تفسير سورة الشورى

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
سورة الشورى
مكية
وآياتها ثلاث وخمسون
كلماتها : ٨٦٦ ؛ حروفها : ٣٠٨٨.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ حم( ١ ) عسق( ٢ ) ﴾
هما اسمان للسورة. أو يراد بهما التحدي، كأن المعنى : الحاء والميم والعين والسين والقاف أسماء حروف تنطقون بها. ومنها يتألف كلامكم ؛ والكتاب الحكيم الذي أنزلناه على نبينا مكون من مثل هذه الحروف، ولكنكم عجزتم عن الإتيان بمثله، فلتعلموا إذا أنه ليس من كلام البشر، وإنما هو من كلام رب القوى والقدر، وربما يكون المعنى : الإشارة إلى جانب من أسماء الله الحسنى وصفاته العلا والحلف بها.
يقول بعض المفسرين :﴿ الحاء ﴾ من الرحمن، و﴿ الميم ﴾ من المجيد، و﴿ العين ﴾ من العليم، و﴿ السين ﴾ من القدوس، و﴿ القاف ﴾ من القاهر. أو ﴿ الحاء ﴾ حلمه، و﴿ الميم ﴾ مجده، و﴿ العين ﴾ علمه، و﴿ السين ﴾ سناه، و﴿ القاف ﴾ قدرته، أقسم الله بها.
﴿ كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم( ٣ ) ﴾.
الذي أوحيناه إليك مثل الذي أوحينا إلى رسلنا السابقين، في الدعوة إلى الحق، وهداية الخلق.
والفعل :﴿ يوحي ﴾ مضارع يراد به المضي ؛ وهو وحي عزيز لا يُغالب ولا يُمانع، حكيم لا يفوته شيء، بل يقضي ويُدبر الأمر موافقا للحكمة ؛ وهو المعبود ذو الجلال.
﴿ له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم( ٤ ) ﴾.
علّمنا مولانا ما يهدينا إلى جلاله وهيمنته، فهو المالك للسماوات وما فيها من ملَك وفلَك، ونجم وكوكب، وله السلطان والاقتدار، والملك والتدبير في الأرض وما عليها ومن عليها وما فيها ﴿ .. الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه.. ﴾١ وهو متعالي المقام، مسيطر على كل الخلق.
﴿ العظيم ﴾ الذي جاوز قدره وجلّ عن حدود العقول، حتى لا تُتصور الإحاطة بكنهه وحقيقته ؛ وعظمة الله سبحانه لا تكيف ولا تُحد ولا تمثل بشيء ؛ ويجب على العباد أن يعلموا أنه عظيم، وأن يستيقنوا بعظمته بلا كيفية ولا تحديد. وأما وصف عقاب أصحاب النار ب﴿ عذاب عظيم ﴾ فهو بمعنى : مهول مستنكر ؛ وكذا وصف مكر النساء واحتيالهن بالعظمة كما في الآية الكريمة :﴿ .. إن كيدكن عظيم ﴾٢ فالمراد بعظمة الكيد : هولُه ونُكُره.
١ سورة الزمر. من الآية ٦٧..
٢ سورة يوسف. من الآية ٣٢..
﴿ تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن ﴾.
توشك السماوات أن تتشقق من عظمة الله وجلاله فوقهن ؛ أو الانفطار يبتدئ من أعلى السماوات أو ما فوقها إلى أن ينتهي إلى السفلى.
يقول بعض المفسرين : وفي الابتداء من جهة الفوق تفظيع وتهويل.
﴿ والملائكة يسبحون بحمد ربهم ﴾.
عامة الملائكة يقرنون تنزيه المولى عما لا يليق بجلاله بمدحه والثناء عليه بكامل عليائه وسابغ أفضاله ؛ وفي سورة أخرى بينت آيات كريمات أن أشراف الملأ الأعلى ينزهون الله العلي الكبير ويحمدونه ﴿ الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم.. ﴾١ وهذه الآية شملت كافة الملائكة.
﴿ ويستغفرون لمن في الأرض ﴾.
يسألون الله الغفران للناس. يقول بعض المفسرين : يحتمل أن يقصدوا بالاستغفار طلب الحلم والغفران في قوله تعالى :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ﴾٢ إلى أن قال :﴿ إنه كان حليما غفورا ﴾٣ وقوله تعالى :﴿ .. وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم.. ﴾٤ والمراد الحلم عنهم، وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاما.
أقول : معنى الغفران في اللغة والشرع ظاهر فهو الستر ومحو الذنوب، والله سبحانه علّم نبيه الكريم لمن تكون المغفرة فقال عز من قائل :﴿ .. واستغفر لذنبك وللمؤمنين وللمؤمنات.. ﴾٥ كما بيّن ماذا على أهل الإيمان حيال الاستغفار للجاحدين بقول الله الحكيم :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.. ﴾٦ وما يرضى القرآن الكريم بغير هذا :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾٧. فاتضح بعد الذي قدمنا أن العموم المستفاد من قوله :﴿ ويستغفرون لمن في الأرض ﴾ مخصوص بما مر، .. أي يستغفرون للمؤمنين منهم.
﴿ ألا إن الله هو الغفور الرحيم( ٥ ) ﴾.
الغفور لذنوب مؤمني عباده ﴿ الرحيم ﴾ بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها.
قال بعض العلماء : هيّب وعظم جل وعز في الابتداء وألطف وبشر في الانتهاء ؛ يشيرون إلى قول الله الكريم في الآية السابقة :﴿ وهو العلي العظيم ﴾ وبدء هذه الآية :﴿ تكاد السماوات يتفطرن.. ﴾ ثم ختمت باللطف والبشرى :﴿ .. ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم ﴾.
١ سورة غافر. من الآية ٧..
٢ سورة فاطر. من الآية ٤١..
٣ سورة الرعد. من الآية ٦..
٤ سورة محمد. من الآية ١٩..
٥ سورة التوبة. من الآية ١١٤..
٦ سورة التوبة الآية ١١٣.
.

٧ ؟؟؟؟؟.
﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم ﴾.
والكفار الذين أشركوا بالله وجعلوا له أندادا، ونصبوا أصناما يعبدونها- وما يعبد بحق إلا العلي العظيم- هؤلاء يحصي المولى ويرقب أعمالهم وأحوالهم ويستنسخها، ليجازيهم.
﴿ وما أنت عليهم بوكيل( ٦ ) ﴾.
لست يا محمد بموكول إليك أمرهم، إنما أنت منذر، وعليك البلاغ ؛ وإلينا مرجعهم وعلينا الحساب.
﴿ وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا ﴾.
