تفسير سورة محمد

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة محمد من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة في كتب السنة سورة محمد. وكذلك ترجمت في صحيح البخاري من رواية أبي ذر عن البخاري، وكذلك في التفاسير قالوا : وتسمى ( سورة القتال ).
ووقع في أكثر روايات صحيح البخاري سورة الذين كفروا.
والأشهر الأول، ووجهه أنها ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم في الآية الثانية منها فعرفت به قبل سورة آل عمران التي فيها ﴿ وما محمد إلا رسول ﴾.
وأما تسميتها سورة القتال فلأنها ذكرت فيها مشروعية القتال، ولأنها ذكر فيها لفظه في قوله تعالى ﴿ وذكر فيها القتال ﴾، مع ما سيأتي أن قوله تعالى ﴿ ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة ﴾ إلى قوله ﴿ وذكر فيها القتال ﴾ أن المعني بها هذه السورة فتكون تسميتها سورة القتال تسمية قرآنية.
وهي مدنية بالاتفاق حكاه ابن عطية وصاحب الإتقان. وعن النسفي : أنها مكية. وحكى القرطبي عن الثعلبي وعن الضحاك وابن جبير : أنها مكية. ولعله وهم ناشئ عما روي عن ابن عباس أن قوله تعالى ﴿ وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك ﴾ الآية نزلت في طريق مكة قبل الوصول إلى حراء، أي في الهجرة.
قيل نزلت هذه السورة بعد يوم بدر وقيل نزلت في غزوة أحد.
وعدت السادسة والتسعين في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد.
وآيها عدت في أكثر الأمصار تسعا وثلاثين، وعدها أهل البصرة أربعين، وأهل الكوفة تسعا وثلاثين.
أغراضها
معظم ما في هذه السورة التحريض على قتال المشركين، وترغيب المسلمين في ثواب الجهاد.
افتتحت بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لأنهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله، أي دينه.
وأعلم الله المؤمنين بأنه لا يسدد المشركين في أعمالهم وأنه مصلح المؤمنين فكان ذلك كفالة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم.
وانتقل من ذلك الى الأمر بقتالهم وعدم الإبقاء عليهم.
وفيها وعد المجاهدين بالجنة، وأمر المسلمين بمجاهدة الكفار وأن لا يدعوهم إلى السلم، وإنذار المشركين بأن يصيبهم ما أصاب الأمم المكذبين من قبلهم.
ووصف الجنة ونعيمها، ووصف جهنم وعذابها.
ووصف المنافقين وحال اندهاشهم إذا نزلت سورة فيها الحض على القتال، وقلة تدبرهم القرآن وموالاتهم المشركين.
وتهديد المنافقين بأن الله ينبي رسوله صلى الله عليه وسلم بسيماهم وتحذير المسلمين من أن يروج عليهم نفاق المنافقين.
وختمت بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان وحذرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة.

أَغْرَاضُهَا
مُعْظَمُ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ التَّحْرِيضُ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَرْغِيبُ الْمُسْلِمِينَ فِي ثَوَابِ الْجِهَادِ. افْتُتِحَتْ بِمَا يُثِيرُ حَنَقَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ دِينِهِ.
وَأَعْلَمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَا يُسَدِّدُ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّهُ مُصْلِحُ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ ذَلِكَ كَفَالَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ. وَانْتُقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ وَعَدَمِ الْإِبْقَاءِ عَلَيْهِمْ. وَفِيهَا وَعْدُ الْمُجَاهِدِينَ بِالْجَنَّةِ، وَأَمْرُ الْمُسْلِمِينَ بِمُجَاهِدَةِ الْكُفَّارِ وَأَنْ لَا يَدْعُوهُمْ إِلَى السَّلْمِ، وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَوَصْفُ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَوَصْفُ جَهَنَّمَ وَعَذَابِهَا. وَوَصْفُ الْمُنَافِقِينَ وَحَالِ انْدِهَاشِهِمْ إِذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ فِيهَا الْحَضُّ عَلَى الْقِتَالِ، وَقِلَّةِ تَدَبُّرِهِمُ الْقُرْآنَ وَمُوَالَاتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ. وَتَهْدِيدُ الْمُنَافِقِينَ بِأَن الله ينبىء رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِيمَاهُمْ وَتَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَرُوجَ عَلَيْهِمْ نِفَاقُ الْمُنَافِقِينَ. وَخُتِمَتْ بِالْإِشَارَةِ إِلَى وَعْدِ الْمُسْلِمِينَ بِنَوَالِ السُّلْطَانِ وَحَذَّرَهُمْ إِنْ صَارَ إِلَيْهِمُ الْأَمْرُ مِنَ الْفساد والقطيعة.
[١]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١)
صَدَّرَ التَّحْرِيضَ عَلَى الْقِتَالِ بِتَوْطِئَةٍ لِبَيَانِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ لِكُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَتَحْقِيرِ أَمْرِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُثِيرًا فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ حَنَقًا عَلَيْهِمْ وَكَرَاهِيَةً فَتَثُورُ فِيهِمْ هِمَّةُ الْإِقْدَامِ عَلَى قِتَالِ الْكَافِرِينَ، وَعَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ، حِينَ يَعْلَمُونَ اللَّهَ يَخْذُلُ الْمُشْرِكِينَ وَيَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [مُحَمَّد: ٤].
72
وَفِي الِابْتِدَاءِ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ كُفْرَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُنَاوَأَتَهُمْ لِدِينِ اللَّهِ تَشْوِيقٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْحُكْمِ الْمُنَاسِبِ لِلصِّلَةِ، وَإِيمَاءٌ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْخَبَرِ أَيْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ، وَبَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ.
وَالْكُفْرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ حَيْثُمَا أُطْلِقَ الْكُفْرَ مُجَرَّدًا عَنْ قَرِينَةِ إِرَادَةِ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ لِلْمُشْرِكِينَ. وَهِيَ:
الْكُفْرُ، وَالصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَضَلَالُ الْأَعْمَالِ النَّاشِئُ عَنْ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ.
والصدّ عَن سَبِيل: هُوَ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ مُتَابَعَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَصَرْفُهُمْ أَنْفُسَهُمْ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَأُضِيفَ (السَّبِيلُ) إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الدِّينُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمرَان: ١٩]. وَاسْتُعِيرَ اسْمُ السَّبِيلِ لِلدِّينِ لِأَنَّ الدِّينَ يُوصل إِلَى رضى اللَّهِ كَمَا يُوَصِّلُ السَّبِيلُ السَّائِرَ فِيهِ إِلَى بُغْيَتِهِ.
وَمِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صَدُّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ تَعَالَى:
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْحَج: ٢٥]. وَمِنَ الصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
إخراجهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ، وَصَدُّهُمْ عَنِ الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَمِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: إِطْعَامُهُمُ النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ لِيَثْبُتُوا مَعَهُمْ وَيَكْثُرُوا حَوْلَهُمْ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قُرَيْشٍ. وَهُمْ:
أَبُو جَهْلٍ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَنُبَيْهُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَمُنَبِّهُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَهَذَا الْأَخِيرُ أَسْلَمَ مِنْ بَعْدُ وَصَارَ مِنْ خِيرَةِ الصَّحَابَةِ. وَعُدَّ مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو وَمِقْيَسٌ الْجُمَحِيُّ وَالْعَبَّاسُ بْنُ
73
عَبْدِ الْمَطْلَبِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَهَذَانِ أَسْلَمَا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمَا وَفِي الثَّلَاثَةِ الْآخَرِينَ خِلَافٌ. وَمِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦].
وَالْإِضْلَالُ: الْإِبْطَالُ وَالْإِضَاعَةُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الضَّلَالِ. وَأَصْلُهُ الْخَطَأُ لِلطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَكَانٍ يُرَادُ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْمَعَانِيَ الْأُخَرَ. وَهَذَا اللَّفْظُ رَشِيقُ الْموقع هُنَا لِأَنَّهُ اللَّهَ أَبْطَلَ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي تَبْدُو حَسَنَةً، فَلَمْ يُثِبْهُمْ عَلَيْهَا مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ، وَإِطْعَامِ جَائِعٍ، وَنَحْوِهِمَا، وَلِأَنَّ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِهِمْ أَنْ كَانَ غَالِبُ أَعْمَالِهِمْ عَبَثًا وَسَيِّئًا وَلِأَنَّ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِهِمْ أَنَّ اللَّهَ خَيَّبَ سَعْيَهُمْ فَلَمْ يَحْصُلُوا مِنْهُ عَلَى طَائِلٍ فَانْهَزَمُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَذَهَبَ إِطْعَامُهُمُ الْجَيْشَ بَاطِلًا، وَأُفْسِدَ تَدْبِيرُهُمْ وكيدهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَشْفُوا غَلِيلَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَوَالَتِ انْهِزَامَاتُهُمْ فِي الْمَوَاقِعِ كُلِّهَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الْأَنْفَال: ٣٦].
[٢]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢)
هَذَا مُقَابِلُ فَرِيقِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهُوَ فَرِيقُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَإِيرَادُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهُ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَعِلَّتِهِ، أَيْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ إِلَخْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ.
وَقَدْ جَاءَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أُثْبِتَتْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ ضِدَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَهِيَ: الْإِيمَانُ مُقَابِلُ الْكُفْرِ، وَالْإِيمَانُ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَابِلُ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ مُقَابِلُ بَعْضِ مَا تَضَمَّنُهُ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١]، وكَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ مُقَابِلُ بَعْضٍ آخَرَ مِمَّا تَضَمَّنُهُ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ، وَأَصْلَحَ بالَهُمْ مُقَابِلُ بَقِيَّةِ مَا تَضَمَّنُهُ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ. وَزِيدَ فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
74
وَهُوَ نَظِيرٌ لِوَصْفِهِ بِسَبِيلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [مُحَمَّد: ١].
وَعُبِّرَ عَنِ الْجَلَالَةِ هَنَا بِوَصْفِ الرَّبِّ زِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ:
وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١] فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ رَبِّهِمْ.
وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ غُفْرَانُهَا لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا قَبْلَ الْإِيمَانِ، وَكَفَّرَ لَهُمُ الصَّغَائِرَ، وَكَفَّرَ عَنْهُمْ بَعْضَ الْكَبَائِرِ بِمِقْدَارٍ يَعْلَمُهُ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً فِي جَانِبِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ١٠٢].
وَالْبَالُ: يُطْلَقُ عَلَى الْقَلْبِ، أَيِ الْعَقْلُ وَمَا يَخْطُرُ لِلْمَرْءِ مِنَ التَّفْكِيرِ وَهُوَ أَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ وَلَعَلَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَعَادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ وَنَعْجَةٍ وَكَانَ عِدَاءُ الْوَحْشِ مِنِّي عَلَى بَالٍ
وَقَالَ:
عَلَيْهِ الْقَتَامُ سَيْءُ الظَّنِّ وَالْبَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَا بَالُكَ؟ أَيْ مَاذَا ظَنَنْتَ حِينَ فَعَلْتَ كَذَا، وَقَوْلُهُمْ: لَا يُبَالِي، كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، أَيْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْعُقَيْلِيِّ فِي الْحَمَاسَةِ:
وَنَبْكِي حِينَ نَقْتُلُكُمْ عَلَيْكُمْ وَنَقْتُلُكُمْ كَأَنَّا لَا نُبَالِي
أَيْ لَا نُفَكِّرُ.
وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَيْ مَعْنَى لَا أُبَالِي: لَا أَكْرَهُ اهـ. وَأَحْسَبُهُمْ أَرَادُوا تَفْسِيرَ حَاصِلِ الْمَعْنَى وَلَمْ يَضْبِطُوا تَفْسِيرَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ.
وَيُطْلَقُ الْبَالُ عَلَى الْحَالِ وَالْقَدَرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»
. قَالَ الْوَزِيرُ الْبَطْلَيُوسِيُّ فِي شَرْحِ دِيوَانِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُنْتُ أَقُولُ لِلْمِعَرِّي: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَيَقُولُ: بِخَيْرٍ أَصْلَحَ اللَّهُ بَالَكَ. وَلَمْ يُوفِّهِ صَاحِبُ الْأَسَاسِ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ وَأَدْمَجَهُ فِي مَادَّةِ (بَلَوَ). وَإِصْلَاحُ الْبَالِ يَجْمَعُ إِصْلَاحَ الْأُمُورِ كُلِّهَا لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ تَأْتِي عَلَى
75
حَسَبِ رَأْيِهِ، فَالتَّوْحِيدُ أَصْلُ صَلَاحِ بَالِ الْمُؤْمِنِ، وَمِنْهُ تَنْبَعِثُ الْقُوَى الْمُقَاوِمَةُ لِلْأَخْطَاءِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي تَلَبَّسَ بِهَا أَهْلُ الشِّرْكِ، وَحَكَاهَا عَنْهُمُ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَالْمَعْنَى: أَقَامَ أَنْظَارَهُمْ وَعُقُولَهُمْ فَلَا يُفَكِّرُونَ إِلَّا صَالِحًا وَلَا يَتَدَبَّرُونَ إِلَّا نَاجِحًا.
[٣]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣]
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣)
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ هَذَا تَبْيِينٌ لِلسَّبَبِ الْأَصِيلِ فِي إِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ وَإِصْلَاحِ بَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْمَلُ تَمْيِيزٍ تَنْوِيهًا بِهِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْإِشَارَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَتَابِعَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَهَمَّا أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١] وكَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ [مُحَمَّد: ٢]، مَعَ اعْتِبَارِ عِلَّتَيِ الْخَبَرَيْنِ الْمُسْتَفَادَتَيْنِ مِنِ اسْمِي الْمَوْصُولِ وَالصِّلَتَيْنِ وَمَا عُطِفَ عَلَى كِلْتَيْهِمَا.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ إِلَخْ خَبَرُهُ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَمَجْرُورُهَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ ذَلِكَ كَائِنٌ بِسَبَبِ اتِّبَاعِ الْكَافِرِينَ الْبَاطِلَ وَاتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَقَّ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَامِعًا لِلْخَبَرَيْنِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ الْخَبَرُ عَنْهُ مُتَعَلِّقًا بِالْخَبَرَيْنِ وَسَبَبًا لَهُمَا. وَفِي هَذَا مُحَسِّنُ الْجَمْعِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ وَيُسَمُّونَهُ كَعَكْسِهِ التَّفْسِيرَ لِأَنَّ فِي الْجَمْعِ تَفْسِيرًا لِلْمَعْنَى الَّذِي تَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ الْمُتَفَرِّقَةُ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ. وَشَاهِدُهُ قَوْلُ حَسَّانَ مِنْ أُسْلُوبِ هَذِهِ الْآيَةِ:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمْ أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ فِيهِمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ إِنِ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا البِدَعُ
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَهَذَا الْكَلَامُ يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ التَّفْسِيرَ، يُرِيدُ أَنَّهُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ. وَنُقِلَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ لَمَّا فَسَّرَ لِطَلَبَتِهِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقُيِّدَ عَنْهُ فِي الْحَوَاشِي قَوْلَهُ:
76
بِهِ فُجِعَ الْفُرْسَانُ فَوْقَ خُيُولِهِمْ كَمَا فُجِعَتْ تَحْتَ السُّتُورِ الْعَوَاتِقُ
تَسَاقَطَ مِنْ أَيْدِيهِمُ الْبِيضُ حَيْرَةً وَزُعْزِعَ عَنْ أَجِيَادِهِنَّ الْمَخَانِقُ
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ مَرَّتَيْنِ بَيْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا والَّذِينَ آمَنُوا وَبَيْنَ الْحَقُّ والْباطِلَ. وَفِي بَيْتَيِ الزَّمَخْشَرِيِّ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَ فَوْقَ وَتَحْت.
وَاتِّبَاعُ الْبَاطِلِ وَاتِّبَاع الْحق تمثيليتان لِهَيْئَتَيِ الْعَمَلِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ أَيِمَّةُ الشِّرْكِ أَوْلِيَاءَهُمْ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، أَيْ عَمِلُوا بِالْبَاطِلِ وَعَمِلَ الْآخَرُونَ بِالْحَقِّ.
وَوَصْفُ الْحَقَّ بِأَنَّهُ مِنْ رَبِّهِمْ تَنْوِيهٌ بِهِ وَتَشْرِيفٌ لَهُمْ.
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ.
تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّبْيِينِ لِلْحَالَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ الْأَحْوَالَ لِلنَّاسِ بَيَانًا وَاضِحًا.
وَالْمَعْنَى: قَدْ بَيَّنَّا لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَالَهُ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، وَمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْمُعَامَلَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ خَفَاءٌ فِي كُنْهِ الْحَالَيْنِ، وَمِثْلَ ذَلِكَ الْبَيَانِ يُمَثِّلُ الله للنَّاس أَحْوَالهم كَيْلَا تَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ الْأَسْبَابُ وَالْمُسَبِّبَاتُ.
وَمَعْنَى يَضْرِبُ: يُلْقِي وَهَذَا إِلْقَاءُ تَبْيِينٍ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالْأَمْثَالُ: جَمْعُ مَثَلٍ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْحَالُ الَّتِي تُمَثِّلُ صَاحِبَهَا، أَيْ تَشْهَرُهُ لِلنَّاسِ وَتُعَرِّفُهُمْ بِهِ فَلَا يُلْتَبَسُ بِنَظَائِرِهِ. وَاللَّامُ لِلْأَجَلِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ جَمِيعُ النَّاسِ. وَضَمِيرُ أَمْثالَهُمْ لِلنَّاسِ.
وَالْمَعْنَى: كَهَذَا التَّبْيِينِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَحْوَالَهُمْ فَلَا يَبْقَوْا فِي غَفلَة عَن شؤون أَنْفُسِهِمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ تَحَقُّقِ كُنْهِهِمْ بِحِجَابِ التَّعَوُّدِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْخَبِيثُ بِالطَّيِّبِ، وَلِكَيْ يَكُونُوا عَلَى بَصِيرَة فِي شؤونهم، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى وُجُوبِ التَّوَسُّمِ لِتَمْيِيزِ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا، فَإِنَّ مِنْ مَقَاصِدَ السُّورَةِ التَّحْذِيرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
77

[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : الْآيَات ٤ الى ٦]

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦)
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها.
لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ لِأَنَّ فِيهَا قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ. وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْعِقَابُ عَلَى مَا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ فِدَاءِ الْأَسْرَى الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الْأَنْفَال:
٦٧] الْآيَةَ إِذْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ ذَلِكَ مُقَرَّرًا يَوْمَئِذٍ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ إِثَارَةِ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ بِتَشْنِيعِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَظُهُورِ خَيْبَةِ أَعْمَالِهِمْ وَتَنْوِيهِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْفِيقِ آرَائِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ: تَهْوِينُ شَأْنِهِمْ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَإِغْرَاؤُهُمْ بِقَطْعِ دَابِرِهِمْ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ مَنَافِعِ فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ بِالْمَالِ لِيَعْبُدَ الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ آمِنِينَ. وَذَلِكَ نَاظِرٌ إِلَى آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَإِلَى مَا يُفِيدُهُ التَّعْلِيلُ مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها.
و (إِذْ) ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَمَّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَلِكَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهَا وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَضَرْبَ الرِّقابِ.
وَاللِّقَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا: الْمُقَابَلَةُ، وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَهِيرٌ لِلِّقَاءِ، يُقَالُ: يَوْمَ اللِّقَاءِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا لِقَاءُ الْحَرْبِ، وَيُقَالُ: إِنْ لَقِيتَ فَلَانًا لَقِيتَ مِنْهُ أَسَدًا، وَقَالَ النَّابِغَةُ:
تَجَنَّبْ بَنِي حُنّ فَإِنَّ لِقَاءَهُمْ كَرِيهٌ وَإِنْ لَمْ تَلْقَ إِلَّا بَصَائِرُ
فَلَيْسَ الْمَعْنَى: إِذَا لَقِيتُمُ الْكَافِرِينَ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَبِذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ لِذِكْرِ مُخَصَّصٍ لِفِعْلِ لَقِيتُمُ. وَالْمَعْنَى: فَإِذَا قَاتَلْتُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَأَمْعِنُوا فِي قَتْلِهِمْ حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ أَنْ قَدْ خَضَدْتُمْ شَوْكَتَهُمْ، فَأْسِرُوا مِنْهُمْ أَسْرَى.
وَضَرْبَ الرِّقَابِ: كِنَايَةٌ مَشْهُورَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْقَتْلِ سَوَاءٌ كَانَ بِالضَّرْبِ أَمِِِِْ
78
بِالطَّعْنِ فِي
الْقُلُوبِ بِالرِّمَاحِ أَوْ بِالرَّمْيِ بِالسِّهَامِ، وَأُوثِرَتْ عَلَى كَلِمَةِ الْقَتْلِ لِأَنَّ فِي اسْتِعْمَالِ الْكِنَايَةِ بَلَاغَةٌ وَلِأَنَّ فِي خُصُوصِ هَذَا اللَّفْظِ غِلْظَةً وَشِدَّةً تُنَاسِبَانِ مَقَامَ التَّحْرِيضِ.
وَالضَّرْبُ هُنَا بِمَعْنَى: الْقَطْعُ بِالسَّيْفِ، وَهُوَ أَحَدُ أَحْوَالِ الْقِتَالِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى شَجَاعَةِ الْمُحَارب لكَونه مواجه عَدُوَّهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ. وَالْمَعْنَى: فَاقْتُلُوهُمْ سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ بِضَرْبِ السَّيْفِ، أَوْ طَعْنِ الرِّمَاحِ، أَوْ رَشْقِ النِّبَالِ، لِأَنَّ الْغَايَةَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْإِثْخَانُ.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا: هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ مِنْ تَصَارِيفِ مَادَّةِ الْكُفْرِ، نَحْوِ:
الْكَافِرِينَ، وَالْكُفَّارِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا، هُوَ الشِّرْكُ. وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ. وَمَعْنَى الْغَايَةُ مَعَهَا يُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى التَّفْرِيعِ.
وَالْإِثْخَانُ: الْغَلَبَةُ لِأَنَّهَا تَتْرُكُ الْمَغْلُوبَ كَالشَّيْءِ الْمُثْخَنِ وَهُوَ الثَّقِيلُ الصُّلْبُ الَّذِي لَا يَخِفُّ لِلْحَرَكَةِ وَيُوصَفُ بِهِ الْمَائِعُ الَّذِي جَمُدَ أَوْ قَارَبَ الْجُمُودَ بِحَيْثُ لَا يَسِيلُ بِسُهُولَةٍ، وَوُصِفَ بِهِ الثَّوْبُ وَالْحَبْلُ إِذَا كَثُرَتْ طَاقَاتُهُمَا بِحَيْثُ يَعْسُرُ تَفَكُّكُهَا.
وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى التَّوْهِينِ بِالْقَتْلِ، وَكِلَا الْمَعْنِيِّينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِذَا فُسِّرَ بِالْغَلَبَةِ كَانَ الْمَعْنَى حَتَّى إِذَا غَلَبْتُمْ مِنْهُمْ مَنْ وَقَعُوا فِي قَبْضَتِكُمْ أَسْرَى فَشَدُّوا وَثَاقَهُمْ وَعَلَيْهِ فَجَوَازُ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ. وَإِذَا فُسِّرَ الْإِثْخَانُ بِكَثْرَةِ الْقَتْلِ فِيهِمْ كَانَ الْمَعْنَى حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْجَيْشِ إِلَّا الْقَلِيلُ فَأْسِرُوا حِينَئِذٍ، أَيْ أَبْقُوا الْأَسْرَى، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ تَأْوِيلٍ فِي نَظْمِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قَوْلِهِ:
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ.
