تفسير سورة التحريم

التفسير المنير
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

بعض أحوال نساء النبي صلى الله عليه وسلم
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥)
الإعراب:
تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ تَبْتَغِي: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير تُحَرِّمُ.
فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما جمع القلوب، ولم يقل «قلبا كما» بالتثنية، لأن كل ما ليس في البدن منه إلا عضو واحد، فإن تثنيته بلفظ جمعه، والقلب ليس في البدن منه إلا عضو واحد.
ولو قال: قلبا كما أو قلبكما، لكان جائزا.
هُوَ مَوْلاهُ هُوَ: ضمير فصل.
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ إنما قال ظَهِيرٌ بالإفراد، دون الجمع «ظهراء» لأن ما كان على وزن فعيل يستوي فيه الواحد والجمع، مثل قوله تعالى: خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف ١٢/ ٨٠].
وقد يستغنى بذكر الواحد عن الجمع، مثل قوله تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر ٤٠/ ٦٧].
302
أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ الجملة جواب الشرط، وأَنْ يُبْدِلَهُ: خبر عَسى.
البلاغة:
تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ بينهما طباق، وكذا بين عَرَّفَ وَأَعْرَضَ وبين ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً.
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ التفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في العتاب.
غَفُورٌ رَحِيمٌ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ظَهِيرٌ صيغ مبالغة.
وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ عام بعد خاص، ذكر الملائكة بعد جبريل أحدهم اعتناء بشأن الرسول ﷺ ومناصرته.
المفردات اللغوية:
لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ لم تمنع نفسك من الحلال وهو العسل. تَبْتَغِي تطلب بالتحريم. مَرْضاتَ أَزْواجِكَ رضاهن. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفر لك هذا التحريم، فإنه لا يجوز تحريم ما أحله الله، رحيم بك حيث لم يؤاخذك به، وعاتبك حفاظا على عصمتك.
فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ شرع لكم تحليل الأيمان بالكفارة المذكورة في سورة المائدة [الآية ٨٩]. قال مقاتل: أعتق النبي ﷺ رقبة، وقال الحسن: لم يكفّر، لأنه ﷺ مغفور له.
واحتج به من رأى التحريم يمينا، مع احتمال أنه ﷺ أتى بلفظ اليمين، كما قيل وَهُوَ الْعَلِيمُ بما يصلحكم. الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله وأحكامه.
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ أي واذكر إذ أسرّ إلى حفصة على المشهور حَدِيثاً هو تحريم العسل الذي كان يتناوله عند زينب بنت جحش، وأيلولة الخلافة من بعده لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. نَبَّأَتْ بِهِ أخبرت حفصة عائشة بالحديث، ظنا منها ألا حرج في ذلك. وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أطلعه على المنبّأ به وعلى إفشائه. عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ عرف حفصة بعض ما فعلت وترك بعضه. الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ العالم بكل شيء، الْخَبِيرُ بما في السماء والأرض، لا تخفى عليه خافية.
إِنْ تَتُوبا أي حفصة وعائشة، وجواب الشرط محذوف تقديره: تقبلا. فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما مالت القلوب عما يجب للنّبي ﷺ عليهما من التوقير والتعظيم، بحب ما يحبه، وكراهية ما يكرهه. وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ تتظاهرا وتتعاونا على النّبي بما يسوؤه ويؤذيه أو يكرهه.
303
مَوْلاهُ وليه وناصره. وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مثل أبي بكر وعمر، هم ناصروه أيضا، والمراد بالصالح: الجنس. وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ظهراء أعوان له وأنصار مساعدون، بعد نصر الله والمذكورين.
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ هذا على التغليب أو تعميم الخطاب، أي عسى إن طلق النبي أزواجه أن يبدله (بالتشديد والتخفيف) أزواجا خيرا منهن.
مُسْلِماتٍ مقرّات بالإسلام منقادات. مُؤْمِناتٍ مصدقات مخلصات. قانِتاتٍ طائعات. تائِباتٍ عن الذنوب. عابِداتٍ متعبدات لله متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
سائِحاتٍ صائمات، سمي الصائم سائحا، لأنه يسيح في النهار بلا زاد، أو مهاجرات.
ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً مشتملات على الصنفين. ويلاحظ أنه بدأ في وصفهن بالإسلام وهو الانقياد، ثم بالإيمان وهو التصديق، ثم بالقنوت وهو الطواعية، ثم بالتوبة وهي الإقلاع عن الذنب، ثم بالعبادة وهي التلذذ بالمناجاة لله، ثم بالسياحة وهي كناية عن الصوم. وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان في امرأة واحدة، لذا عطف أحدهما على الآخر، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى. وذكر الجنسين لأن في أزواجه ﷺ من تزوجها بكرا، وفيهن الثّيّاب.
سبب النزول:
نزول الآية (١، ٢) :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ: ذكر العلماء روايات في سبب نزول الآيتين، الصحيح منها كما ذكر ابن كثير وغيره أنهما نزلتا في تحريم العسل، كما قال البخاري عند هذه الآية.
أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله ﷺ يحب الحلواء والعسل، وكان إذا انصرف عن العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبي ﷺ عليها، فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير «١»، أكلت مغافير، فقال: لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعود إليه، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدا».
(١) المغافير: نبت كريه الرائحة، أي صمغ حلو له رائحة كريهة من شجر العرفط في الحجاز.
304
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ يشرب عند سودة العسل، فدخل على عائشة، فقالت: إني أجد منك ريحا، ثم دخل على حفصة، فقالت مثل ذلك، فقال: أراه من شراب شربته عند سودة، والله لا أشربه، فنزلت: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.
وتذكر الروايات في للسيرة أن النّبي ﷺ حرم العسل أمام حفصة فأخبرت عائشة بذلك، مع أن النبي ﷺ استكتمها الخبر، كما استكمتها ما أسرّها به من الحديث الذي يسرّها ويسرّ عائشة، أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي.
قال ابن العربي: إنما الصحيح أن التحريم كان في العسل، وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، وجرى ما جرى، فحلف ألا يشربه، وأسرّ ذلك، ونزلت الآية في الجميع. وقال: أما ما روي أن الآية نزلت في الموهوبة (الواهبة نفسها للنبي) فهو ضعيف السند والمعنى، أما السند فرواته غير عدول، وأما المعنى فما يصح أن يقال: إن ردّ النبي ﷺ للهبة كان تحريما، بل هو رفض لها، وللموهوب له شرعا ألا يقبل الهبة. وأما ما روي من أنه حرم على نفسه مارية القبطية، كما ذكر الدارقطني عن عمر، فهو وإن قرب من حيث المعنى، لكنه لم يدون في صحيح ولا نقله عدل «١».
