تفسير سورة الحديد

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
( ٥٧ ) سورة الحديد مدنية
وآياتها تسع وعشرون
وهي مدنية فيما قال النقاش وغيره بإجماع من المفسرين وقال غيره مكية قال القاضي أبو محمد ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه صدرها أن يكون مكيا والله اعلم وقد ذكرنا قول ابن عباس إن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد وروي أن الدعاء بعد قراءتها مستجاب١.
١ أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن مردويه، والبيهقي في "الشعب" عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية، ولكن في إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف، وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان، ولم يذكر العرباض بن سارية، فهو حديث مرسل، وأخرجه ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير، وقد قال ابن كثير في تفسيره:"والآية المشار إليها-والله أعلم- هي قوله:﴿هو الأول والآخر والظاهر والباطن﴾ الآية، وكان يحيى بن أبي كثير يقول: فنراها الآية التي في آخر سورة الحشر..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحديد
وهي مدنية فيما قال النقاش وغيره بإجماع من المفسرين، وقال غيره مكية.
قال القاضي أبو محمد: ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا، لكن يشبه صدرها أن يكون مكيا والله أعلم، وقد ذكرنا قول ابن عباس إن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد، وروي أن الدعاء مستجاب بعد قراءتها.
قوله عز وجل:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)
قال أكثر المفسرين: التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم: سبحان الله، وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوام أن التسبيح مما ذكر دائم مستمر، واختلفوا هل هذا التسبيح حقيقة أو مجاز على معنى أن أثر الصنعة فيها تنبه الرائي على التسبيح، فقال الزجاج وغيره: والقول بالحقيقة أحسن، وقد تقدم القول فيه غير مرة، وهذا كله في الجمادات، وأما ما يمكن التسبيح منه فقول واحد إن تسبيحهم حقيقة، وقال قوم من المفسرين: التسبيح في هذه السورة: الصلاة، وهذا قول متكلف، فأما فيمن يمكن منه ذلك فسائغ، وأما سجود ظلال الكفار هي صلاتهم، وأما في الجمادات فيقلق، وذلك أن خضوعها وخشوع هيئاتها قد يسمى في اللغة سجودا أو استعارة كما قال الشاعر [زيد الخيل] :[الطويل] ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر ويبعد أن تسمى تلك صلاة الأعلى تحامل.
وقوله: ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عام في جميع المخلوقات، وقال بعض النحاة، التقدير: ما في السماوات وما في الأرض، ف «ما» نكرة موصوفة حذفها وأقام الصفة مقامها، وَهُوَ الْعَزِيزُ بقدرته وسلطانه، الْحَكِيمُ بلطفه وتدبيره وحكمته. ومُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هو سلطانها الحقيقي الدائم، لأن ملك البشر مجاز فان.
وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي على كل شيء مقدور، هُوَ الْأَوَّلُ الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة. وَالْآخِرُ الدائم الذي ليس له نهاية منقضية. قال أبو بكر الوراق هُوَ الْأَوَّلُ بالأزلية، وَالْآخِرُ بالأبدية، وهُوَ الْأَوَّلُ بالوجود، إذ كل موجود فبعده وبه. وَالْآخِرُ إذا ترقى العقل في الموجودات حتى يكون إليه منتهاها، قال عز وجل: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: ٤٢].
وَالظَّاهِرُ معناه بالأدلة ونظر العقول في صنعته. وَالْباطِنُ بلطفه وغوامض حكمته وباهر صفاته التي لا يصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهام.
ويحتمل أن يريد بقوله: الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ أي الذي بهر وملك فيما ظهر للعقول وفيما خفي عنها فليس في الظاهر غيره حسب قيام الأدلة، وليس في باطن الأمر وفيما خفي عن النظرة مما عسى أن يتوهم غيره.
وقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عام في الأشياء عموما تاما. وقد تقدم القول في خلق السماوات والأرض. وأكثر الناس على أن بدأة الخلق هي في يوم الأحد، ووقع في مسلم: أن البدأة في يوم السبت، وقال بعض المفسرين: الأيام الستة من أيام القيامة. وقال الجمهور: بل من أيام الدنيا.
قال القاضي أبو محمد: وهو الأصوب.
والاستواء على العرش هو بالغلبة والقهر المستمرين بالقدرة، وليس في ذلك ما في قهر العباد من المحاولة والتعب. وقد تقدم القول في مسألة الاستواء مستوعبا في: «طه» وغيرها.
و: ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ هو المطر والأموات وغير ذلك، وَما يَخْرُجُ مِنْها النبات والمعادن وغير ذلك. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ الملائكة والرحمة والعذاب وغير ذلك. وَما يَعْرُجُ الأعمال صالحها وسيئها والملائكة وغير ذلك.
وقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ معناه بقدرته وعلمه وإحاطته. وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها مخرجة عن معنى لفظها المعهود، ودخل في الإجماع من يقول بأن المشتبه كله ينبغي أن يمر ويؤمن به ولا يفسر فقد أجمعوا على تأويل هذه لبيان وجوب إخراجها عن ظاهرها. قال سفيان الثوري معناه: علمه معكم، وتأولهم هذه حجة عليهم في غيرها.
وقوله عز وجل:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٥ الى ٩]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩)
قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ خبر يعم جميع الموجودات، والْأُمُورُ هنا ليست جمع
257
المصدر بل هي جميع الموجودات، لأن الأمر والشيء والوجود أسماء شائعة في جميع الموجودات أعراضها وجوهرها.
وقرأ الجمهور: «ترجع» بضم التاء، وقرأ الأعرج والحسن وابن أبي إسحاق: «ترجع» بفتح التاء.
وقوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الآية تنبيه على العبرة فيما يتجاذبه الليل والنهار من الطول والقصر، وذلك متشعب مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة، وذلك بحر من بحار الفكرة لمن تأمله.
وَيُولِجُ معناه: يدخل. و: ذات الصُّدُورِ ما فيها من الأسرار والمعتقدات، وذلك أغمض ما يكون.
وهذا كما قالوا: الذئب مغبوط بذي بطنه، وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة.
قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية أمر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان والنفقة في سبيل الله، ويروى أن هذه الآية نزلت في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك، قاله الضحاك، وقال: الإشارة بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحكمها باق يندب إلى هذه الأفعال بقية الدهر.
وقوله: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير إلى الإنسان من غيره ويتركها لغيره، وليس له من ذلك إلا ما تضمنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» ويروى أن رجلا مر بأعرابي له إبل، فقال له: يا أعرابي، لمن هذه الإبل؟ فقال: هي لله عندي. فهذا موقف مصيب إن كان ممن صحب قوله عمله.
وقوله تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية توطئة لدعائهم وإيجاب لأنهم أهل هذه الرتب الرفيعة فإذا تقرر ذلك فلا مانع من الإيمان، وهذا كما تريد أن تندب رجلا إلى عطاء فتقول له: أنت يا فلان من قوم أجواد فينبغي أن تكرم، وهذا مطرد في جميع الأمور إذا أردت من أحد فعلا خلقته بخلق أهل ذلك الفعل وجعلت له رتبتهم، فإذا تقرر في هؤلاء أن الرسول يدعو وأنهم ممن أخذ الله ميثاقهم فكيف يمتنعون من الإيمان.
وقرأ جمهور القراء: «وقد أخذ» على بناء الفعل للفاعل. وقرأ أبو عمرو: «قد أخذ» على بناء الفعل للمفعول والآخذ على كل قول هو الله تعالى، وهو الآخذ حين الإخراج من ظهر آدم على ما مضى في غير هذه السورة، والمخاطبة ببناء الفعل للمفعول أشد غلظة على المخاطب، ونحوه قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] وكما تقول لامرىء: افعل كما قيل لك، فهو أبلغ من قولك: افعل ما قلت لك.
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال الطبري المعنى: إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معنى ليس في ألفاظ الآية وفيه إضمار كثير، وإنما المعنى عندي أن قوله: وإن الرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، يقتضي أن يقدر بأثره:
فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة إن كنتم مؤمنين، أي إن دمتم على ما بدأتم به.
258
وقرأ بعض السبعة: «ينزّل» مثقلة. وقرأ بعضهم: «ينزل» مخففة. وقرأ الحسن وعيسى بالوجهين.
وقرأ الأعمش: «أنزل». والعبد في قوله: عَلى عَبْدِهِ محمد رسوله. والآيات: آيات القرآن.
والظُّلُماتِ: الكفر والنُّورِ: الإيمان، وباقي الآية وعد وتأنيس مؤكد.
قوله عز وجل:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
والمعنى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وأنتم تموتون وتتركون أموالكم، فناب مناب هذا القول قوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وفيه زيادة تذكير بالله وعبرة، وعنه يلزم القول الذي قدرناه.
وقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ الآية، روي أنها نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة أنفقت نفقات كثيرة حتى قال ناس: هؤلاء أعظم أجرا من كل من أنفق قديما، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل الفتح أعظم أجرا.
وهذا التأويل على أن الآية نزلت بعد الفتح، وقد قيل إنها نزلت قبل الفتح تحريضا على الإنفاق، والأول أشهر وحكى الثعلبي أنها نزلت في أبي بكر الصديق ونفقاته، وفي معناه قول النبي عليه السلام لخالد بن الوليد: «اتركوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».
واختلف الناس في الْفَتْحِ المشار إليه في هذه الآية. فقال أبو سعيد الخدري والشعبي: هو فتح الحديبية. وقد تقدم في سورة «الفتح» تقرير كونه فتحا، ورفعه أبو سعيد الخدري إلى النبي عليه السلام أن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبية. وقال قتادة ومجاهد وزيد بن أسلم: هو فتح مكة الذي أزال الهجرة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو المشهور الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية. وقال له رجل بعد فتح مكة: أبايعك على الهجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الهجرة قد ذهبت بما فيها». وإن الهجرة شأنها شديد، ولكن أبايعك على الجهاد وحكم الآية باق غابر الدهر من أنفق في وقت حاجة السبيل أعظم أجرا ممن أنفق مع استغناء السبيل.
وأكثر المفسرين على أن قوله: يَسْتَوِي مسند إلى مَنْ، وترك ذكر المعادل الذي لا يستوي معه، لأن قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ قد فسره وبينه. ويحتمل أن يكون فاعل يَسْتَوِي محذوفا تقديره: لا يستوي منكم الإنفاق، ويؤيد ذلك أن ذكره قد تقدم في قوله: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا ويكون قوله: مَنْ ابتداء وخبره الجملة الآتية بعد.
