تفسير سورة الذاريات

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٦٠.

تفسير سورة «الذّاريات»
وهي مكّيّة بإجماع المفسّرين
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧)
قوله عز وجل: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً... الآية، أقسم الله عز وجل بهذه المخلوقات تنبيهاً عليها، وتشريفاً لها، ودَلاَلَةً على الاعتبار فيها، حَتَّى يصيرَ الناظرُ فيها إلى توحيد الله عز وجل، فقوله: وَالذَّارِياتِ: هي الرياح بإجماع وذَرْواً نصب على المصدر، وفَالْحامِلاتِ وِقْراً قال عليٌّ: هي السحاب، وقال ابن عباس وغيره «١» : هي السفن الموقورة بالناس وأمتعتهم، وقال جماعة من العلماء: هي أيضاً مع هذا جميع الحيوانِ الحامل، وفي جميع ذلك معتبر، وفَالْجارِياتِ يُسْراً قال عليٌّ وغيره «٢» : هي السفن في البحر، وقال آخرون: هي السحاب، وقال آخرون: هي الكواكب قال ع «٣» : واللفظ يقتضي جميعَ هذا، ويُسْراً نعت لمصدر محذوف، وصفات/ [المصادر المحذوفة تعود أحوالا، ويُسْراً معناه: بسهولة و «المقسّمات أَمْراً» : الملائكة، والأمر هنا: اسم جنس، فكأَنَّه قال: والجماعات التي تقسم أمورَ الملكوت، من الأرزاق، والآجال، والخلق في الأرحام، وأمر الرياح والجبال، وغير ذلك لأَنَّ كُلَّ هذا إنَّما هو بملائكة تخدمه، وأنّث «المقسمات» من حيث أراد الجماعات، وهذا القَسَمُ واقع على قوله: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ...
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٤٢) برقم: (٣٢٠٢١)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧١)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣٣)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، والحارث بن أبي أسامة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في «المصاحف»، والحاكم وصححه. [.....]
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ١٧١).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٧١).
الآية، وتُوعَدُونَ يحتمل أن يكون من الوعد، ويحتمل أن يكون من الإيعاد، وهو أظهر، والدِّينَ: الجزاء، وقال مجاهد: الحساب «١».
ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر، فقال: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ والحُبُكُ: الطرائق التي هي على نظامٍ في الأجرام، ويقال لما تراه من الطرائق في الماء والرمال إذا أصابته الريحُ:
حبك، ويقال لِتَكَسُّرِ الشعر: حُبُك، وكذلك في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائِقُ في موضع تداخل الخيوط هي حبك وذلك لجودة خِلْقَةِ السماء ولذلك فَسَّرَها ابن عباس وغيره «٢» بذات الخلق الحَسَنِ وقال الحسن «٣» : حبكها كواكبها.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٨ الى ١٢]
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢)
وقوله سبحانه: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يحتمل أنْ يكون خطاباً لجميع الناس، أي: منكم مؤمن بمحمد، ومنكم مُكَذِّبٌ له، وهو قول قتادة «٤»، ويحتمل أَنْ يكونَ خطاباً للكفرة فقط لقول بعضهم: شاعر، وبعضهم: كاهن، وبعضهم: ساحر، إلى غير ذلك وهذا قول ابن زيد «٥».
ويُؤْفَكُ معناه: يُصْرَفُ، أي: يصرف من الكفار عن كتاب اللَّه مَنْ صُرِفَ مِمَّنْ غلبت عليه شَقَاوَتُهُ، وعُرْفُ الاستعمال في «أفك» إنَّما هو في الصرف من خير إلى شَرٍّ.
وقوله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ دعاءٌ عليهم كما تقول: قاتلك اللَّه، وقال بعض المفسرين. معناه: لُعِنَ الخرَّاصون، وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ.