نزول الآية (٥) :
عَسى رَبُّهُ... : أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النّبي ﷺ في الغيرة عليه، فقلت: عسى ربّه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت هذه الآية.
(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٨٣٣- ١٨٣٤
305
وأخرج أيضا عن أنس عن عمر قال: بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول الله ﷺ وأذاهنّ إياه، فاستقريتهنّ امرأة امرأة أعظها، وأنهاها عن أذى رسول الله ﷺ وأقول: إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكنّ، حتى أتيت على زينب، فقالت: يا ابن الخطاب، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأمسكت، فأنزل الله: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ الآية.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يا أيها الرسول النبي، لماذا تمنع نفسك من بعض ما أباح الله لك، قاصدا إرضاء أزواجك، والله غفور لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك، وما تقدم من الزلّة، رحيم بك، فلا يعاقبك على ذنب تبت منه، ولم يؤاخذك به.
وهذا عتاب بطريق التلطف، مثل قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة ١٠/ ٤٣]، وسمي الامتناع عن الحلال ذنبا، وهو مباح لغيره، تعظيما لقدره الشريف، وإشارة إلى أن ترك الأولى بالنسبة إليه كالذنب، وإن لم يكن ذنبا في الواقع. والمراد بالتحريم: الامتناع من تناول العسل أو الاستمتاع ببعض الزوجات، وليس المراد اعتقاد كونه حراما بعد ما أحله الله، لأن تحريم الحلال كفر. قال القرطبي: والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.
وتحريم الحلال يراه أبو حنيفة يمينا في كل شيء، حسبما ينوي، فإذا حرّم طعاما فقد حلف على أكله، وإذا حرّم ملبسا أو شرابا أو شيئا مباحا، فهو بمنزلة اليمين، وإذا حرم امرأة فقد حلف يمين الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى
306
الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وإن نوى عددا معينا في الطلاق كاثنتين أو ثلاث فعلى ما نوى.
ولا يراه الشافعي يمينا، ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن، وإن نوى الطلاق فهو رجعي. فإن حلف ألا يأكل شيئا فخالف، حنث ويبرّ بالكفارة.
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ، وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أي شرع الله لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة المقررة في سورة المائدة [الآية ٨٩] وهي:
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ.
وبيّن لكم ذلك، وليس لأحد أن يحرّم ما أحل الله، فالتحليل والتحريم إلى الله سبحانه، فإن فعل الإنسان شيئا من ذلك لا ينعقد ولا يلزم صاحبه، والله متولي أموركم وناصركم على الأعداء، وهو العليم بما فيه صلاحكم وفلاحكم، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير أموركم.
وسبب إيراد آية التحليل هذه أن التحريم الذي كان من النبي ﷺ كان في الظاهر مقترنا بيمين، لظاهر الآية: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ فهو دليل على أن هناك يمينا تحتاج إلى التحلة، وأيد ذلك بعض الروايات، فتكون هذه الآية مناسبة لما قبلها باعتبار كون تحريم المرأة أو العسل يمينا، وهو يمين إيلاء من المرأة.
وهل كفّر النبي ﷺ عن يمينه هذه؟ اختلف العلماء في ذلك، فقال الحسن البصري: إنه لم يكفّر، لأنه كان مغفورا له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وإنما هو تعليم للمؤمنين. وفي هذا نظر، لأن الأحكام الشرعية عامة، ولم يقم دليل على
307
التخصيص، لذا قال مقاتل: إنه- أي النبي- أعتق رقبة في تحريم مارية، ونقل عن الإمام مالك في المدونة أنه أعطى الكفارة.
أما تحريم الرجل لزوجته كأن يقول لها: أنت علي حرام أو الحلال علي حرام دون استثناء شيء، ففيه كما ذكر ابن العربي «١» خمسة عشر قولا «٢»، منها ما ذكرناه سابقا أن أبا حنيفة يقول: إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى، وإلا كانت يمينا، وكان الرجل موليا من امرأته.
وذهب الشافعي ومالك إلى أن ذلك ليس بيمين، لكن إن حرم الزوجة ونوى بالتحريم الطلاق، يقع الطلاق الرجعي.
وذهب مالك إلى أنه طلاق بائن يقع به ثلاث تطليقات.
وقال أبو بكر الصديق وعائشة والأوزاعي: إنه يمين تكفر.
ثم ذكر الدليل على إحاطة علم الله بكل شيء، فقال:
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي واذكر حين أسرّ النّبي ﷺ لزوجته حفصة حديثا هو تحريم العسل أو مارية، أو أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتيه على أمته من بعده، فلما أخبرت به غيرها، وأطلع الله نبيه على ما وقع منها من إخبار غيرها، عرّف حفصة بعض ما أخبرت به، وأعرض عن تعريف بعض ذلك.
فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ: مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ أي فحينما أخبرها بما أفشت من الحديث، قالت: من أخبرك به؟ قال: أخبرني به الله الذي لا تخفى عليه خافية، فهو العليم بالسر، الخبير بكل شيء في السماء والأرض.
(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٨٣٥ وما بعدها.
(٢) وذكر القرطبي في تفسيره (١٨/ ١٨٠) ثمانية عشر قولا.
308
ثم وجّه الله تعالى زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم: حفصة وعائشة إلى التوبة وعاتبهما قائلا:
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي إن تتوبا إلى الله، فتكتما السر، وتحبّا ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكرها ما كرهه، قبلت توبتكما من الذنب وكان خيرا لكما، فقد عدلت قلوبكما ومالت عن الحق والخير، وهو حق تعظيم الرسول ﷺ وصون سره وتكريمه.
والخطاب لحفصة وعائشة، لما أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي ﷺ اللتين قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق، عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فتبرّز، ثم أتاني، فسكبت على يديه، فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين: من المرأتان من أزواج النبي ﷺ اللتان قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما؟ فقال عمر: وا عجبا لك يا ابن عباس، هما عائشة وحفصة.
وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ أي وإن تتعاضدا وتتعاونا على ما يسوؤه ويؤذيه بسبب الغيرة والرغبة في إفشاء سره، فإن الله يتولى نصره، وكذلك جبريل وصالح المؤمنين كأبي بكر وعمر، والملائكة بعد نصر الله له ونصر جبريل والمؤمنين الصالحين أعوان له وحراس وحفظة. وقوله: بَعْدَ ذلِكَ تعظيم للملائكة ومظاهرتهم.
ولم نر مثل هذا العون والعصمة والتأييد الرباني لأحد من الأنبياء والرسل وسائر البشر، للمبالغة في تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم، والتخلص من مكر النساء، وتبديد أوهام المشركين والمنافقين من محاولات الكيد والأذى وإلحاق الضرر.
309
ثم أنذرهما الله وحذرهما مع بقية الأزواج، فقال تعالى:
عَسى «١» رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ، قانِتاتٍ تائِباتٍ، عابِداتٍ، سائِحاتٍ، ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً أي لله القدرة البالغة، فإنه قادر إن وقع من النبي الطلاق أن يبدله أزواجا خيرا وأفضل منكن، قائمات بفروض الإسلام، كاملات الإيمان والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله، مطيعات لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، تائبات من الذنوب، مواظبات على عبادة الله متذللات له، صائمات، بعضهن ثيّبات، وبعضهن أبكارا. والثيب: هي المرأة التي قد تزوجت، ثم طلقها زوجها أو مات عنها. والبكر: هي العذراء. قال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم بنت عمران.
وهذا مأخوذ من أحاديث ضعيفة، ومبني على أن الوعد بالتبديل في الآخرة فقط.
ويلاحظ أن جميع هذه الصفات يمكن اجتماعها في موصوف واحد، ما عدا الوصفين الأخيرين، لذا عطفا بالواو، للدلالة على التغاير أو التباين في الوصفين، والعطف يقتضي المغايرة.
والآية تتضمن غاية التهديد والوعيد على محاولات إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا شيء أشد وأقسى على المرأة من الطلاق، والعزم على التزوج بزوجة أخرى، فذلك قاصم للظهر، مؤرّق للبال، محطم دائم للشعور الذاتي بالسعادة في الحياة.
وفي الآية أيضا وعد من الله لنبيه ﷺ أن يزوجه بما يريد، قيل: في الدنيا، وقيل: في الآخرة، والأولى الجمع بين الحالتين.
(١) عسى في القرآن: يجب تحقق ما بعدها إلا هذه، وقيل: وهنا أيضا واجب، ولكنه معلق بشرط التطليق.
310
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- عاتب الله تعالى نبيه ﷺ على الامتناع من تناول ما أحل الله، فلا ينبغي لأحد تحريم المباح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة ٥/ ٧٨]. قال الشعبي: كان مع الحرام يمين، فعوتب في الحرام، وإنما يكفر اليمين فذلك قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ. وهذا العتاب دليل قاطع بأن القرآن من عند الله، إذ لا يعقل ولا يؤلف أن يعاتب الإنسان نفسه، أو يخبر عن نزاع خاص في بيته يظل خبرا متلوا دائما.
٢- إن مجرد الامتاع من تناول الشيء المأكول أو المشروب من غير حلف ليس يمينا، ولا يحرّم قول الرجل: «هذا علي حرام» إلا الزوجة، فيكون إيلاء منها. وهذا رأي الجمهور. وقال أبو حنيفة: إن تحريم المأكول والمشروب والملبوس والشيء المباح يكون يمينا توجب الكفارة. وإذا حرم امرأة، فقد حلف يمين الإيلاء منها، كما تقدم.
والحقيقة: ليس في الموضوع نص يعتمد عليه، فمن تمسك بالبراءة الأصلية قال: لا حكم، فلا يلزم بها شيء، ومن قال: إنها يمين، قال: سماها الله يمينا.
ومن قال: تجب فيها كفارة وليست بيمين، اعتمد على أحد أمرين: أحدهما- أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها، وإن لم تكن يمينا، والثاني- أن معنى اليمين عنده التحريم، فوجبت الكفارة على المعنى.
ومن قال: إنها طلقة رجعية، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه، والرجعية محرّمة الوطء. ومن قال: إنها ثلاث، حمل اللفظ على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. ومن قال: إنه ظهار، فلأنه أقل درجات التحريم، فإنه تحريم لا يرفع
311
النكاح. ومن قال: إنه طلقة بائنة، فاعتمد على أن الطلاق الرجعي لا يحرّم المطلّقة، وأن الطلاق البائن يحرّمها «١».
٣- تحليل اليمين كفارتها، والظاهر أن النبي ﷺ حلف، مع الامتناع عن تناول العسل، وأنه في الأصح كفّر عن يمينه. والكفارات تجبر الخلل الحاصل.
وإن حرم الرجل أمته أو زوجته، فكفارة يمين، لما أحج مسلم في صحيحة عن ابن عباس قال: «إذا حرّم الرجل عليه امرأته، فهي يمين يكفّرها» وقال:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب ٣٣/ ٢١].
٤- للنساء بسبب الغيرة الفطرية الشديدة التأثير مواقف غريبة وعجيبة من بعضهن بعضا.
٥- يصعب على النساء كتمان السر، فقد أسر النبي ﷺ لزوجته حفصة تحريم العسل أو مارية على نفسه، أو أمر الخلافة من بعده لأبي بكر وعمر، واستكتمها السر، فأباحت به لعائشة.
٦- يغفل الإنسان غالبا عن أن الله عالم خبير به وبأحواله، فيتصرف تصرفات الغافل غير الواعي ولا المدرك لما يفعل، ولا يحسب الحساب اللازم لمن يراه ويحاسبه على أعماله. وهذا ما كان من حفصة التي فاجأها النبي ﷺ بما فعلت، وأعلمها بأن الله أخبره بذلك.
٧- القرآن تهذيب وتربية وتعليم، لذا حث الله سبحانه حفصة وعائشة على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى مخالفة محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم شأنه وإعلاء قدره وصون سره. فقد زاغت ومالت قلوبهما عن الحق، وهو أنهما أحبّتا ما كره النبي ﷺ من اجتناب جاريته، واجتناب العسل، وكان ﷺ يحب العسل والنساء، محبة فيها اعتدال وإعزاز وإكرام للنساء.