وقرأ جمهور السبعة: «وكلا وعد الله الحسنى» وهي الوجه، لأن وعد الله ليس يعوقه عائق على أن ينصب المفعول المقدم. وقرأ ابن عامر: «وكل وعد الله الحسنى»، فأما سيبويه رحمه الله فقدر الفعل خبر
الابتداء، وفيه ضمير عائد وحذفه عنده قبيح لا يجري إلا في شعر ونحوه، ومنه قول الشاعر [جرير بن عطية] :[الرجز]
قد أصبحت أم الخيار تدعي عليّ ذنبا كله لم أصنع
قال: ولكن حملوا الخبر على الصفات كقول جرير: [الوافر] وما شيء حميت بمستباح وعلى الصلات كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: ٤١] وذهب غير سيبويه إلى أن وَعَدَ في موضع الصفة، كأنه قال: «أولئك كل وعد الله الحسنى»، وصاحب هذا المذهب حصل في هذا التعسف في المعنى فرارا من حذف الضمير في خبر المبتدأ. و: الْحُسْنى الجنة، قاله مجاهد وقتادة، والوعد يتضمن ما قبل الجنة من نصر وغنيمة.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قول فيه وعد ووعيد.
وقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الآية، قال بعض النحويين: مَنْ ابتداء و: ذَا خبر، والَّذِي صفة، وقال آخرون منهم: مَنْ ابتداء و: ذَا زائد مع الذي، والَّذِي خبر الابتداء، وقال الحسن: نزلت هذه الآية في التطوع في جميع أمر الذين. والقرض: السلف ونحوه أن يعطي الإنسان شيئا وينتظر جزاءه، والتضعيف من الله هو في الحسنات، يضاعف الله لمن يشاء من عشرة إلى سبعمائة، وقد ورد أن التضعيف يربى على سبعمائة، وقد مر ذكر ذلك في سورة البقرة بوجوهه من التأويل.
وقرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي: «فيضاعفه» بالرفع على العطف أو على القطع والاستئناف.
وقرأ عاصم: «فيضاعفه» بالنصب في الفاء في جواب الاستفهام، وفي ذلك قلق. قال أبو علي: لأن السؤال لم يقع عن القرض، وإنما يقع السؤال عن فاعل القرض، وإنما تنصب الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى، كأن قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ بمنزلة أن لو قال:
أيقرض الله أحدا فيضاعفه؟ وقرأ ابن كثير «فيضعّفه» مشددة العين مضمومة الفاء. وقرأ ذلك ابن عامر، إلا أنه فتح الفاء.
والأجر الكريم الذي يقرض به رضى وإقبال، وهذا معنى الدعاء: يا كريم العفو، أي أن مع عفوه رضى وتنعيما وعفو البشر ليس كذلك.
وقوله عز وجل:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٢ الى ١٤]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤)
260
العامل في: يَوْمَ قوله وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: ١١]. والرؤية في هذه الآية رؤية عين.
والنور: قال الضحاك بن مزاحم: هي استعارة، عبارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه. وقال الجمهور:
بل هو نور حقيقة، وروي في هذا عن ابن عباس وغيره آثار مضمنها: أن كل مؤمن ومظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نورا فيطفأ نور كل منافق ويبقى نور المؤمنين. حتى أن منهم من نوره يضيء كما بين مكة وصنعاء، رفعه قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من نوره كالنخلة السحوق. ومنهم من نوره يضيء ما بين قرب من قدميه، قال ابن مسعود: ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويتبين مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية. وخص تعالى بين الأيدي بالذكر لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور.
واختلف الناس في قوله: وَبِأَيْمانِهِمْ فقال بعض المتأولين المعنى: وعن أيمانهم، فكأنه خص ذكر جهة اليمين تشريفا، وناب ذلك مناب أن يقول: وفي جميع جهاتهم، وقال آخرون منهم، المعنى:
وَبِأَيْمانِهِمْ كتبهم بالرحمة. وقال جمهور المفسرين، المعنى: يسعى نورهم بين أيديهم، يريد الضوء المنبسط من أصل النور. وَبِأَيْمانِهِمْ أصله، والشيء الذي هو متقد فيه.
قال القاضي أبو محمد: فضمن هذا القول أنهم يحملون الأنوار، وكونهم غير حاملين أكرم، ألا ترى أن فضيلة عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنما كانت بنور لا يحملانه. هذا في الدنيا فكيف في الآخرة، ومن هذه الآية انتزع حمل المعتق للشمعة.
وقرأ الناس: «بأيمانهم» جمع يمين. وقرأ سهل بن سعد وأبو حيوة: «بإيمانهم» بكسر الألف، وهو معطوف على قوله: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كأنه قال: كائنا بين أيديهم، وكائنا بسبب إيمانهم.
وقوله تعالى: بُشْراكُمُ معناه، يقال لهم: بشراكم جنات، أي دخول جنات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
وقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها إلى آخر الآية، مخاطبة لمحمد ﷺ وقرأ ابن مسعود:
«ذلك الفوز العظيم» بغير هو.
وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ قال بعض النحاة: يَوْمَ بدل من الأول وقال آخرون منهم العامل فيه فعل مضمر تقديره: اذكر.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر لي أن العامل فيه قوله تعالى: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ويجيء معنى الْفَوْزُ أفخم، كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم، وقول المنافقين هذه المقالة الممكنة هو عند انطفاء أنوارهم كما ذكرنا قبل.
261
وقولهم: انْظُرُونا معناه: انتظرونا، ومنه قول الحطيئة: [البسيط]
وقد نظرتكم أبناء عائشة للخمس طال بها حبسي وتبساسي
وقرأ حمزة وحده وابن وثاب وطلحة والأعمش: «أنظرونا» بقطع الألف وكسر الظاء على وزن أكرم.
ومنه قول عمرو بن كلثوم: [الوافر]
أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبّرك اليقينا
ومعناه: أخرونا، ومنه النظرة إلى الميسرة، وقول النبي عليه السلام: «من أنظر معسرا» الحديث، ومعنى قولهم: أخرونا، أخروا مشيكم لنا حتى نلحق ف نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، واقتبس الرجل واستقبس أخذ من نور غيره قبسا. وقوله تعالى: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ يحتمل أن يكون من قول المؤمنين، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة.