وانتصب فَضَرْبَ الرِّقابِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِهِ ثُمَّ أُضِيفَ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا، فَلَمَّا حَذَفَ الْفِعْلَ اخْتِصَارًا قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَنَابَ مَنَابَ الْفِعْلِ فِي الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ الْمَفْعُولِ وَأُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُولِ إِضَافَةَ الْأَسْمَاءِ إِلَى الْأَسْمَاءِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ رَاجِحٌ فِي الِاسْمِيَّةِ.
79
وَالشَّدُّ: قُوَّةُ الرَّبْطِ، وَقُوَّةُ الْإِمْسَاكِ.
وَالْوَثَاقُ بِفَتْحِ الْوَاوِ: الشَّيْءُ الَّذِي يَوْثَقُ بِهِ، وَيَجُوزُ فِيهِ كَسْرُ الْوَاوِ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ. وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْأَسْرِ لِأَنَّ الْأَسْرَ يَسْتَلْزِمُ الْوَضْعَ فِي الْقَيْدِ يُشَدُّ بِهِ الْأَسِيرُ. وَالْمَعْنَى:
فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنْ أَثْخَنْتُمْ مِنْهُمْ فَأْسِرُوا مِنْهُمْ.
وَتَعْرِيفُ الرِّقابِ والْوَثاقَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
عِوَضًا عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ فَضَرْبَ رِقَابَهُمْ وَشُدُّوا وَثَاقَهُمْ.
وَالْمَنُّ: الْإِنْعَامُ: وَالْمُرَادُ بِهِ: إِطْلَاقُ الْأَسِيرِ وَاسْتِرْقَاقُهُ فَإِنَّ الِاسْتِرْقَاقَ منّ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يُقْتَلْ، وَالْفِدَاءُ: بِكَسْرِ الْفَاءِ مَمْدُودًا تَخْلِيصُ الْأَسِيرِ مِنَ الْأَسْرِ بِعِوَضٍ مِنْ مَالٍ أَوْ مُبَادَلَةٍ بِأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي يَدَيِ الْعَدُوِّ. وَقَدَّمَ الْمَنَّ عَلَى الْفِدَاءِ تَرْجِيحًا لَهُ لِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى امْتِلَاكِ ضَمِيرِ الْمَمْنُونِ عَلَيْهِ ليستعمل بذلك بغضه.
وَانْتَصَبَ مَنًّا وفِداءً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بَدَلًا مِنْ عَامِلَيْهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ: إِمَّا تَمُنُّونَ وَإِمَّا تَفْدُونَ.
وَقَوْلُهُ بَعْدُ أَيْ بَعْدَ الْإِثْخَانِ وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِإِبَاحَةِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ أَمِيرِ الْجَيْشِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ كَمَا فعل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ غَزْوَةِ هَوَازِنَ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّسْخِ، وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ أَيِمَّةِ الْفِقْهِ وَأَهْلِ النَّظَرِ. فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ، أَيْ مُشْرِكٍ يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَهُمُ الْمَعْرُوفُ حَرْبُهُمْ وَيَشْمَلُ مَنْ حَارَبَ مَعَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لِتَحْدِيدِ أَحْوَالِ الْقِتَالِ وَمَا بَعْدَهُ، لَا لِبَيَانِ وَقْتِ الْقِتَالِ وَلَا لِبَيَانِ مَنْ هُمُ الْكَافِرُونَ، لِأَنَّ أَوْقَاتَ الْقِتَالِ مُبِيَّنَةٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ. وَمَعْرِفَةُ الْكَافِرِينَ مَعْلُومَةٌ مِنَ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: ٥].
ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦٧]. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ
80
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ، وَمِنَ السَلَفِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ فِي أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الْمَنِّ أَوِ الْفِدَاءِ، وَأَمِيرُ الْجَيْشِ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ يَرَوْنَ أَنَّ مَوْرِدَ الْآيَةِ الْإِذْنُ فِي الْمَنِّ أَوِ الْفِدَاءِ فَهِيَ نَاسِخَةٌ أَوْ مُنْهِيَةٌ لِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦٧، ٦٨].
وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا نَاسِخَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ لما علم مِنْ أَنَّ مَوْرِدَ تِلْكَ هُوَ تَعْيِينُ أَوْقَاتِ الْمُتَارَكَةِ، وَأَوْقَاتِ الْمُحَارَبَةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هَؤُلَاءِ بِحَظْرِ قَتْلِ الْأَسِيرِ فِي حِينِ أَنَّ التَّخْيِيرَ هُنَا وَارِدٌ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُمَا
الْقَتْلُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» ثُبُوتًا مُسْتَفِيضًا أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَقَتَلَ أَسْرَى قُرَيْظَةَ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقَتَلَ هِلَالَ بْنَ خَطَلٍ وَمِقْيَسَ بْنَ حُبَابَةٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَتَلَ بَعْدَ أُحُدٍ أَبَا عَزَّةَ الْجُمَعِيَّ الشَّاعِرَ وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَنَّهَا جَعَلَتِ التَّخْيِيرَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ. وَأَيْضًا لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَوَازُ الِاسْتِرْقَاقِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَسْرَى، وَهُوَ يُدْخَلُ فِي الْمَنِّ إِذَا اعْتُبِرَ الْمَنُّ شَامِلًا لِتَرْكِ الْقَتْلِ، وَلِأَنَّ مُقَابَلَةَ الْمَنِّ بِالْفِدَاءِ تَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ مَشْرُوعٌ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمَنَّ مِنَ الْعِتْقِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ فَقَطْ دُونَ قَتْلِ الْأَسِيرِ، فَقَتْلُ الْأَسِيرِ يَكُونُ مَحْظُورًا. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يُعَضِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ. وَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْأَسِيرِ الْمُشْرِكِ إِلَّا الْقَتْلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التَّوْبَة: ٥]. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُفَادَى أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُسْلِمُوا بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِيَدِ
81
الْمُشْرِكِينَ. وَرَوَى الْجَصَّاصُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَى أَسِيرَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَسِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي ثَقِيفٍ.
وَالْغَايَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ حَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها لِلتَّعْلِيلِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، أَيْ لِيَكُفَّ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا فَتَأْمَنُوا مِنَ الْحَرْبِ عَلَيْكُمْ وَلَيْسَتْ غَايَةً لِحُكْمِ الْقِتَالِ. وَالْمَعْنَى يَسْتَمِرُّ هَذَا الْحُكْمُ بِهَذَا لِيَهِنَ الْعَدُوُّ فَيَتْرُكُوا حَرْبَكُمْ، فَلَا مَفْهُومَ لِهَذِهِ الْغَايَةِ، فَالتَّعْلِيلُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَضَرْبَ الرِّقَابِ، أَيْ لَا تَتْرُكُوا الْقَتْلَ لِأَجْلِ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَيَكُونُ وَارِدًا مَوْرِدَ التَّعْلِيمِ وَالْمَوْعِظَةِ، أَيْ فَلَا تَشْتَغِلُوا عِنْدَ اللِّقَاءِ لَا بِقَتْلِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِتَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَإِذَا غَلَبْتُمُوهُمْ فَاشْتَغِلُوا بِالْإِبْقَاءِ عَلَى مَنْ تَغْلِبُونَهُ بِالْأَسْرِ لِيَكُونَ الْمَنُّ بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ الْفِدَاءُ.
وَالْأَوْزَارُ: الْأَثْقَالُ، وَوَضْعُ الْأَوْزَارِ تَمْثِيلٌ لِانْتِهَاءِ الْعَمَلِ فَشُبِّهَتْ حَالَةُ انْتِهَاءِ الْقِتَالِ بِحَالَةِ وَضْعِ الْحَمَّالِ أَوِ الْمُسَافِرِ أَثْقَالَهُ، وَهَذَا مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ. وَأَخَذَ مِنْهُ عَبَدُ رَبِّهِ السُّلَمِيُّ، أَوْ سُلَيْمٌ الْحَنَفِيُّ قَوْلَهُ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
فَشَبَّهَ حَالَةَ الْمُنْتَهِي مِنْ كُلْفَةٍ بِحَالَةِ السَّائِرِ يُلْقِي عَصَاهُ الَّتِي اسْتَصْحَبَهَا فِي سَيْرِهِ.
ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.
أُعِيدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ آنِفًا: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ [مُحَمَّد: ٣] لِلنُّكْتَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هُنَالِكَ، وَهُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: الْأَمْرُ ذَلِكَ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ إِلَى هُنَا، وَيُفِيدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ تَقْرِيرَ الْحُكْمِ وَرُسُوخِهِ فِي النُّفُوسِ.
وَالْجُمْلَةُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَالْمَحْذُوفِ مُعْتَرِضَةٌ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُقَدَّرِ فِي الْمَصْدَرِ مِنْ قَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ،
82
أَيْ أُمِرْتُمْ بِضَرْبِ رِقَابِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ الله لَو شَاءَ لَاسْتَأْصَلَهُمْ وَلَمْ يُكَلِّفْكُمْ بِقِتَالِهِمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ نَاطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا الْمُعْتَادَةِ وَهِيَ أَنْ يَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.
وَتَعْدِيَةُ (انْتَصَرَ) بِحَرْفِ (مِنْ) مَعَ أَنَّ حَقَّهُ أَنْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى:
انْتَقَمَ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ رَاجِعٌ إِلَى مَا فِي مَعْنَى الْمَشِيئَةِ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَرَكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ لِسَبَبٍ غَيْرِ مَا بَعْدَ الِاسْتِدْرَاكِ.
وَالْبَلْوُ حَقِيقَتُهُ: الِاخْتِبَارُ وَالتَّجْرِبَةُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ ظُهُورُ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ رَفْعِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَقْعِ بَأْسِهِمْ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ وَمِنْ إِهَانَةِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ أَنَّ شَأْنَهُمْ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ مِنَ النَّاس.
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) هَذَا مِنْ مَظَاهِرِ بَلْوَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَهُوَ مُقَابِلُ مَا فِي قَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِمَّا فِداءً، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَظَاهِرِ إِهَانَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَذُكِرَ هُنَا مَا هُوَ مِنْ رِفْعَةِ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ الْآيَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَعْقَبَ الْأَمْرَ بِوَعْدِ الْجَزَاءِ عَلَى فِعْلِهِ.
وَذكر الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ إِذْ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَلَنْ يُضِلَّ اللَّهُ أَعْمَالَكُمْ، وَهَكَذَا بِأُسْلُوبِ الْخِطَابِ، فَعُدِلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مِنَ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ لِيَكُونَ فِي تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ إِفَادَةٌ تُقَوِّي الْخَبَرَ، وَلِيَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّنْوِيهِ بِصِلَتِهِ، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ عَلَى الصِّلَةِ بِأَنَّ تِلْكَ الصِّلَةَ هِيَ عِلَّةُ مَا وَرَدَ بَعْدَهَا مِنَ الْخَبَرِ.
83
فَجُمْلَةُ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ خَبَرٌ عَنِ الْمَوْصُولِ، وَقُرِنَتْ بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ السَّبَبِيَّةِ فِي تَرَتُّبِ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عَلَى صِلَةِ الْمَوْصُولِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ كَثِيرًا مَا يُشْرَبُ مَعْنَى الشَّرْطِ فَيُقْرَنُ خَبَرُهُ بِالْفَاءِ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ صِيغَةُ الْمَاضِي فِي فعل قُتِلُوا مُنْصَرِفَةً إِلَى الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الشَّرْطِ. وَجُمْلَةُ سَيَهْدِيهِمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ آنِفًا عَلَى مَعْنَى إِضْلَالِ الْأَعْمَالِ وَإِصْلَاحِ الْبَالِ.
وَمَعْنَى عَرَّفَها لَهُمْ أَنَّهُ وَصَفَهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَهُمْ يَعْرِفُونَهَا بِصِفَاتِهَا، فَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوِ الْمَعْنَى هَدَاهُمْ إِلَى طَرِيقِهَا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَتَرَدَّدُونَ فِي أَنَّهُمْ دَاخِلُونَهَا، وَذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلِ الْفَرَحِ بِهَا. وَقِيلَ: عَرَّفَها جَعَلَ فِيهَا عَرْفًا، أَيْ رِيحًا طَيِّبًا، وَالتَّطْيِيبُ مِنْ تَمَامِ حُسْنِ الضِّيَافَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَاتَلُوا بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ، فَهُوَ وَعْدٌ لِلْمُجَاهِدِينَ أَحْيَائُهُمْ وَأَمْوَاتُهُمْ.
وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ قُتِلُوا بِالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ مَضْمُونُ الْآيَةِ جَزَاءَ الشُّهَدَاءِ فَهِدَايَتُهُمْ وَإِصْلَاحُ بَالِهِمْ كَائِنَانِ فِي الْآخِرَة.
[٧]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٧]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧)
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ الله لَا نتصر مِنْهُمْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ نَصْرَ الدِّينِ بِخَضَدِ شَوْكَةِ أَعْدَائِهِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهُ، أَتْبَعَهُ بِالتَّرْغِيبِ فِي نَصْرِ اللَّهِ وَالْوَعْدِ بِتَكَفُّلِ اللَّهِ لَهُمْ بِالنَّصْرِ إِنْ نَصَرُوهُ، وَبِأَنَّهُ خَاذِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِسَبَبِ كَرَاهِيَتِهِمْ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ.
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لَهَاتِهِ الْمُنَاسِبَةِ. وَافْتُتِحَ التَّرْغِيبُ بِنِدَائِهِمْ بِصِلَةِ الْإِيمَانِ اهْتِمَامًا بِالْكَلَامِ وَإِيمَاءً إِلَى أَن الْإِيمَاء يَقْتَضِي مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ تَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ أَنِ اجْتَنَوْا فَائِدَتَهُ مُشَاهَدَةً يَوْمَ بَدْرٍ.
وَمَعْنَى نَصْرِهِمُ اللَّهَ: نَصْرُ دينه وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ النَّصْرِ فِي تَنْفِيذِ إِرَادَتِهِ
كَمَا قَالَ: وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ [مُحَمَّد: ٤]. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ بَيْنَ تَنْصُرُوا وَاسْمِ الْجَلَالَةِ تَقْدِيرُهُ: دِينُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: نَصَرَ فُلَانٌ فُلَانًا، إِذَا نَصَرَ ذَوِيهِ وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَشَقَّةِ الشَّرْطِ وَشِدَّتِهِ لِيُجْعَلَ الْمَطْلُوبُ بِهِ كَالَّذِي يُشَكُّ فِي وَفَائِهِ بِهِ.
وَتَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ: تَمْثِيلٌ لِلْيَقِينِ وَعَدَمِ الْوَهَنِ بِحَالَةِ مَنْ ثَبَتَتْ قَدَمُهُ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يَزَلْ، فَإِنَّ الزَّلَلَ وَهَنٌ يُسْقِطُ صَاحِبَهُ، وَلِذَلِكَ يُمَثَّلُ الِانْهِزَامُ وَالْخَيْبَةُ وَالْخَطَأُ بِزَلَلِ الْقَدَمِ قَالَ تَعَالَى: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها [النَّحْل: ٩٤].
[٨، ٩]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
هَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ٤] فَإِنَّ الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [مُحَمَّد: ٤] الْآيَةَ.
وَالتَّعْسُ: الشَّقَاءُ وَيُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ: الْهَلَاكُ، وَالْخَيْبَةُ، وَالِانْحِطَاطُ، وَالسُّقُوطُ، وَهِيَ مَعَانٍ تَحُومُ حَوْلَ الشَّقَاءِ، وَقَدْ كَثُرَ أَن يُقَال: تعساله، لِلْعَاثِرِ الْبَغِيضِ، أَيْ سُقُوطًا وَخُرُورًا لَا نُهُوضَ مِنْهُ. وَيُقَابِلُهُ قَوْلُهُمْ لِلْعَاثِرِ: لَعًا لَهُ، أَيِ ارْتِفَاعًا، قَالَ الْأَعْشَى:
بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إِذَا عَثَرَتْ فَالتَّعْسُ أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا
وَفِي حَدِيثِ الْإِفْكِ: فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ لِأَنَّ الْعِثَارَ تَعْسٌ.
وَمِنْ بَدَائِعِ الْقُرْآنِ وُقُوعُ فَتَعْساً لَهُمْ فِي جَانِبِ الْكُفَّارِ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ:
وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [مُحَمَّد: ٧].
85
وَالْفِعْلُ مِنَ التَّعْسِ يَجِيءُ مِنْ بَابِ مَنَعَ وَبَابِ سَمِعَ، وَفِي «الْقَامُوسِ» إِذَا خَاطَبْتَ قُلْتَ: تَعَسْتَ كَمَنَعَ، وَإِذَا حَكَيْتَ قُلْتَ: تَعِسَ كسمع.
وانتصب فَتَعْساً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَعِسُوا تَعْسَهُمْ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ مِثْلُ تَبًّا لَهُ، وَوَيْحًا لَهُ. وَقُصِدَ مِنَ الْإِضَافَةِ اخْتِصَاصُ التَّعْسِ بِهِمْ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَى الْفَاعِلِ لَامُ التَّبْيِين فَصَارَ فَتَعْساً لَهُمْ. وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ
بِالْمَصْدَرِ، أَوْ بِعَامِلِهِ الْمَحْذُوفِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ مُخْتَارُ بن مَالِكٍ وَإِنَّ أَبَاهُ ابْنُ هِشَامٍ.
وَيَجُوزُ أَن يكون فَتَعْساً لَهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ لِقَصْدِ التَّحْقِيرِ وَالتَّفْظِيعِ، وَذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ هَذَا الْمُرَكَّبِ مِثْلَ سَقْيًا لَهُ وَرَعْيًا لَهُ وَتَبًّا لَهُ وَوَيْحًا لَهُ وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ فِي الْآيَةِ فِعْلُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَقَالَ اللَّهُ: تَعْسًا لَهُمْ، أَوْ فَيُقَالُ: تَعْسًا لَهُمْ.
وَدَخَلَتِ الْفَاء على فَتَعْساً وَهُوَ خَبَرُ الْمَوْصُولِ لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١]، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ هُنَالِكَ.
وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا إِلَخْ فِي مَعْنَاهُ، وَفِي مَوْقِعِهِ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ وَفِي نُكْتَةِ تَكْرِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ [مُحَمَّد:
٣].
وَالْإِشَارَةُ إِلَى التَّعْسِ وَإِضْلَالِ الْأَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا. وَالْكَرَاهِيَةُ: الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ.
وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ، قَالَ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: ١٣].
وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا لِلسَّبَبِيَّةِ.
86
وَإِحْبَاطُ الْأَعْمَالِ إِبْطَالُهَا: أَيْ جَعْلُهَا بُطْلًا، أَيْ ضَائِعَةً لَا نَفْعَ لَهُمْ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: الْأَعْمَالُ الَّتِي يَرْجُونَ مِنْهَا النَّفْعَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرْجُونَ نَفْعَهَا فِي الْآخِرَةِ إِذْ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَإِنَّمَا كَانُوا يَرْجُونَ مِنَ الْأَعْمَال الصَّالِحَة رَضِي الله ورضى الْأَصْنَامِ لِيَعِيشُوا فِي سَعَةِ رِزْقٍ وَسَلَامَةٍ وَعَافِيَةٍ وَتَسْلَمَ أَوْلَادُهُمْ وَأَنْعَامُهُمْ، فَالْأَعْمَالُ الْمُحْبَطَةُ بَعْضُ الْأَعْمَالِ الْمُضَلِّلَةِ، وَإِحْبَاطُهَا هُوَ عَدَمُ تَحَقُّقِ مَا رَجَوْهُ مِنْهَا فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِهِمْ كَمَا عَلِمْتَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١] أَوَّلَ السُّورَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا لِئَلَّا يَظُنَّ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهَا قَدْ تُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فقد كَانُوا يستاءلون عَنْ ذَلِكَ، كَمَا
فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أسلمت على مَا سلف مِنْ خَيْرٍ»
أَيْ وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ لَمَا كَانَ لَهُ فِيهَا خَيْرٌ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَوْ آمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَانْتَفَعُوا بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ الْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ وَفِي الدُّنْيَا عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ تَأْكِيدُ الْخَيْر الْمَذْكُور.
[١٠]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٠]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ [مُحَمَّد: ٨] الْآيَةَ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظَائِر أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٩] وَفِي سُورَةِ غَافِرٍ [٢١].
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَالْمَعْنَى: أَلَيْسَ تَعْسُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَشْهُودًا عَلَيْهِ بِآثَارِهِ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ أَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ يَدِينُونَ بِمِثْلِ دِينِهِمْ.
وَجُمْلَةُ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ. وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ وَالدَّمَارُ وَهُوَ الْهَلْكُ.
وَفِعْلُ دَمَّرَ مُتَعَدٍّ إِلَى المدمّر بِنَفسِهِ، يُقَال: دَمَّرَهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ فِي الْآيَةِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ التَّدْمِيرِ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ دَمَّرَ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، ثُمَّ جُعِلَ التَّدْمِيرُ وَاقِعًا عَلَيْهِمْ فَأَفَادَ مَعْنَى دَمَّرَ كُلَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمَحْذُوفُ، وَأَنَّ التَّدْمِيرَ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مِنْ مَشْمُولِهِ.
وَجُمْلَةُ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [مُحَمَّد: ١١]. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: كُفَّارُ مَكَّةَ.
وَالْمَعْنَى: وَلِكُفَّارِكُمْ أَمْثَالُ عَاقِبَةِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الدَّمَارِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا وَقَعَ بِهِ التَّعْرِيضُ لِلتَّأْكِيدِ بِالتَّعْمِيمِ ثُمَّ الْخُصُوصِ.
وَأَمْثَالُ: جَمْعُ مِثْلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ، وَجَمَعَ الْأَمْثَالَ لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَأْصَلَ الْكَافِرِينَ مَرَّاتٍ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ فَاسْتَأْصَلَ صَنَادِيدَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ بِالسَّيْفِ أَيْضًا، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَهَزَمَهُمْ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الرُّعْبَ وَالْمَذَلَّةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُمَاثِلٌ لِمَا سَلَّطَهُ عَلَى الْأُمَمِ فِي الْغَايَةِ مِنْهُ وَهُوَ نصر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مَا نَصَرَ بِهِ رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى قِيمَةً بِكَوْنِهِ بِيَدِهِ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ مُبَاشَرَةً بِسُيُوفِهِمْ وَذَلِكَ أَنْكَى لِلْعَدُوِّ. وَضَمِيرُ أَمْثالُها عَائِدٌ إِلَى عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا حَالَة سوء.
[١١]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١١]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ (١١)
أُعِيدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ [مُحَمَّد: ٣] وَقَوْلِهِ: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ [مُحَمَّد: ٤].
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: ١٠] بِتَأْوِيلِ:
ذَلِكَ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ وَعِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ بِالتَّدْمِيرِ، وَفِي تَدْمِيرِهِمُ انْتِصَارٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا لَقُوا مِنْهُمْ مِنَ الْأَضْرَارِ، فَأُفِيدَ أَنَّ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مُسَبَّبٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ نَصِيرُ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّعْلِيلِ وَمَا بَعْدَهُ تَتْمِيمٌ.
وَالْمَوْلَى، هُنَا: الْوَلِيُّ وَالنَّاصِرُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ الَّذِينَ يَنْصُرُونَ دِينَهُ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَا يَنْصُرُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، فَأَشْرَكُوا مَعَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَإِذَا كَانَ لَا يَنْصُرُهُمْ فَلَا يَجِدُونَ نَصِيرًا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَنُفِيَ جِنْسُ الْمَوْلَى لَهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَعَانِي الْمَوْلَى. فَقَوْلُهُ: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ أَفَادَ شَيْئَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُهُمْ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْصُرُهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ، وَأَمَّا إِثْبَاتُ الْمَوْلَى لِلْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يُونُس: ٢٨- ٣٠] فَذَلِكَ الْمَوْلَى بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ مَعْنَى: الْمَالِكِ وَالرَّبِّ، فَلَا تعَارض بَينهمَا.
