، وما يترتب عليه من آثار قدرته تعالى، وإحكام حكمته ورحمته.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي: ما ذكر تفصيلاً من إنزال الماء وما نشأ عنه. لَذِكْرى: لتذكيراً عظيماً لِأُولِي الْأَلْبابِ: لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الهوى، فيتذكرون بذلك أن الحياةِ الدنيا في سرعة التقضي والانصرام، كما يشاهدونه من حال الحكام كل عام، فلا يغترُّون ببهجتها، ولا يُفتنون بفتنتها. أو: يجزمون بأن مَن قدر على إنزال الماء من السماء، وإجرائه في ينابيع الأرض، قادر على إجراء الأنهار من تحت الغُرف. وأما ما قيل: من أنه استدلال على وجود الصانع فلا يليق لأن هذه الأفعال الجليلة ذُكرت مسندة إلى الله تعالى وإنما يليق الاستدلال بها على وجود الصانع لو ذُكرت غير مسندة إلى مؤثر، فتَعَيّن أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شئونه تعالى وشئون آثاره، كما بيَّن، لا وجوده تعالى. قاله أبو السعود.
الإشارة: قال القشيري: والإشارة في هذا أن الإنسان يكون طفلاً، ثم شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم يصير إلى أرذل العمر، ثم إلى آخره يُخترم، ويقال: إن الزرع ما لم يأخذْ في الجفاف لا يُؤخذ منه الحَبُّ، الذي هو المقصود منه، كذلك الإنسان مالم [يخل] «٢» من نفسه وحَوْلِه لا يكون له قَدْرٌ ولا قيمةٌ. قلت: يعني أنه ما لم يمحص نفسه، وينهكها في التقرُّب إلى مولاه، لا قيمة له.
(٢) فى القشيري: [يحصل].
فلمَّا استبان الصبحُ أدرج ضوءُه | بأنواره ضوء الكواكب «٣». هـ. |
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
قلت: الهمزة للإنكار، ومِنْ: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: كمَن ليس كذلك.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ أي: وسَّعه وهيَّأه لِلْإِسْلامِ حتى قَبِله وفرح به، واستضاء بنوره، فَهُوَ عَلى نُورٍ عظيم مِنْ رَبِّهِ، وبصيرة في دينه، وهذا النور: هو اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية، والتوفيق للاهتداء بها، أو: بمحض الإلهام من الجود والكرم، فيقذف في قلبه نور اليقين، بلا سبب، أو: بصحبة أهل النور، هل يكون هذا كمَن قسا قلبه، وحرج صدره، واستولى عليه ظلمة الغي والضلالة، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية؟! ولمَّا نزلت هذه الآية سئل صلّى الله عليه وسلم عن الشرح المذكور، فقال: «نُورٌ يقذفه الله في القلب، فإذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» قيل: وهل لذلك علامة؟ قال: «نعَمَ التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قبل نزوله» «٤».
(٢) فى القشيري (الأنوار).
(٣) أنشده أبو العباس السهارى. كما فى طبقات الأولياء (٣٦٧). وجاء فى طبقات الصوفية للسلمى (٤٤٧) : أنشده أبو العباس السياري، واسمه: القاسم بن القاسم بن مهدى.
(٤) أخرجه البغوي فى تفسيره (٧/ ١١٤) والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، في (الأصل السادس والثمانين) والحاكم فى المستدرك (٤/ ٤١١) وسكت عنه. والبيهقي فى الشعب (ح ١٠٥٥٢) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
قال الفخر: اعلم أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية، وزيادة الاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، وقد يوجب القسوة والبُعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، فإذا عرفتَ هذا، فنقول: رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورتبتها: هو ذكر الله، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله سبباً لازدياد مرضها، كان مرض تلك النفوس مرضاً لا يرجى زواله، ولا يُتوقع علاجه، وكانت في نهاية الشر والرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وهذا كلام محقق. هـ. وهو كما قيل في الجُعَل «١» أنها تتضرر برياح الورد، أي: وتنتعش بالشين. ف كل مَن يفر من ذكر الله، ويثقل عليه، فقلبه جُعَل.
ذكره في الحاشية.
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: أولئك البُعَداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب في ضلال بعيد من الحق، ظاهر ضلاله لكل أحد. قيل: نزلت الآية في حمزة وعليّ- رضي الله عنهما- وأبي لهب وولده «٢»، وقيل:
في عمّار وأبي جهل. والحق: إنها عامة.
الإشارة: مَن أراد الله به السعادة شَرَح صدرَه للإسلام، فقَبِله وعمل عمله، ومَن أراد به جذب العناية وتحقيق الولاية، شرح صدره لطريق أهل مقام الإحسان، فدخل في طريقهم، وهيّأ نفسه لصُحبتهم وخدمتهم، فما زال يقطعون به مهامه النفوس حتى يقولون له: ها أنت وربك، فتلوح له الأنوار، وتُشرق عليه شموس المعارف والأسرار، حتى يفنى ويبقى بالله.
قال القشيري: والنورُ الذي من قِبَله تعالى نورُ اللوائح بتحقق العلم، ثم نورُ اللوامع بثبات الفهم، ثم نورُ المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد، وعند ذلك فلا [وجد ولا فقد] «٣»، ولا بُعد ولا قُرب، كلا، بل هُوَ الله الواحد القهّار. هـ. فمَن لم يبلغ هذا لا يخلو قلبه من قساوة، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، أولئك فى ضلال مبين.
(٢) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص ٣٨٣) بدون إسناد.
(٣) فى الأصول [فلا وجه ولا قصة] والمثبت من القشيري. [.....]
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
قلت: «كتاباً» : بدل من «أحسن»، أو: حال، لوصفه بقوله: مُتَشابِهاً. و «مثاني» : صفة أخرى لكتابِ، أو:
حال أخرى منه، أو: تمييز من «متشابهاً»، كما تقول: رأيت رجلاً حسناً شمائلَ، أي: شمائله، والمعنى: متشابهة مثانيه. وتَقْشَعِرُّ: الأظهر أنه استئناف، وقيل: صفة لكتاب، أو: حال منه.
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وهو القرآن إذ لا حديث أحسن منه، لا تمله القلوب، وتسأمه الأسماع بل تِرداده يزيده تجمُّلاً وطراوة وتكثير حلاوة. رُوي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مَلُّوا ملةً، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حديثاً، فنزلت»
. والمعنى: أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث.
وفي إيقاع اسم الجلالة مبتدأ، وبناءِ «نزّل» عليه، من تفخيم أحسن الحديث، ورفع محله، والاستشهاد على حسنه، وتأكيد إسناده إليه تعالى، وأنه من عنده، لا يمكن صدوره من غيره، والتنبيه على أنه وحي معجز، مالا يخفى.
حال كونه كِتاباً مُتَشابِهاً أي: يُشبه بعضُه بعضاً في الإعجاز والبلاغة، أو: تشابهت معانيه بالصحة، والإحكام، والابتناء على الحق والصدق، واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش، وتناسب ألفاظه وجُمَلِه في الفصاحة والبلاغة، وتجاوب نظمه في الإعجاز. مَثانِيَ: جمع مثنى، أي: مكرر، ومردد، لما ثنى من قصصه، وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ووعظه. وقيل: لأنه يثنّى في التلاوة، ويُكرر مرة بعد أخرى. قال القشيري: ويشتمل على نوعي الثناء عليه، بذكر سلطانه وإحسانه، وصفة الجنة والنار، والوعد والوعيد. هـ.
إذا انقبض، ويقال: اقشعر جلده و. وقف شعره: إذا عرض له خوف شديد، من منكر هائل دهمه بغتة. والمعنى: أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارعه وزواجره، أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منه جلودهم، وإذا ذكروا رحمة الله تعالى تبدلت خشيتهم رجاءً، ورهبتهم رغبةً، وذلك قوله تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي: ساكنة مطمئنة إلى ذكر الله.
ذلِكَ أي: الكتاب الذي شُرِح أحواله هُدَى اللَّهِ، يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ أن يهديه، بصرف مجهوده إلى سبب الاهتداء به، أو بتأمله فيما في تضاعيفه من شواهد الحقيقة، ودلائل كونه من عند الله.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي: يخلق فيه الضلالة، بصرف قدرته إلى مبادئها، وإعراضه عما يرشد إلى الحق بالكلية، وعدم تأثُّره بوعده ووعيده، أو: مَن يخذله فَما لَهُ مِنْ هادٍ يُخلصه من ورطة الضلال. أو:
ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء هو أثر هدى الله، يهدي لذلك الأثر مَن يشاء من عباده، وَمَنْ يُضْلِلِ أي:
ومَن لم يؤثر فيه لطفه وهدايته لقسوة قلبه، وإصراره على فجوره فَما لَهُ مِنْ هادٍ: من مؤثر فيه بشيء قط.
الإشارة: أول ما يظهر الفتح على قلب العبد في فَهْم كتاب الله، والتمتُّع بحلاوة تلاوته، ثم ينتقل إلى الاستغراق في ذكره باللسان، ثم بالقلب، ثم إلى الفكرة، ثم العكوف في الحضرة، إن وجد مَن يربيه وينقله عن هذه المقامات، وإلا بقي في مقامه الأول.
