ﰡ
المساواة في الإسلام وعظة القرآن
نزلت سورة عبس المكية بسبب عبد الله بن أم مكتوم، أثناء تشاغل النبي صلّى الله عليه وسلّم عنه مع جماعة من قريش، فيهم الوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، والعباس، وأبو جهل، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان شديد الحرص على إسلام قريش وأشرافهم، وكان يتحفّى بدعائهم إلى الله تعالى.
أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: نزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله يعرض عنه، ويقبل على الآخر، فيقول له: أترى بما أقول بأسا؟ فيقول: لا، فنزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢)
وهذا مطلعها:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ٢٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠»
(٢) أعرض.
(٣) عبد الله بن أم مكتوم.
(٤) يتطهر من الذنوب.
(٥) الموعظة.
(٦) عن سماع القرآن.
(٧) تتصدى، أي تتعرض له بالموعظة.
(٨) يسرع في طلب الخير.
(٩) تتلهى أي تتشاغل عنه.
(١٠) موعظة.
قطّب النبي صلّى الله عليه وسلّم وجهه، وأعرض، لمجيء الأعمى عبد الله بن أم مكتوم إليه يسأله، بقوله: «علمني مما علّمك الله» فكره النبي أن يقطع عليه كلامه مع زعماء الشرك، رجاء إيمانهم، فأعرض عنه، فنزلت هذه الآية.
وما يعلمك يا محمد أنه لعل هذا الأعمى يتطهر من الذنوب والآثام، بالعمل الصالح، بسبب ما يتعلمه منك، أو يتذكر أو يتعظ بما تعلمه، فتنفعه الموعظة.
ثم عاتب الله تعالى نبيه بصراحة، فقال له: أما من استغنى بماله وجاهه عن القرآن ورسالتك، وعن الإيمان والهداية، فأنت تقبل عليه بوجهك وحديثك، وتتعرض له بالموعظة، ولا شيء عليك في أن لا يسلم ولا يهتدي، ولا يتطهر من الذنوب، فإنه ليس عليك إلا البلاغ.
وأما من أتى إليك مسرعا بجد لطلب الهداية والإرشاد إلى الخير، والاتعاظ بآيات الله، وهو يخاف الله تعالى، فأنت عنه تتشاغل، وتعرض. وهذا دليل على وجوب المساواة في الإنذار بين الناس جميعا، لا فرق بين شريف وضعيف ورجل وامرأة.
كلا (كلمة ردع وزجر) زجرا للمخاطب عن الشيء المعاتب عليه، أو عن معاودة مثله، لا تفعل مثل ذلك الفعل مع ابن أم مكتوم، من الإعراض عن الفقير، والتصدي للغني مع كونه ليس ممن يتزكى، وهذه الآيات موعظة وعبرة، جدير بك
(٢) رفيعة القدر منزهة عن الشياطين.
(٣) جمع سافر، هم الكتبة من الملائكة.
(٤) أعزاء على الله، أتقياء مطيعين لله تعالى. [.....]
(٥) أنشأه في أطوار مختلفة وهيأه لما يصلح له.
(٦) أحياه.
فكان أي النبي بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم قال: مرحبا بما عاتبني فيه ربي عز وجل، وبسط له رداءه، واستخلفه النبي على المدينة مرتين.
وتلك التذكرة ذات صفتين: إنها تذكرة بينة ظاهرة، مقدور على فهمها، فمن رغب فيها اتعظ بها، وحفظها، وعمل بمقتضاها.
وهي تذكرة مثبتة كائنة في صحف مشرفة عند الله تعالى، لما فيها من العلم والحكمة، وإثباتها في اللوح المحفوظ، وكونها رفيعة القدر عند الله، منزهة، لا يمسها إلا المطهرون، محمولة بأيدي ملائكة وسائط ينقلون الوحي للرسل، لتبليغها للناس، وهم كرام على ربهم، ومترفعون عن المعاصي، أتقياء مطيعون لله عز وجل، صادقون في إيمانهم.
ثم ذم الله تعالى منكر البعث بقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) أي حقّ قتل الإنسان الكافر، أي هو أهل أن يدعى عليه بهذا، أيّ شيء أكفره؟ أي جعله كافرا.
والمراد: إرادة إيصال العقاب الشديد للكافر.
قيل: إن هذه الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وذلك أنه غاضب أباه، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالا، وجهّزه إلى الشام، فبعث عتبة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: إني كافر برب النجم إذا هوى. فدعا عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخذه الأسد وأكله بطريق الشام، أخرجه ابن المنذر عن عكرمة.
من أي شيء مهين خلق الله هذا الكافر بربه؟! فلا ينبغي له التكبر عن الطاعة.
وهو استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الله الإنسان منه. خلق الله هذا الكافر بربّه، وقدره أطوارا وأحوالا، وسواه وهيأه لمصالح نفسه. وأتم خلقه وأكمله بأعضائه الملائمة لحاجاته مدة حياته، وزوده بطاقات العقل والفهم وبالحواس المدركة، للاستفادة من نعم الله تعالى، فلا يستعملها في إغضابه.
ثم بعد خلقه له، قبض روحه، وأمر بمواراته في قبر، أي أن يجعل له قبر. وفي ذلك تكريم، لئلا يطرح كسائر الحيوان، ثم إذا شاء الله أنشره، أي أحياه بعد موته، أو بعثه بعد موته. وقوله: ثُمَّ إِذا شاءَ يريد: إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه، وهو يوم القيامة.