[١٢]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٢]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانَيٌّ جَوَابُ سُؤَالٍ يُخْطَرُ بِبَالِ سَامِعِ قَوْلِهِ: بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١] عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ وَعَنْ رِزْقِ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ مِنْ وِلَايَتِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ النَّعِيمَ الْخَالِدَ بَعْدَ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَا أَعْطَاهُ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا لَا عِبْرَةَ بِهِ لِأَنَّهُمْ مَسْلُوبُونَ مِنْ فَهْمِ الْإِيمَانِ فَحَظُّهُمْ مِنَ الدُّنْيَا أَكْلٌ وَتَمَتُّعٌ كَحَظِّ الْأَنْعَامِ، وَعَاقِبَتُهُمْ فِي عَالَمِ الْخُلُودِ الْعَذَابُ، فَقَوْلُهُ: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦، ١٩٧] لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ.
وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [مُحَمَّد: ١٠] وَجُمْلَةُ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [مُحَمَّد: ١٣] الْآيَةَ.
وَالْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ فِي مَحَلِّ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَأْكُلُونَ، أَوْ فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِ يَأْكُلُونَ لِبَيَانِ نَوْعِهِ.
وَالتَّمَتُّعُ: الِانْتِفَاعُ الْقَلِيلُ بِالْمَتَاعِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مَتاعٌ قَلِيلٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٧]، وَقَوْلِهِ: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ
وَالْمَثْوَى: مَكَانُ الثَّوَاءِ، وَالثَّوَاءُ: الِاسْتِقْرَارُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ فِي الْأَنْعَامِ [١٢٨]. وَعُدِلَ عَنِ الْإِضَافَةِ فَقِيلَ مَثْوىً لَهُمْ بِالتَّعْلِيقِ بِاللَّامِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُنَوَّنَ فِي الْإِضَافَةِ لِيُفَادَ بِالتَّنْوِينِ مَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنَ الْقَرَارِ فِي النَّارِ مَثْوًى، أَيْ مَثْوًى قَوِيًّا لَهُمْ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَصَلَ قَبْلَ مُشَاهَدَتِهَا، فَلِذَلِكَ أُضِيفَتْ فِي قَوْلِهِ: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْهَا وَهُمْ يُشَاهِدُونَهَا فِي الْمَحْشَر.
[١٣]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٣]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [مُحَمَّد: ١٠]، وَمَا بَيْنَهُمَا اسْتِطْرَادٌ اتَّصَلَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَكَلِمَةُ كَأَيِّنْ تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ.
وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ: أَهْلُهَا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَهْلَكْناهُمْ، وَإِنَّمَا أُجْرِيَ الْإِخْبَارُ عَلَى الْقَرْيَةِ وَضَمِيرِهَا لِإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ أَهْلِهَا وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَلِيَكُونَ لِإِسْنَادُ إِخْرَاجِ الرَّسُولِ إِلَى الْقَرْيَةِ كُلِّهَا وَقَعَ مِنَ التَّبِعَةِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهَا سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ تَوَلَّى أَسْبَابَ الْخُرُوجِ، وَمَنْ كَانَ يَنْظُرُ وَلَا يَنْهَى قَالَ تَعَالَى: وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ [الممتحنة:
٩].
وَهَذَا إِطْنَابٌ فِي الْوَعِيدِ لِأَنَّ مَقَامَ التَّهْدِيدِ وَالتَّوْبِيخِ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ، فَمَفَادُ هَذِهِ الْآيَةِ مُؤَكِّدٌ لِمَفَادِ قَوْلِهِ: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: ١٠]، فَحَصَلَ تَوْكِيدُ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مُقَارِبٌ لَهُ مِنْ إِهْلَاكِ الْأُمَمِ ذَوَاتِ الْقُرَى وَالْمُدُنِ بَعْدَ أَنْ شَمِلَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَزَادَ هُنَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْهُمْ لِيَفْهَمُوا أَنَّ إِهْلَاكَ هَؤُلَاءِ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّهْدِيدُ السَّابِقُ تَهْدِيدًا بِعَذَابِ السَّيْفِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّد: ٤] الْآيَاتِ، قَدْ يُلْقِي فِي نُفُوسِهِمْ غُرُورًا
90
فَتَعَذَّرَ اسْتِئْصَالُهُمْ بِالسَّيْفِ
وَهُمْ مَا هُمْ مِنَ الْمَنَعَةِ وَأَنَّهُمْ تَمْنَعُهُمْ قَرْيَتُهُمْ مَكَّةُ وَحَرْمَتُهَا بَيْنَ الْعَرَبِ فَلَا يَقْعُدُونَ عَنْ نُصْرَتِهِمْ، فَرُبَّمَا اسْتَخَفُّوا بِهَذَا الْوَعِيدِ وَلَمْ يَسْتَكِينُوا لِهَذَا التَّهْدِيدِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ قُرًى كَثِيرَةً كَانَتْ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِهِمْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يَجِدُوا نَصِيرًا.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْمَوْقِعُ الْبَدِيعُ لِلتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَلا ناصِرَ لَهُمْ وَزَادَ أَيْضًا إِجْرَاءَ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: قَرْيَتِكَ، وَوَصَفَهَا بِ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ لِمَا تُفِيدُهُ إِضَافَةُ الْقَرْيَةِ إِلَى ضمير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعْبِيرِ أَهْلِهَا بِمَذَمَّةِ الْقَطِيعَةِ وَلِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ إِهْلَاكِهِمْ بِسَبَبِ إخراجهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَرْيَتِهِ قَالَ تَعَالَى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [الْبَقَرَة: ١٩١].
وَإِطْلَاقُ الْإِخْرَاجِ عَلَى مَا عَامَلَ بِهِ الْمُشْركُونَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْأَذَى وَمُقَاوَمَةِ نَشْرِ الدِّينِ إِطْلَاقٌ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ سُوءَ مُعَامَلَتِهِمْ إِيَّاهُ كَانَ سَبَبًا فِي خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ قَرْيَتُهُ، فَشَبَّهَ سَبَبَ الْخُرُوجِ بِالْإِخْرَاجِ ثُمَّ أَطْلَقَ عَلَيْهِ فِعْلَ أَخْرَجَتْكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِخْرَاجٍ وَإِنَّمَا هُوَ خُرُوجٌ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يلجئوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِخْرَاجِ بَلْ كَانُوا عَلَى الْعَكْسِ يَرْصُدُونَ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنَ الْخُرُوجِ خَشْيَةَ اعْتِصَامِهِ بِقَبَائِلَ تَنْصُرُهُ فَلِذَلِكَ أَخْفَى عَلَى النَّاسِ أَمْرَ هِجْرَتِهِ إِلَّا عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَوْلُهُ: أَخْرَجَتْكَ مِنْ بَابِ قَوْلِكَ:
أَقْدَمَنِي بَلَدَكَ حَقٌّ لِي عَلَى فُلَانٍ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَيْسَ مَجَازًا عَقْلِيًّا إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ إِخْرَاجٌ حَتَّى يُدَّعَى أَنَّ سَبَبَهُ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِ الْإِخْرَاجِ، وَلَا هُوَ مِنَ الْكِنَايَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَثَّلَ بِهِ الشَّيْخُ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ لِلْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَالْمِثَالُ يَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ وَالِاحْتِمَالُ. وَفَرَّعَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِإِهْلَاكِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ الْإِخْبَارَ بِانْتِفَاءِ جِنْسِ النَّاصِرِ لَهُمْ، أَيِ الْمُنْقِذِ لَهُمْ مِنَ الْإِهْلَاكِ.
وَالْمَقْصُودُ: التَّذْكِيرُ بِأَنَّ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَجِدُوا دَافِعًا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْإِهْلَاكَ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إِلْفَاءِ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ فِي حَرْبِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ قَطْعًا لِمَا قَدْ يُخَالِجُ نُفُوسَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ لَا يُغْلَبُونَ لِتَظَاهُرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مَعَهُمْ، وَلِذَلِكَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ فِي وَقْعَةِ الخَنْدَق.
وَضمير لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مِنْ قَرْيَةٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرَى أَهْلُهَا. وَالْمَعْنَى:
91
أَهْلَكْنَاهُمْ إِهْلَاكًا لَا بَقَاءَ مَعَهُ لِشَيْءٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ بَقَاءَ شَيْءٍ مِنْهُمْ نَصْرٌ لِذَلِكَ الْبَاقِي بِنَجَاتِهِ مِنَ الْإِهْلَاكِ.
وَاسْمُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: فَلا ناصِرَ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ فَلِذَلِكَ لَا يُقْصَدُ تَضَمُّنَهُ لِزَمَنٍ مَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ بَلْ مُجَرَّدُ الِاتِّصَافِ بِالْمَصْدَرِ
فَتَمَحَّضٌ لِلِاسْمِيَّةِ، وَلَا الْتِفَاتَ فِيهِ إِلَى زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، وَلِذَا فَمَعْنَى فَلا ناصِرَ لَهُمْ: فَلَمْ يَنْصُرْهُمْ أَحَدٌ فِيمَا مَضَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِجْرَاءِ مَا حَصَلَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي مَجْرَى زَمَنِ الْحَالِ، وَقَوْلُهُمُ اسْمُ الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ فِيمَا إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكَأَيِّنْ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْكَافِ وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ مَكْسُورَةً وَهِي لُغَة.
[١٤]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٤]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ [مُحَمَّد: ١٣] لِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ تَحْقِيقًا يَرْجِعُ إِلَى مَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ جَاءَ بِأُسْلُوبِ التَّفْرِيعِ.
وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [مُحَمَّد: ١٢] الْآيَةَ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الِاعْتِرَاضِ لِأَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى اعْتِرَاضٍ. وَهَذَا تَفَنُّنٌّ فِي تَلْوِينِ الْكَلَامِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِينَ هُوَ مِنَ الْأَسَالِيبِ الَّتِي ابْتَكَرَهَا الْقُرْآنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْكَارِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا حَرْفُ التَّشْبِيهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِنْكَارِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ هُوَ تَفْضِيلُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَإِنْكَارُ زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ظَهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
92
كَقَوْلِهِمْ: لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ [الْأَحْقَاف: ١١] وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ [المطففين: ٣٢] فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٠].
وَالْمُرَادُ بِالْمَوْصُولَيْنِ فَرِيقَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي أَحَدِهِمَا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ.
وَالْبَيِّنَةُ: الْبُرْهَانُ وَالْحُجَّةُ، أَيْ حُجَّةٍ عَلَى أَنَّهُ مُحِقٌّ. ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِوَصْفِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْفَرِيقِ تَنْبِيهٌ عَلَى زُلْفَى الْفَرِيقِ الَّذِي تَمَسَّكَ بِحُجَّةِ اللَّهِ.
وَمَعْنَى وَصْفِ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهَا وَحَرَّكَ أَذْهَانَهُمْ فَامْتَثَلُوا وَأَدْرَكُوا الْحَقَّ، فَالْحُجَّةُ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهَا وَكَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَزْكِيَةٌ لَهَا وَكَشْفٌ لِلتَّرَدُّدِ فِيهَا وَإِتْمَامٌ لِدَلَالَتِهَا، كَمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَخْذِ الْعِلْمِ عَنْ مُتَضَلِّعٍ فِيهِ وَأَخْذِهِ عَنْ مُسْتَضْعَفٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا. وَ (عَلَى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَهَذَا الْفَرِيقُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الدِّينِ وَاثِقُونَ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ. فَلَا جَرَمَ يَكُونُ لَهُمُ الْفَوْزُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ لَهُمْ أَسْبَابَهُ فَإِنْ قَاتَلُوا كَانُوا عَلَى ثِقَةٍ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ فَقَوِيَتْ شَجَاعَتُهُمْ، وَإِنْ سَالَمُوا عُنُوا بِتَدْبِيرِ شَأْنِهِ وَمَا فِيهِ نَفْعُ الْأُمَّةِ وَالدِّينِ فَلَمْ يَأْلَوْا جُهْدًا فِي حُسْنِ أَعْمَالِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ أَنَّ اللَّهَ أَصْلَحَ بَالَهُمْ وهداهم. والفريق الَّذين زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي أَحْوَالِ السُّوأَى مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، فَلَمَّا نَبَّهَهُمُ اللَّهُ لِفَسَادِ أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا بَيَّنَ لَهُمْ صَالِحَ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئَاتِهَا لَمْ يُدْرِكُوا ذَلِكَ وَرَأَوْا فَسَادَهُمْ صَلَاحًا فَتَزَيَّنَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي أَنْظَارِهِمْ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْإِقْلَاعَ عَنْهَا وَغَلَبَ الْفَهْمُ وَهَوَاهُمْ عَلَى رَأْيهمْ فَلم يعبأوا بِاتِّبَاعِ مَا هُوَ صَلَاحٌ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بِإِيجَازٍ.
وَبُنِيَ فِعْلُ زُيِّنَ لِلْمَجْهُولِ لِيَشْمَلَ الْمُزَيِّنِينَ لَهُمْ مِنْ أَيِمَّةِ كُفْرِهِمْ، وَمَا سَوَّلَتْهُ لَهُمْ أَيْضًا عُقُولُهُمُ الْآفِنَةُ مِنْ أَفْعَالِهِمُ السَّيِّئَةِ اغْتِرَارًا بِالْإِلْفِ أَوِ اتِّبَاعًا لِلَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ
93
أَوْ لِجَلْبِ الرِّئَاسَةِ، أَيْ زَيَّنَ لَهُ مُزَيِّنٌ سُوءَ عَمَلِهِ، وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ إِلَى الْمَجْهُولِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ أَيْضًا لِيَرْجِعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَتَأَمَّلُوا فِيمَنْ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ تَزْيِينُ أَعْمَالِهِمْ لَهُمْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى الدَّأْبِ عَلَيْهَا كَانَ يَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ إِلْفُهُمْ بِهَا وَوَلَعُهُمْ بِهَا فَتَصِيرُ لَهُمْ أَهْوَاءً لَا يَسْتَطِيعُونَ مُفَارَقَتَهَا أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بَيِّنٌ لِلْعَاقِلِ الْمُتَأَمِّلِ بِحَيْثُ يَحِقُّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْفَرِيقَيْنِ سُؤَالَ مَنْ يَعْلَمُ انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ عَسَى أَنْ يَزْعُمَهَا. وَالْمُرَادُ بِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ الْكِنَايَةُ عَنِ التَّفَاضُلِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْفَضْلِ ظَاهَرٌ وَهُوَ الْفَرِيقُ الَّذِي وَقَعَ الثَّنَاء عَلَيْهِ.
[١٥]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا جَرَى مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [مُحَمَّد: ١٢] مِمَّا يَسْتَشْرِفُ السَّامِعُ إِلَى تَفْصِيلِ بَعْضِ صِفَاتِهَا، وَإِذْ قَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ مُوهِمٌ السَّامِعَ أَنَّهَا أَنْهَارُ الْمِيَاهِ لِأَنَّ جَرْيَ الْأَنْهَارِ أَكْمَلُ مَحَاسِنِ الْجَنَّاتِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ تَوْصِيفِ حَالِ
فَرِيقَيِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَمِمَّا أَعَدَّ لِكِلَيْهِمَا، وَمِنْ إِعْلَانِ تَبَايُنِ حَالَيْهِمَا ثُنِيَ الْعِنَانُ إِلَى بَيَانِ مَا فِي الْجنَّة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، وَخُصَّ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ أَنْوَاعِ الْأَنْهَارِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَوْقِعَ الْجُمْلَةِ كَانَ قَوْلُهُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَا سَيُوصَفُ أَوْ مَا سَيُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَوْ مِمَّا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.
وَقَوْلُهُ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ مُقَدَّرٌ فِيهِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ دَلَّ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [مُحَمَّد: ١٤].
94
وَالتَّقْدِيرُ: أَكَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ. وَالْإِنْكَارُ مُتَسَلِّطٌ عَلَى التَّشْبِيهِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ مَثَلُ الْجَنَّةِ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، أَيْ كَحَالِ مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ حَالِ النَّارِ عَنْ حَالِ الْجَنَّةِ، فَحَصَلَ نَحْوُ الِاحْتِبَاكِ إِذْ دَلَّ مَثَلُ الْجَنَّةِ عَلَى مَثَلِ أَصْحَابِهَا وَدَلَّ مَثَلُ مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ عَلَى مَثَلِ النَّارِ.
وَالْمَقْصُودُ: بَيَانُ الْبَوْنِ بَيْنَ حَالَيِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ بِذِكْرِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ حَالَيْ مَصِيرِهِمَا الْمُقَرَّرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ [الْحَج: ٢٣] إِلَى آخِرِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ ذِكْرَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ فِي خِلَالِ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وَقَالَ بَعْدَهُ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ. وَلِقَصْدِ زِيَادَةِ تَصْوِيرِ مُكَابَرَةِ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُتَمَسِّكِ بِبَيِّنَةِ رَبِّهِ وَبَيْنَ التَّابِعِ لِهَوَاهُ، أَيْ هُوَ أَيْضًا كَالَّذِي يُسَوِّي بَيْنَ الْجَنَّةِ ذَاتِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَبَيْنَ النَّارِ ذَاتِ صِفَاتٍ ضِدِّهَا.
وَفِيهِ اطِّرَادُ أَسَالِيبِ السُّورَةِ إِذِ افْتُتِحَتْ بِالْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَأُعْقِبَ بِاتِّبَاعِ الْكَافِرِينَ الْبَاطِلَ وَاتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَقَّ، وَثُلِّثَ بُقُولِهِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إِلَخْ. وَالْمَثَلُ: الْحَالُ الْعَجِيبُ.
وَجُمْلَةُ فِيها أَنْهارٌ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ الَّذِي فِي جُمْلَةِ مَثَلُ الْجَنَّةِ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلٍ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُثْبِتُهُ فِي أَنْوَاعِ الْبَدَلِ.
وَالْأَنْهَارُ: جَمْعُ نَهْرٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَبْحِرُ الْجَارِي فِي أُخْدُودٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
95
فَأَمَّا إِطْلَاقُ الْأَنْهَارِ عَلَى أَنْهَارِ الْمَاءِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْأَنْهَارِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ
لَبَنٍ وَخَمْرٍ وَعَسَلٍ فَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ مُمَاثَلَةٌ لِلْأَنْهَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ تَامَّةً فِي أَنَّهَا كَالْأَنْهَارِ مُسْتَبْحِرَةٌ فِي أَخَادِيدَ مِنْ أَرْضِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَرْأَى أَنْهَارٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ مَرْأًى مُبْهِجٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُمَاثَلَةُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ لِلْأَنْهَارِ فِي بَعْضِ صِفَاتِ الْأَنْهَارِ وَهِيَ الِاسْتِبْحَارُ. وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ كَانَتْ مِنْ أَفْضَلِ مَا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ وَمِنْ أَعَزِّ مَا يَتَيَسَّرُ الْحُصُولُ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ الْكَثِيرُ مِنْهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مِنْهَا أَنْهَارٌ فِي الْجَنَّةِ. وَتُنَاوُلُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ مِنَ التَّفَكُّهِ الَّذِي هُوَ تَنَعُّمُ أَهْلِ الْيَسَارِ وَالرَّفَاهِيَةِ.
وَقَدْ ذُكِرَ هُنَا أَرْبَعَةُ أَشْرِبَةٍ هِيَ أَجْنَاسُ أَشْرِبَتْهِمْ، فَكَانُوا يَسْتَجِيدُونَ الْمَاءَ الصَّافِيَ لِأَنَّ غَالِبَ مِيَاهِهِمْ مِنَ الْغُدْرَانِ والأحواض بالبادية تمتلىء مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ أَوْ مِنْ مُرُورِ السُّيُولِ فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ أَيَّامًا أَخَذَتْ تَتَغَيَّرُ بِالطُّحْلُبِ وَبِمَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنَ الْأَيْدِي وَالدِّلَاءِ، وَشُرْبِ الْوُحُوشِ وَقَلِيلٌ الْبِلَادُ الَّتِي تَكُونُ مُجَاوِرَةً الْأَنْهَارَ الْجَارِيَةَ. وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ كَانُوا إِذَا حَلَبُوا وَشَرِبُوا أَبْقَوْا مَا اسْتَفْضَلُوهُ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْلُبُونَ إِلَّا حَلْبَةً وَاحِدَةً أَوْ حَلْبَتَيْنِ فِي الْيَوْمِ فَيَقَعُ فِي طَعْمِ اللَّبَنِ تَغْيِيرٌ. فَأَمَّا الْخَمْرُ فَكَانَتْ قَلِيلَةً عَزِيزَةً عِنْدَهُمْ لِقِلَّةِ الْأَعْنَابِ فِي الْحِجَازِ إِلَّا قَلِيلًا فِي الطَّائِفِ، فَكَانَتْ الْخَمْرُ تُجْتَلَبُ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَمِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَكَانَتْ غَالِيَةَ الثَّمَنِ وَقَدْ يَنْقَطِعُ جَلْبُهَا زَمَانًا فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ لِعُسْرِ السَّيْرِ بِهَا فِي الطُّرُقِ وَفِي أَوْقَاتِ الْحُرُوبِ أَيْضًا خَوْفَ انْتِهَابِهَا.
وَالْعَسَلُ هُوَ أَيْضًا مَنْ أَشْرَبَتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي النَّحْلِ [٦٩] يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ: سَقَاهُ عَسَلًا، وَيَقُولُونَ: أَطْعَمَهُ عَسَلًا. وَكَانَ الْعَسَلُ مَرْغُوبًا فِيهِ يُجْتَلَبُ مِنْ بِلَادِ الْجِبَالِ ذَاتِ النَّبَاتِ الْمُسْتَمِرِّ. فَأَمَّا الثَّمَرَاتُ فَبَعْضُهَا كَثِيرٌ عِنْدَهُمْ كَالتَّمْرِ وَبَعْضُهَا قَلِيلٌ كَالرُّمَّانِ.
وَالْآسِنُ: وَصْفٌ مَنْ أَسَنَ الْمَاءُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَنَصَرَ وَفَرِحَ، إِذَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَسِنٍ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ لِلْمُبَالِغَةِ.
96
وَالْخَمْرُ: عَصِيرُ الْعِنَبِ الَّذِي يُتْرَكُ حَتَّى يُصِيبَهُ التَّخَمُّرُ وَهُوَ الْحُمُوضَةُ مِثْلُ خَمِيرِ الْعَجِينِ. ولَذَّةٍ وَصْفٌ وَلَيْسَ بِاسْمٍ، وَهُوَ تَأْنِيثُ اللَّذِّ، أَيِ اللَّذِيذِ قَالَ بَشَّارٌ:
ذَكَرْتُ شَبَابِي اللَّذَّ غَيْرَ قَرِيبِ وَمَجْلِسَ لَهْوٍ طَابَ بَيْنَ شُرُوبِ
وَاللَّذَاذَةُ: انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ فِيهِ مَسَرَّةٌ، وَهِيَ ضِدُّ الْأَلَمِ وَأَكْثَرُ حُصُولِهِ مِنَ الطَّعُومِ
وَالْأَشْرِبَةِ وَالْمَلَامِسِ الْبَدَنِيَّةِ، فَوَصْفُ خَمْرٍ هُنَا بِأَنَّهَا لَذَّةٍ مَعْنَاهُ يَجِدُ شَارِبُهَا لَذَاذَةً فِي طَعْمِهَا، أَيْ بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا حَرِيقَةُ الطَّعْمِ فَلَوْلَا تَرَقُّبُ مَا تَفْعَلُهُ فِي الشَّارِبِ مِنْ نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ لَمَا شَرِبَهَا لِحُمُوضَةِ طَعْمِهَا.