وقال الطيبي: مَن أراد الله أن يهديه بالقرآن، أوقع في قلبه الخشية، كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «١» ثم يتأثر منه ظاهراً، بأن تأخذه في بدء الحال قشعريرة لضعفه، وقوة سطوة الوارد، فإذا أدمن على سماعه، وأَلِفَ أنواره، يطمئن ويلين ويسكن. هـ. قلت: وعن هذا عبّر الصدّيق بقوله حين رأى قوماً يبكون عند سماعه: (كذلك كنا ثم قست القلوب) «٢» أي: صلبت وقويت على حمل الواردات.
وقال الورتجبي: سماع المريدين بإظهار الحال عليهم، وسماع العارفين بالطمأنينة والسكون. هـ. وقال على قوله: مُتَشابِهاً: إنه أخبر عن كلية الذات والصفات، التي منبعهما أصل القدم، وصفاته كذاته، وذاته كصفاته،
(٢) نقله الحافظ أبو نعيم فى الحلية ١/ ٣٣- ٣٤، وراجع البحر المديد ٣/ ٣٤٦.
وهذا حملٌ بعيد.
ثم ذكر مثال المهتدى والضال، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
قلت: وَقِيلَ: عطف على «يتقي»، أو: حال من ضمير «يتقي»، بإضمار «قد».
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ الذي هو أشرف أعضائه سُوءَ الْعَذابِ أي: العذاب السيّء الشديد يَوْمَ الْقِيامَةِ كمَن ليس كذلك، بل هو آمن، لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء، بوجه من الوجوه، وإنما كان يتقي النارَ بوجهه لكون يده التي كان يتقي بها المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه. قال القشيري: قيل: إن الكافر يُلقى في النار، فيلقاها أولاً بوجهه لأنه يُرمَى فيها منكوساً «١» فأما المؤمن المُوقَّى ذلك فهو المُلقَّى بالكرامة، فوجهُهُ ضاحكٌ مُسْتَبْشرٌ «٢». هـ.
وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ: يقال لهم من جهة خزنة النار. وصيغة الماضي للدلالة على التحقُّق. ووضع المظهر في مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم، والإشعار بعلة الأمر في قوله: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا، من الظلم بالكفر والمعاصي.
(٢) النقل فيه تصرف: انظر لطائف الإشارات.
والآية، يحتمل أن تكون تهديداً لقريش، فالضمير في قَبْلِهِمْ يعود إليهم لأن قوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ.. إلخ تعرض بمَن أعرض عن كتابه من كفار قريش. وقال أبو السعود: هو استئناف، مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب، إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي. هـ.
الإشارة: الوجه هو أشرفُ الأعضاء وإِمَامُها، فإن كانت في الباطن بهجة المحبة، أو سيما المعرفة، ظهرت عليه، فيتنورُ ويبتهج، وإن كانت ظلمة المعاصي، أو كآبة الحجاب، ظهرت عليه، وإن كانت غيبة في الحق أو سكرة، كان هو أول ما يغيب من الإنسان ويغرق، ثم تغيب البشرية في البحر المحيط، وهو بحر الأحدية. وقوله تعالى: فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، قال القشيري: أشدُّ العذاب ما يكون بغتةً، كما أن أتمَّ السرور ما يكون فلتةً. وفي الهجران والفراق والشدة ما يكون بغتةً غير متوقعة، وهو أنكى للفؤاد، وأشدُّ في التأثير، وأوجعه للقلوب، وفي معناه أنشدوا «١» :
فَبِتَّ «٢» بخيرٍ والدُّنى مطمئنةٌ | فأصبحتَ يوماً والزمانُ تقَلُّبَا |
بينما خاطرُ المُنى بالتلاقي | سابحٌ «٣» في فؤاده وفؤادي |
جمَعَ اللهُ بيننا فالتقيْنا | هكذا بغتةً «٤» بلا ميعاد. هـ «٥» |
(٢) فى الأصول: فبتنا.
(٣) فى الأصول: سانح.
(٤) فى القشيري: صدفة.
(٥) انظر لطائف الإشارات ٣/ ٢٧٩.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
قلت: قرآناً: حال مؤكدة من «هذا» على أن مدار التأكيد هو الوصف، كقولك: جاءني زيد رجلاً صالحاً.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ ضَرَبْنا أي: وضحنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ: يحتاج إليه الناظر في أمر دينه، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي: كي يتذكروا به ويتعظوا، حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا لتفهموا معانيه بسرعة، غَيْرَ ذِي عِوَجٍ: لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، فهو أبلغ من المستقيم، وأخص بالمعاني.
وقيل: المراد بالعوج: الشك. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ما يضرهم في معادهم ومعاشهم.
الإشارة: قد بين الله في القرآن ما يحتاج إليه المريد في سلوكه وجذبه، وسيره ووصوله، من بيان الشرائع وإظهار الطرائق، وتبيين الحقائق. قال تعالى: مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «١» لكن لا يغوص على هذا إلا الجهابذة من البحرية الذين غاصوا بأسرارهم في بحر الأحدية، وتغلغلوا في العلوم اللدنية، ومَن لم يبلغ هذا المقام يصحب مَن يبلغه، حتى يوصله إلى ربه، ولا يكون الوصول إلا بلقب مفرد، غير مشترك، كما بيَّن ذلك بقوله تعالى:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
قلت: مَثَلًا: مفعول ثان لضرب، ورَجُلًا: مفعول أول، وأُخِّرَ للتشويق إليه، وليصل بما وصف به، وقيل: بدل من «مثلا»، وفِيهِ: خبر، و «شركاء» : مبتدأ، والجملة: صفة لرجل، و «مثلاً» : تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للمشرك والموحد، رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ:
مختلفون متخاصمون عسيرون، وهو المشرك، وَرَجُلًا سَلَماً أي: خالصاً لِرَجُلٍ فرد، ليس لغيره عليه
هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا: إنكار واستبعاد لاستوائهما، وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور، بحيث لا يقدر أحد أن يتفوّه باستوائهما ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين، والآخر في أسفل سافلين.
وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون سَلَماً بفتحتين، وهو مصدر، من: سلم له كذا: إذا خلُص، نُعت به للمبالغة، فالقراءتان «١» متفقتان معنى. والمراد من المثَل: تصوير استراحة الموحد وانجماعِه على معبوده، وتعب المشرك وتشتيت باله، وخصوصاً مع فرض التعاكس من الشركاء، فيصير متحيراً، وفي عنت كبير من الجمع بين أغراضهم، بل ربما يتعذر ذلك ويستحيل للتضاد في الأغراض والتناقض، مع فرض التخالف والتنازع بينهم، واعتبر ذلك بحال الوالدين، إذا اختلفا على الولد، فإنه يعسر إرضاؤهُما إلا بمشقة واحتيال، وكذلك عابد الأوثان فإنه معذَّب الفكر بها، وبحراسة حاله منها، ومتى توهم أنه أرضى واحداً في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر، فهو أبداً في تعب وضلال، وكذلك هو المصانع للناس، الممتحن بخدمة الملوك. قاله ابن عطية.
والحاصل: أن إرضاء الواحد أسهل وأيسر من إرضاء الجماعة الْحَمْدُ لِلَّهِ على عدم استوائهما. [قال] «٢» الطيبي: ثم إذا لزمتهم الحجة قل: الحمد لله، شكراً على ما أولاك من النصرة، وقهر الأعداء بالحجج الساطعة. وفيه تنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية، وعلو الرتبة، بتوفيق الله تعالى، وأنه مِنَّة جليلة، موجبة عليهم أن يداواموا على حمده وعبادته، أو: حيث ضرب لهم المثل الأعلى، وللمشركين المثال السوء، فهذا صنع جميل، ولُطف تام، مستوجب لحمده وشكره بَلْ أَكْثَرُهُمْ أي: المشركون لا يَعْلَمُونَ ذلك، مع كمال ظهوره، فيقعون في ورطة الشرك والضلال، وهو انتقال من بيان الاستواء على الوجه المذكور، إلى بيان عدم علمهم ذلك، مع غاية ظهوره.
(سلما) بفتح السين واللام، بلا ألف، مصدرٌ وُصف به، مبالغة فى الخلوص من الشركة. انظر الإتحاف (٢/ ٤٢٩) والبحر المحيط (٧/ ٤٠٧).
(٢) زيادة ليست فى الأصول.
الإشارة: لا يستوي القلب المشترك مع القلب المفرد الخالص لله، القلب المشترك تفرّقت همومه، وتشتت أنواره، بتشتيت شواغِله وعلائقه، وتفرّقت محبته، بتفرُّق أهوائه وحظوظه، والقلب المفرد اجتمعت محبته وتوفرت أنواره وأسراره بقدر تفرُّغه من شواغله وعلائقه. وفي الحِكَم: «كما لا يحب العمل المشترك، لا يحب القلب المشترك، العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشرك لا يُقبل عليه». وقال أيضاً: «فرّغْ قلبك من الأغيار تملؤه بالمعارف والأسرار».
وقيل للجنيد: كيف السبيل إلى الوصول؟ فقال: بتوبة تزيل الإصرار، وخوف يقطع التسويف، ورجاء يبعث على مسالك العمل، وبإهانة النفس، بقربها من الأجل، وبُعدها من الأمل. قيل له: وبمَ يتوصل إلى هذا؟ فقال:
بقلبٍ مُفرد، فيه توحيد مجرد. هـ.