مثلما ارتضيتك والرسل السابقين للدعوة إليّ، أنزلت على من شئت منهم كتبا من عندي، وأنزلت عليك كتابا جمع أصول الكتب السابقة، وصدقها وهيمن عليها، وجعلته بلسان عربي مبين لأن العرب قومك، ولأني أعلم من الحكمة في ذلك ما لا يعلم الخلق. وكأن العطف هنا على المعنى المشار إليه في الآية الثالثة من هذه السورة :﴿ كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله.. ﴾ هذا والأصل اللغوي [ القرآن ] ربما يكون القرء والجمع، وسمي كتاب الله المجيد ﴿ قرآنا ﴾ لأنه جمع أصول الرسالات والشرائع التي أنزلها الله قبل هذا الذكر الحكيم.
﴿ لتنذر أم القرى ومن حولها ﴾.
أنزلنا إليك هذا القرآن لتنذر أهل مكة وتحذرهم عاقبة عبادة الأصنام والتمادي في البغي والعصيان ؛ وسميت مكة ﴿ أم القرى ﴾ لأنها مركز دائرة المدائن- كما أن مركز الدائرة هو محورها الذي تدور من حوله ؛ ولقد ثبت لمهندس متخصص في بحث له أن المسجد الحرام هو قلب الدنيا ووسطها- ﴿ ومن حولها ﴾ العالم كله، فإن رسالة القرآن عامة وشاملة ؛ وصدق الله موحيه :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس.. ﴾١ ﴿ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا.. ﴾٢ وفي العبارة مجاز عقلي، فليس المراد أن يحذر بنيان مكة، وإنما إنسان مكة، فكأن المراد : لتنذر أهل أم القرى.
﴿ وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ﴾
وتحذر من الشك في مجيء يوم القيامة - يوم يحشر الله الخلق جميعا-ومن الغفلة عن التزود له، ومما ينتظر المكلفين فيه من أهوال.
﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير( ٧ ) ﴾.
يوم الجمع يقضي الله بين العباد، ويجزي الذين آمنوا وأحسنوا فيأمر بهم إلى دار النعيم والثواب الكريم المقيم ﴿ الجنة ﴾ ويأمر سبحانه–أن يصار بأهل الفسوق والكفر إلى دار العذاب والخزي والحريق والذل ﴿ السعير ﴾.
١ سورة سبأ. من الآية ٢٨..
٢ سورة الأعراف. من الآية ١٠٨..
﴿ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ﴾.
لو أراد المولى أن يجعل الفريقين- فريق الجنة وفريق في السعير- لو شاء سبحانه لجعلهم في الدنيا أهل دين واحد، أو أهل هداية.
﴿ ولكن يدخل من يشاء في رحمته ﴾.
يدخل الله في الإسلام من شمله بالرحمة التي تحوطه في أولاه وأخراه، فإن رحمته في الدنيا تشمل المؤمن والكافر، أما في الآخرة فمع سعتها لا ينالها إلا من آمن وعمل صالحا، كما شهد بذلك القرآن العزيز ﴿ .. ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة { والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ.. }١.
﴿ والظالمون مالهم من ولي ولا نصير( ٨ ) ﴾.
لكن من أشرك فقد افترى إثما عظيما ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾٢ ﴿ .. ومن يتعد حدود الله فقد ظلم.. ﴾٣ فهؤلاء بظلمهم يخذلهم الله فلا يدخلهم في ثوابه، ولن تجد لهم وليا ولن تجد لهم نصيرا ؛ يقول بعض المفسرين :.. ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين.. وإنما قيل :﴿ والظالمون مالهم من ولي ولا نصير ﴾ وكان الظاهر أن يقال : ويدخل من يشاء في عذابه ونقمته للإيذان بأن الإدخال في العذاب.. بموجب سوء اختيارهم لا من جهته عز وجل.. ولو شاء تعالى مشيئة قدرة لقسرهم- أجبرهم- على الإيمان ؛ ولكنه سبحانه شاء مشيئة حكمة، وكلفهم، وبنى أمرهم على ما يختارون.. وترك الظالمين بغير ولي ولا نصير.. اه.
١ سورة الأعراف من الآية ١٥٦، ١٥٧..
٢ سورة لقمان من الآية ١٣..
٣ سورة الطلاق من الآية ١..
﴿ أم اتخذوا من دونه أولياء ﴾.
بل اتخذوا متجاوزين الله تعالى أولياء من الأصنام وغيرها فكان جزاؤهم من جنس عملهم أن قطعهم الله عن ولايته، فهم في الدنيا تستهويهم الشياطين فيعيشون حيارى مرتابين، وفي الآخرة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا، فما لهم من شافعين، ولا صديق حميم ﴿ آية ﴾، ولا نصير يخلصهم من عذاب السعير.
﴿ فالله هو الولي ﴾.
فما وجد شيئا من فقد الله، ﴿ .. وهو يتولى الصالحين ﴾١، وأولياؤه سبحانه هم أهل كرامته في الدنيا والآخرة.. يقول بعض المفسرين : هو جواب شرط مقدر، أي إن أرادوا وليا بحق فالله تعالى هو الولي بحق لا ولي سواه عز وجل.. اه.
﴿ وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير( ٩ ) ﴾.
فهل الذين اتخذوهم أربابا من دون الله يملكون شيئا أو يقدرون على شيء ؟ ! وهكذا جاء البرهان في القرآن :﴿ واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ﴾٢، وما دامت معبوداتهم بهذا العجز فلا ينبغي لعاقل أن يدع عبادة القوي القدير إلى ضعاف لا يملكون ولا يقدرون ولا ينفعون ؛ بل إنما الرب المعبود هو المتفرد بإحياء الموتى وإليه المصير.
١ سورة الأعراف. من الآية ١٩٦..
٢ سورة الفرقان الآية ٣..
﴿ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ﴾.
كأن في الكلام إضمار تقديره : قل يا محمد للمؤمنين : وما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين كاتخاذ الله تعالى وحده وليا فاختلفتم أنتم وهم فالحكم فيه راجع إلى الله جل علاه، وقد حكم أن الدين هو الإسلام لا غيره.
﴿ ذلكم الله ربي ﴾
الذي يملك البعث والنشور، والذي له الخلق والأمر والذي يحكم لا معقب لحكمه، هو الله ربي، معبودي ووليي ومالكي ومصلح أمري.
﴿ عليه توكلت وإليه أنيب( ١٠ ) ﴾.
اعتمادي في كل أموري ليس إلا عليه، وإقبالي ورجوعي ليس إلا إليه.
﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾.
المنشئ والمبدع الخالق للسماوات والأرض هو الله ربي.
﴿ جعل لكم من أنفسكم أزواجا ﴾.
خلق لكم من جنسكم نساء يكُنّ لكم زوجات، أو خلق لكم من أنفسكم إناثا، لأنه خلق حواء من ضلع آدم.
﴿ ومن الأنعام أزواجا ﴾.
وخلق من البهائم التي نشرب من ألبانها، ونأكل لحمها ولحم نسلها-وهي الثمانية التي بينها القرآن في سورة الأنعام- ذكور الإبل والبقر والضأن والمعز، وإناثها.
﴿ يذرؤكم فيه ﴾.