وَالْعَسَلُ الْمُصَفَّى: الَّذِي خُلِّصَ مِمَّا يُخَالِطُ الْعَسَلَ مِنْ بَقَايَا الشَّمْعِ وَبَقَايَا أَعْضَاءِ النَّحْلِ الَّتِي قَدْ تَمُوتُ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْعَسَلِ وَتَرْبِيَتِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
وَمَعْنَى مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أَصْنَافٌ مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الثَّمَراتِ لِلْجِنْسِ، وكُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي حَقِيقَتِهَا وَهُوَ الْإِحَاطَةُ، أَيْ جَمِيعُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مِمَّا عَلِمُوهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرَّحْمَن: ٥٢].
ومَغْفِرَةٌ عَطْفٌ عَلَى أَنْهارٌ وَمَا بَعْدَهُ، أَيْ وَفِيهَا مَغْفِرَةٌ لَهُمْ، أَيْ تَجَاوُزٌ عَنْهُمْ، أَيْ إِطْلَاقٌ فِي أَعْمَالِهِمْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ كَمَغْفِرَتِهِ لِأَهْلِ بَدْرٍ إِذْ بُيِّنَتْ بِأَنْ يعملوا مَا شاؤوا
فِي الْحَدِيثِ «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»
وَقَدْ تَكُونُ الْمَغْفِرَةُ كِنَايَةً عَنِ الرُّضْوَانِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢].
وَتَقْدِيرُ الْمُضَافِ فِي مَثَلِهِ ظَاهِرٌ لِلْقَرِينَةِ. وَقَوْلُهُ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً جِيءَ بِهِ لِمُقَابَلَةِ مَا وُصِفَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، أَيْ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ مَحْرُومُونَ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ.
وَلَيْسُوا بِذَائِقِينَ إِلَّا الْمَاءَ
97
الْحَمِيمَ الَّذِي يُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ بِفَوْرِ سَقْيِهِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَرِّجْ هُنَا عَلَى طَعَامِ أَهْلِ النَّارِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الْوَاقِعَة: ٥٢- ٥٤] وَقَوْلِهِ: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات: ٦٢] إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: ٦٦- ٦٧].
وَضَمِيرُ سُقُوا رَاجع إِلَى كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى (مَنْ) وَهُوَ الْفَرِيقُ مِنَ الْكَافِرِينَ بَعْدَ أَنْ أُعِيدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ خالِدٌ.
وَالْأَمْعَاءُ: جَمْعُ مَعًى مَقْصُورًا وَبِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا، وَهُوَ مَا يَنْتَقِلُ الطَّعَامُ إِلَيْهِ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ الْمعدة. وَيُسمى عفج بِوَزْنِ كَتِفٍ.
[١٦]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً.
ضَمِيرُ وَمِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [مُحَمَّد: ١٢] الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، أَيْ وَمِنَ الْكَافِرِينَ قَوْمٌ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَأَرَادَ بِمَنْ يَسْتَمِعُ مَعَهُمُ الْمُنَافِقِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ وَقَوْلِهِ: خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْمُسْتَمِعِينَ مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ [يُونُس: ٤٢] وَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الْأَنْعَام: ٢٥] لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ الْأُسْلُوبَيْنِ، وَهَذَا صِنْفٌ آخَرُ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ أَسَرُّوا الْكُفْرَ وَتَظَاهَرُوا بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ كَانَ الْمُنَافِقُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَقْصُودِينَ مَنْ لَفْظِ الْكُفَّارِ. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَازِلَةٌ بِقُرْبِ عَهْدٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِيهَا الْفَرِيقَانِ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَمَعْنَى يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ: يَحْضُرُونَ مَجْلِسَكَ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَكَ وَمَا تَقْرَأُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ يَتَظَاهَرُ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يُعْرِضُونَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِعْرَاضَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ. رُوِيَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ
98
بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ وَرِفَاعَة بن التابوت وَالْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَزَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ وَمَالِكِ بْنِ الدَّخْشَمِ (١).
وَالِاسْتِمَاعُ: أَشَدُّ السَّمْعِ وَأَقْوَاهُ، أَيْ يَسْتَمِعُونَ بِاهْتِمَامٍ يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ حَرِيصُونَ عَلَى وَعْيِ مَا يَقُوله الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ يُلْقُونَ إِلَيْهِ بَالَهُمْ، وَهَذَا مِنَ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِظْهَارِهِ لَا فِي مَعْنَى حُصُولِهِ. وَحَقُّ فِعْلِ اسْتَمَعَ أَنْ يُعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الْأَحْقَاف: ٢٩] فَإِذَا أُرِيدَ تَعَلُّقُهُ بِالشَّخْصِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ يُقَالُ: اسْتَمَعَ إِلَى فُلَانٍ كَمَا قَالَ هُنَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ، وَكَذَا جَاءَ فِي مَوَاقِعِهِ كُلِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
وحَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ابْتِدَائِيَّةٌ وإِذا اسْمُ زَمَانٍ مُتَعَلِّقٌ بِ قالُوا.
وَالْمَعْنَى: فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا إِلَخْ.
وَالْخُرُوجُ: مُغَادَرَةُ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مَحْصُورًا وَغَيْرَ مَحْصُورٍ، فَمِنْهُ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يُوسُف: ١٠٠]، وَمِنْهُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [الْأَعْرَاف: ١١٠]. وَالْخُرُوجُ مِنْ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغَادِرَةُ مَجْلِسِهِ الَّذِي فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ الَّذِي عُبِّرَ عَنْهُ هُنَا بِلَفْظِ عِنْدِكَ.
ومَنْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ خَرَجُوا وَلَيْسَتِ الَّتِي تُزَادُ مَعَ الظُّرُوفِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٨٩].
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: هُمْ أَصْحَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلَازِمُونَ لِمَجْلِسِهِ وَسُمِّيَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنْهُمْ وَسُئِلْتُ فِيمَنْ سُئِلَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا يَقُولُهُ مِنَ الْإِرْشَادِ وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَسْتَمِعُ لِيَشْمَلَ ذَلِكَ.
_________
(١) أَي فِي أول الْمدَّة من الْهِجْرَة ثمَّ حسن إِسْلَام مَالك بن الدخشم وَشهد بَدْرًا وَشهد لَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإخلاص إِسْلَامه كَمَا فِي حَدِيث عتاب بن مَالك فِي «صَحِيح البُخَارِيّ».
99
وَمَعْنَى آنِفاً: وَقْتًا قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ التَّكَلُّمِ، وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ إِلَّا مَنْصُوبَةً عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنِ اسْتَأْنَفَ الشَّيْءَ إِذا ابتدأه اهـ يُرِيدُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلٍ مَزِيدٍ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ وَهُوَ الْأَنْفُ، أَيْ جَارِحَةُ الشَّمِّ وَكَأَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ أَنْفَ الْبَعِيرِ لِأَنَّ الْأَنْفَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو لِرَاكِبِهِ فَيَأْخُذُ بِخِطَامِهِ، فَلُوحِظَ فِي اسْمِ الْأَنْفِ مَعْنَى الْوَصْفِ بِالظُّهُورِ، وَكُنِّيَ بِذَلِكَ عَنِ الْقُرْبِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ أُنُفٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ النُّونِ يُوصَفُ بِهِ الْكَأْسُ الَّتِي لَمْ يُشْرَبْ مِنْهَا مِنْ قَبْلُ، وَتُوصَفُ بِهِ الرَّوْضَةُ الَّتِي لَمْ تُرْعَ قبل، كَأَنَّهُمْ لَا حظوا فِيهَا لَازِمَ وَصْفِ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ أَنَّهُ جَدِيدٌ، أَيْ زَمَنٌ قَرِيبٌ، فَ آنِفاً زَمَانًا لَمْ يَبْعُدِ الْعَهْدُ بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: آنِفاً مَعْنَاهُ: السَّاعَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَّا وَهَذَا تَفْسِير الْمَعْنى» اهـ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَسَّرُوهُ بِوَقْتٍ يَقْرُبُ مِنَّا. وَصِيغَ عَلَى زِنَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، فَهَذَا اسْمٌ غَرِيبُ التَّصْرِيفِ وَلَا يُحْفَظُ شَيْءٌ مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ وَقَعَ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ.
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِصِيغَةِ فَاعِلٍ وَشَذَّتْ رِوَايَةٌ عَنِ الْبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ آنِفاً بِوَزْنِ كَتِفٍ. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْقِرَاءَاتِ نِسْبَتَهَا إِلَى ابْنِ كَثِيرٍ وَلَكِنَّ الشَّاطِبِيَّ أَثْبَتَهَا فِي حِرْزِ الْأَمَانِي وَقَدْ ذَكَرَهَا أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ. فَإِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْبَزِّيِّ عَنْهُ كَانَ آنِفاً حَالًا مِنْ ضَمِيرِ مَنْ يَسْتَمِعُ أُجْرِيَ عَلَى الْإِفْرَادِ رَعْيًا لِلَفْظِ مَنْ.
وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُ شَدِيدُ الْأَنَفَةِ، أَيِ التَّكَبُّرِ إِظْهَارًا لِتَرَفُّعِهِ عَنْ وَعْيِ مَا يَقُوله النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْتَهِي الْكَلَامُ عِنْدَ مَاذَا. وَزَعَمَ أَبُو عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ: أَنَّ الْبَزِّيَّ تَوَهَّمَهُ مِثْلَ: حَاذِرٍ وَحَذِرٍ. وَلَا يُظَنُّ مثل هَذَا بالبزي لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ هَذَا السُّؤَالِ لِقَوْلِهِ عَقِبَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُوَ سُؤال ينبىء عَنْ مَذَمَّةِ سَائِلِيهِ، فَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُمْ حَقِيقَةً أَنْبَأَ عَنْ قِلَّةِ وَعْيِهِمْ لِمَا يَسْمَعُونَهُ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ يَسْتَعِيدُونَهُ مِنَ الَّذِينَ عَلِمُوهُ فَلَعَلَّ اسْتِعَادَتَهُمْ إِيَّاهُ لِقَصْدِ أَنْ يَتَدَارَسُوهُ إِذَا خَلَوْا مَعَ إِخْوَانِهِمْ لِيَخْتَلِقُوا مَغَامِرَ يُهَيِّئُونَهَا بَيْنَهُمْ، أَوْ أَنْ يُجِيبُوا مَنْ يَسْأَلُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ عَمَّا سَمِعُوهُ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ.
100
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ نَاوِينَ بِهِ الِاسْتِهْزَاءَ يُظْهِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ اهْتِمَامَهُمْ بِاسْتِعَادَةِ مَا سَمِعُوهُ وَيَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ: إِنَّمَا نَحن مستهزؤون، أَوْ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمْ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ سَمِعُوا كَلَامًا لَا يَسْتَبِينُ الْمُرَادُ مِنْهُ لِإِدْخَالِ الشَّكِّ فِي نُفُوسِ مَنْ يُحِسُّونَ مِنْهُمُ الرَّغْبَةَ فِي حُضُورِ مجَالِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيضًا لِقِلَّةِ جَدْوَى حُضُورِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى حَادِثَةٍ خَاصَّةٍ ذَكَرَ فِيهَا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنَافِقِينَ وَأَحْوَالَهُمْ وَعَلِمَ الَّذِينَ كَانُوا حَاضِرِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِذَلِكَ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْأَلُوا سُؤَالَ اسْتِطْلَاعٍ هَلْ شَعَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْمَعْنِيُّونَ، فَيَكُونُ مَفْعُولُ يَسْتَمِعُونَ مَحْذُوفًا لِلْعِلْمِ بِهِ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ.
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: مَاذَا قالَ آنِفاً سُؤَالٌ غَرِيبٌ مِنْ شَأْنِهِ إِثَارَةُ سُؤَالِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ حُصُولِهِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ السَّابِقَةِ فِي مُرَادِهِمْ مِنْهُ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ ذِكْرِ صِفَاتِهِمْ تَشْهِيرًا بِهِمْ، وَجِيء بالموصول وصلتيه خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَمَيِّزِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمْ أَشْخَاصُ الْفَرِيقِ الْمُتَقَرِّرِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ فَرِيقٌ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ الَّذِينَ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ هُمْ قَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِأَهْوَائِهِمْ، فَأَفَادَتْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَمِعِينَ زُمْرَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْفَرِيقِ، فَهَذَا التَّرْكِيبُ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَالطَّبْعُ عَلَى الْقَلْبِ: تَمْثِيلٌ لِعَدَمِ مُخَالَطَةِ الْهُدَى وَالرُّشْدِ لِعُقُولِهِمْ بِحَالِ الْكِتَابِ الْمَطْبُوعِ عَلَيْهِ، أَوِ الْإِنَاءِ الْمَخْتُومِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ مَنْ يُحَاوِلُ الْوُصُولَ إِلَى دَاخِلِهِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَهُمْ، أَيْ عُقُولَهُمْ غَيْرَ مُدْرِكَةٍ وَمُصَدِّقَةٍ لِلْحَقَائِقِ وَالْهُدَى. وَهَذَا الطَّبْعُ مُتَفَاوِتٌ يَزُولُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ فِي مُدَدٍ مُتَفَاوِتَةٍ وَيَدُومُ مَعَ بَعْضٍ إِلَى الْمَوْتِ كَمَا وَقَعَ، وَزَوَالُهُ بِانْتِهَاءِ مَا فِي الْعَقْلِ مِنْ غِشَاوَةِ الضَّلَالَةِ وَبِتَوَجُّهِ لُطْفِ اللَّهِ بِمَنْ شَاءَ بِحِكْمَتِهِ اللُّطْفَ بِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّوْفِيقِ الَّذِي فَسَّرَهُ الْأَشْعَرِيَّةُ بِخَلْقِ الْقُدْرَةِ
101
وَالدَّاعِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَبِأَنَّهُ مَا يَقَعُ عِنْدَهُ صَلَاحُ الْعَبْدِ آخِرَةً. وَفَسَّرَ الْمُعْتَزِلَةُ اللُّطْفَ بِإِيصَالِ الْمَنَافِعِ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ يَدِقُّ
إِدْرَاكُهُ وَتَمْكِينُهُ بِالْقُدْرَةِ والآلات.
[١٧]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٧]
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الْأَنْعَام: ٢٥] وَمَا فيهم عَنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ [الزخرف: ٦٦] وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ: مُقَابَلَةُ فَرِيقِ الضَّلَالَةِ بِفَرِيقِ الْهِدَايَةِ عَلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي أُقِيمَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِهَا. فَهَذَا أُسْلُوبٌ مُسْتَمِرٌّ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَوَاقِعُ جُمَلِهِ.
وَالْمَعْنَى: وَالَّذِينَ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُمْ لِلْإِيمَانِ فَاهْتَدَوْا لَطَفَ اللَّهِ بِهِمْ فَزَادَهُمْ هُدًى وَأَرْسَخَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ وَوَفَّقَهُمْ لِلتَّقْوَى، فَاتَّقَوْا وَغَالَبُوا أَهْوَاءَهُمْ. وَإِيتَاءُ التَّقْوَى مُسْتَعَارٌ لِتَيْسِيرِ أَسْبَابِهَا إِذِ التَّقْوَى مَعْنًى نَفْسَانِيٌّ، وَالْإِيتَاءُ يَتَعَدَّى حَقِيقَةً لِلذَّوَاتِ. وَإِضَافَةُ التَّقْوَى إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ عُرِفُوا بِهَا وَاخْتَصَّتْ بِهِمْ.
[١٨]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٨]
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْكَافِرِينَ مِنْ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ [مُحَمَّد: ١٠- ١٦] الشَّامِلَةَ لِأَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ فَفَرَّعَ عَلَيْهَا أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ يَنْتَظِرُونَ حُلُولَ السَّاعَةِ لِيَنَالُوا جَزَاءَهُمْ عَلَى سُوءِ كُفْرِهِمْ فَضَمِيرُ يَنْظُرُونَ مُرَادٌ بِهِ الْكَافِرُونَ لِأَنَّ الْكَلَامَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْتَظِرُونَ أُمُورًا أُخَرَ مِثْلَ النَّصْرِ وَالشَّهَادَةِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التَّوْبَة: ٥٢] الْآيَةَ.
وَالنَّظَرُ هُنَا بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الْأَنْعَام: ١٥٨] الْآيَةَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ مَشُوبٌ بِتَهَكُّمٍ، وَهُوَ إِنْكَارٌ وَتَهَكُّمٌ عَلَى غَائِبِينَ، مُوَجَّهٌ إِلَى
102
الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا تَحْسَبْ تَأْخِيرَ مُؤَاخَذَتِهِمْ إِفْلَاتًا من الْعقَاب، فَإِنَّهُ مُرْجَوْنَ إِلَى السَّاعَةِ.
وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [مُحَمَّد: ١٢].
وَالْقَصْرُ الَّذِي أَفَادَهُ الِاسْتِثْنَاءُ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، نُزِّلَ انْتِظَارُهُمْ مَا يَأْمُلُونَهُ مِنَ الْمَرْغُوبَاتِ
فِي الدُّنْيَا مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِضَآلَةِ أَمْرِهِ بَعْدَ أَنْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَنْتَظِرُونَ فِيمَا يَنْتَظِرُونَ السَّاعَةَ لِأَنَّهُمْ لِتَحَقُّقِ حُلُولِهِ عَلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ مُنْتَظِرِيهَا.
وأَنْ تَأْتِيَهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ السَّاعَةِ. وبَغْتَةً حَالٌ مِنَ السَّاعَةِ قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الْأَعْرَاف: ١٨٧]. وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى: الْمَرَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْوَصْفُ، أَيْ مُبَاغِتَةً لَهُمْ.
وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ السَّاعَةَ مَوْعِدُهُمْ وَأَنَّ السَّاعَةَ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يَنْتَظِرُ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَكُونُ الِانْتِظَارُ إِذَا اقْتَرَبَ مَوْعِدُ الشَّيْءِ، هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ تَهَكُّمِيَّةٌ.
وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَاءُ الْفَصِيحَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ:
قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
وَهَذِهِ الْفَصِيحَةُ تُفِيدُ مَعْنَى تَعْلِيلِ قُرْبِ مُؤَاخَذَتِهِمْ.
وَالْأَشْرَاطُ: جَمْعُ شَرَطٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ: الْعَلَامَةُ وَالْأَمَارَةُ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ أَوْ عَلَى وَصْفِهِ. وَعَلَامَاتُ السَّاعَةِ هِيَ عَلَامَاتُ كَوْنِهَا قَرِيبَةً. وَهَذَا الْقُرْبُ يُتَصَوَّرُ بِصُورَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا أَنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ قُرْبًا نِسْبِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُولِ مُدَّةِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَنْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلْقِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ السَّاعَةِ يَحْصُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ رُوحَهُ إِذَا خَلَصَتْ عَنْ جَسَدِهِ شَاهَدَتْ مَصِيرَهَا مُشَاهَدَةً إِجْمَالِيَّةً وَبِهِ فُسِرَّ
حَدِيثُ أَبِيِِ
103
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَو حفر مِنْ حُفَرِ النَّارِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
. وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيُفَسِّرُهُ
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَنِهَايَةُ حَيَاةِ الْمَرْءِ قَرِيبَةٌ وَإِنْ طَالَ الْعُمُرُ.
وَالْأَشْرَاطُ بِالنِّسْبَةِ لِلصُّورَةِ الْأُولَى: الْحَوَادِثُ الَّتِي أخبر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَقَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، وَأَوَّلُهَا بِعْثَتُهُ لِأَنَّهُ آخِرُ الرُّسُلِ وَشَرِيعَتُهُ آخِرُ الشَّرَائِعِ ثُمَّ مَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَشْرَاطُهَا الْأَمْرَاضُ وَالشَّيْخُوخَةُ.
فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ.
تَفْرِيعٌ عَلَى فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها. وأنى اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى الْحَالَةِ، وَيُضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ كَثِيرًا وَهُوَ هُنَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ كَيْفَ يَحْصُلُ لَهُمُ الذِّكْرَى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ، وَالْمَقْصُودُ: إِنْكَارُ الِانْتِفَاعِ بالذكرى حِينَئِذٍ.
وفَأَنَّى مُبْتَدَأٌ ثَانٍ مُقَدَّمٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَهُ الصَّدَارَةُ. وذِكْراهُمْ مُبْتَدَأٌ أَوَّلُ ولَهُمْ خبر عَن فَأَنَّى، وَهَذَا التَّرْكِيبُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [١٣]، وَضَمِيرُ جاءَتْهُمْ عَائِدٌ إِلَى السَّاعَةَ.
[١٩]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ١٩]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)
فُرِّعَ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَالِ الْكَافِرِينَ وَمِنْ عَوَاقِبِ ذَلِكَ وَوَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ أَنْ أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّبَاتِ عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَعَلَى مَا هُوَ دَأْبُهُ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهِ وَمِنَ الْحِرْصِ عَلَى نَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَذَلِكَ الدَّأْبِ اسْتِمْطَارُ الْخَيْرَاتِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ
104
وَالتَّفْرِيعُ هَذَا مَزِيدُ مُنَاسَبَةٍ لِقَوْلِهِ آنِفًا ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١] الْآيَةَ.
فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْلَمْ كِنَايَةٌ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَعْلُومِ، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ وَعَلِمَهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً تَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ لِطَلَبِ تَحْصِيلِهِ بَلْ لِطَلَبِ الثَّبَاتِ فَهُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
[النِّسَاء: ١٣٦]. وَأَمَّا الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فَهُوَ لِطَلَبِ تَجْدِيدِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ قَدْ علمه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبْلُ وَعَمِلَهُ أَوْ هُوَ لِطَلَبِ تَحْصِيلِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ مِنْ قَبْلُ.
وَذِكْرُ الْمُؤْمِناتِ بعد لِلْمُؤْمِنِينَ اهْتِمَامٌ بِهِنَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْغَالِبَ اكْتِفَاءُ الْقُرْآنِ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَشُمُولِهِ لِلْمُؤْمِنَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ لِلْعِلْمِ بِعُمُومِ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنَ التَّكَالِيفِ.
وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنْ أَمَرَ هُنَا بِالْعِلْمِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْعَمَلِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ فَضْلِ الْعِلْمِ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ حِينَ بَدَأَ بِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ. وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ «صَحِيحِهِ» بَابَ الْعِلْمِ
قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ.
وَمَا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَ السَّيِّئَاتِ لِعِصْمَتِهِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِغْفَارٌ مِنَ الْغَفَلَاتِ وَنَحْوِهَا، وَتَسْمِيَتُهُ بِالذَّنْبِ فِي الْآيَةِ إِمَّا مُحَاكَاةٌ لِمَا كَانَ يكثر
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي)
وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُهُ فِي مَقَامِ التَّوَاضُعِ، وَإِمَّا إِطْلَاقٌ لِاسْمِ الذَّنْبِ عَلَى مَا يَفُوتُ مِنَ الِازْدِيَادِ فِي الْعِبَادَةِ مِثْلُ أَوْقَاتِ النَّوْمِ وَالْأَكْلِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا عناه
النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ (١) عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ
_________
(١) يغان، أَي يغام ويغشى. وفسروا ذَلِك بالغفلات عَن الذّكر.
105
(١).
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِذَنْبِكَ لَامُ التَّعْيِينِ بَيَّنَتْ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِفِعْلِ اسْتَغْفِرْ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَوْ بِمَعْنَى (عَنْ) وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيِ اسْتَغْفِرِ الذُّنُوبَ لِأَجْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِذُنُوبِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِأَحْوَالِ مَا تَقَدَّمَ. فَالْمُتَقَلَّبُ:
مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّقَلُّبِ، أُوثِرَ جَلْبُهُ هُنَا لِمُزَاوَجَةِ قَوْلِهِ: وَمَثْواكُمْ. وَالتَّقَلُّبُ: الْعَمَلُ الْمُخْتَلِفُ ظَاهِرًا كَانَ كَالصَّلَاةِ، أَوْ بَاطِنًا كَالْإِيمَانِ وَالنُّصْحِ.