وقوله: وَراءَكُمْ حكى المهدوي وغيره من المفسرين أنه لا موضع له من الإعراب، وأنه كما لو قال ارجعوا ارجعوا، وأنه على نحو قول أبي الأسود الدؤلي للسائل: وراءك أوسع لك.
قال القاضي أبو محمد: ولست أعرف مانعا يمنع من أن يكون العامل فيه ارْجِعُوا، والقول لهم:
فَالْتَمِسُوا نُوراً هو على معنى التوبيخ لهم، أي أنكم لا تجدونه.
ثم أعلم عز وجل أنه يضرب بينهم في هذه الحال بِسُورٍ حاجز، فيبقى المنافقون في ظلمة ويأخذهم العذاب من الله، وحكي عن ابن زيد أن هذا السور هو الأعراف المذكور في سورة «الأعراف» وقد حكاه المهدوي، وقيل هو حاجز آخر غير ذلك، وقال عبد الله بن عمر وكعب الأحبار وعبادة بن الصامت وابن عباس: هو الجدار الشرقي في مسجد بيت المقدس. وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة على السور الشرقي من بيت المقدس فبكى وقال: من هاهنا أخبرنا النبي ﷺ أنه رأى جهنم.
قال القاضي أبو محمد: وفيه باب يسمى باب الرحمة، سماه في تفسير هذه الآية عبادة وكعب. وفي الشرق من الجدار المذكور واد يقال له: وادي جهنم، سماه في تفسير هذه الآية عبد الله بن عمر وابن عباس، وهذا القول في السور بعيد، والله أعلم وقال قتادة وابن زيد، الرَّحْمَةُ: الجنة. والْعَذابُ:
جهنم.
والسور في اللغة الحجي الذي للمدن وهو مذكور. والسور أيضا جمع سورة، وهي القطعة من البناء ينضاف بعضها إلى بعض حتى يتم الجدار، فهذا اسم جمع يسوغ تذكيره وتأنيثه، وهذا الجمع هو الذي أراد جرير في قوله: [الكامل]
لما أتى خبر الزبير تضعضعت سور المدينة والجبال الخشع
وذلك أن المدينة لم يكن لها قط حجي، وأيضا فإن وصفه أن جميع ما في المدينة من بناء تواضع
262
أبلغ، ومن رأى أنه قصد قصد السور الذي هو الحجي، قال: إن ذلك إذا تواضع فغيره من المباني أحرى بالتواضع.
قال القاضي أبو محمد: فإذا كان السور في البيت محتملا للوجهين فليس هو في قوة مر الرياح وصدر القناة وغير ذلك مما هو مذكر محض استفاد التأنيث مما أضيف إليه.
وقوله تعالى: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي جهة المؤمنين، وَظاهِرُهُ جهة المنافقين، والظاهر هنا البادي، ومنه قول: من ظاهر مدينة كذا، وقوله تعالى: يُنادُونَهُمْ معناه: ينادي المنافقون المؤمنين أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدنيا؟ فيرد المؤمنون عليهم: بَلى كنتم معنا، ولكنكم عرضتم أنفسكم للفتنة، وهو حب العاجل والقتال عليه، قال مجاهد: فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالنفاق. وَتَرَبَّصْتُمْ معناه هنا: بأمانكم «فأبطأتم» به حتى متم. وقال قتادة معناه: تربصتم بنا وبمحمد عليه السلام الدوائر وشككتم في أمر الله.
والارتياب: التشكك. و: الْأَمانِيُّ التي غرتهم هي قولهم: سيهلك محمد هذا العام ستهزمه قريش، ستأخذه الأحزاب، إلى غير ذلك من أمانيهم، وطول الأمل غرار لكل أحد، وأَمْرُ اللَّهِ الذي جاءَ هو الفتح وظهور الإسلام، وقيل هو موت المنافقين وموافاتهم على هذه الحال الموجبة للعذاب و: الْغَرُورُ الشيطان بإجماع من المتأولين.
وقرأ سماك بن حرب بضم الغين، وأبو حيوة. وينبغي لكل مؤمن أن يعتبر هذه الآية في نفسه وتسويفه في توبته.
قوله عز وجل:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٥ الى ١٧]
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧)
قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ استمرار في مخاطبة المنافقين. قاله قتادة وغيره: وروي في معنى قوله: وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا حديث، وهو أن الله تعالى يقرر الكافرين فيقول له: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: قد سألتك ما هو أيسر من هذا وأنت في صلب أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك.
وقرأ جمهور القراء والناس: «يؤخذ» بالياء من تحت. وقرأ أبو جعفر القارئ: «تؤخذ» بالتاء من فوق، وهي قراءة ابن عامر في رواية هشام عنه، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وقوله: هِيَ مَوْلاكُمْ قال المفسرون معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنما هي
263
استعارة، لأنها من حيث تضمنهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم مكان المولى، وهذا نحو قول الشاعر [عمرو بن معد يكرب] :[الوافر] تحية بينهم ضرب وجميع وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ الآية ابتداء معنى مستأنف، وروي أنه كثر المزاح والضحك في بعض تلك المدة في قوم من شبان المسلمين فنزلت هذه الآية. وقال ابن مسعود: مل الصحابة ملة فنزلت الآية.
ومعنى: أَلَمْ يَأْنِ ألم يحن، ويقال: أنى الشيء يأني، إذا حان ومنه قول الشاعر: [الوافر]
تمخضت المنون له بيوم أنى ولكل حاملة تمام
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «ألما يأن». وروي عنه أنه قرأ «ألم يين».
