تفسير سورة البقرة

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تفسير سورة البقرة
اعلم أن سورة البقرة مدنية باتفاق الأئمة، وحكى عن بعض العلماء أنه قال : يكره، تسميتها بسورة البقرة، والأولى أن يقال : السورة التي يذكر فيها البقرة، وكذا في سائر السور من أمثالها. والأصح أنه يجوز ؛ لما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رمى جمرة العقبة من بطن الوادي ثم قال : هذا والله مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.
وروى عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبي أنه قال :«تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة »( ١ ) أي : السحرة. وفي هذا دليل على فضيلة هذه السورة، وعلى جواز تسميتها سورة البقرة، وسمى بعض المتقدمين هذه السورة : فسطاط القرآن ؛ لشرفها وفضلها.
١ - أخرجه أحمد في مسنده (٥/٣٤٨، ٣٦١) والدارمي (٢/٥٤٣ رقم ٣٣٩١)، والحاكم في المستدرك (١/٥٦٠) وقال صحيح على شرط مسلم، وقال الهيثمي في المجمع (٧/١٦٢): رجاله رجال الصحيح والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي أمامة (٦/١٣٠ رقم ٨٠٤) ولفظه: «اقرءوا...»..

قَوْله تَعَالَى: ﴿آلم﴾ قَالَ الشّعبِيّ وَجَمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين، فِي هَذَا وَسَائِر حُرُوف التهجي فِي فواتح السُّور: والفائدة فِي أَوَائِل السُّور لَا (يعلم) مَعْنَاهَا، وَهِي سر الْقُرْآن، وَلكُل كتاب سر، وسر الْقُرْآن حُرُوف التهجي من فواتح السُّور، والفائدة من ذكرهَا طلب الْإِيمَان بهَا، وَأَن يعلم أَنَّهَا من عِنْد الله تَعَالَى.
وَقَالَ غَيرهم: هِيَ مَعْلُومَة الْمعَانِي. وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: معنى قَوْله: ﴿آلم﴾ أَنا الله أعلم، وكل حرف يدل على معنى، وَالْألف دَلِيل قَوْله: " أَنا "، وَاللَّام دَلِيل قَوْله: " الله "، وَالْمِيم دَلِيل قَوْله: " أعلم ".
وَكَذَا قَالَ فِي أَمْثَاله، فَقَالَ فِي ﴿آلمص﴾ : مَعْنَاهُ: أَنا الله أعلم وأفصل. وَفِي ﴿آلمر﴾ : أَنا " الله " أعلم وَأرى. وَفِي ﴿آلر﴾ : أَنا الله أرى.
قَالَ الزّجاج: هَذَا حسن، وبمثله قَالَت الْعَرَب فِي قَوْلهَا. فَإِن الْعَرَب قد تَأتي فِي كَلَامهَا بِحرف وتريد بِهِ معنى، كَمَا قَالَ الْقَائِل:
(قلت لَهَا قفي فَقَالَت قَاف لَا تحسبي أَنا نَسِينَا الإيجاف)
وَمعنى قَوْلهَا قَاف، أَي: وقفت. فَدلَّ الْحَرْف على معنى، كَذَا هَذَا.
وَقَالَ قَتَادَة فِي حُرُوف التهجي: إِنَّهَا اسْم لِلْقُرْآنِ.
وَقَالَ مُجَاهِد: إِنَّهَا أَسمَاء للسور وَقَالَ غَيرهم: هُوَ قسم، أقسم الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْحُرُوف؛ لشرفها وفضلها؛ لِأَنَّهَا مباني كتبه الْمنزلَة.
قَوْله عز وَجل: ﴿ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ﴾، أما قَوْله: ﴿ذَلِك الْكتاب﴾ أَي: هَذَا الْكتاب، كَمَا قَالَ الْقَائِل:
41
﴿ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ هدى لِلْمُتقين (٢) ﴾
(أَقُول لَهُ وَالرمْح يأطر مَتنه تَأمل خفافا إِنَّنِي أَنا ذلكا)
[أَي] : أنني أَنا هَذَا. وَقيل: هَذَا مُضْمر فِيهِ، وَمَعْنَاهُ: هَذَا ذَلِك الْكتاب الَّذِي وعدتك يَا مُحَمَّد أَن أنزلهُ عَلَيْك على لِسَان الَّذين قبلك، و " هَذَا " للتقريب و " ذَلِك " للتبعيد.
فَأَما ﴿الْكتاب﴾ هُوَ الْقُرْآن، وَالْكتاب بِمَعْنى الْمَكْتُوب كَمَا يُقَال: " ضرب الْأَمِير " أَي: مضروبه.
﴿لَا ريب فِيهِ﴾ أَي: لَا شكّ فِيهِ. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ أخبر قَالَ: " لَا ريب فِيهِ " وَقد ارتاب فِيهِ كثير من النَّاس، وَخبر الله تَعَالَى لَا يكون بِخِلَاف مخبره؟ يُقَال: مَعْنَاهُ أَنه الْحق والصدق لَا شكّ فِيهِ.
وَقيل: هُوَ خبر بِمَعْنى النهى، أَي: لَا ترتابوا فِيهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هدى لِلْمُتقين﴾ وَالْهدى بِمَعْنى الرشد وَالْبَيَان.
وَأما المتقون مَأْخُوذ من الاتقاء وَالتَّقوى. وَأَصله الحجز بَين شَيْئَيْنِ، وَمِنْه يُقَال: اتَّقى بترسه، أَي: جعله حاجزا بَين نَفسه وَبَين مَا قصد بِهِ من الْمَكْرُوه. وَفِي الْخَبَر " كُنَّا إِذا احمر الْبَأْس اتقينا برَسُول الله ". أَي: " اشتدت الْحَرْب " جَعَلْنَاهُ حاجزا بَيْننَا وَبَين الْعَدو.
فَكَأَن المتقى يَجْعَل امْتِثَال أَمر الله والاجتناب عَن نَهْيه حاجزا بَينه وَبَين الْعَذَاب فيتحرز بِطَاعَة الله عَن عُقُوبَة الله.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم خص الْمُتَّقِينَ بِالذكر وَهُوَ هدى لجَمِيع الْمُؤمنِينَ؟ قيل: إِنَّمَا خصهم بِالذكر تَشْرِيفًا، أَو لأَنهم هم المنتفعون بِالْهدى، حَيْثُ نزلُوا منزل التَّقْوَى دون غَيرهم،
42
﴿الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (٣) ﴾ فَلهَذَا خصهم بِهِ.
43
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة﴾
قَوْله: ﴿الَّذين﴾ نعت الْمُتَّقِينَ ﴿يُؤمنُونَ﴾ من الْإِيمَان. وَهُوَ التَّصْدِيق، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا﴾ أَي: بمصدق لنا.
وَالْإِيمَان فِي الشَّرِيعَة يشْتَمل على الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ، وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَل بالأركان. وَقيل: الْإِيمَان مَأْخُوذ من الْأمان، فسعي الْمُؤمن مُؤمنا؛ لِأَنَّهُ يُؤمن نَفسه من عَذَاب الله. وَالله مُؤمن؛ لِأَنَّهُ يُؤمن الْعباد من عَذَابه.
﴿بِالْغَيْبِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: الْغَيْب كل مَا أمرت بِالْإِيمَان بِهِ مِمَّا غَابَ عَن بَصرك، وَذَلِكَ مثل الْمَلَائِكَة، وَالْجنَّة، وَالنَّار، والصراط، وَالْمِيزَان، وَنَحْوهَا.
وَقَالَ غَيره: الْغَيْب هَاهُنَا هُوَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ ابْن كيسَان: أَرَادَ بِهِ الْقدر. ﴿يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، أَي: بِالْقدرِ.
﴿ويقيمون الصَّلَاة﴾ أَي: يديمون الصَّلَاة. وَحَقِيقَة إِقَامَة الصَّلَاة الْمُحَافظَة على أَدَائِهَا بأركانها وسننها وهيئاتها.
فَالصَّلَاة فِي اللُّغَة: الدُّعَاء، وَقد ورد فِي الْخَبَر: " من دعى إِلَى الطَّعَام فليجب، فَإِن كَانَ مُفطرا فَليَأْكُل، وَإِن كَانَ صَائِما فَليصل ". أَي: فَليدع. وَقد قَالَ الشَّاعِر:
43
﴿وَالَّذين يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (٤) ﴾
(تَقول بِنْتي وَقد [قربت] مرتحلا يَا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا)
(عَلَيْك مثل الَّذِي صليت فاغتمضي عينا فَإِن بِجنب الْمَرْء مُضْطَجعا)
معنى قَوْله: صليت أَي: مثل الَّذِي دَعَوْت.
وَقيل: الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار، وَمن النَّاس الدُّعَاء، وَهِي فِي الشَّرِيعَة تشْتَمل على أَفعَال مَخْصُوصَة وعَلى الثَّنَاء وَالدُّعَاء.
قَوْله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ﴾ أما الرزق اسْم لكل مَا ينْتَفع بِهِ الْخلق، فَيدْخل فِيهِ الْوَلَد وَالْعَبْد.
﴿يُنْفقُونَ﴾ من الْإِنْفَاق، وَأَصله الْإِخْرَاج، وَمِنْه نفاق السُّوق؛ لِأَنَّهُ تخرج فِيهِ السّلْعَة وَيُقَال: نفقت الدَّابَّة إِذا خرجت روحها، فَهَذِهِ الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ من مُشْركي الْعَرَب.
44
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك﴾
وَهَذِه الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ من أهل الْكتاب؛ لأَنهم هم الَّذين آمنُوا بِالْقُرْآنِ وَسَائِر الْكتب قبله، وَقد روى فِي حَدِيث صَحِيح عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من آمن بالكتب الْمُتَقَدّمَة وآمن بِالْقُرْآنِ يُؤْتى أجره مرَّتَيْنِ ". وَعَلِيهِ دلّ نَص الْقُرْآن ﴿أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ﴾.
وَقَوله: ﴿وبالآخرة هم يوقنون﴾ فالآخرة هِيَ دَار الْآخِرَة. وَسميت الدُّنْيَا دنيا؛ لدنوها من الْخلق، وَسميت الْآخِرَة آخِرَة؛ لتأخرها عَن الْخلق.
44
﴿أُولَئِكَ على هدى من رَبهم وَأُولَئِكَ هم المفلحون (٥) إِن الَّذين كفرُوا﴾
﴿هم يوقنون﴾ من الإيقان وَهُوَ الْعلم، وَقيل: الإيقان وَالْيَقِين: علم عَن اسْتِدْلَال، وَلذَلِك لَا يُسَمِّي الله تَعَالَى موقنا إِذْ لَيْسَ علمه عَن اسْتِدْلَال.
45
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ على هدى من رَبهم وَأُولَئِكَ هم المفلحون﴾
فَقَوله ﴿أُولَئِكَ﴾ يَعْنِي الَّذين وَصفهم ﴿على هدى﴾ أَي: على رشد وَبَيَان من رَبهم. فَإِن قيل: لم ذكر الْهدى ثَانِيًا وَقد وَصفهم بِالْهدى مرّة؟ قيل: كَرَّرَه لفائدة التَّأْكِيد أَو يُقَال: الْهدى الأول من الْقُرْآن، وَالْهدى الثَّانِي من الله، وَفِيه بَيَان أَن الْهِدَايَة من الله تَعَالَى وَمن كَلَامه كَمَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة.
وَأما ﴿المفلحون﴾ من الْفَلاح، والفلاح يكون بِمَعْنى الْبَقَاء. يُقَال: أَفْلح بِمَا شِئْت. أَي: أبق بِمَا شِئْت. وَقد يكون بِمَعْنى الْفَوْز والنجاة. وأصل الْفَلاح الْقطع والشق، وَمِنْه سمى [الزَّارِع] فلاحا؛ لِأَنَّهُ يشق الأَرْض. وَفِي الْمثل: " الْحَدِيد بالحديد يفلح "، أَي: يشق. قَالَ الشَّاعِر:
(قد علمت يَا ابْن أم صحصح أَن الْحَدِيد بالحديد يفلح)
أَي: يشق. فَمَعْنَى المفلحين أَنهم الْبَاقُونَ فِي نعيم الْأَبَد، والفائزون بِهِ، والمقطوع لَهُم بِالْخَيرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين كفرُوا﴾ فالكفر مَأْخُوذ من الْكفْر وَهُوَ السّتْر والتغطية، وَمِنْه يُقَال لِليْل: كَافِر؛ لِأَنَّهُ يستر الْأَشْيَاء بظلمته، وسمى الزَّارِع كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ يستر الْحبّ بِالتُّرَابِ، وَيُسمى الْكَافِر كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ يستر نعم الله تَعَالَى بِكُفْرِهِ وَيصير فِي غطاء من دَلَائِل الْإِسْلَام وبراهينه.
وَقيل: الْكفْر على أَرْبَعَة أنحاء: كفر إِنْكَار، وَكفر جحد، وَكفر عناد، وَكفر نفاق.
45
﴿سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ (٦) ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم وعَلى أَبْصَارهم غشاوة وَلَهُم عَذَاب عَظِيم (٧) ﴾
فَكفر الْإِنْكَار هُوَ أَن لَا يعرف الله أصلا، أَو لَا يعْتَرف بِهِ.
وَكفر الْجحْد: هُوَ أَن يعرف الله تَعَالَى، وَلَكِن يجحده، ككفر إِبْلِيس.
وَكفر العناد: هُوَ أَن يعرف الله تَعَالَى بِقَلْبِه، ويعترف بِلِسَانِهِ، وَلَكِن لَا يتدين بِهِ وَلَا يَتَّخِذهُ دينا، ككفر أبي طَالب؛ فَإِنَّهُ عرف الله وَرَسُوله بِقَلْبِه وَأقر بِلِسَانِهِ حَتَّى قَالَ:
(وَلَقَد علمت بِأَن دين مُحَمَّد من خير أَدْيَان الْبَريَّة دينا)
(لَوْلَا الْمَلَامَة أَو حذار مسَبَّة لَوَجَدْتنِي سَمحا بِذَاكَ مُبينًا)
وَأما كفر النِّفَاق: أَن يعْتَرف بِاللِّسَانِ وَلَا يعْتَقد بِالْقَلْبِ؛ فَهَذِهِ أَنْوَاع الْكفْر؛ فَمن لقى الله تَعَالَى بِنَوْع مِنْهَا لم يعف.
قَوْله تَعَالَى: ﴿سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ﴾
﴿سَوَاء عَلَيْهِم﴾ أَي: مستو عَلَيْهِم. (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) أَي: خوفتهم أم لم تخوفهم. والإنذار: تخويف مَعَ الْإِعْلَام.
وَقيل: هُوَ أَشد التخويف. يَعْنِي: سَوَاء خوفتهم أم لم تخوفهم لَا يُؤمنُونَ. وَردت هَذِه الْآيَة فِي قوم بأعيانهم علم الله تَعَالَى أَنهم لَا يُؤمنُونَ.
46
قَوْله تَعَالَى: ﴿ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم﴾
ذكر فِي الْآيَة الأولى أَنهم لَا يُؤمنُونَ، وَذكر فِي هَذِه الْآيَة علته، فَقَالَ: ﴿ختم الله على قُلُوبهم﴾ والختم: هُوَ الطَّبْع، وَحَقِيقَته: الاستيثاق من الشَّيْء؛ كَيْلا يدْخلهُ مَا هُوَ خَارج مِنْهُ، وَلَا يخرج عَنهُ مَا هُوَ دَاخل فِيهِ، وَمِنْه الْخَتْم على الْبَاب.
فَقَوله: ﴿ختم الله على قُلُوبهم﴾ ذكر ابْن كيسَان أقوالا فِي مَعْنَاهُ: أَحدهَا: أَي: جازاهم على كفرهم بِأَن أختم على قُلُوبهم.
46
﴿وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه وباليوم الآخر وَمَا هم بمؤمنين (٨) يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا وَمَا يخدعون إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ﴾
وَالثَّانِي وَهُوَ قَول أهل السّنة أَي: ختم على قلبهم بالْكفْر؛ لما سبق من علمه الأزلي فيهم.
وَحكى قَول ثَالِث: أَن مَعْنَاهُ: جعل على قُلُوبهم عَلامَة تعرفهم الْمَلَائِكَة بهَا، وَهَذَا تَأْوِيل أهل الاعتزال، نبرأ إِلَى الله مِنْهُ.
وَحكى أَبُو عمر غُلَام ثَعْلَب، عَن ثَعْلَب، عَن إِبْرَاهِيم الْأَعرَابِي: أَن الْخَتْم هُوَ منع الْقلب من الْإِيمَان، ذكره فِي كتاب الْيَاء.
قَوْله: ﴿وعَلى سمعهم﴾ أَي: أسماعهم، ذكر الْجمع بِلَفْظ (الْوَاحِد)، وَمثله كثير فِي الْقُرْآن. مَعْنَاهُ: على مَوضِع سمعهم، فختم على قُلُوبهم؛ كَيْلا يقبلُوا الْحق، وعَلى سمعهم؛ كَيْلا يسمعو الْحق.
قَول تَعَالَى: ﴿وعَلى أَبْصَارهم غشاوة﴾ هَذَا ابْتِدَاء الْكَلَام وَمَعْنَاهُ: على أَبْصَارهم غطاء.
﴿وَلَهُم عَذَاب عَظِيم﴾ أَي: كَبِير، وصف عَذَاب الْآخِرَة بالعظم وَلَا شكّ أَنه عَظِيم.
47
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه وباليوم الآخر وَمَا هم بمؤمنين﴾ قَالَ الْكَلْبِيّ: ورد هَذَا فِي شَأْن الْيَهُود. وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَنه فِي شَأْن الْمُنَافِقين. وَمَعْنَاهُ: وَمن النَّاس نَاس تَقول آمنا بِاللَّه وباليوم الآخر يَعْنِي: الْقِيَامَة. ﴿وَمَا هم بمؤمنين﴾ نفي الْإِيمَان عَنْهُم؛ حَيْثُ أظهرُوا الْإِسْلَام بِاللِّسَانِ وَلم يعتقدوا بالجنان. وَهَذَا دَلِيل على من يخرج الِاعْتِقَاد من جملَة الْإِيمَان.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا﴾ الْآيَة: المخادعة، والخدع بِمَعْنى وَاحِد وَحَقِيقَة المخادعة: أَن يظْهر شَيْئا ويبطن خِلَافه.
47
( ﴿٩) فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا﴾ وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي فِي كتاب الْيَاء: قَوْله: المخادعة منع الْقلب من الْحق، قَالَه فِي حق الْمُنَافِقين حَيْثُ أظهرُوا الْإِسْلَام بِاللِّسَانِ وأبطنوا خِلَافه.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: ﴿يخادعون الله﴾ وَهَذَا يُوهم الشّركَة فِي المخادعة، وَقد جلّ الله تَعَالَى عَن الْمُشَاركَة فِي المخادعة؟ ! الْجَواب: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَعْنَاهُ يخادعون نَبِي الله.
وَقَالَ غَيره من الْمُفَسّرين مَعْنَاهُ: يعاملون الله مُعَاملَة المخادعين.
فَأَما قَوْله: ﴿وَمَا يخادعون إِلَّا أنفسهم﴾ يقْرَأ بقراءتين: " يخادعون، ويخدعون ". فَمن قَرَأَ: " يخادعون " فَهُوَ على المشاكلة؛ لِأَنَّهُ ذكر الأول بِلَفْظ المخادعة، وَهَذَا شكله فَذكره بِلَفْظِهِ.
وَمن قَرَأَ: " يخدعون " فَهُوَ على الأَصْل، وعَلى أَن لفظ المخادعة لَا يَقْتَضِي الْمُشَاركَة، بَين اثْنَتَيْنِ، وَمثله: طرقت النَّعْل، وطارقت النَّعْل، وَمثله كثير فِي أَلْفَاظ المفاعلة.
فَمَعْنَى قَوْله ﴿وَمَا يخادعون إِلَّا أنفسهم﴾ أَي: وبال خديعتهم رَاجع إِلَيْهِم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ ذَلِك. يُقَال: شَعرت بِمَعْنى علمت، وَمِنْه قَوْلهم: لَيْت شعري؛ أَي: لَيْت أعلم.
48
قَوْله تَعَالَى: ﴿فِي قُلُوبهم مرض﴾ الْآيَة، أَرَادَ بِالْمرضِ الشَّك والنفاق، بِإِجْمَاع الْمُفَسّرين. ويوصف الْقلب وَالدّين بِالْمرضِ وَالصِّحَّة كَمَا يُوصف الْبدن بِهِ.
﴿فَزَادَهُم الله مَرضا﴾ أَي: شكا ونفاقا؛ فَإِنَّهُ لما نزلت الْآيَات آيَة بعد آيَة فَكلما كفرُوا بِآيَة ازدادوا كفرُوا ونفاقا، وَذَلِكَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم
48
﴿وَلَهُم عَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكذبُون (١٠) وَإِذا قيل لَهُم لَا تفسدوا فِي الأَرْض قَالُوا إِنَّمَا نَحن مصلحون (١١) أَلا إِنَّهُم هم المفسدون﴾ مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم).
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: مؤلم. فعيل: بِمَعْنى: مفعل؛ كَمَا قَالَ الْقَائِل:
(أَمن رَيْحَانَة الدَّاعِي السَّمِيع يؤرقني وأصحابي هجوع خُفْيَة)
وَأَرَادَ بالسميع المسمع.
قَوْله تَعَالَى: ﴿بِمَا كَانُوا يكذبُون﴾ قرىء بقراءتين: مخفف وَمَعْنَاهُ: يكذبُون بِمَا أظهرُوا من الْإِسْلَام وأبطنوا خِلَافه، وَهُوَ مثل قَوْله: ﴿وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ﴾.
وقرىء: " يكذبُون " مشددا، وَمَعْنَاهُ: يكذبُون الرَّسُول.
49
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قيل لَهُم لَا تفسدوا فِي الأَرْض﴾ مَعْنَاهُ: لَا تكفرُوا، وَالْكفْر أَشد فَسَادًا فِي الأَرْض.
﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحن مصلحون﴾ يعْنى: أَن الَّذِي أظهرنَا من الْإِسْلَام واستفدنا بِهِ من الْعِزّ والأمان مصلحَة لنا وَنحن مصلحون بِهِ.
﴿أَلا إِنَّهُم هم المفسدون﴾ هَذَا ابْتَدَأَ كَلَام من الله. وَقَوله: (أَلا) للتّنْبِيه؛ قَالَ الشَّاعِر:
(أَلا إِن هَذَا الدَّهْر يَوْم وَلَيْلَة وَلَيْسَ على شَيْء قديم بمستمر)
يَقُول الله تَعَالَى: ﴿أَلا إِنَّهُم هم المفسدون﴾ يَعْنِي: بِمَا أظهرُوا من الْإِسْلَام وأبطنوا خِلَافه، فَهُوَ فَسَاد؛ وَإِن ظنوه صلاحا، وأظهروا خلاف مَا أبطنوا.
﴿وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَي: لَا يعلمُونَ.
49
﴿وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قيل لَهُم آمنُوا كَمَا آمن النَّاس قَالُوا أنؤمن كَمَا آمن السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُم هم السُّفَهَاء وَلَكِن لَا يعلمُونَ (١٣) ﴾
فَإِن قيل: كَيفَ يلْزمهُم الْحجَّة إِذا كَانُوا لَا يعلمُونَ؟
قيل: يلْزمهُم الْحجَّة بِمَا أوضح من السَّبِيل، وَنصب من الدَّلَائِل، وجهلهم لَا يكون عذرا لَهُم.
50
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قيل لَهُم آمنُوا كَمَا آمن النَّاس﴾ الْآيَة. كَمَا آمن النَّاس يعْنى: الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار.
﴿قَالُوا أنؤمن كَمَا آمن السُّفَهَاء﴾ سموهم سُفَهَاء فأجابهم الله تَعَالَى بقوله: ﴿أَلا إِنَّهُم هم السُّفَهَاء﴾
وَالسَّفِيه خَفِيف الْعقل رَقِيق الْحلم؛ من قَوْلهم: ثوب سَفِيه، أَي: رَقِيق بَال
يَقُول: هم الَّذين خفت عُقُولهمْ، ورقت أحلامهم ﴿وَلَكِن لَا يعلمُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا لقوا الَّذين آمنُوا قَالُوا آمنا﴾ الْآيَة، مَعْنَاهُ: وَإِذا لقوا الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار قَالُوا: آمنا. أظهرُوا الْإِسْلَام بِاللِّسَانِ.
﴿وَإِذا خلوا إِلَى شياطينهم﴾ أَي: بشياطينهم، يذكر " إِلَى " بِمَعْنى " الْبَاء " لِأَن الصلات يقوم بَعْضهَا مقَام الْبَعْض. والشيطان: كل عَاتٍ متمرد من الْجِنّ وَالْإِنْس، وَأَصله: الْبعد والامتداد. يُقَال: بِئْر شطون، أَي: بعيد العمق والقعر. وَيُقَال للحبل: شطن؛ لامتداده. وسمى الشَّيْطَان شَيْطَانا؛ لامتداده فِي الشَّرّ وَبعده عَن الْخَيْر.
فَأَرَادَ بالشياطين هَاهُنَا عتاتهم ورؤساءهم فِي الْكفْر. يَقُول: إِذا خلوا برءوسهم، قَالُوا: إِنَّا مَعكُمْ فِي دينكُمْ ﴿إِنَّمَا نَحن مستهزئون﴾ بِمَا أظهرنَا من الْإِسْلَام مَعَ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار.
50
﴿وَإِذا لقوا الَّذين آمنُوا قَالُوا آمنا وَإِذا خلوا إِلَى شياطينهم قَالُوا إِنَّا مَعكُمْ إِنَّمَا نَحن نَحن مستهزئون (١٤) الله يستهزىء بهم ويمدهم فِي طغيانهم﴾
51
وَقَوله تَعَالَى: ﴿الله يستهزىء بهم﴾ الْآيَة. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى الِاسْتِهْزَاء من الله تَعَالَى؟ قُلْنَا فِيهِ أَقْوَال: قَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ يجازيهم على صنيعهم، إِلَّا أَنه سَمَّاهُ الله استهزاء؛ لِأَنَّهُ جَزَاء الِاسْتِهْزَاء؛ كَمَا قَالَ: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا﴾ وَإِن لم يكن الْجَزَاء سَيِّئَة حَقِيقَة.
وَقَالَ بَعضهم: يستهزىء بهم أَي يعيبهم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿يكفر بهَا ويستهزأ بهَا﴾ أَي: يعاب كَذَلِك هَذَا.
وَقَالَ أهل الرِّوَايَة مَعْنَاهُ: الله يستهزىء بهم فِي الْآخِرَة، والاستهزاء بهم فِي الْآخِرَة يحْتَمل وَجْهَيْن؛ أَحدهمَا: أَن يضْرب للْمُؤْمِنين على الصِّرَاط نورا يَمْشُونَ بِهِ، وَإِذا وصل المُنَافِقُونَ إِلَيْهِ حَال بَينهم وَبَين الْمُؤمنِينَ، فَذَلِك الِاسْتِهْزَاء بهم؛ كَمَا قَالَ: ﴿فَضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب﴾.
وَالثَّانِي: أَنه يقربهُمْ من الْجنَّة، حَتَّى إِذا رأو زهرتها وحسنها وبهجتها، واستنشقوا رائحتها صرفهم عَنْهَا إِلَى النَّار، فَذَلِك الِاسْتِهْزَاء بهم، وَقد نطق عَنهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِمَعْنَاهُ حَدِيث فِي الصِّحَاح.
قَوْله: ﴿ويمدهم﴾ أَي، يمهلهم حَتَّى يستدرجهم. ﴿فِي طغيانهم﴾ أَي: ضلالتهم. ﴿يعمهون﴾ أَي: يتحيرون، قَالَ الشَّاعِر:
قَوْله تَعَالَى: (أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى) لِأَن مَعْنَاهُ: اخْتَارُوا الْكفْر على الْإِيمَان؛ لأَنهم لما آثروا أَشْيَاء على شَيْء فكأنهم استبدلوا هَذَا بذلك {فَمَا
51
﴿يعمهون (١٥) أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى فَمَا ربحت تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مهتدين (١٦) مثلهم كَمثل الَّذِي استوقد نَارا فَلَمَّا أَضَاءَت مَا﴾ ربحت تِجَارَتهمْ) أَي: فَمَا ربحوا فِي تِجَارَتهمْ. ﴿وَمَا كَانُوا مهتدين﴾.
52
قَوْله تَعَالَى: ﴿مثلهم كَمثل الَّذِي استوقد نَارا﴾ الْآيَة. الْمثل: قَول سَائِر فِي عرف النَّاس، يعرف بِهِ معنى الشَّيْء من الشَّيْء. وَهَذَا أحد أَقسَام الْقُرْآن؛ فَإِن الْقُرْآن على سَبْعَة أَقسَام.
وَقيل مثلهم، أَي: صفتهمْ. ﴿كَمثل الَّذِي استوقد نَارا﴾ أوقد النَّار، واستوقد بِمَعْنى وَاحِد، كَمَا يُقَال: أجَاب، واستجاب.
وَقيل: أوقد إِذا فعل بِنَفسِهِ، واستوقد إِذا طلب الإيقاد من غَيره. ﴿فَمَا أَضَاءَت مَا حوله﴾ يعْنى: أَضَاءَت النَّار الموقدة حول المستوقد. ضربه مثلا لِلْمُنَافِقين وَمعنى هَذَا الْمثل قَوْله تَعَالَى: ﴿كَمثل الَّذِي استوقد نَارا﴾ ضربه مثلا لما أظهرُوا بِاللِّسَانِ من الْإِسْلَام.
﴿فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حوله﴾ يعْنى: مَا استفادوا بذلك الْإِسْلَام الظَّاهِر من التجمل والعز والأمان فِي الدُّنْيَا.
﴿ذهب الله بنورهم﴾ قيل: فِيهِ معَان: أَحدهَا: ذهب الله بِمَا أظهرُوا من الْإِسْلَام بِإِظْهَار عقيدتهم على لِسَان النَّبِي وَقيل: مَعْنَاهُ ذهب الله بنورهم، يعْنى فِي الْقَبْر. وَقيل: فِي الْقِيَامَة؛ يعْنى أَن مَا استفادوا بِهِ فِي الدُّنْيَا لَا يَنْفَعهُمْ فِي الْآخِرَة إِذا كَانَ مصيرهم إِلَى النَّار.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: ﴿ذهب الله بنورهم﴾ وَلَا نور لَهُم، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور﴾ وَلَا نور لَهُم؟ قيل: أَرَادَ بِهِ نور مَا أظهرُوا من الْإِسْلَام؛ وَذَلِكَ نوع نور.
وَقيل: قد يذكر مثله على معنى الحرمان كَمَا يُقَال: أخرجتني من صلتك، وَإِن لم
52
﴿حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فِي ظلمات لَا يبصرون (١٧) صم بكم عمي فهم لَا يرجعُونَ (١٨) أَو كصيب من السَّمَاء فِيهِ ظلمات ورعد﴾ يكن دَاخِلا فِي صلته. بِمَعْنى: أَنَّك حرمتني صلتك، كَذَلِك قَوْله تَعَالَى: ﴿ذهب الله بنورهم﴾ أَي: حرمهم ذَلِك النُّور. (وتركهم فِي ظلمات) أَي: شَدَائِد ﴿لَا يبصرون﴾ الْحق.
53
قَوْله: (صم بكم عمي فهم لَا يرجعُونَ) فالصم: جمع الْأَصَم، وَهُوَ الَّذِي لَا يسمع، والبكم: جمع الأبكم، وَهُوَ الَّذِي لَا ينْطق، وَولد على الخرس.
والعمي: جمع الْأَعْمَى، وَهُوَ الَّذِي لَا يبصر؛ فَمَعْنَاه أَنهم صم لَا يبصرون الْحق، وَلَا يعرفونه كَأَنَّهُمْ لم يسمعوا؛ وَهُوَ مثل قَول الشَّاعِر:
(أَصمّ عَمَّا سَاءَهُ سميع... )
أَي: لَا يسمع مَا سَاءَهُ مَعَ كَونه سميعا.
﴿بكم﴾ يَعْنِي: أَنهم لما أبطنوا خلاف مَا أظهرُوا؛ فكأنهم لم ينطقوا بِالْحَقِّ.
﴿عمي﴾ أَي: لَا بصائر لَهُم، وَمن لَا بَصِيرَة لَهُ كمن لَا بصر لَهُ.
﴿فهم لَا يرجعُونَ﴾ عَمَّا هم عَلَيْهِ من الضَّلَالَة.
قَوْله تَعَالَى ﴿أَو كصيب من السَّمَاء فِيهِ ظلمات ورعد وبرق﴾ الْآيَة. فالصيب: الْمَطَر، وكل مَا نزل من الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل فَهُوَ صيب، من قَوْلهم: صاب يصوب، إِذا نزل.
وَقيل: الْأَهْل مُضْمر فِيهِ، أَي: كَأَهل الصيب؛ كَقَوْلِه ﴿واسأل الْقرْيَة﴾ أَي: أهل الْقرْيَة.
﴿من السَّمَاء﴾ كل مَا علا فَهُوَ سَمَاء. فالسقف سَمَاء، والسحاب سَمَاء، وَمَا فَوْقه سَمَاء، وَأَرَادَ بِهِ السَّحَاب هَهُنَا.
﴿فِيهِ ظلمات﴾ يعْنى: فِي السَّحَاب؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن ظلمَة، أَلا ترَاهُ يغشى وَجه
53
﴿وبرق يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق حذر الْمَوْت وَالله مُحِيط بالكافرين (١٩) ﴾ الشَّمْس ﴿ورعد وبرق﴾ قَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأكْثر الْمُفَسّرين: إِن الرَّعْد صَوت ملك يزْجر السَّحَاب، والبرق لمعان سَوط فِي يَد ملك يضْرب بِهِ السَّحَاب يَسُوقهُ إِلَى حَيْثُ قدره الله تَعَالَى.
وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا سَمِعْتُمْ صَوت الرَّعْد فاذكروا الله فَإِنَّهُ لَا يُصِيب ذَاكِرًا ". وَكَانَ إِذا سمع صَوت الرَّعْد يَقُول: " اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلنَا بِغَضَبِك، وَلَا تُهْلِكنَا بِعَذَابِك، وَعَافنَا قبل ذَلِك ".
وَقيل: الرَّعْد اسْم الْملك. وَقيل: صَوت [اختناق] الرّيح إِلَى السَّحَاب. وَالْأول أصح.
﴿يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق﴾ يَعْنِي: من الصَّوْت الْعَذَاب، حذر الْمَوْت. وَقيل: الصاعقة قِطْعَة من الْعَذَاب ينزلها الله تَعَالَى على من يَشَاء وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى ﴿وَيُرْسل الصَّوَاعِق فَيُصِيب بهَا من يَشَاء﴾ ﴿وَالله مُحِيط بالكافرين﴾ أَي جامعهم. قَالَ مُجَاهِد: يجمعهُمْ فيعذبهم. والإحاطة بالشَّيْء جمعه بِحَيْثُ لَا يشذ مِنْهُ شئ، والإحاطة من الله تَعَالَى تكون بالقهر والاقتدار وَالْعلم.
وَمعنى الْمثل فِي هَذَا: أما قَوْله: ﴿أَو كصيب من السَّمَاء﴾ يَعْنِي: إِن شِئْت مثلهم بالمستوقد وَإِن شِئْت مثلهم بالصيب، أَي بِأَهْل الصيب. ضرب الصيب مثلا لما أظهرُوا
54
﴿يكَاد الْبَرْق يخطف أَبْصَارهم كلما أَضَاء لَهُم مَشوا فِيهِ وَإِذا أظلم عَلَيْهِم قَامُوا وَلَو شَاءَ لله لذهب بسمعهم وأبصارهم إِن الله على كل شَيْء قدير (٢٠) ﴾ بِاللِّسَانِ من الْإِسْلَام.
﴿فِيهِ ظلمات﴾ مثل لما فِي الْإِسْلَام من البلايا والمحن والشدائد ﴿ورعد﴾ مثل لما فِيهِ من المخاوف فِي الْآخِرَة.
(وبرق) لما فِيهِ من الْوَعْد والوعيد.
وَقيل: ضرب الصيب مثلا لِلْقُرْآنِ الَّذِي كَانُوا يقرءونه بِاللِّسَانِ؛ لِأَن فِي الْقُرْآن حَيَاة الْبَاطِن كَمَا فِي المَاء حَيَاة الظَّاهِر. ﴿فِيهِ ظلمات﴾ مثل لما ذكرنَا فِي الْقُرْآن من أَنْوَاع الْكفْر والنفاق، ﴿ورعد﴾ مثل لما ذكرنَا فِيهِ من الْوَعيد ﴿وبرق﴾ مثل لما فِيهِ من الْبَيَان.
﴿يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم﴾ يعْنى: أَن الْمُنَافِقين إِذا رَأَوْا فِي الْإِسْلَام بلَاء وَشدَّة هربوا وتأخروا؛ حذرا من الْهَلَاك.
﴿وَالله مُحِيط بالكافرين﴾ يعْنى: لَا يَنْفَعهُمْ حذرهم؛ لِأَن الله تَعَالَى من ورائهم يجمعهُمْ فيعذبهم.
55
قَوْله تَعَالَى: ﴿يكَاد الْبَرْق يخطف أَبْصَارهم﴾ الْآيَة ﴿يكَاد﴾ كلمة الْقرب، يكَاد يفعل، أَي: قرب يفعل ﴿يخطف أَبْصَارهم﴾ والخطف: استلاب بِسُرْعَة. وَهَذَا من تَمام الْمثل، وَمَعْنَاهُ على القَوْل الأول: تكَاد دَلَائِل الْإِسْلَام تزعجهم إِلَى النّظر لَوْلَا مَا سبق لَهُم من الشقاوة.
وَمَعْنَاهُ على القَوْل الآخر: يكَاد الْقُرْآن يبهر قُلُوبهم.
كلما أَضَاء لَهُم مَشوا فِيهِ) مَعْنَاهُ: كلما نالوا غنيمَة وراحة ثبتوا على الْإِسْلَام. ﴿وَإِذا أظلم عَلَيْهِم قَامُوا﴾ يَعْنِي: كلما رَأَوْا شدَّة وبلاء تأخرا. وَقَامُوا، أَي: وقفُوا. ﴿وَلَو شَاءَ الله لذهب بسمعهم وأبصارهم﴾ يحْتَمل مَعْنيين: أَحدهمَا: لَو شَاءَ
55
﴿يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم وَالَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (٢١) ﴾
الله لذهب بِمَا استفادوا من الْعِزّ والأمان الَّذِي لَهُم بمنزله السّمع وَالْبَصَر.
وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: وَلَو شَاءَ الله لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظَّاهِرَة؛ كَمَا ذهب بأسماعهم وأبصارهم الْبَاطِنَة. ﴿إِن الله على كل شَيْء قدير﴾ يَعْنِي: قَادر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم﴾ الْآيَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: كل مَا ورد فِي الْقُرْآن من قَوْله ﴿يَا أَيهَا النَّاس﴾ فَإِنَّمَا نزل بِمَكَّة، وكل مَا ورد من قَوْله: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ فَإِنَّمَا نزل بِالْمَدِينَةِ.
56
وَقَوله: ﴿يَا أَيهَا النَّاس﴾ يعْنى: يَا هَؤُلَاءِ النَّاس. وَهَذَا وَإِن عَمت صيغته وَلَكِن دخله الْخُصُوص؛ فَإِنَّهُ لَا يتَنَاوَل الصغار والمجانين. ﴿اعبدوا﴾ أَي: وحدوا.
قَالَ ابْن عَبَّاس: كل مَا ورد فِي الْقُرْآن من الْعِبَادَة فَهُوَ بِمَعْنى التَّوْحِيد، وكل مَا ورد فِي الْقُرْآن من التَّسْبِيح والسبحة فَهُوَ بِمَعْنى الصَّلَاة.
وَقَوله: ﴿اعبدوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم﴾ أَي: وحدوا الله الَّذِي خَلقكُم. وَإِنَّمَا خاطبهم بِهِ؛ لِأَن الْكفَّار مقرون أَن الله خالقهم، والخلق: هُوَ اختراع الشَّيْء على غير مِثَال سبق. ﴿وَالَّذين من قبلكُمْ﴾ أَي: وَخلق الَّذين من قبلكُمْ. فَإِن قيل: أَي فَائِدَة فِي قَوْله: ﴿وَالَّذين من قبلكُمْ﴾ فَإِن من عرف أَن الله خالقه فقد عرف أَنه خَالق غَيره من قبله؟ قيل: فَائِدَته الْمُبَالغَة فِي الْبَيَان، أَو يُقَال: فَائِدَته الْمُبَالغَة فِي الدعْوَة، يعْنى: إِذا كَانَ الله خالقكم وخالق من قبلكُمْ فَلَا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه. وَفِيه إِشَارَة لِأَنَّهُ خلق الْأَوَّلين وأماتهم وابتلاهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؛ فَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنى أفعل بكم مَا فعلت بهم.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ قيل مَعْنَاهُ: لكَي تتقوا، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَقيل مَعْنَاهُ: كونُوا
56
﴿الَّذِي جعل لكم الأَرْض فراشا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأنزل من السَّمَاء مَاء فَأخْرج بِهِ من الثمرات رزقا لكم فَلَا تجْعَلُوا لله أندادا وَأَنْتُم تعلمُونَ (٢٢) ﴾ على رَجَاء التَّقْوَى. فَإِن قَالَ قَائِل: التَّقْوَى [هِيَ] (١) الْعِبَادَة، فَأَي شَيْء معنى قَوْله: اعبدوا لكَي تعبدوا؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: اعبدوه وَكُونُوا على حذر مِنْهُ، وَهَذَا دأب العابد أَن يعبد الله وَيكون على حذر مِنْهُ. وَقيل مَعْنَاهُ: اعبدوه وَكُونُوا على رَجَاء التَّقْوَى؛ بِأَن تصيروا فِي ستر ووقاية من عَذَاب الله تَعَالَى، وَحكم الله من وَرَائِكُمْ يفعل بكم مَا يَشَاء؛ وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى﴾ أَي: ادعواه إِلَى الْحق وكونا على رَجَاء التَّذَكُّر والخشية مِنْهُ. وَحكم الله وَرَاءه يفعل بِهِ مَا يَشَاء.