وفي الحديث عن رسول الله ﷺ «مَن جعل الهموم هَمّاً واحداً- أي: وهو الله- كفاه اللهُ همَّ دنياه، ومَن تشعبت به الهمومُ لم يُبالِ اللهُ به في أي أودية الدنيا هلك» «١» وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْه أمْرَه، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا ما قُسِمَ لَهُ، ومَن كَانَتِ الآخرةُ نيته، جَمَعَ اللهُ عليه أمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه، وأتتْهُ الدُنيَا وهي صاغرة» «٢». ومَن كان الله همُّه بفنائه فيه جمع الله عليه سره، وأغناه به عما سواه، وخدمه الوجود بأسره، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوانُ معك» «٣». والله تعالى أعلم.
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٥/ ١٨٣) وابن ماجة فى (الزهد، باب الهم بالدنيا، ٢/ ١٣٧٥، ح ٤١٠٥) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأخرجه، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، الترمذي فى (صفة القيامة والرّقائق، ٤/ ٥٥٤، ح ٢٤٦٥).
(٣) حكمة عطائية، انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي/ ص ٣٣ حكمة ٢٤٨.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
يقول الحق جلّ جلاله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بأن أضاف إليه الشريك والولد، فإنه لا أحد أظلم منه إذ هو أظلم من كل ظالم. وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أي: الأمر الذي هو نفس الصدق وعين الحق، وهو ما جاء به النبي ﷺ من عند الله إِذْ جاءَهُ أي: كذَّب في أول مجيئه، من غير تأمُّل فيه ولا تدبُّر، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟ أي: لهؤلاء الذين افتروا على الله، وسارعوا إلى التكذيب بالصدق، فأظهر موضع الإضمار تسجيلاً وإيذاناً بعلة الحكم الذي استحقوا به جهنم، والجمع باعتبار معنى" مَن"، كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار لفظها، أو: لجنس الكفرة، وهم داخلون في الكفر دخولا أولياء.
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وهو محمد ﷺ وَصَدَّقَ بِهِ: وهم المؤمنون، أي: والفوج، أو: الفريق الذي جاء بالصدق، والفريق الذي صدّق به. أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ: المنعوتون بالتقى، [التي] «١» هي أجلّ الرغائب.
وقرىء «صَدَقَ» بالتخفيف «٢»، أي: صدق به الناس، فأدَّاه إليهم كما أنزل عليه، من غير تغيير، وقيل: صار صادقاً بسببه لأن ما جاء به من القرآن معجزة دالة على صدقه صلّى الله عليه وسلم.
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ: هو بيان لِما لهم في الآخرة من حسن المآب، بعد بيان مالهم في الدنيا من محاسن الأعمال، أي: لهم ما يشاءونه من جلب المنافع ودفع المضار، وتوالي المسار في الآخرة، لا في الجنة فقط
(٢) وبه قرأ أبو صالح، وعكرمة بن سليمان، ومحمد بن حجازة. انظر: مختصر ابن خالويه (ص ١٣٢)، والمحتسب (٢/ ٢٣٧).
ذلِكَ الذي ذكر من حصول كل ما يشاءونه جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي: الذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا.
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، اللام متعلق بقوله: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ لأنه في معنى الوعد، كأنه قيل: وعد الله لهم جميع ما يشاءونه من دفع المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا، أي: أقبحه وأعظمه، وأولى أصغره. وقيل: يتعلق بمحذوف، أي: يسر لهم الصدق والتصديق ليكفر.. إلخ.
وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ فإذا كان في عملهم حسن وأحسنُ منه، جزاهم بجزاء الأحسن على الجميع، تكرُّماً منه وإحساناً.
والحاصل: أنه سبحانه لكرمه يكفر السيّء والأسوأ بالأحروية، ويجزي على الحسن بجزاء الأحسن منه والأرجح، كمَن أهدى لملك هديتين صغيرة وكبيرة فكافأه على الصغيرة بقدر ما كافأه على الكبيرة. قال القشيري: وأحسن أعمال المؤمن: الإيمان والمعرفة، فيكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب، وهو الرؤية. هـ.
وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار، لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام، والجمع بين الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني- أي: الذي كانوا يعملون- دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة، بخلاف السيئة.
الإشارة: كل مَن ادعى حالاً مع الله، وليست متحققة فيه، فقد كذب على الله، وكل من أنكر على أولياء زمانه فقد كذّب بالصدق إذ جاءه. وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ، وهو مَن أُذن له في التذكير أو التربية. وَصَدَّقَ بِهِ، وهو مَن سمع وتبع، أولئك هم المتقون، دون غيرهم، لهم ما يتمنون عند ربهم في الدنيا والآخرة، ذلك جزاء أهل مقام الإحسان، الذين يعبدونه على العيان، يُغطي وصفهم بوصفه، ونعتهم بنعته، فيوصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، ثم يكفيهم جميع الشرور، كما قال تعالى:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي: الأوثان التي اتخذوها آلهة دونه تعالى، وهي جوامد، لا تضر ولا تنفع، وهذا تسلية لرسول الله ﷺ عما قالت قريش: إنا نخاف أن تخبُلك آلهتنا، وتُصيبك معرَّتها لعيبك إياها. وفي رواية:
قالوا: لتكفنّ عن آلهتنا، أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون «٢»، كما قال قوم هود: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ «٣». وجملة: «ويخوفونك» : استئناف، أو: حال. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ حتى غفل عن كفايته وعصمته صلّى الله عليه وسلم، أو: اعتقد أن الأصنام تضر وتنفع فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى ما يرشده.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى توحيده وطاعته فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ يصرفه عن رشده، أو يصيبه سوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله، ولا معارض لقضائه، كما ينطق به قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ: غالب لا يغالَب، منيع لا يمانَع ولا ينازَع، ذِي انْتِقامٍ من أعدائه لأوليائه، بإعزاز أوليائه وإذلال أعدائه. وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام، وتربية المهابة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا علِم العبدُ أن الله كاف جميع عباده، وثق بضمانه، فاستراح من تعبه، وأزال الهموم والأكدار عن قلبه، فيدخل جنة الرضا والتسليم، ويهب عليه من روح الوصال وريحان الجمال نسيم، فيكتفي بالله، ويقنع بعلم الله، ويثق بضمانه.
قال في لطائف المنن: مبنى الوليّ على الاكتفاء بالله، والقناعة بعلمه، والاغتناء بشهوده. قال تعالى:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «٤». هـ. وقال الشيخ
(٢) ذكر هذه الرّواية السيوطي فى الدر (٥/ ٦١٥- ٦١٦) وعزاها لعبد الرّزاق وابن المنذر عن قتادة. وانظر تفسير البغوي (٧/ ١٢٠).
(٣) من الآية ٥٤ من سورة هود.
(٤) من الآية ٥٣ من سورة فصلت.
وقوله تعالى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ: هو عام في كل ما يُخاف منه، فالعارف لا يخاف من شيء لعلمه بأن الله ليس معه شيء، ولا يقع في الوجود إلا قدره وقضاؤه، ومَن يعتقد غير هذا فهو ضال، ومَن يُضلل الله فلا هاديَ له. وبالله التوفيق.
ثم قرر هذا الأمر وحقيقته بقوله:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣٨]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: مَن يخوفونك ممن سوى الله، وقلت لهم: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدلائل على انفراده بالاختراع. قُلْ تبكيتاً لهم: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام، إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أي: إذا تحققتم أن خالق العالم العلوي والسفلي هو الله وحده، فأخبروني عن آلهتكم، إن أرادني اللهُ بضُر هل يقدر أحد منهم على كشف ذلك الضر عني؟ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ أي: بنفع هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ وصارفتها عني؟! وقرأ البصري: «كاشفاتٌ» و «ممسكاتٌ» بالتنوين، ونصب «ضره» و «رحمته» على المفعول. وتعليق إرادة الضر والرّحمة بنفسه صلّى الله عليه وسلم، للرد في نحورهم حيث كانوا يُخوفونه من معرَّة الأوثان، ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة. وإنما قال: «كاشفات» و «ممسكات» على التأنيث، بعد قوله: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ لأنهن إناث، وهن اللات، والعزّى، ومناة، وفيه تهكّم بهم، وبمعبودهم حيث جعلهم يعبدون الإناث.
الإشارة: الناس على قسمين: أعداء وأحباب، فإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن ينفعوك بشيء إلا ما قدّر الله لك، وإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن يضروك بشيء إلا ما قدّر الله عليك، فارفض الجميع، وتعلق بالله يغنك عن غيره، ويوصل إليك ما قسم لك بالعز والهناء.
ثم توعدهم بالعذاب، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي: على حالتكم التي أنتم عليها، وجهتكم من العداوة التي تمكنتم فيها، فالمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت من العين للمعنى، وهي الحال، كما تستعار «هنا».
و «حيث» للزمان، وإنما وضعا للمكان. وقرأ أبو بكر وحماد: «مكانات» بالجمع. إِنِّي عامِلٌ على مكانتي، فحذف للاختصار، والمبالغةِ في الوعيد، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة بنصر الله تعالى له، وتأييده، ولذلك توعّدهم بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فإنَّ خزي أعدائه دليل غلبته صلّى الله عليه وسلم ونصره في الدنيا والآخرة. وقد أخزاهم وعذّبهم يوم بدر، وَسوف تعلمون أيضاً مَن يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة لأنه مقيم على الدوام.