ت: والظاهر ما قاله هذا المُفَسِّرُ قال عِيَاضٌ في «الشفا» وقد يقع القتل بمعنى اللعن قال الله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ وقاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: ٤]
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٤٤) برقم: (٣٢٠٣٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٢).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤٤٥) برقم: (٣٢٠٤٠)، وذكره البغوي (٤/ ٢٢٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣٢).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٤٥) برقم: (٣٢٠٥٢)، وذكره البغوي (٤/ ٢٢٩)، وابن عطية (٥/ ١٧٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣٢).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٤٤٦) برقم: (٣٢٠٦٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣٢).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٤٤٦) برقم: (٣٢٠٦١)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٣).
أي: لعنهم اللَّه، انتهى، وقد تقدَّم للشيخ عند قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:
٦] قال: كُلُّ ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل، فَإنَّما هو بمعنى إيجاب الشيء لأنَّ اللَّه تعالى لا يدعو على مخلوقاته، انتهى بلفظِهِ، وظاهِرُهُ مخالف لما هنا، وسيبينه في «سورة البروج»، والخَرَّاصُ: المُخَمِّنُ القائل بِظَنِّهِ، والإشارة إلى مكذّبي النبي صلّى الله عليه وسلّم، والغَمْرَةُ: ما يَغْشَى الإنسانَ ويغطيه كغمرة الماء، وساهُونَ معناه: عن وجوه النظر.
وقوله تعالى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي: يوم الجزاء، وذلك منهم على جهة الاستهزاء.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٣ الى ١٧]
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧)
وقوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ قال الزَّجَّاجُ «١» : التقدير: هو كائن يومَ هم على النار يفتنون، ويُفْتَنُونَ معناه: يُحْرَقُونَ ويُعَذَّبُون في النار قاله ابن عبّاس والناس «٢»، وفتنت الذهب أحرقته، وذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي: حرقكم وعذابكم قاله قتادة وغيره «٣».
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ... الآية، روى الترمذيّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ، حتى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ حَذَراً لِمَا بِهِ البَأْسُ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن «٤»، انتهى، وقوله سبحانه في المتقين: آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي: مُحَصِّلِينَ ما أعطاهم رَبُّهم سبحانه من جناته، ورضوانه، وأنواع كراماته إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ: يريد في الدنيا مُحْسِنِينَ: بالطاعات] والعمل الصالح.
(١) ينظر: «معاني القرآن» (٥/ ٥٢).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤٤٩) برقم: (٣٢٠٧٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣٢).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٥٠) برقم: (٣٢٠٩٢)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٤).
(٤) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٣٤) كتاب «صفة القيامة» باب: (٩) (٢٤٥١)، وابن ماجه (٢/ ١٤٠٩) كتاب «الزهد» باب: الورع والتقوى (٤٢١٥)، والبيهقي (٥/ ٣٣٥) كتاب «البيوع» باب: كراهية مبايعة من أكثر ماله من الربا أو ثمن المحرم، والطبراني (١٧/ ١٦٩)، (٤٤٦)، والحاكم (٤/ ٣١٩).
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ت: وروى التِّرْمِذِيُّ عن سعد بن أبي وقّاص، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا في الجَنَّةِ بَدَا لَتَزَخْرَفَ لَهُ مَا بَيْنَ خَوَافِقِ السموات والأَرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَ، فَبَدَا أَسَاوِرُهُ، لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ» «١» انتهى، ومعنى قوله: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ أَنَّ نومهم كان قليلاً لاشتغالهم بالصلاة والعبادةِ، والهجوعُ: النومُ، وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية: كابَدُوا قيامَ الليل، لا ينامون منه إلاَّ قليلاً «٢»، وأَمَّا إعرابُ الآية فقال الضَّحَّاكُ في كتاب الطبريِّ: ما يقتضي أنَّ المعنى: كانوا قليلاً في عددهم، وتمّ خبر «كان»، ثم ابتدأ مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ فما نافية وقَلِيلًا وقف حسن، وقال جمهور النحويين: ما مصدريَّةٌ وقَلِيلًا خبرُ كَانَ، والمعنى: كانوا قليلاً من الليل هجوعُهُم، وعلى هذا الإعراب يجيء قولُ الحسن وغيرِهِ، وهو الظاهر عندي أَنَّ المراد كان هُجُوعُهُمْ من الليل قليلاً قيل لبعض التابعين: مدح الله قوما كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ونَحْنُ قليلاً من الليل ما نقوم! فقال: رَحِمَ اللَّهُ امرأً رقد إذا نعس، وأطاع ربّه إذا استيقظ.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٨ الى ٢١]
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١)
وقوله تعالى: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال الحسن «٣» : معناه: يدعون في طَلَبِ المغفرة، ويُرْوَى أَنَّ أبوابَ الجنة تُفْتَحُ سَحَرَ كُلَّ ليلة، قال ابن زيد «٤» : السَّحَرُ: السُّدُسُ الآخر من الليل، والباء في قوله بِالْأَسْحارِ بمعنى في قاله أبو البقاء، انتهى، ومن كلام [ابن] الجوزي في «المُنْتَخَبِ» : يا أخي، علامةُ المَحَبَّةِ طلبُ الخَلْوَةِ بالحبيبِ، وبيداءُ اللَّيل/ فلواتُ الخلوات، لَمَّا ستروا قيامَ الليل في ظلام الدُّجَى غَيْرَةً أَنْ يَطَّلِعَ الغيرُ عليهم- سترهم سبحانه بسترٍ-، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: ١٧]، لَمَّا صَفَتْ خلواتُ الدُّجَى، ونادى أذان الوصال: أقم فلانا، وأنم فلانا- خرجت بالأسماء
(١) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٧٨)، كتاب «صفة الجنة» باب: ما جاء في صفة أهل الجنة، وأحمد (١/ ١٧١)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (٦/ ٢٠٨) (٢١٩٠)، وابن المبارك في «الزهد» (٢/ ١٢٦) (٤١٦).
قال الترمذي: هذا الحديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من حديث ابن لهيعة.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤٥٣) برقم: (٣٢١١٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٢٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣٤)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٥٦) برقم: (٣٢١٤٠)، وذكره البغوي (٤/ ٢٣٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣٥)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن نصر، وابن جرير، وابن المنذر. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٤٥٦) برقم: (٣٢١٤٢)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٥).
الجرائد وفاز الأحبابُ بالفوائد، وأنت غافل راقد. آهِ لو كنتَ معهم! أسفاً لك! لو رأيتهم لأبصرتَ طلائِعَ الصِّدِّيقِينَ في أول القوم، وشاهدتَ سَاقَةَ المستغفرين في الرَّكْبِ، وسَمِعْتَ استغاثة المُحِبِّينَ في وسط الليل، لو رأيتهم يا غافل، وقد دارت كؤوس المناجاة بين مزاهر التلاوات، فأسكَرَتْ قَلْبَ الواجدِ، ورقمت في مصاحف الوجنات. تعرفهم بسيماهم، يا طويلَ النوم، فاتتك مِدْحَةُ تَتَجافى [السجدة: ١٦]، وَحُرِمْتَ مِنْحَةَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ [آل عمران: ١٧]، يا هذا، إنَّ للَّه تعالى ريحاً تُسَمَّى الصَّبِيحَةَ مخزونةً تحتَ العرش، تَهُبُّ عند الأسحار، فتحمل الدعاء والأنين والاستغفار إلى حضرة العزيز الجَبَّارِ، انتهى.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ... الآية، الصحيح أَنَّها مُحْكَمَةٌ وأنَّ هذا الحق هو على وجه الندب، ومَعْلُومٌ [المعارج: ٢٤] يُرَادُ به: مُتَعَارَفٌ، وكذلك قيامُ الليل الذي مدح به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفضيلةُ بفعل المندوبات، والمحروم هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه، فيناله حرمان وَفاقَةٌ، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حَقٌّ في أموال الأغنياء، كما للسائل حَقٌّ، وما وقع من ذكر الخلاف فيه فيرجع إلى هذا، وبعد هذا محذوف تقديره: فكونوا/ أَيُّها الناس مثلهم وعلى طريقهم، وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ: لمن اعتبر وأيقن.