يكثركم الله تعالى ويكثر الأنعام بما جعل سبحانه للناس وللأنعام من أزواج يكون بينهم توالد ؛ والذرء : البث والتكثير، و﴿ فيه ﴾ بمعنى به. يقول بعض المفسرين : وغلب في ﴿ يذرؤكم ﴾ المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل. فلم يقل يذرؤكم ويذرؤهم ويذرؤها واكتفى بما هو للعقلاء المخاطبين تغليبا لهم على الأنعام التي لا تعقل.
﴿ ليس كمثله شيء ﴾.
الكاف للتوكيد، أي : ليس مثله شيء.. ومذهب أهل الحق والسنة والجماعة أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحسن أسمائه وعلى جليل صفاته، لا يشبه شيئا من مخلوقاته. يقول بعض العلماء : التوحيد : إثبات ذات غير مشبهة للذوات. ولا معطلة من الصفات.. اه.
﴿ وهو السميع البصير( ١١ ) ﴾.
المدرك المحيط بجميع المسموعات، المحيط بجميع الموجودات، فلا يغيب عن سمعه سبحانه ولا عن بصره شيء.
﴿ له مقاليد السماوات والأرض ﴾.
لله مفاتيح خزائن السماوات والأرض ؛ والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن. يقال للمفتاح إقليد، وجمعه على غير قياس.
﴿ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾.
يوسع رزق من أراد- سبحانه- أن تتسع معايشه، ويعطي من يشاء رزقه بقدر ضيق، [ وقدر ] بهذا المعنى جاء مقابلا للسعة في آية كريمة :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا ﴾١.
﴿ إنه بكل شيء عليم( ١٢ ) ﴾.
تام الإحاطة بكل شيء، فيدبر كل أمر على مقتضى علمه الذي لا يغيب عنه ما قل ولا ما كثر.
١ سورة الطلاق الآية ٧..
﴿ *شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ﴾.
الله الولي، المبدئ المعيد، بديع السماوات والأرض. السميع البصير، الرزاق العليم، بيّن لنا وسنّ. وأوضح وشرع من العهد والميثاق ما عهد به إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى. يقول بعض المفسرين :... أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والزّلف إليه بما يَرُدُّ القلب والجارحة إليه، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل والزنى، والأذية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات، وما يعود بحرم المروءات، فهذا كله مشروع، دينا واحدا وملة متحدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم.. اه.
﴿ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾
فليستقر هذا الدين بينكم وليستمر ولتصونوه وتقيموه فيكم من غير خلاف فيه ولا اضطراب، فتوحيد الله وطاعته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون به المكلف مسلما، هذا هو الدين الذي دعت إليه كل الرسل، لكن الشرائع تختلف فيما وراء هذا من معان حسبما أراده الله مما اقتضت المصلحة واتجهت الحكمة إلى تشريعه في كل زمن ولكل أمة حسب أحوالها.
﴿ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ﴾.
شقّ على الكفار وعظم ثقل ما تناديهم إليه من التوحيد وعهود الله ومطالب الدين ومواثيقه.
﴿ الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب( ١٣ ) ﴾.
ومهما أعرضوا عن الحق، ومالوا عن الهدى، وعملوا على إطفاء نور الإسلام، فإن الله يأبى إلا أن يظهر دينه، ويُعزّ جنده، ويختار لدين الحق من يريد، ويشرح له صدر من يرجع إلى طريق مولاه.
﴿ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ﴾.
لم تتفرق أمم الأنبياء منذ بعث نوح عليه السلام بسبب جهالة آثار الفرقة، لكن أنبياءهم حذروهم ضلال الفرقة وفساد الخلاف وعاقبة التنازع ؛ أو لم يتفرق من دعوتهم يا محمد عن جهل منهم بصدق نبوتك، بل هم يعلمون أنك صادق ؛ وهكذا شهد القرآن عليهم :﴿ .. فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾١ والكتابيون والمشركون في ذلك سواء، فإن المولى العليم لم يعزب عن علمه ما قال زعماء الشرك منذ مبعث النبي الخاتم، بل حكى الكتاب الحكيم ما كان منهم قبل مبعثه وبعده :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا. استكبارا في الأرض ومكر السيئ.. ﴾٢. وبنو إسرائيل وهم أهل الكتابين التوراة والإنجيل كانوا يتوعدون المشركين بالهزيمة حالما يُبْعث نبي آخر الزمان فيتبعونه ويكونون معه على عباد الأوثان والأصنام. ﴿ .. وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ﴾٣.
﴿ بغيا بينهم ﴾.
ظلما وتجاوزا للحق ؛ فليس تفرقهم لقصور في البرهان، ولكن أعمى بصائرهم الجحود والمراء والكفران، يقول المولى تبارك اسمه :﴿ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.. ﴾٤ ويقول سبحانه :﴿ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ﴾. ٥
﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ﴾
ولولا وعد ربنا بتأخير عذاب المكذبين بالحق إلى حين يعلمه الله سبحانه- إما حين حلول هزيمتهم وخزيهم، أو انقضاء آجالهم، أو يوم لقاء ربهم- لولا هذه العدة لعجل الله بطشته بهم.
﴿ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب( ١٤ ) ﴾
إن الذين ورثوا كتابي التوراة والإنجيل بعد المختلفين فيهما من أسلافهم لفي ريبة وتهمة من صدق ما جاءهم مما أوحي من الله إلى أنبيائهم ومن جملته أن يتركوا الاختلاف والفرقة والتنازع في الدين.
١ سورة الأنعام. من الآية ٣٣..
٢ سورة فاطر. الآية ٤٢، ومن الآية ٤٣..
٣ سورة البقرة من الآية ٨٩..
٤ سورة البقرة الآية ٩٠..
٥ سورة البينة من الآية ٤٠..
﴿ فلذلك فادع ﴾
فإلى ما عهدت به إلى كل الأنبياء- من إقامة الدين وعدم الاختلاف والتنازع فيه- فادع الناس يا محمد.
﴿ واستقم كما أمرت ﴾
واستقم على دعوة العباد إلى القرآن، واستدم واثبت على تبليغ الرسالة.
﴿ ولا تتبع أهواءهم ﴾
لا تبال بالمخالفين، ولا تطع المكذبين، فبودهم لو لنت في دعوتك فيلينون، .
﴿ وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ﴾
أعلمهم أن الدين الذي ارتضيته لا يقبل إلا ممن آمن بكل ما أنزل الله، وأنك مؤمن بها جميعا.
﴿ وأمرت لأعدل بينكم ﴾
في التبليغ والحكم. قال بعض المفسرين : لأسوي بيني وبينكم، ولا آمركم بما لا أعلمه، ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عز وجل.. أ ه
﴿ الله ربنا وربكم ﴾.
الله خالقنا وخالقكم، ومالك الأمر جميعا ؛ أو خالق الكل ومتولي أمره ؛ فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب.
﴿ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ﴾.
جزاءنا على أعمالنا عاقبته تؤول إلينا وسنوفاه حسنا أو سوءا، وأعمالكم لن يتجاوزكم جزاؤها، فلن نُسأل عما أجرمتم ولن تسألوا عما فعلنا.
