تفسير سورة التحريم

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

اختلف في سبب نزول صدر هذه السورة، فقيل : نزلت في شأن ( مارية ) وكان رسول الله ﷺ قد حرمها فنزل قوله تعالى :﴿ ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ الآية، وقد روى النسائي، عن أنَس « أن رسول الله ﷺ كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة، حتى حرمها، فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ إلى آخر الآية »، وروى ابن جرير، عن زيد بن أسلم « أن رسول الله ﷺ أصاب أُم إبراهيم في بعض بعض نسائه، فقالت : أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي؟ فجعلها عليه حراماً، فقالت : أي رسول الله كيف يحرم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها، فأنزل الله تعالى :﴿ ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ » ؟! وعن مسروق قال :« آلى رسول الله ﷺ وحرم، فعوتب في التحريم، وأُمر بالكفارة باليمين »، وعن سعيد بن جبير : أن ابن عباس كان يقول في الحرام يمين تكفرها، وقال ابن عباس :﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [ الأحزاب : ٢١ ] يعني أن رسول الله ﷺ حرم جاريته، فقال الله تعالى :﴿ ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ ﴾ إلى قوله :﴿ قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ فكفّر يمينه فصيّر الحرام يميناً، ومن هاهنا قال بعض الفقهاء بوجوب الكفارة على من حرّم جاريته، أو زوجته، أو طعاماً، أو شراباً، أو شيئاً من المباحات وهو مذهب الإمام أحمد، وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية إذا حرم عينيهما، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمَة نفذ فيهما، والآية نزلت في تحريمه العسل كما روى البخاري عن عائشة قالت :« كان النبي ﷺ يشرب عسلاً عند ( زينب بنت جحش ) ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير، قال :» لا ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً « » ﴿ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِك ﴾.
وقال البخاري في « كتاب الطلاق » عن عائشة قالت :« كان رسول الله ﷺ يحب الحلوى والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنون من إحداهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغرت، فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت النبي ﷺ منه شربة، فقلت : أما والله لنحتالنَّ له، فقلت لسودة بن زمعة : إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي : أكلت مغافير فإنه سيقول : لا، فقولي له : ما هذه الريح التي أجد؟ سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل، فقولي : جرست نحله العرفط وسأقول ذلك، وقولي له أنت يا صفية ذلك، قالت : تقول سودة : فوالله ما هو إلا أن أقام على الباب، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقاً منك، فلما دنا منها، قالت له سودة : يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال :» لا «، قالت : فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال :» سقتني حفصة شربة عسل «، قالت : جرست نحلة العرفط، فلما دار إليَّ، قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له : يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال :» لا حاجة لي فيه « »
2577
، قالت : تقول سودة والله لقد حرمناه، قلت لها : اسكتي. هذا لفظ البخاري ولمسلم، قالت :« وكان رسول الله ﷺ يشتد عليه أو يوجد منه الريح، يعني الريح الخبيثة، ولهذا قلن له أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء، فلما قال :» بل شربت عسلاً « » قلن : جرست نحلة العرفط، أي رعث نحله شجر العرفط الذي صمغه المغافير، فلهذا ظهر ريحه في العسل الذي شربته، قال الجوهري : جرست النحل العرفط إذا أكلته، ومنه قيل للنحل جوارس، وفي رواية عن عائشة أن ( زينب بنت جحش ) هي التي سقته العسل، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه فالله أعلم، وقد يقال : إنهما واقعتان، ولا بعد في ذلك إلا أن كونهما سبباً لنزول هذه الآية فيه نظر، والله أعلم.