(١) تفسير القرطبي: ١٨/ ١٨٣
312
٨- هدد الله حفصة وعائشة بأنهما إن تتظاهرا وتتعاونا على النبي ﷺ بالمعصية والإيذاء، فهناك حملة صون وحفظ وعصمة وحراسة له من الله والملائكة وجبريل والمؤمنين الصالحين، كأبي بكر وعمر أبوي عائشة وحفصة.
٩- وهددهما بتهديد آخر أشد ألما ووقعا على النفس، وهو إن طلقهما وطلّق زوجاته، أبدله الله زوجات خيرا وأفضل منهن في الدنيا والآخرة. وهذا وعد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإخبار عن القدرة الإلهية وتخويف لهم، مع علمه تعالى بأنه لا يطلقهن.
وأوصاف النساء اللاتي يبدله الله بدلا عن زوجاته الحاليات في غاية الكمال، وهي كونهن مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، مصدقات بما أمرن به ونهين عنه، مطيعات، تائبات من ذنوبهن، كثيرات العبادة لله تعالى، صائمات أو مهاجرات، ثيّبات وأبكارا، أي منهن ثيّب، ومنهن بكر.
١٠- حينما أفشت حفصة السر لعائشة، آلى رسول الله ﷺ لا يدخل على نسائه شهرا، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عز وجل: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ الآية،
وهذا ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن عمر أن النبي ﷺ حرّم على نفسه مارية.
وروى مسلم في صحيحة قصة طويلة مفادها: لما اعتزل نبي الله ﷺ نساءه، وقال الناس في المسجد: طلّق رسول الله ﷺ نساءه، وذلك قبل الأمر بالحجاب، دخل عمر على كل من عائشة وحفصة يعاتبهما على إيذائهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع على حصير، فجلس، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، فقال عمر: فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
313
فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا «١» في ناحية الغرفة، وإذا أفيق «٢» معلّق، قال: فابتدرت عيناي، قال: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟
قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها الا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته، وهذه خزانتك! فقال: يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة، ولهم الدنيا؟! قلت: بلى.
الوقاية من النار والتوبة النصوح وجهاد الكفار
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٦ الى ٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)
(١) القرظ: ورق السلم يدبغ به.
(٢) الأفيق: هو الجلد الذي لم يتم دباغه.
314
الإعراب:
قُوا أَنْفُسَكُمْ قُوا: فعل أمر من (وقى، يقي) وأصله (أوقيوا) بوزن أفعلوا، فحذفت الواو، كما حذفت من (يقي) لوقوعها بين ياء وكسرة.
لا يَعْصُونَ اللَّهَ، ما أَمَرَهُمْ ما أَمَرَهُمْ: بدل من لفظ الجلالة، أي لا يعصون أمر الله.
تَوْبَةً نَصُوحاً إنما قال: نَصُوحاً ولم يقل (نصوحة) على النسب، كما قالوا: امرأة صبور وشكور، على النسب. وقرئ نصوحا بضم النون، وهو مصدر كالذهوب والجلوس والفسوق.
البلاغة:
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً مجاز مرسل، من قبيل ذكر المسبّب وإرادة السبب، أي لازموا على الطاعة، لتقوا أنفسكم وأهليكم من عذاب الله.
المفردات اللغوية:
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً اجعلوا لأنفسكم وقاية من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، واحملوا أهليكم على ذلك بالنصح والتأديب. وَقُودُهَا ما توقد به النار. النَّاسُ وَالْحِجارَةُ بجعلهما نارا تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب، والمراد بالناس: الكفار، وبالحجارة: الأصنام التي تعبد، لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء ٢١/ ٩٨].
عَلَيْها مَلائِكَةٌ خزنة وعدتهم تسعة عشر، كما في سورة المدثر (الآية ٣٠). غِلاظٌ غلاظ الخلق والطباع. شِدادٌ أقوياء البدن على الأفعال الشديدة. لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ لا يعصون أمر الله في الماضي. وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ في المستقبل، وهو تأكيد لما سبق. قال الجلال المحلي: والآية تخويف للمؤمنين عن الارتداد، وللمنافقين المؤمنين بألسنتهم دون قلوبهم.
لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ يقال لهم ذلك عند دخولهم النار، أي لأنه لا ينفعكم الاعتذار، أو لأنه لا عذر لكم. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء عملكم.
تَوْبَةً نَصُوحاً صادقة، بالغة في النصح، وهي الندم على ما فات، والعزم على عدم العود إلى مثله في المستقبل.
سئل علي رضي الله عنه عن التوبة، فقال: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، والفرائض الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تعزم على ألا تعود، وأن تربي نفسك في طاعة الله كما ربّيتها في المعصية.
315
عَسى رَبُّكُمْ عسى من الله تدل على وجوب الوقوع، وذكر بصيغة الإطماع جريا على عادة الملوك، وإشعارا بأنه تفضل، وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء. وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ بساتين. يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ يوم ظرف متعلق ب يُدْخِلَكُمْ ولا يُخْزِي:
لا يفضح. بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أمامهم، أي يسعى بهم نور الإيمان على الصراط. يَقُولُونَ كلام مستأنف جديد. رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا إلى الجنة، أما المنافقون فيطفأ نورهم. وَاغْفِرْ لَنا واسترنا يا ربنا.
جاهِدِ الْكُفَّارَ بمختلف أنواع الأسلحة كالسيف وغيره. وَالْمُنافِقِينَ أي وجاهدهم باللسان والحجة، فالجهاد يكون تارة بالسيف، وتارة بالحجة والبرهان. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ اشتد عليهم بالانتهار والمقت والقتل بحق. وَمَأْواهُمْ مكان الإيواء والإقامة.