﴿ لا حجة بيننا وبينكم ﴾.
لم تعد تفيدكم الحجة، ولا ينفع البرهان، بعد أن خالفتم الحق مكابرة وعنادا، وجحودا وبغيا واستكبارا.
﴿ الله يجمع بيننا وإليه المصير( ١٥ ) ﴾.
يوم النشور والحشر والحساب يقضي الله بيننا، ويحكم في مصيرنا، ويجازي كلا بما كان منه.
﴿ والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له، حجتهم داحضة عند ربهم ﴾.
من يجادل في الله ودينه بغير علم، ويخاصم في هداه بالهوى وقد دخل الناس في رحاب الرشد، واستجابوا لدعوة الحق، وأجابوا داعي الله ؛ فمراؤهم زائغ وزائل وباطل، وربما تكون إشارة إلى ما كان يغالط به أهل الكتاب مما حكاه عنهم القرآن ورد إفكهم :﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ﴾١، وما مالئوا به أهل الشرك :﴿ ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا. أولئك لعنهم الله.. ﴾٢.
﴿ وعليهم غضب ولهم عذاب شديد( ١٦ ) ﴾
يحل الله عليهم غضبه العظيم لمكابرتهم وتماديهم في الغواية بعد أن تبين الرشد وظهر، وأعد الله لهم عذابا لا يقادر قدره، ولا تحيط العقول بخطره ومبلغ شره.
١ سورة البقرة الآيتان: ١٣٥، ١٣٦..
٢ سورة النساء من الآيتين: ٥١، ٥٢...
﴿ الله الذي أنزل الكتاب بالحق ﴾.
وحي ربنا وكلماته، وكتبه ورسالاته، جاءت تبين الحق وتهدي إليه وتمسك به، وما تنزل من عند الله كتاب فيه باطل، أو يستطيع جبار أن يبطله، وصدق الله العظيم :﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل.. ﴾١.
﴿ والميزان ﴾
العدل والقسط، فالله لا يرضى للناس أن يتظالموا أو يبغي أحد على أحد، أو يبخس واحد حق آخر، ولقد جعل الله هذا الميثاق مطلب الرسالات جميعا :﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.. ﴾٢
﴿ وما يدريك لعل الساعة قريب( ١٧ ) ﴾.
لعل البعث والحساب والجزاء قريب منك وأنت لا تدري. وإن كان الخطاب للنبي محمد- صلى الله عليه وسلم- فإنه موجه إلى كل من يعقل- يحض على العمل بالكتاب، والعدل، والوفاء بعهود الشريعة، قبل أن يفاجأ اليوم الذي يكون فيه وزن الأعمال والجزاء عليها، فيوفّى لمن أوفى، ويأتي الجائر الفاجر فلا يجد شيئا إلا الجحيم والعذاب الأليم.
١ سورة الإسراء. من الآية ١٠٥..
٢ سورة الحديد من الآية ٣٥..
﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ﴾.
ومع أن يوم الفصل ليس ببعيد فإن المنكرين يستعجلون مجيء هذا اليوم، استهزاءا ويأسا من تحققه ﴿ قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين ﴾١.
﴿ والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ﴾.
والموقنون المصدقون خائفون منها وجلون، لأنهم مع جهدهم في الطاعة يستقصرون أمرهم :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ﴾٢، وهكذا جعل اليقين بالآخرة والخوف من أحوالها وأهوالها قرين الاهتداء بهدى الله والاستنارة بنوره :﴿ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾٣
﴿ ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد( ١٨ ) ﴾.
إن الذين يشكون في الساعة ويترددون في التصديق بمجيئها ضلوا عن الحق، وحادوا عن طريق الرشاد ﴿ بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ﴾٤ إذ لو بقيت فيهم آثار من نور البصيرة لعلموا أن الذي بدأ قادر على الإعادة وهو أهون عليه، وأن الذي يحيي الأرض بعد موتها يبعث الموتى من قبورهم، وأن الذي يتوفى الأنفس حين نومها بعد رقادها قادر على أن يحيي الموتى، وفي المأثور : والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون.
١ سورة الذاريات الآيات: ١٠، ١١، ١٢..
٢ سورة المؤمنون الآية ٦٠..
٣ سورة ق من الآية ٤٥٠.
٤ سورة النحل الآية ٦٦..
﴿ الله لطيف بعباده يرزق من يشاء ﴾
ربنا حفي بر بعباده المؤمنين، يتقبل القليل، ويعطينا عليه الأجر الجزيل، والثواب الجميل، ويمنحهم – تبارك اسمه- ويهب من جوده وعطائه، ويوسع لهم معيشتهم، مع ما أعد لهم من النعيم في آخرتهم-كما جاءت بذلك البشرى في الآية الكريمة ﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾١. وكذا الآية المباركة :﴿ ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾٢.
﴿ وهو القوي العزيز( ١٩ ) ﴾.
وهو المقتدر الذي لا يغالب.
١ سورة النحل الآية ٩٧..
٢ سورة النور الآية ٣٨..
﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ﴾.
الحرث في اللغة : إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها، أي من كان يريد بعمله طاعة الله ورضوانه ندخله جنات النعيم في أخراه، مع ما نعجل له من خير في دنياه.
﴿ ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب( ٢٠ ) ﴾
ومن ابتغى بعمله منافع الدنيا فليتمتع في هذه الدنيا الفانية، ولا حظ له في الدار الباقية.
﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾.
بل للمشركين شركاء من أوثانهم وأصنامهم، شرعت هذه الأصنام لعابديها، وزينت ما لم يرضى به الله من الشرك وإنكار البعث والنشور والعمل للدنيا.
﴿ ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ﴾
ولولا ما وعدهم الله به من الحكم بين العباد يوم الفصل ؛ وتأخير عذابهم إلى يوم يلقونه لقضي بينهم عاجلا ؛ فانتقم من الفاجر من حين يتمادى في فجوره، وكفره وشروره، وعجل الفرج والنصر للمؤمنين.
﴿ وإن الظالمين لهم عذاب أليم( ٢١ ) ﴾.
كل ما يشتهونه حاصل لهم عند ربهم.
﴿ ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ﴾.
ترى – يا من يصح منه أن يرى – وتعاين الظُلام الكافرين فزعين يوم القيامة، وقلوبهم لدى الحناجر كاظمين، ويتحسرون على ما عملوا، وهو حاضر معهم :
﴿ .. قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم.. ﴾١ ؛
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات ﴾.
بينما يستقر أهل الإيمان والإصلاح في رياض الجنات. والروضة : الموضع النزه الكثير الخضرة.
﴿ لهم ما يشاءون عند ربهم ﴾.
في الدنيا بالقتل والأسر والبطش ؛ وفي الآخرة بالنار.
﴿ ذلك هو الفضل الكبير( ٢٢ ) ﴾.