كلا، أي هذا ردع وزجر للإنسان عما هو عليه، فلم يخل إنسان من تقصير قط، إما بالكفر، وإما بالعصيان، وإما بارتكاب خلاف الأولى والأفضل لما يليق بمنزلته، ولم يفعل بما أمره الله إلا القليل، وهذا تعجيب من حال الإنسان.
نعم الإله على الإنسان وأهوال القيامة
ذكر الله تعالى من أجل بيان قدرته نعمه في الأنفس البشرية، ثم ذكر دلائل الآفاق، وعدّد النعم التي يحتاج إليها الإنسان، لقوام حياته، لعله يقابل النعمة بالوفاء والشكر والإيمان، ثم حذره مما يلقاه في الآخرة من أهوال القيامة، التي تملأ النفس خوفا ورهبة، ليكون ذلك مدعاة إلى التأمل في الدلائل، وفي المبادرة إلى الإيمان بالموجد الخالق، والإعراض عن الكفر، والتواضع لكل أحد، كما يبدو في هذه الآيات:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٢٤ الى ٤٢]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨)
ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
ليتأمل الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي يتعيش به، وكيف صنعه الله له؟
وهذا منّة بالنعمة المتكررة، واستدلال بإحياء النبات من التراب على إحياء الأجساد بعد البلى. وكيفية إيجاد الطعام: أننا نحن الله أنزلنا الماء من السماء أو السحاب، على الأرض بغزارة وكثرة، وصبّ الماء: هو المطر، ثم أسكناه في الأرض، ثم أروينا البذور في باطن الأرض بالماء، ثم شققناها بالنبات الخارج منها، فارتفع وظهر على وجهها، فوجدت النباتات المختلفة.
فأنبتنا في الأرض الحبوب المقتاتة التي يتغذى بها كالحنطة والشعير والأرز، والأعناب المتنوعة، وأنواع البرسيم لأكل الدواب وعلفها، قال أبو عبيدة:
القضب: الرّطبة، وأهل مكة يسمون القتّ القضب، لأنه يقضب كل يوم. وقال ابن عطية: إن القضب هنا: هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم، غضا من النبات، كالبقول والهليون ونحوه، فإنه من المطعوم جزء عظيم، ولا ذكر له في الآية إلا في هذه اللفظة.
وأوجدنا أيضا بساتين ذات أشجار ضخمة ومتكاثفة كثيرة، وفاكهة: وهي كل ما
(٢) بساتين ضخمة عظيمة، كثيرة الأشجار.
(٣) الكلأ والمرعى.
(٤) النفخة التي تقوم بها القيامة.
(٥) زوجته.
(٦) يصرفه عما عداه.
(٧) مضيئة متهللة.
(٨) فرحة.
(٩) غبار.
(١٠) تعلوها ألوان السواد كالدخان.
(١١) الخارجون عن حدود الدين والعقل.
وحكمة الإنبات: أننا جعلنا ذلك متعة أو عيشة لكم أيها البشر ولأنعامكم. فإذا جاءت القيامة. ولفظة (الصاخة) في حقيقتها إنما هي لنفخة الصور التي تصخّ الآذان، أي تصمّها، واستعملت في القيامة، والداهية والصيحة المفرطة من قبيل الاستعارة.
إذا جاءت الصاخة ترى المرء يفرّ من أقرب الناس له، من أخيه وأمه وأبيه وزوجته وولده، ويبتعد عنهم، لشدة الهول والخطب، ولكل امرئ منهم يومئذ حال أو شغل يشغله عن الأقرباء، ويصرفه منهم، ويفرّ عنهم، حذرا من مطالبتهم إياه بشيء يهمهم، ولئلا يروا ما هو فيه من الشدة. روي أن الرسل تقول يومئذ: نفسي نفسي، لا أسألك غيري. و (الشأن الذي يغنيه) هو فكره في سيئاته، وخوفه على نفسه من التخليد في النار. والمعنى: يغنيه عن اللقاء عن غيره.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه ابن جرير عن أنس رضي الله عنه- لعائشة رضي الله عنها: «لا يضرّك في القيامة كان عليك ثياب أم لا»،
وقرأ هذه الآية.
وأحوال الناس في القيامة فريقان: سعداء وأشقياء، عبر عنهم بما يأتي:
وجوه متهللة مشرقة مضيئة، وهي وجوه المؤمنين أهل الجنة، لأنهم علموا إذ ذاك ما لهم من النعيم والكرامة.
ووجوه أخرى في القيامة، عليها غبار وكدورة، والقترة: غبار الأرض، لما تراه مما أعدّه الله لها من العذاب، يغشاها سواد، وذلة وشدة، وأصحاب تلك الوجوه المغبّرة: هم الذين كفروا بالله، فلم يؤمنوا به، ولا بما جاء به أنبياؤه ورسله، وهم الذين اقترفوا المعاصي والسيئات، فهم الفاسقون الكاذبون، الذين جمعوا بين الكفر والفجور، كما جاء في آية أخرى: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: ٧١/ ٢٧] أي إن
إن هذا الوصف المرعب ليوم القيامة يستدعي التأمل والنظر، قبل التورط في هذه المآسي التي لا علاج لها، ولا تبديل، والسبيل لتفادي تلك الأهوال: هو الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر، ويضم العمل الصالح لساحة الإيمان الأصيلة التي هي قاعدة قبول العمل عند الله تعالى، فمن توافر لديه هذان العنصران، نجا وهان عليه الأمر، وضمن السلامة لنفسه.