ثم ذكر الفاصل بين أهل العذاب المقيم، والنعيم الدائم، فقال: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ أي:
لأجلهم، فمَن أعرض عنه فقد استحقَّ العذاب الأليم، ومَن تمسّك به استوجب النعيم المقيم، حال كونه ملتبسا
بأن أعرض عنه، أو عن العمل به. فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن وبال إضلاله مقصور عليها. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ حتى تجبرهم على الهدى، وما وظيفتك إلا التبليغ، وقد بلغت أيّ بلاغ.
الإشارة: مَن ذَكَّر قوماً فأعرضوا عنه، ولم يرفعوا له رأساً، يقول لهم: يا قوم اعملوا على مكانتكم.. الخ، وأيّ عذاب أشد من الحجاب، والبُعد عن حضرة الحبيب؟.
ثم ذكر دلائل البعث الذي يحل فيه العذاب على أهل الإعراض، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٢]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ أي: الأرواح حِينَ مَوْتِها فيقبضها إليه قبضا، وَيتوفى الأنفس الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فيقبضها ويترك شعاعها في البدن، فالتي قضى عليها الموت يتوفاها ظاهراً وباطناً، والتي لم يقضِ موتها يتوفاها ظاهراً فقط عند النوم، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، لا يردها إلى البدن، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي: النائمة إلى بدنها عند التيقُّظ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى: هو الوقت المضروب لموتها، فشبَّه النائمين بالموتى، حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك.
قال الإمام «١» : النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني، إذا تعلّق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء، وهي الحياة، ثم إنه في وقت النوم ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن، دون باطنه، وفي وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وباطنه، فالموت والنوم من جنس واحد بهذا الاعتبار، لكن الموت انقطاع كامل، والنوم انقطاع ناقص، فظهر أن القادر الحكيم دبَّر [تعلُّق جوهر] «٢» النفس بالبدن على ثلاثة أوجه، أحدها: أنه دبَّر أمرها، بحيث يقع ضوء [الروح] «٣» على جميع أجزاء البدن، ظاهره وباطنه، وذلك هو اليقظة.
(٢) زيارة ليست فى الأصول الخطية. وأثبتها من تفسير الفخر الرّازى.
(٣) فى تفسير الرّازى: النفس.
ومثل هذا التقدير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم. هـ.
وقال سهل: إن الله إذا توفى الأنفس أخرج الروح النوري من لطيف نفس الطبيعي الكثيفي، فالذي يتوفى في النوم من لطيف نفس الطبع، لا لطيف نفس الروح. فالنائم يتنفس تنفُّساً لطيفاً، وهو نَفَس الروح، الذي إذا زال لم يكن للعبد حركة، وكان ميتاً. وقال: حياة النفس الطبيعي بنور لطيف، وحياة لطيف نفس الروح بذكر الله. وقال أيضاً: الروح تقوم بلطيفة في ذاتها بغير نفس الطبع، ألا ترى أن الله تعالى خاطب الكل في الذر بنفس، وروح، وفهم، وعقل، وعلم لطيف، بلا حضور طبع كثيف. هـ. قلت: وبهذا الاعتبار يقع لها العذاب في البرزخ أو النعيم، وتذهب وتجيء في عالم البرزخ.
وقال في القصد: النفس مع الروح كالجسد مع الظل، والظل يميل، والأصل لا يميل، والروح سره، والسر بربه، وهو شعاع الحقيقة الصغرى، والسر نور السر الأعلى، وكل هذا مخلوق بقدرة الله موثوق، فلا يستفزك غير هذا فتشقى، وفي جهنم من نور البُعد تلقى. هـ. قلت: السر الأعلى هو معاني أسرار الذات القائمة بالأشياء، وهو قديم غير مخلوق.
وذكر الثعلبي عن ابن عباس أنه قال: في ابن آدم نفس وروح، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفسُ هي التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها التحرُّك والنَّفَس فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. هـ. هذا، وفي الصحيح: إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء. فأطلق القبض على الأرواح. والصواب: أن النفس والروح في هذا واحد بدليل قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ والحاصل: أن الموت: توفِّ كامل، بإخراج الروح مع شعاعها من البدن، فتذهب الحياة، والنوم: توفٍّ ناقص، بإخراج الروح مع بقاء شعاعها في البدن، به الحياة والتنفُّس.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً أنه قال: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، ويتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد الله رجوعها إلى الأجسام، يُمسك الله عنده أرواح الأموات، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها، فذلك قوله عزّ وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ.. الآية «١».
روح الحياة، التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان حيّاً فإذا فارقته مات، فإذا رجعت إليه حَيِيَ، وهاتان الروحان في بطن الإنسان، لا يعلم مقرَّهما إلا مَن أطلعه الله عليهما، فهما كجنينين في بطن امرأة. هـ.
والآية منبهة على كمال قدرته، وفيها دلالة على البعث، وأنه كاليقظة سواء، وهذا معنى قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في عجائب قدرته، فيعلمون أنَّ مَن قَدَر على إمساك الأرواح في النوم، وردها، قادر على إماتتها وإحيائها. وفي التوراة: كما تنام تموت، وكما تستيقظ تُبعث.
الإشارة: الله يتوفى الأنفس المطهرة إلى حضرة قدسه، حين موتها من الهوى، ويقبض الأنفس التي لم تمت من حظوظها في سجن الأكوان، وهيكل ذاتها، في حال منام غفلتها، فيمسك التي قضى عليها الموت في حضرة قدسه، فلا يردها إلى شهود حضرة الأشباح، ويرسل الأخرى تجول في حضرة الأشباح وأودية الدنيا، إلى أجل مسمًّى، إما موتها الحسي أو المعنوي، إن سبقت لها سابقة عناية.
ثم تمم الرّد على من اعتقد أن الأصنام تنفع أو تضر، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)
يقول الحق جلّ جلاله: أَمِ اتَّخَذُوا أي: قريش مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ، فيزعمون أن أصنامهم تشفع لهم عند الله، أي: إنهم اتخذوا- على زعمهم- من دون الله شفعاء بحكمهم، لا بتعريف من قِبل الله وإخبار، فإن الله لا يقبل الشفاعة مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ منه، وإن الذين يقولون ذلك افتراء على الله. قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ، الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه، والتوبيخ عليه، أي: قل: أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ولا يعقلون شيئاً، فضلاً عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: له التصرف فيهما، وفيما فيهما من المخلوقات، لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه ورضاه، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، لا إلى أحد سواه، فيفعل يومئذ ما يريد.
قال النسفي: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اليوم ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، فلا يكون المُلك في ذلك اليوم إِلاّ له، فله المُلك في الدنيا والآخرة. هـ.
الإشارة: الشفاعة إنما تكون لأهل الجاه عند الله، والجاه يعظم بحسب التوجه، والتوجه يعظم على قدر المحبة، والمحبة على حسب العناية السابقة، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فبقدر أنوار التوجه تعظم أنوار المواجهة، وبقدر أنوار المواجهة تتسع المعرفة، وبحسب المعرفة يكون الجاه، وبقدر الجاه تتسع الشفاعة، حتى إن الواحد من الأولياء يشفع في وجود بأسره من أهل زمانه، إما عند موته، أو عند الحساب. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر علامة أهل الشرك، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)
قلت: «وحده» : منصوب عند سيبويه، على المصدر، وعند الفراء: على الحال، والظاهر: أنه أطلق المصدر على اسمه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي: إذا أُفرد الله بالذكر، ولم تُذكر معه آلهتهم، فمدار المعنى على قوله: وَحْدَهُ، اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي: انقبضت ونفرت، كقوله:
... وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً «١»، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: آلهتهم، ذُكر اللهُ معهم، أو لم يُذكر، إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لفرط افتتانهم بها، ونسيانهم ذكر الله، أو: وإذا قيل لهم:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نفروا لأن فيه نفيا لآلهتهم.
ولقد بالغ في بيان حالتيهم المتقابلتين حيث ذكر الغاية فيهما، فإن الاستبشار: هو أن يمتلىء القلب سروراً، حتى تنبسط له بشرة الوجه وتتهلل، والاشمئزاز: أن يمتلىء القلب غيظاً وغمّاً، حتى ينقبض منه أديم الوجه، فتظهر عليه الكآبة والحزن. والعامل في إِذا الأولى: «اشمأزت»، وفي الثانية: ما هو العامل في «إذا» الفجائية، والتقدير: وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار.
ثم أمر نبيه بالالتجاء إليه حين إدبارهم، فقال: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: يا فاطر، وليس بوصف، خلافاً للفراء والمبرّد، أي: اللهم يا مظهر السماوَاتِ والأرْض، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي: ما غاب من أسرار ذاتك وما ظهر، أو: السر والعلانية، أي: التجئ إليه تعالى إذا اغتممت من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد فإنه القادر على الأشياء بجملتها، والعالم بالأحوال برمتها. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي: حُكماً يُسلمه كل مكابر ومعاند، ويخضع له كلَّ عاتٍ ومارد، فاحكم بيني وبين معاندي، بالنصر عليهم في الدنيا والآخرة.
وعن ابن المسيّب «١» :«ما أعرفُ آية قرئت فدعى عندها إلا أجيب سوى هذه». يعنى أنه صلّى الله عليه وسلم دعا الله أن يحكم بينه وبين عدوه بالاستئصال، فأمهل لأنه رحمة. وعن الربيع بن خثيم- وكان قليل الكلام-: أنه أُخبر بقتل الحسين رضي الله عنه، وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال: أو قد فعلوا؟، وقرأ: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ...