ذلك المنزل الكريم، والمقام الدائم في النعيم ؛ هو الفضل الذي لا يقدر قدره، ويصغر دونه كل ما لغيرهم في الدنيا.
١ سورة الأنعام. الآية٣١..
﴿ ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾.
الإشارة ب﴿ ذلك ﴾ قد تكون إلى ما وعد الله به عباده في الآية السابقة ﴿ .. في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم.. ﴾ أو : ذلك التبشير يبشره الله عباده ؛ والبشرى تعجّل السرور، وتزيد الهمة.
﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾
أمر الله تعالى نبيه أن يقول لقومه قريش : قل ما أطلب منكم على الدعوة والتبليغ والبشارة والتبيين نفعا أو مالا، لكن أطلب مودتكم إياي بسبب قرابتي منكم.
يقول بعض المفسرين : والمعنى : إن لم تعرفوا حقي لنبوتي وكوني رحمة عامة، ونعمة تامة، فلا أقل من مودتي لأجل حق القرابة وصلة الرحم التي تعنون بحفظها ورعايتها.
وفي الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة عن الشعبي قال : أكثر الناس علينا- يعني من السؤال والكلام- في هذه الآية :﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا.. ﴾ فكتبنا إلى ابن عباس نسأله، فكتب رضي الله تعالى عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وسط النسب في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه، قال الله تعالى :﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا ﴾ على ما أدعوكم إليه ﴿ إلا المودة في القربى ﴾ تودوني لقرابتي منكم.
﴿ ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ﴾
ومن يكتسب عملا صالحا نزد أجره الصالح :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.. ﴾١.
﴿ إن الله غفور شكور( ٢٣ ) ﴾.
ساتر ذنوب عباده، متجاوز عن معاقبتهم عليها، إن استغفروا ؛ شكور لطاعات المطيعين، فيجازيهم الجزاء الأوفى.
١ سورة الأنعام من الآية ١٦٠..
﴿ أم يقولون افترى على الله كذبا ﴾.
هل تستسيغ العقول ادعاءهم أن محمدا الصادق الأمين مفتر، وافتراؤه على الله عز وجل-وذلك أعظم الفرى ؟ !
﴿ فإن يشأ الله يختم على قلبك ﴾.
فلو أن ما اختلقوه من نسبة الافتراء إليك وقعت لختمت على قلبك، فإنه لا يجترئ على الكذب على الله إلا من طُبع على قلبه مثلهم ؛ فهم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وأنكروا لقاءه، وكبر عليهم أن يوحدوه ويطيعوه، وكذبوا بآياته ورسالاته ؛ أما أنت فصادق فيما تبلغ عني، بعثتك بالحق بشيرا ونذيرا ﴿ وداعيا إلى الله بإذنه.. ﴾١.
﴿ ويمح الله الباطل ﴾.
فلولا أن ما جاءكم به هو الحق من عندي لزال ولمحوته. ﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ﴾٢.
﴿ ويحق الحق بكلماته ﴾.
ويثبت الله الحق بأمره وإرادته وآياته :﴿ .. فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.. ﴾٣ ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾٤.
﴿ إنه عليم بذات الصدور( ٢٤ ) ﴾.
علمه سبحانه محيط بالسرائر، وما تنطوي عليه الصدور ؛ فمن جاء بالصدق وصدق به فأولئك هم المكرمون، ومن افترى على الله ورسوله الكذب فأولئك هم الظالمون الخاسرون :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين. يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ﴾٥.
١ سورة الأحزاب. من الآية ٤٦..
٢ سورة الأنبياء. الآية ١٨..
٣ سورة الرعد. من الآية ١٧..
٤ سورة الحجر. الآية ٩..
٥ سورة الصف. الآيتان: ٧، ٨..
﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ﴾.
من عمل سوءا ثم أقلع عنه وتركه واستقبحه، ورجع إلى طريق الله تعالى وطاعته، فإن المولى الكريم يتقبل توبته.
﴿ ويعفوا عن السيئات ﴾.
يصفح سبحانه ويتجاوز عن سيئات المسيئين صغيرها وكبيرها ولا يعاقب عليها، فإنه عفو، ولا حرج على فضله ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. ﴾١.
﴿ ويعلم ما تفعلون( ٢٥ ) ﴾.
هو-تبارك اسمه- يعلم كل مل نأتي ونذر، وكل ما نعمل ونقول، فيقضي بحكمته فيمن يمنّ عليهم ويهبهم ذنوبهم فلا يؤاخذهم بها، ﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾٢.
١ سورة النساء. من الآية ٤٨..
٢ سورة النساء. الآية ١٤٧..
﴿ ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ﴾.
ويستجيب الله للذين آمنوا وأصلحوا، فيقبل دعاءهم، ويحقق سؤلهم، ويضاعف أجرهم على ما عملوا من طاعة، تفضلا منه وكرما ؛ ﴿ ويستجيب ﴾ تتعدى بنفسها وباللام، مثل شكرته وشكرت له. أو : يقبل عبادة من أخلص له بقلبه وأطاعه ببدنه.
﴿ والكافرون لهم عذاب شديد( ٢٦ )* ﴾
والمكذبون المنكرون الظالمون ليس لهم إلا العذاب الذي لا أشد منه.
﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ﴾
البغي : تجاوز الحد : إما في القدر والكمية، وإما في الوصف والكيفية ؛ فلو أن الله الحكيم منح العباد جميعا رزقا واسعا لكثر التباغي، وشاع التفاخر والتكاثر ؛ وهو ابتلاء يُفْتَنُ به طائفة، ولقد بين القرآن حال بعضهم في آية كريمة :﴿ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة.. ﴾١. وفي آيتين مباركتين أخريين :﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ﴾٢ وفي الحديث :( أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها ) لكن المعصوم من عصمه الله.
﴿ ولكن ينزل بقدر ما يشاء ﴾.
ولكنه يقسم بتقدير تقتضيه حكمته جل شأنه، يجعل من يشاء غنيا ويجعل من يشاء فقيرا.
﴿ إنه بعباده خبير بصير( ٢٧ ) ﴾.
فإحاطته- تبارك اسمه- لا يعزب عنها شأن من شؤون العباد-جليها وخفيها-فيهب لكل من يناسب حاله حسبما تقتضيه الحكمة العلية، ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا.
١ سورة القصص. الآية ٧٦..
٢ سورة التوبة. الآيتان: ٧٥، ٧٦..
﴿ وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ﴾
الله القدير الرزاق ينزل المطر فيغيث به الممحلين، ويتدارك به اليائسين لطول احتباسه عنهم.
روي أن رجلا من عمال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال : يا أمير المؤمنين قحط المطر وقل الغيث، وقنط الناس ؛ فقال : مطرتم إن شاء الله، ثم قرأ :﴿ وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا.. ﴾. ورووا في سبب نزولها : أن أهل مكة حبس الله عنهم المطر سبع سنين حتى قنطوا، ثم أنزل الله المطر، ونزلت هذه الآية الكريمة.
﴿ وينشر رحمته ﴾.