57
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذِي جعل لكم الأَرْض فراشا﴾ الْآيَة. هَذَا رَاجع إِلَى مَا تقدم يَعْنِي: اعبدوا الَّذِي جعل لكم الأَرْض فراشا، والجعل هَاهُنَا بِمَعْنى: الْخلق ﴿فراشا﴾ أَي: بساطا، وَقيل: وطاء. وَقيل: مقَاما. يعْنى لكم الأَرْض قرارا لِتَكُونُوا عَلَيْهَا ﴿وَالسَّمَاء بِنَاء﴾ أَي: سقفا ﴿وَأنزل من السَّمَاء مَاء﴾ إِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى السَّمَاء وَإِن كَانَ ينزل من السَّحَاب؛ لِأَنَّهُ ينزل من جِهَة السَّمَاء.
﴿فَأخْرج بِهِ من الثمرات رزقا لكم﴾ قيل: الرزق هُوَ كل مَا يُؤْكَل. وَقيل: كل مَا ينْتَفع بِهِ. ﴿فَلَا تجْعَلُوا لله أندادا﴾ قَالَ قَتَادَة: الند: هُوَ الْمثل. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الند هُوَ الضِّدّ. وَهَذَا من الأضداد، وَالله تَعَالَى بَرِيء عَن الْمثل والضد. قَالَ حسان بن ثَابت فِي مدح رَسُول الله:
(ومهمة أطرافها فِي مهمة أعمى الْهدى بالجاهلين العمه)
(أتهجوه وَلست لَهُ بند فشركما لخيركما الْفِدَاء)
يعْنى: وَلست لَهُ بِمثل؛ قَالَ لبيد:
57
﴿وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا فَأتوا بِسُورَة من مثله وَادعوا شهداءكم من دون الله إِن كُنْتُم صَادِقين (٢٣) ﴾
أَي: لَا مثل لَهُ. وَمعنى قَوْله ﴿فَلَا تجْعَلُوا لله أندادا﴾ أَي: لَا تَتَّخِذُوا من دونه أَرْبَابًا تعبدونهم كعبادة الله، وتطيعونهم كطاعة الله لَا أَن لَهُ مثلا، أَو لَا مثل لله تَعَالَى.
﴿وَأَنْتُم تعلمُونَ﴾ أَي: فَلَا تعبدوا غَيره وَأَنْتُم تعلمُونَ أَنه خالقكم وخالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.
58
وَقَوله تَعَالَى: (وَإِن كُنْتُم فِي ريب) أَي: شكّ. فَإِن قيل: كَيفَ ذكره على التشكيك وهم فِي ريب على التَّحْقِيق؟ قيل: مثله جَائِز فِي كَلَام الْعَرَب؛ كَمَا يَقُول الرجل لغيره: إِن كنت رجلا فافعل كَذَا؛ وَإِن عرف أَنه رجل على التَّحْقِيق. قيل: أَرَادَ بِهِ " وَإِذ كُنْتُم " فَيكون على التَّحْقِيق، ﴿مِمَّا نزلنَا﴾ من الْقُرْآن ﴿على عَبدنَا﴾ يَعْنِي: على الرَّسُول.
﴿فَأتوا بِسُورَة﴾ السُّورَة: اسْم للمنزلة الرفيعة؛ وَمِنْه سُورَة الْبناء؛ لارتفاعه. قَالَ الشَّاعِر:
(أَحْمد الله فَلَا ند لَهُ بيدَيْهِ الْخَيْر مَا شَاءَ فعل)
(ألم تَرَ أَن الله أَعْطَاك سُورَة ترى كل شَيْء دونهَا يتذبذب)
أَي: أَعْطَاك سُورَة منزلَة، أَي: منزلَة رفيعة. وَسميت سُورَة الْقُرْآن سُورَة؛ لِأَن القارىء ينَال بِقِرَاءَة كل سُورَة منزلَة؛ حَتَّى يستكمل جَمِيع الْمنَازل باستكمال الْقُرْآن، وَقيل: السُّورَة اسْم لقطعة من الْقُرْآن مَعْلُوم الأول وَالْآخر، وَمِنْه سُؤْر الطَّعَام لما بَقِي مِنْهُ. وَفِي الْخَبَر " إِذا أكلْتُم فاسأروا " أَي: أَبقوا بَقِيَّة. وَإِنَّمَا نزل الْقُرْآن سُورَة سُورَة حَتَّى [أَن] القارىء كلما قَرَأَ سُورَة وافتتح أُخْرَى ازْدَادَ نشاطا، فَيكون أنشط فِي الْقِرَاءَة، أَو لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يُمكنهُ حفظ جَمِيع الْقُرْآن فيحفظ بعض السُّور.
﴿فَأتوا بِسُورَة من مثله﴾ وَقَوله: ﴿من مثله﴾ فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا قَالَه ابْن
58
﴿فَإِن لم تَفعلُوا وَلنْ تَفعلُوا فَاتَّقُوا النَّار الَّتِي وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة أعدت للْكَافِرِينَ (٢٤) ﴾ عَبَّاس وَجَمَاعَة: أَرَادَ بِهِ من مثل الْقُرْآن. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: من مثل الْقُرْآن، وَلَا مثل لَهُ؟ قيل: أَرَادَ بِهِ من مثله على زعمهم.
وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بِهِ من مثل مُحَمَّد؛ لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه مفتري فَقَالَ: فَأتوا بِسُورَة من مفترى مثله.
﴿وَادعوا شهداءكم من دون الله﴾ أَي: اسْتَعِينُوا بأعوانكم وأربابكم من دون الله ﴿إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ فِيمَا تَزْعُمُونَ. وَفَائِدَته: أَنهم إِذا اجْتَمعُوا وأحضروا أربابهم فعجزوا كَانَ أبلغ فِي إِلْزَام الْحجَّة.
59
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِن لم تَفعلُوا وَلنْ تَفعلُوا﴾ الْآيَة يعْنى: فَإِن لم تَفعلُوا ذَلِك، وَلنْ تفعلوه أبدا على طَرِيق الْإِخْبَار. " وَتمّ " للماضي، " وَلنْ " للمستقبل. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لبَيَان المعجزة؛ لِأَن الْقُرْآن كَانَ معْجزَة للنَّبِي حَيْثُ عجز الْكل عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ.
﴿فَاتَّقُوا النَّار﴾ أَي: فآمنوا؛ لكَي تتقوا النَّار بِالْإِيمَان ﴿الَّتِي وقودها النَّاس﴾ الْوقُود يَعْنِي: الإيقاد، والوقود بِفَتْح الْوَاو الْحَطب. ﴿وَالنَّاس﴾ أهل جَهَنَّم ﴿وَالْحِجَارَة﴾ قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود: هِيَ حِجَارَة الكبريت؛ لِأَنَّهَا أَكثر توقدا والتهابا، وَقَالَ الْبَاقُونَ: هِيَ جَمِيع الْحِجَارَة. وَهَذَا دَلِيل على عظم تِلْكَ النَّار، و ﴿أعدت للْكَافِرِينَ﴾ أَي: هيئت للْكَافِرِينَ، وَهَذَا دَلِيل على أَن النَّار مخلوقة، لَا كَمَا قَالَ أهل الْبِدْعَة. وَدَلِيل على أَنَّهَا مخلوقة للْكَافِرِينَ، وَإِن دَخلهَا بعض الْمُؤمنِينَ تأديبا وتعريكا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَبشر الَّذين آمنُوا﴾ الْآيَة، الْبشَارَة: اسْم لكل خبر صدق تَتَغَيَّر بِهِ بشرة الْوَجْه وَيظْهر عَلَيْهَا، وَقد تكون فِي الْخَبَر السوء. كَمَا قَالَ: ﴿فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم﴾ إِلَّا أَنه فِي الْخَبَر السار أغلب. ﴿الَّذين آمنُوا عمِلُوا الصَّالِحَات﴾
59
﴿وَبشر الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أَن لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار كلما رزقوا مِنْهَا من ثَمَرَة رزقا قَالُوا هَذَا الَّذِي رزقنا من قبل وَأتوا بِهِ﴾
يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ من أهل الطَّاعَة ﴿أَن لَهُم جنَّات﴾ الجنات: جمع جنَّة وَهُوَ اسْم للبستان الَّذِي فِيهِ أَشجَار مثمرة، فَإِذا لم تكن الْأَشْجَار مثمرة لَا تكون جنَّة وَقيل: الْجنَّة مَا فِيهِ النخيل. والفردوس مَا فِيهِ الْكَرم، وَإِنَّمَا سميت جنَّة من الاجتنان؛ لِأَنَّهَا تستر الأَرْض بالتفافها وأرواقها. وَقيل: الْجنان سبع، وَقيل: ثَمَان، وَالْكل فِي الْقُرْآن.
﴿تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار﴾ أَي: من تَحت أشجارها تجْرِي الْمِيَاه من الْأَنْهَار، وَفِي الحَدِيث: " إِن أَنهَار الْجنَّة تجْرِي فِي غير أخدُود " أَي: فِي غير شقّ.
﴿كلما رزقوا مِنْهَا من ثَمَرَة رزقا﴾ أَي: كلما رزقوا شَيْئا من ثمار الْجنَّة قَالُوا هَذَا الَّذِي رزقنا من قبل. وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: رزقنا من قبل فِي الدُّنْيَا، وَالثَّانِي: أَن الثِّمَار فِي الْجنَّة متشابهة فِي اللَّوْن مُخْتَلفَة فِي الطّعْم، فَإِذا رزقوا مِنْهَا ثَمَرَة ثمَّ رزقوا أُخْرَى ظنُّوا أَنَّهَا الأولى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي اللَّوْن ف ( ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رزقنا من قبل﴾ وَأتوا بِهِ متشابها) قَالَ مُجَاهِد: أَي متشابها فِي اللَّوْن. كَمَا ذكرنَا، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَعْنَاهُ كلهَا خِيَار لَيْسَ فِيهَا رذال. قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا من ثمار الْجنَّة إِلَّا الْأَسَامِي ﴿وَلَهُم فِيهَا أَزوَاج﴾ قيل: من الْحور الْعين، وَيحْتَمل من أَزوَاج الدُّنْيَا: ﴿مطهرة﴾ من الأدناس؛ لَا يتمخطن، وَلَا يتغوطن، وَلَا يحضن. وَقيل: مطهرة الْأَخْلَاق، فيكُن مطهرات خلقا وخلقا. ﴿وهم فِيهَا خَالدُونَ﴾ أَي: مقيمون لَا يظعنون.
60
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله لَا يستحيي أَن يضْرب مثلا مَا بعوضة فَمَا فَوْقهَا﴾ وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الله تَعَالَى لما ضرب الْمثل بالذباب وَالْعَنْكَبُوت، قَالَ الْمُشْركُونَ: إِنَّا
60
﴿متشابها وَلَهُم فِيهَا أَزوَاج مطهرة وهم فِيهَا خَالدُونَ (٢٥) إِن الله لَا يستحيي أَن يضْرب مثلا مَا بعوضة فَمَا فَوْقهَا فَأَما الَّذين آمنُوا فيعلمون أَنه﴾ لَا نعْبد إِلَهًا يذكر الذُّبَاب وَالْعَنْكَبُوت، فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله لَا يستحيي﴾ أَي: لَا يمْتَنع وَلَا يتْرك ﴿أَن يضْرب مثلا﴾ أَي: يذكر مثلا ﴿مَا بعوضة﴾ (مَا) للصلة هَاهُنَا، أَي: مثلا بالبعوضة. قَالَ الشَّاعِر:
(قَالَت أَلا ليتما هَذَا الْحمام لنا إِلَى حمامتنا أَو نصفه فقد)
مَعْنَاهُ أَي: لَيْت هَذَا الْحمام لنا. والبعوض: صغَار البق، سميت بعوضة لِأَنَّهَا بعض البق. ﴿فَمَا فَوْقهَا﴾ مَعْنَاهُ: فَمَا دونهَا؛ كَمَا يُقَال: فلَان جَاهِل، فَيُقَال: وَفَوق ذَلِك. يَعْنِي: أَجْهَل من ذَلِك، فَكَذَلِك قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَا فَوْقهَا﴾ يَعْنِي: فِي الصغر، وأصغر من ذَلِك، وَقيل: فَمَا فَوْقهَا على الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ ضرب الْمثل بالذباب، وَالْعَنْكَبُوت. قَالَ الرّبيع بن أنس: مثل الْبَعُوضَة مثل صَاحب الدُّنْيَا؛ لِأَن دأب الْبَعُوضَة أَنَّهَا إِذا شبعت هَلَكت، وَإِذا جاعت عاشت؛ كَذَلِك صَاحب الدُّنْيَا إِذا استكثر من الدُّنْيَا هلك، وَإِذا اسْتَقل مِنْهَا فَازَ وَنَجَا. وَقيل: إِن حكم الله تَعَالَى فِي صغَار خلقه أَكثر من حكمه فِي كبار خلقه. قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَما الَّذين آمنُوا فيعلمون أَنه الْحق من رَبهم﴾ يَعْنِي: أَنه الصدْق من رَبهم.
﴿وَأما الَّذين كفرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا﴾ أَي شَيْء أَرَادَ الله بِهَذَا الْمثل؟ يَقُول الله تَعَالَى: ﴿يضل بِهِ كثيرا وَيهْدِي بِهِ كثيرا﴾ أَي: أَرَادَ هَذَا، والإضلال: هُوَ الصّرْف عَن الْحق إِلَى الْبَاطِل. وَقيل: الإضلال هُوَ الإهلاك؛ يُقَال: ضل اللَّبن فِي المَاء أَي: هلك.
﴿وَيهْدِي بِهِ كثيرا﴾ أَي: ويرشد بِهِ كثيرا. ﴿وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين﴾ يَعْنِي: الْكَافرين. وَالْفِسْق: هُوَ الْخُرُوج عَن طَاعَة الرب؛ يُقَال: فسقت (الرّطبَة) إِذا خرجت
61
﴿الْحق من رَبهم وَأما الَّذين كفرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا يضل بِهِ كثيرا وَيهْدِي بِهِ كثيرا وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين (٢٦) الَّذين ينقضون﴾ عَن قشرها، وَمعنى إضلالهم بِالْمثلِ أَنه لما ضرب الْمثل فَكَفرُوا بِهِ ازدادوا ضلالا.
62
وَقَوله تَعَالَى: ﴿الَّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه﴾ أَي: يخالفون أَمر الله. والميثاق: مفعال من التوثقة وَهُوَ الْعَهْد الْمُؤَكّد. وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ نقض الْمِيثَاق الأول الَّذِي أَخذه على آدم وَذريته بقوله ﴿أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى﴾.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ نقض الْمِيثَاق الَّذِي أَخذه على النَّبِيين وَسَائِر الْأُمَم أَن [يُؤمنُوا] بِمُحَمد بقوله: ﴿وَإِذا أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين﴾ الْآيَة.
﴿ويقطعون مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال؛ أَحدهَا: أَنهم يقطعون مَا أمروا بوصله من الْإِيمَان بِمُحَمد وبسائر الرُّسُل. وَقيل: أَرَادَ بِهِ قطع الرَّحِم. وَالْأول أولى؛ لِأَنَّهُ أَعم، وَقيل: أَرَادَ بِهِ قطع الْعَمَل عَن الْقبُول؛ فَإِنَّهُم لم يعملوا بِمَا قبلوا.
﴿ويفسدون فِي الأَرْض﴾ بِالْمَعَاصِي ﴿أُولَئِكَ هم الخاسرون﴾ المغبونون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كَيفَ تكفرون بِاللَّه﴾ قَالَه تَعَجبا، تكفرون بِاللَّه بعد نصب الدَّلَائِل ووضوح الْبَرَاهِين؟ ! ثمَّ ذكر الدَّلِيل فَقَالَ: ﴿وكنتم أَمْوَاتًا﴾ هَذَا دَلِيل، أَي: كُنْتُم نطفا فِي أصلاب الْآبَاء.
(فأحياكم) أَي: خَلقكُم ﴿ثمَّ يميتكم﴾ عِنْد انْتِهَاء الْأَجَل. ﴿ثمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ للبعث ﴿ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون﴾ إِلَى الله مصيركم. وَقيل: أَرَادَ بِالْمَوْتِ الأول: الْمَوْت الْمَعْهُود ﴿وكنتم أَمْوَاتًا﴾ أَي: تصيرون أَمْوَاتًا. فأحياكم أَي: يُحْيِيكُمْ فِي الْقَبْر للسؤال، ثمَّ يميتكم بعده فِي الْقَبْر ثمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث. ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا﴾ لكَي تعتبروا
62
(عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل ويفسدون فِي الأَرْض أُولَئِكَ هم الخاسرون (٢٧) كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون (٢٨) هُوَ الَّذِي خلق) وتستدلوا، وَقيل: لكَي تنتفعوا.
﴿ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس وَأكْثر الْمُفَسّرين من السّلف: أَي ارْتَفع وَعلا إِلَى السَّمَاء.
وَقَالَ الْفراء وَابْن كيسَان وَجَمَاعَة من النَّحْوِيين مَعْنَاهُ: أقبل على خلق السَّمَاء؛ لِأَنَّهُ خلق الأَرْض أَولا، ثمَّ أقبل على خلق السَّمَاء، كَمَا ذكر فِي " حم السَّجْدَة ". ﴿فسواهن سبع سموات﴾ أَي: خَلقهنَّ مستويات؛ لَا فطر فِيهَا، وَلَا صدع، وَلَا شقّ.
﴿وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم﴾ أَي: عَالم بصغار خلقه وكبارهم.
63
قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة﴾ مَعْنَاهُ: وَقَالَ رَبك. " إِذْ " زَائِدَة فِيهِ.
وَقيل، مَعْنَاهُ: وَاذْكُر إِذْ قَالَ رَبك. وَالْمَلَائِكَة: جمع الْملك، وأصل الْملك مَالك، فَقبلت الْهمزَة فَصَارَ مَالك ثمَّ اسقط الْهمزَة فَصَارَ ملك، واشتقاقه من الألوكة، وَهِي: الرسَالَة، وَمثلهَا المالكة، والمالكة؛ قَالَ الشَّاعِر:
(ألكنى إِلَيْهَا (وَخير) الرَّسُول أعلمهم بنواحي الْخَبَر)
يعْنى: أَرْسلنِي إِلَيْهَا.
﴿إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة﴾ اتَّفقُوا على أَن المُرَاد بِهَذَا الْخَلِيفَة آدم صلوَات الله عَلَيْهِ والخليفة، والخليف بِمَعْنى وَاحِد، وَجمع الخليف خلفاء. وَجمع الْخَلِيفَة خلائف.
وَاخْتلفُوا فِي أَنه لما سمى خَليفَة؟ مِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ خَليفَة الْجِنّ؛ فَإِن الله تَعَالَى لما خلق الأَرْض أسكنها الْجِنّ، وَلما خلق السَّمَاء أسكنها الْمَلَائِكَة، ثمَّ لما خلق
63
﴿لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فسواهن سبع سموات وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم (٢٩) وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض﴾ آدم أزعج الْجِنّ إِلَى أَطْرَاف الأَرْض؛ فَهُوَ الْخَلِيفَة الْجِنّ فِي الأَرْض.
وَقيل: إِنَّمَا سَمَّاهُ خَليفَة؛ لِأَنَّهُ يخلفه غَيره. فَيكون الْخَلِيفَة بِمَعْنى أَنه يخلف غَيره. وَيكون الْخَلِيفَة أَنه يخلفه غَيره.
وَقيل: إِنَّمَا سمى خَليفَة لِأَنَّهُ خَليفَة الله فِي الأَرْض؛ لإِقَامَة أَحْكَامه، وتنفيذ قضاياه، وَهَذَا هُوَ الْأَصَح.
قَوْله تَعَالَى: (قَالُوا أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا) الْآيَة قَالَت الْمَلَائِكَة: أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء؟ ! فَإِن قيل: من أَيْن عمِلُوا ذَلِك؟ قيل: إِن الله تَعَالَى أعلمهم بذلك. وَقيل: اطلعوا عَلَيْهِ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
﴿وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك﴾ هُوَ التَّنْزِيه عَن السوء. وَمَعْنَاهُ: وَنحن ننزهك عَن الأنداد والشركاء.
وَقَالَ الْحسن: معنى قَوْله: ﴿وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك﴾ هُوَ قَوْلهم: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ. ﴿ونقدس لَك﴾ يَعْنِي: نثنى عَلَيْك بالقدس وَالطَّهَارَة.
وَقيل: مَعْنَاهُ نطهر أَنْفُسنَا بطاعتك وَالثنَاء عَلَيْك.
فَإِن قيل: قَوْلهم ﴿أَتجْعَلُ فِيهَا﴾. يشبه الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ. وَقَوْلهمْ نَحن ﴿نُسَبِّح بحَمْدك﴾ يشبه التفاخر بِالْعَمَلِ؛ وَكِلَاهُمَا لَا يجوز على الْمَلَائِكَة. فَمَا معنى هَذَا الْكَلَام؟
قُلْنَا: أما قَوْلهم: ﴿أَتجْعَلُ فِيهَا﴾ مَعْنَاهُ: أَنْت جَاعل فِيهَا على سَبِيل التَّقْدِير، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(ألستم خير من ركب المطايا وأندى الْعَالمين بطُون رَاح)
يَعْنِي أَنهم بِهَذِهِ الصّفة.
وَقَالُوا: إِنَّمَا قَالُوهُ على سَبِيل التَّعَجُّب طلبا لوجه الْحِكْمَة فِيهِ.
64
﴿خَليفَة قَالُوا أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس﴾
وَأما قَوْله: ﴿وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك﴾ لَيْسَ على سَبِيل التفاخر بل مَعْنَاهُ: أَنه إِذا أفسدوا وسفكوا الدِّمَاء فَنحْن نبقى على هَيْئَة التَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس أم لَا؟ قَالَ: ﴿إِنِّي أعلم مَالا تعلمُونَ﴾ لَهُ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: إِنِّي أعلم فيهم من يعبدني ويطيعني من الْأَنْبِيَاء والأولياء والصلحاء.
وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: إِنِّي أعلم فِيكُم أَيهَا الْمَلَائِكَة من يعصيني يَعْنِي إِبْلِيس.
65
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا﴾ أما آدم إِنَّمَا سمى آدم؛ لِأَنَّهُ خلق من أَدِيم الأَرْض، وَلما خلقه الله تَعَالَى علمه أَسمَاء الْأَشْيَاء بأجمعها.
قَالَ ابْن عَبَّاس: علمه أَسمَاء الْأَشْيَاء حَتَّى الْقَصعَة والقصيعة، والفسوة والفسية.
وَإِنَّمَا علمه ذَلِك تكريما وتشريفا لَهُ. وَذَلِكَ دَلِيل على أَن الْأَنْبِيَاء أفضل من الْمَلَائِكَة وَإِن كَانُوا رسلًا كَمَا ذهب إِلَيْهِ أهل السّنة.
﴿ثمَّ عرضهمْ﴾ قَرَأَ أبي بن كَعْب: " ثمَّ عرضهَا " [وَهِي] فِي الشواذ. وَرجع [الْكِنَايَة] إِلَى المسميات الَّتِي لَا تعقل. وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: " ثمَّ عرضهمْ " فَإِن المسميات لما جمعت من يعقل وَمن لَا يعقل؛ كنى بِلَفْظ من يعقل تَغْلِيبًا لَهُ.
وَإِنَّمَا عرضهمْ على الْمَلَائِكَة لإِظْهَار فضيلته عَلَيْهِم، فَإِنَّهُم كَانُوا قد قَالُوا: لن يخلق الله خلقا أكْرم عَلَيْهِ منا، فَقَالَ: ﴿أنبئوني﴾ أخبروني ﴿بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ فِيمَا زعمتم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا﴾ قد ذكرنَا معنى التَّسْبِيح. وَمعنى الْآيَة: أَنَّك أجل من أَن نحيط بِشَيْء من علمك؛ إِلَّا الَّذِي علمتنا مِنْهُ.
﴿إِنَّك أَنْت الْعَلِيم﴾ أَي: الْعَالم ﴿الْحَكِيم﴾ لَهُ مَعْنيانِ أَحدهَا: الْحَاكِم، وَهُوَ
65
﴿لَك قَالَ إِنِّي أعلم مَا لَا تَعْمَلُونَ (٣٠) وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين (٣١) قَالُوا﴾ القَاضِي بِالْعَدْلِ.
وَالثَّانِي: معنى الْحَكِيم: الْمُحكم لِلْأَمْرِ كَيْلا يتَطَرَّق إِلَيْهِ الْفساد، وَمِنْه: أحكمت الدَّابَّة لِأَنَّهَا (تمنعها) من الْفساد.
66
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ﴾ لما عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فعجزوا؛ يَقُول الله تَعَالَى لآدَم: أخْبرهُم بِأَسْمَائِهِمْ ﴿فَلَمَّا أنباهم بِأَسْمَائِهِمْ﴾ فَأخْبرهُم آدم بأسماء تِلْكَ المسميات، وَالْحكمَة الَّتِي لأَجلهَا خلقُوا، فَلَمَّا أخْبرهُم بهَا ﴿قَالَ الله﴾ تَعَالَى للْمَلَائكَة: ﴿ألم أقل لكم إِنِّي أعلم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ فَإِنَّهُ قد قَالَ لَهُم: ﴿إِنِّي أعلم مَالا تَعْمَلُونَ﴾ وغيب السَّمَوَات وَالْأَرْض كل مَا غَابَ وخفي عَن الْأَبْصَار.
(وَأعلم مَا تبدون) أَي قَوْلكُم: أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا.
﴿وَمَا كُنْتُم تكتمون﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا كتموا من قَوْلهم: لن يخلق الله خلقا أكْرم عَلَيْهِ منا.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ مَا كتمه إِبْلِيس فيهم حِين خلق آدم؛ فَإِنَّهُ قد قَالَ: إِن سلطت عَلَيْهِ لأهلكنه وَإِن سلط عَليّ لَا أطيعه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم﴾ اخْتلفُوا فِي أَن هَذَا الْخطاب مَعَ أَي الْمَلَائِكَة؟ فَقَالَ بَعضهم: هُوَ خطاب مَعَ مَلَائِكَة الأَرْض خَاصَّة.
وَقيل: هُوَ خطاب لجَمِيع الْمَلَائِكَة. هُوَ الْأَصَح لقَوْله تَعَالَى ﴿فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ﴾.
وَالسُّجُود عبَادَة مَعَ التَّوَاضُع والخشوع والخضوع، وَمِنْه شَجَرَة سَاجِدَة إِذا مَاتَت من
66
﴿سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا إِنَّك أَنْت الْعَلِيم الْحَكِيم (٣٢) قَالَ يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أنبأهم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ ألم أقل لكم إِنِّي أعلم غيب﴾ كَثْرَة حملهَا.
وَفِي قَوْله: ﴿اسجدوا لآدَم﴾ قَولَانِ أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ اسجدوا إِلَى آدم، فَيكون آدم كالقبلة. وَالسُّجُود لله تَعَالَى.
وَالأَصَح: أَن السُّجُود كَانَ لآدَم على الْحَقِيقَة. وتضمن معنى الطَّاعَة لله تَعَالَى بامتثال أمره فِيهِ. فعلى هَذَا يكون السُّجُود لآدَم على سَبِيل التَّحِيَّة لَهُ. وَهُوَ كسجود إخْوَة يُوسُف ليوسف بِمَعْنى التَّحِيَّة لَهُ. ثمَّ نقل ذَلِك إِلَى السَّلَام بَين الْمُسلمين.
﴿فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس﴾ قَالَ بَعضهم: إِبْلِيس مُشْتَقّ من الإبلاس. وَهُوَ الْيَأْس من الْخَيْر، قَالَ الشَّاعِر:
(يَا صَاح هَل تعرف (رسما) مكرسا... قَالَ: نعم أعرفهُ وأبلسا)
وَقيل: هُوَ اسْم أعجمي مُعرب لَا اشتقاق لَهُ وَلذَلِك لَا ينْصَرف.
وَاخْتلفُوا فِي إِبْلِيس، وَالَّذِي قَالَه ابْن عَبَّاس وَأكْثر الْمُفَسّرين: أَنه كَانَ من الْمَلَائِكَة.
وَقَالَ الْحس: كَانَ من الْجِنّ لقَوْله تَعَالَى ﴿كَانَ من الْجِنّ ففسق عَن أَمر ربه﴾ وَلِأَنَّهُ خلق من النَّار، وَالْمَلَائِكَة خلقُوا من النُّور، وَلِأَن لَهُ ذُرِّيَّة وَلَا ذُرِّيَّة للْمَلَائكَة.
وَالأَصَح أَنه كَانَ من الْمَلَائِكَة لِأَن خطاب السُّجُود كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَة.
وَأما قَوْله: ﴿كَانَ من الْجِنّ﴾ قيل: إِن فرقة من الْمَلَائِكَة سموا جنا خلقهمْ الله تَعَالَى من النَّار. وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا﴾.
حَيْثُ قَالُوا الْمَلَائِكَة بَنَات الله. فسماهم جنَّة. وَإِنَّمَا سموا جنا لاستتارهم عَن الْأَعْين.
وإبليس كَانَ من ذَلِك الْقَبِيل. وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذُرِّيَّة؛ لِأَنَّهُ أخرجه من الْمَلَائِكَة ثمَّ جعل
67
﴿السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأعلم مَا تبدون وَمَا كُنْتُم تكتمون (٣٣) وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس أَبى واستكبر وَكَانَ من﴾ لَهُ ذُرِّيَّة.
وَقيل: إِن الله تَعَالَى لما خلق إِبْلِيس أعطَاهُ ملك الأَرْض، وَملك السَّمَاء الدُّنْيَا، وَجعله خَازِن الْجنَّة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَبى﴾ امْتنع ﴿واستكبر﴾ أَي: أنف؛ حَيْثُ ظن أَنه خير من آدم ﴿وَكَانَ من الْكَافرين﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَعْنَاهُ وَصَارَ من الْكَافرين فِي علم الله تَعَالَى.
قَالَ مُجَاهِد: علم الله فِي أزله أَنه تكون مِنْهُ الْمعْصِيَة فخلقه للمعصية.
68
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة﴾ أَرَادَ بزوجه حَوَّاء، فَإِن قيل: [لم] أَمرهمَا بِدُخُول الْجنَّة، وَقد وعد أَن من دَخلهَا يكون خَالِدا فِيهَا فَكيف أخرجهُمَا من الْجنَّة؟
قُلْنَا: إِنَّمَا ذَلِك الْوَعْد فِي حق من يدخلهَا للثَّواب وَالْجَزَاء، وآدَم إِنَّمَا دخل الْجنَّة بالكرامة دون الثَّوَاب.
﴿وكلا مِنْهَا رغدا حَيْثُ شئتما﴾ الرغد: الْوَاسِع من الْعَيْش. وَهُوَ أَن يَأْكُل مَا شَاءَ إِذا شَاءَ كَيفَ شَاءَ. ﴿وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة﴾ يَعْنِي: للْأَكْل.
والشجرة: اسْم لما يقوم على السَّاق، والنجم اسْم لما (لَا) يقوم على سَاق.
قَالَ الله تَعَالَى: ﴿والنجم وَالشَّجر يسجدان﴾ وَفِي تِلْكَ الشَّجَرَة ثَلَاثَة أَقْوَال: قَالَ ابْن مَسْعُود: كَانَت شَجَرَة الْعِنَب. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَت شَجَرَة السنبلة. وَقَالَ ابْن جريج: كَانَت شَجَرَة التِّين. وَقيل: إِنَّهَا شَجَرَة الْعَلِيم.
﴿فتكونا من الظَّالِمين﴾ الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه وَفِيه يُقَال: " من أشبه
68
﴿الْكَافرين (٣٤) وَقُلْنَا يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة وكلا مِنْهَا رغدا حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين (٣٥) فأزلهما﴾
باه فَمَا ظلم " أَي: فَمَا وضع الشّبَه فِي غير مَوْضِعه.
69
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا﴾ قَرَأَ حَمْزَة: " فأزالهما " وَمَعْنَاهُ: نحاهما وبعدهما عَن الْجنَّة.
وَقَوله: (فأزلهما) إِلَى الزلة ﴿فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ يَعْنِي من نعيم الْجنَّة. وَإِنَّمَا نسب الْإِخْرَاج إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَب فِيهِ.
(وَقُلْنَا اهبطوا) الهبوط هُوَ النُّزُول من الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل، وَالْخطاب مَعَ آدم، وإبليس، وحواء، والحية، وَهِي الْحَيَّة [الَّتِي] كَانَت من خزان الْجنَّة فخدعها إِبْلِيس حَتَّى أدخلته (الْجنَّة).
﴿بَعْضكُم لبَعض عَدو﴾ الْعَدو: اسْم للْوَاحِد وَالْجمع، مَعْنَاهُ أَعدَاء.
﴿وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر﴾ أَي: قَرَار ﴿ومتاع﴾ مُتْعَة تتغذون بهَا ﴿إِلَى حِين﴾ إِلَى مُنْتَهى الْآجَال.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات﴾ التلقي: هُوَ قبُول عَن فطنة وَفهم دَلِيل: فَتلقى هُوَ [أَي: تعلم] :﴿ظلمنَا أَنْفُسنَا﴾ إِلَى آخِره.
وَقَالَ عبيد بن عُمَيْر: هِيَ كَلِمَات قَالَهَا آدم حِين ابتلاه الله بالمعصية.
﴿من ربه كَلِمَات﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس وَالْأَكْثَرُونَ: الْكَلِمَات هِيَ قَوْله: رَبنَا أَي: تعلم بالمعصية يارب هَذَا شَيْء كتبته عَليّ [أم] ابتدعته من تِلْقَاء نَفسِي؟ فَقَالَ: بل شَيْء كتبته عَلَيْك. فَقَالَ آدم: (فَكَمَا) كتبته عَليّ فاغفره.
69
﴿الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين (٣٦) فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّه هُوَ التواب الرَّحِيم (٣٧) قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا فإمَّا﴾
﴿فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ فَقبل تَوْبَته ﴿إِنَّه هُوَ التواب الرَّحِيم﴾ هُوَ الْقَابِل للتَّوْبَة من الْعباد؛ الرَّحِيم بهم.
70
قَوْله تَعَالَى: ﴿قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا﴾ الهبوط الأول كَانَ من الْجنَّة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، والهبوط الثَّانِي كَانَ من السَّمَاء الدُّنْيَا إِلَى الأَرْض.
(فإمَّا يَأْتينكُمْ مني هدى) أَي: رشد [و] بَيَان شَرِيعَة.
﴿فَمن تبع هُدَايَ﴾ أَي: ذَلِك الرشد والشريعة.
﴿فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾ فِي الْآخِرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا﴾ أَي: كفرُوا بِاللَّه وبالرسل وكذبوا بآياته ﴿أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار﴾ يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة ﴿هم فِيهَا خَالدُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا بني إِسْرَائِيل﴾ إِسْرَائِيل اسْم يَعْقُوب. وَله فِي الْقُرْآن اسمان: يَعْقُوب وَإِسْرَائِيل. وَمعنى إِسْرَائِيل عبد الله، " إسر " مثل قَوْلنَا " عبد "، و " إيل " مثل قَوْلنَا " الله " ﴿اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم﴾ الذّكر يكون بِالْقَلْبِ، وَيكون بِاللِّسَانِ، وَهُوَ ضد النسْيَان. وَقَوله: ﴿نعمتي﴾ أَي: نعمي، ذكر الْجمع بِلَفْظ الوحدان، وَمثله كثير فِي الْقُرْآن.
وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ النعم. قَالَ قَتَادَة: هِيَ النعم الَّتِي خصت بهَا بَنو إِسْرَائِيل من
70
﴿يَأْتينكُمْ مني هدى فَمن تبع هُدَايَ فَلَا خوف عَلَيْهِم ولاهم يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (٣٩) يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وأوفوا بعهدي﴾
إنجائهم من فِرْعَوْن بتغريقه، وإرسال مُوسَى إِلَيْهِم، وإنزال التَّوْرَاة عَلَيْهِم، وَنَحْو ذَلِك.
وَقَالَ غَيره: هِيَ جَمِيع النعم الَّتِي لله على عباده.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم أَمرهم بِالذكر وهم كَانُوا ذاكرين لتِلْك النعم؟
قُلْنَا: الذّكر بِمَعْنى الشُّكْر، وَمَعْنَاهُ: اشكروا نعمتي. وَإِنَّمَا ذكر بِلَفْظ الذّكر؛ لِأَن فِي الشُّكْر ذكرا، وَفِي الْكفْر نِسْيَانا. ﴿وأوفوا بعهدي﴾ أوفي يُوفى، ووفى يَفِي، بِمَعْنى وَاحِد. وَقد جمعهَا الشَّاعِر فِي بَيت وَاحِد فَقَالَ:
(أما ابْن عَوْف فقد أوفى بِذِمَّتِهِ كَمَا وفى بقلاص النَّجْم حاويها)
والعهد: هُوَ الْأَمر الْمُؤَكّد. وَمَعْنَاهُ: " أَوْفوا بعهدي " بامتثال أَمْرِي. ﴿أوف بعهدكم﴾ بِالْقبُولِ وَالثَّوَاب. وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهَذَا الْعَهْد مَا ذكر فِي سُورَة الْمَائِدَة ﴿وَلَقَد أَخذ الله مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وبعثنا مِنْهُم اثْنَي عشر نَقِيبًا﴾ إِلَى آخر الْآيَة. ﴿وإياي فارهبون﴾ فخافوني.
71
قَوْله تَعَالَى ﴿وآمنوا بِمَا أنزلت مُصدقا لما مَعكُمْ﴾ بِمَا أنزلت فِي الْقُرْآن مُصدقا لما مَعكُمْ من التَّوْرَاة. يَعْنِي أَن الْقُرْآن مُصدق لما فِي التَّوْرَاة من التَّوْحِيد ونعت مُحَمَّد
71
﴿أوف بعهدكم وإياي فارهبون (٤٠) وآمنوا بِمَا أنزلت مُصدقا لما مَعكُمْ وَلَا تَكُونُوا أول كَافِر بِهِ وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا وإياي فاتقون (٤١) وَلَا﴾
﴿وَلَا تَكُونُوا أول كَافِر بِهِ﴾ يَعْنِي أول من كفر بِهِ. وَقيل: أول فريق كَافِر بِهِ. وهما فِي الْمَعْنى سَوَاء. فَإِن قيل: قد كفر بِهِ مشركو الْعَرَب قبلهم، فَكيف قَالَ: وَلَا تَكُونُوا أول كَافِر بِهِ؟ قُلْنَا: أَرَادَ بِهِ من أهل الْكتاب؛ لِأَن الْخطاب مَعَ أهل الْكتاب.
﴿وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا﴾ وَلَا تستبدلوا؛ ذَلِك أَن علماءهم وَأَحْبَارهمْ كَانَت لَهُم مأكلة على أغنيائهم وجهالهم؛ فخافوا أَن تذْهب مأكلتهم إِن آمنُوا بِمُحَمد فغيروا نَعته، وكتموا اسْمه، فَهَذَا معنى بيع الْآيَات بِالثّمن الْقَلِيل.
﴿وإياي فاتقون﴾ فاحذرون.
72
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ﴾ اللّبْس: هُوَ الْخَلْط والتعمية.
يُقَال: لبس يلبس لبسا، من اللبَاس. وَلبس يلبس لبسا، من التلبيس. قَالَ الله تَعَالَى ﴿وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ﴾ أَي: خلطنا عَلَيْهِم كَمَا خلطوا. وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لِلْحَارِثِ: لَا يكن ملبوسا عَلَيْك، الْحق لَا يعرف بِالرِّجَالِ، أعرف الْحق تعرف أَهله.
فَمَعْنَى قَوْله: ﴿وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ﴾ أَي: الْإِسْلَام باليهودية والنصرانية، كَذَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ. وَقيل: هُوَ لبس التَّوْرَاة بِمَا غيروا من نعت مُحَمَّد.