الآية، ثم قال على إثرها: قُتِل من كان رسول صلّى الله عليه وسلم يُجلسه في حجره، ويُقبِّل فاه «٢». هـ.
الإشارة: ينبغي للمؤمن أن يكون متعاكساً مع المشرك، إذا سمع كلمة التوحيد «لا إله إلا الله»، فرح وانبسط، وإذا ذكر اللغو واللعب اشمأز وانقبض، والعابد أو الزاهد إذا سَمِعَ ما يدل على الطاعة والاستعداد للآخرة فرح ونشط،
(٢) انظر: تفسير النّسفى (٢/ ١٨٥).
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه: في بعض كتب الله المنزلة على أنبيائه، يقول الله تعالى: مَن أطاعني في كل شيء، بهجرانه لكل شيء، أطعته في كل شيء، بأن أتجلى له دون كل شيء، حتى يراني أقرب إليه من كل شيء. هذه طريق أُولى، وهي طريق السالكين. وطريق أخرى كبرى: مَن أطاعني في كل شيء، بإقباله علي كل شيء، لحسن إرادة مولاه في كل شيء، أطعته في كل شيء، بأن أتجلّى له في كل شيء، حتى يراني كأني كل شىء. هـ.
ثم ذكر وبال الشرك، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالشرك، ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً: من الأموال والذخائر، وَمِثْلَهُ مَعَهُ زائد عليه، لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ أي: شدته، يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: لو أن لهم جميع ما في الدنيا لجعلوا ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد، وهيهات هيهات، ولات حين مناص. وهذا كما ترى وعيد شديد لأهل الشرك، وإقناط كلي لهم. وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي: ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في ظنهم وحسبانهم، ولم يُحدِّثوا به نفوسهم. وهذا غاية من الوعيد، لا غاية وراءها، ونظيره في الوعد: قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «١».
الإشارة: الآية تجرّ ذيلها على كل ظالم لم يتب، فيتمنى الفداء بجميع ما في الأرض، فلا يُمكّن منه. وقوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، هذه الآية عامة، لا يُفلت منها إلا الفرد النادر، الذي وصل إلى غاية المعرفة العيانية، ومَن لم يصل إلى هذا المقام فهو مقصِّر، يظن أنه في عليين، وهو في أسفل سافلين، ولذلك عظم خوف السلف منها، فقد جزع محمد بن المنكدر عند الموت، فقيل له في ذلك، فقال: أخشى آيةً من كتاب الله: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فأنا أخشى أن يبدو لِي مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ أحتسب «١». وعن سفيان أنه قرأها، فقال: ويلٌ لأهل الرياء، ويلٌ لأهل الرياء. هـ.
وفي الإحياء: مَن اعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله خلاف الحق، وخلاف ما هو عليه إما برأيه أو معقوله ونظره، الذي به يجادل، وعليه يعول، وبه يغتر، وإما بالتقليد، فمَن هذا حاله ربما ينكشف له حال الموت بطلان ما اعتقده جهلاً، فيتطرّق له أن كل ما اعتقده لا أصل له، فيكون ذلك سبباً في شكه عند خروج روحه، فيختم له بسوء الخاتمة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وبقوله: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا «٢».. الآية. انظر عبارته في كتاب الخوف، وقريباً منه في القوت، عصمنا الله من سوء القضاء، وختم لنا بالسعادة التامة بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر حالة أخرى من قبائح أهل الشرك، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١)
(٢) الآية ١٠٣ من سورة الكهف.
فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكّد المعترَض بينه وبينه؟ قلت: ما في الاعتراض من دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلم ربه، بأمر من الله، وقوله: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ، ثم ما عقّبه من الوعد العظيم، تأكيد لإنكار اشمئزازهم، واستبشارهم، ورجوعهم إلى الله في الشدائد، دون آلهتهم، كأنه قيل: قل: يا ربّ لا يحكم بيني وبين هؤلاء، الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة، إلا أنت، ثم هدهم بقوله: ولو أن لهؤلاء الظلمة ما في الأرض جميعاً لافتدوا به.
انظر النسفي.
ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا: أعطيناه إياها، تفضُّلاً فإن التخويل مختص به، لا يطلق على ما أعطى جزاء، فإذا أعطيناه ذلك قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ أي: ذلك التخويل أو الإنعام عَلى عِلْمٍ مني بوجوه كسبه، كما قال قارون: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي «١» أو: على علم مني بأني سأُعطاه، لِما فيّ من فضل واستحقاق، أو: على علم من الله تعالى باستحقاقي لذلك المال، فتذكير الضمير إما لعوده على التخويل المأخوذ من خَوَّلْناهُ، أو: بتأويل النعمة بمعنى الإنعام، أو: المراد بشيء من النعمة، أو: يعود على «ما» إذا قلنا: موصولة، لا كافة، أي: إن الذي أوتيته على علم مني.
قال تعالى: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي: ليس ما خوَّلناه نعمة بل هي محنة وابتلاء له ليظهر كفره أو شكره. ولما كان الخبر مؤنثاً ساغ تأنيث المبتدأ لأجله، وقرىء: «بل هو فتنة». وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنَّ الأمر كذلك، وأنَّ التخويل إنما كان فتنة، وفيه دلالة على أن المراد بالإنسان الجنس.
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: قد قال هذه المقالة، وهي: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ من قبلهم، كقارون وقومه، قال قارون: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي «٢» وقومه راضون بمقالته، فكأنهم قالوها معه. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا، وما جمعوا منها شيئاً حين ينزل بهم العذاب، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي: جزاء سيئات ما كسبوا، وهو العذاب في الدنيا والآخرة، أو: سمّي جزاء السيئة سيئة للازدواج، كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «٣» أي: فأصابهم وبال
(٢) من الآية ٧٨ من سورة القصص.
(٣) من الآية ٤٠ من سورة الشورى.
ثم ذكر ما جرت به عادته فى خلقه، من تعاقب العسر واليسر، والقبض والبسط، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥٢]
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أي: أقالوا ذلك ولم يعلموا، أو: أَغفلوا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي: يوسعه لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي: يضيق لمَن يشاء بلا سبب ولا علة، أو: يجعله على قدر القوت من غير زيادة ولا نقصان، وهو من إتمام النعمة. وفي الحِكَم: «من تمام النعمة عليك أن يعطيك ما يكفيك، ويمنعك ما يطغيك» «١». إِنَّ فِي ذلِكَ: البسط والقبض لَآياتٍ دالة على أن الحوادث كلها من الله بلا واسطة، لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إذ هم المستدلُّون بها على أن القابض والباسط هو الله، دون غيره.
الإشارة: قد يبسط الله الرزق لمَن لا خلاق له عنده، ويقبضه عن أحب الخلق إليه، وهو الغالب، فرزق المتقين كفاف، ورزق المترفين جزاف.
ولما وبّخ المشركين، وأطنب الكلام فيه، وأبرق وأرعد، رغّب فى التوبة للكافة، استعطافا وترغيبا بعد الترهيب، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤)يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: أفرطوا في الجناية عليها، بالإسراف في المعاصي، والغلو فيها، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ: لا تيأسوا من مغفرته أولاً، وتفضُّله بالرحمة ثانياً، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، بالعفو عنها، إلا الشرك. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: «يغفر الذنوب جميعاً ولا يُبالي» «١» لكنها لم تتواتر عنه.
والمغفرة تصدق بعد التعذيب وقبله، وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر، كيف، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «٢» ظاهر في الإطلاق مما عدا الشرك؟ وَلِمَا يدل عليه التعليل بقوله:
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ على المبالغة، وإفادة الحصر، والوعد بالرحمة بعد المغفرة. وما في عِبادِيَ من الدلالة على الذلة والاختصاص، المقتضييْن للترحُّم. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ يستر عظام الذنوب الرَّحِيمُ يكشف فظائع الكروب. والآية، وإن نزلت في «وحشي»، قاتل «حمزة»، أو في غيره، لا تقتضي التخصيص بهم، فإن أسباب النزول لا تخصص. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أَنَّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية» «٣».
ولما نزلت في شأن وحشي، وأسلم، قال المسلمون: هذه له خاصَّةً، أو للمسلمين عامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل هي للمسلمين عامة» «٤». وقال قتادة: إن ناساً أصابوا ذنوباً عظاماً، فلما جاء الإسلام أشفقوا ألا يتاب عليهم، فدعاهم الله تعالى بهذه الآية «٥». وقال ابن عمر: نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد،
(٢) الآية ٤٨، ١١٦ من سورة النّساء.
(٣) أخرجه أحمد (٥/ ٢٧٥) وابن جرير (٢٤/ ١٦) والبيهقي فى شعب الإيمان (باب ٤٧ ح ٧١٣٧) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(٤) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٦٢٠) للطبرانى، وابن مردويه، والبيهقي فى الشعب، بسند لين. عن ابن عباس رضي الله عنه.
(٥) أخرج البخاري فى (التفسير- تفسير سورة الزمر- باب يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ح ٤٨١٠) عن سعيد جبير، عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن الذي تدعو إليه لَحَسنٌ لو تخبرنا أنَّ لما عملنا كفارة. فنزلت هذه الآية. [.....]