منافع الغيث وآثاره في السهل والجبل والنبات والحيوان والإنسان.
﴿ وهو الولي ﴾
يتولى عباده بالرزق واللطف والخير والنصر.
﴿ الحميد( ٢٨ ) ﴾
أهل الحمد والثناء لا يستحق الحمد سواه.
﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة ﴾.
من برهان جلاله، وعلامات هيمنته وواسع أفضاله، ما أبدع من إيجاد السماوات والأرض وما فيهما بإتقان لا نقص فيه ؛ والدابة ما يدب على وجه الأرض، وتدخل الملائكة تبعا ؛ أو يراد : ما بث في الأرض دون السماء، كقوله تعالى :﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾١ وإنما يخرجان من الملح دون العذاب.
﴿ وهو على جمعهم إذا يشاء قدير( ٢٩ ) ﴾.
والله تعالى حين يجيء الأجل الذي قضاه وشاءه قدير على جمع الناس وسوقهم بعد نشورهم للوقوف بين يديه، وحسابهم ومجازاتهم على ما كان من أفعالهم.
١ سورة الرحمن. الآية ٢٢..
﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾.
كل ما ينزل بالناس من نقم فإنما هو بسبب معاصيهم ﴿ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.. ﴾١.
﴿ ويعفوا عن كثير( ٣٠ ) ﴾.
يتجاوز بفضله عن كثير من المعاصي فلا يجازى بها في الدنيا ولا في الآخرة.
١ سورة الروم. من الآية ٤١..
﴿ وما أنتم بمعجزين في الأرض ﴾
لن يفلت أحد فيفوت المولى القدير أو لا يدركه سلطانه وأخذه، ومهما تقلب في جنبات الأرض فلن يغلب الله تعالى بالهرب مهما أوتي من قوة واحتيال ؛ وبهذا أقرّ الجن على- بأسهم- :﴿ .. لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا ﴾١.
﴿ ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير( ٣١ ) ﴾.
وليس لكم غير الله يرحمكم ويرزقكم ويحفظكم، ولا من يحميكم من المصائب-إن أرادها- ولا يدفعها عنكم من اتخذتموهم آلهة من دونه ؛ وهكذا تتم كلمة الله وحجته صدقا وعدلا :﴿ .. قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته.. ﴾٢.
١ سورة الجن. من الآية ١٣..
٢ سورة الزمر. من الآية ٣٨..
﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام( ٣٢ )إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ﴾.
من دلائل قدرته وبرهان وحدانيته أنه – دون سواه- يجري السفن السابحة في البحر كأنها جبال أو قصور، فإذا أسكن الله الريح توقفن وبقين راكدات على ظهر الماء إذ كان تحركهن بالشراع والهواء.
﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور( ٣٣ ) ﴾.
إن في ذلك لبرهانا وعلامات لكل من حبس نفسه عن الزيغ، وتفكر في عظيم الصنع ؛ أو كل صابر على الضراء شاكرا في السراء.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٢:﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام( ٣٢ )إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ﴾.
من دلائل قدرته وبرهان وحدانيته أنه – دون سواه- يجري السفن السابحة في البحر كأنها جبال أو قصور، فإذا أسكن الله الريح توقفن وبقين راكدات على ظهر الماء إذ كان تحركهن بالشراع والهواء.
﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور( ٣٣ ) ﴾.
إن في ذلك لبرهانا وعلامات لكل من حبس نفسه عن الزيغ، وتفكر في عظيم الصنع ؛ أو كل صابر على الضراء شاكرا في السراء.

﴿ أو يوبقهن بما كسبوا ﴾.
أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة فتغرقهن وتقتل من فيهن بذنوبهم.
﴿ ويعف عن كثير( ٣٤ ) ﴾.
وينج ناسا كثيرين من الهلاك والغرق بعفوه عنهم وصفحه وحلمه.
﴿ ويعلم الذين يجادلون في آياتنا مالهم من محيص( ٣٥ ) ﴾.
﴿ ويعلم ﴾ معطوف على مقدر، أي لينتقم منهم بما كسبوا وليعلم الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به ما جاء من ربنا الحق- ليعلم هؤلاء أنه ليس من مهرب ولا منجي من البأس والهلاك إذا حلّ بهم البلاء.
﴿ فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ﴾
كل ما أعطيتكم إياه من أسباب المعايش والزينة والزخرف فهو متاع هذه الدنيا تتمتعون به مدة حياتكم فيها ثم يفارقكم وتفارقونه.
﴿ وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون( ٣٦ ) ﴾.
وما أعد الله من ثواب على الطاعات فهو خير في ذاته لخلوص نفعه لا يشوبه شر ولا ضير، وهو مع خيريته أبقى زمانا لعدم انقطاعه، ولدوامه للذين صدقوا بوعد الله ولقائه وجزائه، ويفوضون كل شأنهم لربهم الولي البر الرحيم، لا إلى غيره.
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾
لا يقربون الذنوب الكبيرة التي توجب الحد في الدنيا، وتوعد الله مرتكبيها بوعيده ؛ وكذا يبتعدون عن الخطايا التي يعظم قبحها.
﴿ وإذا ما غضبوا هم يغفرون( ٣٧ ) ﴾.
ويحلمون على من أساء إليهم، ويتجاوزون عن ظلمهم.
﴿ والذين استجابوا لربهم ﴾.
اللفظ يعم كل من أجاب داعي الله، ولكن كثيرا من المفسرين يرون أنها نزلت في الأنصار-المؤمنين من أهل المدينة- فمن قال إن الآية نزلت بالمدينة فهو ثناء عليهم من ربهم لأنهم أجابوا دعوة النقباء الذين لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم الحج قبل الهجرة وبايعوه على الإيمان والنصرة عند العقبة- التي بين مكة ومنى- ومن قال إن الآية مكية فالمراد بهم أهل بيعة العقبة.
﴿ وأقاموا الصلاة ﴾.
وأدّوا الفريضة التي هي من أهم أركان الإسلام، وأتموها وحافظوا عليها وعظموها.
﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾.
وشئونهم يتشاورون فيها فيما بينهم لتصلح أمورهم، وتصفوا نفوسهم، وتأتلف على الخير والحق قلوبهم ؛ والشورى تكون في ما لا نص فيه وإلا فالشورى لا معنى لها ؛ وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله عز وجل إلى آراء الرجال ؟ ! والله سبحانه هو الحكيم الخبير.
قال العلماء : وينبغي أن يكون المستشار عاقلا، كما ينبغي أن يكون عابدا، وإذا لم تكن على ذلك الوجه كان إفسادها للدين والدنيا أكثر من إصلاحها.
﴿ ومما رزقناهم ينفقون( ٣٨ ) ﴾.
ويتصدقون وينفقون في الخير مما أعطاهم الله الرزاق.
﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون( ٣٩ ) ﴾.
والذين إذا بغى عليهم باغ لم يستكينوا لتعديه وجوْره، فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون حدود الله.