وهذه الآية على معنى الحض والتقريع، قال ابن عباس: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وسمع الفضل بن موسى قارئا يقرأ هذه الآية، والفضل يحاول معصية، فكانت الآية سبب توبته. وحكى الثعلبي عن ابن المبارك أنه في صباه حرك العود ليضربه، فإذا به قد نطق بهذه الآية، فتاب ابن المبارك وكسر العود وجاء التوفيق. والخشوع: الإخبات والتطامن، وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كانت في القلب، فلذلك خص تعالى القلب بالذكر. وروى شداد بن أوس عن النبي ﷺ أنه قال: «أول ما يرفع من الناس الخشوع».
وقوله تعالى: لِذِكْرِ اللَّهِ أي لأجل ذكر الله ووحيه الذي بين أظهرهم، ويحتمل أن يكون المعنى:
لأجل تذكير الله إياهم وأوامره فيهم.
وقرأ عاصم في رواية حفص ونافع: «وما نزل» مخفف الزاي. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم:
«نزّل» بشد الزاي على معنى: نزّل الله من الحق. وقرأ أبو عمرو في رواية عباس وهي قراءة الجحدري وابن القعقاع: «نزّل» بكسر الزاي وشدها. وقرأ نافع وأبو عمرو والأعرج وأبو جعفر: «ولا يكونوا» بالياء على ذكر الغيب. وقرأ حمزة فيما روى عنه سليم: «ولا تكونوا» بالتاء على مخاطبة الحضور.
والإشارة في قوله: أُوتُوا الْكِتابَ إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام، وذلك قال:
مِنْ قَبْلُ وإنما شبه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي. و: الْأَمَدُ قيل معناه: أمد انتظار الفتح، وقيل أمد انتظار القيامة وقيل أمد الحياة. و: (قست) معناه: صلبت وقل خيرها وانفعالها للطاعات وسكنت إلى معاصي الله، ففعلوا من العصيان والمخالفة ما هو مأثور عنهم.
وقوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها الآية مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين ندبوا إلى الخشوع، وهذا ضرب مثل واستدعاء إلى الخير، رقيق وتقريب بليغ، أي لا يبعد عنكم أيها التاركون للخشوع رجوعكم إليه وتلبسكم به، «فإن الله يحيي الأرض بعد موتها»، فكذلك يفعل بالقلوب، يردها إلى الخشوع بعد بعدها عنه، وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابة والتكسب من العبد بعد نفورها منه كما تحيى الأرض بعد أن كانت ميتة غبراء. وباقي الآية بين جدا.
264
قوله عز وجل:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٨ الى ١٩]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
قرأ جمهور القراء: «إن المصّدقين» بشد الصاد المفتوحة على معنى المتصدقين، وفي مصحف أبيّ بن كعب: «إن المتصدقين»، فهذا يؤيد هذه القراءة، وأيضا فيجيء قوله تعالى: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ملائما في الكلام للصدقة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «إن المصدقين» بتخفيف الصاد على معنى: إن الذين صدقوا رسول الله فيما بلغ عن الله وآمنوا به، ويؤيد هذه القراءة أنها أكثر تناولا، لأن كثيرا ممن لا يتصدق يعمه اللفظ في التصديق. ثم إن تقييدهم بقوله: وَأَقْرَضُوا يرد مقصد القراءتين قريبا بعضه من بعض.
وقوله: أَقْرَضُوا معطوف على المعنى، لأن معنى قوله: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ إن الذين تصدقوا، ولا يصح هنا عطف لفظي، قاله أبو علي في الحجة. وقد تقدم معنى القرض، ومعنى المضاعفة التي وعد الله بها هذه الأمة. وقد تقدم معنى وصف الأجر بالكريم، كل ذلك في هذه السورة.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد عندي قراءة من قرأ: «إن المصّدقين» بشد الصاد. إن الله تعالى حض في هذه الآية على الإنفاق وفي سبيل الله تعالى. ثم ذكر في هذه أهل الصدقة ووعدهم، ثم ذكر أهل الإيمان والتصديق في قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وعلى قراءة من قرأ: «إن المصدقين» بتخفيف الصاد فذكر المؤمنين مكرر في اللفظ، وكون الأصناف منفردة بأحكامها من الوعد أبين.
والإيمان بمحمد يقتضي الإيمان بجميع الرسل، فلذلك قال: وَرُسُلِهِ. والصِّدِّيقُونَ بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزجاج، وفعيل لا يكون فيما أحفظ إلا من فعل ثلاثي، وقد أشار بعض الناس إلى أنه يجيء من غير الثلاثي. وقال: مسيك من أمسك، وأقول إنه يقال: مسك الرجل وقد حكى مسك الشيء، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ اختلف الناس في تأويل ذلك، فقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة: وَالشُّهَداءُ معطوف على قوله: الصِّدِّيقُونَ والكلام متصل. ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال، فقال بعضها: وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء، فكل مؤمن شهيد، قاله مجاهد.
وروى البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال: «مؤمنو أمتي شهداء»، وتلا رسول الله ﷺ هذه الآية، وإنما خص رسول الله ﷺ ذكر الشهداء السبعة تشريفا، ولأنهم في أعلى رتب الشهادة، ألا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضا من السبعة بتشريف ينفرد به. وقال بعضها: وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء لكن من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد، وذلك نحو قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: ١٤٣] فكأنه قال في هذه الآية: هم أهل
الصدق والشهادة على الأمم عند ربهم، وقال ابن عباس ومسروق والضحاك: الكلام تام في قوله:
الصِّدِّيقُونَ.