قال علي رضي الله عنه: «ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية.» «٢». فما يُقنط الناس ويشدد عليهم بعد هذه الآية إلا جهول، أو جامد، قال زيد بن أسلم: إنَّ رجلاً كان في الأمم الماضية مجتهداً في العبادة، فيشدد على نفسه، ويقنط الناس من رحمة الله، فمات، فقال: أيّ ربّ مالى عندك؟ فقال: النار. فقال: يا رب أين عبادتي؟ فقال: إنك كنت تُقنط الناس من رحمتي في الدنيا، فاليوم أقنطك من رحمتي. وعن عليّ- كرّم الله وجهه- قال: الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، وَلا يرخص لهم في معاصي الله. هـ.
ثم حضَّ على التوبة لتتحقق المغفرة، فقال: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ أي: ارجعوا إليه بالتوبة والإخلاص.
فالإنابة أخص من التوبة لأن التوبة: مطلق الندم على الزلة، والإنابة: تحقيق التوبة والنهوض إلى الله بإخلاص التوجه. قال صلّى الله عليه وسلم: «من السعادة أن يطول عمر الرجل ويرزقه الله الإنابة» «٣». قال القشيري: وقيل الفرق بين الإنابة والتوبة: أن التائب يرجع خوفاً من العقوبة، والمنيب يرجع حياءً منه تعالى. هـ.
والأمر بالتوبة لا يدل على تقييد المغفرة في الآية بها، كما تقدّم إذ ليس المدعَى: أنَّ الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبْق تعذيب، حتى يغني عن الأمر بها، وإنما المراد: الإخبار بسعة غفرانه، سواء كان مع التوبة أم لا. قال ابن عرفة: واعلم أن التوبة من الكفر مقطوع بها، ومن المعاصي، قيل: مظنونة، وقيل:
مقطوع بها، هذا في الجملة، وأما في التعيين، كتوبة زيد بن عَمْرو، فلا خلاف أنها مظنونة. هـ. قلت: قد اقترن بتوبة زيد من الأخبار ما يقطع بصحتها.
ثم قال: وأما العاصي إذا لم يتب فهو في المشيئة، مع تغليب جانب الخوف والعقوبة، واعتقاد أن العذاب أرجح، وأما العصيان بالقتل، ففيه خلاف بين أهل السُّنة، فقيل: يخلد في النار، وقيل: في المشيئة. هـ. وقال أبو الحجاج الضرير- رحمه الله:
وتوبةُ الكافرِ تمحُو اِثْمَه... لا خلافَ فيه بين الأُمَّهْ
وتوبةُ العاصي على الإِرجاءِ... وقيلَ كالأول بالسواءِ
إذ لا يكونُ دونه في الحالِ... وَهُوَ عندي أحسنُ الأقوالِ
دليلُه: تتابعُ الظواهِرْ... شاملةٌ مسلمٌ وكافرْ. هـ.
(٢) أخرجه الطبري (٢٤/ ١٦).
(٣) رواه الحاكم (٤/ ٢٤٠) وصحّحه، ووافقه الذهبي، من حديث جابر رضي الله عنه.
قال القشيري: العذاب هنا، قيل: الفراق، وقيل: هو أن يفوتَه وقت الرجوعِ بسوء الإياس. هـ. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ:
لا تُمنعون منه أبداً.
الإشارة: لا يعظم عندك الذنب عظمة تصدك عن حسن الظن بالله، فإن مَن استحضر عظمة ربه صغر في عينه كل شيء. وتذكر قضية الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم سأل راهباً: هل له توبة؟ فقال: لا، فكمل به المائة، ثم سأل عارفاً، فقال له: ومَن يحول بينك وبينها؟ لكن اخرج من القرية التي كنت تعصي فيها، واذهب إلى قوم يعبدون الله في مكان، فذهب، فأدركه الموت في الطريق، فلما أحسّ بالموت انحاز بصدره إلى القرية التي قصدها، ثم مات، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، فقال لهم الحق تعالى «١» : قيسوا من القرية التي خرج منها، إلى القرية التي قصدها، فإلى أيهما هو أقرب هو منها؟ فوجدوه أقرب إلى القرية التي قصدها بشبر، فأخذته ملائكة الرحمة «٢». إلى غير ذلك من الحكايات التي لا تحصى في هذا المعنى.
وتأمل قضية الشاب الذي أتى النبي ﷺ يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: ذنوبي. فقال له عليه السلام: إن الله يغفر ذنوبك، ولو كانت مثل السماوات السبع، والأرضين السبع، والجبال الرواسي، فقال: يا رسول الله، ذنب من ذنوبي أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع، فقال له: ذنوبك أعظم أو العرش؟ قال: ذنوبي، فقال له: ذنوبك أعظم أو الكرسي؟ قال: ذنوبي، فقال: ذنوبك أعظم أو إلهك؟ فقال: الله أعظم، فقال: فأخبرني عن ذنبك. قال: إني أستحيي، فقال: فأخبرني، فقال: إني كنت نبّاشاً أنبش القبور منذ سبع سنين، حتى ماتت جارية من بنات الأنصار، فنبشتها، وأخرجتها من كفنها، فمضيت، ثم غلبني الشيطان، فرجعت، فجامعتها، فقامت الجارية، وقالت: الويل لك يا شاب من دَيّان يوم الدين، يوم يضع كرسيه للقضاء، يأخذ من الظالم للمظلوم، تركتني عريانة في عساكر الموتى، وأوقفتني جُنباً ين يدي الله، فقام النبي ﷺ وهو يضرب في قفاه، وهو يقول: يا فاسق، اخرج، ما أقربك من النار، فخرج الشاب تائباً إلى الله تعالى، حتى أتى عليه ما شاء الله، ثم قال: يا إله محمد وآدم وحواء، إن كنت
(٢) أخرج القصة البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، ح ٣٤٧٠) ومسلم فى (التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، ٤/ ٢١١٨، ح ٢٧٦٦) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
بل هو الذي خلقهم. قال: يقول: ترزقهم؟ قال: بل هو الذي يرزقهم، قال: يقول: أأنت تتوب عليهم؟ قال: بل هو الذي يتوب عليهم. قال: فتب على عبدي، فإني تبتُ عليه، فدعا النبي ﷺ الشاب، وتاب عليه، وقال: إن الله هو التوّاب الرحيم. هـ. ذكره السمرقندي والثعلبي «١».
ثم أمر باتباع القرآن بعد الإنابة، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي: القرآن، فإنه أحسن الحديث، ولا أحسن منه لفظاً ومعنى، أو: المأمور به دون المنهي، أو: العزائم دون الرُخص، كقوله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «٢»، أو: الناسخ دون المنسوخ، ولعله ما هو أعم، فيصدق بكل ما يُقرب إلى الله، كالإنابة، والطاعة، ونحوهما، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً: فجأة، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بمجيئه لتداركوا وتتأهبوا.
أمرتكم بذلك كراهة أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ، والتنكير للتكثير، كما في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ «٣»، أو:
يراد به بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، أو: يُراد نفس متميزة إما بلجاج في الكفر شديد أو بعقال عظيم:
(٢) من الآية ١٨ من سورة الزمر.
(٣) من الآية ١٤ من سورة التكوير.
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي: أعطاني الهداية، لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ: من الذين يتقون الشرك. قال الإمام [أبو منصور] «٢» : هذا الكافر أعرفُ بهداية الله من المعتزلة. وكذلك أولئك الكفرة، الذين قالوا لأتباعهم:
لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ «٣» يقولون: لو وفقنا الله للهداية، وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه، ولكن عَلِمَ منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا. والمعتزلة يقولون: بل هداهم وأعطاهم التوفيق لكنهم لهم يهتدوا. انظر النسفي.
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي: رجعة للدنيا، فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ: الموحِّدين الطائعين. و «أو» : للدلالة على أنها لا تخلو من هذه الأقوال، تحيُّراً وتحسُّراً، وتعليلاً بما لا طائل تحته.
فردَّ الله عليهم بقوله: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي: قد جاءتك آياتي، وبيّنت لك الهدايةَ من الغواية، وسبيلَ الحق من الباطل، فتركت ذلك، وضيعت، واستكبرت عن قبوله، وآثرت الضلالة على الهدى، واشتغلت بضد ما أمرت به، وإنما جاء التضييع من قِبلك، فلا عذر لك.
و «بلى» : جواب لنفي مقدر، وهو نتيجة القياس الاستثنائي، أي: لو أن الله هدانى لا هتديت وكنت متقياً، لكنه لم يهدني، وإنما أخّره لأنه لا بد من حكاية أقوال النّفس على ترتيبها، ثم يذكر الجواب في الجملة. والله تعالى أعلم.
(٢) فى الأصول [ابن منصور] والمثبت هو الذي فى النّسفى.
(٣) كما جاء فى الآية ٢١ من سورة إبراهيم.
السِّباق السِّبَاقَ قَوْلاً وفعلا | حذر النفس حسرة المسْبُوقِ |
ولا ينفع الاحتجاج بالقدر في دار التكليف مع بيان الطريق. أو تقول حين ترى العذاب، وهو فراق الأحباب والتخلُّف عنهم: لو أن لي كرة إلى الدنيا، فأجهد نفسي حتى أكون من أهل الإحسان، الذين يعبدون الله على العيان، بلى قد جاءتك آياتي، وهم الدعاة إليَّ في كل زمان مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها، فكذَّبتَ بها، واستكبرتَ عن الخضوع لهم، وكنت من الجاحدين لطريق التربية.