﴿وتكتموا الْحق﴾ يَعْنِي نعت مُحَمَّد. ﴿وَأَنْتُم تعلمُونَ﴾ أَنه حق. قَالَ مُحَمَّد ابْن سِيرِين: هَذَا الْخطاب مَعَ قوم من الْيَهُود كَانُوا بِالشَّام رَأَوْا فِي كتبهمْ اسْم مُحَمَّد ونعته، وَأَنه يبْعَث من الْقرى الْعَرَبيَّة، فَخَرجُوا فِي طلبه ونزلوا بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا بعث مُحَمَّد حسدوه، وغيروا اسْمه ونعته؛ خوفًا من ذهَاب مأكلتهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة﴾ أما الصَّلَاة فقد ذكرنَا. وَأما
72
﴿تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتموا الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ (٤٢) وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة واركعوا مَعَ الراكعين (٤٣) أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ وتنسون﴾ الزَّكَاة: فمأخوذ من زكا الزَّرْع، إِذا كثر ونما.
وَقيل: هِيَ من تزكّى. أَي: تطهر، وكلا الْمَعْنيين مَوْجُود فِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة؛ لِأَن فِيهَا تنمية المَال وتطهيره.
(واركعوا مَعَ الراكعين) أَي: صلوا مَعَ الْمُصَلِّين. وأصل الرُّكُوع: عبَادَة مَعَ انحناء. يُقَال: ركعت النَّخْلَة إِذا انحنت، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(أخبر أَخْبَار الْقُرُون الَّتِي مَضَت أدب كَأَنِّي كلما قُمْت رَاكِع)
وَإِنَّمَا ذكره بِلَفْظ الرُّكُوع؛ لِأَن صَلَاة الْيَهُود مَا كَانَ فِيهَا رُكُوع؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وصلوا صَلَاة ذَات رُكُوع.
فَإِن قيل: قد أَمرهم فِي أول الْآيَة بِإِقَامَة الصَّلَاة، فَأَي شَيْء معنى هَذَا الْأَمر الثَّانِي: قُلْنَا: الأول مُطلق فِي حق الْكل، وَهَذَا الثَّانِي خطاب لقوم مخصوصين، قَالَ لَهُم: صلوا مَعَ الَّذين [سبقوكم] بِالْإِيمَان وَالصَّلَاة.
73
قَوْله تَعَالَى: ﴿أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ﴾ أَي: بِالطَّاعَةِ ﴿وتنسون أَنفسكُم﴾ أَي: تتركون أَنفسكُم ﴿وَأَنْتُم تتلون الْكتاب﴾ التَّوْرَاة.
﴿أَفلا تعقلون﴾ الْعقل: مَأْخُوذ من عقال الْبَعِير، وَهُوَ مَا يشد بِهِ ركبة الْبَعِير، سمى بِهِ لِأَن يمنعهُ من الشرود، كَذَلِك الْعقل يمْنَع صَاحبه من التمرد وَالْخُرُوج عَن طَاعَته. وَفِي معنى الْآيَة قَولَانِ، أَحدهمَا: أَنه خطاب لأحبارهم، حَيْثُ أمروا أتباعهم بالتمسك بِالتَّوْرَاةِ، ثمَّ خالفوا وغيروا نعت مُحَمَّد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن أهل الْمَدِينَة كَانُوا يشاورون علماءهم فِي اتِّبَاع مُحَمَّد فأشاروا عَلَيْهِم باتباعه ثمَّ خالفوه وَكَفرُوا بِهِ.
فِي الحَدِيث: (روى أنس) عَن النَّبِي أَنه قَالَ " رَأَيْت لَيْلَة أسرى بِي فِي السَّمَاء أَقْوَامًا تقْرض شفاهم بمقاريض من نَار، فَسَأَلت من هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ
73
﴿أَنفسكُم وَأَنْتُم تتلون الْكتاب أَفلا تعقلون (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة وَإِنَّهَا لكبيرة إِلَّا على الخاشعين (٤٥) الَّذين يظنون أَنهم﴾ الخطباء من أمتك كَانُوا يأمرون النَّاس بِالْبرِّ وينسون أنفسهم ".
74
قَوْله تَعَالَى ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة﴾ الِاسْتِعَانَة طلب المعونة. وَأما الصَّبْر فالأكثرون على أَنه حبس النَّفس عَن الْمعاصِي.
وَمِنْه الدَّابَّة المصبورة وَهِي أَن تمسك لترمي كالهدف.
وَفِي الحَدِيث: " أنة نهى عَن الدَّابَّة المصبورة ". وَقَالَ فِي الَّذِي يمسك غَيره حَتَّى يقتل: " اصْبِرُوا الصابر واقتلوا الْقَاتِل " أَي: احْبِسُوا الممسك واقتلوا الْمُبَاشر.
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الصَّوْم. وَمِنْه سمى شهر رَمَضَان شهر الصَّبْر. فَإِن قيل: مَا معنى الِاسْتِعَانَة بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة؟ قيل: لِأَن الصَّوْم يزهده فِي الدُّنْيَا. (وَكَذَلِكَ) فِي الصَّلَاة يقْرَأ مَا يحثه على الزّهْد فِي الدُّنْيَا. فَكَأَنَّهُ قَالَ: اسْتَعِينُوا بِهَذَيْنِ على الدّين؛ لتقووا على الإقبال على الْآخِرَة والإعراض عَن الدُّنْيَا.
﴿وَإِنَّهَا لكبيرة﴾ لثقيلة. وَفِي قَوْله: ﴿وَإِنَّهَا﴾ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن (لكناية)
74
﴿ملاقو رَبهم وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون (٤٦) يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين (٤٧) وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزي نفس﴾ رَاجِعَة إِلَى الصَّوْم وَالصَّلَاة جَمِيعًا. إِلَّا أَنه اكْتفى بِأحد الْمَذْكُورين وَالْكِنَايَة عَنهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَائِل:
(وَمن يَك أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْله فَإِنِّي وقيار بهَا لغريب)
أَي: لغريبان إِلَّا أَنه اكْتفى بِأَحَدِهِمَا. وَأورد الْأَزْهَرِي فِي كتاب التَّقْرِيب قولا حسنا، فَقَالَ: تَقْدِيره: وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَإنَّهُ لكبير، وبالصلاة وَإِنَّهَا لكبيرة، إِلَّا أَنه حذف أَحدهمَا وَاخْتصرَ الْمَعْنى اختصارا.
(إِلَّا على الخاشعين) الخاشع: هُوَ الْمُطِيع المتواضع.
75
﴿الَّذين يظنون﴾ يستيقنون. وَالظَّن يكون بِمَعْنى الشَّك، وَيكون بِمَعْنى الْيَقِين، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه﴾ أَي: استيقنت، وَقَالَ الشَّاعِر:
(فَقلت لَهُم ظنُّوا بألفي مقنع سراتهم فِي الْفَارِسِي المسرد)
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أَنهم ملاقوا رَبهم﴾ أَي صائرون إِلَى رَبهم. وكل مَا ورد فِي الْقُرْآن من اللِّقَاء فَهُوَ بِمَعْنى الصيرورة إِلَيْهِ، كَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ.
وَقيل: هُوَ اللِّقَاء الْمَوْعُود، وَهُوَ رُؤْيَة الله تَعَالَى.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون﴾ أَي: صائرون.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم﴾ مَعْنَاهُ مَا سبق. ﴿وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين﴾ التَّفْضِيل نقيض التَّسْوِيَة. وَأَرَادَ بِهِ التَّفْضِيل بِتِلْكَ النعم الَّتِي سبق ذكرهَا. وَذَلِكَ التَّفْضِيل وَإِن كَانَ فِي حق الْآبَاء وَلَكِن يحصل بِهِ الشّرف للأبناء، فصح الْخطاب مَعَهم.
﴿على الْعَالمين﴾ على عالمي زمانهم.
قَوْله تَعَالَى ﴿وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا﴾ مَعْنَاهُ: واحذروا
75
﴿عَن نفس شَيْئا وَلَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة وَلَا يُؤْخَذ مِنْهَا عدل ولاهم ينْصرُونَ (٤٨) وَإِذ نجيناكم من آل فِرْعَوْن﴾ عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة. ﴿لَا تجزى نفس عَن نفس شَيْئا﴾ قَالَ الْأَخْفَش: مَعْنَاهُ لَا تقوم نفس مقَام نفس. وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ لَا تقضى نفس عَن نفس حَقًا لَزِمَهَا.
﴿وَلَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة﴾ يقْرَأ بقراءتين بِالتَّاءِ وَالْيَاء وَالْكل جَائِز لِأَن الشفع والشفاعة بِمَعْنى وَاحِد كالوعظ وَالْمَوْعِظَة وَالصَّوْت والصيحة بِمَعْنى وَاحِد. ثمَّ يذكر تَارَة بالتذكير على الْمَعْنى. وَتارَة بالتأنيث على اللَّفْظ. قَالَ الله تَعَالَى: ﴿قد جاءتكم موعظة من ربكُم﴾ وَقَالَ فِي مَوضِع آخر ﴿فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه﴾ قَالَ ﴿وَأخذت الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة﴾ وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿وَأخذ الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة﴾ كَذَا هَذَا.
﴿وَلَا يُؤْخَذ مِنْهَا عدل﴾ الْعدْل وَالْعدْل هُوَ الْمثل، قَالَ الله تَعَالَى ﴿أَو عدل ذَلِك صياما﴾ أَي: مثله.
وَالْمرَاد بِالْعَدْلِ هَاهُنَا الْفِدْيَة، وَسميت عدلا، لِأَنَّهَا مثل المفدي بِهِ. وَأما قَوْلهم: لَا يقبل مِنْهُ صرف وَلَا عدل قيل: الصّرْف النَّافِلَة، وَالْعدْل الْفَرِيضَة. وَقيل: الصّرْف الْحِيلَة، وَالْعدْل الْفِدْيَة.
(ولاهم ينْصرُونَ) يمْنَعُونَ الْعَذَاب.
76
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا نجيناكم من آل فِرْعَوْن﴾ الإنجاء والتنجية وَاحِد. هُوَ الإنقاذ من الْمَكْرُوه. وَآل فِرْعَوْن: أَتْبَاعه الَّذين اقتدوا بِهِ وبفعله. وَكَذَلِكَ آل النَّبِي أَتْبَاعه.
76
﴿يسومونكم سوء الْعَذَاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم (٤٩) وَإِذ فرقنا بكم الْبَحْر فأنجيناكم وأغرقنا﴾
وروى أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " آلى كل مُؤمن تَقِيّ "، فَأَما آل الْقَرَابَة فهم قوم مخصوصون [لَا] تجْرِي عَلَيْهِم الصَّدَقَة. وَقد ذكرُوا فِي الْفِقْه.
﴿يسومونكم سوء الْعَذَاب﴾ أَي: يجشمونكم ويولونكم. وَقيل: يصرفونكم فِي الْعَذَاب مرّة هَكَذَا وَمرَّة هَكَذَا، كَالْإِبِلِ السَّائِمَة فِي الْبَريَّة.
﴿سوء الْعَذَاب﴾ أَشد الْعَذَاب ﴿يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم﴾ مَذْكُور على وَجه الْبَدَل عَن قَوْله ﴿يسومونكم﴾ وَمثله قَول الشَّاعِر:
(مَتى تأتنا تلمم بِنَا فِي دِيَارنَا تَجِد حطبا جزلا وَنَارًا تأججا)
وَقَوله: " تلمم بِنَا فِي دِيَارنَا " بدل عَن قَوْله: " مَتى تأتنا ".
وَمعنى قَوْله: ﴿يذبحون أبناءكم﴾ أَي: يقتلُون. الذّبْح والذبيح بِمَعْنى وَاحِد.
وَسبب ذَلِك أَن فِرْعَوْن رأى فِي الْمَنَام نَارا جَاءَت من نَحْو بَيت الْمُقَدّس، وأحاطت بِمصْر، وأحرقت كل قبْطِي هُنَالك، وَلم تتعرض لبني إِسْرَائِيل، فَعلم بذلك أَن نَبيا يخرج من بني إِسْرَائِيل؛ يكون هلاكهم على يَدَيْهِ، فَأمر بقتل الْأَبْنَاء، وَترك الْبَنَات، حَتَّى قيل: إِنَّه قتل فِي طلب مُوسَى اثْنَي عشر ألف صَبيا.
﴿ويستحيون نساءكم﴾ أَي: يتركون ويستبقون، وَهُوَ استفعال من الْحَيَاة، وَمِنْه
77
﴿آل فِرْعَوْن وَأَنْتُم تنْظرُون (٥٠) وَإِذ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ثمَّ اتخذتم﴾ قَول النَّبِي: " اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْركين واستحيوا شرخهم " أَي: شبابهم، وَأَرَادَ بِهِ الذُّرِّيَّة وَالنِّسَاء.
﴿وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم﴾ الْبلَاء: يكون بِمَعْنى النِّعْمَة وَيكون بالشدة، لِأَنَّهُ من الِابْتِلَاء. وَالله تَعَالَى قد يختبر على النِّعْمَة بالشكر وَقد يختبر على الشدَّة بِالصبرِ. قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة﴾ قَالَ الشَّاعِر:
(جزى الله إحسانا بِمَا فعلا بِهِ وأبلاهما خير الْبلَاء الَّذِي يبلو)
وَقَوله - تَعَالَى -: ﴿وَفِي ذَلِكُم بلَاء﴾ يحْتَمل هَذَا الْمَعْنيين، أَحدهمَا: فِيمَا لحقكم من فِرْعَوْن من الْأَذَى والشدة بلَاء عَظِيم.
وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ: فِيمَا حصل لكم من النجَاة بغرق فِرْعَوْن بلَاء غظيم، أَي: نعْمَة عَظِيمَة.
78
قَوْله - تَعَالَى - ﴿وَإِذ فرقنا بكم الْبَحْر﴾ قيل: فرقنا لكم الْبَحْر. وَقيل: الْبَاء فِي موضعهَا، وَمَعْنَاهُ: فرقنا الْبَحْر بدخولكم إِيَّاه فرقا فرقا فَوق الرَّأْس وفرقا من تَحت الْقدَم أَو فرقا من ذَلِك الْجَانِب، وفرقا من ذَلِك الْجَانِب، وَالْبَحْر سمى بحرا، لاتساعه. وَمِنْه يُقَال للْفرس: بَحر إِذا اتَّسع فِي جريه، وللجواد: بَحر إِذا اتَّسع كَفه للجود.
وَقَوله تَعَالَى ﴿فأنجيناكم وأغرقنا آل فِرْعَوْن﴾ قيل فِي الْقَصَص: إِن عدد المنجين مِنْهُم كَانُوا سِتّمائَة ألف [وَعشْرين] ألفا، لَا يعد فيهم ابْن عشْرين لصغره،
78
﴿الْعجل من بعده وَأَنْتُم ظَالِمُونَ (٥١) ثمَّ عَفَوْنَا عَنْكُم من بعد ذَلِك لَعَلَّكُمْ تشكرون (٥٢) وَإِذ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وَالْفرْقَان لَعَلَّكُمْ﴾
وَلَا ابْن سِتِّينَ لكبره. وَأما عدد المغرقين فَالله بهم عليم.
وَقيل: كَانَ على مقدمته هامان مَعَ ألف ألف وَسَبْعمائة ألف نفر حِين غرقوا، وَالله أعلم بِمن كَانَ على المؤخرة.
﴿وَأَنْتُم تنْظرُون﴾ إِلَى غرقهم وهلاكهم. وَقيل: تعلمُونَ.
79
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذا واعدنا﴾ وَقَرَأَ: " وَإِذ وعدنا " مَعْنَاهُمَا وَاحِد، فَإِن قَالَ قَائِل: المواعدة على وزن المفاعلة، فتقتضي اثْنَيْنِ يتواعدان، فَكيف تكون المواعدة من الله مَعَ مُوسَى؟
قُلْنَا: المواعدة من الله تَعَالَى بِالْأَمر، وَمن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ بِالْقبُولِ وَكَذَلِكَ الْوَعْد.
وَأما مُوسَى، اسْم عبري، و " مو " بلغَة العبرية هُوَ المَاء و " شى " هُوَ الشّجر، فَسمى " موشى " لِأَنَّهُ أَخذ من المَاء وَالشَّجر ثمَّ قلب الشين سنا فِي الْعَرَبيَّة فَصَارَ مُوسَى.
وَقَوله: ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَة﴾ أَي: انْقِضَاء أَرْبَعِينَ لَيْلَة. أمره الله تَعَالَى أَن يَصُوم أَرْبَعِينَ يَوْمًا لإعطائه التَّوْرَاة، وَكَانَ قد وعده ثَلَاثِينَ؛ إِلَّا أَن الله تَعَالَى كَانَ قد نَهَاهُ أَن يتَنَاوَل شَيْئا فِي هَذِه الثَّلَاثِينَ، فَلَمَّا أتم الثَّلَاثِينَ مر بشجرة، فَتَنَاول من وَرقهَا، أمره الله تَعَالَى أَن يَصُوم عشرَة أَيَّام بِسَبَب ذَلِك. وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَعْرَاف ﴿وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة وأتممناها بِعشر﴾ الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى ﴿ثمَّ اتخذتم الْعجل من بعده﴾ يَعْنِي: إِلَهًا، وَله قصَّة مَعْرُوفَة ستأتي فِي سُورَة طه.
79
﴿تهتدون (٥٣) وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم إِنَّكُم ظلمتم أَنفسكُم باتخاذكم الْعجل فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم ذَلِكُم خير لكم عِنْد بارئكم فَتَابَ﴾
﴿وَأَنْتُم ظَالِمُونَ﴾ باتخاذ الْعجل إِلَهًا.
80
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ عَفَوْنَا عَنْكُم من بعد ذَلِك﴾. الْعَفو: محو الْآثَار. وَيُقَال: عفت الرِّيَاح كَذَا، إِذا محت الْآثَار. يَقُول: عَفَوْنَا عَنْكُم من بعد اتخاذكم الْعجل إِلَهًا. ﴿لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب﴾ يَعْنِي: التَّوْرَاة. ﴿وَالْفرْقَان﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه أَرَادَ بِهِ التَّوْرَاة أَيْضا. إِلَّا أَنه ذكرهَا باسمين، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(أَلا حبذا هِنْد وَأَرْض بهَا هِنْد وَهِنْد أَتَى من دونهَا النأي والبعد)
والنأي والبعد اسمان بِمَعْنى وَاحِد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَرَادَ بِهِ الْفرْقَان بَين الْحق وَالْبَاطِل. وَقد أعْطى الله مُوسَى ذَلِك. وَمِنْه سمى يَوْم بدر: يَوْم الْفرْقَان؛ لِأَنَّهُ فرق فِيهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَرَادَ بِهِ انفراق الْبَحْر كَمَا سبق. ﴿لَعَلَّكُمْ تهتدون﴾ بِالتَّوْرَاةِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ مَعْنَاهُ: اذكره إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴿يَا قوم إِنَّكُم ظلمتم أَنفسكُم باتخاذكم الْعجل﴾ إِلَهًا. ﴿فتوبوا إِلَى بارئكم﴾ خالقكم ﴿فَاقْتُلُوا أَنفسكُم﴾ ليقْتل بَعْضكُم بَعْضًا. وَقيل مَعْنَاهُ: استسلموا للْقَتْل.
﴿ذَلِكُم خير لكم عِنْد بارئكم﴾ خالقكم ﴿فَتَابَ عَلَيْكُم﴾ بِالْقبُولِ ﴿إِنَّه هُوَ التواب الرَّحِيم﴾ الْقَابِل للتَّوْبَة.
وروى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: كَانَ عدد الْقَتْلَى مِنْهُم [سبعين] ألفا فَلَمَّا بلغُوا ذَلِك، أوحى الله تَعَالَى إِلَى مُوسَى: إِنِّي رفعت الْقَتْل عَنْهُم،
80
﴿عَلَيْكُم إِنَّه هُوَ التواب الرَّحِيم (٥٤) وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وَأَنْتُم تنْظرُون (٥٥) ثمَّ بعثناكم من بعد موتكم﴾ ورحمت من مضى مِنْهُم، وعفوت عَمَّن بقى، وتبت عَلَيْهِم. وَحكى أَن يُوشَع بن نون خرج عَلَيْهِم حِين تأهبوا للْقَتْل واحتبوا لَهُ، فَقَالَ: إِن الله رحم من حل حبوته. ثمَّ إِن الَّذين لم يعبدوا الْعجل سلوا سيوفهم، وَأَقْبلُوا على قتل الَّذين عبدُوا الْعجل، حَتَّى كَانَ الابْن يقتل أَبَاهُ وَالْأَب يقتل ابْنه، حَتَّى أَتَوا على سبعين ألفا؛ ثمَّ نزل الْوَحْي كَمَا وَصفنَا.
81
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة﴾ هُوَ خطاب للسبعين الَّذين حملهمْ مُوسَى إِلَى الطّور ليسمعوا كَلَام الله؛ فَإِنَّهُم لما سمعُوا كَلَام الله قَالُوا لمُوسَى: لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة. أَي: عيَانًا.
وَقيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير يَعْنِي قُلْتُمْ: يَا مُوسَى جهرة لن (نؤمن) (لَك) حَتَّى نرى الله (جهرة).
﴿فأخذتكم الصاعقة﴾ قَرَأَ عَمْرو: " فأخذتكم الصعقة " وَهُوَ فِي الشواذ: وَقد سبق تَفْسِير الصاعقة. وَالْمرَاد بهَا الْمَوْت هَا هُنَا، أَي: أخذكم ﴿وَأَنْتُم تنْظرُون﴾.
فَإِن قيل: إِذا مَاتُوا كَيفَ نظرُوا؟ قيل: مَعْنَاهُ: ينظر بَعْضكُم إِلَى بعض حِين أخذكم الْمَوْت. قيل: مَعْنَاهُ: تعلمُونَ وَيكون النّظر معنى الْعلم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ثمَّ بعثناكم من بعد موتكم﴾ يَعْنِي أحييناكم بعد تِلْكَ الموتة بِالطورِ.
قَالَ قَتَادَة: أحياهم ليستوفوا آجالهم ﴿لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾.
81
﴿لَعَلَّكُمْ تشكرون (٥٦) وظللنا عَلَيْكُم الْغَمَام وأنزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظلمن (٥٧) ﴾
82
قَوْله تَعَالَى ﴿وظللنا عَلَيْكُم الْغَمَام﴾ الْغَمَام: من الْغم. وَأَصله: التغطية والستر وَمِنْه يُقَال للقلب الحزين: مغموم. لِأَن الْحزن غطى قلبه. وللسحاب: غمام لِأَنَّهُ يغطى وَجه الشَّمْس. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة﴾ أَي: ملبوسا عَلَيْكُم.
وَمعنى الْآيَة: قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بتظليل الْغَمَام عَلَيْهِم مَا ذكر فِي قَوْله ﴿هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام﴾ وَسَيَأْتِي شَرحه.
وَقَالَ قَتَادَة: إِن قوما من بني إِسْرَائِيل بقوا فِي التيه فعطشوا، وتأذوا بَحر الشَّمْس، وظلل الله عَلَيْهِم غماما، كَيْلا يتأذوا.
﴿وأنزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى﴾ الْأَكْثَرُونَ: على أَن الْمَنّ هُوَ الترنجبين. وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ صمغة تقع على الشّجر. وَقَالَ وهب: هُوَ الْخبز الرقَاق.
وَأما السلوى: قيل: إِنَّه طَائِر يشبه السماني بِعَيْنِه. وَفِيه قَول غَرِيب: أَنه الْعَسَل.
وَفِي الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى كَانَ ينزل عَلَيْهِم ذَلِك كل صباح من طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس قدر مَا يَكْفِي ليومهم؛ إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة فَإِنَّهُ كَانَ ينزل صباح الْجُمُعَة والسبت جَمِيعًا، وَمَا كَانَ للْجُمُعَة ينزل عَلَيْهِم يَوْم السبت.
وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " الكمأة من الْمَنّ، وماؤها شِفَاء للعين " فَلَيْسَ ذَلِك من هَذَا الْمَنّ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنَّهَا من عَطاء الله من غير كلفة وَلَا مشقة.
82
﴿وَإِذ قُلْنَا ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم رغدا وادخلوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فبدل الَّذين ظلمُوا﴾
﴿كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم﴾ أَي: من حَلَال مَا رزقناكم.
﴿وَمَا ظلمونا﴾ وَمَا بخسوا بحقنا ﴿وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ﴾.
فالظلم: بِمَعْنى البخس وَالنَّقْص، وَأَصله مَا بَينا.
83
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قُلْنَا ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة﴾ سميت الْقرْيَة قَرْيَة؛ لِأَنَّهَا تجمع أَهلهَا. وَمِنْه المقرآة للحوض؛ لِأَنَّهُ مجمع المَاء. وَمِنْه قَرْيَة النَّمْل؛ لِأَنَّهَا تجمع النَّمْل، وَالْمرَاد بالقرية هَاهُنَا الْبَيْت الْمُقَدّس. وَقيل: هِيَ أرِيحَا مَوضِع هُنَالك.
﴿فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم رغدا﴾ وَمعنى الرغد مَا سبق، وَقيل: هُوَ الرزق الْوَاسِع الَّذِي لَا يضيق (وَلَا يَعْنِي) طَالبه.
﴿وادخلوا الْبَاب سجدا﴾ أَرَادَ بِالْبَابِ: بَاب الْقرْيَة. وَقيل: هُوَ بَاب حطة، وَهُوَ بَاب إيلياء.
﴿سجدا﴾ أَي: ركعا خضعا. وأصل السُّجُود الخضوع وَفِي الرُّكُوع خضوع، وَقَالَ الشَّاعِر
(بِجمع تضل البلق فِي حجراته ترى الأكم فِيهِ سجدا للحوافر)
أَي: ركعا خضعا.
﴿وَقُولُوا حطة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: مَعْنَاهُ قُولُوا: حط ذنوبنا، وَقَالَ الزّجاج: تَقْدِيره: قُولُوا: مَسْأَلَتنَا حطة. وَقَالَ عِكْرِمَة: هُوَ قَول: لَا إِلَه إِلَّا الله.
﴿نغفر لكم﴾ تقْرَأ بقراءتين: " نغفر لكم " بالنُّون، و " يغْفر لكم " بِالْيَاءِ وهما
83
﴿قولا غير الَّذِي قيل لَهُم فأنزلنا على الَّذين ظلمُوا رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يفسقون (٥٩) وَإِذ استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بعصاك الْحجر﴾ وَاحِد. وَهُوَ من الغفر، وَهُوَ السّتْر. وَمِنْه الْمَغْفِرَة؛ لِأَنَّهُ يستر الرَّأْس. كَذَلِك الْمَغْفِرَة تستر الذُّنُوب.
﴿خطاياكم﴾ جمع الْخَطِيئَة وَتجمع على الخطيئات أَيْضا، وَهِي الذُّنُوب. يُقَال: خطئَ يُخطئ خطأ وخطيئة، إِذا أذْنب مُتَعَمدا.
وَأَخْطَأ يُخطئ إخطاء إِذا أذْنب خاطئا.
﴿وسنزيد الْمُحْسِنِينَ﴾ من فضلنَا.
84
قَوْله تَعَالَى: ﴿فبدل الَّذين ظلمُوا قولا غير الَّذِي قيل لَهُم﴾ أَجمعُوا على أَنهم بدلُوا قَول الحطة بِالْحِنْطَةِ، وَقَالُوا بلسانهم: هطا سمقاثا. أَي: حِنْطَة حَمْرَاء. وَقيل: إِنَّهُم دخلُوا الْبَاب يزحفون على استاههم، وَكَانَ قد طوطىء لَهُم الْبَاب، فَمَا اسْتَطَاعُوا أَن يدخلُوا قيَاما، وأبوا أَن يدخلُوا سجدا، فَدَخَلُوا يزحفون على استاههم مُخَالفَة فِي الْفِعْل كَمَا بدلُوا القَوْل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأنزلنا على الَّذين ظلمُوا رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يفسقون﴾.
الرجز. الْعَذَاب. والرجس: النتن. وَالرجز (بِضَم الرَّاء) صنم على قَول من قَرَأَ ﴿وَالرجز فاهجر﴾ وَقيل: أنزل الله عَلَيْهِم إِذْ فعلوا ذَاك طاعونا أهلك مِنْهُم أَرْبَعَة وَعشْرين ألفا فِي سَاعَة وَاحِدَة.
﴿بِمَا كَانُوا يفسقون﴾ من الْمُخَالفَة فعلا وقولا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ الاسْتِسْقَاء طلب السقيا. وَالسَّبَب فِي ذَلِك: أَن بني إِسْرَائِيل بقوا فِي التيه فعطشوا، فسألوا مُوسَى أَن يَسْتَسْقِي لَهُم، فَفعل.
84
﴿فانفجرت مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا قد علم كل أنَاس مشربهم كلوا وَاشْرَبُوا من رزق الله وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (٦٠) وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نصبر على﴾
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِب بعصاك الْحجر﴾ اخْتلفُوا فِي ذَلِك الْحجر، مِنْهُم من قَالَ: كَانَ حجرا معينا على قدر رَأس الرجل.
وَقيل: كَانَ ذِرَاعا فِي ذِرَاع. وَقيل: كَانَ حجرا من الْأَحْجَار لَا يعنيه، أَي حجر كَانَ.
﴿فانفجرت مِنْهُ﴾ يَعْنِي: فَضرب (وتفجرت). هَكَذَا تَقْدِيره: مِنْهُ ﴿اثْنَتَا عشرَة عينا﴾ على عدد الأسباط. ﴿قد علم كل أنَاس مشربهم﴾ عرف كل سبط مِنْهُم مشربهم.
وَقيل: كَانَ يظْهر فِيهِ بِضَرْب مُوسَى [اثْنَتَيْ عشرَة] حُفْرَة، يعرف كل سبط مِنْهُم حفرته.
وَقيل: كَانَ يحمل الْحجر مَعَ نَفسه فِي وعَاء؛ فَكلما احتاجوا إِلَى المَاء ضرب مُوسَى على الْحجر. ﴿كلوا﴾ مِمَّا أنزلنَا عَلَيْكُم من الْمَنّ والسلوى ﴿وَاشْرَبُوا﴾ من هَذِه المشارب. [ ﴿من رزق الله﴾ ].
﴿وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين﴾ العيث: أَشد الْفساد. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَا تسعوا فِي الأَرْض مفسدين.
85
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نصبر على طَعَام وَاحِد﴾ كَأَنَّهُمْ أَجمعُوا وسئموا من أكل الْمَنّ والسلوى، فسألوا مُوسَى أَن يسْأَل لَهُم غَيره من الطَّعَام.
فَإِن قيل: كَانَ لَهُم الْمَنّ والسلوى، فَلم سماهما وَاحِدًا؟ ! قيل: كَانُوا يَأْكُلُون أَحدهمَا بِالْآخرِ (فَكَانَ) كطعام وَاحِد.
85
﴿طَعَام وَاحِد فَادع لنا رَبك يخرج لنا مِمَّا تنْبت الأَرْض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قَالَ أتستبدلون الَّذِي هُوَ أدنى بِالَّذِي هُوَ خير اهبطوا مصرا﴾
وَقيل: إِنَّه كَانَ أبدا على نسق وَاحِد، وَكَانَ من حَيْثُ اتساقه كطعام وَاحِد.
﴿فَادع لنا رَبك يخرج لنا مِمَّا تنْبت الأَرْض من بقلها وقثائها﴾ سَأَلُوا هَذِه الْأَطْعِمَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وفومها﴾ اخْتلفُوا فِيهِ. اخْتلفُوا فِيهِ. قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالْأَكْثَرُونَ: إِنَّه الْحِنْطَة. وَقيل: الْخبز. وَحكى أَن بعض الْأَعْرَاب قَالَ لامْرَأَته: " فومى لنا " أَي: أجزي لنا.
وَقَالَ الضَّحَّاك بن مُزَاحم: أَرَادَ بِهِ الثوم. فأبدل الثَّاء بِالْفَاءِ. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(كَانَت دِيَارهمْ إِذْ ذَاك بارزة فِيهَا الفراديس والفومان والبصل)
وَقد قَرَأَ أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود: " ونومها " بالثاء ﴿وعدسها وبصلها﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ أتستبدلون الَّذِي هُوَ أدنى بِالَّذِي هُوَ خير﴾ يَعْنِي: أتختارون الْأَدْنَى على مَا هُوَ خير. فَإِن قيل: أَلَيْسَ فِيمَا سَأَلُوا الْحِنْطَة وَالْخبْز، وَهِي خير من الْمَنّ والسلوى فَلم سَمَّاهُ أدنى؟ قيل: أَرَادَ بِهِ أدنى فِي الْقيمَة، أَو أَرَادَ بِهِ أسهل وجودا على الْعَادة.
﴿اهبطوا مصرا﴾ أَي: انزلوا واذهبوا إِلَى مصر. وَاخْتلفُوا فِيهِ، فالأكثرون على أَنه الْمصر الْمَعْرُوف. وَقد قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " اهبطوا مصر " غير منصرف. وَمن صرفه كَانَ لقلَّة الْحُرُوف.
وَقَالَ الْأَعْمَش: أَرَادَ بِهِ مصر الَّذِي عَلَيْهِ صَالح بن عَليّ، وَهُوَ الْمصر الْمَعْرُوف. وَقيل: كَانَ مصرا من الْأَمْصَار لَا بِعَيْنِه يَقُول: أنزلوا مصرا ﴿فَإِن لكم مَا سَأَلْتُم وَضربت عَلَيْهِم الذلة﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ الْجِزْيَة، وَقَالَ عَطاء بن السَّائِب: هُوَ الكستيج والزنار.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَصْحَاب القبالات مِمَّن ضربت عَلَيْهِم الذلة.
86
﴿فَإِن لكم مَا سَأَلْتُم وَضربت عَلَيْهِم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ النَّبِيين بِغَيْر الْحق ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون (٦١) إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى﴾
﴿والمسكنة﴾ والفقر، يُقَال: تمسكن الرجل أَي صَار فَقِيرا، وسمى الْفَقِير مِسْكينا لِأَن الْفقر أسْكنهُ وَأَقْعَدَهُ عَن الْحَرَكَة.
﴿وباءوا بغضب من الله﴾ أَي: رجعُوا وَاحْتَملُوا غضب الله.
﴿ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله﴾ وَالْآيَة: الْعَلامَة. وَالْآيَة: الْجَمَاعَة. يُقَال: خرج الْقَوْم بآيهم أَي: بجماعتهم. وَالْآيَة من الْقُرْآن مجمع كَلِمَات مَعْلُوم الأول وَالْآخر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيقْتلُونَ النَّبِيين﴾. قَرَأَ نَافِع بِالْهَمْز وَالْمدّ. وَالْبَاقُونَ بالتليين، وَأَصله الإنباء، فَمن همزه كَانَ على الأَصْل. وَمن لينه فلكثرة الِاسْتِعْمَال.
وَقيل: هُوَ مَأْخُوذ من النُّبُوَّة وَهِي الْمَكَان الْمُرْتَفع، فعلى هَذَا يكون التليين على الأَصْل.
وَفِي الحَدِيث: " أَن رجلا قَالَ: يَا نبيء الله بِالْهَمْز وَالْمدّ فَقَالَ: لست بِنَبِي الله إِنَّمَا أَنا نَبِي الله ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيقْتلُونَ النَّبِيين بِغَيْر الْحق﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: " بِغَيْر الْحق " وَقتل النَّبِيين لَا يكون إِلَّا بِغَيْر الْحق؟ ! قُلْنَا: ذكره وَصفا للْقَتْل، وَالْقَتْل يُوصف تَارَة بِالْحَقِّ، وَتارَة بِغَيْر الْحق وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى ﴿قَالَ رب احكم بِالْحَقِّ﴾. ذكر الْحق وَصفا للْحكم لَا أَن حكمه يَنْقَسِم إِلَى الْجور وَالْحق.
87
﴿وَالصَّابِئِينَ من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم ورفعنا فَوْقكُم الطّور﴾
﴿ذَلِك بِمَا عصوا﴾ من الْمعاصِي ﴿وَكَانُوا يعتدون﴾ يتجاوزون الْحَد.
88
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا﴾ أَرَادَ بالذين هادوا الْيَهُود، وَإِنَّمَا سموا يهودا؛ لأَنهم قَالُوا ﴿إِنَّا هدنا إِلَيْك﴾ أَي: ملنا إِلَيْك.
وَقيل: لأَنهم من أَوْلَاد يهودا بن يَعْقُوب. وَالنَّصَارَى قوم يعْرفُونَ. وَإِنَّمَا سمعُوا نَصَارَى؛ لأَنهم نزلُوا قَرْيَة تسمى ناصرة. وَقيل: لقَوْل عِيسَى: من أَنْصَارِي إِلَى الله قَالُوا: نَحن أنصار الله.
﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ قَرَأَ نَافِع باللين وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْهَمْز. وَأَصله الصبو وَهُوَ الْميل وَالْخُرُوج.
يُقَال: صَبأ نَاب الْبَعِير إِذا خرج. وصبا قلبه إِلَى فلَان أَي: مَال. قَالَ الشَّاعِر:
(صبا قلبِي إِلَى هِنْد وَهِنْد مثلهَا (يصبي))
أَي: مَال قلبِي إِلَيْهَا وَمثلهَا تميل الْقلب.
اختلوا فِي مَعْنَاهُ؛ قَالَ ابْن عَبَّاس: هم قوم من الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَقَالَ قَتَادَة: هم قوم يقرءُون الزبُور، ويعبدون الْمَلَائِكَة، وَيصلونَ إِلَى الْكَعْبَة (من آمن بِاللَّه). فَإِن قيل: قد ذكر فِي الْجُمْلَة ﴿إِن الَّذين آمنُوا﴾ فَكيف يَسْتَقِيم قَوْله ﴿من آمن بِاللَّه﴾ ؟.
قيل: هَذَا فِي سلمَان وَأَتْبَاعه الَّذين آمنُوا بِمُحَمد قبل الْبَعْث. ثمَّ أقرُّوا بِهِ بعد الْبَعْث.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ: من ثَبت على الْإِيمَان. وَقيل: أَرَادَ بالذين آمنُوا: الْمُنَافِقين الَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ.
88
﴿خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (٦٣) ثمَّ توليتم من بعد ذَلِك فلولا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لكنتم من الخاسرين (٦٤) وَلَقَد علمْتُم﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿من آمن بِاللَّه﴾ يَعْنِي بِالْقَلْبِ مَعَ اللِّسَان ﴿بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾ فِي الْآخِرَة.
89
قَوْله تَعَالَى: ﴿ [وَإِذ] أَخذنَا ميثاقكم﴾ أَي: عهدكم ﴿ورفعنا فَوْقكُم الطّور﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ طور سيناء.
وَقيل: كل جبل طور. وَفِي الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى قلع جبل طور وَرفع فَوق رَأْسهمْ وَقَالَ لَهُم: إِن لم تقبلُوا التَّوْرَاة أرْسلت هَذَا الْجَبَل عَلَيْكُم، فقبلوا التَّوْرَاة. وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة وظنوا أَنه وَاقع بهم﴾ الْآيَة.
﴿خُذُوا مَا آتيناكم﴾ من التَّوْرَاة ﴿بِقُوَّة﴾ بجد واجتهاد ﴿واذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ وادرسوا مَا فِيهِ. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ النَّار فِي الْآخِرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ توليتم من بعد ذَلِك﴾ أعرضتم من بعد مَا قبلتم التَّوْرَاة ﴿فلولا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته﴾ يَعْنِي: بالإمهال والإدراج ﴿لكنتم من الخاسرين﴾ لمن الْمُعَذَّبين فِي الْحَال؛ كَأَنَّهُ رَحِمهم بالإمهال.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد علمْتُم الَّذين اعتدوا﴾ أَي: جاوزوا الْحَد، وَيُقَال: تعدى طوره. أَي: جَاوز حَده.
﴿مِنْكُم فِي السبت﴾ وأصل السبت: الْقطع، وسمى يَوْم السبت بذلك؛ لِأَن الْيَهُود أمروا فِيهِ يقطع الْأَعْمَال أَرَادَ بِهِ قوم أيله، وَهِي قَرْيَة على شط الْبَحْر وَترك الِاصْطِيَاد فِي يَوْم السبت؛ فخالفوا واصطادوا. وقصتهم تَأتي مشروحة فِي سُورَة
89
﴿الَّذين اعتدوا مِنْكُم فِي السبت فَقُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ (٦٥) فجعلناها نكالا لما بَين يَديهَا وَمَا خلفهَا وموعظة لِلْمُتقين (٦٦) ﴾ الْأَعْرَاف.
﴿فَقُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ﴾ وَهَذَا أَمر تكوين لَيْسَ للْعَبد فِيهِ صنع وَلَا اخْتِيَار.
﴿خَاسِئِينَ﴾ مبعدين. وَمِنْه يُقَال: [أخسا] أَي: أبعد. فَإِن قيل: لم قَالَ: " قردة خَاسِئِينَ " وَإِنَّمَا تنْعَت القردة بالخاسئات؟ قيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير. وَتَقْدِيره. خَاسِئِينَ قردة.
90
قَوْله تَعَالَى: ﴿فجعلناها نكالا لما بَين يَديهَا﴾ أَي: فَجعلنَا عقوبتهم بالمسخ نكالا. والنكال: اسْم لكل عُقُوبَة تنكل النَّاظر من فعل مَا جعلت الْعقُوبَة جَزَاء عَلَيْهِ. وَمِنْه النّكُول من الْيَمين، وَهُوَ منع الْيَمين.
﴿لما بَين يَديهَا﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يكون نكالا لما بَين يَديهَا وهم قد مضوا؟ قيل: أَرَادَ بِهِ الَّذين حَضَرُوا فِي ذَلِك الزَّمَان.