ويعظمون شعائره، ويكبتون ويدفعون من ناصبهم العداء ؛ ولا تنافي بين ما وصفتهم به الآية السابقة، ﴿ وإذا ما غضبوا هم يغفرون ﴾ وبين ما أثنى الله عليهم به في هذه الآية الكريمة ؛ فإن الانتصار يكون أفضل إذا كان الباغي معلنا بالفجور، مصرا على الفسوق، فما لم ينتقموا من أمثال هؤلاء يجترئ عليهم الفساق ؛ والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كانت الفلتة، أو يقع البغي منه فيعترف بالزلة، ويسأل الصفح، فالعفو هاهنا أفضل ؛ وفي مثله نزل قول الحق- تبارك اسمه- :﴿ .. وأن تعفوا أقرب للتقوى.. ﴾١ وقوله﴿ .. فمن تصدق به فهو كفارة له.. ﴾٢ وقوله :﴿ .. وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم.. ﴾٣.
١ سورة البقرة. من الآية ٢٣٧..
٢ سورة المائدة. من الآية ٤٥..
٣ سورة النور. من الآية ٢٢..
﴿ وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها ﴾.
فعليكم إذا انتصرتم لأنفسكم ممن أساء إليكم أن لا تتجاوزوا الحد ﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.. ﴾١ وإنما سمى أخذ الحق من المسيء إساءة إما للمشاكلة، أو لأنه في مقابلتها ؛ فالأول ساء هذا في ماله أو بدنه، وهذا الاقتصاص يسوؤه بمثل ذلك.
﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين( ٤٠ ) ﴾.
ربما تكون الآية الكريمة قد جمعت بين ما هو حسن وما هو أحسن، فالحسن أن يؤخذ المسيء بإساءته ؛ والأحسن أن يعفو عنه-ما دام من أهل العفو، كما قدمت في معنى الآية السابقة- فتكون الإساءة منه فلتة، ويعترف بالزلة أو يسأل الصفح، وليس معلنا بالفجور مصرّا على الفسوق ؛ يقول بعض المفسرين : من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظلم بالعفو فإن الله يأجره على ذلك، والله لا يحب البادئ في الظلم، ولا المتجاوز الحد في الاقتصاص.
١ سورة النحل. من الآية ١٢٦..
﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل( ٤١ ) ﴾.
اللام موطئة للقسم و﴿ من ﴾ شرطية، و﴿ ظلمه ﴾ بمعنى : بعد ما ظلم، فالذين يقتصون ممن اعتدى عليهم لا يُلامون، بل يُحمدون على ذلك مع الكافر ؛ فالانتصار من الكافر حتم، ومن المسلم مباح، والعفو مندوب.
﴿ إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ﴾.
يعدون على الناس ويفعلون بهم ما لا يستحقونه.
﴿ ويبغون في الأرض بغير الحق ﴾.
ويدأبون على البغي، ويتمادون في الاستعلاء والتجبر.
﴿ أولئك لهم عذاب أليم( ٤٢ ) ﴾.
فالظالمون العادون معذبون عذابا موجعا في عاجلهم وآجلهم، كفارا كانوا أو منتسبين إلى الإسلام.
﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور( ٤٣ ) ﴾.
ومن صبر على الأذى، وعفا عن المسيء وصفح، فإن عمله هذا برهان علوّ همته، وصدق عزيمته.
يقول بعض المفسرين : الرجل إذا غُلب على أداء حقك فمن الرفق به أن تحلله، وإن كان ظالما فمن الحق ألا تتركه، لئلا تغتر الظلمة ويسترسلوا في أفعالهم القبيحة.
وفي صحيح مسلم حديث أبي اليسر.. وفيه أنه قال لغريمه : اخرج إليّ، فقد علمت أين أنت، فخرج ؛ فقال : ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال : أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت والله معسرا. قال قلت : آلله ؟ قال : الله، فآتى بصحيفة فمحاها فقال : إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حل.
﴿ ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل( ٤٤ ) ﴾.
من زاغ قلبه عن التصديق بمولاه ورسالاته ولقائه فإن الله يمد لهم في الضلالة، ولن يهتدوا إذا أبدا، ولا يجدون من دون الله من يتولى أمرهم ؛ وحين يرى الكفار والفجار مراحل الآخرة وأهوالها ومصيرهم فيها يتمنون أن يُردّوا إلى الدنيا ليسلكوا سبيل الإيمان ﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون. لعلي أعمل صالحا فيما تركت.. ﴾١.
﴿ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي ﴾
أعد الله لهم عذابا معنويا فوق إيلامهم الجسمي، فحين تُعرض عليهم سقر تكون رؤوسهم منكسة، وأعينهم تتراءى وكأنها مغلقة ؛ وهكذا مع لفح جهنم وشررها وسعيرها يُحقرون ويصغّرون ﴿ .. إن الخزي والسوء اليوم على الكافرين ﴾٢.
١ سورة المؤمنون. الآية ٩٩؛ ومن الآية ١٠٠..
٢ سورة النحل. من الآية ٣٧..
﴿ وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ﴾.
والمؤمنون ينعمون نعيما روحيا مع ما أفاض عليهم المولى من النعيم المادي، فتعظم آلاء الله عليهم ونعمه كلما رأوا أن الله منّ عليهم ووقاهم العذاب والبوار، وفازوا وربحوا بما أورثهم الله من دار القرار :﴿ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ﴾٣ وينادون من لدن الملك الكريم ﴿ ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تُحبرون ﴾٤ ؛ وكلما رأوا قرينا باغيا فاجرا كافرا يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ؛ ثم يقيد هذا الباغي وأهله ويقرن بهم في المساق إلى النار :﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون. من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ﴾٥ عندها يزداد سرور المؤمن بنجاته، وهلاك أعداء الله، فيثنون على ربنا البر الرحيم بما هو أهله :﴿ ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ﴾٦.
﴿ ألا إن الظالمين في عذاب مقيم( ٤٥ ) ﴾.
فكيف إذا تذكروا أن الخزي والسوء لا يفارق هؤلاء الأشقياء ولا يفارقونه ؟ !
يقول بعض المفسرين : يجوز أن يكون هذا ابتداء من الله تعالى، أو من تتمة قول المؤمنين.
﴿ وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ﴾
ليس لهم من شافع ولا نافع، ولا أعوان ولا نصراء يرفعون البأس الذي غشيهم أو يدفعونه ؛ وهل يُغالب الله مُغالب ؟ ! حاشا، فإن مولانا غالب على أمره ؛
﴿ ومن يضلل الله فما له من سبيل( ٤٦ ) ﴾.
من شرح بالكفر صدرا فإن الله يضله فلا يجد طريقا إلى الرشاد في الدنيا، ولا إلى الخلاص والنجاة في الآخرة.
﴿ استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ﴾
أجيبوا دعوة ربكم التي ناداكم إليها رسولكم، من قبل أن يفاجئكم يوم العذاب أو يوم الحساب ولن يرده أحد بعد ما حكم الله به، وقضى له وقتا وأجلا، أو : لا يرده الله تعالى بعد ما حكم به.