والمثوى: الْمرجع والمثال، أَيْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَحْوَالَكُمْ جَمِيعًا مِنْ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ، وَقَدَّرَ لَهَا جَزَاءَهَا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَرَاتِبِهَا وَيَعْلَمُ مَصَائِرَكُمْ وَإِنَّمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ خَاصَّةً لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْأَسْبَابِ عَلَى مُسَبِّبَاتِهَا فَلَا تَيْأَسُوا وَلَا تُهْمِلُوا.
[٢٠، ٢١]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : الْآيَات ٢٠ الى ٢١]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ بَدَتْ قُرُونُ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا جَرَى
فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَصْفُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ أُعْقِبَ ذَلِكَ بِوَصْفِ أَجْلَى مَظَاهِرِ نِفَاقِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يُدْعَى الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْجِهَادِ فَقَدْ يَضِيقُ الْأَمْرُ بِالْمُنَافِقِينَ إِذْ كَانَ تَظَاهُرُهُمْ بِالْإِسْلَامِ سَيُلْجِئُهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ لِلْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِإِتْلَافِهِمُ النُّفُوسِ دون أَن يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ إِذْ هُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِهَا فَيُصْبِحُوا فِي حَيْرَةٍ. وَكَانَ حَالُهُمْ هَذَا مُخَالِفًا لِحَالِ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِي تَمَنَّوْا أَنْ يَنْزِلَ الْقُرْآنُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْقِتَالِ لِيُلَاقُوا الْمُشْرِكِينَ فَيَشْفُوا مِنْهُمْ غَلِيلَهُمْ، فَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ حُكِيَ تَمَنِّي الْمُؤْمِنِينَ نُزُولَ حُكْمِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ يَلُوحُ بِهِ تَمْيِيزُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَبْدُو مِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَ كُرْهَ الْقِتَالِ لَدَيْهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ.
فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْآيَةَ، وَمَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ بِذِكْرِ سَبَّبِهِ، وَأَفَادَ تَقْدِيمُهُ
_________
(١) رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد.
106
أَيْضًا تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَفَادَ ذِكْرُهُ مُقَابَلَةً بَيْنَ حَالَيِ الْفَرِيقَيْنِ جَرْيًا عَلَى سُنَنِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَمَقَالُ الَّذِينَ آمَنُوا هَذَا كَانَ سَبَبًا فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّد: ٤]، وَلِذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ الْمُؤمنِينَ هَذَا وَقع قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ:
إِمَّا لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِثْلَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨]، وَإِمَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَتَبَعًا لِذَلِكَ تَكُونُ إِذَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ظَرْفًا مُسْتَعْمَلًا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي لِأَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ قَدْ وَقَعَ، وَنَظَرُ الْمُنَافِقِينَ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا النَّظَرَ قَدْ وَقَعَ إِذْ لَا يَكُونُ ذَمُّهُمْ وَزَجْرُهُمْ قَبْلَ حُصُولِ مَا يُوجِبُهُ فَالْمَقَامُ دَالٌّ وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ.
ولَوْلا حَرْفٌ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي التَّمَنِّي، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ التَّخْصِيصُ فَأُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ التَّمَنِّي لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَسْتَلْزِمُ الْحِرْصَ وَالْحِرْصُ يَدْعُو إِلَى التَّحْضِيضِ.
وَحُذِفَ وُصْفُ سُورَةٌ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، أَيْ كَمَا تَمَنَّوُا اقْتَضَى أَنَّ الْمَسْئُولَ سُورَةٌ يُشَرَّعُ فِيهَا قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ. فَالْمَعْنَى: لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ يُذْكَرُ فِيهَا الْقِتَالُ وَفَرْضُهُ، فَحُذِفَ الْوَصْفُ إِيجَازًا. وَوَصْفُ السُّورَةِ بِ مُحْكَمَةٌ بِاعْتِبَارِ وَصْفِ آيَاتِهَا بِالْإِحْكَامِ، أَيْ عَدَمِ التَّشَابُهِ وَانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَابَلَةُ الْمُحْكَمَاتِ بِالْمُتَشَابِهَاتِ
فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧]، أَيْ لَا تَحْتَمِلُ آيَاتُ تِلْكَ السُّورَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقِتَالِ إِلَّا وُجُوبَ الْقِتَالِ وَعَدَمَ الْهَوَادَةِ فِيهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّد: ٤] الْآيَاتَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ إِجَابَةً عَنْ تَمَنِّي الَّذِينَ آمَنُوا. وَإِنَّمَا قَالَ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ لِأَنَّ السُّورَةَ لَيْسَتْ كُلُّهَا مُتَمَحِّضَةٌ لِذِكْرِ الْقِتَالِ فَإِنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ ذَوَاتُ أَغْرَاضٍ شَتَّى.
107
وَالْخِطَابُ فِي رَأَيْتَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا حقّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الْأَنْعَام: ٢٥].
والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمْ الْمُبْطِنُونَ لِلْكُفْرِ فَجَعَلَ الْكُفْرَ الْخَفِيَّ كَالْمَرَضِ الَّذِي مَقَرُّهُ الْقَلْبُ لَا يَبْدُو مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى ظَاهِرِ الْجَسَدِ، أَيْ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ. وَقَدْ غَلَبَ إِطْلَاقُ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ النِّفَاقَ مَرَضٌ نَفْسَانِيٌّ مُعْضِلٌ لِأَنَّهُ تَتَفَرَّعُ مِنْهُ فُرُوعٌ بَيَّنَّاهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠].
وَانْتَصَبَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِبَيَانِ صِفَةِ النَّظَرِ مِنْ قَوْلِهِ: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَوَجْهُ الشَّبَهِ ثَبَاتُ الْحَدَقَةِ وَعَدَمُ التَّحْرِيكِ، أَيْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمُتَحَيِّرِ بِحَيْثُ يَتَّجِهُ إِلَى صَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا يَشْتَغِلُ بِالْمَرْئِيَّاتِ لِأَنَّهُ فِي شَاغِلٍ عَنِ النَّظَرِ، وَإِنَّمَا يُوَجِّهُونَ أَنْظَارَهُمْ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَانُوا بِمَجْلِسِهِ حِينَ نُزُولِ السُّورَةِ، وَكَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى تَلَقِّي مَا يَنْطِقُ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ فَلَمَّا سَمِعُوا ذِكْرَ الْقِتَالِ بُهِتُوا، فَالْمَقْصُودُ الْمُشَابِهَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [١٩].
ومِنَ هُنَا تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيِ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْمَوْتِ، أَيْ حُضُورِ الْمَوْتِ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا التَّفْرِيعُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ.
وَلَفْظُ أَوْلَى هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي ظَاهِرِهِ اسْتِعْمَالَ التَّفْضِيلِ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ أَوْلَى لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ نَظَرُهُمْ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، أَنْ يُطِيعُوا أَمْرَ اللَّهِ وَيَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَهُوَ قَوْلُ سَمِعْنا وَأَطَعْنا [الْبَقَرَة: ٢٨٥] فَذَلِكَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا أَوْ أُمِرُوا كَمَا قَالَ
تَعَالَى:
108
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا فِي سُورَةِ النُّورِ [٥١].
وَعَلَى هَذَا الْوَجْه فتعدية فَأَوْلى بِاللَّامِ دُونَ الْبَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَنْفَعُ، فَكَانَ اجْتِلَابُ اللَّامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى النَّفْعِ. فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ [النُّور: ٣٠] وَقَوْلِهِ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: ٧٨]. وَهُوَ يَرْتَبِطُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَأَوْلى لَهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ [٣٤، ٣٥]، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَيْهِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ تَوَعُّدِهِ إِيَّاهُمْ. ثُمَّ قِيلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِنَّ أَوْلَى مَرْتَبَةٌ حُرُوفُهُ عَلَى حَالِهَا مِنَ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَأَنَّ وَزْنَهُ أَفْعَلُ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَيْلِ. فَأَصْلُ أَوْلَى: أَوْيَلُ، أَيْ أَشَدُّ وَيْلًا، فَوَقَعَ فِيهِ قَلْبٌ، وَوَزْنُهُ أَفْلَعُ. وَفِي «الصِّحَاحِ» عَنِ الْأَصْمَعِيِّ مَا يَقْتَضِي: أَنَّهُ يَجْعَلُ (أَوْلَى لَهُ) مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَقْرَبُ مَا يُهْلِكُهُ، قَالَ ثَعْلَبٌ: وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي (أَوْلَى لَهُ) أَحْسَنَ مِمَّا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ.
وَاللَّامُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِمَّا مَزِيدَةٌ، أَيْ أَوْلَاهُمُ اللَّهُ مَا يَكْرَهُونَ فَيَكُونُ مِثْلَ اللَّامِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
سَقْيًا وَرَعْيًا لِذَاكَ الْعَاتِبِ الزَّارِي وإمّا مُتَعَلقَة بِأولى عَلَى أَنَّهُ فَعْلُ مُضِيٍّ، وَعَلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ يَكُونُ قَوْلُهُ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ خَيْرٌ لَهُمْ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: الْأَمْرُ طَاعَةٌ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، أَيْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطِيعُوا.
109
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ.
تَفْرِيعٌ عَلَى وَصْفِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْهَلَعِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ إِذَا جَدَّ أَمْرُ الْقِتَالِ، أَيْ حَانَ أَنْ يُنْدَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْقِتَالِ سَيَضْطَرِبُ أَمْرُ الْمُنَافِقِينَ وَيَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا مِنْ حُضُورِ الْجِهَادِ، وَأَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يُخْلِصُوا الْإِيمَانَ وَيُجَاهِدُوا كَمَا يُجَاهِدُ الْمُسْلِمُونَ الْخُلَّصُ وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا حُضُورُ الْقِتَالِ بِدُونِ نِيَّةٍ
فَتَكُونُ عَلَيْهِمُ الْهَزِيمَةُ وَيَخْسَرُوا أَنْفُسَهُمْ بَاطِلًا، وَإِمَّا أَنْ يَنْخَزِلُوا عَنِ الْقِتَالِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ أُبَيٍّ وَأَتْبَاعُهُ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَإِذا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهَا فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا مُقَدَّرًا وَجُودُهُ، أَيْ فَإِذَا جَدَّ أَمْرُ الْقِتَالِ وَحَدَثَ.
وَجُمْلَةُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ دَلِيل جَوَاب فَإِذا لِأَنَّ إِذَا ضُمِّنَتْ هُنَا مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيْ كَذَّبُوا اللَّهَ وَأَخْلَفُوا فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ، وَاقْتِرَانُ جُمْلَةِ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَضْمِينِ إِذَا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ تَجْرِيدِهِ عَنِ الْفَاءِ إِذَا كَانَتْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ شَرْطِيَّةً أَيْضًا.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَوِ اللَّامُ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ أَمْرُ الْقِتَالِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ.
وَالْعَزْمُ: الْقَطْعُ وَتَحَقُّقُ الْأَمْرِ، أَيْ كَوْنُهُ لَا مَحِيصَ مِنْهُ. وَاسْتُعِيرَ الْعَزْمُ لِلتَّعْيِينِ وَاللُّزُومِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ بِتَشْبِيهِ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ، أَيِ الْقِتَالِ بِرَجُلٍ عَزَمَ عَلَى عَمَلٍ مَا وَإِثْبَاتُ الْعَزْمِ لَهُ تَخْيِيلَةٌ كَإِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ السَّكَّاكِيِّ فِي جَمِيعِ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ دَقِيقَةٌ لَكِنْ بِدُونِ اطراد وَلَكِن عِنْد مَا يسمح بِهِ الْمَقَامُ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» إِسْنَادَ الْعَزْمِ إِلَى الْأَمْرِ مَجَازًا عَقْلِيًّا، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُسْنَدَ لِأَصْحَابِ الْعَزْمِ عَلَى طَرِيقِ الْجُمْهُورِ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ هُنَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى حُصُولِ الْجِدِّ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لُقْمَان: ١٧] فَالْكَلَامُ فِيهَا سَوَاءٌ.
110
وَمَعْنَى صَدَقُوا اللَّهَ قَالُوا لَهُ الصِّدْقَ، وَهُوَ مُطَابَقَةُ الْكَلَامِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ لَوْ صَدَقُوا فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ مُؤْمِنُونَ، وَهُمْ إِنَّمَا كَذَّبُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَظْهَرُوا لَهُ خِلَافَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَجَعَلَ الْكَذِبَ عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ تَفْظِيعًا لَهُ وَتَهْوِيلًا لِمَغَبَّتِهِ، أَيْ لَوْ أَخْلَصُوا الْإِيمَانَ وَقَاتَلُوا بِنِيَّةِ الْجِهَادِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيَا خَيْرُ الْعِزَّةِ وَالْحُرْمَةِ وَفِي الْآخِرَةِ خَيْرُ الْجَنَّةِ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ إِنْبَاءٌ مِمَّا سَيَكُونُ مِنْهُمْ حِينَ يَجِدُّ الْجِدُّ وَيَجِيءُ أَوَانُ الْقِتَالِ وَهِيَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ فَقَدْ عَزَمَ أَمْرُ الْقِتَالِ يَوْمَ أُحُدٍ وَخَرَجَ الْمُنَافِقُونَ مَعَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي صُورَةِ الْمُجَاهِدِينَ فَلَمَّا بَلَغَ الْجَيْشُ إِلَى الشَّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ: مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيُّهَا النَّاسُ؟
وَرَجَعَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ وَكَانُوا ثُلُثَ الْجَيْشِ وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِنَحْوِ ثَلَاثِ سِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ جَوَابٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَكانَ خَيْراً يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ إِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ حَصَلَ لَهُمْ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَلَفْظُ خَيْراً ضِدُّ الشَّرِّ بِوَزْنِ فَعْلٍ، وَلَيْسَ هُوَ هُنَا بِوَزْن أفعل.
[٢٢]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢٢]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢)
مُقْتَضَى تَنَاسُقِ النَّظْمِ أَنَّ هَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [مُحَمَّد: ٢١] لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ تَوَلَّوْا عَنِ الْقِتَالِ وَانْكَشَفَ نِفَاقُهُمْ فَتَكُونُ إِتْمَامًا لِمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِمَا سَيَكُونُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا؟ وَرُبَّمَا قَالَ فِي كَلَامِهِ: وَكَيْفَ نُقَاتِلُ قُرَيْشًا وَهُمْ مِنْ قَوْمِنَا، وَكَانَ لَا يَرَى عَلَى أَهْلِ يَثْرِبَ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرَى الِاقْتِصَارَ عَلَى أَنَّهُمْ آوَوْهُ. وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ عَلَى الِالْتِفَاتِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّكْذِيبِ لِمَا سيعتذرون بِهِ لَا نخزالهم وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ
بِـ (هَلْ) الدَّالَّةِ عَلَى التَّحْقِيقِ لِأَنَّهَا فِي الِاسْتِفْهَامِ بِمَنْزِلَةِ (قَدْ) فِي الْخَبَرِ، فَالْمَعْنَى: أَفَيَتَحَقَّقُ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنَّكُمْ تُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُونَ أَرْحَامَكُمْ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَوَلَّيْتُمْ إِبْقَاءً عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى ذَوِي قَرَابَةِ أَنْسَابِكُمْ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا [الْبَقَرَة: ٢٤٦] وَهَذَا تَوْبِيخٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ [الْبَقَرَة: ٨٥]. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ تَقَعُونَ فِيمَا زَعَمْتُمُ التَّفَادِيَ مِنْهُ وَذَلِكَ بِتَأْيِيدِ الْكُفْرِ وَإِحْدَاثِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ قَوْمِكُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَالتَّوَلِّي هُنَا هُوَ الرُّجُوعُ عَنِ الْوِجْهَةِ الَّتِي خَرَجُوا لَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٤٦] وَقَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النَّجْم: ٣٣] وَقَوْلِهِ: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه: ٦٠]. وَبِمِثْلِهِ فَسَّرَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةُ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ التَّفَاسِيرِ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ التَّوَلِّيَ عَلَى أَنَّهُ مُطَاوِعُ وُلَّاهُ إِذَا أَعْطَاهُ وِلَايَةً، أَيْ وِلَايَةَ الْحُكْمِ وَالْإِمَارَةِ عَلَى النَّاسِ وَبِهِ فَسَّرَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْكَلْبِيُّ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَهَذَا بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وَمِنَ النَّظْمِ وَفِيهِ تَفْكِيكٌ لِاتِّصَالِ نَظْمِ الْكَلَامِ وَانْتِقَالٌ بِدُونِ مُنَاسَبَةٍ، وَتَجَاوَزَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فَأَخَذَ يَدَّعِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا فِيمَا يَحْدُثُ بَيْنَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي
هَاشِمٍ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الشِّيَعِ وَالْأَهْوَاءِ مِنْ تَحْمِيلِ كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ وَمِنْ قَصْرِ عُمُومَاتِهِ عَلَى بَعْضِ مَا يُرَادُ مِنْهَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ بِفَتْحِ السِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فِعْلِ عَسَى إِذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَجْهُ الْكَسْرِ أَنَّ فِعْلَهُ: عَسِيَ مِثْلُ رَضِيَ، وَلَمْ يَنْطِقُوا بِهِ إِلَّا إِذَا أُسْنِدَ هَذَا الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرٍ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الضَّمِيرِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، أَمَّا بَنُو تَمِيمٍ فَلَا يُسْنِدُونَهُ إِلَى الضَّمِيرِ الْبَتَّةَ، يَقُولُونَ: عَسَى أَن تَفعلُوا.
[٢٣]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢٣]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣)
الْإِشَارَةُ إِلَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ آنِفًا: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [مُحَمَّد: ١٦] وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّد: ٢٢] لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ اللَّعْنَةَ وَلَا أَنْ مُرْتَكِبِيهِ بِمَنْزِلَةِ
الصُّمِّ، عَلَى أَنَّ فِي صِيغَةِ الْمُضِيِّ فِي أَفْعَالِ: لَعَنَهُمْ، وَأَصَمَّهُمْ، وَأَعْمَى، مَا لَا يُلَاقِي قَوْلَهُ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ [مُحَمَّد: ٢٢] وَلَا مَا فِي حَرْفِ (إِنْ) مِنْ زَمَانِ الِاسْتِقْبَالِ.
وَاسْتُعِيرَ الصَّمَمُ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَسْمُوعَاتِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ ومواعظ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا اسْتُعِيرَ الْعَمَى هُنَا لِعَدَمِ الْفَهْمِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ لِأَنَّ حَالَ الْأَعْمَى أَنْ يَكُونَ مُضْطَرِبًا فِيمَا يُحِيطُ بِهِ لَا يَدْرِي نَافِعَهُ مِنْ ضَارِّهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ مَنْ يُرْشِدُهُ، وَكَثُرَ أَنْ يُقَالَ: أَعْمَى اللَّهُ بَصَرَهُ، مُرَادًا بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَهْدِهِ، وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ فِي مَجِيءِ تَرْكِيبِ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ مُخَالِفًا لِتَرْكِيبِ فَأَصَمَّهُمْ إِذْ لم يقل: وأعمالهم.
وَفِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَقَطِيعَةَ الْأَرْحَامِ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَهُمَا جُرْمَانِ كَبِيرَانِ يَجِبُ عَلَى الْمُؤمنِينَ اجتنابهما.
[٢٤]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢٤]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ [مُحَمَّد: ٢٣]، أَيْ هَلَّا تَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ عِوَضَ شَغْلِ بِالِهِمْ فِي مَجْلِسِكَ بِتَتَبُّعِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ بِعُقُولٍ غَيْرِ مُنْفَعِلَةٍ بِمَعَانِي الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ مَعَ فَهْمِهِ أَوْ لَا يَفْهَمُونَهُ عِنْدَ تَلَقِّيهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عَجِيبٌ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبٌ مِنْ سُوءِ عِلْمِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَمِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ سَمَاعِهِ. وَحَرْفُ
أَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ. وَالْمَعْنَى: بَلْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَقْفَالٌ وَهَذَا الَّذِي سَلَكَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٥١، ٥٢]، خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ أَوْ تَوَهَّمَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ».
وَالتَّدَبُّرُ: التَّفَهُّمُ فِي دُبُرِ الْأَمْرِ، أَيْ مَا يَخْفَى مِنْهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ دُبُرِ الشَّيْءِ، أَيْ خَلْفُهُ.
وَالْأَقْفَالُ: جَمْعُ قُفْلٍ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ إِذْ شُبِّهَتِ الْقُلُوبُ، أَيِ الْعُقُولُ فِي عَدَمِ إِدْرَاكِهَا الْمَعَانِيَ بِالْأَبْوَابِ أَوِ الصَّنَادِيقِ الْمُغْلَقَةِ، وَالْأَقْفَالُ تَخْيِيلٌ كَالْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ
وَتَنْكِيرُ قُلُوبٍ لِلتَّنْوِيعِ أَوِ التَّبْعِيضِ، أَيْ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْقُلُوبِ أَقْفَالٌ. وَالْمَعْنَى: بَلْ بَعْضُ الْقُلُوبِ عَلَيْهَا أَقْفَالٌ. وَهَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ لِأَنَّ إِثْبَاتَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقُلُوبِ فِي أَثْنَاءِ التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ تَدَبُّرِ هَؤُلَاءِ الْقُرْآنَ يَدُلُّ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ أَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقُلُوبِ ذَوَاتِ الْأَقْفَالِ. فَكَوْنُ قُلُوبِهِمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِهِمْ. وَيَدْنُو مِنْ هَذَا قَوْلُ لَبِيدٍ:
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضهَا أَو يتَعَلَّق بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يُرِيدُ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ قَوْلِهِ: تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ الْبَيْتَ، أَيْ أَنَا تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ.
وَإِضَافَةُ (أَقْفَالٍ) إِلَى ضَمِيرِ قُلُوبٍ نَظْمٌ بَدِيعٌ أَشَارَ إِلَى اخْتِصَاصِ الْأَقْفَالِ بِتِلْكَ الْقُلُوبِ، أَيْ مُلَازَمَتِهَا لَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا قاسية.
[٢٥]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥)
لَمْ يَزَلِ الْكَلَامُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فَالَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مُنَافِقُونَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَقًّا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضُعَفَاءَ الْإِيمَانِ قَلِيلِي الِاطْمِئْنَانِ وَهُمُ الَّذِينَ مَثَّلَهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧] بِقَوْلِهِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ الْآيَةَ.