﴿وَمَا خلفهَا﴾ الَّذين يأْتونَ من بعد " وَمَا " هَاهُنَا: بِمَعْنى " من " وَفِيه قَول آخر: أَرَادَ " لما بَين يَديهَا ": مَا سبقت من الذُّنُوب ﴿وَمَا خلفهَا﴾ مَا حضرت من الذُّنُوب الَّتِي أخذُوا بهَا.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَرَادَ " بِمَا بَين يَديهَا " الْقرى الَّتِي كَانَت مَبْنِيَّة فِي الْحَال. وَمَا خلفهَا: بِالْحَدَثِ من الْقرى من بعد.
﴿وموعظة لِلْمُتقين﴾ من أمة مُحَمَّد.
90
﴿وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة قَالُوا أتتخذنا هزوا قَالَ أعوذ بِاللَّه أَن أكون من الْجَاهِلين (٦٧) قَالُوا ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا هِيَ قَالَ﴾
91
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ وَاذْكُر إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: ﴿إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة﴾ الْبَقَرَة: الْأُنْثَى من الْبَقر. وَهِي مَأْخُوذَة من الْبَقر، وَهُوَ الشق. سميت بذلك لِأَنَّهَا تشق الأَرْض بالحراثة.
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي نهى عَن التبقر فِي الْأَهْل وَالْمَال " أَي: التَّوَسُّع. والقصة فِي ذَلِك: أَنه كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل رجل غَنِي، وَله ابْن عَم فَقير، فاستطال حَيَاته فَقتله، وَحمله إِلَى حَيّ آخر، وَطَرحه بفنائهم، ثمَّ أصبح يطْلب دَمه. فسألوا مُوسَى أَن يسْأَل ربه من الْقَاتِل؟ فَسَأَلَ فَأوحى الله تَعَالَى [إِلَيْهِ] أَن يَأْمُرهُم بِذبح الْبَقَرَة.
فَقَالَ: إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة ﴿قَالُوا أتتخذنا هزوا﴾ لأَنهم لما سَأَلُوهُ أَن يسْأَل ربه من الْقَاتِل؟ فَقَالَ: إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة، فلبعد مَا بَين السُّؤَال وَالْجَوَاب، قَالُوا: أتتخذنا هزوا. وَذَلِكَ من شدَّة جهلهم، وتبسطهم فِي الْكَلَام نسبوا نَبِيّهم إِلَى الِاسْتِهْزَاء.
﴿قَالَ أعوذ بِاللَّه﴾ أَعْتَصِم وأمتنع بِاللَّه. ﴿أَن أكون من الْجَاهِلين﴾ بِالْجَوَابِ، لَا على وفْق السُّؤَال. لِأَن كل من سُئِلَ عَن شَيْء فَأجَاب لَا على وفْق السُّؤَال يكون جَاهِلا.
91
﴿إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة لَا فارض وَلَا بكر عوان بَين ذَلِك فافعلوا مَا تؤمرون (٦٨) قَالُوا ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا لَوْنهَا قَالَ إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة صفراء فَاقِع لَوْنهَا﴾
92
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا هِيَ﴾ هَذَا استيصاف السن ﴿قَالَ إِنَّه يَقُول﴾ يَعْنِي: فَسَأَلَ فَقَالَ: إِنَّه يَقُول: ﴿إِنَّهَا بقرة لَا فارض وَلَا بكر عوان بَين ذَلِك﴾ قيل: الفارض الْكَبِيرَة المسنة، وَالْبكْر: الْفَتى، والعوان مَا بَين ذَلِك.
وَمِنْه يُقَال: عونت الْمَرْأَة، إِذا زَادَت على الثَّلَاثِينَ. وَيُقَال: فِي الْمثل " الْعوَان لَا تعلم الْخمْرَة " أَي: الاختمار.
وَقيل: الفارض الَّتِي ولدت بطونا، وَالْبكْر: الَّتِي لم تَلد أصلا، والعوان: الَّتِي ولدت بَطنا أَو بطنين. ﴿فافعلوا مَا تؤمرون﴾ من الذّبْح.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ادْع لنا رَبك﴾ سل لنا رَبك. ﴿يبين لنا مَا لَوْنهَا﴾ هَذَا اسيتصاف اللَّوْن. ﴿قَالَ إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة صفراء﴾ قَالَ الْحسن: الصَّفْرَاء: السَّوْدَاء.
وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(تِلْكَ خيلي مِنْهُ وَتلك ركاب هن صفر ألوانها كالزبيب)
يَعْنِي سود، وَالصَّحِيح: أَنه أَرَادَ بِهِ الصَّفْرَاء الْمَعْهُودَة بِدَلِيل قَوْله: ﴿فَاقِع لَوْنهَا﴾ وَإِنَّمَا يُقَال: أصفر فَاقِع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأبيض يقق. وَيُقَال: ذَلِك للْمُبَالَغَة.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَت صفراء الْقُرُون والظلف. وَالصَّحِيح: أَنه كَانَت صفراء بجميعها.
﴿تسر الناظرين﴾ أَي تعجبهم وَتدْخل السرُور فِي قلبهم من حسنها وَهَذَا دأب كل حسن قد يرى. وَقد قَالَ النَّبِي " من لبس نعلا صفراء لم يزل فِي سرُور حَتَّى يَنْزِعهَا ".
92
﴿تسر الناظرين (٦٩) قَالُوا ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا هِيَ إِن الْبَقر تشابه علينا وَإِنَّا إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قَالَ إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة لَا ذَلُول تثير الأَرْض﴾
93
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا ادْع لنا رَبك﴾ سل لنا رَبك. ﴿يبين لنا مَا هِيَ﴾ وَهَذَا استيصاف الْعَمَل أَنَّهَا من العوامل أم لَا؟ ﴿إِن الْبَقر تشابه علينا﴾ أَي: اشْتبهَ. ﴿وَإِنَّا إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ﴾ وَفِي الْخَبَر " أَنهم لَو لم يَقُولُوا: إِن شَاءَ الله مَا اهتدوا أبدا ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة لَا ذَلُول تثير الأَرْض﴾ الذلول: بَين الذلة، والذليل بَين الذل، وَالْبَقَرَة الذلول الَّتِي أذلها الْعَمَل بإثارة الأَرْض.
﴿وَلَا تسقى الْحَرْث﴾ لَيست بساقية ﴿مسلمة﴾ عَن الْعُيُوب. ﴿لَا شية فِيهَا﴾ قَالَ الزّجاج: لَيْسَ فِيهَا لون يُخَالف مُعظم لَوْنهَا.
﴿قَالُوا الْآن جِئْت بِالْحَقِّ﴾ فَإِن قيل: قد كَانَ جَاءَ بِالْحَقِّ فِي كل مرّة. فَمَا معنى قَوْله ﴿الْآن جِئْت بِالْحَقِّ﴾ ؟ ! قيل: مَعْنَاهُ: الْآن أتيت بِالْبَيَانِ التَّام الشافي الَّذِي لم يبْق مَعَه لبس وَلَا إِشْكَال.
﴿فذبحوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ يَعْنِي: من غلاء ثمنهَا، لِأَنَّهُ روى أَنهم اشتروها بملء مسكها ذَهَبا.
وَحكى عَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: مَا اشتروها بذلك، إِنَّمَا اشتروها بِثَلَاثَة دَنَانِير.
وَقيل: مَعْنَاهُ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ من شدَّة اضطرابهم وَاخْتِلَافهمْ فِيهَا، وَالْأول أصح. وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي قَالَ: {شَدَّدُوا على أنفسهم؛ فَشدد الله عَلَيْهِم. وَلَو
93
{وَلَا تَسْقِي الْحَرْث مسلمة لَا شية فِيهَا قَالُوا الْآن جِئْت بِالْحَقِّ فذبحوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذ قتلتم نفسا فادارأتم فِيهَا وَالله مخرج مَا كُنْتُم اعْترضُوا بقرة فذبحوها؛ حصل مُرَادهم ".
94
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قتلتم نفسا﴾ هَذَا فِي التِّلَاوَة مُؤخر، وَفِي الْمَعْنى مقدم؛ لِأَنَّهُ أول الْقِصَّة. ﴿فادارأتم فِيهَا﴾ أَي: اعوججتم وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(فنكب عَنْهُم دَرْء الأعادي وداووا بالجنون من الْجُنُون)
أَي: اعوجاجهم.
وَقيل: مَعْنَاهُ: تدافعتم إِذا كَانَ يحِيل بَعضهم على بعض وأصل [الدرء] الدّفع.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله مخرج مَا كُنْتُم تكتمون﴾ أَي: مظهر مَا كُنْتُم تكتمون؛ فَإِن الْقَاتِل كَانَ يكتم الْقَتْل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ أَمر الله تَعَالَى أَن يضْرب الْمَقْتُول بعض الْبَقَرَة. وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك الْبَعْض؛ قَالَ ابْن عَبَّاس وَأكْثر الْمُفَسّرين: كَانَ ذَلِك من الغضروف إِلَى الْكَتف. قَالَ مُجَاهِد: وَهُوَ عجب الذَّنب. وَقَالَ غَيره: هُوَ الْفَخْذ. وَقَالَ بَعضهم: اللِّسَان.
وَقيل: بعض مِنْهَا لَا بِعَيْنِه؛ أَي بعض: كَانَ.
﴿كَذَلِك يحيى الله الْمَوْتَى﴾ لِأَنَّهُ أَرَاهُم إحْيَاء الْمَقْتُول حِين ضرب بِبَعْض الْبَقَرَة. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما ضرب بِبَعْضِهَا قَامَ حَيا وَقَالَ: " قاتلي فلَان "، ثمَّ سقط مَيتا؛ فَحرم قَاتله الْمِيرَاث.
وَفِي الْخَبَر: أَن النَّبِي قَالَ: " مَا ورث قَاتل بعد صَاحب الْبَقَرَة ".
94
﴿تكتمون (٧٢) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِك يحيي الله الْمَوْتَى ويريكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تعقلون (٧٣) ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد﴾ ﴿ويريكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تعقلون﴾ تمْنَعُونَ أَنفسكُم من الْمعاصِي.
وَقيل: إِنَّمَا خص الْبَقَرَة بذلك الذّبْح؛ لأَنهم كَانُوا قد عبدُوا الْعجل، فَأَرَادَ أَن يُرِيهم هوانها، وَأَنَّهَا تعجز عَن دفع الْقَتْل عَن نَفسهَا.
أَو ابْتَلَاهُم بِالْأَمر بذبحها حَتَّى [يراهم] هَل يقتلُون أم لَا.
95
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك﴾ يَعْنِي يَبِسَتْ وجفت، وجفاف الْقلب بِخُرُوج الرَّحْمَة والرقة عَنهُ. ﴿من بعد ذَلِك﴾ من بعد مَا ظهر لكم من تِلْكَ الْآيَات. ﴿فَهِيَ كالحجارة﴾ يَعْنِي فِي الصلابة ﴿أَو أَشد قسوة﴾.
فَإِن قيل: لم قَالَ: أَو أَشد قسوة و " أَو " كلمة التشكيك؟ وَلم شبه بِالْحِجَارَةِ وَالْحَدِيد أَصْلَب من الْحِجَارَة؟.
قُلْنَا: أما الأول مَعْنَاهُ وَأَشد قسوة. وَقيل: بل أَشد قسوة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ﴾ أَو بل يزِيدُونَ.
وَقَالَ جمَاعَة النَّحْوِيين: مَعْنَاهُ إِن شِئْت مثلهم بِالْحِجَارَةِ؛ وَإِن شِئْت مثلهم بِمَا هُوَ أَشد من الْحِجَارَة، فَأَنت مُصِيب فِي الْكل. وَهَذَا قَول حسن.
وَإِنَّمَا لم يشبه بالحديد؛ لِأَنَّهُ قَابل للين، فَإِنَّهُ يلين بالنَّار، وَقد لَان لداود عَلَيْهِ السَّلَام، وَالْحِجَارَة لَا تلين قطّ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن من الْحِجَارَة لما يتفجر مِنْهُ الْأَنْهَار﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ جَمِيع الْحِجَارَة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْحجر الَّذِي كَانَ يضْرب عَلَيْهِ مُوسَى للأسباط.
﴿وَإِن مِنْهَا لما يشقق فَيخرج مِنْهُ المَاء﴾ أَرَادَ بِهِ عيُونا دون الْأَنْهَار، وَتَكون فِي بعض
95
﴿قسوة وَإِن من الْحِجَارَة لما يتفجر مِنْهُ الْأَنْهَار وَإِن مِنْهَا لما يشقق فَيخرج مِنْهُ المَاء وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) ﴾ الْأَحْجَار ﴿وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله﴾ أَي ينزل من مَخَافَة الله.
فَإِن قيل: الْحجر جماد لَا يفهم؛ فَكيف يخْشَى؟ ! قُلْنَا: قد قَالَ أهل السّنة: إِن لله تَعَالَى علما فِي الْموَات لَا يُعلمهُ غَيره.
وَقيل: إِن الله تَعَالَى يفهمهم ويلهمهم ذَلِك فيخشون بإلهامه، وبمثل هَذَا وَردت الْأَخْبَار.
فَإِنَّهُ روى: " أَن النَّبِي كَانَ عَليّ " ثبير " وَالْكفَّار يطلبونه، فَقَالَ الْجَبَل: أنزل عني فَإِنِّي أَخَاف أَن تُؤْخَذ على فيعاقبني الله بذلك. فَقَالَ لَهُ جبل حراء: إِلَى يَا رَسُول الله ".
وروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كَانَ حجر يسلم على بِمَكَّة قبل أَن أبْعث، وَأَنا أعرفهُ الْآن " الْخَبَر صَحِيح.
وَفِي الْبَاب حَدِيث أنس وَسَهل بن سعد، " أَن رَسُول الله كَانَ يخْطب إِلَى جذع فِي الْمَسْجِد قَائِما، فَلَمَّا اتخذ لَهُ الْمِنْبَر تحول إِلَيْهِ فَلَمَّا رقاه حن الْجذع ".
ويروي: " أَنه خار كَمَا يخور الثور، حَتَّى ارتج الْمَسْجِد؛ فَنزل رَسُول الله من الْمِنْبَر وَكَانَ الْجذع يخور حَتَّى الْتَزمهُ فسكن. فخيره النَّبِي بَين أَن يكون شَجَرَة فِي الدُّنْيَا أَو شَجَرَة فِي الْجنَّة، فَاخْتَارَ الْجنَّة، فَأمر بِهِ فَدفن ".
96
﴿أفتطمعون أَن يُؤمنُوا لكم وَقد كَانَ فريق مِنْهُم يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه من بعد مَا عقلوه وهم يعلمُونَ (٧٥) وَإِذا لقوا الَّذين آمنُوا قَالُوا آمنا وَإِذا خلا﴾
وَقد قَالَ مُجَاهِد: لَا ينزل حجر من [الْأَعْلَى] إِلَى الْأَسْفَل إِلَّا من خشيَة الله.
وَيشْهد لكل مَا قُلْنَا. قَوْله تَعَالَى: ﴿لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله﴾.
﴿وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أَي: يُشَاهد مَا تَصْنَعُونَ.
97
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفتطمعون﴾ أَي: ترجون ﴿أَن يُؤمنُوا لكم﴾ أَي: يصدقونكم بِمَا تخبرونهم بِهِ. ﴿وَقد كَانَ فريق مِنْهُم يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه من بعد مَا عقلوه﴾ وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم سمعُوا التَّوْرَاة ثمَّ حرفوا مَا فِيهَا من الْأَحْكَام ونعت مُحَمَّد.
القَوْل الثَّانِي: أَنه أَرَادَ بِهِ السّبْعين الَّذين حملهمْ مُوسَى إِلَى الطّور حِين قَالُوا: إِن كنت ترى الله فَيَنْبَغِي أَن نرى الله، وَإِن كنت تسمع كَلَام الله؛ فَيَنْبَغِي أَن نسْمع كَلَام الله. فَقَالَ مُوسَى: أما أَنا فَلَا أرى الله، وَلَكِنِّي أسمع كَلَامه، ثمَّ سَأَلَ مُوسَى ربه تَعَالَى أَن يسمعهم كَلَامه فَقَالَ الله تَعَالَى: مرهم فليصوموا كَذَا وليغسلوا أَو ليلبسوا ثيابًا جددا نظيفة، ثمَّ ليحضروا فَفَعَلُوا ذَلِك. وسمعوا كَلَام الله.
وَفِي التَّفْسِير: أَنه قَالَ لَهُم: أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا، أخرجتكم من مصر بيد شَدِيدَة فاعبدوني وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئا، وافعلوا كَذَا، وَكَذَا فَلَمَّا سمعُوا كَلَامه، خرجت أَرْوَاحهم وماتوا فأحياهم الله تَعَالَى فَقَالُوا لمُوسَى: إِنَّا لَا نطيق أَن نسْمع كَلَامه، فاسمع أَنْت، وبلغنا إِيَّاه. ثمَّ رجعُوا إِلَى قَومهمْ قَالُوا: قد سمعنَا كَلَام الله، وَقد أمرنَا أَن نَفْعل كَذَا وَكَذَا، لكنه قَالَ: افعلوا إِن شِئْتُم أَو إِن اسْتَطَعْتُم.
وَفِي رِوَايَة قَالَ: لَا ترتكبوا كَذَا وَكَذَا إِلَّا أَن يكون لكم بُد؛ فارتكبوا، فَهَذَا معنى
97
﴿بَعضهم إِلَى بعض قَالُوا أتحدثونهم بِمَا فتح الله عَلَيْكُم ليحاجوكم بِهِ عِنْد ربكُم أَفلا تعقلون (٧٦) أَولا يعلمُونَ أَن الله يعلم مَا يسرون وَمَا يعلنون﴾ قَوْله ﴿يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه من بعد مَا عقلوه﴾ أَي: فهموه (وهم يعلمُونَ) أَنه الْحق.
98
قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِذا لقوا الَّذين آمنُوا قَالُوا آمنا﴾ أنزل فِي قوم من الْيَهُود آمنُوا فنافقوا. ﴿وَإِذا خلا بَعضهم إِلَى بعض قَالُوا أتحدثونهم بِمَا فتح الله عَلَيْكُم﴾ وَالْفَتْح بِمَعْنى الْقَضَاء. قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا﴾ أَي: قضينا لَك قَضَاء بَينا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت أَعْرَابِيًا يَقُول: تعال إِلَى الفتاح. وَفِي معنى الْآيَة ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم قَالُوا لأهل الْمَدِينَة حِين شاوروهم فِي اتِّبَاع مُحَمَّد: آمنُوا بِهِ فَإِنَّهُ حق. ثمَّ قَالَ بَعضهم لبَعض: أتحدثونهم بِمَا فتح الله عَلَيْكُم ليَكُون لَهُم الْحجَّة عَلَيْكُم عِنْد ربكُم أَي: يأخذونكم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم أخبروهم بِمَا عذبهم الله بِهِ على الْجِنَايَات؛ فَقَالَ بَعضهم لبَعض: أتحدثونهم بِمَا فتح الله عَلَيْكُم من الْعَذَاب ﴿ليحاجوكم بِهِ عِنْد ربكُم﴾ ليروا الكرمة لأَنْفُسِهِمْ عَلَيْكُم الله.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن النَّبِي لما فتح خَيْبَر حاصر بني قُرَيْظَة قَالَ لَهُم: " يَا إخْوَة القردة والخنازير. فَقَالَ بَعضهم لبَعض: هَذِه الْكَلِمَة مَا خرجت إِلَّا مِنْكُم، يَعْنِي: أَنْتُم حدثتموه بذلك " ﴿أَفلا تعقلون﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو لَا يعلمُونَ أَن الله يعلم مَا يسرون وَمَا يعلنون﴾ يَعْنِي: أَنه عَالم بِمَا اسروا (وأعلنوا).
98
﴿وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني وَإِن هم إِلَّا يظنون (٧٨) ﴾
99
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ﴾ الْأُمِّي: الَّذِي لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب. وَفِي اشتاقه قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه من الْأُم، فالأمي بَاقٍ على مَا انْفَصل من الْأُم.
وَالثَّانِي: من الْأمة ٠ وَهِي الخليقة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(وَإِن مُعَاوِيَة الأكرمين حسان الْوُجُوه طوال الْأُمَم)
يَعْنِي بني مُعَاوِيَة. وطوال الْأُمَم أَي الْخلق. فالأمي: بَاقٍ على مَا كَانَ عَلَيْهِ من أصل الْخلقَة.
﴿لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: قَالَ مُجَاهِد: الْأَمَانِي الأكاذيب.
وَمِنْه قَول عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ: مُنْذُ أسلمت مَا تمنيت وَلَا تَغَنَّيْت أَي: مَا كذبت. وَقَالَ ابْن دأب لرجل ذكر شَيْئا: هَذَا شَيْء رويته أم شَيْء تمنيته. أَي: اختلقته واخترعته من تلقائك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه التِّلَاوَة، أَي: لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا التِّلَاوَة وَمثله وَقَوله: ﴿إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته﴾ أَي: تِلَاوَته. وَقيل فِي عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ:
(تمنى كتاب الله أول ليله [فياليته] مَا لَاقَى حمام المقادر)
أَي: تَلا كتاب الله
وَالْقَوْل الثَّالِث: قَالَ الْفراء وَالْكسَائِيّ: هُوَ من التَّمَنِّي، وَذَلِكَ هِيَ أمانيهم الْبَاطِلَة من قَوْلهم ﴿لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة﴾ وَمن قَوْلهم: {لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا
99
﴿فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا فويل لَهُم مِمَّا كتبت أَيْديهم وويل لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقَالُوا﴾ من كَانَ هودا أَو نَصَارَى) وَمن قَوْلهم: ﴿نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه﴾ فعلى قَوْله هَذَا " إِلَّا " بِمَعْنى " لَكِن " يعْنى: لَا يعلمُونَ الْكتاب لَكِن يتمنون أَشْيَاء لَا تحصل لَهُم.
﴿وَإِن هم إِلَّا يظنون﴾ قَالَ مُجَاهِد: يكذبُون. وَلم يعرف أهل الْبَصْرَة الظَّن بِمَعْنى الْكَذِب؛ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ: إِلَّا يخرصون.
100
قَوْله تَعَالَى: ﴿فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله﴾ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنهم كَانُوا يَكْتُبُونَ من عِنْدهم أَشْيَاء، ثمَّ يَقُولُونَ للأعراب: هَذَا من عِنْد الله، يبتغونها مِنْهُم. وَقيل: أَرَادَ بِهِ مَا غيروا بِأَيْدِيهِم من نعت مُحَمَّد فِي التَّوْرَاة؛ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهَا أَنه أكحل أعين، ربعَة، سبط الشّعْر، فَكَتَبُوا فِيهَا أَنه أشقر، أَزْرَق طَوِيل الْقَامَة، جعد الشّعْر.
﴿ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا فويل لَهُم مَا كتبت أَيْديهم﴾ اخْتلفُوا فِي الويل؛ قَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ ويروي ذَلِك مَرْفُوعا عَن النَّبِي أَيْضا " إِن الويل وَاد فِي جَهَنَّم يهوي فِيهِ الْكَافِر سبعين خَرِيفًا ".
وَقَالَ عُثْمَان: هُوَ جبل من نَار. وأصل الويل: الْهَلَاك وَدُعَاء الْعَذَاب، فَإِن قيل: مَا
100
﴿لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة قل أتخذتم عِنْد الله عهدا فَلَنْ يخلف الله عَهده أم تَقولُونَ على الله مَا لَا تعلمُونَ (٨٠) بلَى من كسب سَيِّئَة وأحاطت﴾ معنى قَوْله: ﴿مِمَّا كتبت أَيْديهم﴾ والكتب لَا يكون إِلَّا بِالْيَدِ؟ قيل: ذكره مُبَالغَة فِي التَّحْقِيق. وَقيل: مَعْنَاهُ أَنهم كتبُوا بِأَنْفسِهِم اختراعا.
﴿وويل لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ من الْمعاصِي.
101
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة﴾ اخْتلفُوا فِيهِ، مِنْهُم من قَالَ: أَرَادوا بِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عدد مَا عَبدنَا الْعجل.
وَمِنْهُم من قَالَ: سَبْعَة أَيَّام. لِأَن مِقْدَار زمَان الْعَالم سَبْعَة آلَاف سنة فَقَالُوا: نعذب بِكُل ألف سنة يَوْمًا.
وَقيل: إِنَّهُم قَالُوا: سمعنَا أنبياءنا أَنهم قَالُوا: مَا بَين طرفِي جَهَنَّم مسيرَة أَرْبَعِينَ سنة فَنحْن نقطع فِي كل يَوْم مسيرَة سنة فَتبقى مسيرَة جَهَنَّم فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا وننجو مِنْهَا.
﴿قل أتخذتم عِنْد الله عهدا فَلَنْ يخلف الله عَهده﴾ مَعْنَاهُ: أَنِّي لكم بِهَذَا؛ قَول من الله؟ فَلَا يُخَالف قَوْله. قَوْله: ﴿أم تَقولُونَ على الله مَالا تعلمُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿بلَى من كسب سَيِّئَة﴾ " بلَى " تذكر فِي جَوَاب النَّفْي. " وَنعم " تذكر فِي جَوَاب الْإِيجَاب. قَالَ الله تَعَالَى: ﴿أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى﴾.
وَقَالَ: ﴿ألم يأتكم رسل مِنْكُم يَتلون عَلَيْكُم آيَات ربكُم وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا بلَى﴾. وَقَالَ: ﴿فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم﴾. ﴿بلَى من كسب سَيِّئَة﴾ السَّيئَة: الشّرك. ﴿وأحاطت بِهِ خطيئته﴾ أَي: مَاتَ على الشّرك.
وَقيل: أَرَادَ بِالسَّيِّئَةِ: الْكَبِيرَة. ﴿وأحاطت بِهِ خطيئته﴾ أَي: أصر عَلَيْهَا، وَمَات
101
﴿بِهِ خطيئته فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (٨١) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ (٨٢) وَإِذ أَخذنَا مِيثَاق﴾ غير تائب. وَقَالَ ابْن السراج النَّحْوِيّ: مَعْنَاهُ: انسدت عَلَيْهِ مسالك النجَاة. ﴿فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ﴾.
102
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ﴾ إِلَى آخر الْآيَة، ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله﴾ قَرَأَ أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود: " لَا تعبدوا إِلَّا الله " على الْأَمر، وَالْقِرَاءَة الْمَعْهُودَة " لَا تَعْبدُونَ ".
وتقرأ بِالْيَاءِ وَالتَّاء وَمَعْنَاهَا وَاحِد؛ فَإِن الْعَرَب قد تذكر المخاطبة فِي (مَوضِع) المغايبة، والمغايبة فِي مَوضِع المخاطبة. وَفِي هَذَا الْمِيثَاق عهد وَقسم، وَتَقْدِيره: وَالله لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله.
﴿وبالوالدين إحسانا﴾ أَي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وَالْإِحْسَان بهما الْبر والعطف والتحنن، وَالنُّزُول عِنْد أَمرهمَا فِيمَا لَا يُخَالف أَمر الله تَعَالَى. ﴿وَذي الْقُرْبَى﴾ أَي: أهل الْقرَابَات. ﴿واليتامى﴾ الْيَتِيم: اسْم لمن لَا أَب لَهُ من الْآدَمِيّين. وَلمن لَا أم لَهُ من الْبَهَائِم، وَهُوَ اسْم للْفَقِير مِنْهُم.
وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " حفظت لكم عَن رَسُول الله سِتا: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح، وَلَا عتاق فِي غير الْملك، وَلَا نذر فِي مَعْصِيّة الله، وَلَا يتم بعد الْحلم، وَلَا صمت يَوْم إِلَى اللَّيْل. وَلَا صَوْم وصال ". ﴿وَالْمَسَاكِين﴾ هم الْفُقَرَاء كَمَا سبق.
102
﴿بني إِسْرَائِيل لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله وبالوالدين إحسانا وَذي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَقُولُوا للنَّاس حسنا وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة ثمَّ توليتم إِلَّا قَلِيلا مِنْكُم وَأَنْتُم معرضون (٨٣) وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم لَا تسفكون دماءكم وَلَا﴾ ﴿وَقُولُوا للنَّاس حسنا﴾ تقْرَأ بقراءتين حسنا وحسنا.
وَتَقْدِيره: وَقُولُوا للنَّاس قولا حسنا، أَو وَقُولُوا للنَّاس قولا ذَا حسن. وَفِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَة أَقْوَال، أَحدهَا: قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: القَوْل الْحسن هُوَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه اللين فِي القَوْل، والمعاشرة بِحسن الْخلق.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه خطاب لأهل التَّوْرَاة يَعْنِي: وَقُولُوا للنَّاس صدقا فِي نعت مُحَمَّد فِي التَّوْرَاة.
﴿وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة﴾ سبق تَفْسِيره.
﴿ثمَّ توليتم﴾ أعرضتم ﴿إِلَّا قَلِيلا مِنْكُم﴾ وَذَلِكَ أَن فريقا مِنْهُم قد آمنُوا ﴿وَأَنْتُم معرضون﴾ كإعراض آبائكم.
103
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم لَا تسفكون دماءكم﴾ أَي: لَا يسفك بَعْضكُم دِمَاء بعض.
وَقيل: لَا تسفكوا دِمَاء غَيْركُمْ فتسفك دماؤكم؛ فكأنكم سفكتم دِمَاء أَنفسكُم.
﴿وَلَا تخرجُونَ أَنفسكُم من دِيَاركُمْ﴾ أَي: لَا يخرج بَعْضكُم بَعْضًا.
وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تسيئوا جوَار من جاوركم؛ فتلجئوهم إِلَى الْخُرُوج؛ بِسوء الْجوَار.
﴿ثمَّ أقررتم﴾ أَي: قبلتم ﴿وَأَنْتُم تَشْهَدُون﴾ تعترفون بِالْقبُولِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ أَنْتُم هَؤُلَاءِ﴾ يَعْنِي: يَا هَؤُلَاءِ ﴿تقتلون أَنفسكُم﴾ (بقتل) بَعْضكُم بَعْضًا.
103
﴿تخرجُونَ أَنفسكُم من دِيَاركُمْ ثمَّ أقررتم وَأَنْتُم تَشْهَدُون (٨٤) ثمَّ أَنْتُم هَؤُلَاءِ تقتلون أَنفسكُم وتخرجون فريقا مِنْكُم من دِيَارهمْ تظاهرون عَلَيْهِم بالإثم﴾ ﴿وتخرجون فريقا مِنْكُم من دِيَاركُمْ تظاهرون﴾ يقْرَأ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف وَأَصله: تتظاهرون. فأدغمت التَّاء فِي الظَّاء. فَصَارَ مشددا وَمَعْنَاهُ: تعاونون.
﴿عَلَيْهِم بالإثم والعدوان﴾ فالإثم والعدوان: الْمُبَالغَة فِي الظُّلم. وَقد روى: " أَن النواس بن سمْعَان سَأَلَ رَسُول الله مَا الْبر؟ فَقَالَ: مَا اطمأنت إِلَيْهِ نَفسك، قَالَ: مَا الْإِثْم؟ فَقَالَ: مَا حاك فِي صدرك ".
قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِن يأتوكم أُسَارَى﴾ يقْرَأ بقرائتين " أسرى، وأسارى " وَفرق أَبُو عَمْرو بَينهمَا فِي الْمَعْنى، فَقَالَ: الْأُسَارَى لمن كَانَ فِي الْيَد مَعَ الوثاق. والأسرى: لمن كَانَ فِي الْيَد من غير وثاق، وَلم يرْضوا مِنْهُ بِهَذَا الْفرق، وَالصَّحِيح: أَنَّهُمَا وَاحِد.
﴿تفدوهم﴾ و ﴿تفادوهم﴾ قراءتان. قيل: هما فِي الْمَعْنى وَاحِد، وَقيل: (تفادوهم) تقال فِي فدَاء الأسرى بالأسرى. وتفدوهم فِي الْفِدَاء بِالْمَالِ.
﴿وَهُوَ محرم عَلَيْكُم إخراجهم﴾ فِيهِ تَقْدِير وَتَأْخِير. وَتَقْدِيره: وتخرجون فريقا مِنْكُم من دِيَارهمْ؛ وَهُوَ محرم عَلَيْكُم إخراجهم؛ تظاهرون عَلَيْهِم بالإثم والعدوان.
﴿أفتؤمنون بِبَعْض الْكتاب وتكفرون بِبَعْض﴾ لأَنهم خالفوا فِي الْبَعْض وامتثلوا فِي الْبَعْض.
104
﴿والعدوان وَإِن يأتوكم أُسَارَى تفادوهم وَهُوَ محرم عَلَيْكُم إخراجهم أفتؤمنون بِبَعْض الْكتاب وتكفرون بِبَعْض فَمَا جَزَاء من يفعل ذَلِك مِنْكُم إِلَّا خزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم الْقِيَامَة يردون إِلَى أَشد الْعَذَاب وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
قَالَ السدى فِي كشف معنى الْآيَة: إِنَّهُم أمروا بأَرْبعَة أَشْيَاء: أَن لَا يقتل بَعضهم بَعْضًا. وَأَن لَا يخرج بَعضهم بَعْضًا. وَأَن لَا يتعاونوا على الْإِثْم والعدوان. وَأَن يفادوا الْأُسَارَى. فخالفوا فِي الثَّلَاث وامتثلوا فِي المفاداة.
والقصة فِيهِ: أَن بني قُرَيْظَة كَانُوا حلفاء الْأَوْس، وَبَنُو النَّضِير كَانُوا حلفاء الْخَزْرَج وَكَانَت بَين القبيلتين مقاتلة، فَوَقَعت الْمُقَاتلَة بَين حلفاء القبيلتين، ثمَّ إِذا وَقع أَسِير من حلفاء إِحْدَى القبيلتين فِي يَد أُخْرَى القبيلتين فأداه حلفاء الْقَبِيلَة الْأُخْرَى، مَعَ كَون الْأَسير من عدوهم، فَإِذا قيل لَهُم: لم تفادون؟ قَالُوا: أمرنَا بالمفاداة. فَإِذا قيل لَهُم: لم تقاتلون؟ قَالُوا: نَحن حلفاؤهم فلابد لنا من الْقِتَال مَعَهم فَهَذَا معنى الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَمَا جَزَاء من يفعل ذَلِك مِنْكُم إِلَّا خزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ يُقَال: خزي يخزى خزيا، من الذل والهوان. وخزي يخزي خزاية. من الخجل والاستحياء والافتضاح. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(وَالْمَوْت خزيان ينظر خزيان... )
أَي: مستحي.
﴿وَيَوْم الْقِيَامَة يردون إِلَى أَشد الْعَذَاب وَمَا الله بغافل عَمَّا تعلمُونَ﴾.
105
﴿أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة﴾ اخْتَارُوا الدُّنْيَا على الْآخِرَة.
﴿فَلَا يُخَفف عَنْهُم الْعَذَاب ولاهم ينْصرُونَ﴾ يمْنَعُونَ الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد آتَيْنَا﴾ أعطينا ﴿مُوسَى الْكتاب﴾ التَّوْرَاة ﴿وقفينا من بعده بالرسل﴾ أتبعنا. أَي: يقفو رَسُول رَسُولا.
﴿وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات﴾ فِيهِ قَولَانِ؛ أَحدهمَا: أَنَّهَا المعجزات الَّتِي أُوتى
105
( ﴿٨٥) أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة فَلَا يُخَفف عَنْهُم الْعَذَاب ولاهم ينْصرُونَ (٨٦) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات وأيدناه بِروح الْقُدس أفكلما جَاءَكُم رَسُول بِمَا﴾ عِيسَى من إحْيَاء الْمَوْتَى، وإبراء الأكمه والأبرص، وَنَحْو ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا الْإِنْجِيل. ﴿وأيدناه﴾ قويناه من الأيد. وَهُوَ الْقُوَّة.
﴿بِروح الْقُدس﴾ اخْتلفُوا فِي الرّوح، قَالَ الْحسن وَقَتَادَة وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عَن ابْن عَبَّاس أَنه أَرَادَ بِهِ جِبْرِيل. وَقيل: إِنَّه أَمر أَن يسير مَعَه حَيْثُ سَار حَتَّى صعد بِهِ إِلَى السَّمَاء. وَقيل: إِن الرّوح هُوَ الِاسْم الْأَعْظَم الَّذِي كَانَ يحيى بِهِ الْمَوْتَى. وَقيل هُوَ الْإِنْجِيل.
وَإِنَّمَا سمى روحا؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَببا لحياة الْقُلُوب؛ وَلذَلِك سمى الْقُرْآن روحا.
وسمى عِيسَى روحا؛ لِأَنَّهُ حصل بتكوين الله من غير توليد وَالِد.
وَأما جِبْرِيل: فَإِنَّمَا سمى روحا؛ للطافته، أَو لمكانه من الْوَحْي الَّذِي هُوَ سَبَب لحياة الْقُلُوب.
وَأما الْقُدس: قيل: إِنَّه نعت جِبْرِيل. وأصل الْقُدس: الطَّهَارَة. وَمِنْه القدوس: وَهُوَ الطَّهَارَة. وَالْأَرْض المقدسة: المطهرة؛ وَإِنَّمَا وصف جِبْرِيل بالقدس لِأَنَّهُ لم يقترف ذَنبا قطّ. وَكَانَ طَاهِرا من الذُّنُوب.
وَقيل: الْقُدس هُوَ الله تَعَالَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفكلما جَاءَكُم رَسُول بِمَا لَا تهوى أَنفسكُم﴾ لَا تُرِيدُ قُلُوبكُمْ ﴿استكبرتم﴾ أنفتم وتعظمتم ﴿ففريقا كَذبْتُمْ وفريقا تقتلون﴾.
فالمكذبون: مثل عِيسَى وَمُحَمّد. والمقتولون: مثل زَكَرِيَّا وَيحيى صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.
106
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبنَا غلف﴾ قَرَأَ ابْن عَبَّاس: غلف بِضَم اللَّام، وَهُوَ قِرَاءَة الْأَعْرَج وَابْن مَحِيض؛ وَهُوَ من الشواذ.
106
﴿لَا تهوى أَنفسكُم استكبرتم ففريقا كَذبْتُمْ وفريقا تقتلون (٨٧) وَقَالُوا قُلُوبنَا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا مَا يُؤمنُونَ (٨٨) وَلما جَاءَهُم كتاب﴾ وَالْقِرَاءَة الْمَعْهُودَة بجزم اللَّام، وهم جمع الأغلف، وَمَعْنَاهُ: قُلُوبنَا فِي أوعية مِمَّا تَقول لَا نفهم شَيْئا من ذَلِك وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة﴾.
وَأما الغلف: بِضَم اللَّام: جمع الغلاف. وَمَعْنَاهُ: قُلُوبنَا أوعية الْعلم، وَلَيْسَ فِيهَا مِمَّا تَقول شَيْء. أَي: مَا تَقوله فَلَيْسَ بِشَيْء.
﴿بل لعنهم الله بكفرهم﴾ طردهم الله عَن الْفَهم وَالرَّحْمَة. وأصل اللَّعْن: الطَّرْد والأبعاد وَقَالَ الشَّاعِر:
(ذغرق بِهِ القطا ونفيت عَنهُ مقَام الذِّئْب كَالرّجلِ اللعين)
أَي: مقَام الذِّئْب اللعين، يَعْنِي: المطرود.
(فقليلا مَا تؤمنون) قيل: أَرَادَ بِهِ الْمُشْركين وَمَعْنَاهُ: قَلِيل إِيمَانهم وَالْمرَاد [بِهِ] إِيمَانهم بِأَن الله خالقهم وخالق السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ أهل الْكتاب؛ لِأَن الَّذين آمنُوا مِنْهُم أقل من الَّذين آمنُوا من الْمُشْركين.
وَقيل: مَعْنَاهُ: فَلَا يُؤمنُونَ أصلا.
وَحكى الْكسَائي عَن الْعَرَب: قل مَا تنْبت هَذِه الأَرْض إِلَّا الكراث والبصل. أَي: لَا تنْبت إِلَّا الكراث والبصل.
107
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما جَاءَهُم كتاب من عِنْد الله﴾ يعْنى الْقُرْآن. ﴿مُصدق لما مَعَهم﴾ من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
﴿وَكَانُوا من قبل يستفتحون على الَّذين كفرُوا﴾ يستنصرون؛ وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
107
﴿من عِنْد الله مُصدق لما مَعَهم وَكَانُوا من قبل يستفتحون على الَّذين كفرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عرفُوا كفرُوا بِهِ فلعنة الله على الْكَافرين (٨٩) بئْسَمَا اشْتَروا بِهِ﴾
(أَلا أبلغ بني عصم رَسُولا فَإِنِّي عَن قباحتكم غنى)
أَي: عَن نصرتكم.
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي كَانَ يستفتح بصعاليك الْمُهَاجِرين ". أَي يستنصر بهم فِي الدُّعَاء للغزوات.