وقوله سبحانه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ إحالة على النظر في شخص الإنسان، وما فيه من العِبَرِ، وأمرِ النفسِ، وحياتِهَا، ونطقِها، واتصالِ هذا الجزء منها بالعقل قال ابن زيد: إنَّما القلب مُضْغَةٌ في جوف ابن آدم، جَعَلَ اللَّه فيه العقل، أفيدري أحد ما ذلك العقل، وما صِفَتُه، وكيف «١» هو.
ت: قال ابنُ العربيِّ في رحلته: اعلم أنَّ معرفة العبد نَفْسَهُ من أولى ما عليه وآكدِهِ إذْ لاَ يَعْرِفُ رَبَّه إلاَّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وغير ما آية في ذلك، ثم قال: ولا ينكر عاقل وُجُودَ الرُّوحِ من نفسه، وإنْ كان لم يدركْ حقيقتَه، كذلك لا يَقْدِرُ أنْ يُنْكِرَ وُجُودَ الباري سبحانه الذي دَلَّتْ أفعاله عليه، وإنْ لم يدركْ حقيقته، انتهى.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٦٠) برقم: (٣٢١٧٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٥).
300
وقوله سبحانه: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال مجاهد وغيره «١» : هو المطر، وقال واصل الأحدب: أراد القضاء والقدر «٢»، أي: الرزق عند اللَّه يأتي به كيف شاء سبحانه لا رَبَّ غيرُه، وتُوعَدُونَ يحتمل أن يكون من الوعد، ويحتمل أن يكونَ من الوعيد قال الضَّحَّاكُ. المُرَادُ: من الجنة والنار «٣»، وقال مجاهد «٤» : المرادُ: الخيرُ والشَّرُّ، وقال ابن سيرين «٥» : المراد: الساعة، ثم أقسم سبحانه بنفسه على صِحَّةِ هذا القول والخبر، وشَبَّهَهُ في اليقين به بالنُّطْقِ من الإنسان، وهو عنده في غاية الوضوح، و «ما» زائدة تعطي تأكيداً، والنطق في هذه الآية هو الكلام/ بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني، ورُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الأعراب الفصحاء سَمِعَ هذه الآيةَ فقال: مَنْ أَحْوَجَ الكريمَ إلى أَنْ يحلف؟! والحكاية بتمامها في كتاب الثعلبيِّ، وسبل الخيرات، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ قَوْماً، أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ» ورَوَى أبو سعيد الخُدَرِيُّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَوْ فَرَّ أَحَدُكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لَتَبِعَهُ كَمَا يَتْبَعُهُ المَوْتُ» «٦» وأحاديث الرزق كثيرة، ومن كتاب «القصد إلى اللَّه سبحانه» للْمُحَاسِبِيِّ: قال: قلتُ لشيخنا: من أين وقع الاضطرابُ في القلوب، وقد جاءها الضمان من الله عز وجل؟ قال: من وجهين.
أحدهما: قِلَّةُ المعرفة بحُسْنِ الظّن، وإلقاء التّهم عن الله عز وجل.
والوجه الثاني: أنْ يعارضها خوفُ الفَوْت، فتستجيبَ النفسُ للداعي، ويَضْعُفَ اليقينُ، ويَعْدِمَ الصبرُ، فيظهرَ الجَزَعُ.
قلتُ: شيءٌ غيرُ هذا؟ قال: نعم، إنّ الله عز وجل وَعَدَ الأرزاق، وضَمِنَ، وغَيَّبَ الأوقات ليختبرَ أهلَ العقول، ولولا ذلك لكان كُلُّ المؤمنين راضين صابرين متوكّلين، لكنّ الله عز وجل أعلمهم أَنَّهُ رازقهم، وحَلَفَ لهم على ذلك، وغيّب عنهم أوقات العطاء،
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٦١) برقم: (٣٢١٨٤)، وذكره البغوي (٤/ ٢٣١).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤٦١) برقم: (٣٢١٨٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣٥).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٦١) برقم: (٣٢١٨٩)، وذكره البغوي (٤/ ٢٣١)، وابن عطية (٥/ ١٧٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣٧)، وعزاه لأبي الشيخ، وابن جرير.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٤٦١) برقم: (٣٢١٨٧)، وذكره البغوي (٤/ ٢٣١)، وابن عطية (٥/ ١٧٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣٧)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٥) ذكره ابن عطية (٥/ ١٧٦).