114
وَالِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: تَمْثِيلٌ لِلرَّاجِعِ إِلَى الْكفْر بعد لإيمان بِحَالِ مَنْ سَارَ لِيَصِلَ إِلَى مَكَانٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فِي طَرِيقِهِ. وَلَمَّا كَانَ الِارْتِدَادُ سَيْرًا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَانَتْ وَرَاءَ السَّائِرِ جُعِلَ الِارْتِدَادُ إِلَى الْأَدْبَارِ، أَيْ إِلَى جِهَةِ الْأَدْبَارِ. وَجِيءَ بِحَرْفِ عَلى لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِارْتِدَادَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ جِهَةِ الْأَدْبَارِ كَمَا يُقَالُ: عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَالْهُدَى: الْإِيمَانُ، وَتَبَيَّنَ الْهُدَى لَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْه تبيّن حَقِيقِيّ لِأَنَّهُمْ مَا آمَنُوا إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ هُدَى الْإِيمَانِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ لَيْسَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصِّلَةِ بَعْضُ الَّذِينَ كَانَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ، عُبِّرَ عَنْ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ مُشَارَكَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحْوَالِهِمْ فِي مجْلِس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّلَاةِ مَعَهُ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَالْمَوَاعِظِ بِالِارْتِدَادِ لِأَنَّهُ مُفَارَقَةٌ لِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الطَّيِّبَةِ، أَيْ رَجَعُوا إِلَى أَقْوَالِ الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ وَذَلِكَ إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، وَتَبَيُّنُ الْهُدَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَوْنُهُ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ بَيِّنٌ لَهُمْ لِوُضُوحِ أَدِلَّتِهِ وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ، فَهَذَا التَّبَيُّنُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢]، أَيْ لَيْسَ مَعَهُ مَا يُوجِبُ رَيْبَ الْمُرْتَابِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّ الْقِتَالَ حَقٌّ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، وَعَلَيْهِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ:
الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ انْخَزَلُوا يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَالِارْتِدَادُ عَلَى الْأَدْبَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَقِيقَةٌ لِأَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ مَوْقِعِ الْقِتَالِ بَعْدَ أَنْ نَزَلُوا بِهِ فَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ خَلْفَهُمْ. وَهَذَا عِنْدِي أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ وَأَلْيَقُ بِقَوْلِهِ بَعْدُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ إِلَى قَوْله: وَأَدْبارَهُمْ [مُحَمَّد: ٢٦، ٢٧]. وَالْهُدَى عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ الْحَقُّ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا عَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ.
وَأُوثِرَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ (إِنَّ) جُمْلَةً لِيَتَأَتَّى بِالْجُمْلَةِ اشْتِمَالُهَا عَلَى خَصَائِصِ الِابْتِدَاءِ بِاسْمِ الشَّيْطَانِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ فِي غَرَضِ ذَمِّهِمْ، وَأَنْ يُسْنَدَ إِلَى اسْمِهِ مُسْنَدٌ فِعْلِيٌّ لِيُفِيدَ تَقَوِّيَ الْحُكْمِ نَحْوُ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ.
115
وَالتَّسْوِيلُ: تَسْهِيلُ الْأَمْرِ الَّذِي يُسْتَشْعَرُ مِنْهُ صُعُوبَةٌ أَوْ ضُرٌّ وَتَزْيِينُ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ.
وَالْإِمْلَاءُ: الْمَدُّ وَالتَّمْدِيدُ فِي الزَّمَانِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِبْقَاءِ عَلَى الشَّيْءِ كَثِيرًا، أَيْ أَرَاهُمُ الِارْتِدَادَ حَسَنًا دَائِمًا كَمَا حَكَى عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى [طه: ١٢٠]، أَيْ أَنَّ ارْتِدَادَهُمْ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَمْلى لَهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ إِلَى الْمَجْهُولِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيِ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَنَا أُمْلِي لَهُمْ فَيَكُونُ الْكَلَامُ وَعِيدًا، أَيْ أَنَا أُؤَخِّرُهُمْ قَلِيلًا ثمَّ أعاقبهم.
[٢٦]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢٦]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ إِذِ التَّقْدِيرُ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ مَظْهَرِ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لَهُمُ الِارْتِدَادَ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، فَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَدْرَجَهُمْ إِلَى الضلال عِنْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى فَسَوَّلَ لَهُمْ أَنْ يُوَافِقُوا أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مُسَوِلًا أَنَّ تِلْكَ الْمُوَافَقَةَ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ لَا تَنْقُضُ اهْتِدَاءَهُمْ فَلَمَّا وَافَقُوهُمْ وَجَدُوا حَلَاوَةَ مَا أَلِفُوهُ مِنَ الْكُفْرِ فِيمَا وَافَقُوا فِيهِ أَهْلَ الْكُفْرِ فَأَخَذُوا يَعُودُونَ إِلَى الْكُفْرِ الْمَأْلُوفِ حَتَّى ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ. وَهَذَا شَأْنُ النَّفْسِ فِي مُعَاوَدَةِ مَا تُحِبُّهُ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ عَنْهُ إِنْ كَانَ الِانْقِطَاعُ قَرِيبَ الْعَهْدِ.
فَمَعْنَى قالُوا: قَالُوا قَوْلًا عَنِ اعْتِقَادٍ وَرَأْيٍ، وَإِنَّمَا قَالُوا: فِي بَعْضِ الْأَمْرِ احْتِرَازًا لِأَنْفُسِهِمْ إِذَا لَمْ يُطِيعُوا فِي بعض.
ولِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ هُمُ الَّذِينَ كَرِهُوا الْقُرْآنَ وَكَفَرُوا، وَهُمْ: إِمَّا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ٩] وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ صِلَةٌ بِأَهْلِ يَثْرِبَ فَلَمَّا هَاجر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ اشْتَدَّ تَعَهُّدُ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَصْحَابِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ لِيَتَطَلَّعُوا أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّهُمْ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ كَانُوا يَكِيدُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلثَّأْرِ مِنْهُمُ الَّذِي أَنْجَزُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَإِمَّا الْيَهُودُ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: ١١].
فَالْمُرَادُ بِ بَعْضِ الْأَمْرِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَحْمَلِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ [مُحَمَّد: ٢٥] إِفْشَاءُ بَعْضِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَإِشْعَارُهُمْ بِوَفْرَةِ عَدَدِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقَاتِلُونَ لِكَرَاهَتِهِمُ الْقِتَالَ. وَالْمُرَادُ بِ بَعْضِ الْأَمْرِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بَعْضُ أَمْرِ الْقِتَالِ، يَعْنُونَ تِلْكَ الْمَكِيدَةُ الَّتِي دَبَّرُوهَا لِلِانْخِزَالِ عَنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْأَمْرُ هُوَ: شَأْنُ الشِّرْكِ وَمَا يُلَائِمُ أَهْلَهُ، أَيْ نُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْكُفْرِ وَلَا نُطِيعُكُمْ فِي جَمِيع الشؤون لِأَنَّ ذَلِكَ يَفْضَحُ نِفَاقَهُمْ، أَوِ الْمُرَادُ فِي بَعْضِ مَا تَأْمُرُونَنَا بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ سِرًّا فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِسْرارَهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ سِرٍّ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مصدر أسرّ.
[٢٧]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢٧]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧)
الْفَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ [مُحَمَّد: ٢٥] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ [مُحَمَّد: ٢٥] بِنَاءً عَلَى الْمَحْمَلِ الْأَوَّلِ لِلِارْتِدَادِ فَيَكُونُ التَّفْرِيعُ لِبَيَانِ مَا سَيَلْحَقُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ اسْتِهْلَالٌ لِمَا يَتَوَاصَلُ مِنْ عَذَابِهِمْ عَنْ مَبْدَأِ الْمَوْتِ إِلَى اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْعَذَابِ الْخَالِدِ.
117
وَيَجُوزُ عَلَى الْمَحْمَلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ الِارْتِدَادُ عَنِ الْقِتَالِ وَتَكُونُ الْفَاءُ فَصِيحَةً فَيُفِيدُ: إِذَا كَانُوا فَرَّوا مِنَ الْقِتَالِ هَلَعًا وَخَوْفًا فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، أَيْ كَيْفَ هَلَعُهُمْ وَوَجَلُهُمُ الَّذِي ارْتَدُّوا بِهِمَا عَنِ الْقِتَالِ. وَهَذَا يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ لَا مَحَالَةَ، وَثَانِيهُمَا أَنَّ مَوْتَتَهُمْ يَصْحَبُهَا تَعْذِيبٌ.
فَالْأَوَّلُ مَأْخُوذٌ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان:
١٦٨] وَقَوْلِهِ: وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التَّوْبَة:
٨١].
وَالثَّانِي هُوَ صَرِيحُ الْكَلَامِ وَهُوَ وَعِيدٌ لِتَعْذِيبٍ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَالْمَقْصُودُ: وَعِيدُهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيُعَجَّلُ لَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ أَوَّلِ مَنَازِلَ الْآخِرَةِ وَهُوَ حَالَةُ الْمَوْتِ. وَلَمَّا جُعِلَ هَذَا الْعَذَابُ مُحَقَّقًا وُقُوعُهُ رُتِّبَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَالِهِمُ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى تَعْجِيبِ الْمُخَاطَبِ مِنْ حَالِهِمْ عِنْدَ الْوَفَاةِ، وَهَذَا التَّعْجِيبُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهَا حَالَةٌ فَظِيعَةٌ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ إِذْ لَا يُتَعَجَّبُ إِلَّا مِنْ أَمْرٍ غَيْرِ مَعْهُودٍ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى الْفَظَاعَةِ.
وإِذا مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ الِاسْتِفْهَامِ، تَقْدِيرُهُ: كَيْفَ حَالُهُمْ أَوْ عَمَلُهُمْ حِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
وَكَثُرَ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ كَيْفَ فِي أَمْثَالِ هَذَا مُقَدَّرًا مُؤَخَّرًا عَنْ كَيْفَ وَعَنْ إِذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النِّسَاء: ٤١]. وَالتَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ وَيَحْتَالُونَ.
وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ كَيْفَ فِي مِثْلِهِ ظَرْفًا وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْكَافِيَةِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْفِرَارَ مِنَ الْحَذْفِ.
وَجُمْلَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ حَالٌ مِنَ الْمَلائِكَةُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ: وَعِيدُهُمْ بِهَذِهِ الْمِيتَةِ الْفَظِيعَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةَ تَضْرِبُ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، أَيْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمُ الَّتِي وَقَوْهَا مِنْ ضَرْبِ السَّيْفِ
118
حِينَ فَرُّوا مِنَ الْجِهَادِ فَإِنَّ الْوُجُوهَ مِمَّا يُقْصَدُ بِالضَّرْبِ بِالسُّيُوفِ عِنْدَ الْقِتَالِ قَالَ الْحَرِيشُ الْقُرَيْعِيُّ، أَوِ الْعَبَّاس بن مِدْرَاس:
نُعَرِّضُ لِلسُّيُوفِ إِذَا الْتَقَيْنَا وُجُوهًا لَا تُعَرَّضُ لِلنِّظَامِ
وَيَضْرِبُونَ أَدْبَارَهُمُ الَّتِي كَانَتْ مَحَلَّ الضَّرْبِ لَوْ قَاتَلُوا، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ لَوْ قَاتَلُوا لَفَرُّوا فَلَا يَقَعُ الضَّرْبُ إِلَّا فِي أدبارهم.
[٢٨]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢٨]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)
الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ الْفَظِيعِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ [مُحَمَّد: ٢٧] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَاتِّبَاعُهُمْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ: هُوَ اتِّبَاعُهُمُ الشِّرْكَ. وَالسُّخْطُ مستعار لعدم الرضى بِالْفِعْلِ. وَكَرَاهَتُهُمْ رِضْوَانَ اللَّهِ: كَرَاهَتُهُمْ أَسْبَابَ رِضْوَانِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ.
وَفِي ذِكْرِ اتِّبَاعِ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرَاهَةَ رِضْوَانِهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ مَرَّتَيْنِ لِلْمُضَادَّةِ بَيْنَ السُّخْطِ وَالرِّضْوَانِ، وَالِاتِّبَاعِ وَالْكَرَاهِيَةِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرَاهَتِهِمْ رِضْوَانَهُ مَعَ إِمْكَانِ الِاجْتِزَاءِ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ضَرْبَ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَ هَؤُلَاءِ مُنَاسِبٌ لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى مَا أَسْخَطَ اللَّهَ، وَأَنَّ ضَرْبَهُمْ أَدْبَارَهُمْ مُنَاسِبٌ لِكَرَاهَتِهِمْ رِضْوَانَهُ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ تَسْتَلْزِمُ الْإِعْرَاضَ وَالْإِدْبَارَ، فَفِي الْكَلَامِ أَيْضًا مُحَسِّنُ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ. فَكَانَ ذَلِكَ التَّعْذِيبُ مُنَاسِبًا لِحَالَيْ تَوَقِّيهِمْ فِي الْفِرَارِ مِنَ الْقِتَالِ وَلِلسَّبَبَيْنِ الْبَاعِثَيْنِ عَلَى ذَلِكَ التَّوَقِّي.
وَفَرَّعَ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وكراهتهم رضوانه قَوْله: فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ فَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرَاهَتُهُمْ رِضْوَانَهُ سَبَبًا فِي الْأَمْرَيْنِ: ضَرْبِ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ الْوَفَاةِ، وَإِحْبَاطِ أَعْمَالِهِمْ.
وَالْإِحْبَاطُ: إِبْطَالُ الْعَمَلِ، أَيْ أَبْطَلَ انْتِفَاعَهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَوْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَمِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ فِي أول السُّورَة.
[٢٩]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢٩]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩)
انْتِقَالٌ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ إِلَى الْإِنْذَارِ بِأَنَّ اللَّهَ مطلع رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُضْمِرُهُ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ أَسْرَارَهُمْ غَيْرُ خَافِيَةٍ فَيُوقِنُوا أَنَّهُمْ يَكُدُّونَ عُقُولَهُمْ فِي تَرْتِيبِ الْمَكَائِدِ بِلَا طَائِلٍ وَذَلِكَ خَيْبَةٌ لِآمَالِهِمْ.
وأَمْ مُنْقَطِعَةٌ فِي مَعْنَى (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدِّرُ بَعْدَ أَمْ لِلْإِنْكَارِ. وحرف (لن) لتأييد النَّفْيِ، أَيْ لَا يَحْسَبُونَ انْتِفَاءَ إِظْهَارِ أَضْغَانِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا انْتَفَى ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْضَحَ نِفَاقَهُمْ.
وَاسْتُعِيرَ الْمَرَضُ إِلَى الْكُفْرِ بِجَامِعِ الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِهِ، وَلِكَوْنِ الْكُفْرِ مَقَرُّهُ الْعَقْلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقَلْبِ كَانَ ذِكْرُ الْقُلُوبِ مَعَ الْمَرَضِ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ الْقَلْبَ مِمَّا يُنَاسِبُ الْمَرَضَ الْخَفِيَّ إِذْ هُوَ عُضْوٌ بَاطِنٌ فَنَاسَبَ الْمَرَضَ الْخَفِيَّ.
وَالْإِخْرَاجُ أُطْلِقَ عَلَى الْإِظْهَارِ وَالْإِبْرَازِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَن الْإِخْرَاج اسْتِدْلَال شَيْءٍ مِنْ مكمنه، فاستعير للإعلام بِخَبَرٍ خَفِيٍّ.
وَالْأَضْغَانُ: جَمْعُ ضِغْنٍ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْحِقْدُ وَالْعَدَاوَةُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُخْرِجُهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ وَكَانَ الْعَرَبُ يَجْعَلُونَ الْقُلُوبَ مَقَرَّ الْأَضْغَانِ قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ الْمِفْتَاحِ لِلسَّكَّاكِيِّ وَلَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ:

[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣٠]

وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠)
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ.
كَانَ مَرَضُ قُلُوبِهِمْ خَفِيًّا لِأَنَّهُمْ يُبَالِغُونَ فِي كِتْمَانِهِ وَتَمْوِيهِهِ بِالتَّظَاهُرِ بِالْإِيمَانِ، فَذكر الله لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا فَيَعْرِفُ ذَوَاتَهُمْ بِعَلَامَاتِهِمْ.
وَالسِّيمَى بِالْقَصْرِ: الْعَلَامَةُ الْمُلَازِمَةُ، أَصْلُهُ: وِسْمَى بِوَزْنِ فِعْلَى مَنِ الْوَسْمِ وَهُوَ جَعْلُ سِمَةٍ لِلشَّيْءِ، وَهُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ. فَهُوَ مِنَ الْمِثَالِ الْوَاوِيِّ الْفَاءُ حُوِّلَتِ الْوَاوُ مِنْ مَوْضِعِ فَاءِ الْكَلِمَةِ فَوُضِعَتْ فِي مَكَانِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ وَحُوِّلَتْ عَيْنُ الْكَلِمَةِ إِلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ فَصَارَتْ سِوْمَى فَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٣].
وَالْمَعْنَى: لَأَرَيْنَاكَ أَشْخَاصَهُمْ فَعَرَفْتَهُمْ، أَوْ لَذَكَرْنَا لَكَ أَوْصَافَهُمْ فَعَرَفْتَهُمْ بِهَا ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ شَاءَ ذَلِكَ وأراهم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْ أَنَسٍ «مَا خَفِيَ عَلَى النَّبِيءِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ» ذَكَرَهُ الْبَغْوِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ بِدُونِ سَنَدٍ. وَمِمَّا يُرْوَى عَنْ حُذَيْفَةَ مَا يَقْتَضِي أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَهُ بِالْمُنَافِقِينَ أَوْ بِبَعْضِهِمْ، وَلَكِنْ إِذَا صَحَّ هَذَا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِإِجْرَائِهِمْ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ قَالَ هَذَا إِكْرَاما لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُطْلِعْهُ عَلَيْهِمْ.
وَاللَّامُ فِي لَأَرَيْناكَهُمْ لَامُ جَوَابِ لَوْ الَّتِي تُزَادُ فِيهِ غَالِبًا. وَاللَّامُ فِي فَلَعَرَفْتَهُمْ تَأْكِيدٌ لِلَّامِ لَأَرَيْناكَهُمْ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ تَفَرُّعِ الْمعرفَة على الإراءة.
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.
هَذَا فِي مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ مِنْ عَدَمِ وُقُوع الْمَشِيئَة لإراءته إِيَّاهُمْ بِنُعُوتِهِمْ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ نُرِكَ إِيَّاهُمْ بِسِيمَاهُمْ فَلَتَقَعَنَّ مَعْرِفَتُكَ بِهِمْ مِنْ لَحْنِ كَلَامِهِمْ بِإِلْهَامٍ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي علم رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ لَحْنِ كَلَامِهِمْ
121
فَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا لَحَنَ فِي قَوْلِهِ، وَهُمْ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنَ اللَّحْنِ فِي قَوْلِهِ، فَمَعْرِفَةُ الرَّسُولِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَاصِلَةٌ وَإِنَّمَا تَرَكَ اللَّهُ تَعْرِيفَهُ إِيَّاهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَوَكَلَهُ إِلَى مَعْرِفَتِهِمْ بِلَحْنِ قَوْلِهِمْ إِبْقَاءً عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْخَلْقِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ نَاشِئَةٌ عَنِ الْحِكْمَةِ فَلَمَّا أُرِيدَ تكريم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاعِهِ عَلَى دَخَائِلِ الْمُنَافِقِينَ سَلَكَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ الرَّمْزِ.
وَاللَّامُ فِي وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ لَامُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ.
وَلَحْنُ الْقَوْلِ: الْكَلَامُ الْمُحَالُ بِهِ إِلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ لِيَفْطِنَ لَهُ مَنْ يُرَادُ أَنْ يَفْهَمَهُ دُونَ أَنْ
يَفْهَمَهُ غَيْرُهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ أَوْ تَوْرِيَةٌ أَوْ أَلْفَاظٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهَا بَيْنَ شَخْصَيْنِ أَوْ فِرْقَةٍ كَالْأَلْفَاظِ الْعَلْمِيَّةِ قَالَ الْقَتَّالُ الْكِلَائِيُّ:
الضَّارِبِينَ بِكُلِّ أَبْيَضَ مِخْذَمِ وَالطَّاعِنِينَ مجامع الأضغان
وَلَقَدْ وَحَيْتُ لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوا وَلَحَنْتُ لَحْنًا لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ
كَانَ الْمُنَافِقُونَ يخاطبون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامٍ تَوَاضَعُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُهُمْ بِظَاهِرِ كَلَامِهِمْ فَنَبَّهَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَكَانَ بَعْدَ هَذَا يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ إِذَا سَمِعَ كَلَامَهُمْ.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ.
تَذْيِيلٌ، فَهُوَ لِعُمُومِهِ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْلِيمُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ الْوَعِيدُ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَالْوَعْدُ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَتَنْبِيهٌ لِأَهْلِ النِّفَاقِ بِأَنَّ اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَفْضَحَ نِفَاقَهُمْ كَمَا قَالَ آنِفًا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ [مُحَمَّد: ٢٩].
وَاجْتِلَابُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ بذلك مُسْتَمر.
122

[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣١]

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٠]. وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الِاحْتِرَاسِ مِمَّا قَدْ يَتَوَهَّمُ السَّامِعُونَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّكْلِيفِ.
وَوَجْهُ هَذَا الِاحْتِرَاسِ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ تَقَعَ وَيَتَعَلَّقُ بِهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا فَإِنَّهَا سَتَقَعُ وَيَتَعَلَّقُ بِعَزْمِ النَّاسِ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَةِ التَّكَالِيفِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَمِنْ عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ كُفْرًا وَعِنَادًا، فَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ التَّكَالِيفِ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ عِلْمِ اللَّهِ بِأَحْوَالِ النَّاسِ وَتَقَدُّمُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَلَمَّا
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ لِكُلِّ عَبْدٍ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ النَّارِ. فَقَالُوا أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى مَا كُتِبَ لَنَا؟ قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَقَرَأَ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى
[اللَّيْل: ٥- ١٠] »
.
وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ وَتَعَرُّفُ حَالِ الشَّيْءِ. وَالْمُرَادُ بِالِابْتِلَاءِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي التَّكْلِيفِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي وَالْكَافِرُ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ ابْتِلَاءً عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِابْتِلَاءُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقَامَةَ مَصَالِحِ النَّاسِ وَدَفْعَ الْفَسَادِ عَنْهُمْ لِتَنْظِيمِ أَحْوَالِ
حَيَاتِهِمْ ثُمَّ ليترتب عَلَيْهِ مِثَال الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ مُبَيِّنًا لِأَحْوَالِ نُفُوسِ النَّاسِ فِي الِامْتِثَالِ وَمُمَحِّصًا لِدَعَاوِيهِمْ وَكَاشِفًا عَنْ دَخَائِلِهِمْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يُشْبِهُ الِابْتِلَاءَ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِهِمْ، وَلَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ لِلْعِيَانِ لِلنَّاسِ إِلَّا عِنْدَ تَلَقِّي التَّكَالِيفِ فَأَشْبَهَتْ الِاخْتِبَارَ، فَإِطْلَاقُ اسْمِ الِابْتِلَاءِ عَلَى التَّكْلِيفِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَتَسْمِيَةُ مَا يَلْزَمُ التَّكْلِيفَ مِنْ إِظْهَارِ أَحْوَالِ النُّفُوسِ ابْتِلَاءً اسْتِعَارَةٌ، فَفِي قَوْلِهِ:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَاسْتِعَارَةٌ.
وحَتَّى حَرْفُ انْتِهَاءٍ فَمَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهِيَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ تَشْبِيهًا لِعِلَّةِ الْفِعْلِ بِغَايَتِهِ فَإِنَّ غَايَةَ الْفِعْلِ بَاعِثٌ لِفَاعِلِ الْفِعْلِ فِي الْغَالِبِ، فَلِذَلِكَ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ حَتَّى بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧].
123
فَالْمَعْنَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ لِنَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ انْتِهَاءَ الْبَلْوَى عِنْدَ ظُهُورِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْهُمْ وَالصَّابِرِينَ.
وَعِلَّةُ الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُ انْعِكَاسُهَا، أَيْ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْفِعْلِ عِلَّةٌ غَيْرُهَا فَلِلتَّكْلِيفِ عِلَلٌ وَأَغْرَاضٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا أَنْ تَظْهَرَ حَالُ النَّاسِ فِي قَبُولِ التَّكْلِيفِ ظُهُورًا فِي الدُّنْيَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُعَامَلَاتٌ دُنْيَوِيَّةٌ.