ثم ذكر مآل أهل التكذيب والصدق، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه، كاتخاذ الولد والشريك ونفي الصفات عنه، وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ بما ينالهم من الشدة والكآبة. والجملة: حال، على أن الرؤية بصرية، أو: مفعول ثان لها، إن كانت علمية. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي: مقام لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان والطاعة، وهو إشارة إلى قوله: وَاسْتَكْبَرْتَ، ولا ينافي إشعاره بأن تكبرهم علة لاستحقاقهم النار أن يكون دخولهم فيها لأجل أن كلمة العذاب حقَّتْ عليهم لأن كبرهم مسبب عنها.
فاز بالمطلوب: ظفر به، والباء متعلقة بمحذوف، حال من الموصول، مفيدة لمقارنة نجاتهم من العذاب بنيل الثواب، أي: ينجيهم الله من مثوى المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم، أو: بسبب فوزهم بالإيمان والأعمال الحسنة في الدنيا، ولذا قرأ ابن عباس رضي الله عنه: «بمفازتهم بالأعمال الحسنة». قال القشيري: كما وَقَاهم اليومَ من المخالفات، وحماهم، فكذلك غداً عن العقوبة وقاهم، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين، اليومَ عصمة، وغداً نعمة، واليومَ عناية، وغداً كفاية. هـ.
لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: إما حال أخرى من الموصول، أو: من مفازتهم وقيل: تفسير للمفازة، كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسهم السوء، أي: ينجيهم بنفي السوء والحُزن عنهم، فلا يمس أبدانَهم سوء، ولا قلوبَهم حزن.
الإشارة: ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله، بالدعاوى الباطلة، من القلوب الخاوية، ف كل مَن ادعى حالاً ليست فيه، أو: مرتبة لم يتحققها، فالآية تجر ذيلها عليه، واسوداد وجوهم بافتضاحهم.
قال القشيري: هؤلاء الذين ادَّعوا أحوالاً، ولم يَصْدُقُوا فيها، وأظهروا المحبةَ لله، ولم يتحققوا بها، وكفى بهم ذلك افتضاحاً، وأنشدوا:
ولما ادَّعَيْتُ الحُبَّ قالت: كَذَبْتَني... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا؟
فما الحُبُّ حتى تنزفَ العينُ بالبكا... وتخرسَ حتى لا تجيب المناديا «١».
وينجي الله الذين اتقوا شهود السِّوى من كل مكروه، بسبب مفازتهم بمعرفة الله في الدنيا، لا يمسهم السوء، أي: غم الحجاب، لرفعه عنهم على الدوام، ولا هم يحزنون على فوات شيء إذ لم يفتهم شيء حيث فازوا بالله، «ماذا فَقَد مَن وجدك» ؟ «٢».
ولما ادَّعَيْتُ الحُبَّ قالت: كَذَبْتَني... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق الجلد بالحشا... وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى... سوى مقلة تبكى بها أو تناجيا
(٢) جزء من مناجاة الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندرى: انظر الحكم بتويب المتقى الهندي ص/ ٤٢.
بسعادتهم القديمة، يعني لقوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى «١» | الآية. قاله المحشي الفاسي. |
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٦]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: جامد أوحى، خير أو شر، إيمان أو كفر، لا بالجبر، بل بمباشرة الكاسب في عالَم الحكمة، وفيه إثبات القدرة والعلم، وهما مصححان للبعث والجزاء بالخير والشر، لمحسن أو مسيء. قال القشيري: ويدخل تحت قوله: كُلِّ شَيْءٍ كسبُ العباد، ولا يدخل كلامُه لأن المخاطِبَ لا يدخل تحت خطابه ولا صفاته. هـ. والمراد بالكلام: المعاني القديمة، وأما الألفاظ والحروف فهي مخلوقة، كما هو مقرر في محله. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي: حافظ يتولى التصرُّف فيه كيف يشاء.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: مفاتح خزائنها، واحدها «مِقْليد»، أو: إقليد «٢»، أو: لا واحد لها، وأصلها فارسية، والمراد: أنه مالكها وحافظها، وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبّر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيتْ إليه مقاليد الملك، أي: مفاتح التصرف قد سُلّمت إليه، وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا مَن بيده مفاتحها.
(٢) انظر لسان العرب (٥/ ٣٧١٨، مادة قلد).
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي: كفروا به بعد كونه خالق كل شيء، ومتصرفاً في ملكه كيف يشاء، بيده مقاليد العالم العلوي والسفلي، فكفروا بعد هذا بآياته التكوينية، المنصوبة في الآفاق وفي الأنفس، والتنزيلية، التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بذلك، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ خسراناً لا خسرَ وراءه، وقيل: هو متصل بقوله:
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وما بينهما اعتراض.
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ به، وكانوا يقولون له: أسلِم لبعض آلهتنا نؤمن بإلهك لفرط جهالتهم. وغير: منصوب ب «أعبد»، وتَأْمُرُونِّي: اعتراض، أي: أتأمروني أعبد غير الله بعد هذا البيان التام؟
وحذفُ نون الوقاية وإثباتها مدغمة وغير مدغمة، كُلٌّ قُرىء به.
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ: من الأنبياء- عليهم السلام: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، كلام وارد على طريق الفرض، لتهييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإيذان بغاية بشاعة الإشراك وقُبحه، وكونه بحيث يُنهي عنه مَن لا يكاد يمكن أن يباشره بمَن عداه أو: الخطاب له، والمراد غيره.
وإفراد الخطاب مع كون الموحَى إليهم جماعة، باعتبار خطاب كل واحد في عصره، واللام موطئة لقسم محذوف، والثانية لام الجواب، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط، وإطلاق الإحباط لاحتمال أن يكون من خصائصهم لأن الإشراك منهم أشد، وأن يكون مقيداً بالموت، كما صرح به في آية البقرة «٢»، وهو مذهب الشافعي، وذهب مالك إلى أن الشرك يُحبط العمل قبل الردة، مات عليها، أو رجع إلى الإسلام، فينتقض وضوؤه وصومُه. وما قاله الشافعي أظهر.
(٢) في قوله تعالى:... وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.. الآية ٢١٧.
الإشارة: الله مُظهر كل شيء حيث تجلّى بها، وهو قائم بكل شيء. له مفاتيح غيوب السماوات والأرض، لا يطلعَ عليها إلا مَن خضع لأوليائه، الذين هم آيات من آياته. والذين كفروا بآيات الله، الدالة على الله، وهم أولياء الله، أولئك هم الخاسرون، فلا خسران أعظم من خيبة الوصول إذ لا يخلو المفروق عن الله من الشرك الخفي، فإذا أُمر المريد بإظهار شيء من سره، أو مداهنة غيره، قال: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ بأن طالعت غيري فى سرك، أو تشوقت أن يعلم الناس بخصوصيتك لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ واكتفِ به، واقنع بعلمه، واغتنِ بشهوده، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ما أولاك من سر خصوصيته.
ثم ردَّ على أهل الشرك، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٧]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما عظَّموه حق تعظيمه حيث جعلوا له شريكاً، أو وصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة، أو: حيث دعوك إلى عبادة غيره تعالى، أو: ما عَرفُوه حق معرفته، حيث لم يؤمنوا بقدرة الله تعالى. قال ابن عباس: فمَن آمن إن الله على كل شيء قدير، فقد قَدَر الله حقَ قدره.
يقال: قدرت الشيء: إذا حزرته لتعرف مبْلغه، والقدر: المقدار. والضمير، إما لقريش، المحدث عنهم، وقيل: لليهود، حيث تكلّموا في صفات الله تعالى، فألحدوا وجسّموا.
ثم بيَّن لهم شيئاً من عظمته تعالى، فقال: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ: ف «جميعاً» : حال من الأرض لأنه بمعنى الأرضين، أي: والأرضون جميعاً مقبوضة له بقدرته يوم القيامة. وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي: بقدرته. والقبضة: المرة من القبض، والقُبْضة: المقدار المقبوض بالكف، والمراد من الكلام: تصوير عظمته تعالى، والتوقيف على كنه جلاله، وأن تخريب هذا العالم هو عليه شيء هين، على طريقة التمثيل والتخييل، من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة، ولا مجازاً، هكذا قال جمهور المفسرين.
أنا الملك، أين ملوك الأرض» «٢» وقال ابن عمر رأيت النبي ﷺ قائماً على المنبر، وهو يحكي عن ربه تعالى، فقال: «إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة، جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته، ثم قال هكذا، وشدّ قبضته، ثم بسطها، ثم يقول: أنا الله، أنا الرحمن..» الحديث. وفي لفظ آخر: «يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون أين المتكبرون؟» «٣». وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية: «كل ذلك في يمينه، وليس في يده الأخرى شيء، وإنما يستعين بشماله المشغولُ بيمينه، وما السماوات السبع، والأرضون السبع، في يد الله تعالى، إلا كخردلة في يد أحدكم، ولهذا قال: مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ: يعني السماوات والأرضين كلها بيمينه» «٤» قلت: من كَحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص، لا تصعب عليه هذه الأمور إذ تجليات الحق لا تنحصر، فيمكن أن يتجلى من نور جبروته بنور يشا كل الآدمي في الأعضاء كلها، فيكون له ذات لها يدان وقدمان، وبه ورد أن الله يضع قدمه على النار، فتقول: قط قط، ويكشف عن ساقه لأهل الموقف، ويتقدمهم للجنة، إلى غير ذلك مما ورد في الحديث. ولا يلزم من ذلك حصر ولا تجسيم، إنما هي تجليات للذات الكلية المطلقة، ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء والبقاء من العارفين، فسلِّم تسلَم.