المناسبة:
بعد أن أمر الله نساء النبي ﷺ بالتوبة عما حدث من الزلات، وحذرهم من مخالفته ووعظهم وأدبهم وهددهم بالطلاق، أمر المؤمنين بطائفة من المواعظ والنصائح، وأولها وقاية أنفسهم وأهليهم من النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ثم أخبر الكفار بما يقال لهم يوم دخولهم النار: لا عذر لكم، ثم أمر المؤمنين بالتوبة الخالصة النصوح من الخطايا والذنوب، وتوج جميع ذلك بالأمر بجهاد الكفار المعتدين، والمنافقين المتسترين، والمجاهدة قد تكون بالقتال، وقد تكون بالحجة والبرهان، ثم يكون جزاء الفريقين النار.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أي يا أيها الذين صدّقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أدبوا أنفسكم وعلموها، واتخذوا لها وقاية من النار، وحافظوا عليها بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه، وعلّموا أهليكم وأمروهم بطاعة الله وانهوهم عن معاصيه، وانصحوهم وأدبوهم حتى لا تصيروا معهم إلى النار العظيمة الرهيبة التي تتوقد بالناس وبالحجارة، كما يتوقد غيرها بالحطب. قال قتادة: تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم
316
عليهم بأمر الله وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت معصية، قذعتهم عنها، وزجرتهم عنها.
ونظير الآية قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه ٢٠/ ١٣٢] وقوله سبحانه مخاطبا نبيه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء ٢٦/ ٢١٤].
وروى جماعة من أهل الحديث (أحمد وأبو داود والحاكم) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع».
وقال ﷺ فيما رواه الترمذي والحاكم عن عمرو بن سعيد بن العاصي: «ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن».
وروى أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده (أي سمرة بن جندب) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين، فاضربوه عليها».
وقال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه. وقال ابن جرير: فعلينا أن نعلّم أولادنا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب.
والمراد بالناس الكفار، وبالحجارة: الأصنام التي تعبد من دون الله، لقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء ٢١/ ٩٨]، والأهل: هم الزوجة والأولاد والخدم.
والآية دليل على أن المعلّم يجب أن يكون عالما بما يأمر به وما ينهى عنه.
عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ، لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب أهلها، غلاظ أطباعهم، قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله، شداد عليهم، تركيبهم في غاية الشدة والصلابة والمنظر المزعج، لا يرحمونهم إذا استرحموهم، إنما خلقوا للعذاب، عددهم تسعة عشر ملكا هم زبانيتها كما جاء في قوله تعالى: عَلَيْها
317
تِسْعَةَ عَشَرَ
[المدثر ٧٤/ ٣٠] يتميزون بالطاعة الكاملة لله ربهم، فهم لا يخالفون أوامر الله تعالى، ويؤدون ما يؤمرون به في وقته المحدد له من غير تراخ، فلا يؤخرونه عنه ولا يقدّمونه، وهم قادرون على الفعل، ليس بهم عجز عنه.
وفائدة الإتيان بالجملتين: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أن الأولى في الماضي، ولبيان الطواعية، فإن عدم العصيان يستلزم امتثال الأمر، ولنفي الاستكبار عنهم، كما قال تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأنبياء ٢١/ ١٩] والثانية للمستقبل وفورية التنفيذ والامتثال ونفي التراخي والكسل عنهم، كما قال تعالى: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٩].
ثم وعظ المؤمنين بما يقال للكافرين عند دخولهم النار، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال للكفرة عند إدخالهم النار يوم القيامة، تأييسا لهم وقطعا لأطماعهم:
لا تعتذروا، فإنه لا يقبل منكم العذر، ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون في الدنيا، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.
والمراد بهذا أن الدنيا دار جهاد وعمل صالح، والآخرة دار مقر وجزاء، والدنيا مزرعة الآخرة، فإن زرع فيها أو غرس الزرع أو الغرس الصالح، جنى طيبا، وإن زرع أو غرس نباتا أو شجرا رديئا، حصد ما فعل.
وبما أن العذر أو التوبة لا يفيدان في الآخرة، أرشد المؤمنين إلى طريق التوبة النصوح، فقال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ارجعوا إلى الله تعالى، وتوبوا إليه توبة خالصة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات: وهي
318
الندم بالقلب على ما مضى من الذنب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والعزم على ألا يعود، لعل الله أن يمحو سيئات أعمالكم التي اقترفتموها، ويدخلكم بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، حين لا يعذب ولا يذل ولا يفضح الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ولا يعذب ولا يذل الذين آمنوا به واتبعوا شريعته، بل يكرمهم ويعزّهم.
وكلمة عَسى رَبُّكُمْ كما قال الزمخشري: إطماع من الله لعباده، وفيه وجهان: أحدهما- أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة لعسى ولعل، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت، فإنهم إذا أرادوا فعلا يقولون:
عسى أن نفعل كذا. والثاني- أن يجيء به تعليما للعباد أن يكونوا بين الخوف والرجاء.
والخلاصة: أن عَسى من الله موجبة تفيد التحقق.
وقوله: لا يُخْزِي تعريض لمن أخزاهم من أهل النار: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ، فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران ٣/ ١٩٢].
قال العلماء: التوبة النصوح: هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر، ويندم على ما سلف منه في الماضي، ويعزم على ألا يفعل في المستقبل.
روى الإمام أحمد وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «الندم توبة».
وثبت في الصحيح: «الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة تجبّ ما قبلها».
ثم ذكر الله تعالى أثر الإيمان، فقال:
نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي إن نور المؤمنين يضيء لهم طريقهم، ويسعى
319
أمامهم وعن أيمانهم حال مشيهم على الصراط، كما جاء في سورة الحديد:
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ.. [٢٨]، ويدعو المؤمنون حين يطفئ الله نور المنافقين يوم القيامة، قائلين تقربا إلى الله: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا، أي أبقه لنا، فلا ينطفئ حتى نتجاوز الصراط، واستر ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا، ولا تفضحنا بالعقاب عليها حين الحساب، فإنك على كل شيء قدير، ومنه إتمام نورنا، وغفران ذنوبنا، وتحقيق رجائنا وآمالنا، فأجب دعاءنا.
ثم أمر الله نبيه ﷺ بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة، فقال:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي يا أيها الرسول النبي قاتل الكفار بالسيف، والمنافقين بالحجة والبرهان وإقامة الحدود عليهم إذا ارتكبوها، وشدّد عليهم في الدعوة إلى الإسلام في الدنيا، واستعمل العنف والقسوة والشدة مع الفريقين، فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة والوعيد، لذا أمر النبي ﷺ بطرد بعض المنافقين من الجامع قائلا: اخرج يا فلان، اخرج يا فلان. وهذا عذابهم في الدنيا.