ومما يدل على أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس : قال : لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي ﷺ اللتين قال الله تعالى :﴿ إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ حتى حج عمر وحججت معه، فلماكان ببعض الطريق عدل عمر، وعدلت معه بالإداوة، فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت : يا أمير المؤمنين : من المرأتان من أزواج النبي ﷺ اللتان قال الله تعالى :﴿ إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ ؟ فقال عمر : واعجباً لك يا ابن عباس، قال : الزهري : كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال هي ( عائشة وحفصة ). قال : ثم أخذ يسوق الحديث، قال :« كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤها يتعلمن من نسائهم، قال : وكان منزلي في دار أُميَّة بن زيد بالعوالي، فغضبت يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت : ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج رسول الله ﷺ ليراجعنه، وتهجره إحداهنَّ اليوم إلى الليل، قال : فانطلقت فدخلت على حفصة، فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه سلم؟ قالت : نعم، قلت : وتهجره إحداكنَّ اليوم إلى الليل؟ قالت : نعم، قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت، لا تراجعي رسول الله ﷺ، ولا تسأليه شيئاً، وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم ( أي أجمل ) وأحب إلى رسول الله صلى الله وسلم منك يريد عائشة، قال : وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله ﷺ، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك، قال : وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوماً، ثم أتى عشاء، فضر بابي، ثم ناداني، فخرجت إليه، فقال : حدث أمر عظيم، فقلت : وما ذاك، أَجاءت غسان؟ قال : لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله ﷺ نساءه، فقلت : قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائناً، حتى إذا صليت الصبح شددت عليّ ثيابي، ثم نزلت، فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت : أطلقكن رسول الله ﷺ ؟ فقالت : لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة، فأتيت غلاماً له أسود فقلت استأذن لعمر، فدخ الغلام ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست عنده قليلاً، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام، فقلت : استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي، فقال : فقد ذكرتك له فصمت، فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر : فدخل ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبراً. فإذا الغلام يدعوني. فقال : ادخل قد أذن لك. فدخلت فسلمت على رسول الله ﷺ، فإذا هو متكىء على رمال حصير وقد أثر في جنبه فقلت : أطقلت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إليّ، وقال :» لا «، فقلت : ألله أكبر، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. فغضبت على امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني. فقالت : ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ﷺ ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكم وخسرن، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله صلى عليه وسلم فقلت : يا رسول الله قد دخلت على حفصة، فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله ﷺ منك، فتبسم أُخْرى، فقلت : استأنس يا رسول الله؟ قال :» نعم «، فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت في البيت شيئاً يرد البصر إلاّ أهب مقامه، فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أُمتك، فقد وسع على فارس والروم. وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالساً وقال :» أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا «، فقلت : استغفر لي يا رسول الله، وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن، حتى عاتبه الله عزَّ وجلَّ ».
2578
وروى البخاري : عن أنَس قال، قال عمر : اجتمع نساء النبي ﷺ في الغيرة عليه فقلت لهن :﴿ عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ ﴾ فنزلت هذه الآية، وقد تقدم أنه وافق القرآن في أماكن منها في نزول الحجاب ومنها في أسارى بدر، ومنها قوله : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]. وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات، ومعنى قوله :﴿ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ ﴾ ظاهر، وقوله تعالى :﴿ سَائِحَاتٍ ﴾ أي صائمات قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد، وتقدم فيه حديث مرفوع، ولفظه « سياحة هذه الأمة الصيام »، وقال زيد بن أسلم ﴿ سَائِحَاتٍ ﴾ أي مهاجرات، وتلا ﴿ السائحون ﴾ [ التوبة : ١١٢ ] أي المهاجرون، والقول الأول أولى، والله أعلم. وقوله تعالى :﴿ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾ أي منهن ثيبات، ومنهن أبكاراً، ليكون ذلك أشهى إلى النفس، فإن التنوع يبسط النفس، ولهذا قال :﴿ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ﴾ قال : وعند الله نبيّه ﷺ في هذه الآية أن يزوجه، فالثيب أسية امرأة فرعون، وبالأبكار مريم بنت عمران، وذكر الحافظ ابن عساكر، عن ابن عمر قال :« جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ فمرت خديجة فقال : إن الله يقرؤها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب : بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بن مزاحم ».
2579
قال علي رضي الله عنه في قوله :﴿ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ﴾ يقول أدبوهم وعلموهم، وقال ابن عباس : اعلموا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار، وقال مجاهد : اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله، وقال قتادة : تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها، وقال الضحاك : حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه عبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه، وفي معنى هذه الآية الحديث الشريف :« مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربون عليها »، قال الفقهاء : وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمريناً له على العبادة لكي يبلغ، وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر، وقوله تعالى :﴿ وَقُودُهَا الناس والحجارة ﴾ وقودها : أي حطبها الذي يلقى فيها جثث بني آدم. ﴿ والحجارة ﴾ قيل : المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ]، وقال ابن مسعود ومجاهد : هي حجارة من كبريت، أنتن من الجيفة، وقوله تعالى :﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ﴾ أي طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله ﴿ شِدَادٌ ﴾ أي تركيبهم في غياة الشدة والكثافة والمنظر المزعج، كما روى ابن أبي حاتم. عن عكرمة أنه قال : إذا وصل أول أهل النار إلى النار، وجدوا على الباب أربعمائة ألف من خزنة جهنم سود وجوههم، كالحة أنيابهم، وقد نزع الله من قلوبهم الرحمة، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة. لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر، ثم يجدون على الباب التسعة عشر، عرض صدر أحدهم سبعون خريفاً، ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة، ثم يجدون على كل باب منها مثل ما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها، وقوله تعالى :﴿ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ أي مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه، لا يتأخرون عنه طرفة عين، وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه، وهؤلاء هم الزبانية.
وقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي يقال للكفرة يوم القيامة لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم، ثم قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً ﴾ أي توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات، قال عمر ( التوبة النصوح ) أن يتوب من الذنب، ثم لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه، وقال أبو الأحوص : سئل عمر عن التوبة النصوح، فقال : أن يتوب الرجل من العمل السيء ثم لا يعود إليه أبداً، وقال ابن مسعود ﴿ تَوْبَةً نَّصُوحاً ﴾ قال : يتوب ثم لا يعود، ولهذا قال العلماء : التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقه، وفي الحديث الصحيح :
2580
« الندم توبة »، وعن أُبيّ بن كعب قال :« قيل لنا : أشياء تكون في آخر هذه الأمّة عند اقتراب الساعة : منها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها، وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها نكاح الرجل الرجل، وذلك مما حرّم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله، ومنها نكاح المرأة المرأة، وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله، وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا حتى يتوبوا إل الله توبة نصوحاً، قال زر : فقلت لأُبي بن كعب : فما التوبة النصوح؟ فقال : سألت رسول الله ﷺ عن ذلك فقال :» هو الندم على الذنب حين يفرط منك فتستغفر الله بندامتك منه عند الحاضر ثم لا تعود إليه أبداً « » وقال الحسن :« التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته، فأما إذا جزم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجب ما قبلها من الخطيئات، كما ثبت في الصحيح :» الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها « وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات - كما تقدم في الحديث وفي الأثر - ثم لا يعود فيه أبداً، أو يكفي العزم على أن لا يعود في تكفير الماضي بحيث لو قوع منه ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضاراً في تكفير ما تقدم لعموم قوله عليه السلام :» التوبة تجب ما قبلها « ؟ وللأول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضاً :» من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ الأول والآخر « فإذا كان هذا الإسلام الذي هو أقوى من التوبة بطريق الأُولى، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ وعسى من الله موجبة ﴿ يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ أي ولا يخزيهم معه يعني يوم القيامة ﴿ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ﴾، كما تقدّم في سورة الحديد :﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ قال مجاهد والضحّاك : هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طفىء روى الإمام أحمد بن يحيى بن غسان عن رجُل من بني كنانة قال :
2581
« صلَّيت خلف رسول الله ﷺ عام الفتح فسمعته يقول :» اللهم لا تخزني يوم القيامة « » وقال رسول الله ﷺ :« » أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة، وأول من يؤذن له برفع رأسه، فأنظر بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم، وأنظر عن يميني فأعرف من أمتي من بين الأمم، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم «، فقال رجل : يا رسول الله : وكيف تعرف أُمتك من بين الأُمم؟ قال :» غر محجلون من آثار الطهور، ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم « ».
2582
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ بجهاد الكفّار والمنافقين هؤلاء بالسلاح والقتال، وهؤلاء بإقامة الحدود عليهم ﴿ واغلظ عَلَيْهِمْ ﴾ أي في الدنيا، ﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير ﴾ أي في الآخرة، ثم قال تعالى :﴿ ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أن ذلك لا يجدي عنهم شيئاً، إن لم يكن الإيمان حاصلاً في قلوبهم، ثم ذكر المثل فقال :﴿ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ ﴾ أي نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلاً ونهاراً، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشر والاختلاط، ﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ أي في الإيمان لم يوافقهما على الإيمان، ولا صدقاهما في الرسالة، فلم يجد ذلك كله شيئاً ولا دفع عنهما محذوراً، ولهذا قال تعالى :﴿ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً ﴾ أي لكفرهما، ﴿ وَقِيلَ ﴾ أي للمرأتين ﴿ ادخلا النار مَعَ الداخلين ﴾، وليس المراد بقوله ﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ في فاحشة بل في الدين، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء، كما قدمنا في سورة النور، قال ابن عباس ﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾ قال : ما زنتا، أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه، وقال الضحّاك : عن ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين.
وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين، أنهم لا تضرهم مخالطة الكفارين إذا كانوا محتاجين إليهم، كما قال تعالى :﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [ آل عمران : ٢٨ ] قال قتادة : كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فوالله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها، ليلعموا أن الله تعالى حكم عدل لا يؤاخذ أحداً إلاّ بذنبه، وروى ابن جرير، عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة، فقولها :﴿ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة ﴾ قال العلماء : اختارت الجار قبل الدار، ﴿ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ﴾ أي خلصني منه فإني أبرأ إليك من عمله ﴿ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين ﴾ وهذه المرأة هي ( آسية بنت مزاحم ) رضي الله عنها، عذَّبها فرعون فشدَّ يديها ورجليها بالأوتاد وهي صابرة، فرأت بيتها في الجنة فضحكت حين رأته، فقال فرعون : ألا تعجبون من جنونها! إنا نعذّبها وهي تضحك، فقبض الله روحها في الجنة رضي الله عنها، وقوله تعالى :﴿ وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾ أي حفظته وصانته، والإحصان : هو العفاف والحرية ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ﴾ أي بواسطة الملك وهو ( جبريل ) فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سوي، وأمره الله تعالى أن ينفخ فيه بِفيهِ ي جيب درعها، فنزلت النفخة فولجت في فرجها، فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام، ولهذا قال تعالى :﴿ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ﴾ أي بقدره وشرعه، ﴿ وَكَانَتْ مِنَ القانتين ﴾. وفي الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي ﷺ قال :« كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلاّ آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بن خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ».
Icon