وَمعنى الْآيَة: أَن الْمُشْركين من قبل كَانُوا يُؤْذونَ الْيَهُود فَرُبمَا تكون الْغَلَبَة لَهُم على الْيَهُود فِي الْقِتَال؛ فَقَالَت الْيَهُود -: اللَّهُمَّ انصرنا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّي الَّذِي تبعثه فِي آخر الزَّمَان، فَكَانُوا ينْصرُونَ بِهِ، فَلَمَّا بعث كفرُوا بِهِ. فَهَذَا معنى قَوْله ﴿وَكَانُوا من قبل يستفتحون على الَّذين كفرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عرفُوا كفرُوا بِهِ فلعنة الله على الْكَافرين﴾.
108
قَوْله تَعَالَى: ﴿بئْسَمَا اشْتَروا﴾ بئس: اسْم مستوف لكل ذمّ. وَنعم: اسْم مستوف لكل حمد. ﴿اشْتَروا بِهِ أنفسهم﴾ اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ ﴿أَن يكفروا بِمَا أنزل الله﴾ من الْقُرْآن (بغيا) حسدا. وَالْبَغي: الظُّلم. وَأَصله الطّلب؛ فالباغي طَالب للظلم. والحاسد: ظَالِم لِأَنَّهُ يُرِيد زَوَال النِّعْمَة عَن الْمَحْسُود من غير جِنَايَة مِنْهُ. ﴿أَن ينزل الله من فَضله﴾ من النُّبُوَّة: ﴿على من يَشَاء من عباده﴾ من الْأَنْبِيَاء.
﴿فباءوا﴾ أَي: رجعُوا ﴿بغضب على غضب﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن الْغَضَب الأول عبَادَة الْعجل. وَالْغَضَب الثَّانِي الْكفْر بِمُحَمد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْغَضَب الأول تَكْذِيب عِيسَى. وَالْغَضَب الثَّانِي تَكْذِيب مُحَمَّد.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْغَضَب الأول الْكفْر بالإنجيل. وَالْغَضَب الثَّانِي الْكفْر بِالْقُرْآنِ.
﴿وللكافرين عَذَاب مهين﴾ أَي: مخز.
108
﴿أنفسهم أَن يكفروا بِمَا أنزل الله بغيا أَن ينزل الله من فَضله على من يَشَاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عَذَاب مهين (٩٠) وَإِذا قيل لَهُم آمنُوا بِمَا أنزل الله قَالُوا نؤمن بِمَا أنزل علينا ويكفرون بِمَا وَرَاءه وَهُوَ الْحق﴾
109
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قيل لَهُم آمنُوا بِمَا أنزل الله﴾ من الْقُرْآن. ﴿قَالُوا نؤمن بِمَا أنزل علينا﴾ يكفينا مَا أنزل علينا من التَّوْرَاة.
﴿ويكفرون بِمَا وَرَاءه﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: بِمَا بعده. قَالَ الْفراء: بِمَا سواهُ من الْكتب. وَهُوَ الْأَصَح. ﴿وَهُوَ الْحق﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿مُصدقا لما مَعَهم﴾ من التَّوْرَاة. ﴿قل فَلم تقتلون أَنْبيَاء الله من قبل إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: الْقَتْل كَانَ من آبَائِهِم فَكيف خَاطب الْأَبْنَاء بِهِ؟
الْجَواب قُلْنَا: قتل الْأَنْبِيَاء وَإِن وجد من الْآبَاء لَكِن الْأَبْنَاء رَضوا بِهِ، ووالوهم عَلَيْهِ؛ فَلهَذَا خَاطب الْأَبْنَاء بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿فَلم تقتلون أَنْبيَاء الله من قبل﴾ على صِيغَة الِاسْتِقْبَال، فَكَانَ اللَّائِق بِالْحَال أَن يَقُول فَلم قُلْتُمْ؟
وَأما قَوْله: ﴿فَلم تقتلون﴾ مَعْنَاهُ: فَلم قتلتم، لَكِن الْعَرَب قد تضع الْمَاضِي فِي مَوضِع الْمُسْتَقْبل، والمستقبل فِي مَوضِع الْمَاضِي، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله: ﴿من قبل إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾ يَعْنِي فِي زعمكم.
وَقيل: مَعْنَاهُ: مَا كُنْتُم مُؤمنين على النَّفْي. كَقَوْلِه تَعَالَى: ﴿قل إِن كَانَ للرحمن ولد﴾ أَي: مَا كَانَ للرحمن ولد. وَفِيه قَول آخر سَيَأْتِي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد جَاءَكُم مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالمعجزات. ﴿ثمَّ اتخذتم الْعجل من بعده﴾ فِي الْهَاء قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه عَائِد إِلَى مُوسَى وَالثَّانِي: عَائِد إِلَى الْمَجِيء. ﴿وَأَنْتُم ظَالِمُونَ﴾ بذلك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم ورفعنا فَوْقكُم الطّور خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة﴾ قد ذَكرْنَاهُ. ﴿واسمعوا﴾ واقبلوا ﴿قَالُوا سمعنَا وعصينا﴾ يَعْنِي: سمعنَا بالآذان
109
﴿مُصدقا لما مَعَهم قل فَلم تقتلون أَنْبيَاء الله من قبل إِن كُنْتُم مُؤمنين (٩١) وَلَقَد جَاءَكُم مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثمَّ اتخذتم الْعجل من بعده وَأَنْتُم ظَالِمُونَ (٩٢) وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم ورفعنا فَوْقكُم الطّور خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واسمعوا قَالُوا﴾
وعصينا بالقلوب.
وَقيل: إِنَّهُم لما سمعُوا وخالفوا بِالْعَمَلِ؛ فكأنهم قَالُوا: سمعنَا وعصينا. وَإِن لم يَقُولُوا ذَلِك وَمثله قَول الشَّاعِر:
(امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني... مهلا رويدا قد مَلَأت بَطْني)
فَقدر القَوْل من الْحَوْض وَإِن لم يقل شَيْئا.
﴿وأشربوا﴾ أَي: خلطوا، وَمِنْه فلَان مشرب اللَّوْن إِذا اخْتَلَط بياضه بالحمرة. ﴿فِي قُلُوبهم الْعجل﴾ أَي: حب الْعجل. فَحذف الْمُضَاف، وَاكْتفى بالمضاف إِلَيْهِ، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(وَكَيف تواصل من أَصبَحت... خلالته كَأبي مرحب)
أَي كخلالة أبي مرحب.
وَفِي الْقَصَص: أَن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ أَمر أَن يبرد الْعجل بالمبرد، ثمَّ أَمر أَن يذر فِي النَّهر، وَأمرهمْ بالشرب مِنْهُ، فَكل من بَقِي فِي قلبه شَيْء من حب الْعجل ظَهرت سحالة الذَّهَب على شَاربه. ﴿قل بئْسَمَا يَأْمُركُمْ بِهِ إيمَانكُمْ﴾ أَي: بئس إِيمَان يَأْمر بِهَذَا. ﴿إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾.
110
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِن كَانَت لكم الدَّار الْآخِرَة عِنْد الله خَالِصَة من دون النَّاس﴾ لأَنهم قَالُوا: لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ هودا أَو نَصَارَى؛ فعيرهم بذلك.
﴿فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ لِأَن من علم بِدُخُول الْجنَّة إِذا مَاتَ يتَمَنَّى الْمَوْت وَلَا يشق عَلَيْهِ أَن يَمُوت.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا بِمَا قدمت أَيْديهم﴾ أخبر أَنهم لن يتمنوا ذَلِك،
110
﴿سمعنَا وعصينا وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم قل بئْسَمَا يَأْمُركُمْ بِهِ إيمَانكُمْ إِن كُنْتُم مُؤمنين (٩٣) قل إِن كَانَت لكم الدَّار الْآخِرَة عِنْد الله خَالِصَة من دون النَّاس فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين (٩٤) وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا بِمَا﴾ كَأَن الله صرفهم عَن تمني الْمَوْت؛ تَصْدِيقًا للرسول، وتحقيقا لمعجزته، إِذْ كَانَ يُمكن أَن يتَمَنَّى بَعضهم ذَلِك تَكْذِيبًا للرسول.
وَفِي الْخَبَر قَالَ: " لَو تمنوا ذَلِك لأخذهم الْمَوْت فِي الْحَال ".
﴿وَالله عليم بالظالمين﴾ مِنْهُم.
111
قَوْله: ﴿ولتجدنهم أحرص النَّاس على حَيَاة﴾ يَعْنِي الْيَهُود. ﴿وَمن الَّذين أشركوا﴾ أَي: وأحرص من الَّذين أشركوا. وَهُوَ مثل قَوْلهم: " فلَان أسخى النَّاس وَمن هرم " أَي: وأسخى من هرم.
يُرِيدُونَ بِهِ هرم بن سِنَان. كَانَ رجلا مَعْرُوفا بالسخاوة، وَله شَاعِر يُقَال لَهُ: " زُهَيْر بن أبي سلمى ".
وَالْمرَاد بالذين أشركوا هَا هُنَا: الْمَجُوس وَذَلِكَ أَنهم يَقُول بَعضهم لبَعض: عش ألف سنة " بزء هزا رسال " فَأخْبر الله تَعَالَى أَن الْيَهُود أحرص النَّاس على حب الْحَيَاة وَمن الْمَجُوس الَّذين يَقُولُونَ ذَلِك.
﴿يود أحدهم لَو يعمر ألف سنة﴾ كَمَا وَصفنَا ﴿وَمَا هُوَ بمزحزحه﴾ بمبعده ﴿من الْعَذَاب أَن يعمر﴾ يَعْنِي لَا يبعدهم طول الْعُمر من الْعَذَاب.
﴿وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل من كَانَ عدوا لجبريل﴾ فِي سَبَب نزُول الْآيَة قَولَانِ:
111
﴿قدمت أَيْديهم وَالله عليم بالظالمين (٩٥) ولتجدنهم أحرص النَّاس على حَيَاة وَمن الَّذين أشركوا يود أحدهم لَو يعمر ألف سنة وَمَا هُوَ بمزحزحه من الْعَذَاب أَن يعمر وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ (٩٦) قل من كَانَ عدوا لجبريل فَإِنَّهُ﴾
أَحدهمَا: أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ للْيَهُود: أنْشدكُمْ بالرحمن الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى هَل تَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي كتابكُمْ؟ فَسَكَتُوا. ثمَّ عاودهم ثَانِيًا، فَقَالُوا: نعم. قَالَ عمر: فَلم لم تؤمنوا بِهِ؟ قَالُوا: لِأَنَّهُ ينزل عَلَيْهِ جِبْرِيل؛ وَهُوَ عدونا؛ وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْعَذَابِ، وَلَو نزل عَلَيْهِ مِيكَائِيل لآمَنَّا بِهِ. فَقَالَ عمر: أشهد أَن من كَانَ عدوا لجبريل فَهُوَ عَدو لميكائيل، وَمن كَانَ عدوا لَهما فَالله عَدو لَهُ، فَنزلت الْآيَة على وفْق قَول عمر.
وَقد روى عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " وَافَقت رَبِّي فِي ثَلَاث ".
ويروى: وَافقنِي رَبِّي فِي ثَلَاث ". أَحدهَا: هَذَا وَالثَّانِي: آيَة الْحجاب؛ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب﴾.
وَالثَّالِثَة: الصَّلَاة خلف مقَام إِبْرَاهِيم، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى﴾.
وَالْقَوْل الثَّانِي: فِي سَبَب نزُول الْآيَة: {أَن ابْن صوريا الْأَعْوَر وَكَانَ أعلم الْيَهُود أَتَى النَّبِي وَقَالَ: إِنِّي سَائِلك مسَائِل لَا يعرفهَا إِلَّا نَبِي، فَإِن أجبتني عرفتك صَادِقا. فَقَالَ: سل. قَالَ ابْن صوريا: مَا عَلامَة النَّبِي؟ قَالَ: أَن تنام عَيناهُ وَلَا ينَام قلبه. قَالَ: صدقت. ثمَّ قَالَ: كَيفَ خلق الْوَلَد من الماءين؟ قَالَ: إِذا علا مَاء الرجل مَاء الْمَرْأَة أذكر بِإِذن الله، وَإِذا علا مَاء الْمَرْأَة مَاء الرجل أنث بِإِذن الله.
وَقَالَ: وَمن ينزل عَلَيْك من الْمَلَائِكَة؟ قَالَ جِبْرِيل فَقَالَ: لَو نزل عَلَيْك مِيكَائِيل لآمَنَّا
112
﴿نزله على قَلْبك بِإِذن الله مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ وَهدى وبشرى للْمُؤْمِنين (٩٧) من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ﴾ بك؛ فَإِنَّهُ عدونا فَنزل قَوْله تَعَالَى ﴿قل من كَانَ عدوا لجبريل﴾.
(وَفِيه أَربع قراءات: " جِبْرِيل " على الْكسر واللين، " وَجِبْرِيل " على الْفَتْح واللين، " وَجِبْرِيل " على الْفَتْح والهمزة والإشباع " وجبرئيل " على الْفَتْح والهمز من غير إشباع.
و" جبر " بِمَعْنى العَبْد، و " ئيل " اسْم الله، وَكَذَلِكَ مِيكَائِيل، وَمَعْنَاهُ: " عبد الله "، أَو " عبد الرَّحْمَن ". كَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالْحسن بن عَليّ.
فجبريل على وزن قنديل وبرطيل وزنبيل، وجبرئيل على وزن عندليب، وَجِبْرِيل لَا مِثَال لَهُ.
﴿فَإِنَّهُ نزله على قَلْبك﴾ يَعْنِي: قلب مُحَمَّد ﴿بِإِذن الله مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ﴾ من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل ﴿وَهدى وبشرى للْمُؤْمِنين﴾.
113
قَوْله تَعَالَى: ﴿من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل. [وميكال] فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ﴾. هَذَا الَّذِي نزل على وفْق قَول عمر رَضِي الله عَنهُ وَقَوله: ﴿وَجِبْرِيل و (ميكال﴾ ) وَإِن دخل فِي جملَة الْمَلَائِكَة الرُّسُل؛ لَكِن خصهما بِالذكر تَشْرِيفًا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْك آيَات بَيِّنَات﴾ يَعْنِي الْقُرْآن وآياته. ﴿وَمَا يكفر بهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾ أَي: الْكَافِرُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو كلما عَاهَدُوا عهدا نبذه فريق مِنْهُم﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ الْعَهْد الَّذِي
113
﴿وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْك آيَات بَيِّنَات وَمَا يكفر بهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٩٩) أَو كلما عَاهَدُوا عهدا نبذه فريق مِنْهُم بل أَكْثَرهم لَا يُؤمنُونَ (١٠٠) وَلما جَاءَهُم رَسُول من عِنْد الله مُصدق لما مَعَهم نبذ فريق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب كتاب﴾ أَخذه الله على الْيَهُود أَن يُؤمنُوا بِمُحَمد؛ فخالفوا ونبذوا.
وَقيل: هُوَ الْعَهْد الَّذِي أَخذه رَسُول الله على بني قُرَيْظَة وَالنضير أَن لَا يعاونوا الْمُشْركين على قِتَاله. فخالفوا ونبذوا. والنبذ. الطرح، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(نظرت إِلَى عنوانه فنبذته كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا)
﴿بل أَكْثَرهم لَا يُؤمنُونَ﴾ وَقد آمن قَلِيل مِنْهُم.
114
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلما جَاءَهُم رَسُول من عِنْد الله﴾ يَعْنِي: مُحَمَّدًا.
﴿مُصدق لما مَعَهم﴾ من الْكتب ﴿نبذ فريق من الَّذين أَتَوا الْكتاب كتاب الله وَرَاء ظُهُورهمْ﴾ أَرَادَ بِهِ التَّوْرَاة.
قَالَ الشّعبِيّ: كَانُوا يقرءُون التَّوْرَاة وَلَا يعْملُونَ بهَا. فَكَذَلِك نبذهم.
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: أدرجوها فِي الْحَرِير والديباج، وَحلوهَا بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، ثمَّ لم يعملوا بهَا، فهم نابذون.
وَقيل: أَرَادَ بِالْكتاب الْقُرْآن ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ﴾ أَي: لما خالفوا مَا علمُوا كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين﴾ يَعْنِي: الْيَهُود ﴿مَا تتلوا الشَّيَاطِين﴾ أَي: مَا تلت، مُسْتَقْبل بِمَعْنى الْمَاضِي. قَالَ الحطيئة:
(شهد الحطيئة حِين يلقِي ربه أَن الْوَلِيد أَحَق بالغدر)
يَعْنِي: يشْهد.
وَمعنى قَوْله: ﴿تتلوا﴾ أَي: تحكي وتقص ﴿على ملك سُلَيْمَان﴾ على عهد
114
﴿الله وَرَاء ظُهُورهمْ كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ (١٠١) وَاتبعُوا مَا تتلو الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان وَمَا كفر سُلَيْمَان وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر وَمَا﴾ ملك سُلَيْمَان. وَقيل: فِي ملك سُلَيْمَان. والقصة فِي ذَلِك: مَا روى أَن فِي زمن سُلَيْمَان صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَت سحرة، وَلَهُم فِي ذَلِك كتب، فَانْتزع سلمَان كتب السحر من أَيْديهم ودفنها فِي صندوق تَحت كرسيه، فَلَمَّا توفّي قَالَت الشَّيَاطِين للإنس: أَلا ندلكم على كنز كَانَ سُلَيْمَان يفعل بِهِ مَا كَانَ: فَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْكتب. وَقَالَ الْجُهَّال مِنْهُم: بِهِ كَانَ يفعل سُلَيْمَان مَا يفعل.
وَقيل: لما لم نزع الله الْملك من سُلَيْمَان، كتب الشَّيَاطِين كتب السحر، وَدَفَنُوهَا تَحت الْكُرْسِيّ، فَلَمَّا رد الله الْملك إِلَيْهِ. بَقِي ذَلِك السحر مَدْفُونا كَمَا كَانَ، فَلَمَّا توفّي سُلَيْمَان اسْتخْرجُوا تِلْكَ الْكتب وَقَالُوا إِن سُلَيْمَان كَانَ يفعل بِهِ مَا يفعل. وَقيل: إِن الشَّيْطَان تمثل فِي صُورَة النَّبِي وَقَالَ لَهُم ذَلِك. وَقيل: إِنَّه وسوس إِلَيْهِ ذَلِك، فَهَذَا الَّذِي تلت الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان. ﴿وَمَا كفر سُلَيْمَان﴾ أَي: وَمَا سحر سُلَيْمَان. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْكفْر الْمَعْهُود.
﴿وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا﴾ يقْرَأ مخففا ومشددا فَإِذا شدد عمل فِي نصب الشَّيَاطِين. وَإِذا خفف بَقِي على الرّفْع ﴿كفرُوا﴾ سحروا. وَيحْتَمل الْكفْر الْمَعْهُود ﴿يعلمُونَ النَّاس السحر﴾ وَالسحر فِي اللُّغَة عبارَة عَن تمويهات وتخييلات وخدع، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
﴿أرانا موضِعين (لحتم﴾ غيب ونسحر بِالطَّعَامِ وبالشراب)
أَي: نخدع.
وَقَالَ الْفراء: السحر: قَول يَقُوله إِنْسَان يَأْخُذ بِهِ الرجل عَن امْرَأَته.
115
﴿أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل هاروت وماروت وَمَا يعلمَانِ من أحد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا﴾
وَحكى عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: السحر يحِيل ويمرض وَقد يقتل. وَالسحر يتَحَقَّق وجوده على مَذْهَب أهل السّنة ويؤثر، وَلَكِن الْعَمَل بِهِ كفر، وتأثيره مَا ذكرنَا، وَقيل: إِنَّه يُؤثر فِي قلب الْأَعْيَان؛ فَيجْعَل الآدمى على صُورَة الْحمار، وَالْحمار على صُورَة الْكَلْب. وَالأَصَح أَنه يخيل ذَلِك كَمَا بَينا.
وَقد سحر رَسُول الله فأثر فِيهِ؛ روى: " أَن لبيد بن أعصم الْيَهُودِيّ سحر النَّبِي حَتَّى كَانَ يخيل إِلَيْهِ أَنه يفعل الشَّيْء وَلَا يَفْعَله، فأطلعه الله عَلَيْهِ، فَأمر بِهِ فاستخرج مِنْهُ بِئْر ذِي [أروان] وَكَانَ عَلَيْهِ إِحْدَى عشرَة عقدَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ المعوذتين؛ إِحْدَى عشرَة آيَة، فَكلما قَرَأَ آيَة انْحَلَّت عقدَة، حَتَّى إِذا انْحَلَّت العقد فَكَأَنَّمَا أنشط من عقال ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ﴾ قرىء على النَّفْي وَهُوَ محكي عَن عَطِيَّة بن عَوْف، فعلى هَذَا فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، تَقْدِيره: وَمَا كفر سُلَيْمَان، وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل هاروت وماروت وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا، يعلمُونَ النَّاس السحر، وَمَا يعلمَانِ من أحد وَهَذَا قَول غَرِيب.
وَالصَّحِيح: أَن " مَا " بِمَعْنى " الَّذِي "، يَعْنِي: وَالَّذِي أنزل على الْملكَيْنِ.
وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس على " الْملكَيْنِ " بِكَسْر اللَّام وَهُوَ فِي الشواذ. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هما كَانَا علجين من علوج بابل، وَلم يَكُونَا ملكَيْنِ.
وَالصَّحِيح أَنَّهُمَا كَانَا ملكَيْنِ وَهُوَ الْقِرَاءَة الْمَعْهُودَة.
والقصة فِي ذَلِك مَا حكى ابْن عمر عَن كَعْب الْأَحْبَار؛ وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح، وَجَمَاعَة من الْمُفَسّرين قَالُوا: إِن الْمَلَائِكَة تعجبوا من كَثْرَة معاصي بني آدم، فَقَالَ
116
﴿نَحن فتْنَة فَلَا تكفر فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه وَمَا هم﴾ لَهُم الله تَعَالَى: لَو أنزلتكم إِلَى الأَرْض. وَركبت فيهم مَا ركبت فِيكُم؛ لفعلتم مثل مَا فعلوا. فَاخْتَارُوا من خيارهم ملكَيْنِ؛ هاروت وماروت؛ فأنزلهما الله تَعَالَى إِلَى الأَرْض، وَأخذ عَلَيْهِمَا أَن أَلا يشركا وَلَا يقتلا، وَلَا يزنيا. قَالَ كَعْب: فَمَا مضى عَلَيْهِمَا الْيَوْم إِلَّا (وفعلا) الْكل.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمُزنِيّ بهَا كَانَت زهرَة؛ فمسخت شهابا، وَرفعت إِلَى السَّمَاء، فَكَانَ ابْن عمر كلما رَآهَا لعنها.
وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهُمَا لما ارتكبا ذَلِك خيرهما الله تَعَالَى بَين عَذَاب الدُّنْيَا وَعَذَاب الْآخِرَة؛ فاختارا عَذَاب الدُّنْيَا؛ فعلقا بِأَرْجُلِهِمَا.
قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح رؤوسهما [مطوية] تَحت أجنحتهما.
وَأما بابل: قَالَ ابْن مَسْعُود: هِيَ أَرض الْكُوفَة. وَقيل: هُوَ جبل دماوند. وَقيل: هُوَ من نَصِيبين إِلَى رَأس الْعين. وَإِنَّمَا سمي بابل لِأَنَّهُ تبلبلت فِيهِ الألسن. أَي: تَفَرَّقت وانتشرت فِي الْبِلَاد.
﴿وَمَا يعلمَانِ من أحد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر﴾ والفتنة: الِابْتِلَاء. وَمِنْه يُقَال: فتنت الذَّهَب فِي النَّار. أَي: اختبرته، ليتبين الْجيد من الرَّدِيء.
فَإِن قيل: مَا معنى إِنْزَال السحر على الْملكَيْنِ، وَمَا معنى تَعْلِيم السحر من الْملكَيْنِ، وَكِلَاهُمَا مستبعد؟ !
قيل: أما إِنْزَال السحر: بِمَعْنى التَّعْلِيم والإلهام يَعْنِي علما وألهما السحر.
وَقيل: هُوَ حَقِيقَة الْإِنْزَال، وَهُوَ إِنْزَال هَيْئَة السحر وكيفيته؛ لِيَنْتَهُوا عَنهُ، وَأما تَعْلِيم السحر من الْملكَيْنِ: بِمَعْنى الْإِعْلَام. وَمثله قَول الشَّاعِر:
117
﴿بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَلَقَد علمُوا لمن اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق ولبئس مَا شروا بِهِ أنفسهم لَو كَانُوا﴾
(تعلم أَن بعد [الغي رشدا] وَأَن لهَذِهِ الغبر انقشاعا)
يعْنى: اعْلَم.
وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة التَّعْلِيم، ثمَّ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهُمَا يعلمَانِ كَيْفيَّة السحر لِيَنْتَهُوا) عَنهُ كَانَ الرجل يأتيهما فَيَقُول: مَا الَّذِي نهى الله عَنهُ؟ فَيَقُولَانِ: الشّرك. فَيَقُول: وَمَا الشّرك؟ فَيَقُولَانِ: كَذَا وَكَذَا.
ويأتيهما آخر فَيَقُول: مَا الَّذِي نهى الله عَنهُ؟ فَيَقُولَانِ: السحر. فَيَقُول: وَمَا السحر [فيعلمانه] كَيْفيَّة السحر لينتهي عَنهُ، وَكَذَا فِي كل الْمعاصِي.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه تَعْلِيم ابتلاء، سلطهما الله على تَعْلِيم السحر ابتلاء للنَّاس حَتَّى أَن كل من تعلم واعتقد وَعمل بِهِ كفر
وَمن لم يتَعَلَّم وَلم يعْمل بِهِ؛ لم يكفر. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا نَحن فتْنَة﴾ أَي: بلية ﴿فَلَا تكفر﴾ أَي: لَا تتعلم السحر. فتعمل بِهِ؛ فتكفر.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه﴾ يَعْنِي السحر الَّذِي يُؤْخَذ بِهِ الرجل عَن امْرَأَته كَمَا وَصفنَا.
﴿وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله﴾ مَعْنَاهُ: إِلَّا بتكوين الله، فالساحر يسحر، وَالله يكون.
قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: مَعْنَاهُ: إِلَّا بِقَضَاء الله وَقدره.
﴿ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ﴾ يَعْنِي: السحر يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ.
(وَلَقَد علمُوا لمن اشْتَرَاهُ) اخْتَارَهُ ﴿مَاله فِي الْآخِرَة من خلاق﴾ من نصيب.
118
(يعلمُونَ (١٠٢) وَلَو أَنهم آمنُوا وَاتَّقوا لمثوبة من عِنْد الله خير لَو كَانُوا يعلمُونَ (١٠٣) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَقولُوا رَاعنا وَقُولُوا انظرنا واسمعوا وللكافرين)
﴿ولبئس مَا شروا بِهِ أنفسهم لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ بئس اخْتِيَار اختاروه لأَنْفُسِهِمْ.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد قَالَ: ﴿وَلَقَد علمُوا لمن اشْتَرَاهُ مَاله فِي الْآخِرَة من خلاق﴾ فَمَا معنى قَوْله: ﴿لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ وَقد أخبر أَنهم قد علمُوا؟
قيل: أَرَادَ بقوله: ﴿وَلَقَد علمُوا﴾ الشَّيَاطِين. وَبِقَوْلِهِ: ﴿لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾ الْيَهُود.
وَقيل: كِلَاهُمَا فِي الْيَهُود؛ لكِنهمْ لما لم يعملوا بِمَا علمُوا؛ فكأنهم لم يعلمُوا.
119
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو أَنهم آمنُوا وَاتَّقوا﴾ آمنُوا بك يَا مُحَمَّد ﴿وَاتَّقوا﴾ الْكفْر وَالسحر ﴿لمثوبة﴾ لثواب ﴿من عِنْد الله خير لَو كَانُوا يعلمُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَقولُوا رَاعنا﴾. مَعْنَاهُ: أرعنا سَمعك واسمع منا وَحَقِيقَته (فرغ) سَمعك لكلامنا.
﴿وَقُولُوا أنظرنا﴾ أَي: انتظرنا، وَقيل: انْظُر إِلَيْنَا.
وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " أنظرنا " أَي: أمهلنا. وَقَالَ الشَّاعِر:
﴿أَبَا هِنْد فَلَا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا﴾
أَي: أمهلنا.
﴿واسمعوا﴾ أَي: أطِيعُوا. ﴿وللكافرين عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: عَذَاب مؤلم. وَفِي سَبَب نزُول الْآيَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن الصَّحَابَة كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي: " رَاعنا " ويريدون بِهِ مَا ذكرنَا، فَسَمعهُ الْيَهُود. وَكَانَ ذَلِك عِنْدهم سبا وَهُوَ بِمَعْنى يَا أَحمَق.
وَقد قَرَأَ الْأَعْمَش: " رَاعنا " منونا، وَقَرَأَ الْحسن: " راعونا " وهما لُغَتَانِ من الرعونة،
119
﴿عَذَاب أَلِيم (١٠٤) مَا يود الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَلَا الْمُشْركين أَن ينزل عَلَيْكُم من خير من ربكُم وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل﴾ فَلَمَّا سَمعه الْيَهُود فرحوا بِهِ؛ حَيْثُ رَأَوْهُمْ يَسُبُّونَهُ وَلَا يعلمُونَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِك للنَّبِي مُوَافقَة للْمُسلمين فِي الظَّاهِر، وَيضْحَكُونَ فِيمَا بَينهم، إِنَّا نسبه وهم لَا يعلمُونَ؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا تَقولُوا رَاعنا وَقُولُوا أنظرنا﴾
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْلهم " رَاعنا " كَانَ فِيهِ جفوة وخشونة؛ لِأَن حَقِيقَته فرغ سَمعك لكلامنا حَتَّى تفهم، وَفِي هَذَا نوع جفَاء؛ فَنزل قَوْله: ﴿لَا تَقولُوا رَاعنا وَقُولُوا انظرنا﴾ حَتَّى يَقُولُوا مَا يَقُولُوا على طَرِيق التبجيل وَالْمَسْأَلَة. ويختاروا من الْأَلْفَاظ أحْسنهَا وَمن الْمعَانِي أحكمها.
120
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا يود الَّذين كفرُوا﴾ أَي: مَا يحب، والود: الْحبّ.
وَمعنى الْآيَة: أَن الْأَنْبِيَاء قبله بعثوا من ولد إِسْحَاق، فَلَمَّا بعث النَّبِي من ولد إِسْمَاعِيل؛ لم يَقع ذَلِك بود الْيَهُود ومحبتهم. وَأما الْمُشْركُونَ فَإِنَّمَا لم تقع نبوته بودهم، لِأَنَّهُ جَاءَ بتضليلهم، وعيب آلِهَتهم، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا يود الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَلَا الْمُشْركين أَن ينزل عَلَيْكُم﴾ يَعْنِي عَلَيْك يَا مُحَمَّد. ذكر الْوَاحِد بخطاب الْجمع على مَا هُوَ عَادَة الْعَرَب ﴿من خير من ربكُم﴾ يَعْنِي النُّبُوَّة. ﴿وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس وَأكْثر الْمُفَسّرين: الرَّحْمَة بِمَعْنى النُّبُوَّة هَاهُنَا. وَقيل: بِمَعْنى الْإِسْلَام. وَالْهِدَايَة إِلَيْهِ. ﴿وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم﴾ الْفضل [ابْتِدَاء] إِحْسَان بِلَا عِلّة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا ننسخ من آيَة﴾ قَرَأَ ابْن عَامر " مَا ننسخ " بِضَم النُّون وَكسر السِّين وَمَعْنَاهُ مَا تَجدهُ مَنْسُوخا وَهُوَ مثل قَوْلهم: أحمدت فلَانا. أَي: وجدته مَحْمُودًا، وأبخلت فلَانا. أَي. وجدته بَخِيلًا.
الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة ﴿مَا ننسخ﴾ على الْفَتْح.
120
﴿الْعَظِيم (١٠٥) مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا ألم تعلم أَن الله على كل شَيْء قدير (١٠٦) ﴾
والنسخ فِي اللُّغَة: رفع الشَّيْء وَإِقَامَة غَيره مقَامه. يُقَال: نسخت الشَّمْس الظل. أَي رفعته وأقامت الضياء مقَامه.
وَقد يكون بِمَعْنى رفع الشَّيْء من غير إِقَامَة غَيره مقَامه.
يُقَال: نسخت الرِّيَاح الْآثَار إِذا رفعتها من أَصْلهَا من غير شَيْء يقوم مقَامهَا. والنسخ جَائِز فِي الْجُمْلَة بِاتِّفَاق الْأمة. وَنسخ الْقُرْآن على وُجُوه:
مِنْهَا نسخ يُوجب رفع التِّلَاوَة وَالْحكم جَمِيعًا. وَذَلِكَ مثل مَا روى عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف " أَن قوما من الصَّحَابَة قَامُوا لَيْلَة ليقرءوا سُورَة فَلم يذكرُوا مِنْهَا إِلَّا قَوْله: ﴿بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم﴾ فَغَدوْا على النَّبِي وَأَخْبرُوهُ بذلك فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " تِلْكَ سُورَة رفعت بتلاوتها وأحكامها ".
وَقيل إِن سُورَة الْأَحْزَاب كَانَت مثل سُورَة الْبَقَرَة؛ فَرفع أَكْثَرهَا تِلَاوَة وَحكما.
وَمن النّسخ مَا يُوجب رفع التِّلَاوَة دون الحكم وَذَلِكَ مثل آيَة " الرَّجْم " رفعت تلاوتها وَبَقِي حكمهَا.
وَمِنْه مَا يُوجب رفع الحكم دون التِّلَاوَة. مثل آيَة " الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين " وَآيَة " عدَّة الْوَفَاة بالحول " وَمثلهَا آيَة " التَّخْفِيف فِي الْقِتَال " وَآيَة " الممتحنة " وَنَحْو ذَلِك.
وَمن وُجُوه النّسخ مَا يُوجب رفع الحكم وَإِقَامَة غَيره مقَامه، وَذَلِكَ مثل الْقبْلَة نسخت إِلَى الْكَعْبَة، وَالْوَصِيَّة نسخت إِلَى الْمِيرَاث، وعدة الْوَفَاة نسخت من الْحول إِلَى أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، ومقاومة الْوَاحِد الْعشْرَة فِي الْقِتَال نسخت إِلَى مقاومة الْوَاحِد الِاثْنَيْنِ. وَنَحْو ذَلِك.
121
﴿ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا﴾
وَمِنْهَا: رفع الحكم من غير إِقَامَة شَيْء مقَامه؛ وَذَلِكَ مثل امتحان النِّسَاء، نسخ من غير خلف. وَكَذَلِكَ أَمْثَال هَذَا.
رَجعْنَا إِلَى تَفْسِير الْآيَة فَقَوله: ﴿مَا ننسخ من آيَة﴾ أَي: نرفع من آيَة. فَأَما قَوْله: ﴿أَو ننسها﴾ اخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: أَو نتركها فَلَا ننسخ. وَهُوَ مثل قَوْله: ﴿نسو الله فنسيهم﴾ أَي تركُوا الله فتركهم. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(إِن عَليّ عقبَة أقضيها لست بناسيها وَلَا منسيها)
أَي: لست بناسيها وَلَا تاركها. فعلى هَذَا يرجع قَوْله: ﴿نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا﴾ إِلَى قَوْله: ﴿مَا ننسخ من آيَة﴾.
وَقيل: معنى قَوْله: ﴿أَو ننسها﴾ يعْنى ننسيها على قَلْبك يَا مُحَمَّد. وَذَلِكَ مثل مَا روينَا فِي حَدِيث أبي أُمَامَة.
وروت عَائِشَة " أَن رَسُول الله سمع رجلا يقْرَأ سُورَة، فَقَالَ: إِن هَذَا الرجل ذَكرنِي آيَة كنت نسيتهَا ". وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى ﴿سنقرئك فَلَا تنسى إِلَّا مَا شَاءَ الله﴾ وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " مَا ننسك من آيَة أَو ننسخها " وَهَذَا يُؤَيّد هَذَا القَوْل؛ فعلى هَذَا يكون الإنساء على الْقلب فِي معنى النّسخ.
وَفِيه قَول ثَالِث: معنى قَوْله أَو " ننسها " أَي: نأمر بِتَرْكِهَا، ونبيح تَركهَا، وَذَلِكَ مثل نسخ آيَة الممتحنة وَنَحْوهَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ الإنساء بِمَعْنى إِبَاحَة التّرْك. فَأَي فرق بَينه وَبَين النّسخ.
قُلْنَا: هما وَجْهَان من النّسخ إِلَّا أَنه أَرَادَ بالنسخ الأول: رفع الحكم وَإِقَامَة غَيره مقَامه، وَأَرَادَ بِالثَّانِي: نسخ الحكم، من غير إِقَامَة غَيره مقَامه. كَمَا ذكرنَا.
122
﴿نصير (١٠٧) أم تُرِيدُونَ أَن تسألوا رَسُولكُم كَمَا سُئِلَ مُوسَى من قبل وَمن
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو. وَابْن كثير " أَو ننسأها " على الْفَتْح والهمز وَحكى أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام، عَن أبي نعيم الْقَارئ. أَنه قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله فِي الْمَنَام، فَقَرَأت عَلَيْهِ بِحرف أبي عَمْرو فَغير على شَيْئَيْنِ: فَقَوله: " وأرنا " فَقَالَ: " قل وأرنا " بِكَسْر الرَّاء قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَأَحْسبهُ قَالَ الْحَرْف الثَّانِي: قَوْله: أَو " ننسأها " فَقَالَ: قل: " أَو ننسها " النِّسَاء والإنساء: بِمَعْنى التَّأْخِير، تَقول الْعَرَب: أنسأ الله أَجلك ونسأ الله فِي أَجلك. فِي مَعْنَاهُ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: " أَو ننساها " أَي: نرفع تلاوتها، ونؤخر حكمهمَا، كَمَا فعل فِي آيَة " الرَّجْم ". وَيكون النّسخ الأول بِمَعْنى رفع التِّلَاوَة وَالْحكم جَمِيعًا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: " أَو ننسأها " أَي نؤخر إنزالها، ونتركها فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فَلَا تنزل.
وَقَوله: " مَا ننسخ من آيَة " يَعْنِي: مَا ينزل، أَو " ننسأها " فَلَا ينزل، نأتي بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا.
فَإِن قيل: أيش معنى قَوْله: {نأت بِخَير [مِنْهَا] ﴾
وآيات الْقُرْآن سَوَاء، لَا فضل لبعضها على بعض. وَإِن أَرَادَ بِهِ الْخَيْر فِي السهولة، فقد نسخ الأسهل بالأشق، مثل الصَّوْم كَانَ على التَّخْيِير بَينه وَبَين الْفِدْيَة، فنسخه بِصَوْم رَمَضَان على الحتم. فَمَا معنى الْخَيْرِيَّة؟
قُلْنَا: قد قيل، تَقْدِيره: نأت مِنْهَا بِخَير، أَي: نرفع آيَة ونأت بِآيَة.
وَالصَّحِيح: أَنه أَرَادَ بِالْخَيرِ الْأَفْضَل، يَعْنِي فِي النَّفْع والسهولة. وَمَعْنَاهُ: نأت بِخَير مِنْهَا، أَي: أَنْفَع وأسهل.
123
﴿يتبدل الْكفْر بِالْإِيمَان فقد ضل سَوَاء السَّبِيل (١٠٨) ود كثير من أهل الْكتاب {أَو مثلهَا﴾ فِي النَّفْع والسهولة. وَإِن نسخ الأسهل بالأشق فَمَعْنَى الْخَيْر فِيهِ بالثواب. فَإِن ثَوَاب الأشق أَكثر. فَإِن قيل: هما سَوَاء فِي (امْتِثَال) الْأَمر فَكيف يَخْتَلِفَانِ فِي الثَّوَاب؟ وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى يجوز أَن يثيب على الأشق أَكثر مِمَّا يثيب على الأسهل، وَقد وعد الثَّوَاب على صَوْم رَمَضَان مَا لم يعد على الصَّوْم الْمُخَير فِيهِ أَولا.
وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بقوله: ﴿نأت بِخَير مِنْهَا﴾ فِي نسخ الْقبْلَة خَاصَّة.
وَبِقَوْلِهِ: ﴿أَو مثلهَا﴾ على الْعُمُوم، وَذَلِكَ أَن التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة كَانَ خيرا للْعَرَب وأدعى لَهُم إِلَى الْإِسْلَام؛ إِذْ كَانَت فِي قُلُوبهم نفرة عَن التَّوَجُّه إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس؛ لِأَنَّهُ قبله الْيَهُود.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بقوله: ﴿نأت بِخَير مِنْهَا﴾ يعْنى: فِي حَال نسخ الأول فَإِن الثَّانِي - الَّذِي نزل جَدِيدا وَيعْمل بِهِ - خير من الأول الْمَنْسُوخ الَّذِي لَا يعْمل بِهِ، وَهَذَا قَول بعيد.
124
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تعلم أَن الله على كل شَيْء قدير﴾ فَقَوله: ﴿ألم تعلم﴾ وَإِن كَانَ على صِيغَة الِاسْتِفْهَام، لَكِن المُرَاد بِهِ التَّقْرِير. وَمَعْنَاهُ: أَنَّك تعلم أَن الله على كل شَيْء قدير. وَكَذَلِكَ قَوْله: ﴿ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ وَأما الْملك: هُوَ الْقُدْرَة التَّامَّة. وَمِنْه الْملك. وَهُوَ السُّلْطَان التَّام الْقُدْرَة.