وسيكون مقر الفريقين ومسكنه في الآخرة جهنم، وبئس المرجع والمثوى والمقيل.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يلي:
١- أمر الله- والأمر للوجوب- بأن يقي المؤمنون أنفسهم النار بأفعالهم، وأهليهم بالنصح والوعظ والإرشاد. وهذا يتطلب الالتزام التام بأحكام الشرع أمرا ونهيا، وترك المعاصي وفعل الطاعات، ومتابعة القيام بالأعمال الصالحة، وحث الزوجة والأولاد على أداء الفرائض واجتناب النواهي، ومراقبتهم المستمرة في ذلك.
320
٢- إن عذاب المخالفين من الكفار والعصاة عذاب شديد في نار جهنم التي تتقد بالناس والحجارة، ويقوم بأمرها ملائكة تسعة عشر هم الملائكة الزبانية غلاظ القلوب، لا يرحمون إذا استرحموا، خلقوا من الغضب، وحبّب إليهم عذاب الخلق، كما حبّب لبني آدم أكل الطعام والشراب، شداد الأبدان والأفعال، غلاظ الأقوال، لا يخالفون أمر الله بزيادة أو نقصان، ويفعلون ما يؤمرون به في وقته، فلا يؤخرونه ولا يقدّمونه.
٣- لا تقبل التوبة من أحد من الكفار يوم القيامة، ولا يقبل منهم العذر، وسيجزون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا، وكون عذرهم لا ينفع، والنهي عن الاعتذار لتحقيق اليأس، كما قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الروم ٣٠/ ٥٧].
٤- أمر الله بالتوبة، وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وكل الأزمان. والتوبة المطلوبة هي التوبة البالغة في النصح والصدق، وهي كما ذكر النووي التي تستجمع ثلاثة أمور: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على ألا يعود إلى مثلها أبدا.
وقال العلماء: الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين، فإن كان حقا لله كترك صلاة، فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها، وهكذا إن ترك صوما أو فرط في الزكاة. وإن كان ذلك ما يوجب القصاص أو الحد الذي فيه حق لآدمي كالقذف، وطلب منه، مكّن نفسه من العقوبة، إلا إذا عفي عنه، فيكفيه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. أما إن كان الحد من الحدود الخالصة لله كالزنى والشرب، فيسقط عنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح، وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم، ولا يسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم.
321
فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه- عينا كان أو غيره- إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه.
وإن كان أضرّ بواحد من المسلمين، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه، فقد سقط الذنب عنه.
وإن أساء إلى رجل بأن فزّعه بغير حق، أو غمه، أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط فآلمه، ثم استعفى منه، حتى طابت نفسه، فعفا عنه، سقط عنه ذلك «١».
٥- يقبل الله التوبة النصوح من التائب، ويكفر عنه سيئاته، ويدخله الجنان، لقوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ.. وعسى من الله واجبة،
وقوله ﷺ فيما رواه البيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن ابن عباس، وهو ضعيف: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
٦- إن للإيمان نورا يمشي بصاحبه على الصراط، ويسعى به إلى النجاة، ويدعو المؤمنون في الآخرة حين يطفئ الله نور المنافقين بقولهم في الآخرة:
رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا، وَاغْفِرْ لَنا، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وطلب المغفرة لا يعني أن الذنب لازم لكل إنسان، وإنما التقصير لازم لكل مؤمن.
٧- أمر الله نبيه أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله، ويجاهد المنافقين بالغلظة وإقامة الحجة، وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة، وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين، علما بأن مأوى الصنفين جهنم، وبئس المرجع.
(١) تفسير القرطبي: ١٨/ ١٩٩- ٢٠٠
322
أمثلة من النساء المؤمنات والكافرات
[سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١٠ الى ١٢]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢)
الإعراب:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ مَثَلًا وامْرَأَتَ نُوحٍ مفعولا ضَرَبَ، وقيل: امْرَأَتَ نُوحٍ بدل من (مثل) على تقدير حذف مضاف، تقديره: مثل امرأة نوح، ثم حذف مَثَلًا الثاني لدلالة الأول عليه.
وكذلك القول في قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ منصوب بالعطف على امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ.
البلاغة:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا مقابلة بين المثلين، لتكون النساء في الإخلاص كالمؤمنتين، لا كالكافرتين الخائنتين.
وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ فيه تغليب الذكور على الإناث.
الدَّاخِلِينَ الظَّالِمِينَ الْقانِتِينَ سجع مرصّع.
323
المفردات اللغوية:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي أورد حالة غريبة لمعرفة حال أخرى مشابهة لها في الغرابة. كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ أي في عصمتهما. فَخانَتاهُما بالنفاق في أمر الدين، إذ كفرتا، وكانت امرأة نوح واسمها واغلة أو واعلة تقول لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط واسمها أو واهلة تدل قومه على أضيافه، بإيقاد النار ليلا، وبالتدخين نهارا. فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما لم يفيداهما أي نوح ولوط.
مِنَ اللَّهِ من عذابه. ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أي قيل لهما: ادخلا النار مع كفار قوم نوح وقوم لوط. وهذا تمثيل حالهم في إيقاع العقاب بهم بكفرهم دون مجاملة أو محاباة للنبي ﷺ والمؤمنين بنسب أو غيره.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا شبه حالهم في عدم التأثر ببيئة الكفر وعمالقة الكافرين وأن صلة الكفر لم تضرهم بحال آسية امرأة فرعون، واسمها آسية بنت مزاحم، وهي عمة موسى آمنت به، فعذبها فرعون عذابا شديدا لصدها عن الإيمان. إِذْ قالَتْ في حال التعذيب: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ قريبا من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين. وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ خلصني من طغيان فرعون وتعذيبه وعمله الشنيع. وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هم أقباط مصر الوثنيون التابعون لفرعون في الظلم.
أَحْصَنَتْ فَرْجَها حفظته وصانته من الرجال، والمراد به كونها عفيفة. فَنَفَخْنا فِيهِ في الفرج. مِنْ رُوحِنا أي من روح خلقناه بلا توسط أب، قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير: أن الفرج جيب الدّرع (القميص). ومعنى (أحصنته) منعته جبريل، وأنه جمع في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها، تسلية للأرامل وتطييبا لأنفسهن. وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ آمنت بشرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله. مِنَ الْقانِتِينَ من عداد الطائعين المواظبين على الطاعة.