وقوله: وَالشُّهَداءُ ابتداء مستأنف.
ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف، فقال بعضها معنى الآية: وَالشُّهَداءُ بأنهم صديقون حاضرون عِنْدَ رَبِّهِمْ. وعنى ب «الشهداء» : الأنبياء عليهم السلام، فكأن الأنبياء يشهدون للمؤمنين بأنهم صديقون، وهذا يفسره قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: ٤١]. وقال بعضها قوله: وَالشُّهَداءُ ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله، واستأنف الخبر عنهم بأنهم: عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ فكأنه جعلهم صنفا مذكورا وحده، وفي الحديث:
«إن أهل الجنة العليا ليراهم من دونهم كما ترون الكوكب الدري، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما».
وقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خبر عن الشهداء فقط على الأخير من الأقوال، وهو خبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية على الأقوال الثلاثة.
وقوله تعالى: وَنُورُهُمْ قال جمهور المفسرين: هو حقيقة حسبما روي مما تقدم ذكره في هذه السورة. وقال مجاهد وغيره: هو مجاز عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى التي حصلوا فيها.
ولما فرع ذكر المؤمنين وأهل الكرامة، عقب ذكر الكفرة المكذبين ليبين الفرق، فذكرهم تعالى بأنهم أَصْحابُ الْجَحِيمِ وسكانه.
وقوله تعالى:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٠]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠)
هذه الآية وعظ وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها و: أَنَّمَا سادة مسد المفعولين للعلم بأنها تدخل على اثنين وهي وإن كفت عن العمل، فالجملة بعدها باقية. و: الْحَياةُ الدُّنْيا في هذه الآية عبارة عن الأشغال والتصرفات والفكر التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأما ما كان من ذلك في طاعة الله وسبيله وما كان من الضرورات التي تقيم الأود وتعين على الطاعات فلا مدخل له في هذه الآية. وتأمل حال الملوك بعد فقرهم بين لك أن جميع نزوتهم لَعِبٌ وَلَهْوٌ. والزينة: التحسين الذي هو خارج من ذات الشيء، والتفاخر: هو بالأنساب والأموال وغير ذلك والتكاثر: هو الرغبة في الدنيا، وعددها لتكون العزة للكفار على المذهب الجاهلي.
ثم ضرب تعالى مثل الدنيا، فالكاف في قوله: كَمَثَلِ في رفع صفة لما تقدم، وصورة هذا المثال: أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس،
ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط، فيشيب ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله وذريته، ويموت ويضمحل أمره، وتصير أمواله لغيره، وتغير رسومه، فأمره مثل مطر أصاب أرضا فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق. ثم هاج: أي يبس واصفر، ثم تحطم، ثم تفرق بالرياح واضمحل.
واختلف المتأولون في لفظة الْكُفَّارَ هنا، فقال بعض أهل التأويل: هو من الكفر بالله، وذلك لأنهم أشد تعظيما للدنيا وأشد إعجابا بمحاسنها. وقال آخرون منهم: هو من كفر الحب، أي ستره في الأرض، فهم الزراع وخصهم بالذكر، لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة، الذي لا عيب له.
وهاج الزرع: معناه: يبس واصفر، وحطام: بناء مبالغة، يقال حطيم وحطام بمعنى محطوم، أو متحطم، كعجيب وعجاب، بمعنى معجب ومتعجب منه. ثم قال تعالى: وَفِي الْآخِرَةِ كأنه قال:
والحقيقة هاهنا، ثم ذكر العذاب أولا تهمما به من حيث الحذر في الإنسان ينبغي أن يكون أولا، فإذا تحرر من المخاوف مد حينئذ أمله. فذكر الله تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه وهو المغفرة والرضوان. وروي عن عاصم: ضم الراء من: «رضوان». و: مَتاعُ الْغُرُورِ معناه: الشيء الذي لا يعظم الاستمتاع به إلا مغتر. وقال عكرمة وغيره: مَتاعُ الْغُرُورِ القوارير، لأن الفساد والآفات تسرع إليها، فالدنيا كذلك أو هي أشد.
قوله عز وجل:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣)
لما ذكر تعالى المغفرة التي في الآخرة، ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة، وهذه الآية حجة عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات، وقد استدل بها بعضهم على أن أول أوقات الصلوات أفضل، لأنه يقتضي المسارعة والمسابقة، وقد ذكر بعضهم في تفسير هذه الآية أشياء هي على جهة المثال، فقال قوم من العلماء منهم ابن مسعود: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ معناه: كونوا في أول صف في القتال. وقال آخرون، منهم أنس بن مالك معناه: اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقال آخرون منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كن أول داخل في المسجد، وآخر خارج منه، وهذا كله على جهة المثال. وذكر العرض من الجنة، إذ المعهود أنه أقل من الطول، وقال قوم من أهل المعاني: عبر عن الساحة بالعرض ولم يقصد أن طولها أقل ولا أكثر. وقد ورد في الحديث: «إن سقف الجنة العرش». وورد في الحديث: «إن السماوات السبع في الكرسي كالدرهم في الفلاة، وإن الكرسي في العرش كالدرهم في الفلاة».
وقوله تعالى: أُعِدَّتْ ظاهرة أنها مخلوقة الآن معدة، ونص عليه الحسن في كتاب النقاش.
وقوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ قال ابن زيد وغيره المعنى: ما حدث من حادث خير وشر، فهذا على معنى لفظ: أَصابَ لا على عرف المصيبة، فإن عرفها في الشر. وقال ابن عباس ما معناه:
أنه أراد عرف المصيبة وخصها بالذكر، لأنها أهم على البشر، وهي بعض من الحوادث تدل على أن جميع الحوادث خيرها وشرها كذلك.