﴿وَمَا لكم من دون الله﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: من بعد الله. وَقَالَ غَيره: بِمَا سوى الله. ﴿من ولى﴾ أَي: وَال وَهُوَ الْقيم بالأمور ﴿وَلَا نصير﴾ وَلَا مَانع من الْعَذَاب.
قَوْله: ﴿أم تُرِيدُونَ أَن تسألوا رَسُولكُم﴾ " أم " ترد فِي اللُّغَة على وُجُوه.
124
﴿لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا حسدا من عِنْد أنفسهم من بعد مَا تبين لَهُم﴾
فَتكون بِمَعْنى التَّقْرِير وَهُوَ المُرَاد هَاهُنَا. وَمَعْنَاهُ: أَنْتُم تُرِيدُونَ.
وَقد ترد بِمَعْنى التشكيك، يُقَال: رَأَيْت زيدا أم عمرا؟
وَقد ترد " أم " بِمَعْنى بل، قَالَ الشَّاعِر:
(بَدَت مثل قرن الشَّمْس فِي رونق الضُّحَى وَصورتهَا أم أَنْت فِي الْعين أَمْلَح)
أَي: بل أَنْت فِي الْعين أَمْلَح.
﴿أَن تسألوا رَسُولكُم كَمَا سُئِلَ مُوسَى من قبل﴾ وفى مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم سَأَلُوا الرَّسُول فَقَالُوا: لن نؤمن لَك حَتَّى تَأتي بِاللَّه وَالْمَلَائِكَة قبيلا كَمَا قَالَ قوم مُوسَى لمُوسَى: ﴿لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة﴾.
وَالثَّانِي: أَنهم سَأَلُوا الرَّسُول أَن يَجْعَل الصَّفَا ذَهَبا؛ كَمَا سَأَلَ قوم عِيسَى من عِيسَى الْمَائِدَة. وَالْأول أظهر. وَالْمرَاد بِالْآيَةِ: مَنعهم عَن السؤالات الْمَفْتُوحَة بعد ظُهُور الْبَرَاهِين.
﴿وَمن يتبدل الْكفْر بِالْإِيمَان﴾ أَي: يسْتَبْدل الْكفْر بِالْإِيمَان. وَذَلِكَ أَن مثل ذَلِك السُّؤَال بعد ظُهُور الْبُرْهَان كفر.
﴿فقد ضل سَوَاء السَّبِيل﴾ أَي: وسط السَّبِيل.
وَقيل: قصد السَّبِيل. وهما سَوَاء، وَحكى عَن عِيسَى بن عمر النَّحْوِيّ أَنه قَالَ: مازلت أكتب حَتَّى انْقَطع سوائي أَي: وسطي.
125
قَوْله تَعَالَى: ﴿ود كثير من أهل الْكتاب﴾ يَعْنِي: أحب وَتمنى كثير من أهل
125
﴿الْحق فاعفوا واصفحوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره إِن الله على كل شَيْء قدير (١٠٩) الْكتاب {لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا﴾ قيل: نزل ذَلِك فِي عمار وَحُذَيْفَة؛ فَإِن الْيَهُود دعوهم إِلَى دينهم فَقَالَ عمار: كَيفَ نقض الْعَهْد فِيكُم؟ قَالُوا: شَدِيد. قَالَ عمار: فقد عَاهَدت الله أَلا أكفر بِمُحَمد. فَقَالُوا لِحُذَيْفَة: مَا تَقول أَنْت؟ قَالَ: الله ربى وَمُحَمّد نبيي، وَالْقُرْآن إمامي. فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقيل: هُوَ فِي حق الْكفَّار وَالْمُسْلِمين على الْعُمُوم؛ لأَنهم مازالوا يودون عود الْمُسلمين إِلَى الْكفْر.
﴿حسدا﴾ وَذَلِكَ أَنهم عرفُوا أَن مُحَمَّدًا نبيي حق، وَأَنَّهُمْ باتباعه نالوا من الْإِسْلَام مَا لم ينالوه؛ فحسدوهم على دينهم.
فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله ﴿حسدا من عِنْد أنفسهم﴾ وَلَا يكون الْحَسَد من عِنْد الْغَيْر؟ قيل: مَعْنَاهُ: من تلقائهم لم ينزل بِهِ كتاب وَلَا ورد بِهِ أَمر.
وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها: ود كثير من أهل الْكتاب من عِنْد أنفسهم لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا حسدا.
﴿من بعد مَا تبين لَهُم الْحق﴾ من بعد مَا ظهر أَنه حق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فاعفوا واصفحوا﴾ الْعَفو: المحو، والصفح: الْإِعْرَاض، وَإِنَّمَا نزل هَذَا قبل آيَة الْقِتَال، ثمَّ نسخ بِآيَة الْقِتَال.
﴿حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره﴾ يَعْنِي: بشرع الْقِتَال. وَقَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: حَتَّى يَأْتِي الله بِأَمْر: من فتح قسطنطينية، ورومية، وعمورية.
وَقيل: حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره: من فتح قرى الْيَهُود، مثل خَبِير، وفدك، وإجلاء بني النَّضِير، وَمثل بني قُرَيْظَة.
﴿إِن الله على كل شَيْء قدير﴾ أَي قَادر.
126
{وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله إِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (١١٠) وَقَالُوا لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ هودا أَو نَصَارَى تِلْكَ أمانيهم قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين (١١١) بلَى من أسلم وَجهه لله وَهُوَ
127
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة﴾ مَعْلُوم.
﴿وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير﴾ من طَاعَة ﴿تَجِدُوهُ عِنْد الله﴾ ذخيرة لَا تضيع ﴿إِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ هودا أَو نَصَارَى﴾ تَقْدِيره: قَالَت الْيَهُود: لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ يَهُودِيّا. وَقَالَت النَّصَارَى: لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ نَصْرَانِيّا؛ فاختصر اختصارا.
نزلت الْآيَة فِي وَفد نَجْرَان، وَكَانُوا نَصَارَى، اجْتَمعُوا فِي مجْلِس رَسُول الله مَعَ الْيَهُود، فتنازعوا وَكفر بَعضهم بَعْضًا، وَكذب بَعضهم بَعْضًا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَات ".
﴿تِلْكَ أمانيهم﴾ يعْنى: تمنيهم الْبَاطِل ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ ائْتُوا بِالْحجَّةِ على مَا زعمتم ﴿إِن كُنْتُم صَادِقين بلَى من أسلم﴾ يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمر على تمنوا بل الحكم لِلْإِسْلَامِ
﴿من أسلم وَجهه﴾ أخْلص عِبَادَته لله ﴿وَهُوَ محسن﴾ مُؤمن ﴿فَلهُ أجره عِنْد ربه وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَت الْيَهُود لَيست النَّصَارَى على شَيْء وَقَالَت النَّصَارَى لَيست الْيَهُود على شَيْء﴾ وَهُوَ مَا جرى فِي مجْلِس رَسُول الله من مُنَازعَة الْيَهُود مَعَ النَّصَارَى. فَأَما قَوْله: ﴿وهم يَتلون الْكتاب﴾ يَعْنِي: أَنه يكذب بَعضهم بَعْضًا ويضلل بَعضهم بَعْضًا وهم يَتلون الْكتاب، وَلَيْسَ فِي كِتَابهمْ هَذَا الِاخْتِلَاف، فدلت تلاوتهم الْكتاب ومخالفتهم مَا فِي الْكتاب على كَونهم على الْبَاطِل.
﴿كَذَلِك قَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ مثل قَوْلهم﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ الْمُشْركين. قَالَه ابْن عَبَّاس وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ عوام النَّصَارَى.
﴿فَالله يحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ يُرِيهم دُخُول الْمُسلمين
127
{محسن فَلهُ أجره عِنْد ربه وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقَالَت الْيَهُود لَيست النَّصَارَى على شَيْء وَقَالَت النَّصَارَى لَيست الْيَهُود على شَيْء وهم يَتلون الْكتاب كَذَلِك قَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ مثل قَوْلهم فَالله يحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا الْجنَّة ودخولهم النَّار.
128
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن أظلم مِمَّن منع مَسَاجِد الله أَن يذكر فِيهَا اسْمه وسعى فِي خرابها﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة من الْمُفَسّرين: أَرَادَ بِالْآيَةِ النَّصَارَى الَّذِي عاونوا بخْتنصر الْمَجُوسِيّ على تخريب بَيت الْمُقَدّس.
﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يدخلوها إِلَّا خَائِفين﴾ وَذَلِكَ أَن بَيت الْمُقَدّس مَوضِع حج النَّصَارَى، وَمَوْضِع زيارتهم، فَلَا يدْخلهُ نَصْرَانِيّ إِلَّا خَائفًا، من ذَلِك الْوَقْت إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ﴿لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي﴾ أَي: جِزْيَة لذميهم وَقتل لحربيهم ﴿وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم﴾ أَي: عَذَاب النَّار.
وَفِيه قَول آخر: أَن الْآيَة نزلت فِي الْمُشْركين الَّذين منعُوا رَسُول الله من دُخُول مَكَّة عَام الْحُدَيْبِيَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وسعى فِي خرابها﴾ لأَنهم منعُوا الْمُسلمين من دُخُول الْمَسْجِد. وَلم يسلمُوا حَتَّى دخلُوا؛ فكأنهم سعوا فِي خرابها.
﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يدخلوها إِلَّا خَائِفين﴾ وَهَذَا شرعنا أَلا يُمكن مُشْرك من دُخُول الْحرم. وَلَا يدْخلهُ أحد مِنْهُم إِلَّا خَائفًا.
﴿لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي﴾ هوان ﴿وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَللَّه الْمشرق وَالْمغْرب فأينما توَلّوا فثم وَجه الله﴾ فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي نسخ الْقبْلَة أَي: الْكَعْبَة؛ فَإِنَّهَا لما حولت إِلَى الْكَعْبَة عير الْيَهُود الْمُسلمين، وَقَالُوا: لَيست لَهُم قبْلَة مَعْلُومَة، فَتَارَة يستقبلون هَكَذَا، وَتارَة هَكَذَا، فَنزلت الْآيَة ردا لقَولهم.
128
﴿كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمن أظلم مِمَّن منع مَسَاجِد الله أَن يذكر فِيهَا اسْمه وسعى فِي خرابها أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يدخلوها إِلَّا خَائِفين لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي﴾
وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا روى عمر " أَن رَسُول الله كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته أَيْنَمَا تَوَجَّهت بِهِ رَاحِلَته؛ فَنزلت الْآيَة فِي إِبَاحَة النَّافِلَة على الرَّاحِلَة أَيْنَمَا تَوَجَّهت بِهِ الرَّاحِلَة ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: روى جَابر أَنه قَالَ: " كُنَّا فِي سفر، فاشتبهت علينا الْقبْلَة، فصلى كل وَاحِد منا إِلَى جِهَة، وَخط بَين يَدَيْهِ خطا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا فَإِذا الخطوط إِلَى غير الْقبْلَة، فسألنا عَن ذَلِك رَسُول الله، فَلم يَأْمُرنَا بِالْإِعَادَةِ، وَنزلت الْآيَة فِي مَعْنَاهُ ".
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنه نزلت فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، حِين لم تكن الْقبْلَة مَعْلُومَة، وَجَازَت الصَّلَاة إِلَى أَي جِهَة شَاءُوا. فعلى هَذَا تكون الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة الْقبْلَة، وَهَذَا قَول غَرِيب.
وَأما قَوْله: ﴿فثم وَجه الله﴾ قَالَ مُجَاهِد: قبْلَة الله. الْوَجْه: بِمَعْنى الْقبْلَة، وَكَذَلِكَ الوجهة والجهة: هِيَ الْقبْلَة. وَقيل: مَعْنَاهُ رضَا الله، وَقيل: مَعْنَاهُ قصد الله، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(اسْتغْفر الله ذَنبا لست أحصيه رب الْعباد إِلَيْهِ الْوَجْه وَالْعَمَل)
يَعْنِي: إِلَيْهِ الْقَصْد وَالْعَمَل.
وَقد ذكر الله تَعَالَى الْوَجْه فِي كِتَابه فِي أحد عشر موضعا، وَهُوَ صفة لله تَعَالَى وَتَفْسِيره: قِرَاءَته وَالْإِيمَان بِهِ. وَسَيَأْتِي.
129
﴿وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم (١١٤) وَللَّه الْمشرق وَالْمغْرب فأينما توَلّوا فثم وَجه الله إِن الله وَاسع عليم (١١٥) وَقَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ بل لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون (١١٦) بديع السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَإِذا قضى أمرا﴾
﴿إِن الله وَاسع﴾ أَي: غَنِي يُعْطي من السعَة ﴿عليم﴾ أَي: عَالم بالأمور.
130
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا اتخذ الله ولدا﴾ يَعْنِي: النَّصَارَى ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تَنْزِيه ﴿بل لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ ملكا وملكا ﴿كل لَهُ قانتون﴾ القانت: الْمُطِيع، وأصل الْقُنُوت: الْقيام. وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي سُئِلَ عَن أفضل الصَّلَاة، فَقَالَ: طول الْقُنُوت " أَي: طول الْقيام.
وَقَوله: ﴿كل لَهُ قانتون﴾ أَي: قائمون بالعبودية. وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَال:
أَحدهَا: قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ عَام بِمَعْنى الْخُصُوص. وَالْمرَاد بِهِ الْمُسلمُونَ، وَبِه قَالَ الْفراء. وَلم يرضه من الْفراء نحاة الْبَصْرَة، وَقَالُوا: الْكل يَقْتَضِي الْإِحَاطَة بالشَّيْء، بِحَيْثُ لَا يشذ مِنْهُ شَيْء وَمَعْنَاهُ: كل الْعباد قانتون. فالمسلم يسْجد طَوْعًا. وَالْكَافِر يسْجد ظله كرها، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال﴾.
وَالْقَوْل الثَّانِي: مَعْنَاهُ: ﴿كل لَهُ قانتون﴾ مذللون مسخرون لما خلقُوا لَهُ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: ﴿كل لَهُ قانتون﴾ يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿بديع السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: مبدعها، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْخَالِق لَا على مِثَال سبق. وَمِنْه المبتدع؛ لِأَنَّهُ أحدث مَا لم يسْبق إِلَيْهِ.
﴿وَإِذا قضى أمرا﴾ أَي: أحكم وأتقن. وأصل الْقَضَاء: الْفَرَاغ وَمِنْه يُقَال لمن مَاتَ قضى نحبه لفراغه من الدُّنْيَا وَمِنْه قَضَاء القَاضِي. لِأَنَّهُ فرغ عَن فصل الْحُكُومَة. وَمِنْه قَضَاء الله وَقدره. لِأَنَّهُ فرغ عَنهُ تَقْديرا وتدبيرا. وَقَالَ الشَّاعِر:
130
﴿فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون (١١٧) وَقَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا الله أَو تَأْتِينَا آيَة كَذَلِك قَالَ الَّذين من قبلهم مثل قَوْلهم تشابهت قُلُوبهم قد بَينا الْآيَات لقوم﴾
(وَعَلَيْهِمَا (مسرودتان) قضاهما دَاوُد وصنع السوابغ تبع)
أَي: صناع السوابغ، وَقَوله: قضاهما دَاوُد، أَي: أحكمهما، فَكَذَلِك قَوْله: ﴿وَإِذا قضى أمرا﴾ أَي: أحكم وأتقن ﴿فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ، والمعدوم لَا يُخَاطب؟ قيل: قد قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ أَي: لأجل تكوينه، فعلى هَذَا ذهب معنى الْخطاب.
وَقيل: هُوَ وَإِن كَانَ مَعْدُوما، لكنه لما قدر وجوده، وَهُوَ كَائِن لَا محَالة، كَانَ كالموجود: فصح الْخطاب.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه خرج على مَا يفهمهُ النَّاس فِي الْعَادة؛ فَإِن كل من يُرِيد فعلا فإمَّا أَن يَقُول قولا، أَو يفعل فعلا. وَمَعْنَاهُ: التكوين فَحسب إِلَّا أَنه قَالَ: ﴿فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ﴾ لِأَنَّهُ كَذَا يفهمهُ النَّاس.
فَأَما قَوْله تَعَالَى: ﴿فَيكون﴾ قَرَأَ ابْن عَامر. " فَيكون " بِنصب النُّون، وَهُوَ أظهر على النَّحْو؛ لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر بِالْفَاءِ. فَيكون على النصب.
وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: " فَيكون " بِالرَّفْع. وَمَعْنَاهُ: فَهُوَ يكون.
131
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ الْيَهُود.
وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ النَّصَارَى.
(لَوْلَا يُكَلِّمنَا الله) أَي: هلا يُكَلِّمنَا الله، " وَلَوْلَا " فِي كل الْقُرْآن بِمَعْنى " هلا " إِلَّا فِي مَوضِع وَاحِد؛ وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿فلولا أَنه كَانَ من المسبحين﴾ مَعْنَاهُ: فَلَو لم يكن من المسبحين.
131
﴿يوقنون (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا وَلَا تسْأَل عَن أَصْحَاب الْجَحِيم (١١٩) وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم قل إِن هدى الله هُوَ
{أَو تَأْتِينَا آيَة﴾
أَي: آيَة نقترحها، كَمَا اقترحوا من الْآيَات. ﴿كَذَلِك قَالَ الَّذين من قبلهم﴾ من الْكفَّار فِي الْقُرُون الْمَاضِيَة. ﴿مثل قَوْلهم تشابهت قُلُوبهم﴾ أَي: أشبه بَعْضهَا بَعْضًا فِي الْقَسْوَة وَطلب الْمحَال. ﴿قد بَينا الْآيَات لقوم يوقنون﴾.
132
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ﴾ أَي: مَعَ الْحق، والصلات تتعاقب، وَمثله قَوْله تَعَالَى ﴿فادخلي فِي عبَادي﴾ أَي: مَعَ عبَادي.
وَالْمرَاد بِالْحَقِّ: الْقُرْآن. وَقيل: شَرِيعَة الْإِسْلَام.
﴿بشيرا وَنَذِيرا﴾ أَي: مبشرا ومنذرا (وَلَا تسئل عَن أَصْحَاب الْجَحِيم) قرئَ بقراءتين. " وَلَا تسْأَل ". " وَلَا تسْأَل ". فَأَما قَوْله ﴿وَلَا تسْأَل﴾ : يَعْنِي: أَرْسَلْنَاك غير مسئول عَن حَال الْكفَّار. وَذَلِكَ مثل قَوْله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وعلينا الْحساب﴾.
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود " وَمَا تسْأَل " وَقَرَأَ أبي بن كَعْب. " وَلنْ تسْأَل " وَمعنى الْكل وَاحِد، وَأما قَوْله: " وَلَا تسْأَل " لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَنه على معنى قَوْلهم: لَا تسْأَل عَن شَرّ فلَان؛ فَإِنَّهُ فَوق مَا تحسب.
وَقيل: هُوَ على النهى، وَسَببه مَا روى مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: " أَن رَسُول الله قَالَ: لَيْت شعري مَا فعل أبواي. فَنزل قَوْله تَعَالَى: (وَلَا تسئل عَن أَصْحَاب الْجَحِيم) والجحيم: اسْم للنار الشَّدِيدَة الالتهاب.
132
{الْهدى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَا لَك من الله من ولي وَلَا نصير (١٢٠) الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يتلونه حق تِلَاوَته أُولَئِكَ يُؤمنُونَ بِهِ وَمن يكفر
133
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم﴾ مَعْنَاهُ: وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود إِلَّا باليهودية، وَلَا النَّصَارَى إِلَّا بالنصرانية.
﴿حَتَّى تتبع ملتهم﴾ وَالْملَّة: الطَّرِيقَة، وَمِنْه خبز الْملَّة. سمى الرماد الَّذِي جعل فِيهِ الْخبز: مِلَّة؛ لِأَنَّهُ يظْهر فِيهِ آثَار وخطوط.
﴿قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى﴾ يَعْنِي: دين الله: هُوَ الدّين الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ.
﴿وَلَئِن اتبعت أهواءهم﴾ قيل: إِنَّه خطاب للنَّبِي، وَالْمرَاد بِهِ الْأمة لِأَنَّهُ كَانَ مَعْصُوما من اتِّبَاع الْأَهْوَاء، وَمثله قَوْله تَعَالَى: ﴿لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك﴾ ﴿بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَالك من الله من ولي وَلَا نصير﴾ مَعْلُوم.
وَقيل معنى الْآيَة: أَن الْيَهُود طلبُوا من النَّبِي المهادنة وَقَالُوا: لَا تحاربنا وَلَا تَقْتُلنَا، وأمهلنا؛ فَرُبمَا نسلم. فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم﴾ يَعْنِي: إِنَّك إِن هادنتهم فَلَنْ يرضون بهَا. وَإِنَّمَا يطْلبُونَ ذَلِك تعللا وافتعالا، وَلَا يرضون عَنْك إِلَّا بِاتِّبَاع ملتهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ قوما من الْيَهُود أَسْلمُوا.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ قوما من النَّصَارَى جَاءُوا مَعَ جَعْفَر بن أبي طَالب حِين قدم من الْحَبَشَة فأسلموا.
﴿يتلونه حق تِلَاوَته﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس، وَابْن مَسْعُود: يحللون حَلَاله، ويحرمون حرَامه وَلَا يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه.
وَقَالَ الْحسن: يعْملُونَ بأوامره، ويؤمنون بمحكمه، ويكلون الْمُتَشَابه إِلَى الله تَعَالَى. وَقَالَ عِكْرِمَة: يتبعونه حق اتِّبَاعه من قَوْلهم: تَلا أَي تبع وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا﴾.
133
﴿بِهِ فَأُولَئِك هم الخاسرون (١٢١) يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين (١٢٢) وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا وَلَا﴾
﴿أُولَئِكَ يُؤمنُونَ بِهِ﴾ يَعْنِي: مَا ذكرنَا ﴿وَمن يكفر بِهِ فَأُولَئِك هم الخاسرون﴾ أَي: الغالبون أنفسهم.
134
قَوْله - تَعَالَى - ﴿يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي انعمت عَلَيْكُم واني فضلتكم على الْعَالمين﴾ أَعَادَهُ تَأْكِيدًا لما سبق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزى نفس عَن نفس شَيْئا﴾ قد ذكرنَا مَعْنَاهُ.
﴿وَلَا يقبل مِنْهَا عدل وَلَا تنفعها شَفَاعَة وَلَا هم ينْصرُونَ﴾ إِن قيل: أَلَيْسَ قد جعل الشَّفَاعَة للأنبياء وَغَيرهم، حَيْثُ قَالَ: ﴿وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى﴾ وَقَالَ النَّبِي: " شَفَاعَتِي لأهل الْكَبَائِر من أمتِي "؟ قيل: أَرَادَ بقوله: ﴿وَلَا تنفعها شَفَاعَة﴾ فِي قوم مخصوصين، وهم الْيَهُود وَالْكفَّار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ ابتلى إِبْرَاهِيم ربه﴾ أَي: اختبر، وَمعنى ابتلاء الْعباد، لَيْسَ ليعلم أَحْوَالهم بالابتلاء لِأَنَّهُ عَالم بهم وَبِمَا يملكُونَ مِنْهُم وَلَكِن ليعلم الْعباد أَحْوَالهم، حَتَّى يعرف بَعضهم بَعْضًا. ﴿بِكَلِمَات﴾ وَأما الْكَلِمَات: قيل: هِيَ الَّتِي وَردت فِي الْخَبَر فِي قَوْله " عشر من الْفطْرَة: خمس فِي الرَّأْس، وَخمْس فِي الْجَسَد. وَالْخمس الَّتِي فِي الرَّأْس الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، وقص الشَّارِب، والسواك، وَفرق الرَّأْس. وَأما اللواتي فِي الْجَسَد مثل قلم الْأَظْفَار، ونتف الْإِبِط، وَحلق الْعَانَة، والختان، والاستنجاء فِي رِوَايَة وَغسل البراجم ".
134
﴿يقبل مِنْهَا عدل وَلَا تنفعها شَفَاعَة وَلَا هم ينْصرُونَ (١٢٣) وَإِذ ابتلى إِبْرَاهِيم ربه بِكَلِمَات فأتمهن قَالَ إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا قَالَ وَمن ذريتي قَالَ لَا ينَال عهدي﴾
وَفِي الْخَبَر أَن الله تَعَالَى بعث جِبْرِيل إِلَى إِبْرَاهِيم أَن تطهر لي، فَتَمَضْمَض، ثمَّ بعث إِلَيْهِ أَن تطهر لي، فاستنشق هَكَذَا إِلَى الْعشْر، فَلَمَّا أمره فِي الْمرة الْعَاشِرَة: أَن تظهر لي. فَنظر إِلَى بدنه، فَلم يجد شَيْئا ينظفه فَتنبه على الْخِتَان فاختتن.
وَفِي الْخَبَر: " أَنه اختتن بعد ثَمَانِينَ سنة بالقدوم ". وَهُوَ اسْم مَوضِع، وعاش بعده ثَمَانِينَ.
وَفِي الْأَخْبَار: " أَن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ. أول من قصّ الشَّارِب، وَأول من اختتن وَأول من قلم الْأَظْفَار، وَأول من رأى الشيب، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ يَا رب مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الْوَقار فَقَالَ يَا رب زِدْنِي وقارا ".
﴿فأتمهن﴾ أَي فأداهن بِهِ تَامَّة، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا أَتَى أحد بسهام الْإِسْلَام كَمَا أَتَى بهَا الْخَلِيل إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَفِيه قَولَانِ آخرَانِ: أَن معنى الْكَلِمَات: هُوَ أَن الله تَعَالَى ابتلاه بالكوكب فرضى عَنهُ، وابتلاه بالقمر فرضى عَنهُ، وابتلاه بالشمس فرضى عَنهُ. وابتلاه بِنَار نمروذ فرضى عَنهُ. وابتلاه بِذبح الْوَلَد فرضى عَنهُ. وابتلاه بالختان فرضى عَنهُ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَ إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا﴾ يَعْنِي فِي الْخَيْر، وَقد يكون الإِمَام فِي الشَّرّ؛ على طَرِيق الْمجَاز. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار﴾ وَحَقِيقَة الإِمَام: أَن يقْصد، من فعله مَا يقْصد وَهُوَ من الْأُم: وَهُوَ الْقَصْد.
135
﴿الظَّالِمين (١٢٤) وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وآمنا وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى وعهدنا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَن طهرا بَيْتِي للطائفين والعاكفين والركع
{قَالَ وَمن ذريتي﴾
أَي: اجْعَل من ذريتي أَئِمَّة.
﴿قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين﴾ أَي: لَا يَنَالهُ من كَانَ فيهم ظَالِما. وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الْعَهْد، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ النُّبُوَّة. وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَة. وَهُوَ الْأَلْيَق بِظَاهِر النسق، وَفِيه قَول آخر: أَنه الْأمان من النَّار.
والظالم: الْفَاسِق، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْمُشرك هَاهُنَا. وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم﴾ أَي: بشرك ﴿أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن﴾ فَجعل الْأَمْن لمن لَا يُشْرك بِهِ، فَكَذَلِك قَوْله: ﴿لَا ينَال عهدي الظَّالِمين﴾ أَي: أَن أماني لَا يَنَالهُ الْمُشْركُونَ مِنْهُم.
136
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا﴾ قَالَ عَطاء: مثابة أَي: مجمعا.
وَقَالَ غَيره: مثابة أَي: مرجعا، وَهُوَ مَأْخُوذ من ثاب، أَي: رَجَعَ، وَالْبَيْت مثابة؛ لأَنهم يعودون إِلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى.
قَالَ الضَّحَّاك: لَا يقضون مِنْهُ وطرا، أَي: لَا يملون مِنْهُ. والمثاب والمثابة بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر:
(مثاب لأفناء الْقَبَائِل كلهَا تخب إِلَيْهِ اليعملات الذوامل)
وَأما قَوْله: ﴿وَأمنا﴾ أَي: ذَا أَمن. قَالَ ابْن عَبَّاس: أَمنه أَن يدْخلهُ الْجَانِي فَيَأْمَن وَلَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَتَّى يخرج، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم.
وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ: أَنه مأمن من أَيدي الْمُشْركين؛ فَإِنَّهُم مَا كَانُوا يتعرضون لأهل مَكَّة وَيَقُولُونَ: إِنَّهُم أهل الله وخاصته. وَإِنَّمَا كَانُوا يتعرضون لمن حوله. كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ﴾ فَأَما قَول
136
﴿السُّجُود (١٢٥) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا بَلَدا آمنا وارزق أَهله من الثمرات﴾ ابْن عَبَّاس فَمَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب. وَذَلِكَ الأولى عندنَا؛ أَن لَا يتَعَرَّض لَهُ حَتَّى يخرج، لَكِن مَعَ هَذَا أجَاز الِاسْتِيفَاء؛ لِأَن الْحرم لَا يمْنَع اسْتِيفَاء الْحُقُوق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى﴾ قرىء بقراءتين: " وَاتَّخذُوا " على الْخَبَر، " وَاتَّخذُوا " على الْأَمر. وَأما الْمقَام بِالْفَتْح: مَوضِع الْإِقَامَة. وَالْمقَام بِالضَّمِّ: فعل الْإِقَامَة. وَمَعْنَاهُ على القَوْل الصَّحِيح: أَن مقَام إِبْرَاهِيم هُوَ الْحجر الَّذِي فِي الْمَسْجِد، يُصَلِّي إِلَيْهِ الْأَئِمَّة وَذَلِكَ الْحجر الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم عِنْد بِنَاء الْبَيْت، وَبِذَلِك سمى مقَام إِبْرَاهِيم.
وَقيل: كَانَ أثر أَصَابِع رجله بَيِّنَة فِيهِ، واندرس من كَثْرَة مسح الْأَيْدِي.
وَفِي الْخَبَر: " أَن الرُّكْن وَالْمقَام ياقوتتان من يَوَاقِيت الْجنَّة. وَلَوْلَا مَا مسته أَيدي الْمُشْركين. لأضاءا مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب ".
وَقد روى عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: وَافقنِي رَبِّي فِي ثَلَاث:
قلت لرَسُول الله: لَو اتَّخذت من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى، فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى﴾.
وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بمقام إِبْرَاهِيم: جَمِيع مشَاهد الْحَج، مثل عَرَفَة والمزدلفة، وَسَائِر الْمشَاهد.
137
﴿من آمن مِنْهُم بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر قَالَ وَمن كفر فأمتعه قَلِيلا ثمَّ أضطره إِلَى عَذَاب النَّار وَبئسَ الْمصير (١٢٦) وَإِذ يرفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد من الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل رَبنَا﴾
وَقَوله: ﴿مصلى﴾ أَي: مدعا؛ أَمرهم أَن يتخذوها مَوَاضِع للدُّعَاء.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وعهدنا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل﴾ أَي: أمرنَا، والعهد هَاهُنَا بِمَعْنى الْأَمر.
وَأما إِسْمَاعِيل: أَصله: اسْمَع إيل، وَذَلِكَ أَن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ يَدْعُو الله أَن يرزقه ولدا، وَيَقُول: اسْمَع إيل. فَلَمَّا رزقه [الله] الْوَلَد سَمَّاهُ إِسْمَاعِيل.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أَن طهرا بَيْتِي﴾ يَعْنِي من الشّرك والأوثان ﴿للطائفين﴾ الدائرتين حول الْكَعْبَة. ﴿والعاكفين﴾ المقيمين المجاورين ﴿والركع السُّجُود﴾ الْمُصَلِّين. ركع: جمع رَاكِع، وَالسُّجُود جمع ساجد. قَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل: الطائفين: هم الغرباء. والعاكفين: أهل مَكَّة.
قَالَ عَطاء وَمُجاهد: الطّواف للغرباء أفضل؛ لِأَنَّهُ يفوتهُمْ، وَالصَّلَاة لأهل مَكَّة أفضل؛ لِأَنَّهُ لَا يفوتهُمْ.
138
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا بَلَدا آمنا﴾ أَي: اجْعَل الْحرم ذَا أَمن ﴿وارزق أَهله من الثمرات﴾ وَإِنَّمَا دَعَا بذلك لِأَنَّهُ كَانَ بواد غير ذِي زرع.
وَفِي الْقَصَص: أَن الطَّائِف كَانَت مَدِينَة من مَدَائِن الشَّام بأردن، فَلَمَّا دَعَا إِبْرَاهِيم هَذَا الدُّعَاء، أَمر الله تَعَالَى جِبْرِيل حَتَّى قلعهَا من أَصْلهَا، وأدارها حول الْبَيْت سبعا، ثمَّ وَضعهَا موضعهَا الَّذِي هِيَ الْآن فِيهِ، فَمن تِلْكَ ثَمَرَات أهل مَكَّة.
﴿من آمن مِنْهُم بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر﴾ دَعَا إِبْرَاهِيم أَن يرْزق من الثمرات الْمُؤمنِينَ خَاصَّة.
﴿قَالَ وَمن كفر﴾ يَقُول الله تَعَالَى: والكافرين أَيْضا؛ وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعد الرزق لِلْخلقِ كَافَّة، مؤمنهم وكافرهم.
138
﴿تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم (١٢٧) رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك وأرنا مناسكنا وَتب علينا إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم (١٢٨) رَبنَا وَابعث
{فأمتعه قَلِيلا﴾
يقْرَأ مخففا ومشددا ومعناهما وَاحِد يَعْنِي: أبقيه فِي النِّعْمَة قَلِيلا.
وَإِنَّمَا ذكر الْقَلِيل؛ لِأَن الإمتاع أَصله الطول وَالْكَثْرَة. يُقَال: متع النَّهَار. أَي: طَال وارتفع. ونخلة ماتعة. أَي: طَوِيلَة. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الإمتاع فِي الدُّنْيَا وَهُوَ قَلِيل؛ لانقطاعه.
﴿ثمَّ اضطره﴾ ألجئه ﴿إِلَى عَذَاب النَّار وَبئسَ الْمصير﴾ أَي: الْمرجع.
139
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا يرفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد من الْبَيْت﴾ قَالَ الْفراء: الْقَوَاعِد: أسس الْبَيْت.
وَقَالَ الْكسَائي: هِيَ جدر الْبَيْت، وَحكى أَن ابْن الزبير لما هدم الْبَيْت ليبنيه؛ ظَهرت أَحْجَار بيض كبار فَقَالَ: هَذِه هِيَ الْقَوَاعِد الَّتِي بنى عَلَيْهَا إِبْرَاهِيم الْبَيْت.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا بنى الْبَيْت من خَمْسَة أجبل: طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان وَهُوَ جبل بِالشَّام والجودى، وَهُوَ جبل بالجزيرة، وحراء وَهُوَ جبل بِمَكَّة.
وَفِي الْأَخْبَار: أَن الله تَعَالَى بنى فِي السَّمَاء بَيْتا وَهُوَ الْبَيْت الْمَعْمُور، وَيُسمى صراح وَأمر الْمَلَائِكَة أَن يبنوا الْكَعْبَة فِي الأَرْض بحذائه، على قدره ومثاله.
وَقيل: أول من بنى الْكَعْبَة آدم صلوَات الله عَلَيْهِ - فاندرس ذَلِك زمَان الطوفان، ثمَّ أظهره الله تَعَالَى لإِبْرَاهِيم حَتَّى بناه.
قَالَ: ﴿وَإِسْمَاعِيل رَبنَا تقبل منا﴾ قَرَأَ أبي بن كَعْب " يَقُولَانِ رَبنَا تقبل منا " وَهُوَ فِي الشواذ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى. ﴿إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم﴾
قَوْله تَعَالَى: ﴿رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك﴾ يَقُول: مستسلمين، خاضعين، منقادين.
139
﴿فيهم رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آياتك وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة ويزكيهم إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم (١٢٩) وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا من سفه نَفسه وَلَقَد﴾
﴿وَمن ذريتنا أمة﴾ وَالْأمة: أَتبَاع الْأَنْبِيَاء ﴿مسلمة لَك﴾ خاضعة لَك ﴿وأرنا﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرو " مختلسا "، وَقَرَأَ غَيره بِكَسْر الرَّاء ﴿مناسكنا﴾ أَي: متعبداتنا.
والنسك: الْعِبَادَة، وَمِنْه يُقَال للعابد: ناسك، مَعْنَاهُ: مَوَاضِع حجنا ﴿وَتب علينا إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم﴾.
140
قَوْله تَعَالَى: ﴿رَبنَا وَابعث فيهم رَسُولا مِنْهُم﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا، وَفِي الْخَبَر، أَن النَّبِي قَالَ: " أَنا دَعْوَة أبي إِبْرَاهِيم وبشرى عِيسَى " وَأَرَادَ بدعوة إِبْرَاهِيم هَذَا؛ فَإِنَّهُ دَعَا أَن يبْعَث فِي بني إِسْمَاعِيل رَسُولا مِنْهُم.
قَالَ ابْن عَبَّاس: كل الْأَنْبِيَاء من بني إِسْرَائِيل إِلَّا عشرَة: نوح، وَهود، وَصَالح، وَشُعَيْب، وَلُوط، وَإِبْرَاهِيم، وَإِسْمَاعِيل، وَإِسْحَاق، وَيَعْقُوب، وَمُحَمّد صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.
وَفِي الْقَصَص: أَن لكل نَبِي مِمَّن مضى [اسْما وَاحِدًا] فِي الْقُرْآن إِلَّا نبين يَعْقُوب وَعِيسَى. أما يَعْقُوب لَهُ اسمان: يَعْقُوب، وَإِسْرَائِيل، وَأما عِيسَى لَهُ اسمان:
140
﴿اصطفيناه فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين (١٣٠) إِذْ قَالَ لَهُ ربه أسلم قَالَ أسلمت لرب الْعَالمين (١٣١) ووصى بهَا إِبْرَاهِيم بنيه وَيَعْقُوب يَا بني إِن الله﴾ عِيسَى، والمسيح.
﴿يَتْلُو عَلَيْهِم آياتك﴾ يَعْنِي من الْقُرْآن ﴿وَيُعلمهُم الْكتاب﴾ الْقُرْآن ﴿وَالْحكمَة﴾ فِيهَا أَقْوَال:
قيل: الْحِكْمَة فهم الْقُرْآن، وَقَالَ أَبُو بكر بن دُرَيْد صَاحب الجمهرة: الْحِكْمَة كل كلمة زجرتك ووعظتك ونهتك عَن قَبِيح، ودعتك إِلَى حسن، وَقيل: الْحِكْمَة الْفِقْه. وَهَذَا قَول حسن.
﴿ويزكيهم﴾ أَي: يطهرهم، ويجعلهم أزكياء طهرة. وَفِيه قَول آخر: أَنه بِمَعْنى التَّزْكِيَة. يشْهد الرُّسُل بِالنُّبُوَّةِ من سَائِر الْأُمَم وَذَلِكَ أَن مؤمني سَائِر الْأُمَم شهدُوا للرسل بِالنُّبُوَّةِ وتبليغ الرسَالَة فَهَذِهِ الْأمة تزكّى أُولَئِكَ الشُّهُود.
﴿إِنَّك أَنْت الْعَزِيز﴾ قيل: هُوَ الْمُمْتَنع، وَالله مُمْتَنع لَا تناله الْأَيْدِي، وَلَا يصل إِلَيْهِ شَيْء. وَقيل: هُوَ الْقوي الْغَالِب. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿وعزني فِي الْخطاب﴾ أَي: غلبني.
وَيُقَال فِي الْمثل: " من عز بز " أَي: من غلب سلب ﴿الْحَكِيم﴾ مَعْلُوم.
141
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم﴾ أَي: طَريقَة إِبْرَاهِيم ﴿إِلَّا من سفه نَفسه﴾ حكى أَبُو عبيد عَن أبي عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ: أهلك نَفسه.
وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ جهل نَفسه، وكل سَفِيه جَاهِل، وَذَلِكَ أَن من جهل نَفسه لم يعرف الله.
وَفِي الْأَخْبَار: أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى دَاوُد: اعرف نَفسك واعرفني. فَقَالَ
141
﴿اصْطفى لكم الدّين فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ (١٣٢) أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ حضر يَعْقُوب الْمَوْت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبدُونَ من بعدِي قَالُوا نعْبد إلهك وإله آبَائِك﴾
يَا رب كَيفَ أعرف نَفسِي، وَكَيف أعرفك؟ فَأوحى الله إِلَيْهِ: اعرف نَفسك بالضعف وَالْعجز والفناء، واعرفني بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَة والبقاء.
وَقيل: مَعْنَاهُ سفه نَفسه وَجعله سَفِيها، وَفِيه قَول رَابِع: مَعْنَاهُ سفه فِي نَفسه، فَحذف كلمة " فِي " فَصَارَ: سفه نَفسه.
﴿وَلَقَد اصطفيناه﴾ اخترناه ﴿فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين﴾ من الْأَنْبِيَاء.
142
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ ربه أسلم﴾ يَعْنِي أَي: استسلم وأخلص عبادتك لله.
﴿قَالَ أسلمت لرب الْعَالمين﴾ أخلصت وفوضت إِلَيْهِ.