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي: تنزيهاً عظيماً لمَن هذه قدرته وشأنه عما يضاف إليه من الشركاء، أي: ما أبعد من هذا شأنه عن إشراكهم!
وقوله صلّى الله عليه وسلم (يتكفؤها بيده) أي: يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوى لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها. ومعنى هذا الحديث: أن الله يجعل الأرض كالرغيف العظيم.
(٢) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الزمر، باب وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ٥/ ٥٥١) ومسلم فى (صفات المنافقين، باب صفة القيامة والجنة والنّار، ٤/ ٢١٤٨، ح ٢٧٨٧).
(٣) أخرجه بنحوه مسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب: صفة القيامة والجنة والنّار، ٤/ ٢١٤٨، ح ٢٧٨٨) من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(٤) ذكره السيوطي فى الدر (٥/ ٦٢٩) مختصرا، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبى حاتم، وأبى الشيخ.
فَالْكُلُّ دون اللهِ إِن حقيقته | عَدم عَلَى التفصيلِ والإجمالِ |
وَاعلَمْ بأنَّكَ والعَوالِمَ كُلَّها | لَوْلاَهْ فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ |
مَن لاَ وجُودَ لذاتهِ مِنْ ذاتِهِ | فوجُودُهُ لولاهُ عينُ مُحالِ |
مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ | فقَد تَرقَّى عن الحجابِ |
إِلى وُجودٍ تراهُ رَتْقاً | بِلاَ ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ |
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الأولى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي: خرّ ميتاً، أو مغشياً عليه، إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يُميتهم الله بعد ذلك، وقيل: حمَلَة العرش، وقيل: خزَنة النار والجنة «١».
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى هي النفخة الثانية. و «أخرى» : في محل الرفع صفة لمحذوف، أي: نفخ نفخة أخرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ من قبورهم، حال كونهم إذا فاجأهم خطب يَنْظُرُونَ يُقلبون أبصارهم في الجوانب
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ أضاءت بِنُورِ رَبِّها حين يتجلّى لفصل عباده، فتُشرق الأرض- أي: عرَصَات القيامة- بنور وجهه، ويقال: إن الله يخلق في القيامة نوراً يلبسه وجهَ الأرض، فتشرق به. قال في الحاشية الفاسية: وهذا القول هو الذي اختاره محيي السنة، وانتصر له الطيبي، بما ورد من الأحاديث المقتضية لرؤيته في عرصات القيامة، قال: وما تعسف الزمخشري، من حمل النور على العدل، إلا فراراً من ذلك. هـ. قال القشيري:
هو نور يخلقه في القيامة، عند تكوير الشمس، وانكدار النّجوم، ويستضيىء به قومٌ دون قوم، والكفارُ يَبْقَون في الظلمة، والمؤمنون: يَسْعى نُورُهُمْ... الآية «١». ويقال: غداً إشراق الأرض، واليوم إشراق القلب، غداً أنوار التولي، واليوم أنوار التجلي. هـ.
وقال السدي: بعدله، على الاستعارة، يقال للملك العادل: أشرقت الأرض بعدله، كما استعيرت الظلمة للظُلم.
وفي الحديث: «الظلم ظلمات يوم القيامة» «٢».
وَوُضِعَ الْكِتابُ أي: صحائف الأعمال. اكتفى باسم الجنس، أو: كتاب المحاسبة والجزاء. وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم، وَالشُّهَداءِ أي: الحفظة، ليشهدوا على كل إنسان بما عمل، والذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة إذا جحدتهم أممهم، أو: الذين استُشهدوا في سبيل الله. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ:
بين العباد بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب، أو زيادة عقاب. قال ابن عطية: الضمير في بَيْنَهُمْ عائد على العالم بأجمعه. هـ. فيقتضي دخول الملائكة، ويتصور القضاء في حقهم، من حيث جعلوا حفظة على العباد، وأمناء على الوحي والتبليغ، وغير ذلك من ترتيبهم في مقاماتهم، وترقيهم في علومهم، وتفاوتهم في ذلك. وفي وجوه تخصيصاتهم وتصديقهم في التبليغ، ورد ما استندوا فيه لظواهر الأمور، مع علمه تعالى خلافه، مما لا اطلاعَ لهم عليه. قاله في الحاشية.
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته شيء من أفعالهم. ومضمون الآية: تصوير التعرُّض للقضاء بين العباد على ما هو شأن الملك، من إحضار الشهود وخواص حضرته، حين يبرز لذلك، ويشهده الظالم والمظلوم، وإن كان كنه معرفته موكولاً إليه، ثم من لوازم ذلك العدل. والله تعالى أعلم.
(٢) أخرجه البخاري فى (المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة ح ٢٤٤٧) ومسلم فى (البر، باب تحريم الظلم، ٤/ ١٩٩٦، ح ٢٥٧٩) من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
ثم ذكر نتيجة الفصل بين العباد، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أي: تسوقهم الزبانية بالعنف والإهانة، كما تساق الأسارى والخارجين على السلطان، إذا سيقوا للقتل أو السجن، فتسوقهم الزبانية إلى جهنم أفواجاً متفرقة، بعضها إثر بعض، حسب ترتُّب طبقاتهم في الضلالة والشرارة، والزمر: جمع زمرة، أي: الجماعة، واشتقاقها من الزمر، أي: الصوت. والجماعة لا تخلو عنه.
حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها، وهي سبعة «١»، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعاً وتوبيخاً:
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم. وقرىء: «نُذُر منكم»، يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار. وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع، من حيث إنهم علّلوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب. قالُوا بَلى قد أتونا وأنذرونا، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي: ولكن وجبت علينا كلمة الله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «٢» بسوء أعمالنا حيث كذَّبنا، وَقُلْنَا: مَا نَزَّلَ الله
(٢) من الآية ١١٩ من سورة هود.
الإشارة: كل مَن تكبَّر عن أولياء زمانه- أهل التربية- حتى مات محجوباً عن شهود الحق، يلحقه التوبيخ بلسان الحال، فيقال له: ألم يأتكم رسل من أولياء زمانكم، يعرفون بنا في كل زمان؟ فيقولون: بلى، ولكن حقت علينا كلمة الحجاب، فيخلدون في القطيعة والحجاب، إلا في وقت مخصوص. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أهل الخير، فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ مساق إعزاز وتشريف، بلا إسراع ولا تكليف، إلى دار الكرامة والتعريف. قيل: يُساقون راكبين مبجَّلين، كما يجيء الوافدون إلى دار الملوك، يساقون إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً جماعة متفاوتين، بحسب تفاوت مراتبهم في الفضل، وعلو الطبقة، حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها الثمانية. وقرئ بالتخفيف والتشديد «١». وجواب «إذا» محذوف للإيذان بأن لهم من فنون الكرامة ما لا تُحيط به العبارة، كأنه قيل: حتى إذا جاءوها، وقد فتحت أبوابها، كان من الأمر والخبر ما يقصر عنه البيان.
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ظفرتم، وتقدّستم في دار التقديس من كل دنس، وطبتم نفساً، بما أتيح لكم من النعيم والأمن، فَادْخُلُوها خالِدِينَ، وحذف الواو في وصف أهل النار لأن أبواب جهنم لا تفتح
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي: أنجزنا ما وعدنا في الدنيا من نعيم العقبى. وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أرض الجنة، أي: المكان الذي استقرُّوا فيه، وقد أُورثوها وملكوها. وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون [تشبيهاً] «٢» بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه، واتساعه فيها، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي: يتخذ كل واحد منا جنة لا توصف، سعة وزيادة على الحاجة، فيتبوأ أيَّ مكان أراده من جنته الواسعة، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ في الدنيا الجنة.
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حال كونهم حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي: محدقين به. و «من» لابتداء الغاية، أي:
ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله، أو: زائدة، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي: يقولون سبحان الله، والحمد لله، سُبوح قُدوس، رب الملائكة والروح. أو: ينزهونه تعالى عما لا يليق به، ملتبسين بحمده. والمعنى:
ذاكرين الله تعالى بوصفي جلاله وإكرامه، تلذُّذاً، وفيه إشعار بأن أقصى درجات العليين في لذائذهم هو الاستغراق في شهوده عزّ وجل.
وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يقوله أهل الجنة شكراً لله حين دخلوها، وتمّ وعد الله لهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ كما قال: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «٣».
الإشارة: وسيق الذين اتقوا ربهم حق تقاته إلى جنة المعارف، زُمراً، متفاوتين في السير، على قدر تفاوتهم في القريحة، والاعتناء، والتفرُّغ من الشواغل والعلائق. حتى إذا جاءوها وفُتحت أبوابها، بذهاب حجاب الكائنات، حتى بقي المكوّن وحده، كما كان وحده، وجدوا من الأسرار والأنوار مالا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تحيط به الإشارة. وقال لهم خزنتها، وهم شيوخ التربية، العارفون الله: سلام عليكم طِبتم، أي: تقدّستم من العيوب والأكدار، فادخلوها خالدين لأن مَن وصل لا يرجع أبداً، وما رجع مَن رجع إلا من الطريق. وقالوا: الحمد لله الذى صدقنا وعده، بأن أنجز لنا ما وعدنا من الوصول، على ألسنة المشايخ. قال في الحكم: «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه».
(٢) ما بين المعقوفتين، ليس فى الأصول، وأثبته لاقتضاء السياق له.
(٣) من الآية ١٠ من سورة يونس.