(٦) قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤/ ٧٥) : رواه الطبراني في «الأوسط» و «الصغير» وفيه عطية العوفي وهو ضعيف. اهـ.
301
فمن هاهنا عُرِفَ الخَاصّ من العامِّ، وتفاوت العبادُ في الصبر، والرضا، واليقين، والتوكل، والسكون، فمنهم- كما علمتَ- ساكنٌ، ومنهم متحرك، ومنهم راض، ومنهم ساخط، ومنهم جَزِعٌ، فعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في المعرفة- تفاوتوا في اليقين، وعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في اليقين- تفاوتوا في السكون والرضا والصبر والتوكل. اهـ.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٤ الى ٣٦]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦)
وقوله سبحانه: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ... الآية، قد تقدم قَصَصُهَا، و «عليم» أي: عالم، وهو إسحاق ع.
ت: ولنذكر هنا شيئاً من الآثار في آداب الطعام، قال النوويُّ: روى ابن السُّنِّيِّ بسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ كَانَ يقول في الطعام إذا قُرِّبَ إلَيْهِ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقْتَنَا، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، باسم اللَّهِ» انتهى «١»، وفي «صحيح مسلم» عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ- قَالَ الشَّيْطَانُ: لاَ مَبِيتَ لَكُمْ، وَلاَ عَشَاءَ، وَإذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّه تَعَالَى عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» «٢»، وفي «صحيح مسلم» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أَلاَّ يُذْكَرَ اسم الله عليه» «٣» الحديث، انتهى،
(١) أخرجه ابن السني (٤٥٩).
(٢) أخرجه مسلم (٣/ ١٥٩٨) كتاب «الأشربة» باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما (١٠٣/ ٢٠١٨)، وأبو داود (٢/ ٣٧٤) كتاب «الأطعمة» باب: التسمية على الطعام (٣٧٦٥)، وابن ماجه (٢/ ١٢٧٩)، كتاب «الدعاء» باب: ما يدعو به إذا دخل بيته (٣٨٨٧)، وأحمد (٣/ ٣٤٦)، والبيهقي (٧/ ٢٧٦)، كتاب «الصداق» باب: التسمية على الطعام، والبخاري في «الأدب المفرد» (٣١٩) (١١٠٢).
(٣) أخرجه مسلم (٣/ ١٥٩٧) كتاب «الأشربة» باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما (١٠٢/ ٢٠١٧)، وأبو داود (٢/ ٣٧٤) كتاب «الأطعمة» باب: التسمية على الطعام (٣٧٦٦)، وأحمد (٥/ ٣٨٣)، والحاكم في «المستدرك» (٤/ ١٠٨).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وللحديث شاهد من رواية جابر بن عبد الله، أخرجه أبو داود (٢/ ٣٧٤) كتاب «الأطعمة»، باب:
والصَّرَّةُ: الصيحة «١» كذا فسره ابن عباس وجماعة، قال الطبريُّ عن بعضهم «٢» : قَالَتْ:
«أَوَّهْ» بِصِيَاحٍ وتَعَجُّبٍ وقال النَّحَّاسُ: فِي صَرَّةٍ في جماعة نسوة.
وقوله: فَصَكَّتْ وَجْهَها: معناه: ضربْت وَجْهَهَا استهوالاً لما سمعت، وقال سفيان وغيره: ضَرَبَتْ بِكَفِّهَا جبهتها «٣»، وهذا مُسْتَعْمَلٌ في الناس حَتَّى الآن، وقولهم:
كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي: كقولنا الذي أخبرناك.