قَالَ ابْن عَبَّاس: وَقد حقق التَّفْوِيض إِلَيْهِ، وَلم يستعن بِأحد من الْمَلَائِكَة حِين ألْقى فِي النَّار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ووصى بهَا إِبْرَاهِيم بنيه وَيَعْقُوب﴾ قرىء " وَأوصى " من الْإِيصَاء. " ووصى " من التوصية وَهِي للْمُبَالَغَة والتكثير، يَعْنِي أوصى إِبْرَاهِيم بنيه. وَأوصى يَعْقُوب بنيه. ﴿يَا بني إِن الله اصْطفى لكم الدّين﴾ اخْتَار لكم دين الْإِسْلَام ﴿فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ﴾ فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: فَلَا تموتمن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ وَلَيْسَ بيدهم أَن لَا يموتوا إِلَّا مُسلمين؟
قيل مَعْنَاهُ: داوموا على الْإِسْلَام حَتَّى لَا يصادفكم الْمَوْت. إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ، وَهَذَا كَقَوْل الْقَائِل: لَا أريتك تفعل كَذَا مَعْنَاهُ: لَا تفعل كَذَا، حَتَّى لَا أَرَاك وَأَنت فَاعل لَهُ.
142
﴿إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق إِلَهًا وَاحِدًا وَنحن لَهُ مُسلمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أمة قد خلت لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم وَلَا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ (١٣٤) وَقَالُوا﴾
143
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم كُنْتُم شُهَدَاء﴾ بِمَعْنى: أَكُنْتُم شُهَدَاء وَالْمرَاد بِهِ مَا كُنْتُم شُهَدَاء.
﴿إِذا حضر يَعْقُوب الْمَوْت﴾ أَي: مَا كُنْتُم حضورا حِين قرب يَعْقُوب من الْمَوْت.
﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ﴾ وهم اثْنَا عشر سبطا. على مَا سَيَأْتِي ﴿مَا تَعْبدُونَ من بعدِي﴾ أَي: أيش تَعْبدُونَ من بعدِي ﴿قَالُوا نعْبد إلهك وإله آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب إِلَهًا وَاحِدًا وَنحن لَهُ مُسلمُونَ﴾ وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَعَاصِم الجحدري. " وإله أَبِيك " كَأَنَّهُ على هَذِه الْقِرَاءَة لم يَجْعَل الْعم وَلَا الْجد أَبَا.
وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة " وإله آبَائِك " فَجعل الْجد وَالْعم أباء.
وَإِبْرَاهِيم هُوَ الْجد وَإِسْمَاعِيل هُوَ الْعم. وَقد سمى رَسُول الله عَمه الْعَبَّاس أَبَا حَيْثُ قَالَ: " إِنَّه من بَقِيَّة آبَائِي ". وَقَالَ: " ردوا على أبي كَيْلا تفعل بِهِ قُرَيْش مَا فعلت ثَقِيف بِعُرْوَة بن مَسْعُود " وَذَلِكَ أَنهم قَتَلُوهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ أمة قد خلت﴾ أَي: مَضَت ﴿لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم وَلَا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعلمُونَ﴾ مَعْنَاهُ: يجازي كل بِكَسْبِهِ، وَيسْأل كل عَن عمله. وَالله أعلم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا كونُوا هودا أَو نَصَارَى﴾ هود جمع هائد، وَهُوَ مثل حَائِل وحول. وَقيل: كَانَ أَصله كونُوا يهودا فحذفت الْيَاء فَصَارَ: هودا.
وَقيل: هود مصدرها يهود هودا، فَهُوَ مصدر بِمَعْنى الْجمع كَمَا يُقَال: قوم صَوْم
143
﴿كونُوا هودا أَو نَصَارَى تهتدوا قل بل مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين (١٣٥) قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق﴾ وَقوم فطر.
وَمَعْنَاهُ: قَالَت الْيَهُود: كونُوا يهودا وَقَالَت النَّصَارَى كونُوا نَصَارَى فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى ﴿كونُوا هودا أَو نَصَارَى تهتدوا﴾.
﴿قل بل مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا﴾ قَرَأَ الْأَعْرَج " بل مِلَّة " بِالرَّفْع. وَمَعْنَاهُ بل ملتنا مِلَّة إِبْرَاهِيم.
وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: ﴿بل مِلَّة إِبْرَاهِيم﴾ أَي: بل نتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم.
وَقيل: مَعْنَاهُ: بل نَكُون على مِلَّة إِبْرَاهِيم، فَحذف " على " فَصَارَ مَنْصُوبًا.
قَالَ الْكسَائي: هُوَ نصب على الإغراء كَأَنَّهُ يَقُول: اتبعُوا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا، وَأما الحنيف: هُوَ الْمُسلم، وَأَصله الْميل، وَمِنْه الْأَحْنَف وَهُوَ: المائل الْقدَم، وَالْمُسلم مائل من سَائِر الْأَدْيَان إِلَى مِلَّة الْإِسْلَام.
وَقيل: مَعْنَاهُ الْمُسْتَقيم، فَسَماهُ حَنِيفا على الضِّدّ كَمَا يُقَال للمهلكة: مفازة وللديغ سليم.
وَقيل: الحنيف هُوَ الْحَاج المختتن؛ وَذَلِكَ أَنه لم يبْق مَعَ الْعَرَب من مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا الْحَج والختان، وَكَانُوا يعْرفُونَ كل من حج واختتن على مِلَّة إِبْرَاهِيم، وَعرفُوا الرجل بذلك حَنِيفا. فَقَالَ: بل مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا على وفْق مَا عرفُوا ﴿وَمَا كَانَ من الْمُشْركين﴾.
144
قَوْله تَعَالَى: ﴿قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتى مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتى النَّبِيُّونَ من رَبهم﴾.
قَالَ الضَّحَّاك: علمُوا أَوْلَادكُم أَسمَاء الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين فِي الْقُرْآن كي يُؤمنُوا بهم، وَلَا تظنوا أَن الْإِيمَان بِمُحَمد يَكْفِي عَن الْإِيمَان بِسَائِر الْأَنْبِيَاء.
144
﴿وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ (١٣٦) فَإِن آمنُوا بِمثل مَا أمنتم بِهِ فقد اهتدوا وَإِن﴾
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَرَأَ فِي الرَّكْعَة الأولى من رَكْعَتي الْفجْر هَذِه الْآيَة قَوْله تَعَالَى ﴿آمنا بِاللَّه﴾ إِلَى آخرهَا. وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة ﴿قل آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل علينا﴾ إِلَى آخرهَا ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
حكى عَن السّلف أَنهم كَانُوا إِذا قيل للرجل مِنْهُم: [أمؤمن أَنْت] ؟ قَرَأَ ﴿آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا﴾ الْآيَة.
وَأما الأسباط: هم اثْنَا عشر سبطا وهم أَوْلَاد يَعْقُوب والأسباط فِي بني إِسْرَائِيل كالقبائل فِي [الْعَرَب].
وَقيل: السبط: الشّجر، سمى بذلك لِكَثْرَة فروعه.
﴿لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ﴾ أَي: نؤمن بِالْكُلِّ، وَلَا نفضل الْبَعْض عَن الْبَعْض.
145
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن آمنُوا بِمثل مَا آمنتم بِهِ﴾ قَرَأَ ابْن عَبَّاس " بِالَّذِي آمنتم بِهِ " وَهُوَ الْمَعْنى. فَقيل مَعْنَاهُ: بِمَا أمنتم بِهِ.
والمثل: ضد كَمَا فِي قَوْله: ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء﴾ وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ كَهُوَ شَيْء.
قَالَ الشَّاعِر:
145
﴿توَلّوا فَإِنَّمَا هم فِي شقَاق فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (١٣٧) صبغة الله وَمن أحسن من الله صبغة وَنحن لَهُ عَابِدُونَ (١٣٨) ﴾
أَي: لَا يقبل مِنْك.
وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ فَإِن أَتَوا بِإِيمَان كإيمانكم، وتصديق كتصديقكم، وتوحيد كتوحيدكم، وَقَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: مَعْنَاهُ فَإِن آمنُوا بِكِتَابِكُمْ كَمَا آمنتم بِكِتَابِهِمْ.
﴿فقد اهتدوا وَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا هم فِي شقَاق﴾ أَي: مُنَازعَة؛ لِأَن كل مُنَازع يكون فِي شقّ آخر عِنْد الْمُنَازعَة.
﴿فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾ وعده أَن يَكْفِيهِ شرهم، وَقد كفى بإجلاء بني النَّضِير وَقتل بني قُرَيْظَة، وَضرب الْجِزْيَة على الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقتل الْمُشْركين.
(وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم) ظَاهر الْمَعْنى.
146
قَوْله تَعَالَى: ﴿صبغة الله﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ وَقَتَادَة، وَالْحسن، وَعِكْرِمَة، والسدى: مَعْنَاهُ: دين الله. وَإِنَّمَا سَمَّاهُ صبغة؛ لِأَنَّهُ يظْهر أثر الدّين على المتدين كَمَا يظْهر أثر الصَّبْغ على الثَّوْب.
وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: فطْرَة الله. وَهَذَا يقرب من الأول.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْخِتَان. وَقَوله (صبغة الله) أَي: تَطْهِير الله بالختان، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ صبغة؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ مقَام فعل النَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يصبغون الْوَلَد فِي مَاء أصفر بدل الْخِتَان فِي زِيّ الْيَهُود. ويعدونه تَطْهِيرا للْوَلَد فَالله تَعَالَى أَقَامَ التَّطْهِير بالختان فِي حق الْمُسلمين مقَام مَا صبغوا.
قَالَ الْكسَائي: هُوَ نصب على الإغراء وَتَقْدِيره: ألزموه دين الله. وَمن أحسن من الله دينا، أَو ألزموا تَطْهِير الله ﴿وَمن أحسن من الله صبغة﴾ أَي: تَطْهِيرا ﴿وَنحن لَهُ عَابِدُونَ﴾.
146
{قل أتحاجوننا فِي الله وَهُوَ رَبنَا وربكم وَلنَا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم وَنحن لَهُ مخلصون (١٣٩) أم تَقولُونَ إِن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط
147
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أتحاجوننا فِي الله وَهُوَ رَبنَا وربكم﴾ والمحاجة: المجادلة بِالْحجَّةِ لإِظْهَار الْحق.
نزلت فِي الْيَهُود ونصارى نَجْرَان حَيْثُ حاجوا رَسُول الله وَقَالُوا: ديننَا أقدم من دينكُمْ وَكِتَابنَا أقدم من كتابكُمْ، فَنحْن أولى بِاللَّه مِنْكُم، فَنزل قَوْله: قل يَا مُحَمَّد ﴿أتحاجوننا فِي الله وَهُوَ رَبنَا وربكم﴾ أَي: نَحن وَأَنْتُم سَوَاء فِي الله فَإِنَّهُ رَبنَا وربكم.
(وَلنَا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم) أَي: نجازي بأعمالنا وتجازون بأعمالكم (وَنحن لَهُ مخلصون) يَعْنِي: كَيفَ تدعون أَنكُمْ أولى بِاللَّه وَنحن لَهُ مخلصون وَأَنْتُم بِهِ مشركون؟
قَوْله تَعَالَى ﴿أم تَقولُونَ﴾ يَعْنِي: أتقولون؟ والصيغة صِيغَة الِاسْتِفْهَام، وَمَعْنَاهُ التوبيخ يَعْنِي أتقولون (إِن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط كَانُوا هودا أَو نَصَارَى). وَذَلِكَ أَنهم ادعوا أَن هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء كَانُوا يهودا أَو نَصَارَى.
﴿قل أأنتم أعلم أم الله﴾ وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى قد أعلم الْمُسلمين أَنهم كَانُوا على الدّين الحنيفية وَمَا كَانَ يهودا وَلَا نَصَارَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفا مُسلما﴾.
﴿وَمن أظلم مِمَّن كتم شَهَادَة عِنْده من الله﴾ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ بِهِ أَن الله تَعَالَى قد أشهدهم فِي كتبهمْ عَليّ أَن إِبْرَاهِيم كَانَ على الدّين الحنيفية، وَلم يكن يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا؛ فَكَتَمُوا تِلْكَ الشَّهَادَة.
وَقيل أَرَادَ بِالشَّهَادَةِ على نعت مُحَمَّد.
﴿وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أَي: لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا تَعْمَلُونَ.
قَوْله تَعَالَى: (تِلْكَ أمة قد خلت) أَي: مَضَت {لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا
147
﴿كَانُوا هودا أَو نَصَارَى قل أأنتم أعلم أم الله وَمن أظلم مِمَّن كتم شَهَادَة عِنْده من الله وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أمة قد خلت لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم وَلَا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ (١٤١) سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس مَا ولاهم﴾ ﴿كسبتم وَلَا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ﴾ يَعْنِي: أَنكُمْ غير مسؤولين عَن أَعْمَالهم بل هم المسئولون.
فَإِن قيل: هَذَا تكْرَار؛ فَإِنَّهُ قد ذكره مرّة.
قُلْنَا: أما الأول: كَانَ فِي الْأَنْبِيَاء الَّذين سبق ذكرهم. وَهَذَا الثَّانِي: فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّذِي سبق ذكرهم فِي هَذِه الْآيَات. أَو كَرَّرَه تَأْكِيدًا.
وَحكى عَن بعض الْعلمَاء أَنه سُئِلَ عَمَّا وَقع من الْفِتَن بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة رضوَان الله عَلَيْهِم - فَقَرَأَ ﴿تِلْكَ أمة قد خلت لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم﴾ الْآيَة وَهَذَا جَوَاب حسن فِي مثل هَذَا السُّؤَال.
148
قَوْله تَعَالَى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس﴾ أَي: يَقُول السُّفَهَاء الْجُهَّال، وَالسَّفِيه: خَفِيف الْحلم وَالْعقل. وَمِنْه الثَّوْب يَعْنِي السَّفِيه وَيُقَال: رمح سَفِيه، أَي: سريع النّفُوذ.
﴿مَا ولاهم﴾ مَا عدلهم وحرفهم ﴿عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ يَعْنِي: بَيت الْمُقَدّس ﴿قل لله الْمشرق وَالْمغْرب﴾ يُوَجه الْعباد إِلَى أَيهمَا شَاءَ ﴿يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: طَرِيق مُسْتَقِيم. وَالطَّرِيق الْمُسْتَقيم: هُوَ الْموصل إِلَى الْمَقْصُود.
وَنزلت الْآيَة فِي الْيَهُود؛ حَيْثُ عيروا الْمُسلمين على تحويلهم من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ﴾ يَعْنِي: كَمَا اخترنا الْأَنْبِيَاء واخترنا بني إِسْرَائِيل من الْخلق فَكَذَلِك اخترناكم من الْأُمَم. (أمة وسطا) أَي: عدلا خيارا. قَالَ الشَّاعِر:
148
﴿عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قل لله الْمشرق وَالْمغْرب يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (١٤٢) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس وَيكون﴾
(يَا عاذلي دَعْنِي عَن عذلكا مثلي لَا يقبل من مثلكا)
(هم وسط يرضى الْأَنَام بحكمهم إِذا نزلت إِحْدَى اللَّيَالِي بمعظم)
وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " إِنَّكُم توفون سبعين أمة أَنْتُم خَيرهَا وأعدلها "
وَقد ورد فِي الْخَبَر عَنهُ أَنه قَالَ: " خير الدّين النمط الْأَوْسَط " يَعْنِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ غلو وَلَا تَقْصِير. وَذَلِكَ دين الْإِسْلَام؛ لِأَن النَّصَارَى غلوا فِي دينهم، وَالْيَهُود قصروا. وَأما الْمُسلمُونَ أخذُوا بالنمط الْأَوْسَط.
(لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس) وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة، حِين يسْأَل الْأُمَم عَن إبلاغ الرُّسُل، فينكرون تبليغهم الرسَالَة. فَيسْأَل الرُّسُل فَيَقُولُونَ: بلغنَا، فَيُقَال لَهُم: وَمن يشْهد لكم؟ فَيَأْتُونَ بِهَذِهِ الْأمة فَيَشْهَدُونَ لَهُم بالبلاغ. فَتَقول الْأُمَم: إِنَّهُم أَتَوا بَعدنَا فَكيف يشْهدُونَ بذلك؟ فَيسْأَل هَذِه الْأمة. فَيَقُولُونَ: أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا، وأنزلت علينا كتابا، وأخبرتنا فِيهِ ببلاغ الرُّسُل، وَأَنت صَادِق فِيمَا أخْبرت، فبذلك نشْهد لَهُم بالبلاغ.
(وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا) على أَعمالكُم.
وَقيل: مَعْنَاهُ مزكيا مُصدقا عَليّ شهادتكم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا﴾ أَي: مَا حولنا الْقبْلَة من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة ﴿إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: ﴿إِلَّا لنعلم﴾ وَهُوَ عَالم بالأشياء قبل كَونهَا؟
149
﴿الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَت لكبيرة إِلَّا على الَّذين هدى الله وَمَا كَانَ الله﴾
قُلْنَا بلَى كَانَ عَالما بِهِ علم الْغَيْب، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا: الْعلم الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَهُوَ الْعلم بِوُجُود الأتباع؛ فَإِن كَونه مَوْجُودا إِنَّمَا يعلم بعد الْوُجُود.
وَقيل: مَعْنَاهُ إِلَّا لنرى، وَهُوَ قريب من الأول.
وَقيل: الِابْتِلَاء مُضْمر فِيهِ، وَتَقْدِيره: إِلَّا لنبتلي فَيظْهر المتبع من المنقلب، وَفِي الْخَبَر: " أَن الْقبْلَة لما حولت إِلَى الْكَعْبَة، ارْتَدَّ قوم من الْمُسلمين إِلَى الْيَهُودِيَّة، وَقَالُوا: إِن مُحَمَّدًا رَجَعَ إِلَى دين آبَائِهِ ". فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ﴾ وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِن كَانَت لكبيرة﴾ لثقيلة.
قيل: مَعْنَاهُ: وَإِن كَانَت الْقبْلَة لكبيرة. قَالَ الزّجاج: وَإِن كَانَت التحويلة لكبيرة.
﴿إِلَّا على الَّذين هدى الله﴾ أَي: هدَاهُم الله. ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ﴾ نزل هَذَا فِي قوم مُعينين. ذَلِك مَا روى: " أَن الْقبْلَة لما حولت سَأَلَ قوم رَسُول الله فَقَالُوا: إِن قوما منا كَانُوا قد صلوا إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وماتوا، فَمَا شَأْنهمْ؟ مِنْهُم أسعد بن زُرَارَة، وَأَبُو أُمَامَة والبراء بن معْرور فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ﴾ أَي: صَلَاتكُمْ فَجعل الصَّلَاة إِيمَانًا، وَهَذَا دَلِيل على المرجئة؛ حَيْثُ لم يجْعَلُوا الصَّلَاة من الْإِيمَان. وَإِنَّمَا سموا مرجئة لأَنهم أخروا الْعلم عَن الْإِيمَان.
وَحكى: أَن أَبَا يُوسُف شهد عِنْد شريك بن عبد الله القَاضِي فَرد شَهَادَته، قيل لَهُ أترد شَهَادَة يَعْقُوب؟ فَقَالَ: كَيفَ أقبل شَهَادَة من يَقُول: إِن الصَّلَاة لَيست من الْإِيمَان؟ !.
وَقيل: معنى قَوْله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ﴾ بالتحويل.
﴿إِن الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم﴾ والرأفة: أَشد الرَّحْمَة.
150
قَوْله تَعَالَى: ﴿قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء﴾ هَذِه الْآيَة وَإِن كَانَت
150
﴿لِيُضيع إيمَانكُمْ إِن الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم (١٤٣) قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء فلنولينك قبْلَة ترضاها فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم﴾ مُتَأَخِّرَة فِي التِّلَاوَة لَكِنَّهَا مُتَقَدّمَة فِي الْمَعْنى؛ فَإِنَّهَا رَأس الْقِصَّة.
وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى جَابر: " أَن النَّبِي بعد مَا قدم الْمَدِينَة صلى إِلَى بَيت الْمُقَدّس سِتَّة عشر شهرا أَو سَبْعَة عشر شهرا وَكَانَ يود أَن يحوله الله إِلَى الْكَعْبَة فَكَانَ يَقُول لجبريل: وددت لَو حولني الله إِلَى الْكَعْبَة؛ فَإِنَّهَا قبْلَة أبي إِبْرَاهِيم، وَكَانَ يَقُول لجبريل: سل رَبك فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: سل أَنْت فَإنَّك عِنْد الله بمَكَان، وَكَانَ كلما نزل جِبْرِيل تردد وَجهه فِي السَّمَاء؛ رَجَاء أَن ينزل بالنسخ ".
قَالَ السدى: إِنَّه كلما افْتتح صَلَاة، كَانَ يردد وَجهه فِي السَّمَاء رَجَاء أَن يحوله الله إِلَى الْكَعْبَة، فأقامه الله عَلَيْهِ سِتَّة عشر شهرا، ثمَّ نزل قَوْله تَعَالَى: ﴿قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء فلنولينك قبْلَة ترضاها﴾ أَي: تودها وتهواها؛ لِأَن الْقبْلَة الأولى كَانَت [ترضيه] أَيْضا.
﴿فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام﴾ أَي نَحْو الْبَيْت.
﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره﴾ أَي: نَحوه. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " هَذِه الْقبْلَة وَأَشَارَ إِلَى الْبَيْت ".
﴿وَإِن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ليعلمون أَنه الْحق من رَبهم﴾ يَعْنِي التَّحْوِيل إِلَى الْكَعْبَة ﴿وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أول مَا نسخ بَعْدَمَا قدم الْمَدِينَة هُوَ الْقبْلَة.
151
﴿فَوَلوا وُجُوهكُم شطره وَإِن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ليعلمون أَنه الْحق من رَبهم وَمَا الله بغافل عَمَّا يعْملُونَ (١٤٤) وَلَئِن آتيت الَّذين أُوتُوا الْكتاب بِكُل آيَة مَا تبعوا﴾
وَقيل: أول صَلَاة صليت إِلَى الْكَعْبَة كَانَت صَلَاة الْعَصْر. وروى " أَنَّهَا حولت إِلَى الْكَعْبَة وَكَانُوا فِي الصَّلَاة. وَالصَّحِيح: أَن التَّحْوِيل كَانَ خَارج الصَّلَاة. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي حق أهل قبَاء؛ فَإِنَّهُم شرعوا فِي صَلَاة الْعَصْر، وَكَانَت صَلَاة الْعَصْر نَحْو بَيت الْمُقَدّس، فَأَتَاهُم آتٍ وَقَالَ: " أشهد أَنِّي صليت هَذِه الصَّلَاة مَعَ رَسُول الله إِلَى الْكَعْبَة؛ فاستداروا إِلَى الْكَعْبَة وبنوا على صلَاتهم ".
152
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَئِن أتيت الَّذين أُوتُوا الْكتاب بِكُل آيَة مَا تبعوا قبلتك﴾ مَعْنَاهُ: لَو أتيتهم بِكُل معْجزَة مَا تبعوك فِي الْكَعْبَة. ﴿وَمَا أَنْت بتابع قبلتهم﴾ يَعْنِي: قبْلَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى (وَمَا بَعضهم بتابع قبْلَة بعض) يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ أَن قبْلَة الْيَهُود بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ الْمغرب، وقبلة النَّصَارَى الْمشرق، وَأما قبْلَة الْمُسلمين هِيَ الْكَعْبَة.
وَقد روى ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة " قَالَ ابْن عمر: يَعْنِي لأهل الْمشرق. وَصورته أَن يَجْعَل مشرق الشتَاء فِي أقصر يَوْم من السّنة على يسَاره. ومغرب الصَّيف فِي أطول يَوْم من السّنة عَن يَمِينه، فَيكون وَجهه إِلَى الْكَعْبَة وَذَلِكَ بِأَن يتَوَجَّه إِلَى مسْقط قلب الْعَقْرَب حِين يسْقط. فَهَذَا معنى قَوْله: " مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبله.. ".
﴿وَلَئِن اتبعت أهواءهم﴾ وَإِن كَانَ الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَلَكِن المُرَاد بِهِ الْأمة كَمَا سبق.
152
﴿قبلتك وَمَا أَنْت بتابع قبلتهم وَمَا بَعضهم بتابع قبْلَة بعض وَلَئِن اتبعت أهواءهم من بعد مَا جَاءَك من الْعلم إِنَّك إِذا لمن الظَّالِمين (١٤٥) الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَإِن فريقا مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ (١٤٦) الْحق من﴾
﴿من بعد مَا جَاءَك من الْعلم إِنَّك إِذا لمن الظَّالِمين﴾ مَعْلُوم التَّفْسِير.
153
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ الْقبْلَة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ مُحَمَّدًا.
وروى أَن عبد الله بن سَلام قَالَ: معرفتي بِهَذَا النَّبِي أَشد من معرفتي بِابْني. قَالَ لَهُ عمر: وَكَيف ذَاك؟ قَالَ: لِأَنِّي لَا أعرف مَا أحدثت النِّسَاء، وَأعرف أَنه نَبِي حق. فَقَالَ عمر: لله دَرك.
{وَإِن فريقا مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ
الْحق من رَبك فَلَا تكونن من الممترين) أَي: الشاكين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلكُل وجهة هُوَ موليها﴾ قَالَ مُجَاهِد: هُوَ موليها وجهة. يَعْنِي: الْقبْلَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم، عَن الْأَخْفَش مَعْنَاهُ: الله موليها.
فَقَوله: " هُوَ " كِنَايَة عَن الله تَعَالَى يَعْنِي: الله مولي الْأُمَم إِلَى قبلتهم. وَقَرَأَ ابْن عَامر: " هُوَ مَوْلَاهَا " أَي: الْمُسْتَقْبل مَصْرُوف إِلَيْهَا.
﴿فاستبقوا الْخيرَات﴾ أَي: بَادرُوا، وَالْمرَاد هَاهُنَا: الْمُبَادرَة إِلَى الْقبُول من الله ﴿أَيْن مَا تَكُونُوا يَأْتِ بكم الله جَمِيعًا إِن الله على كل شَيْء قدير﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن حَيْثُ خرجت فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام﴾ أَي: نَحوه.
﴿وَإنَّهُ للحق من رَبك﴾ ذكره تَأْكِيدًا للْأولِ ﴿وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
153
﴿رَبك فَلَا تكونن من الممترين (١٤٧) وَلكُل وجهة هُوَ موليها فاستبقوا الْخيرَات أَيْن مَا تَكُونُوا يَأْتِ بكم الله جَمِيعًا إِن الله على كل شَيْء قدير (١٤٨) وَمن حَيْثُ خرجت فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَإنَّهُ للحق من رَبك وَمَا الله بغافل عَمَّا﴾
154
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن حَيْثُ خرجت فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره لِئَلَّا يكون للنَّاس عَلَيْكُم حجَّة﴾ يَعْنِي: الْيَهُود؛ وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: إِن مُحَمَّدًا اتبع قبلتنا، فسيعود إِلَى ملتنا.
﴿إِلَّا الَّذين ظلمُوا﴾ وهم الْمُشْركُونَ. وَقيل: " إِلَّا " بِمَعْنى " وَلَا " الَّذين ظلمُوا وَمثله: قَول الشَّاعِر:
(وكل أَخ مفارقه أَخُوهُ لعَمْرو أَبِيك إِلَّا الفرقدان)
يَعْنِي: وَلَا الفرقدان.
وَالصَّحِيح: أَنه اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، " وَإِلَّا " بِمَعْنى " لَكِن " الَّذين ظلمُوا يخاصمونكم ويحاجونكم بِالْحجَّةِ الْبَاطِلَة، وَذَلِكَ أَن الْمُشْركين قَالُوا حِين تحولت الْقبْلَة إِلَى الْكَعْبَة: إِنَّه رَجَعَ إِلَى قبلتنا فسيعود إِلَى ملتنا، وَالْحجّة الْبَاطِلَة قد تسمى حجَّة، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿حجتهم داحضة﴾ فَكَأَنَّهُ أبطل حجَّة الْيَهُود بالتحويل إِلَى الْكَعْبَة: ثمَّ أبطل حجَّة الْمُشْركين بِدَلِيل سواهُ.
﴿إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم فَلَا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عَلَيْكُم ولعلكم تهتدون﴾ قَالَ سعيد بن جُبَير: لَا تتمّ نعْمَته على الْمُسلم إِلَّا بِأَن يدْخلهُ الْجنَّة.
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي سمع رجلا يَقُول الْحَمد لله على الْإِسْلَام، فَقَالَ: لقد حمدت الله على نعْمَة عَظِيمَة ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿كَمَا أرسلنَا فِيكُم رَسُولا مِنْكُم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: الْكَاف للتشبيه فَأَيْنَ الْمُشبه بِهِ؟ قُلْنَا: قَالَ عَليّ رَضِي الله: عَنهُ تَقْدِيره: فاذكره لي، كَمَا
154
﴿تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمن حَيْثُ خرجت فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره لِئَلَّا يكون للنَّاس عَلَيْكُم حجَّة إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم فَلَا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عَلَيْكُم ولعلكم تهتدون (١٥٠) كَمَا أرسلنَا﴾ أرسلنَا فِيكُم رَسُولا فَيكون الذّكر على هَذَا القَوْل بِمَعْنى الشُّكْر.
وَقيل: تَقْدِيره: ولأتم نعمتي عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا فِيكُم رَسُولا مِنْكُم، وَذَلِكَ أَن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ قد دَعَا دعوتين: دَعَا أَن يبْعَث فيهم رَسُولا مِنْهُم، ودعا إتْمَام النِّعْمَة على ذُريَّته بالرزق من الثمرات، فَأجَاب إِحْدَى الدعوتين بِأَن بعث فيهم رسلًا، ثمَّ أجَاب الدعْوَة الثَّانِيَة فَقَالَ: ولأتم نعمتي عَلَيْكُم، كَمَا أرسلنَا فِيكُم رَسُولا مِنْكُم.
﴿يَتْلُو عَلَيْكُم آيَاتنَا﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿ويزكيكم﴾ كَمَا بَينا ﴿ويعلمكم الْكتاب وَالْحكمَة﴾ وَقد ذكرنَا. وَقيل: الْحِكْمَة السّنة، وَقيل: مواعظ الْقُرْآن.
{ويعلمكم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ
155
فاذكروني أذكركم) قيل: ذكر الله هَاهُنَا بِمَعْنى الْمَدْح وَالثنَاء عَلَيْهِ.
وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي " أَن الله تَعَالَى يَقُول: أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي، وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي، فَإِن ذَكرنِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي، وَإِن ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ خير مِنْهُ، وَإِن تقرب إِلَى شبْرًا تقربت إِلَيْهِ ذِرَاعا، وَإِن تقرب إِلَيّ ذِرَاعا، تقربت إِلَيْهِ باعا وَإِن أَتَانِي يمش أَتَيْته هرولة " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَقيل: مَعْنَاهُ: فاذكروني كَمَا أرسلنَا، وَهَذَا قريب من قَول عَليّ.
وَقيل: الذّكر من العَبْد الطَّاعَة، وَمن الله الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة. وَمَعْنَاهُ: فاذكروني بِالطَّاعَةِ أذكركم بالمغفرة وَالرَّحْمَة.
﴿واشكروا لي وَلَا تكفرون﴾ يَعْنِي واشكروا لي بِالطَّاعَةِ وَلَا تكفروني بالمعصية. فَإِن من أطَاع الله فقد شكره، وَمن عَصَاهُ فقد كفره.
155
﴿فِيكُم رَسُولا مِنْكُم يَتْلُو عَلَيْكُم آيَاتنَا ويزكيكم ويعلمكم الْكتاب وَالْحكمَة ويعلمكم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ (١٥١) فاذكرني أذكركم واشكروا لي وَلَا تكفرون (١٥٢) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة إِن الله مَعَ الصابرين﴾
وَحكى أَن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ سَأَلَ ربه فَقَالَ: مَا الشُّكْر الَّذِي يَنْبَغِي لَك؟ فَقَالَ أَن لَا يزَال لسَانك رطبا بذكرى.
156
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة﴾ فالاستعانة: طلب المعونة. وَفِي الصَّبْر قَولَانِ: أَحدهمَا: الثَّبَات على الدّين، وَالْآخر: الصَّوْم. وَوجه الِاسْتِعَانَة بهما مَا سبق.
(إِن لله مَعَ الصابرين) قَالَ عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس: بِالْحِفْظِ والنصر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات﴾ نزلت الْآيَة فِي قوم مُعينين، اسْتشْهدُوا يَوْم بدر، وَكَانَ يَقُول الْمُسلمُونَ: مَاتَ فلَان، فَلم يرض الله تَعَالَى ذَلِك مِنْهُم، وَأنزل الله هَذِه الْآيَة.
(بل أَحيَاء وَلَكِن لَا تشعرون) أَي: شُهَدَاء؛ لِأَن الشَّهِيد حَيّ.
وَقيل: مَعْنَاهُ مَا ورد فِي الْخَبَر: " أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر تعلف من ثمار الْجنَّة أَي تَأْكُل وتأوى إِلَى قناديل معلقَة تَحت الْعَرْش ". فَذَلِك قَوْله: ﴿بل أَحيَاء عِنْد رَبهم﴾.
وَقيل: مَعْنَاهُ أَحيَاء بالثواب وَالثنَاء الْحسن، وَلَيْسوا بأموات بِالذكر السيء وَعدم الثَّوَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ولنبلونكم بِشَيْء من الْخَوْف﴾ وَاللَّام فِيهِ لجواب الْقسم. وَتَقْدِيره: وَالله لنبلونكم. وَحِكْمَة الِابْتِلَاء لإِظْهَار الْمُطِيع من العَاصِي، لَا ليعلم شَيْئا
156
( ﴿١٥٣) وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات بل أَحيَاء وَلَكِن لَا تشعرون (١٥٤) ولنبلونكم بِشَيْء من الْخَوْف والجوع وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس لم يكن عَالما بِهِ، وَاخْتلفُوا فِيمَن نزلت الْآيَة فِيهِ، مِنْهُم من قَالَ: نزلت فِي الْيَهُود وَقيل: نزلت فِي الْمُسلمين.
{بِشَيْء من الْخَوْف﴾
خوف الْعَدو ﴿والجوع﴾ بِالْقَحْطِ والجدب (وَنقص من الْأَمْوَال) بالخسران والهلاك ﴿والأنفس﴾ بِالْمرضِ والشيب وَالْمَوْت ﴿والثمرات﴾ بالجوائح، وَقيل: بالأولاد؛ وَذَلِكَ أَنهم ثَمَرَات الْقُلُوب، وَحِكْمَة الِابْتِلَاء بِهَذِهِ الْأَشْيَاء: حَتَّى إِذا صَبَرُوا عَلَيْهِ فَكل من سمع بِهِ بعدهمْ؛ علم أَنهم أَنما صَبَرُوا عَلَيْهِ لما عرفُوا من الْحق.
{وَبشر الصابرين
157
الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون). قَالَ سعيد بن جُبَير: كلمة الاسترجاع لم تعط [لأحد] من الْأُمَم سوى هَذِه الْأمة. أَلا ترى أَن يَعْقُوب صلوَات الله عَلَيْهِ لما ابْتُلِيَ بِفِرَاق يُوسُف قَالَ: ﴿يَا أسفي على يُوسُف﴾ وَلم يقل: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون؟ وَمَعْنَاهُ: إِنَّا لله ملكا وعبودية، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فِي الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا قيد بِهَذَا لِأَن الْأَمر فِي الْقِيَامَة يخلص لله تَعَالَى.
وَرُوِيَ: " أَن رَسُول الله طفيء سراجه، فَقَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: كل مَا أَذَى الْمُؤمن فَهُوَ مُصِيبَة لَهُ ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هم المهتدون﴾ وَمعنى الصَّلَوَات هَاهُنَا الرَّحْمَة بعد الرَّحْمَة؛ لِأَن الصَّلَاة من الله: الرَّحْمَة. وَمن الْمَلَائِكَة: الاسْتِغْفَار، وَمن النَّاس الدُّعَاء. قَالَ الشَّاعِر:
157
﴿والثمرات وَبشر الصابرين (١٥٥) الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هم المهتدون
(صلي على يحي وأشياعه رب كريم وشفيع مُطَاع﴾
يَعْنِي: ترحم عَلَيْهِ.
قَوْله: (وَرَحْمَة) ذكرهَا تَأْكِيدًا للْأولِ ﴿وَأُولَئِكَ هم المهتدون﴾ قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: نعم العدلان ونعمت العلاوة، والعدلان: الصَّلَوَات وَالرَّحْمَة، والعلاوة: الْهِدَايَة.
وَقد ورد فِي ثَوَاب الْمُصِيبَة أَخْبَار كَثِيرَة، مِنْهَا: مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " مَا أُصِيب العَبْد الْمُؤمن بمصيبة إِلَّا كفر عَنهُ، حَتَّى الشَّوْكَة يشاكها ".
158
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله﴾ الصَّفَا: جبل بِأحد طرفِي الْمَسْعَى. والمروة: جبل بالطرف الثَّانِي، والصفا: الْحجر الصلب، والمروة: الْحجر الرخو.
قَوْله تَعَالَى ﴿من شَعَائِر الله﴾ فالشعائر: جمع الشعيرة، وَهِي: الْأَعْلَام الَّتِي على مَنَاسِك الْحَج. وَمثله المشاعر، فالموقف شعيرَة، والمطاف شعيرَة، والمنحر شعيرَة، والمشعر شعيرَة.
﴿فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر﴾ فَأصل الْحَج: الْقَصْد. قَالَ الشَّاعِر:
(وَأشْهد من عَوْف حلولا كَثِيرَة... يحجون سبّ الزبْرِقَان المزعفرا) أَي: يقصدون. وأصل الْعمرَة: الزِّيَارَة. قَالَ الشَّاعِر:
(وجاشت النَّفس لما جَاءَ فَلهم... وراكب جَاءَ من تثليث مُعْتَمر) أَي زَائِرًا وَفِي الْحَج وَالْعمْرَة قصد وزيارة.
158
( ﴿١٥٧) إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما وَمن تطوع خيرا فَإِن الله شَاكر عليم (١٥٨) إِن الَّذين يكتمون مَا﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما﴾ قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن لَا يطوف بهما ". وَهِي قِرَاءَة أنس، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي مصحف أبي بن كَعْب، وَابْن مَسْعُود. وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: ﴿أَن يطوف بهما﴾.
وَقد روى عَن عُرْوَة بن الزبير: أَنه قَالَ لعَائِشَة: " أَنا لَا أرى جنَاحا على من لَا يطوف بَين الصَّفَا والمروة، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة.
فَقَالَت عَائِشَة: بئْسَمَا رَأَيْت يَا ابْن أُخْتِي وَذكرت الْقِصَّة فِي سَبَب نزُول الْآيَة ".
والقصة فِي ذَلِك أَنه كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة على الصَّفَا والمروة صنمان: إساف ونائلة، وَكَانَ إساف على الصَّفَا، ونائلة على الْمَرْوَة، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يطوفون بَين الصَّفَا والمروة تَعْظِيمًا للصنمين، فَلَمَّا فتح النَّبِي مَكَّة، وَكسر الْأَصْنَام. وَكَانَ الْمُسلمُونَ يتحرجون عَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة لمَكَان الصنمين اللَّذين كَانَا عَلَيْهِم؛ فَنزلت الْآيَة فِي رفع ذَلِك الْحَرج.
ثمَّ وجوب السَّعْي بالْخبر؛ وَهُوَ قَوْله: " إِن الله تَعَالَى كتب عَلَيْكُم السَّعْي فَاسْعَوْا ".
159
﴿أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (١٥٩) إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا فَأُولَئِك أَتُوب عَلَيْهِم أَنا﴾
فَأَما تِلْكَ الْقِرَاءَة " أَن لَا يطوف بهما " فَهِيَ قِرَاءَة مهجورة فَلَا تتْرك بهَا الْقِرَاءَة الْمَعْهُودَة.
وَقيل: " لَا " فِيهِ صلَة. وَالْمرَاد: أَن يطوف. قَالَ الشَّاعِر:
(لَا ألوم الْبيض أَلا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا)
أَي: أَن تسخر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن تطوع خيرا﴾ قَرَأَ حَمْزَة: " وَمن يطوع " مشدد. وَمَعْنَاهُ يتَطَوَّع وَالْمَعْرُوف ﴿وَمن تطوع﴾. ثمَّ من قَالَ: إِن السَّعْي لَيْسَ بِرُكْن صرف قَوْله: ﴿وَمن تطوع﴾ إِلَى السَّعْي.
وَمن قَالَ: إِنَّه ركن صرفه إِلَى أصل الْحَج وَالْعمْرَة.
وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ التَّطَوُّع بِسَائِر الْأَعْمَال.
﴿فَإِن الله شَاكر عليم﴾ وَالشُّكْر من الله: أَن يُعْطي فَوق مَا يسْتَحق العَبْد.
160
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب﴾ نزلت الْآيَة فِي الْيَهُود.
﴿أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: اللاعنون: هم كل الْخَلَائق سوى الْجِنّ وَالْإِنْس.
وَفِي الْأَخْبَار: " أَن الأَرْض إِذا أجدبت يلعن كل شَيْء عصاة بني آدم؛ حَتَّى الخنافس يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَن عصاة بني آدم؛ فَإنَّا حرمنا الرزق بشؤم معاصيهم ".