المناسبة:
بعد الحض على التوبة النصوح والإيمان والإخلاص وجهاد الأعداء، ضرب الله مثلين رائعين فذّين لأهل الكفر وأهل الإيمان، لبيان حال الكافرين بطريق التمثيل أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة أمثالهم من غير مراعاة نسب أو زوجية أو قرابة أو محاباة، فتعاقب امرأة نوح وامرأة لوط اللتان كانتا في بيت النبوة، ولكنهما كفرتا بالله وبالنبي، فلم تفدهما الرابطة الزوجية من عذاب الله شيئا.
324
وجاء المثل الثاني الأروع للمؤمنين والمؤمنات للإشارة إلى أن من واجبهم أن يكونوا في الإخلاص وصدق العزيمة وقوة اليقين كهاتين المؤمنتين: آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران، لا الكافرتين اللتين حين خانتا زوجيهما، لم يغنيا عنهما من عذاب الله شيئا.
التفسير والبيان:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ، فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أي جعل الله مثلا لحال الكفار في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أنه لا يغني أحد عن أحد، وأن ذلك لا يجدي عنهم شيئا، ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم، فمجرد الخلطة أو النسب أو الزوجية لا فائدة فيها ما دام الشخص كافرا.
وذلك المثل أن امرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام، كانتا في عصمة نكاح نبيين رسولين، وفي صحبتهما ليلا ونهارا، يؤاكلانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط، لكنهما خانتاهما في الإيمان والدين، فلم تؤمنا بهما، ولا صدّقاهما في الرسالة، فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئا من النفع، ولا دفعا عنهما من عذاب الله، ولا دفعا عنهما محذورا، مع كرامتهما على الله، وحاق بهما سوء العذاب والعقاب.
قيل: كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون، وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه ليفجروا بهم.
وقيل للمرأتين في الآخرة عند دخول النار: ادخلا النار مع الداخلين فيها من أهل الكفر والمعاصي، جزاء كفرهما وسيئاتهما.
325
وهذا تعريض بأمي المؤمنين، وهما حفصة وعائشة، لما فرط منهما، وتحذير وتخويف لهما ولغيرهما بأنه لا يفيدهن شيئا زواجهن بالنبي ﷺ إن عصين الله تعالى. قال يحي بن سلام: هذا يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة لرسول الله ﷺ حين تظاهرتا عليه، ببيان أنهما، وإن كانت تحت عصمة خير خلق الله تعالى، وخاتم رسله، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا. وقد عصمها الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة.
ثم ضرب الله مثلا آخر للمؤمنين بامرأتين أخريين يرشد إلى عكس المثل السابق أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم، فقال عن المرأة الأولى:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي وجعل الله مثلا آخر للمؤمنين حال امرأة فرعون آسية بنت مزاحم وعمة موسى عليه السلام، آمنت بموسى حين سمعت قصة إلقائه عصاه، فعذبها فرعون عذابا شديدا بسبب الإيمان، فلم تتراجع عن إيمانها، مما يدل على أن صولة الكفر لا تضر المؤمنين، كما لم تضر امرأة فرعون، وقد كانت تحت أكفر الكافرين، وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم.
وذلك حين قالت: يا رب ابن لي بيتا قريبا من رحمتك في أعلى درجات المقرّبين منك، ونجني من ذات فرعون ومما يصدر عنه من أعمال الشر، وخلصني من القوم الظالمين هم كفار القبط.
قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فو الله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها، ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل، لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه.
326
وقال ابن جرير: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة.
والآية دليل على صدق إيمان امرأة فرعون بالله وبالبعث، وبالجنة والنار، وبأن العمل الصالح طريق الجنة، والعمل السيء سبب النار. وهي دليل آخر على أن الاستعاذة بالله من الأشرار دأب الصالحين.
وقال عن المرأة الثانية:
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا، وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران أم عيسى عليهما السلام، جمع الله لها بين كرامة الدنيا والآخرة، واصطفاها على نساء العالمين في عصرها، مع كونها بين قوم عصاة، صانت فرجها عن الرجال والفواحش، فهي مثال العفة والطهر، فأمر الله جبريل أن ينفخ في فرجها، وقال بعض المفسرين وهو من بدعهم: في جيب الدرع (القميص) فحملت بعيسى، وصدّقت بشرائع الله التي شرعها لعباده، وبصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره، وبكتبه الكتب الأربعة الكبرى المنزلة على الأنبياء، وما خاطبها به الملك، وهو قول جبريل لها: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
[مريم ١٩/ ١٩]، وما أخبرها به من البشارة بعيسى وكونه من المقرّبين كما في سورتي آل عمران (الآيات ٤٢- ٤٨) ومريم (الآيات ١٦- ٣٦) وكانت من القوم المطيعين لربهم، كان أهلها أهل بيت صلاح وطاعة، ومن عداد الناسكين العابدين المخبتين لربهم.
روى أحمد عن ابن عباس قال: «خطّ رسول الله ﷺ في الأرض أربعة خطوط، وقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».
327
وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- دل المثل الأول للكافرين على أنه لا يغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرّق بينهما الدّين. فقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط كافرتين، فلم يفدهما شيئا من عذاب الله نوح ولا لوط مع كرامتهما على الله تعالى، كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه. وكانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط.
وهذا المثل تعريض لحفصة وعائشة أنهما إن صدرت منهما معصية، لن يفيدهما كونهما من زوجات النبي ﷺ لدفع العذاب. ويقال: إن كفار مكة استهزءوا وقالوا: إن محمدا ﷺ يشفع لنا، فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفّار مكة، وإن كانوا أقرباء، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته، وشفاعة لوط لامرأته، مع قربهما لهما لكفرهما.
ويقال في الآخرة لامرأتي نوح ولوط: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ كما يقال لكفار مكة وغيرهم.
٢- ودل المثل الثاني للمؤمنين على أن الاختلاط بالكفار لا يضر، ما دام الاعتصام بالله والإيمان هو السمة المهيمنة على المؤمن. وهو مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة عن المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
328
وكان المثل بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران، ترغيبا في التمسك بالطاعة والثبات على الدّين، وحثا للمؤمنين على الصبر في الشدة، كصبر آسية على أذى فرعون، وكانت آسية آمنت بموسى، وصبر السيدة مريم البتول على أذى اليهود واتهامها بالفاحشة، فصبر المؤمن والمؤمنة على الأذى ينجي من القوم الظالمين، والتقرب إلى الله يكون بالطاعات، لا بالوسيلة والشفاعات.