وقوله تعالى: فِي الْأَرْضِ يعني بالقحوط والزلازل وغير ذلك. وقوله: فِي أَنْفُسِكُمْ يريد بالموت والأمراض وغير ذلك.
وقوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ معناه: إلا والمصيبة في كتاب. و: نَبْرَأَها معناه: نخلقها، يقال:
برأ الله الخلق: أي خلقهم، والضمير عائد على المصيبة، وقيل: على الْأَرْضِ، وقيل: على الأنفس، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر، وهي كلها معان صحاح، لأن الكتاب السابق أزلي قبل هذه كلها.
وقوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يريد تحصيل الأشياء كلها في الكتاب. وقوله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا معناه: فعل الله ذلك كله وأعلمكم به ليكون سبب تسليمكم وقلة اكتراثكم بأمر الدنيا، فلا تحزنوا على ما فات، ولا تفرحوا الفرح المبطر بما آتاكم منها. قال ابن عباس: ليس أحد إلا يفرح ويحزن، ولكن من أصابته مصيبة يجعلها صبرا، من أصاب خيرا يجعله شكرا.
وقرأ أبو عمرو وحده: «أتاكم» على وزن مضى، وهذا ملائم لقوله: فاتَكُمْ. وقرأ الباقون من السبعة: «آتاكم»، على وزن أعطاكم، بمعنى آتاكم الله تعالى، وهي قراءة الحسن والأعرج وأهل مكة.
وقرأ ابن مسعود: «أوتيتم»، وهي تؤيد قراءة الجمهور.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ يدل على أن الفرح المنهي عنه إنما هو ما أدى إلى الاختيال، والفخر بنعم الله المقترن بالشكر والتواضع فأمر لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه ولا حرج فيه.
قوله عز وجل:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦)
اختلف النحاة في إعراب: الَّذِينَ فقال بعضهم: هم في موضع رفع على الابتداء، والخبر عنهم
268
محذوف معناه الوعيد والذم، وحذفه على جهة الإبهام كنحو حذف الجواب في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ [الرعد: ٣٢] الآية، وقال بعضهم هم رفع على خبر الابتداء تقديره هم الذين يَبْخَلُونَ. وقال بعضهم في موضع نصب صفة ل كُلَّ [الحديد: ٢٣]، لأن كلّا وإن كان نكرة فهو يخصص نوعا ما فيسوغ لذلك وصفه بالمعرفة، وهذا مذهب الأخفش. و: يَبْخَلُونَ معناه:
بأموالهم وأفعالهم الحسنة من إيمانهم وغير ذلك.
وقوله تعالى: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ يحتمل أن يصفهم بحقيقة الأمر بألسنتهم، ويحتمل أن يريد أنهم يقتدى بهم في البخل فهم لذلك كأنهم يأمرون.
وقرأ الحسن: «بالبخل» بفتح الباء والخاء. وقرأ جمهور القراء وأهل العراق: «فإن الله هو الغني الحميد» بإثبات: «هو»، وكذلك في «إمامهم». وقرأ نافع وابن عامر: «فإن الله الغني الحميد» بترك «هو»، وهي قراءة أهل المدينة، وكذلك في «إمامهم»، وهذا لم يثبت قراءة إلا وقد قرئ على النبي ﷺ بالوجهين. قال أبو علي، ف «هو» في القراءة التي ثبت فيها يحسن أن يكون ابتداء، لأن حذف الابتداء غير سائغ. و: الْكِتابَ اسم جنس لجميع الكتب المنزلة. وَالْمِيزانَ: العدل في تأويل أكثر المتأولين. وقال ابن زيد وغيره من المتأولين: أراد الموازين المصرفة بين الناس، وهذا جزء من القول الأول.
وقوله: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ يقوي القول الأول.
وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ عبر عن خلقه وإيجاده بالإنزال كما قال في الثمانية الأزواج من الأنعام، وأيضا فإن الأمر بكون الأشياء لما تلقى من السماء، جعل الكل نزولا منها. وقال جمهور كثير من المفسرين: الْحَدِيدَ هنا: أراد به جنسه من المعادن وغيرها. وقال ابن عباس: نزل آدم من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة، قال حذاق من المفسرين: أراد به السلاح، ويترتب معنى الآية بأن الله أخبر أنه أرسل رسله وأنزل كتبا وعدلا مشروعا وسلاحا يحارب به من عند ولم يهتد بهدي الله فلم يبق عذر، وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال وترغيب فيه.
وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ يقوي هذا التأويل، ومعنى قوله: لِيَعْلَمَ أي ليعلمه موجودا فالتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود.
وقوله: بِالْغَيْبِ معناه: بما سمع من الأوصاف الغائبة فآمن بها لقيام الأدلة عليها.
ثم وصف تعالى نفسه بالقوة والعزة ليبين أنه لا حاجة به إلى النصرة، لكنها نافعة من عصم بها نفسه من الناس. ثم ذكر تعالى رسالة «نوح وإبراهيم» تشريفا لهما بالذكر، ولأنهما من أول الرسل. ثم ذكر تعالى نعمه على ذُرِّيَّتِهِمَا. وقوله تعالى: وَالْكِتابَ يعني الكتب الأربعة، فإنها جميعا في ذرية إبراهيم عليه السلام. وذكر أنهم مع ذلك منهم من فسق وعند، فكذلك بل أحرى جميع الناس، ولذلك يسر السلاح للقتال.