﴿ ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير( ٤٧ ) ﴾.
لن تجدوا يوم يجيء الأجل ما تلوذون به أو إليه تفزعون، ولن يكون هناك من ينكر ما ينزل بكم من العذاب ؛ ف﴿ نكير ﴾ بمعنى : منكر، كالأليم بمعنى المؤلم.
﴿ فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ ﴾.
الخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم المنزّل عليه القرآن ؛ بعد أن كان موجها إلى الكفار لتحذيرهم من الجحود والاستكبار، وما أعد للمكذبين من الصغار وعذاب النار ؛ وفيه تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام حتى لا يشتد أسفه على إعراضهم عن دعوته دعوة الحق، فإن الله تعالى يذكره بأنه ليس له إكراههم على الإيمان، ولا هو موكل برقابتهم وحسابهم ؛ فما عليك إلا التذكير والبلاغ ؛
﴿ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها ﴾.
جنس الإنسان إذا رحمه ربه وأنعم عليه بما يشاء من عطائه تمادى في نشوته بما أُعْطِيَ، فافتخر، واختال، وبطر، إلا من شكر ؛
﴿ وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور( ٤٨ ) ﴾.
وإن أصابهم ما يكرهون بسبب ما يؤذون ويفسدون اشتد جحودهم بما تفضل الله عليهم به :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور. ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور. إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ﴾١.
١ سورة هود الآيات: ١٠، ١١، ١٢..
﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء ﴾.
لربنا وحده- دون سواه- ملك السماوات والأرض لا يقاسمه أحد ملكهما، ولا يشاركه أحد خلقهما وما فيهما ؛ فهو البارئ المصور.
﴿ يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور( ٤٩ ) ﴾.
خلق آدم من طين، وخلق له حواء من ضلعه ﴿ .. وبث منهما رجالا كثيرا ونساء.. ﴾١ وجعل نسل الآدميين من سلالة من ماء مهين، ومع أن سبب تكوين الجنين أخلاط من أبويه، فإن الله العلي الحكيم يُصوره في الرحم كيف يشاء، فإن أراده أنثى كان كما أراد سبحانه، أو أراد أن يكون ذكرا كانت مشيئة الله.
١ سورة النساء من الآية ١..
﴿ أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير( ٥٠ ) ﴾.
أو يمنح الله تعالى من يولد له ذرية مصنفة إلى ذكران وإناث، يجمع الله – حسب مشيئته- لبعض الناس أولادا من البنين والبنات. ويدع ربنا- من يشاء له ذلك- عقيما لا ينجب ؛ والأنبياء عليهم صلوات الله - وهم صفوة الله تعالى من خلقه وأكرمهم عليه- كانت أحوالهم هكذا.
يقول بعض المفسرين : وهب سبحانه لشعيب ولوط-عليهما السلام- إناثا ؛ ولإبراهيم عليه السلام ذكورا ؛ وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم ذكورا وإناثا، وجعل يحيى وعيسى عليهما السلام عقيمين. اه.
ذلك يمضي بعلم الله وحكمته وعظيم قدرته.
﴿ *وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ﴾.
وما صح لأي فرد من الآدميين أن يتلقى كلام الملك الكبير- تبارك اسمه- إلا على هذا النهج الذي بينته الآية : فإما أن يكون إلقاء في القلب - وهو غير الإلهام، الذي منه ما ألهم الله أم موسى حين وضعته وأرضعته أن تلقيه في صندوق وتلقي الصندوق في النهر- وإما أن يكون كلاما من وراء حجاب كما كلم الله موسى-عليه السلام- ﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني.. ﴾١، أو يرسل المولى الكريم ملكا فيبلغ وحي الله إلى من شاء - سبحانه- من عباده.
﴿ إنه علي حكيم( ٥١ ) ﴾.
ربنا العظيم متعال عن الاتصاف بصفات المخلوقين، حكيم يفعل ما يريد على ما تقتضيه الحكمة.
١ سورة الأعراف. من الآية ١٤٣..
﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ﴾.
ومثلما أنزلنا من كلامنا على أنبيائنا الذين بعثوا من قبلك أنزلنا عليك وحيا من أمرنا فيه حياة القلوب والعقول فهو روحها.
﴿ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ﴾.
نعمة الله الكبرى أن هدانا للقرآن والإيمان، ومن عجيب صنع المولى القدير أن ينزل الذكر الحكيم على نبيّ أميّ، فتلك معجزة دامغة، وحجة بالغة :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾١ ولئن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد حفظه الله من الشرك قبل مبعثه، فهو بهذا مؤمن ؛ لكن-كما قال المفسرون- لم يكن يعلم أنه سيكون رسولا، وبهذا يكون غير عالم- قبل البعثة- بكل مطالب الإيمان، فصدق فيه ما أشار إليه القول الرباني الحكيم ﴿ .. ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان.. ﴾ ما كنت قبل نزول القرآن تعرف منهاجه ولا تعرف ما به تمام الإيمان، وما دريت ذلك إلا بالوحي.
﴿ ولكن جعلناه نورا ﴾.
وإنما أنزلنا إليك الكتاب المجيد ضياء للبصائر والقلوب :﴿ .. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ﴾٢ ﴿ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾٣، والضمير في ﴿ جعلناه ﴾ عائد على ﴿ روحا ﴾.
﴿ نهدي به من نشاء من عبادنا ﴾.
نشرح به صدر من نحب من عبادنا ممن أحبوا الهداية :﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ﴾٤ ؛
﴿ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم( ٥٢ ) ﴾.
وإنك يا محمد بتبليغ القرآن وتلاوته وتعليمه وتبيينه والتزكية به تدعو وتهدي إلى طريق تامة الاعتدال والاستقامة، محققة الخير والسعادة والكرامة، لكل من سار على نهجها دون عوج :﴿ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه.. ﴾٥ تدعو إلى دين قويم لا اعوجاج فيه.
١ سورة العنكبوت. الآية ٤٨...
٢ سورة المائدة. الآية ١٥..
٣ سورة النساء. الآية ١٧٤..
٤ سورة مريم. من الآية ٧٦..
٥ سورة المائدة. من الآية ١٦..
﴿ صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ﴾.
إن الذي رضي لكم الإسلام دينا هو الله الملك الخلاق العليم، وإن الذي شرعه منهاجا مستقيما جعله- دون سواه- سبيل الوصول إلى جنته والفوز برضاه :﴿ .. إن ربي على صراط مستقيم ﴾.
﴿ ألا إلى الله تصير الأمور( ٥٣ ) ﴾.
كل من في السماوات والأرض مرده ومآله بيد الله جل علاه ﴿ .. وإليه يرجع الأمر كله.. ﴾١ ﴿ .. فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾٢. وبشرى المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم.
١ سورة هود. من الآية ١٢٣..
٢ سورة النور. من الآية ٦٣..
Icon