فعلى الرغم من تعذيب فرعون لزوجته آسية دعت قائلة: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
ومريم العذراء أم عيسى عليهما السلام ضرب الله بها مثلا لصبرها على أذى اليهود الذين اتهموها بالفاحشة، مع أنها كانت عفيفة طاهرة صانت نفسها عن الفواحش، ولكن الله أرسل لها جبريل، فنفخ في فرجها روحا من أرواحه وهي روح عيسى، فحملت به ثم ولدته من غير أب، وصدقت بشرائع الله وكتبه ورسالاته وبما أخبرها به جبريل: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
الآية [مريم ١٩/ ١٩] وكانت من المطيعين.
روى قتادة عن أنس عن رسول الله ﷺ قال: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم».
قال الرازي: أما ضرب المثل بامرأة نوح المسماة بواعلة، وامرأة لوط المسماة بواهلة، فمشتمل على فوائد متعددة لا يعرفها بتمامها إلا الله تعالى، منها: التنبيه للرجال والنساء على الثواب العظيم والعذاب الأليم.
ومنها: العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد، وفساد الغير لا يضر المصلح.
ومنها: أن الرجل، وإن كان في غاية الصلاح، فلا يأمن المرأة، ولا يأمن نفسه، كالصادر من امرأتي نوح ولوط.
329
ومنها: العلم بأن إحصان المرأة وعفتها مفيدة غاية الإفادة، كما أفاد مريم بنت عمران، وكما أخبر الله تعالى، فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ [آل عمران ٣/ ٤٢].
ومنها: التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب، وإلى الثواب بغير حساب، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب، وإليه المرجع والمآب «١».
تم هذا الجزء والحمد لله
(١) تفسير الرازي: ٣٠/ ٥١
330

[الجزء التاسع والعشرون]

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الملك، أو: تبارك
مكيّة، وهي ثلاثون آية.
تسميتها:
سميت سورة الملك لافتتاحها بتقديس وتعظيم الله نفسه الذي بيده الملك- ملك السموات والأرض، وله وحده مطلق السلطان، والتصرف في الأكوان كيفما يشاء، يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع. وتسمى السورة أيضا «الواقية» و «المنجية» لأنها تقي وتنجي من عذاب القبر وتشفع لصاحبها كما سأبيّن. وكان ابن عباس يسميها «المجادلة» لأنها تجادل عن قارئها في القبر.
مناسبتها لما قبلها:
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها من وجهين:
١- وجه عام: وهو أن هذه السورة تؤكد مضمون السورة السابقة في جملتها، فالسورة المتقدمة تبيّن مدى قدرة الله وهيمنته وتأييده لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم في مواجهة احتمال ظهور تآمر امرأتين ضعيفتين من نسائه عليه، وهذه السورة توضح بصيغة عامة أن بيد الله ملك السموات والأرض ومن فيهن، وأنه القدير على كل شيء.
5
٢- وجه خاص: وهو أنه تعالى ذكر في أواخر «التحريم» مثالين فريدين متمثلين بامرأتي نوح ولوط للكافرين، وبامرأة فرعون المؤمنة، ومريم العذراء البتول للمؤمنين، وهذه السورة تدل على إحاطة علم الله تعالى وتدبيره وإظهاره في خلقه ما يشاء من العجائب والغرائب، فإن كفر امرأتي نوح ولوط لم يمنع اتصالهما بنبيين كريمين، وإيمان امرأة فرعون، لم يضر به اتصالها بفرعون الطاغية الجبار العنيد، كما لم يزعزع إيمان مريم حملها غير المعهود بعيسى عليه السلام.
ما اشتملت عليه السورة:
سورة الملك كسائر السور المكية تعنى بأصول العقيدة الأساسية وهي إثبات وجود الله، وعظمته، وقدرته على كل شيء والاستدلال على وحدانيته، والإخبار عن البعث والحشر والنشر.
بدئت بالحديث عن تمجيد الله سبحانه، وإظهار عظمته، وتفرده بالملك والسلطان، وهيمنته على الأكوان، وتصرفه في الوجود بالإحياء والإماتة (الآيات: ١- ٢).
ثم أكدت الاستدلال على وجود الله عز وجل بخلقه السموات السبع، وما زيّنها به من الكواكب والنجوم المضيئة، وتسخيرها لرجم الشياطين ونحو ذلك من مظاهر قدرته وعلمه (الآيات: ٣- ٥) مما يدل على أن نظام العالم نظام محكم لا خلل فيه ولا تغاير.
ومن مظاهر قدرته تعالى: إعداد عذاب جهنم للكافرين، وتبشير المؤمنين بالمغفرة والأجر الكبير، وذلك جمع بين الترهيب والترغيب على طريقة القرآن الكريم (الآيات: ٦- ١٢).
ومن مظاهر علمه وقدرته ونعمه: علمه بالسر والعلن، وخلقه الإنسان
6
ورزقه، وتذليل الأرض للعيش الهني عليها وحفظها من الخسف، وحفظ السماء من إنزال الحجارة المحرقة المدمرة للبشر، كما دمرت الأمم السابقة المكذبة رسلها، وإمساك الطير ونحوها من السقوط، وتحدي الناس أن ينصرهم غير الله إن أراد عذابهم (الآيات: ١٣- ٢٠).
وأردفت ذلك في الخاتمة بإثبات البعث، وحصر علمه بالله تعالى، وإنذار المكذبين بدعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتحذيرهم من إيقاع العذاب بهم، وإعلان وجوب التوكل على الله، والتهديد بتغوير الماء الجاري في الأنهار والينابيع دون أن يتمكن أحد بإجرائه والإتيان ببديل عنه (الآيات: ٢٥- ٣٠).
والخلاصة: أن السورة إثبات لوجود الله تعالى ووحدانيته ببيان مظاهر علمه وقدرته، وإنذار بأهوال القيامة، وتذكير بنعم الله على عباده، وربط الرزق بالسعي في الأرض ثم التوكل على الله تعالى.
فضل السورة:
وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه السورة، منها: ما أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة،
وقال الترمذي: هذا حديث حسن، عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها، غفر له: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ».
ومنها:
ما أخرجه الطبراني والحافظ الضياء المقدسي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ».
ومنها:
ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس في تسمية سورة الملك بالواقية والمنجية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر».
7
Icon