وقوله تعالى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ بيانٌ يخرج عن مُعْتَادِ حجارة البرَد التي هي من ماء، ويُرْوَى أَنَّه طين طُبِخَ في نار جَهَنَّمَ حَتَّى صار حجارة كالآجر، ومُسَوَّمَةً نعت لحجارة، ثم أخبر تعالى أَنَّه أخرج بأمره مَنْ كان في قرية «لوط» مِنَ المؤمنين، منجياً لهم، وأعاد الضمير على القرية، / وإنْ لم يجرِ لها قبل ذلك ذكر لشهرة أمرها، قال المفسرون:
لاَ فَرْقَ بين تقدُّمِ ذكر المؤمنين وتأخُّرِهِ وإِنَّمَا هما وصفانِ ذَكَرَهُمْ أَوَّلاً بأحدهما، ثم آخراً بالثَّاني، قيل: فالآية دالَّةٌ على أَنَّ الإيمان هو الإسلام، قال ع «٤» : ويظهر لي أَنَّ في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان وذلك أَنَّهُ ذكره مع الإخراج من القرية، كأَنَّهُ يقول:
نفذ أمرنا بإخراج كُلِّ مؤمن، ولا يُشْتَرَطُ فيه أنْ يكون عاملاً بالطاعات بلِ التصديق باللَّه فقط، ثم لما ذكر حال الموجودين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها، وهي الكاملةُ التصديق والأعمالِ، والبيتُ من المسلمين هو بيتُ لوط ع وكان هو وابنتاه، وفي كتاب الثعلبيِّ: وقيل: لوط وأهل بيته ثلاثةَ عَشَرَ، وهلكت امرأتُه فيمن هلك، وهذه القصة ذُكِرَتْ على جهة ضرب المثل لقريش، وتحذيراً أنْ يصيبهم مثلُ ما أصاب هؤلاء.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣٧ الى ٤٤]
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١)
ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤)
التسمية على الطعام (٣٧٦٥)، والنسائي (٤/ ١٧٤)، كتاب «آداب الأكل» باب: ذكر الله تعالى وتبارك عند الطعام (٦٧٥٧/ ١).
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٦٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٣٨)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ٤٦٣). [.....]
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٦٤) برقم: (٣٢٢٠٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٧٨).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٧٩).
وقوله: وَتَرَكْنا فِيها أي: في القرية، وهي سدوم آيَةً، قال أبو حيان «١» :
وَفِي مُوسى، أي: وفي قصة موسى، [انتهى].
وقوله سبحانه في فرعون: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي: أعرض عن أمر اللَّه، ورُكْنُهُ: هو سلطانُه وجُنْدُهُ وشدَّةُ أمره، وقول فرعون في موسى: ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ هو تقسيم، ظَنَّ أَنَّ موسى لا بُدَّ أَنْ يكونَ أَحَدَ هذين القسمين، وقال أبو عبيدةَ: «أو» هنا بمعنى الواو، وهذا ضعيف لا داعيةَ إليه في هذا الموضع.
وقوله: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ أي: ما تدع من شيء أتتْ عليه مِمَّا أذِنَ لها في إِهلاكه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ: وهو الفاني المُتَقَطِّعُ يبساً أو قِدَماً من الأشجار/ والوَرَقِ والعِظَامِ، ورُوِيَ في حديث: أَنَّ تلك الريح كانت تَهُبُّ على الناس فيهم العاديُّ وغيرُهُ، فَتَنْتَزِعُ العَادِيَّ من بين الناس وتذهب به.
وقوله سبحانه: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا أي: إذ قيل لهم في أول بَعْثِ صالح، وهذا قول الحَسَنِ «٢»، ويحتمل: إذْ قيل لهم بعد عَقْرِ الناقة: تمتعوا في داركم ثلاثة أَيَّامٍ وهو قول الفرَّاء «٣».
وقوله: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي: يبصرون بعيونهم، وهذا قول الطبريِّ، ويحتمل أَنْ يريدَ وهم ينتظرون في تلك الأَيَّامِ الثلاثة، وهذا قول مجاهد «٤».
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨)
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي: من مصارعهم قاله بعض المفسرين، وقال قتادة وغيره «٥» : معناه من قيام بالأمر النازل بهم ولا دَفْعِهِ عنهم.