269
قوله عز وجل:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)
قَفَّيْنا معناه: جئنا بهم بعد الأولين، وهو مأخوذ من القفا، أي جاء بالثاني في قفا الأول، فيجيء الأول بين يدي الثاني، ومنه القوافي التي تأتي أواخر أبيات الشعر، ثم ذكر «عيسى» عليه السلام تشريفا وتخصيصا.
وقرأ الحسين: «الإنجيل» بفتح الهمزة، قال أبو الفتح: هذا مما لا نظير له. و: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً مفعولات جَعَلْنا. والجعل في هذه الآية بمعنى: الخلق.
وقوله: ابْتَدَعُوها صفة ل رَهْبانِيَّةً وخصها بأنها ابتدعت، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها، وأما الرهبانية فهي أفعال بدن مع شيء في القلب ففيها موضع للتكسب. قال قتادة:
الرأفة والرحمة من الله تعالى. والرهبانية هم ابتدعوها، والمراد بالرأفة والرحمة: حب بعضهم في بعض وتوادهم، والمراد بالرهبانية: رفض النساء، واتخاذ الصوامع، والمعتزلة تعرب رَهْبانِيَّةً أنها نصب بإضمار فعل يفسره ابْتَدَعُوها وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على مذهبهم، وكذلك أعربها أبو علي. وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق، ففرقة قاتلت الملوك على الدين، فقتلت وغلبت. وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه، فأخذتها الملوك ونشرتها بالمناشر وقتلوا، وفرقة خرجت إلى الفيافي وبنت الصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت وتسموا بالرهبان، واسمهم مأخوذ من الرهب، وهو الخوف، فهذا هو ابتداعهم ولم يفرض الله ذلك عليهم، لكنهم فعلوا ذلك ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ، هذا تأويل أبي أمامة وجماعة، وقال مجاهد: المعنى كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ. ف «كتب» على هذا بمعنى: قضى، ويحتمل اللفظ أن يكون المعنى: ما كتبناها عليهم إلا في عموم المندوبات، لأن ابتغاء مرضاة الله بالقرب والنوافل مكتوب على كل أمة فالاستثناء على هذا احتمال متصل.
واختلف الناس في الضمير الذي في قوله: فَما رَعَوْها من المراد به؟ فقيل إن الذين ابتدعوا الرهبانية بأنفسهم لم يدوموا على ذلك ولا وفوه حقه، بل غيروا وبدلوا، قاله ابن زيد وغيره، والكلام سائغ وإن كان فيهم من رعى: أي لم يرعوها بأجمعهم، وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل أنه يلزمه أن يرعاه حق رعيه. قال ابن عباس وغيره: الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم وقال الضحاك وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين لها، وباقي الآية بين. وقرأ ابن مسعود: «ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها».
وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ اختلف الناس في المخاطب بهذا، فقالت فرقة من المتأولين خوطب بهذا أهل الكتاب، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي»، الحديث وقال آخرون المخاطبة للمؤمنين من أمة محمد ﷺ قيل لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، أي اثبتوا على ذلك ودوموا عليه، وهذا هو معنى الأمر أبدا لمن هو متلبس بما يؤمر به.
وقوله: كِفْلَيْنِ أي نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه، قال أبو موسى الأشعري:
كِفْلَيْنِ ضعفين بلسان الحبشة، وروي أن عمر بن الخطاب قال لبعض الأحبار: كم كان التضعيف للحسنات فيكم؟ فقال ثلاثمائة وخمسون، فقال عمر: الحمد لله الذي ضاعف لنا إلى سبعمائة، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح الذي يقتضي أن اليهود عملت إلى نصف النهار على قيراط، والنصارى من الظهر إلى العصر على قيراط، وهذه الأمة من العصر إلى الليل على قيراطين، فلما احتجت اليهود والنصارى على ذلك وقالوا نحن أكثر عملا وأقل أجرا، قال الله تعالى: «هل نقصتم من أجركم شيئا، قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء». والكفل: الحظ والنصيب. والنور: هنا إما أن يكون وعدا بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة، وإما أن يكون استعارة للهدى الذي يمشي به في طاعة الله.
قوله عز وجل:
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٩]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
روي أنه لما نزل هذا الوعد للمؤمنين حسد أهل الكتاب على ذلك، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها وتزعم أنها أحباء الله وأهل رضوانه، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله تعالى فعل ذلك وأعلم به ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون، و «لا» في قوله: لِئَلَّا زائدة كما هي في قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء: ٩٥] على بعض التأويلات.
وقرأ ابن عباس «ليعلم أهل الكتاب»، وروى إبراهيم التيمي عن ابن عباس: «كي يعلم»، وروي عن ابن عباس: «لكي لا يعلم». وروي عن حطان الرقاشي أنه قرأ: «لأي يعلم». وقرأ ابن مسعود وابن جبير وعكرمة: «لكي يعلم أهل الكتاب»، وقرأ الحسن فيما روى ابن مجاهد: «ليلا يعلم» بفتح اللام وسكون الياء. فأما فتح اللام فلغة في لام الجر مشهورة وأصل هذه القراءة «لأن لا»، استغني عن الهمزة بلام الجر فحذفت فجاء «لأن لا»، أدغمت النون في اللام للتشابه فجاء «للا»، اجتمعت أمثلة فقلبت اللام الواحدة ياء. وقرأ الحسن فيما روى قطرب: «ليلا» بكسر اللام وسكون الياء وتعليلها كالتي تقدم.
وقوله تعالى: أَلَّا يَقْدِرُونَ معناه: أنهم لا يملكون فضل الله ويدخل تحت قدرهم، وقرأ ابن مسعود: «ألا يقدروا» بغير نون، وباقي الآية بين.
Icon