وَعِلْمُ اللَّهِ الَّذِي جَعَلَ عِلَّةً لِلْبَلْوِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَشْيَاءِ بَعْدَ وُقُوعِهَا الْمُسَمَّى عِلْمُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَنْ سَيُجَاهِدُ وَمَنْ يَصْبِرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْلُوَهُمْ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عِلْمُ غَيْبٍ لِأَنَّهُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَعْلُومِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ حَتَّى نَعْلَمَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى حَتَّى نُظْهِرَ لِلنَّاسِ الدَّعَاوِيَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلَةِ، فَالْعِلْمُ كِنَايَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الشَّيْءِ الْمَعْلُومِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ إِظْهَارِهِ لِلْغَيْرِ كَمَا هُنَا أَوْ لِلْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يخْطر بَيْننَا لَا علم مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
أَرَادَ لِيُظْهِرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ شُجَاعٌ وَيَظْهَرُ مَنْ هُوَ مِنَ الْقَوْمِ جَبَانٌ، فَاللَّهُ شَرَعَ الْجِهَادَ لِنَصْرِ الدِّينِ وَمِنْ شَرْعِهِ يَتَبَيَّنُ مَنْ يُجَاهِدُ وَمَنْ يَقْعُدُ عَنِ الْجِهَادِ، وَيَتَبَيَّنُ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْحَرْبِ وَمَنْ يَنْخَزِلُ وَيَفِرُّ، فَلَا تَرُوجُ عَلَى النَّاسِ دَعْوَى الْمُنَافِقِينَ صِدْقَ الْإِيمَانِ وَيَعْلَمُ النَّاسَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.
وَبَلْوُ الْإِخْبَارِ: ظُهُورُ الْأُحْدُوثَةِ مِنْ حُسْنِ السُّمْعَةِ وَضِدِّهِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِ الْأُصُولِيِّينَ تَرَتَّبَ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ عَاجِلًا، وَهُوَ كِنَايَةٌ أَيْضًا عَنْ أَحْوَالِ أَعْمَالِهِمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ إِنَّمَا هِيَ أَخْبَارٌ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ عُطِفَتْ عَلَى قَوْلِهِ: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ. وَإِنَّمَا أُعِيدَ عطف فعل نَبْلُوَا عَلَى فِعْلِ نَعْلَمَ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ أَخْبارَكُمْ بِالْوَاوِ عَلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي لَنَبْلُوَنَّكُمْ وَلَا يُعَاد نَبْلُوَا، فَالْعُدُولُ عَنْ مُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّظْمِ إِلَى هَذَا التَّرْكِيبِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بلو لأخبار لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ بَلْوِ أَعْمَالِهِمْ وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَلْوِ ذَوَاتِهِمْ، فَذِكْرُهُ كَذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ إِذْ تَعَلَّقَ الْبَلْوُ الْأَوَّلُ بِالْجِهَادِ وَالصَّبْرِ، وَتَعَلَّقَ
124
الْبَلْوُ الثَّانِي بِالْأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ تَأْكِيدُ الْبَلْوِ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وَنَبْلُوَا بِالنُّونِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ تِلْكَ الْأَفْعَالَ الثَّلَاثَةَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالضَّمَائِرُ عَائِدَةٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُور وَنَبْلُوَا بِفَتْحِ الْوَاوِ عَطْفًا عَلَى نَعْلَمَ. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِسُكُونِ الْوَاوِ عَطْفًا على وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ.
[٣٢]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢)
الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَذْكُورُونَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِيمَا بَعْدُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي جَرَى فِيهَا ذِكْرَ الْكَافِرِينَ، أَيِ الْكُفَّارُ الصُّرَحَاءُ عَادَ الْكَلَامُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُخْفُونَ الْكُفْرَ، عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ لِتَهْوِينِ حَالِهِمْ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ، فَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَمَرَ بِضَرْبِ رِقَابِهِمْ وَأَنَّ التَّعْسَ لَهُمْ وَحَقَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ قُرًى هِيَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ، بَعْدَ ذَلِكَ ثُنِيَ عِنَانُ الْكَلَامِ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْضًا لِيُعَرِّفَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْمَآزِقِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ لَا يَلْحَقُهُمْ مِنْهُمْ أَدْنَى ضُرٍّ، وَلِيَزِيدَ وَصْفَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ شاقّوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهِيَ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّد:
٣٥]. وَفَعْلُ شَاقُّوا مُشْتَقٌّ مِنْ كَلِمَةِ شِقٍّ بِكَسْرِ الشِّينِ وَهُوَ الْجَانِبُ، وَالْمُشَاقَّةُ الْمُخَالَفَةُ، كُنِّيَ بِالْمُشَاقَّةِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَقِرَّ بِشِقٍّ مُخَالِفٌ لِلْمُسْتَقَرِّ بِشِقٍّ آخَرَ فَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ، فَلِذَلِكَ صِيغَتْ مِنْهُ صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ.
وَتَبَيُّنُ الْهُدَى لَهُمْ: ظُهُورُ مَا فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ إِذَا نُبِّهَتْ إِلَيْهِ، وَظُهُورُ أَنَّ أَمْرَ الْإِسْلَامِ فِي ازْدِيَادٍ وَنَمَاءٍ، وَأَنَّ أُمُورَ الْآخَرِينَ فِي إِدْبَارِ، فَلَمْ
يَرْدَعْهُمْ ذَلِكَ عَنْ مُحَاوَلَةِ الْإِضْرَار بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: ٤١]. فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَهُودُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرُ، وَعَلَيْهِ فمشاقتهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشَاقَّةٌ خَفِيَّةٌ مُشَاقَّةُ كَيْدٍ وَمَكْرٍ، وَتَبَيُّنُ الْهُدَى لَهُمْ ظُهُورُ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمَوْعُودُ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِغَزْوِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ.
وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِ يَضُرُّوا وَالتَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ، أَيْ لَا يَضُرُّونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ اللَّهَ أَقَلَّ ضُرٍّ. وَإِضْرَارُ اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ إِضْرَارُ دِينِهِ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ وَالتَّشْرِيفِ لِهَذَا الدِّينِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى.
وَالْإِحْبَاطُ: الْإِبْطَالُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَمَعْنَى إِبْطَالُ أَعْمَالِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِأَعْمَالِهِمْ فِي مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ يلطف بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بِتَيْسِيرِ أَسْبَابِ نَصْرِهِمْ وَانْتِشَارِ دِينِهِ، فَلَا يَحْصُلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ لِلصَّدِّ وَالْمُشَاقَّةِ عَلَى طَائِلٍ. وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١].
وَحَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ هُنَا لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الْإِحْبَاطِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُحْبِطُ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْآنِ إِذْ لَا يُعْجِزُهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَرَصَّدَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلَ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ مِثْلُ مَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: ٩٨].
[٣٣]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ [مُحَمَّد:
٣٢]، وَبَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [مُحَمَّد: ٣٤] وُجِّهَ بِهِ
126
الْخِطَابُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْرِ بِطَاعَةِ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجَنُّبِ مَا يُبْطِلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ اعْتِبَارًا بِمَا حُكِيَ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ومشاقة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَوَصْفُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مُقَابِلُ وَصْفِ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [مُحَمَّد: ٣٢]، وَطَاعَةُ اللَّهِ مُقَابِلُ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ ضِدُّ مشاقة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّهْيُ عَنْ إِبْطَالِ الْأَعْمَالِ ضِدُّ بُطْلَانِ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا. فطاعة
الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا هِيَ امْتِثَالُ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ دَاخِلًا تَحْتَ التَّشْرِيعِ فَطَاعَةُ أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ طَاعَةُ انْتِصَاحٍ وَأَدَبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَرِيرَةَ لَمْ تُطِعْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُرَاجَعَةِ زَوْجِهَا مُغِيثٍ لَمَّا عَلِمَتْ أَنَّ أَمْرَهُ إِيَّاهَا لَيْسَ بِعَزْمٍ.
وَالْإِبْطَالُ: جَعْلُ الشَّيْءِ بَاطِلًا، أَيْ لَا فَائِدَةَ مِنْهُ، فَالْإِبْطَالُ تَتَّصِفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَوْجُودَةُ.
وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ إِبْطَالِهِمُ الْأَعْمَالَ: النَّهْيُ عَنْ أَسْبَابِ إِبْطَالِهَا، فَهَذَا مَهْيَعُ قَوْلِهِ:
وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ. وَتَسْمَحُ مَحَامِلُهُ بِأَنْ يَشْمَلَ النَّهْيَ وَالتَّحْذِيرَ عَنْ كُلِّ مَا بَيَّنَ الدِّينُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ لِلْعَمَلِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا مِثْلَ الرِّدَّةِ وَمِثْلَ الرِّيَاءِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ ثَوَابَهُ.
وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: ٢٦٤]. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ ارْتِكَابُ الْفَوَاحِشِ مُبْطِلًا لِثَوَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَيَحْمِلُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا بَلَغَهَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَقَدَ عَقْدًا تَرَاهُ عَائِشَةُ حَرَامًا: أَخْبَرُوا زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتْرُكْ فَعْلَهُ هَذَا وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ التَّحْذِيرَ وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ الْإِحْبَاطِ بِجِهَادِهِ وَإِنَّمَا عَلِمَتْ أَنَّهُ كَانَ أَنْفَسُ عَمَلٍ عِنْدَهُ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ: لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ بِالْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ. ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِيعَابِ» :«أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ غَزَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَغَزَوْتُ مِنْهَا مَعَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً. وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَفْهَامِ فِي الْمَعْنِيِّ بِإِبْطَالِ الْأَعْمَالِ وَمَا يُبْطِلُهَا وَأَحْسَنُ
127
أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ حَسَنَاتِنَا إِلَّا مَقْبُولًا حَتَّى نَزَلَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ، فَقُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ الْمُوجِبَاتُ وَالْفَوَاحِشُ حَتَّى نَزَلَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨] فَكَفَفْنَا عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ وَكُنَّا نَخَافُ عَلَى مَنْ أَصَابَ الْكَبَائِرَ وَنَرْجُو لِمَنْ لم يصبهَا» اهـ. فَأَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ مَحَامِلُ مُحْتَمَلَةٌ لَا جَزْمَ فِيهَا.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ لَا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بِالْمَنِّ وَقَالَ: هَذَا خِطَابٌ لِقَوْمٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَسْلَمُوا وَقَالُوا لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ آثَرْنَاكَ وَجِئْنَاكَ بِنُفُوسِنَا وَأَهْلِنَا، يَمُنُّونَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَزَلَ فِيهِمْ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ [الحجرات: ١٧].
وَهَذِهِ مَحَامِلُ نَاشِئَةٌ عَنِ الرَّأْيِ وَالتَّوَقُّعِ، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ
أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات وَلم يجىء: أَنَّ السَّيِّئَاتِ يُذْهِبْنَ الْحَسَنَاتِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاء: ٤٠].
وَتَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَاتِهِ الْآيَةِ فَزَعَمُوا أَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الطَّاعَاتِ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ عَنِ اللَّهِ الظُّلْمَ وَلَا يُسَلِّمُونَ ظَاهِرَ قَوْله: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: ٢٣]، وَمَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُونَ اللَّهَ يُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ إِذَا ارْتَكَبَ صَاحِبُهَا سَيِّئَةً. وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَسْطُورٌ فِي صُحُفِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَأَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَاعَفَةٌ وَالسَّيِّئَةَ بِمِقْدَارِهَا. وَهَذَا أَصْلٌ تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَصَحِيحُ الْآثَارِ، فَكَيْفَ يُنْبَذُ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ مَنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ.
وَحَمَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قَطْعِ الْعَمَلِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِطْلَاقُ الْإِبْطَالِ عَلَى الْقَطْعِ وَعَدَمِ الْإِتْمَامِ يُشْبِهُ أَنَّهُ مَجَازٌ، أَيْ لَا تَتْرُكُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَأَخَذُوا مِنْهُ أَنَّ النَّفْلَ يَجِبُ بِالشُّرُوعِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَافِلِ مُطْلَقًا. وَنَسَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ مِثْلَهُ إِلَى مَالِكٍ. وَمِثْلُهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْفُرْسِ. وَنَقَلَ
128
الشَّيْخُ الْجَدُّ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْمَحَلِّيِّ» عَنِ الْقَرَافِيِّ فِي «شَرْحِ الْمَحْصُولِ» وَنَقْلَ حَلُولُو فِي «شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ» عَنِ الْقَرَافِيِّ فِي «الذَّخِيرَةِ» : أَنَّ مَالِكًا قَالَ بِوُجُوبِ سَبْعِ نَوَافِلَ بِالشُّرُوعِ، وَهِيَ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالِاعْتِكَافُ وَالِائْتِمَامُ وَطَوَافُ التَّطَوُّعِ دُونَ غَيْرِهَا نَحْوُ الْوُضُوءِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَالسَّفَرِ لِلْجِهَادِ، وَزَادَ حَلُولُو إِلْحَاقَ الضَّحِيَّةِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي تَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَأْخَذِ الْقَرَافِيِّ ذَلِكَ وَلَا عَلَى مَأْخَذِ حَلُولُو فِي الْأَخِيرِ. وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ وُجُوبًا بِالشُّرُوعِ فِي شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ وَهُوَ الظَّاهِر.
[٣٤]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣٤]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤)
هَذِهِ الْآيَةُ تَكْمِلَةٌ لِآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ [مُحَمَّد: ٣٢] إِلَخْ لِأَنَّ تِلْكَ مَسُوقَةٌ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمَشَاقِّهِمْ وَلِبَيَانِ أَنَّ اللَّهَ مُبْطِلُ صَنَائِعِهِمْ وَهَذِهِ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ لمغفرة الله إِذا مَاتُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَاقْتِرَانُ خَبَرِ الْمَوْصُولِ بِالْفَاءِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَشْرَفُ مَعْنَى الشَّرْطِ فَلَا يُرَادُ بِهِ ذُو صِلَةٍ مُعَيَّنٌ بَلِ الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ مَاهِيَّةُ الصِّلَةِ وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْمَوْتُ على الْكفْر.
[٣٥]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣٥]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ خَذْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَقَدَّرَ لَهُمُ التَّعْسَ، وَبِمَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنْ مَصَائِرِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَهُمُ اللَّهُ وَأَهْلَكَهُمْ وَلَمْ يَجِدُوا نَاصِرًا، وَمَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ من قِتَالهمْ وبتكلفه لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْوِلَايَةِ وَمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَبِمَا أَتْبَعَ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِ كَيْدِ فَرِيقِ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ
129
وَتَعَهُّدِهِمْ بِإِعَانَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِسُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ خِيفَةً إِذْ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَعْدَاءً لَهُمْ مُنْبَثُّونَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ.
فَعَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَرَّعَ نَهْيَهُمْ عَنِ الْوَهَنِ وَعَنِ الْمَيْلِ إِلَى الدَّعَةِ وَوَعْدَهُمْ بِأَنَّهُمُ الْمُنْتَصِرُونَ وَأَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ التَّفْرِيعُ عَلَى أَقْرَبِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [مُحَمَّد: ٣١].
وَهَذَا النَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ وَعَنِ الدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ تَحْذِيرٌ مِنْ أَمْرٍ تَوَفَّرَتْ أَسْبَابُ حُصُولِهِ مُتَهَيِّئَةً لِلْإِقْدَامِ عَلَى الْحَرْبِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِهَا وَلَيْسَ نَهْيًا عَنْ وَهَنٍ حَصَلَ لَهُمْ وَلَا عَنْ دُعَائِهِمْ إِلَى السَّلْمِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي مُدَّةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّ التَّحْذِيرَ مِنْ أَنْ يَسْتَوْهِنَهُمُ الْمُنَافِقُونَ عِنْدَ تَوَجُّهِ أَمْرِ الْقِتَالِ فَيَقُولُوا: لَوْ سَالَمْنَا الْقَوْمَ مُدَّةً حَتَّى نَسْتَعِيدَ عُدَّتَنَا وَنَسْتَرْجِعَ قُوَّتَنَا بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ مَفْلُولِينَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فُرْصَةً يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهَا لِمَا ضَايَقَهُمْ مِنْ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِي طَرِيقِ تِجَارَتِهِمْ إِلَى الشَّامِ مِثْلَ مَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ السَّوِيقِ، وَغَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ مُنَافِقُونَ وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ خَرَجُوا مِنْهَا مَعَ أبي عَامر الضبغي الْمُلَقَّبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالرَّاهِبِ وَالَّذِي غيّر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَبَهُ فَلَقَّبَهُ الْفَاسِقَ.
كَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ يَكِيدَ لِلْمُسْلِمِينَ أَعْدَاؤُهُمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ فَيُظَاهِرُوا عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكِينَ مُتَسَتِّرِينَ بِعِلَّةِ طَلَبِ السَّلْمِ فَحَذَّرَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَقَعُوا فِي هَذِهِ الْحِبَالَةِ.
وَالْوَهَنُ: الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي طَلَبِ الدَّعَةِ. وَمَعْنَاهُ: النَّهْيُ عَنْ إِسْلَامِ أَنْفُسِهِمْ لِخَوَاطِرِ الضَّعْفِ، وَالْعَمَلُ بِهَذَا النَّهْيِ يكون باستحضار مساوي تِلْكَ الْخَوَاطِرِ فَإِنَّ الْخَوَاطِرَ الشِّرِّيرَةَ إِذَا لَمْ تُقَاوِمْهَا هِمَّةُ الْإِنْسَانِ دَبَّتْ فِي نَفْسِهِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى تَتَمَكَّنَ
مِنْهَا فَتُصْبِحَ مَلَكَةً وَسَجِيَّةً. فَالْمَعْنَى: ادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ خَوَاطِرَ الْوَهَنِ وَاجْتَنِبُوا مَظَاهِرَهُ، وَأَوَّلُهَا الدُّعَاءُ إِلَى السَّلْمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْوَهَنِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَوْمَئِذٍ فِي حَالِ وَهَنٍ.
130
وَعَطْفُ وَتَدْعُوا عَلَى تَهِنُوا فَهُوَ مَعْمُولٌ لِحَرْفِ النَّهْيِ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَهُوَ عَطْفٌ خَاصٌّ عَلَى عَامٍّ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الدُّعَاء إِلَى السّلم مَعَ الْمَقْدِرَةِ مِنْ طَلَبِ الدَّعَةِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ. وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ اسْتِبْقَاءِ النُّفُوسِ وَالْعِدَةِ بالاستراحة من عدوان الْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ كَانُوا مُتَكَالِبِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَرُبَّمَا ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ إِنْ تَدَاعَوْا مَعَهُمْ لِلسَّلْمِ أَمِنُوا مِنْهُمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ فُرْصَةً لِيَنُشُّوا الدَّعْوَةَ فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالْمَضَرَّةِ لِأَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ شَوْكَتِهِمْ فِي نَظَرِ الْمُشْرِكِينَ فَيَحْسَبُونَهُمْ طَلَبُوا السَّلْمَ عَنْ ضَعْفٍ فَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ ضَرَاوَةً عَلَيْهِمْ وَتَسْتَخِفُّ بِهِمْ قَبَائِلُ الْعَرَبِ بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا مِنْ قُلُوبِهِمْ مَكَانَ الْحُرْمَةِ وَتَوَقُّعِ الْبَأْسِ.
وَلِهَذَا الْمَقْصِدِ الدَّقِيقِ جُمِعَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْوَهَنِ وَالدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ وَأُتْبِعَ بِقَوْلِهِ:
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ.
فَتَحَصَّلَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى السَّلْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ طلب المسالمة مِنَ الْعَدُوِّ فِي حَالِ قُدْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَخَوْفِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ، فَهُوَ سَلْمٌ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ دَاعِينَ لَهُ وَبِكَوْنِهِ عَنْ وَهَنٍ فِي حَالِ قُوَّةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ لَا تَكُونُوا أَوَّلَ الطَّائِفَتَيْنِ ضَرِعَتْ إِلَى صَاحِبَتِهَا.
فَهَذَا لَا يُنَافِي السَّلْمَ الْمَأْذُونَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٦١]، فَإِنَّهُ سَلْمٌ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِآيَةِ الْأَنْفَالِ وَلَا الْعَكْسَ وَلِكُلٍّ حَالَةٌ خَاصَّةٌ، وَمُقَيَّدٌ بِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالَةِ قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ وَعِدَّةٍ بِحَيْثُ يَدْعُونَ إِلَى السَّلْمِ رَغْبَةً فِي الدَّعَةِ. فَإِذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي السَّلْمِ أَوْ كَانَ أَخَفَّ ضُرًّا عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ أَنْ يَبْتَدِئُوا إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ وَأَنْ يُجِيبُوا إِلَيْهِ إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ.
وَقَدْ صَالح النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لِمَصْلَحَةٍ ظَهَرَتْ فِيمَا بَعْدُ، وَصَالَحَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوِهِمْ إفريقية أَهلهَا وانكفأوا رَاجِعِينَ إِلَى مِصْرَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كَلَامٍ لَهُ مَعَ بَعْضِ أُمَرَاءِ الْجَيْشِ «فَقَدْ آثَرْتُ سَلَامَةَ الْمُسْلِمِينَ». وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْأَرْضِ مَعَ فَتْحِهَا فَذَلِكَ لَا يُنَافِي قُوَّةَ الْفَاتِحِينَ كَمَا صَالَحَ أُمَرَاءُ أَبِي بَكْرٍ نِصْفَ أَهْلِ دِمَشْقَ وَكَمَا صَالَحَ أُمَرَاءُ عمر أهل سود الْعِرَاقِ وَكَانُوا أَعْلَمَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ.
131
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِلَى السَّلْمِ بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ بِكَسْرِ
السِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَجُمْلَةُ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ عَطْفُ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعْدِ.
وَالْأَعْلَوْنَ: مُبَالَغَةٌ فِي الْعُلُوِّ. وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ وَالنَّصْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى:
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: ٦٨]، أَيْ وَاللَّهُ جَاعِلُكُمْ غَالِبِينَ.
واللَّهُ مَعَكُمْ عَطْفٌ عَلَى الْوَعْدِ. وَالْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ الرِّعَايَةِ وَالْكَلَاءَةِ، أَيْ وَاللَّهُ حَافِظُكُمْ وَرَاعِيكُمْ فَلَا يَجْعَل الْكَافرين عَلَيْكُمْ سَبِيلًا. وَالْمَعْنَى: وَأَنْتُمُ الْغَالِبُونَ بِعِنَايَةِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ.
وَصِيغَ كُلٌّ مِنْ جُمْلَتَيْ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْغَلَبِ لَهُمْ وَثَبَاتِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَعْدٌ بِتَسْدِيدِ الْأَعْمَالِ وَنَجَاحِهَا عَكْسُ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ١] فَكُنِّيَ عَنْ تَوْفِيقِ الْأَعْمَالِ وَنَجَاحِهَا بِعَدَمِ وَتْرِهَا، أَيْ نَقْصِهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَنْقُصُهَا فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يُبْطِلهَا، أَي أَن لَا يُخَيِّبُهَا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [مُحَمَّد: ٤، ٥].
يُقَالُ: وَتَرَهُ يَتِرَهُ وَتْرًا وَتِرَةً كَوَعَدَ، إِذَا نَقَصَهُ،
وَفِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»
. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُرَادَ مِنْهُ صَرِيحُهُ، أَيْ يَنْقُصَكُمْ ثَوَابَكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، أَيِ الْجِهَادِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ فَيُفِيدُ التَّحْرِيضَ عَلَى الْجِهَادِ بِالْوَعْدِ بِأَجْرِهِ كَامِلًا.
[٣٦، ٣٧]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧)
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ.
تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّد: ٣٥] الْآيَةَ، وَافْتِتَاحُهَا بِ (إِنَّ) مُغْنٍ عَنِ افْتِتَاحِهَا بِفَاءِ التَّسَبُّبِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَيْسَ اتِّصَالُ
132
(إِنَّ) بِ (مَا) الزَّائِدَةِ الْكَافَّةِ بِمُغَيِّرٍ مَوْقِعَهَا بِدُونِ (مَا) لِأَنَّ اتِّصَالَهَا بِهَا زَادَهَا مَعْنَى الْحَصْرِ.
وَالْمُرَادُ بِ الْحَياةُ أَحْوَالُ مُدَّةِ الْحَيَاةِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافَيْنِ.
وَاللَّعِبُ: الْفِعْلُ الَّذِي يُرِيدُ بِهِ فَاعِلُهُ الْهَزْلَ دُونَ اجْتِنَاءِ فَائِدَةٍ كَأَفْعَالِ الصِّبْيَانِ فِي
مَرَحِهِمْ.
وَاللَّهْوُ: الْعَمَلُ الَّذِي يُعْمَلُ لِصَرْفِ الْعَقْلِ عَنْ تَعَبِ الْجِدِّ فِي الْأُمُورِ فَيَلْهُو عَنْ مَا يَهْتَمُّ لَهُ وَيُكِدُّ عَقْلَهُ.
وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْحَيَاةِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، شُبِّهَتْ أَحْوَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فِي عَدَمَ تُرَتُّبِ الْفَائِدَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا فَانِيَةٌ مُنْقَضِيَةٌ وَالْآخِرَةُ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ.
وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ أَنْ يَحْمِلَهُمْ حُبُّ لَذَائِذِ الْعَيْشِ عَلَى الزَّهَادَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ وَيَتْلُو إِلَى مُسَالَمَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُغْرِي الْعَدُوَّ بِهِمْ.
وَحُبُّ الْفَتَى طُولَ الْحَيَاةِ يُذِلُّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَخْوَةٌ وَعِزَامُ
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧).
الْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [مُحَمَّد: ٣٥] تَذْكِيرًا بِأَنَّ امْتِثَالَ هَذَا النَّهْيِ هُوَ التَّقْوَى الْمَحْمُودَةُ، وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى السَّلْمِ قَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ حُبَّ إِبْقَاءِ الْمَالِ الَّذِي يُنْفَقُ فِي الْغَزْوِ، فَذُكِّرُوا هُنَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى لِيَخْلَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمُ الْوَهَنَ لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْهُ وَعَنِ الدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ فَكَانَ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ مِنَ التَّقْوَى، وَعُطِفَ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْأَلُهُمْ أَمْوَالَهُمْ إِلَّا لِفَائِدَتِهِمْ وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ قَوْلُهُ:
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: عَنْ نَفْسِهِ [مُحَمَّد: ٣٨]، عَلَى أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَعْلِيلُ النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ مشير إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِذَا عُمِّرَتْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى كَانَتْ سَبَبًا فِي الْخَيْرِ الدَّائِمِ.
133
وَالْأُجُورُ هُنَا: أُجُورُ الْآخِرَةِ وَهِيَ ثَوَابُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى.
فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَهِنُوا الْآيَةَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ: وَتَتَّقُوا وَأَمَّا ذِكْرُ تُؤْمِنُوا فَلِلِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْإِيمَانِ.
وَوُقُوعُ تُؤْمِنُوا فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ مَعَ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ حَاصِلًا يُعَيِّنُ صَرْفَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فِيهِ إِلَى إِرَادَةِ الدَّوَامِ على الْإِيمَان إِذا لَا تَتَقَوَّمُ حَقِيقَةُ التَّقْوَى إِلَّا مَعَ سَبْقِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٣- ١٧] الْآيَةَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ إِدْمَاجٌ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَوَابِ الشَّرْطِ هُوَ جملَة وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ. وَعطف وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَتَفَضَّلُ عَلَيْكُمْ بِالْخَيْرَاتِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَاتُ أَحْسَنَ رَوَابِطَ لِنَظْمِ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ لِأَنَّ الْبُخْلَ بِالْمَالِ مِنْ بَوَاعِثِ الدُّعَاءِ إِلَى السَّلْمِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا بِاتِّبَاع مَا نهيتهم عَنْهُ يَرْضَ اللَّهُ مِنْكُمْ بِذَلِكَ وَيَكْتَفِ بِهِ وَلَا يَسْأَلْكُمْ زِيَادَةً عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِكُمْ. فَيُعْلَمُ أَنَّ مَا يعنيه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْإِنْفَاقِ نَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٣٨].
فَقَوله: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ يُفِيدُ بِعُمُومِهِ وَسِيَاقِهِ مَعْنَى لَا يَسْأَلُكُمْ جَمِيعَ أَمْوَالِكُمْ، أَيْ إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ مَا لَا يُجْحِفُ بِكُمْ، فَإِضَافَةُ أَمْوَالٍ وَهُوَ جَمْعٌ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ تُفِيدُ الْعُمُومَ، فَالْمَنْفِيُّ سُؤَالُ إِنْفَاقِ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، فَالْكَلَامُ مِنْ نَفْيِ الْعُمُومِ لَا مِنْ عُمُومِ النَّفْيِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ.
134
وَيَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ أَيْضًا مَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُطَالِبُكُمْ بِإِعْطَاءِ مَالٍ لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَإِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ لِصَالِحِكُمْ كَمَا قَالَ: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّد: ٣٨]. وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [مُحَمَّد: ٣٨] أَيْ مَا يَكُونُ طَلَبُ بَذْلِ الْمَالِ إِلَّا لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَأَيَّةُ مَصْلَحَةٍ أَعْظَمُ مِنْ دَمْغِهَا الْعَدُوَّ عَنْ نَفْسِهَا لِئَلَّا يُفْسِدَ فِيهَا وَيَسْتَعْبِدَهَا.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ سُؤَالِ الْأَمْوَالِ الْمَنْفِيِّ بِطَلَبِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ فَصَرْفٌ لِلْآيَةِ عَنْ مَهْيَعِهَا فَإِنَّ الزَّكَاةَ مَفْرُوضَةٌ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَجُمْلَة إِنْ يَسْئَلْكُمُوها إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ سُؤَالِهِ إِيَّاهُمْ أَمْوَالَهُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ إِنْ سَأَلَكُمْ إِعْطَاءَ جَمِيعَ أَمْوَالِكُمْ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يَسْمَحُ بِالْمَالِ لَا تَبْخَلُوا بِالْبَذْلِ وَتَجْعَلُوا تَكْلِيفَكُمْ بِذَلِكَ سَبَبًا لِإِظْهَارِ ضِغْنَكُمْ عَلَى الَّذِينَ لَا يُعْطُونَ فَيَكْثُرُ الِارْتِدَادُ وَالنِّفَاقُ وَذَلِكَ
يُخَالِفُ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ تَزْكِيَةِ نُفُوسِ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِيمَانِ.
وَهَذَا مُرَاعَاةٌ لِحَالِ كَثِيرٍ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَكَانُوا قَدْ بَذَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِلْمُهَاجِرِينَ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَمْ يَسْأَلْهُمْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ يَتَرَصَّدُونَ الْفُرَصَ لِفِتْنَتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المُنَافِقُونَ: ٧]. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَيْهِ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أَيْ تَحْدُثُ فِيكُمْ أَضْغَانٌ فَيَكُونُ سُؤَالُهُ أَمْوَالَكُمْ سَبَبًا فِي ظُهُورِهَا فَكَأَنَّهُ أَظْهَرَهَا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي سَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ.
وَالْإِحْفَاءُ: الْإِكْثَارُ وَبُلُوغُ النِّهَايَةِ فِي الْفِعْلِ، يُقَالُ: أَحْفَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنَ الْإِلْحَاحِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ: الْإِحْفَاءُ أَنْ تَأْخُذَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدَيْكَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ. وَعُبِّرَ بِهِ هُنَا عَنِ الْجَزْمِ فِي الطَّلَبِ وَهُوَ الْإِيجَابُ، أَيْ فَيُوجِبُ عَلَيْكُمْ بَذْلَ الْمَالِ وَيَجْعَلُ عَلَى مَنْعِهِ عُقُوبَةً.
وَالْبُخْلُ: مَنْعُ بَذْلِ الْمَالِ.
135
وَالضِّغْنُ: الْعَدَاوَةُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ [مُحَمَّد: ٢٩].
وَالْمَعْنَى: يَمْنَعُوا الْمَالَ وَيُظْهِرُوا الْعِصْيَانَ وَالْكَرَاهِيَةَ، فَلُطْفُ اللَّهِ بِالْكَثِيرِ مِنْهُمُ اقْتَضَى أَنْ لَا يَسْأَلَهُمْ مَالًا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا لَمَّا تَمَكَّنَ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْإِنْفَاقَ فِي الْجِهَادِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي وَيُخْرِجْ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْبُخْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: تَبْخَلُوا أَيْ مِنْ قَبِيلِ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨]. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخْرِجْ بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ.
[٣٨]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣٨]
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ
كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَوْله: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: عَنْ نَفْسِهِ [مُحَمَّد: ٣٦- ٣٨]
يُعْرِبُ عَنْ حَيْرَةٍ فِي مُرَادِ اللَّهِ بِهَذَا الْكَلَامِ. وَقَدْ فَسَّرْنَاهُ آنِفًا بِمَا يَشْفِي وَبَقِيَ عَلَيْنَا قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا إِلَخْ كَيْفَ مَوْقِعُهُ بَعْدَ قَوْله: وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ لِلْإِنْفَاقِ عَيْنُ سُؤَالِ الْأَمْوَالِ فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ آنِفا وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَدْفَعُوا أَعْدَاءَكُمْ عَنْكُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ اللَّهُ كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ. وَنَظْمُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ دَعْوَةٌ لِلْإِنْفَاقِ فِي الْحَالِ وَلَيْسَ إِعْلَامًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ لِلْإِنْفَاقِ فَهُوَ طَلَبٌ حَاصِلٌ.
وَيُحْمَلُ تُدْعَوْنَ عَلَى مَعْنَى تُؤْمَرُونَ أَيْ أَمْرُ إِيجَابٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ تُدْعَوْنَ عَلَى دَعْوَةِ التَّرْغِيبِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِلْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ إِيجَابَ الْإِنْفَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلَ آيَةِ وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٤١] وَنَحْوِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِيمَا بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ فَيَكُونُ الْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلًا فِي زَمَنِ الِاسْتِقْبَالِ وَالْمُضَارِعُ يَحْتَمِلُهُ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ.
136
وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَوْلُهُ: فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ إِمَّا مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ أَوْ مَسَاقَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ فِي الشُّحِّ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ السِّيَاقِ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَبْخَلُ بُخْلًا لَيْسَ عَائِدًا بُخْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ يَتَمَكَّنُ عَدُّوهُ مِنَ التَّسَلُّطِ عَلَيْهِ فَعَادَ بُخْلُهُ بِالضُّرِّ عَلَيْهِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ بِحِرْمَانِهَا مِنْ ثَوَابِ الْإِنْفَاقِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّمَا قَصْرُ قَلْبٍ بِاعْتِبَارِ لَازِمِ بُخْلِهِ لِأَنَّ الْبَاخِلَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَنَعَ مَنْ دَعَاهُ إِلَى الْإِنْفَاقِ وَلَكِنَّ لَازِمَ بُخْلِهِ عَادَ عَلَيْهِ بِحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ مَنَافِعِ ذَلِكَ الْإِنْفَاقِ، فَالْقَصْرُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ مُرَكَّبٌ. وَفِعْلُ (بَخِلَ) يَتَعَدَّى بِ عَنْ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِمْسَاكِ وَيَتَعَدَّى بِ (عَلَى) لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّضْيِيقِ عَلَى الْمَبْخُولِ عَلَيْهِ. وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بِحَرْفِ عَنْ.
وَهَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَةِ (هَا) تَنْبِيهٌ فِي ابْتِدَاءِ الْجُمْلَةِ، وَمِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ ثُمَّ مِنْ (هَا) التَّنْبِيهِ الدَّاخِلَةِ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدَةِ تَأْكِيدَ مَدْلُولِ الضَّمِيرِ. وَنَظِيرُهُ
قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٩]. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِهِ مُجَرَّدًا عَنْ (هَا) اكْتِفَاءً بِ (هَاءِ) التَّنْبِيهِ الَّتِي فِي أَوَّلِ التَّرْكِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١٩].
وَجُمْلَةُ تُدْعَوْنَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ يُفِيدُ حُصُولَ مَدْلُولِ جُمْلَةِ الْحَالِ لِصَاحِبِهَا حُصُولًا وَاضِحًا. وَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ أَنَّ عَدَمَ ذِكْرَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ (هَا أَنَا) وَنَحْوِهِ لَحْنٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ دُخُولُ (هَا) التَّنْبِيهِ عَلَى اسْمٍ غَيْرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ»، بِنَاءً عَلَى أَنَّ (هَا) التَّنْبِيهِ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ هِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ فِي نَحْوِ: هَذَا وَهَؤُلَاءِ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ الَّذِي يُذْكَرُ بَعْدَهَا فَصَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَلَكِنْ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» فِي دِيبَاجَةِ كِتَابِهِ إِذْ قَالَ: وَهَا أَنَا بَائِحٌ بِمَا أَسْرَرْتُهُ، وَفِي مَوْضِعَيْنِ آخَرَيْنِ مِنْهُ نَبَّهَ عَلَيْهِمَا بَدْرُ
137
الدِّينِ الدَّمَامِينِيُّ فِي شَرْحِهِ «الْمَزْجِ عَلَى الْمُغْنِي»، وَذَكَرَ فِي شَرْحِهِ الَّذِي بِالْقَوْلِ الْمُشْتَهِرِ بِ «الْحَوَاشِي الْهِنْدِيَّةِ» أَنَّ تَمْثِيلَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي «الْمُفَصَّلِ» بقوله: هَا إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلَقٌ يَقْتَضِي جَوَازَ: هَا أَنَا أَفْعَلُ، لَكِنَّ الرَّضِيَّ قَالَ: لَمْ أَعْثُرْ بِشَاهِدٍ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ تَذْيِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَهَا فَاللَّهُ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، وَالْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ مَالًا فِي شَيْءٍ، وَالْمُخَاطَبُونَ فُقَرَاءُ فَلَا يُطْمَعُ مِنْهُمُ الْبَذْلُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ دُعَاءَهُمْ لِيُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعَاءٌ بِصَرْفِ أَمْوَالِهِمْ فِي مَنَافِعِهِمْ كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْغَنِيُّ وَفِي الْفُقَراءُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَهُوَ فِيهِمَا مُؤْذِنٌ بِكَمَالِ الْجِنْسِ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَلَمَّا وَقَعَا خَبَرِينِ وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ أَفَادَا الْحَصْرَ، أَيْ قَصْرُ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ قَصْرُ جِنْسِ الْغَنِيِّ عَلَى اللَّهِ وَقَصْرُ جِنْسِ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْمُخَاطِبِينَ بِ أَنْتُمْ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ فِيهِمَا مُرَتَّبٌ عَلَى دَلَالَةِ أَلْ عَلَى مَعْنَى كَمَالِ الْجِنْسِ، فَإِنَّ كَمَالَ الْغِنَى لِلَّهِ لَا مَحَالَةَ لِعُمُومِهِ وَدَوَامِهِ، وَإِنْ كَانَ يُثْبِتُ بَعْضَ جِنْسِ الْغِنَى لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا كَمَالُ الْفَقْرِ لِلنَّاسِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى غِنَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُغْنَوْنَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَكِنَّ ذَلِكَ غِنًى قَلِيلٌ وَغَيْرُ دَائِمٍ.
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ.
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ [مُحَمَّد: ٣٦]. وَالتَّوَلِّي:
الرُّجُوعُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِاسْتِبْدَالِ الْإِيمَانِ بِالْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ جَزَاؤُهُ اسْتِبْدَالَ قَوْمٍ غَيْرِهِمْ
كَمَا اسْتَبْدَلُوا دِينَ اللَّهِ بِدِينِ الشِّرْكِ.
وَالِاسْتِبْدَالُ: التَّبْدِيلُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، ومفعوله قَوْماً أَو المستبدل بِهِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَى تَقْدِيرِهِ قَوْلُهُ غَيْرَكُمْ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَبْدَلَ بِهِ هُوَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ (غَيْرُ) لِتَعَيُّنِ انْحِصَارِ الِاسْتِبْدَالِ فِي شَيْئَيْنِ، فَإِذَا ذُكِرَ أَحَدَهُمَا عُلِمَ الْآخَرُ. وَالتَّقْدِيرُ: يَسْتَبْدِلُ قَوْمًا بِكُمْ لِأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي فِعْلِ الِاسْتِبْدَالِ وَالتَّبْدِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ هُوَ الْمُعَوِّضُ وَمَجْرُورُ الْبَاءِ هُوَ الْعِوَضُ كَقَوْلِهِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ
138
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١]. وَإِنْ كَانَ كِلَا الْمُتَعَلِّقَيْنِ هُوَ فِي الْمَعْنَى مُعَوَّضٌ وَعِوَضٌ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، وَلِذَلِكَ عُدِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ذِكْرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ مَعَ الْمَفْعُولِ لِلْإِيجَازِ. وَالْمَعْنَى: يَتَّخِذُ قَوْمًا غَيْرِكُمْ لِلْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُوجِدُ قَوْمًا آخَرِينَ إِلَّا عِنْدَ ارْتِدَادِ الْمُخَاطَبِينَ، بَلِ الْمُرَادُ: أَنَّكُمْ إِنِ ارْتَدَدْتُمْ عَنِ الدِّينِ كَانَ لِلَّهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرْتَدُّونَ وَكَانَ لِلَّهِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَلَا يَرْتَدُّونَ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ. قَالُوا: وَمَنْ يُسْتَبْدَلُ بِنَا؟ قَالَ: فَضَرَبَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِبِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَقَوْمُهُ، هَذَا وَقَوْمُهُ»
قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ» : هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَزَادَ
فِيهِ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ»
. وَأَقُولُ هُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَارِسَ إِذَا آمَنُوا لَا يَرْتَدُّونَ وَهُوَ من دَلَائِل نبوءة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْعَرَبَ ارْتَدَّ مِنْهُمْ بَعْضُ الْقَبَائِلِ بَعْدَ وَفَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّ الْبَرْبَرُ بَعْدَ فَتْحِ بِلَادهمْ وَإِيمَانهمْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً فِيمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ ابْن أَبِي زَيْدٍ، وَلَمْ يَرْتَدَّ أَهْلُ فَارِسَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِصِفَةِ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَعُلَوِّهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، أَيْ وَلَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ فِي التَّوَلِّي. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ بِ (ثُمَّ) عَلَى جُمْلَةِ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ فَهِيَ فِي حَيِّزِ جَوَابِ الشَّرْطِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ التَّشْرِيكِ يَجُوزُ جَزْمُهُ عَلَى الْعَطْفِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْجَزْمِ وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آل عمرَان: ١١١] عَلَى الرَّفْعِ. وَأَبْدَى الْفَخْرُ وَجْهًا لِإِيثَارِ الْجَزْمِ هُنَا وَإِيثَارِ الِاسْتِئْنَافِ هُنَالِكَ فَقَالَ: وَهُوَ مَعَ الْجَوَازِ فِيهِ تَدْقِيقٌ وَهُوَ أَنَّ هَاهُنَا لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّوَلِّي لِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَتَوَلَّوْا
يَكُونُونَ مِمَّنْ يَأْتِي اللَّهُ بِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَإِنْ تَوَلَّوْا لَا يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ لِكَوْنِهِمْ عَاصِينَ وَكَوْنِ مَنْ يَأْتِي اللَّهُ بِهِمْ
139
مُطِيعِينَ، وَأَمَّا هُنَالِكَ فَسَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا لَا يَنْصُرُونَ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّعْلِيقِ أَيْ بِالشَّرْطِ هُنَالِكَ وَجْهٌ فَرُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَهَاهُنَا جزم للتعليق اهـ. وَهُوَ دَقِيقٌ وَيُزَادُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَزَاءِ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ وَقَعَ فِي آخِرِ الْفَاصِلَةِ الَّتِي جَرَتْ أَخَوَاتُهَا عَلَى حَرْفِ الْوَاوِ وَالنُّونِ فَلَوْ أُوثِرَ جَزْمُ الْفِعْلِ لَأُزِيلَتِ النُّونُ فَاخْتَلَّتِ الْفَاصِلَةُ.
140

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤٨- سُورَةُ الْفَتْحِ
سُورَةُ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: ١] سُمِّيَتْ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ سُورَةَ الْفَتْحِ.
وَوَقَعَ
فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ- بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَفَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ- قَالَ: قَرَأَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الْفَتْحِ فَرَجَعَ فِيهَا
. وَفِيهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ تَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا. ثُمَّ حَكَى مَقَالَةَ عُمَرَ إِلَى أَنْ قَالَ:
فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرٌ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ حِكَايَةَ فَتْحِ مُتَّجَهِ الله للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ عَلَى الْمُصْطَلَحِ الْمَشْهُورِ فِي أَنَّ الْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَلَوْ كَانَ نُزُولُهُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ الْمَدِينَةِ مَنْ أَرْضِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا. وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ كُرَاعَ الْغَمِيمِ بِضَمِّ الْكَافِ مَنْ كُرَاعٍ وَبِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنَ الْغَمِيمِ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُوَ وَادٍ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ وَعَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ عُسْفَانَ وَهُوَ مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ.
وَقِيلَ نَزَلَتْ بِضَجْنَانَ بِوَزْنِ سَكْرَانَ وَهُوَ جَبَلٌ قُرْبَ مَكَّةَ وَنَزَلَتْ لَيْلًا فَهِيَ مِنَ الْقُرْآنِ اللَّيْلِيِّ.
وَنُزُولُهَا سَنَةَ سِتٍّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ منصرف النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَبْلَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ
وَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عُمَرَ «أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ أَيْ مُنْصَرَفِهِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ لَيْلًا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ: عُمَرُ ثَكِلَتْ أُمُّ عُمَرَ نَزَرْتَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ. قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي وَتَقَدَّمَتُ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ الْقُرْآنُ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَجِئْتُ رَسُول
141
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً
[الْفَتْح: ١]. وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَهِيَ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الْفَتْح: ٢].
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيءِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ إِلَى قَوْلِهِ: فَوْزاً عَظِيماً [الْفَتْح: ٢- ٥] مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ»
ثُمَّ قَرَأَهَا
. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْمِائَةِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ.
نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الصَّفِّ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّوْبَةِ. وَعِدَّةُ آيِهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا
رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَا: «نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نُسُكِنَا فَنَحْنُ بَيْنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
وَفِي رِوَايَةٍ «مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا».
أَغْرَاضُهَا
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِشَارَةَ الْمُؤْمِنِينَ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّهُ نَصْرٌ وَفَتْحٌ فَنَزَلَتْ بِهِ السَّكِينَةُ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَأَزَالَ حُزْنَهُمْ مِنْ صَدِّهِمْ عَنِ الِاعْتِمَارِ بِالْبَيْتِ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عِدَّةً لَا تُغْلَبُ مِنْ قِلَّةٍ فَرَأَوْا أَنَّهُمْ عَادُوا كَالْخَائِبِينَ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ، وَأَنَّ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَالتَّنْوِيهَ بكرامة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ رَبِّهِ وَوَعْدَهُ بِنَصْرٍ مُتَعَاقِبٍ. وَالثَّنَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَزَّرُوهُ وَبَايَعُوهُ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ مَثَلَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي الْإِنْجِيلِ.
142
Icon