وَقَوْمَ نُوحٍ بالنصب، وهو عَطْفٌ إمَّا على الضمير في قوله: فَأَخَذَتْهُمُ، إذْ هو بمنزلة أَهلكتهم، وإمَّا على الضمير في قوله: نَبَذْناهُمْ.
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ١٣٩).
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ١٨٠).
(٣) ينظر: المصدر السابق.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٤٧٠) برقم: (٣٢٢٤٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨٠).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٤٧١) برقم: (٣٢٢٤٢)، وذكره البغوي (٤/ ٢٣٤)، وابن عطية (٥/ ١٨١).
وقوله: وَالسَّماءَ نُصِبَ بإضمار فعل تقديره: وَبَنَيْنَا السماء بَنيناها، والأيد: القوة قاله ابن عباس وغيره «١» وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي: في بناء السماء، أي: جعلناها واسعةً قاله ابن زيد «٢».
أبو البقاء: فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي: نحن، فحذف المخصوص. انتهى.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)
وقوله سبحانه: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ قال مجاهد: معناه: أَنَّ هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار، والشقاوة والسعادة، والهُدَى والضلال، والسماء والأرض، والسواد والبياض، والصِّحَّةِ والمرض، والإيمان والكفر، ونحو هذا، ورَجَّحَهُ الطبريُّ «٣» بأَنَّه أَدَلُّ على القدرة التي تُوجدُ الضدين، وقال ابن زيد وغيره «٤» : هي إشارة إلى الأنثى والذكر من كل حيوان.
ت: والأَوَّلُ أحسن لشموله لما ذكره ابن/ زيد.
وقوله سبحانه: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ... الآية أمر بالدخول في الإيمان وطاعَةِ الرحمن، وَنَبَّهَ بلفظ الفرار على أَنَّ وراءَ الناس عقاباً وعذاباً» يَفِرُّ منه، فجمعتْ لفظةُ «فروا» بين التحذير والاستدعاء.
ت: وأسند أبو بكر، أحمد بن الحسين البيهقيُّ في «دلائل النبوَّةِ» (تصنيفه) عن كَثِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن أبيه، عن جدّه «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كَانَ في الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ كَلاَماً مِنْ زَاوِيَتِهِ، وَإذَا هُوَ بِقَائِلٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، أَعِنِّي عَلَى ما ينجيني ممّا خوّفتني، فقال
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٤٧٢) برقم: (٣٢٢٤٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨١)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٤٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات».
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٤٧٢) برقم: (٣٢٢٥١)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨١).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٧٢) برقم: (٣٢٢٥٢)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٤٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٤٧٣) برقم: (٣٢٢٥٤)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨١).
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ: أَلاَ تَضُمُّ إلَيْهَا أُخْتَهَا؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ، ارْزُقْنِي شَوْقَ الصَّادِقِينَ إلَى مَا شَوَّقْتَهُمْ إلَيْهِ» وفيه: «فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ، فَإذَا هو الخضر ع»، انتهى مختصراً «١».
وقوله تعالى: كَذلِكَ أي: سيرة الأمم كذلك قال عياض: فهذه الآية ونظائرها تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عزّاه الله- عز وجل- بما أخبر به عن الأُمَمِ السالفة ومقالها لأنبيائها، وأَنَّه ليس أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ ذلك، انتهى من «الشفا».
وقوله سبحانه: أَتَواصَوْا بِهِ توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكَفَرَةِ في تكذيب الأنبياء على تَفَرُّقِ أَزمانهم، أي: لم يتواصوا، لكنَّهُم فعلوا فعلاً كأَنَّهُ فعل مَنْ تواصى، والعِلَّةُ في ذلك أَنَّ جميعهم طاغٍ، والطاغي المستعلي في الأرض، المُفْسِدُ.
وقوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: عنِ الحرص المُفْرِطِ عليهم، وذَهَابِ النفس حَسَرَاتٍ، ولستَ بملوم إذ قد بَلَّغْتَ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى: نافعة للمؤمنين، ولمن قضي له أن يكون منهم.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
وقوله سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قال ابن عباس وعليٌّ «٢» :
المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلاَّ لآمرهم بعبادتي، وليقرُّوا لي بالعبودِيَّةِ، وقال زيد بن أسلمَ»
وسفيان: هذا خاصٌّ، والمراد: ما خلقت الطائعين من الجن والإنس إلاَّ لعبادتي، ويؤَيِّدُ هذا التأويلَ أنّ ابن عبّاس روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أَنَّهُ قَرَأَ: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ»، وقال ابن عباس أيضاً «٤» : معنى لِيَعْبُدُونِ: ليتذللوا لي ولقدرتي، وإنْ لم يكن ذلك على قوانينِ شرع، وعلى هذا التأويل فجميعهم من مؤمن
(١) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (٥/ ٤٢٣)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (١/ ١٩٣، ١٩٥).
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ١٨٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٣٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٧٥) برقم (٣٢٢٦٣) (٣٢٢٦٥)، وذكره البغوي (٤/ ٢٣٥)، وابن عطية (٥/ ١٨٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٤٢) وعزاه لابن جرير وابن المنذر. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٤٧٦) برقم (٣٢٢٦٨)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨٣).
306
وكافر متذلّل لله عز وجل أَلاَ تراهم عند القحوط والأمراض وغيرِ ذلك كيف يخضعون للَّه ويتذللون؟!.
ت: قال الفخر «١» : فإنْ قيل: ما العبادة التي خلق اللَّه الجن والإنسَ لها؟ قلنا:
التعظيم لأمر اللَّه، والشفقةُ على خلق اللَّه فإنَّ هذين النوعينِ لم يَخْلُ شرعٌ منهما، وأَمَّا خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها: بالوضع والهيئة، والقِلَّةِ والكَثْرَةِ، والزَّمان والمكان، والشَّرَائِطِ والأركان، انتهى، ونقل الثعلبيُّ وغيره «٢» عن مجاهد: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي: ليعرفوني، قال صاحب «الكَلِمِ الفارقية» : المعرفة باللَّه تملأ القلبَ مَهَابَةً ومخافَةً، والعينَ عَبْرَةً وعِبْرةً وحياءً وخَجْلَةً، والصَّدْرَ خُشُوعاً وَحُرْمَةً، والجوارحَ استكانةً وذِلَّةً وطاعةً وخدمةً، واللسانَ ذكراً وحمداً، والسمعَ إصغاءً وتفهّما، والخواطر في مواقف المناجاة خموداً، والوساوِسَ اضمحلالاً، انتهى.
وقوله سبحانه: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي: أنْ يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.
وقوله: أَنْ يُطْعِمُونِ أي: أنْ يطعموا خَلْقِيَ قاله ابن عباس «٣»، ويحتمل أن يريد: / أن ينفعوني، والْمَتِينُ: الشديد.
ت: ورُوِّينَا في «كتاب التِّرْمِذِيِّ» عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: يَا بْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى، وأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإلاَّ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، ورُوِّينَا فيه عن أنس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهْ شَمْلَهُ، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَل اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ» «٤» انتهى.
وقوله سبحانه: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: يريد أهل مكّة، والذّنوب: الحظّ والنصيب،
(١) ينظر: «تفسير الرازي» (١٤/ ٢٠٠).
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٢٣٥).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٤٧٦) برقم: (٣٢٢٦٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٨٣).
(٤) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٤٢- ٦٤٣) كتاب «صفة القيامة» باب: (٣٠) (٢٤٦٦)، وابن ماجه (٢/ ١٣٧٦) كتاب «الزهد» باب: الهم بالدنيا (٤١٠٧)، وأحمد (٢/ ٣٥٨).
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
307
وأصله من الدَّلْوِ وذلك أَنَّ الذَّنُوبَ هو مِلْءُ الدَّلْوِ من الماء، وكذا قال أبو حيان «١» :
ذَنُوباً، أي: نصيبا، انتهى، وأَصْحابِهِمْ: يُرَادُ بهم مَنْ تقدم من الأمم المُعَذَّبَةِ، وباقي الآية وعيد بيّن.
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ١٤١).
308
Icon