وَقَالَ قَتَادَة: اللاعنون: هم الْمَلَائِكَة والمؤمنون. وَقيل: هم الْجِنّ وَالْإِنْس.
160
﴿التواب الرَّحِيم (١٦٠) إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم كفار أُولَئِكَ عَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ (١٦١) خَالِدين فِيهَا لَا يخف عَنْهُم الْعَذَاب وَلَا هم﴾
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: مَا تلاعن اثْنَان وَلم يَكُونَا مستحقين إِلَّا رجعت اللَّعْنَة على الْيَهُود.
161
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِلَّا الَّذين تَابُوا﴾ أَي: أَسْلمُوا ﴿وَأَصْلحُوا﴾ أَي: داموا على التَّوْبَة ﴿وبينوا﴾ مَا كتموا ﴿فَأُولَئِك أَتُوب عَلَيْهِم وَأَنا التواب الرَّحِيم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم كفار أُولَئِكَ عَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ: ﴿النَّاس أَجْمَعِينَ﴾ والملعون من جملَة النَّاس؛ فَكيف يلعن نَفسه؟ قيل: يلعن نَفسه فِي الْقِيَامَة. قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ويلعن بَعْضكُم بَعْضًا﴾.
وَقَوله: ﴿خَالِدين فِيهَا﴾ يَعْنِي فِي اللَّعْنَة، وَيحْتَمل فِي النَّار وَإِن لم تكن مَذْكُورَة فِي الْآيَة ﴿لَا يُخَفف عَنْهُم الْعَذَاب وَلَا هم ينظرُونَ﴾ مَعْلُوم التَّفْسِير.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وإلهكم إِلَه وَاحِد﴾ وَسبب نزُول [هَذِه] الْآيَة مَا روى أَن الْمُشْركين قَالُوا لرَسُول الله أنسب لنا رَبك، أوصف لنا رَبك؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى ﴿وإلهكم إِلَه وَاحِد﴾ وَسورَة الْإِخْلَاص.
قَالَ الْأَزْهَرِي: الْوَاحِد: الَّذِي لَا نَظِير لَهُ، يُقَال: فلَان وَاحِد الْعَالم أَي: لَا نَظِير لَهُ فِي الْعَالم. وَحَقِيقَة الْوَاحِد: هُوَ الْمُنْفَرد الَّذِي لَا نَظِير لَهُ وَلَا شريك. ﴿لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم﴾ روى شهر بن حَوْشَب عَن أَسمَاء بنت يزِيد النهشلية عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اسْم الله الْأَعْظَم فِي آيَتَيْنِ من سُورَة الْبَقَرَة: آيَة الْكُرْسِيّ، وَهَذِه الْآيَة ﴿وإلهكم إِلَه وَاحِد﴾ ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ روى أَنه لما نزل قَوْله:
161
﴿ينظرُونَ (١٦٢) وإلهكم إِلَه وَاحِد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم (١٦٣) إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع﴾
﴿وإلهكم إِلَه وَاحِد﴾ قَالَ الْمُشْركُونَ لرَسُول الله: مَا الدَّلِيل على أَنه وَاحِد؛ فَنزل قَوْله: ﴿إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ والخلق: هُوَ ابتداع الشَّيْء وَتَقْدِيره، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(ولأنت تفري مَا خلقت وَبَعض الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفري)
أَي: يقطع مَا قدرت.
وَالسَّمَاوَات: جمع سَمَاء، وَهِي سبع سماوات، وَكَذَلِكَ الأرضون سبع، على الصَّحِيح.
وَإِنَّمَا ذكر السَّمَاوَات بِلَفْظ الْجمع، وَالْأَرْض يلفظ الْوَاحِد؛ لِأَن كل سَمَاء من جنس آخر. والأرضون كلهَا من جنس وَاحِد. وَهُوَ التُّرَاب، وَالْآيَة فِي السَّمَاوَات: سمكها [وسعته] وارتفاعها من غير عمد وَلَا علاقَة، وَمَا ترى فِيهَا من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم.
وَالْآيَة فِي الأَرْض: مدها وبسطها وسعتها وَمَا يرى فِيهَا من الْأَشْجَار والأنهار وَالْجِبَال والبحار والجواهر والنبات.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار﴾ وَذَلِكَ [ذهابهما ومجيئهم] وَمِنْه قَوْلهم: فلَان يخْتَلف إِلَى فلَان. أَي: يذهب وَيَجِيء مرّة بعد أُخْرَى. وَمثله قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جعل اللَّيْل وَالنَّهَار خلفة﴾ أَي: يخلف أَحدهمَا الآخر، وَالْآيَة فِي اللَّيْل وَالنَّهَار نقصانهما وزيادتهما وَأَن يذهب ضوء النَّهَار فَلَا يدْرِي أَيْن ذهب، وَيذْهب سَواد اللَّيْل فَلَا يدْرِي أَيْن ذهب.
162
﴿النَّاس وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا وَبث فِيهَا من كل دَابَّة وتصريف الرِّيَاح والسحاب المسخر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لآيَات لقوم﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع النَّاس﴾ والفلك: اسْم للْجمع والواحدان فَإِذا أُرِيد بِهِ الْجمع يؤنث، وَإِذا أُرِيد بِهِ الْوَاحِد يذكر، وَقد ورد بالصيغتين فِي الْقُرْآن، وَالْمرَاد هَا هُنَا الْجمع.
وَالْآيَة فِي الْفلك تسخيره [وجريها] على وَجه المَاء. وَهِي موفرة مثقلة لَا ترسب تَحت المَاء بل تعلو على وَجه المَاء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من مَاء﴾ قيل: إِن الله تَعَالَى يخلق المَاء فِي السَّحَاب، فعلى هَذَا؛ السَّمَاء هَا هُنَا بِمَعْنى السَّحَاب. وَقيل: بل يخلق المَاء فِي السَّمَاء، وَمن السَّمَاء ينزل إِلَى السَّحَاب ثمَّ من السَّحَاب ينزل إِلَى الأَرْض.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا﴾ أَي: بعد يبسها وجدوبتها. فَإِن الأَرْض إِذا أجدبت فقد مَاتَت. وَإِذا أخصبت فقد حييت.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَبث فِيهَا من كل دَابَّة﴾ أَي: فرق فِيهَا. وَقَوله: ﴿وتصريف الرِّيَاح﴾ قيل: تصريفها أَن الرِّيَاح تَارَة تكون شمالا وَتارَة تكون جنوبا، وَتارَة تكون قبولا، وَتارَة تكون دبورا، وَتارَة نكباء، والنكباء: فَهِيَ الَّتِي لَا تعرف لَهَا جِهَة.
وَقيل: تصريفها: أَن الرّيح تَارَة تكون لينًا، وَتارَة عاصفا، وَتارَة حارة، وَتارَة بَارِدَة.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أعظم جنود الله الرّيح وَالْمَاء. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: للريح جَنَاحَانِ، والسحاب: غلاف مَمْلُوء نت المَاء.
وَفِي مصحف حَفْصَة (وتصريف الْأَرْوَاح) وَهُوَ قريب من الرِّيَاح. وَسميت الرّيح ريحًا؛ لِأَنَّهَا تريح النَّفس.
قَالَ شُرَيْح القَاضِي: مَا هبت ريح إِلَّا لشفاء سقيم أَو لسقم صَحِيح.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿والسحاب المسخر﴾ أَي: الْمُذَلل ﴿بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لآيَات لقوم يعْقلُونَ﴾.
163
﴿يعْقلُونَ (١٦٤) وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا اشد حبا لله وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا إِذْ يرَوْنَ الْعَذَاب أَن الْقُوَّة لله﴾
قَالَ وهب بن مُنَبّه: ثَلَاثَة لَا يدْرِي من أَيْن تَجِيء: الرَّعْد، والبرق، والسحاب.
164
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا﴾ كَأَنَّهُ عَابَ الْمُشْركين حَيْثُ اتَّخذُوا من دونه أندادا بَعْدَمَا أظهر الدَّلَائِل، وَنصب الْبَرَاهِين، على الوحدانية ﴿أندادا﴾ أَي: أصناما.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يحبونهم كحب الله﴾ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد النَّحْوِيّ: معنى قَوْله: ﴿يحبونهم كحب الله﴾ أَي: يحبونَ آلِهَتهم كحب الْمُؤمنِينَ لله.
وَقيل مَعْنَاهُ: يحبونَ الْأَصْنَام كَمَا يحبونَ الله؛ لأَنهم أشركوها مَعَ الله.
﴿وَالَّذين آمنُوا اشد حبا لله﴾ لأَنهم لَا يختارون على الله مَا سوى الله. وَالْمُشْرِكُونَ إِذا اتَّخذُوا صنما ثمَّ رَأَوْا أحسن مِنْهُ، طرحوا الأول واختاروا الثَّانِي.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا إِذْ يرَوْنَ الْعَذَاب﴾ قرىء هَذَا بقراءتين. " وَلَو يرى " بِالْيَاءِ. " وَلَو ترى " بِالتَّاءِ.
وَالْمعْنَى: اعْلَم أَولا أَن جَوَاب " لَو " هَاهُنَا مَحْذُوف، وَمثله كثير فِي الْقُرْآن.
قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ موقوفون عِنْد رَبهم﴾ وَقَالَ: ﴿وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال أَو قطعت بِهِ الأَرْض أَو كلم بِهِ الْمَوْتَى﴾ ثمَّ حذف الْجَواب اخْتِصَار السبقه إِلَى الإفهام.
164
﴿جَمِيعًا وَأَن الله شَدِيد الْعَذَاب (١٦٥) إِذْ تَبرأ الَّذين اتبعُوا من الَّذين اتبعُوا وَرَأَوا﴾
ثمَّ من قَرَأَ " وَلَو يرى " بِالْيَاءِ، فتقديره: وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا شدَّة عَذَاب الله وعقوبته حِين يرَوْنَ الْعَذَاب لعرفوا أَن مَا اتَّخذُوا من الْأَصْنَام لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ.
وَمن قَرَأَ " وَلَو ترى " بِالتَّاءِ فَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَو ترى يَا مُحَمَّد الَّذين ظلمُوا فِي شدَّة الْعَذَاب حِين رَأَوْا الْعَذَاب لرأيت أمرا عجيبا.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: قل يَا مُحَمَّد: أَيهَا الظَّالِم، وَلَو ترى الَّذين ظلمُوا فِي شدَّة الْعَذَاب لتعجبت مِنْهُ ولرأيت أمرا فظيعا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أَن الْقُوَّة لله جَمِيعًا وَأَن الله شَدِيد الْعَذَاب﴾ قَوْله: " أَن الْقُوَّة " يقْرَأ بِكَسْر الْألف، وَفتحهَا، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ، كَانَ على الِابْتِدَاء بعد تَمام الأول، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح كَانَ تَمام الأول، وَمَعْنَاهُ: لِأَن الْقُوَّة لله.
165
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ تَبرأ الَّذين اتبعُوا من الَّذين اتبعُوا﴾ هَذَا فِي الْقِيَامَة، حِين يجمع الله القادة وأتباعهم، يبرأ بَعضهم من بعض.
﴿وَرَأَوا الْعَذَاب وتقطعت [بهم] الْأَسْبَاب﴾ أَي: الوصلات فِي الدُّنْيَا من [الْقرَابَات] والصداقات.
قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي الْوَصْل وَهُوَ قريب من الأول.
وَقيل الْأَسْبَاب: الْأَعْمَال. وَقد ترد بِمَعْنى: أَبْوَاب السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
165
﴿الْعَذَاب وتقطعت بهم الْأَسْبَاب (١٦٦) وَقَالَ الَّذين اتبعُوا لَو أَن لنا كرة فنتبرأ مِنْهُم كَمَا تبرءوا منا كَذَلِك يُرِيهم الله أَعْمَالهم حسرات عَلَيْهِم وَمَا هم بِخَارِجِينَ من النَّار (١٦٧) ﴾
وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات﴾ أَي: أَبْوَابهَا. قَالَ الشَّاعِر:
(وَمن هاب أَسبَاب المنايا [يتلقها] وَإِن رام أَسبَاب السَّمَاء بسلم)
وأصل السَّبَب: مَا يُوصل. وَمِنْه يُقَال: للحبل سَبَب، وَقَوله تَعَالَى: ﴿وتقطعت بهم﴾ أَي: عَنْهُم، وَمثله قَوْله تَعَالَى: ﴿فاسأل بِهِ خَبِيرا﴾ أَي: عَنهُ خَبِيرا.
166
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذين اتبعُوا لَو أَن لنا كرة﴾ أَي: رَجْعَة إِلَى الدُّنْيَا. ﴿فنتبرأ مِنْهُم كَمَا تبرءوا منا كَذَلِك يُرِيهم الله أَعْمَالهم حسرات عَلَيْهِم وَمَا هم بِخَارِجِينَ من النَّار﴾.
وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه يُرِيهم مَا ارتكبوا من السَّيِّئَات؛ فَتلك الحسرات.
وَالثَّانِي: أَنه يُرِيهم مَا تركُوا من الْخيرَات والحسنات؛ ليَكُون عَلَيْهِم حسرات.
166
﴿يَا أَيهَا النَّاس كلوا مِمَّا فِي الأَرْض حَلَالا طيبا وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (١٦٨) إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء وَأَن تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ (١٦٩) وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ﴾
167
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا النَّاس كلوا مِمَّا فِي الأَرْض﴾ حكى عَن أبي مُحَمَّد سُفْيَان بن عُيَيْنَة الْهِلَالِي أَنه سُئِلَ عَن أكل الطين فَقَالَ: لَا تَأْكُل لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿كلوا مِمَّا فِي الأَرْض﴾ وَلم يقل: كلوا من الأَرْض ﴿حَلَالا طيبا﴾ فالحلال: كل مَا أحله الشَّرْع.
وَفِي الطّيب قَولَانِ:
أَحدهمَا: كل مَا يستطاب ويستلذ فَهُوَ طيب. وَالْمُسلم يَسْتَطِيب الْحَلَال ويعاف الْحَرَام.
وَقيل: الطّيب: الطَّاهِر.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا قَالَ مُجَاهِد: هِيَ خَطَايَا الشَّيْطَان. وَقَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد السدُوسِي: هِيَ النذور فِي الْمعاصِي. وَالْقَوْل الثَّالِث: هِيَ كل أَعمال الشَّيْطَان. واشتقاقها من الخطوة؛ لِأَن للخطا آثارا تبقى ﴿إِنَّه لكم عَدو مُبين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء﴾ فالسوء: الْمعْصِيَة.
والفحشاء فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ بِهِ الزِّنَا. وَقيل: الْبُخْل، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(عقيلة مَال الْفَاحِش المتشدد... )
أَي: الْبَخِيل المتشدد
﴿وَأَن تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ﴾
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا ألفينا﴾ أَي: وجدنَا.
﴿عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ آباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ مَعْنَاهُ: كَيفَ يتبعُون
167
﴿آباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دُعَاء ونداء صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ (١٧١) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ آبَاءَهُم وآباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ؟ ! وَفِي هَذَا نهي عَن تَقْلِيد الْآبَاء فِي الدّين.
168
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دُعَاء﴾ النعق: صَوت الرَّاعِي بالغنم قَالَ الأخطل.
(فانعق بضأنك يَا جرير فَإِنَّمَا منتك نَفسك فِي الْخَلَاء ضلالا)
وَفِي الْآيَة مَحْذُوف مقدره. وتقديرها: مثل الْكفَّار وَمثلك يَا مُحَمَّد فِي دُعَائِهِمْ كَمثل الرَّاعِي ينعق بالغنم وَهِي لَا تسمع إِلَّا صَوتا وَلَا تفهم إِلَّا دُعَاء.
﴿ونداء صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ﴾ وَقيل: مَعْنَاهُ: مثل الْكفَّار فِي دُعَاء الْأَصْنَام.
على هَذَا القَوْل إِشْكَال لِأَن؛ الْأَصْنَام لَا يسمعُونَ النداء وَلَا الدُّعَاء. وَكَيف يكون مثلا أَن يسمع ذَلِك كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع كَمَا بَينا؟
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أَرَادَ بِالَّذِي ينعق: الصائح فِي الْجَبَل يَصِيح فَيسمع صَوتا؛ وَهُوَ الصدى. وَلَيْسَ هُنَاكَ مَعْقُول وَلَا مَفْهُوم. وَضرب الْمثل بِهِ للْكفَّار فِي قلَّة الْفَهم وَالْعقل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم﴾ وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَمر الله الْمُؤمنِينَ بِمَا أَمر بِهِ الْمُرْسلين فَقَالَ: ﴿يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات﴾ وَقَالَ للْمُؤْمِنين ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا لله﴾ " وَقد ذكرنَا معنى الطَّيِّبَات.
168
﴿كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا لله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ (١٧٢) إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل بِهِ لغير الله فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا﴾ ﴿واشكروا لله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ﴾ يَعْنِي: أَنكُمْ كَمَا تعبدونه على الإلهية، فاشكروه على الْإِحْسَان.
169
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة﴾ " إِنَّمَا " لنفي وَالْإِثْبَات؛ لِأَنَّهَا مركبة من حرفي النَّفْي وَالْإِثْبَات " فَإِن " للإثبات " وَمَا " للنَّفْي.
تَقول: إِن فِي الدَّار زيدا. يفهم مِنْهُ وجود زيد فِي الدَّار. فَإِذا قلت: " إِنَّمَا زيد فِي الدَّار " يفهم مِنْهُ أَنه لَا أحد فِي الدَّار إِلَّا زيد.
وَأما الْميتَة: اسْم لما خرج روحه من غير ذَكَاة ﴿وَالدَّم﴾ مَعْرُوف وَفِيهِمَا تَخْصِيص؛ فَإِن الشَّرْع أَبَاحَ من الْميتَة: السّمك وَالْجَرَاد، وَمن الدِّمَاء: الكبد وَالطحَال.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلحم الْخِنْزِير﴾ أَي: الْخِنْزِير بِلَحْمِهِ وشحمه وَجَمِيع أَجْزَائِهِ.
﴿وَمَا أهل بِهِ لغير الله﴾ أَي: ذبح على اسْم الْأَصْنَام، وأصل الإهلال: رفع الصَّوْت، وَكَانُوا يرفعون أَصْوَاتهم على الذَّبَائِح، قَالَ ابْن أَحْمَر:
(يهل بالفرقد ركبانها كَمَا يهل الرَّاكِب الْمُعْتَمِر)
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن اضْطر﴾ يقْرَأ بقراءتين: بِكَسْر النُّون، ورفعها، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ على الأَصْل وَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ فَلَا تبَاع ضمة الطَّاء، والاضطرار إِلَى أكل الْميتَة ﴿غير بَاغ وَلَا عَاد﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: غير بَاغ أَي: غير خَارج على السُّلْطَان. ﴿وَلَا عَاد﴾ وَلَا مُتَعَدٍّ، عَاص فِي سَفَره. فَفِي هَذَا دَلِيل على أَن العَاصِي فِي سَفَره لَا يترخص بِأَكْل الْميتَة.
وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: ﴿غير بَاغ﴾ أَي: غير طَالب للميتة على الشِّبَع؛ فيأكله تلذذا. ﴿وَلَا عَاد﴾ وَلَا مجاوزا بِأَكْلِهِ حد الْحَاجة.
﴿فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
169
﴿عَاد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم (١٧٣) إِن الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْكتاب ويشترون بِهِ ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُون فِي بطونهم إِلَّا النَّار وَلَا يكلمهم﴾
170
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْكتاب ويشترون بِهِ ثمنا قَلِيلا﴾ قد سبق تَفْسِيره.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُون فِي بطونهم إِلَّا النَّار﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الَّذين أكلُوا من الرِّشْوَة فالمأكلة تصير فِي بطونهم نَارا.
وَقيل: مَعْنَاهُ أَن ذَلِك الْأكل لما كَانَ يُفْضِي بهم إِلَى النَّار؛ فكأنهم يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا.
وَمثله قَول الشَّاعِر:
(وَأم سليم فَلَا تجزعن فللموت مَا تَلد الوالدة)
وَقَالَ آخر:
(لدوا للْمَوْت وَابْنُوا للخراب فكلكم يصير إِلَى الْفَوات)
وَمَعْلُوم أَن الْوَلَد لَا يُولد للْمَوْت، وَلَكِن لما كَانَ يؤول إِلَى الْمَوْت لَا محَالة أَضَافَهُ إِلَيْهِ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه لَا يكلمهم وَلَكِن يكلمهم بالتهديد والتوبيخ.
وَقيل: فِي مَعْنَاهُ: أَنه غَضْبَان عَلَيْهِم؛ كَمَا يُقَال: فلَان لَا يكلم فلَانا؛ إِذا كَانَ عَلَيْهِ غَضْبَان.
170
﴿الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (١٧٤) أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة فَمَا أصبرهم على النَّار (١٧٥) ذَلِك بِأَن الله نزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِي الْكتاب لفي شقَاق بعيد (١٧٦) لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا وُجُوهكُم قبل الْمشرق وَالْمغْرب وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَالْمَلَائِكَة﴾
﴿وَلَا يزكيهم﴾ أَي: لَا يطهرهم من الذُّنُوب ﴿وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾.
171
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة فَمَا أصبرهم على النَّار﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: أَي شَيْء صبرهم على النَّار؟ !
وَقَالَ الْكسَائي وَالْفراء: مَعْنَاهُ: فَمَا أجرأهم على النَّار، وَحكى الْكسَائي: أَن أعرابيين اخْتَصمَا إِلَى قَاض، فَحلف الْمُنكر، فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي: مَا أصبرك على النَّار، أَي: مَا أجرأك على النَّار.
وَقَالَ بعض النَّحْوِيين: مَعْنَاهُ: فَمَا أبقاهم فِي النَّار، يُقَال: فلَان مَا أصبره على الْحَبْس، أَي: مَا أبقاه فِي الْحَبْس، " وَمَا " للتعجب هَاهُنَا.
قَالَ الْكسَائي: التَّعَجُّب من الله بِمَعْنى: التَّعَجُّب لِلْخلقِ
﴿ذَلِك بِأَن الله نزل الْكتاب بِالْحَقِّ﴾ وهم منكرون لذَلِك.
﴿وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِي الْكتاب لفي شقَاق بعيد﴾ أَي: خلاف طَوِيل.
وَإِنَّمَا سمى الْخلاف: شقاقا؛ لِأَن الْمُخَالف يكون فِي شقّ، وَصَاحبه فِي شقّ آخر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا وُجُوهكُم قبل الْمشرق وَالْمغْرب﴾ فالبر: كل عمل خير، يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْجنَّة.
وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْخطاب مَعَ الْمُسلمين، فَإِنَّهُم كَانُوا فِي الِابْتِدَاء يأْتونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، والصلوات إِلَى أَي جِهَة شَاءُوا.
فَقَالَ: لَيْسَ كل الْبر أَن تصلوا قبل الْمشرق وَالْمغْرب ﴿وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه﴾ فَأَمرهمْ بِسَائِر الشَّرَائِع الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة.
171
﴿وَالْكتاب والنبيين وَآتى المَال على حبه ذَوي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل والسائلين وَفِي الرّقاب وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة والموفون بعهدهم إِذا﴾
وَقيل: هُوَ خطاب للْيَهُود وَالنَّصَارَى إِذْ كَانَ قبْلَة الْيَهُود الْمغرب، وقبلة النَّصَارَى الْمشرق.
فَقَالَ: لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا وُجُوهكُم قبل الْمشرق أَيهَا النَّصَارَى، وَقبل الْمغرب أَيهَا الْيَهُود، وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه.
وَفِي تَقْدِيره قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن تَقْدِيره وَلَكِن ذَا الْبر من آمن بِاللَّه، وَالثَّانِي: أَن تَقْدِيره: وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه ﴿وَالْيَوْم الآخر وَالْمَلَائِكَة وَالْكتاب والنبيين وَآتى المَال على حبه﴾ أَي: حب المَال.
قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ أَن تَتَصَدَّق وَأَنت صَحِيح شحيح، تَأمل الْبَقَاء، وتخشى الْفقر ﴿ذَوي الْقُرْبَى﴾ أهل الْقرَابَات. ﴿واليتامى وَالْمَسَاكِين﴾ قد ذَكَرْنَاهُمْ.
﴿وَابْن السَّبِيل﴾ هُوَ الْمُنْقَطع. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الضَّيْف ﴿والسائلين﴾ مَعْلُوم ﴿وَفِي الرّقاب﴾ يَعْنِي: المكاتبين.
﴿وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة والموفون بعهدم إِذا عَاهَدُوا﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: " والموفون " على الرّفْع؟ قيل: فِيهِ قَولَانِ. أصَحهمَا: أَنه مَعْطُوف على خبر لَكِن، وَتَقْدِيره: وَلَكِن ذَا الْبر الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّه والموفون.
وَقيل تَقْدِيره: وهم الموفون كَأَنَّهُ عد أصنافا، ثمَّ قَالَ: هم والموفون كَذَا وَكَذَا.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْكَلَام إِذا طَال فالعرب قد تخَالف فِي الْأَعْرَاب.
﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ نصب على الْمَدْح. وَقيل تَقْدِيره: أَعنِي الصابرين. قَالَ الشَّاعِر:
(لَا يبعدن قومِي الَّذين هم سم العداة وَآفَة الجزر)
(النازلين بِكُل معترك والطيبين معاقد الْأرز)
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فِي البأساء﴾ هُوَ الْجُوع ﴿وَالضَّرَّاء﴾ الْمَرَض وَالضَّرَر.
172
﴿عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البأساء وَالضَّرَّاء وَحين الْبَأْس أُولَئِكَ الَّذين صدقُوا وَأُولَئِكَ هم المتقون (١٧٧) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمن عُفيَ لَهُ من أَخِيه شَيْء فاتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء﴾
﴿وَحين الْبَأْس﴾ وَحين الْقِتَال ﴿أُولَئِكَ الَّذين صدقُوا﴾ وفوا بالعهد، وَقيل: صدقت أفعالهم أَقْوَالهم ﴿وَأُولَئِكَ هم المتقون﴾.
173
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى﴾ أَي: فرض عَلَيْكُم. ﴿الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، وَكَانَ الْقصاص بَين الْحر وَالْحر، وَالْعَبْد مَعَ العَبْد، وَالْأُنْثَى مَعَ الْأُنْثَى، وَمَا كَانَ يقتل الْحر بِالْعَبدِ، وَلَا العَبْد بِالْحرِّ، وَلَا الذّكر بِالْأُنْثَى، وَلَا الْأُنْثَى بِالذكر: ثمَّ نسخ ذَلِك بقوله: ﴿وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ﴾ فَجرى الْقصاص بَين الْكل.
وَأما عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فقد قَالَ فِي الْحر إِذا قتل عبدا: يقتل الْحر بِهِ، ثمَّ سيد العَبْد يغرم لولى الْقَاتِل الْحر، مَا بَين دِيَته وَقِيمَة العَبْد، وَإِذا قتل العَبْد حرا، يقتل العَبْد بِهِ، ثمَّ يغرم سيد العَبْد الْقَاتِل لولى الْحر الْمَقْتُول مَا بَين دِيَته وَقِيمَة العَبْد.
وَفِيه قَول آخر محكي عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْآيَة نزلت فِي قبيلتين، كَانَ لأحديهما على الْأُخْرَى فضل. فَقَالَت الْقَبِيلَة الفاضلة: يقتل الْحر مِنْكُم بِالْعَبدِ منا، وَالذكر مِنْكُم بِالْأُنْثَى منا؛ فَنزلت الْآيَة ردا لقَولهم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شَيْء فاتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان﴾ وأصل الْعَفو: التّرْك. وَأظْهر الْأَقْوَال فِيهِ: مَذْهَب عَامَّة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ؛ أَن من عَفا عَن الْقصاص فَلهُ أَخذ الدِّيَة، فَهَذَا يتبع بِالْمَعْرُوفِ، يَعْنِي: لَا يطْلب الْمَزِيد على قدر حَقه. وَيُؤَدِّي ذَلِك بِالْإِحْسَانِ، أَي: لَا يماطل فِي الْأَدَاء.
173
﴿إِلَيْهِ بِإِحْسَان ذَلِك تَخْفيف من ربكُم وَرَحْمَة فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم (١٧٨) وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (١٧٩) كتب عَلَيْكُم﴾ قَالَ الْأَزْهَرِي: فِي الْآيَة تَقْدِير: وَمَعْنَاهُ: فَمن جعل لَهُ من مَال أَخِيه يَعْنِي الْقَاتِل أَو فَمن جعل لَهُ من بدل دم أَخِيه يَعْنِي الْمَقْتُول عَفْو أَي: فضل، فَليتبعْ الطَّالِب بِالْمَعْرُوفِ، وليؤد الْمَطْلُوب بِالْإِحْسَانِ.
وَظَاهره يَقْتَضِي أَن أخوة الدّين لَا تَنْقَطِع بَين الْقَاتِل والمقتول، حَيْثُ قَالَ: من أَخِيه، وَهُوَ الَّذِي نقُول بِهِ. وَقيل: مَعْنَاهُ أخوة النّسَب.
وَقيل: إِنَّمَا سَمَّاهُ أَخا حَال إِنْزَال الْآيَة، وَحَال نزُول الْآيَة كَانَ أَخا لَهُ قبل حُصُول الْقَتْل، لَا أَنه يبْقى أَخا لَهُ، فَإِن الْقَتْل يقطع الْمُوَالَاة بَين الْقَاتِل والمقتول، وَيُوجب الْبَرَاءَة [مِنْهُ] ؛ لفسقه وَقَتله.
﴿ذَلِك تَخْفيف من ربكُم وَرَحْمَة﴾ وَمَعْنَاهُ: أَن الدِّيَة كَانَت فِي شرع النَّصَارَى حتما، وَالْقصاص فِي شرع الْيَهُود حتما، وخيرت هَذِه الْأمة بَين الْقصاص وَالدية، [فَذَلِك] التَّخْفِيف.
﴿فَمن اعْتدى بعد ذَلِك﴾ أَي: قتل بعد الْعَفو. ﴿فَلهُ عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: الْقصاص.
قَالَ ابْن جريج: إِن الْقصاص حتم عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يقبل الْعَفو.
174
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب﴾ وَمعنى الْحَيَاة: أَنه إِذا فكر أَنه لَو قتل قتل، لم يقتل؛ فَيبقى والمقتول حيين. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ ترتدعون عَن الْقَتْل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كتب عَلَيْكُم﴾ أَي: فرض عَلَيْكُم {إِذا حضر أحدكُم
174
﴿إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمن بدله بَعْدَمَا سَمعه فَإِنَّمَا إثمه على الَّذين يبدلونه إِن الله﴾ الْمَوْت) إِذا قَارب أَوَان الْمَوْت. ﴿إِن ترك خيرا﴾ أَي: مَالا وسعة، وَالْخَيْر فِي كل الْقُرْآن بِمَعْنى المَال.
﴿الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ﴾ وَذَلِكَ أَن الْوَصِيَّة كَانَت وَاجِبَة فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام للْوَالِدين والأقربين، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة الْمِيرَاث.
قَالَ النَّبِي: " إِن الله تَعَالَى قد أعْطى كل ذِي حق حَقه، أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث ".
وَقَالَ الْحسن، وَطَاوُس، وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك،: إِن النّسخ فِي الْوَالِدين دون الْأَقْرَبين.
ثمَّ اخْتلفُوا فِيمَن أوصى بِثلث مَاله للْأَجْنَبِيّ، فَقَالَ بَعضهم: ثلث مَا أوصى بِهِ للأقربين، وثلثاه للْأَجْنَبِيّ.
وَقَالَ بَعضهم: ثُلُثَاهُ للأقربين، وَثلثه للْأَجْنَبِيّ.
وَقَالَ بَعضهم: كل الثُّلُث للأقربين، وَلَا شَيْء للْأَجْنَبِيّ، وَالأَصَح: أَنه صَار مَنْسُوخا فِي حق الْكل، وَبَقِي الِاسْتِحْبَاب فِي حق الْأَقْرَبين الَّذين لَا يَرِثُونَ.
وَقيل: هُوَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام كَانَ على النّدب، وَالْمَنْدُوب فِي الْوَصِيَّة: بِمَا دون الثُّلُث.
وَحكى عَن بعض السّلف أَنه قَالَ: الْخمس مَعْرُوف، وَالرّبع جهد، وَالثلث غَايَة تنفذها الْقُضَاة.
175
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن بدله بعد مَا سَمعه﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: {فَمن
175
﴿سميع عليم (١٨١) فَمن خَافَ من موص جنفا أَو إِثْمًا فَأصْلح بَينهم فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم (١٨٢) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام كَمَا كتب على﴾ بدله) بعلامة التَّذْكِير، وَالْمَذْكُور مؤنث، وَهِي: الْوَصِيَّة؟ قيل مَعْنَاهُ: فَمن بدل أَمر الْوَصِيَّة.
وَقيل: مَعْنَاهُ: فَمن بدل قَول الْمُوصي؛ لِأَن الْوَصِيَّة تصدر عَن قَول الْمُوصي؛ فَرجع إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن جَاءَهُ موعظة﴾ أَي: جَاءَهُ وعظ، فَرجع إِلَى الْمَعْنى، كَذَا وَأَرَادَ بالتبديل: تَبْدِيل الشُّهَدَاء والأوصياء والأولياء.
﴿فَإِنَّمَا إثمه على الَّذين يبدلونه﴾ لَا على الْمُوصي. ﴿إِن الله سميع﴾ لما أوصى بِهِ الْمُوصي ﴿عليم﴾ بتبديل المبدلين.
176
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن خَافَ من موص جنفا أَو إِثْمًا﴾ الْخَوْف هَا هُنَا بِمَعْنى الْعلم.
وَهُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُود الله﴾ وَقَوله: ﴿وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا﴾. أَي: علمْتُم، وَإِنَّمَا عبر بالخوف عَن الْعلم؛ لِأَن الْخَوْف طرف إِلَى الْعلم فَإِنَّهُ إِنَّمَا يخَاف الْوُقُوع فِي الشَّيْء؛ للْعلم بِهِ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿من موص﴾ قرىء بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، يُقَال: أوصى ووصى بِمَعْنى وَاحِد.
وَأما الجنف: الْميل، وَالْإِثْم: الظُّلم، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ:
176
﴿الَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (١٨٣) أَيَّامًا معدودات فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين فَمن تطوع﴾
وَقَالَ السدى: الجنف: الْخَطَأ، وَالْإِثْم: الْعمد.
وَمعنى الْآيَة على قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: أَن الرجل إِذا حضر وَصِيَّة الْمُوصي فَرَآهُ يمِيل، إِمَّا بتقصير، أَو بإسراف، أَو وضع الْوَصِيَّة فِي غير موضعهَا؛ فأرشده، ورده إِلَى الْحق فَهُوَ مُبَاح لَهُ، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأصْلح بَينهم فَلَا إِثْم عَلَيْهِ﴾.
وَقيل: هَذَا فِي الْوَصِيَّة للأقربين حِين كَانَت وَاجِبَة، فَإِذا رَآهُ يُوصي لغير الْأَقْرَبين، يردهُ إِلَى الْوَصِيَّة للأقربين.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ الإِمَام يصلح بَين الْمُوصي لَهُم وَالْوَرَثَة، فيردهم إِلَى الْحق.
﴿فَلَا إِثْم عَلَيْهِ﴾ أَي: فَلَا حرج عَلَيْهِ ﴿إِن الله غَفُور رَحِيم﴾.
177
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام﴾ أَي: فرض عَلَيْكُم الصّيام.
وَالصِّيَام فِي اللُّغَة: هُوَ الْإِمْسَاك. يُقَال: صَامت الْخَيل: إِذا أَمْسَكت عَن الْعلف، وَالسير، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(تجانف عَن جو الْيَمَامَة نَاقَتي وَمَا كَانَ قصدي أَهلهَا لسوائكا)
(خيل صِيَام وخيل غير صَائِمَة تَحت العجاج وَأُخْرَى تعلك اللجما)
وَمِنْه يُقَال: صَامَ النَّهَار: إِذا ارْتَفَعت الشَّمْس وَصَارَت فِي إبطاء السّير كالواقفة؛ وَذَلِكَ فِي وَقت الهاجرة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(فدعها وسل النَّفس عَنْك بجسرة [ذمول] إِذا صَامَ النَّهَار وهجرا)
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنِّي نذرت للرحمن صوما﴾ أَي: صمتا، وَفِي الصمت إمْسَاك عَن الْكَلَام.
177
﴿خيرا فَهُوَ خير لَهُ وَأَن تَصُومُوا خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (١٨٤) شهر رَمَضَان الَّذِي أنزل﴾
وَأما الصَّوْم فِي الشَّرِيعَة: هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء، مَعَ النِّيَّة، فِي وَقت مَخْصُوص.
﴿كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ﴾ اخْتلفُوا فِي هَذَا التَّشْبِيه.
قَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ الصَّوْم فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام وَاجِبا من الْعَتَمَة إِلَى اللَّيْلَة الْقَابِلَة، وَكَذَا كَانَ وَاجِبا على من قبلنَا.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ: صَوْم رَمَضَان كتب على الْمُسلمين كَمَا كتب على الَّذين من قبلهم، يَعْنِي: النَّصَارَى.
قَالَ دَغْفَل بن حَنْظَلَة: كَانَ الصَّوْم وَاجِبا على النَّصَارَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثمَّ إِن ملكا مِنْهُم مرض، فَقَالَ: إِن شفاني الله أَزِيد عشرَة، فشفاه الله فَزَاد عشرَة، ثمَّ إِن ملكا آخر مِنْهُم مرض وَقَالَ: إِن شفاني الله أَزِيد فِيهِ سَبْعَة أَيَّام، فشفاه الله فَزَاد سَبْعَة. قَالُوا: مَا هَذَا النُّقْصَان؟ ! أكملوه بِخَمْسِينَ. وَقَالُوا: نصومه فِي وَقت لَا حر وَلَا قر. فَكَانُوا يَصُومُونَ الْخمسين فِي وَقت الرّبيع، فَهَذَا أصل صَوْم الْخمسين فِي حق النَّصَارَى.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ: صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر: كَانَ وَاجِبا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، كَمَا كتب على الْيَهُود.
روى معَاذ بن جبل: " أَن النَّبِي لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، رأى الْيَهُود يَصُومُونَ ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، وَيَوْم عَاشُورَاء، ففرضه الله عَلَيْهِ كَذَلِك ".
وَكَانَ يصومها سَبْعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، من الرّبيع إِلَى الرّبيع، ثمَّ نسخ ذَلِك بِصَوْم
178
﴿فِيهِ الْقُرْآن هدى للنَّاس وبينات من الْهدى وَالْفرْقَان فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه﴾ رَمَضَان.
وَقيل: كَانَ يَصُوم الثَّلَاث فِي أَيَّام الْبيض.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أول مَا نسخ بعد الْهِجْرَة: أَمر الْقبْلَة، وَالصَّوْم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ يَعْنِي: بِالصَّوْمِ؛ لِأَن الصَّوْم وصلَة إِلَى التَّقْوَى بِمَا فِيهِ من قهر النَّفس وَكسر الشَّهَوَات.
وَقيل: مَعْنَاهُ لَعَلَّكُمْ تخترزون عَن الشَّهَوَات من الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء.
179
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَيَّامًا معدودات﴾ فَإِن قُلْنَا بنسخ الْآيَة فَهُوَ صَوْم كَانَ وَاجِبا ثمَّ نسخ.
وَإِن قُلْنَا: الْآيَة غير مَنْسُوخَة فَالْمُرَاد بقوله: ﴿أَيَّامًا معدودات﴾ أَيَّام رَمَضَان، وَفِيه إِشَارَة إِلَى التَّيْسِير، حَيْثُ لم يُوجب صَوْم كل السّنة، وَإِنَّمَا أوجبه أَيَّامًا معدودات ﴿فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر﴾ قَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر: يجب على الْمُسَافِر صَوْم عدَّة من أَيَّام أخر وَإِن صَامَ رَمَضَان قولا بِظَاهِر الْآيَة.
وَالْجُمْهُور على أَن فِيهِ إضمارا وَتَقْدِيره: فَأفْطر، فَعدَّة من أَيَّام أخر.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي حد الْمَرَض الَّذِي يُبِيح الْفطر، فَقَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر: هُوَ مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْمَرَض. وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين من السّلف. وَقَالَ الْحسن: هُوَ الْمَرَض الَّذِي تجوز مَعَه الصَّلَاة قَاعِدا.
وَمذهب الشَّافِعِي: هُوَ الْمَرَض الَّذِي يخَاف من الصَّوْم مَعَه الزِّيَادَة فِي الْمَرَض.
فَأَما حد السّفر الَّذِي يُبِيح الْفطر اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ دَاوُد وَمن تَابعه: هُوَ مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم السّفر. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه مَسَافَة الْقصر، سِتَّة عشر فرسخا.
179
﴿وَمن كَانَ مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم﴾
وَمذهب أبي حنيفَة رَضِي الله [عَنهُ] أَنه مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام، كَمَا قَالَ فِي الْقصر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين﴾ فِي الْآيَة قراءات: فالقراءة الْمَعْرُوفَة: هَذَا.
وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وعباس وَعَائِشَة وَهُوَ صَحِيح، عَن ابْن عَبَّاس: و " على الَّذين يطوقونه " وَقَرَأَ مُجَاهِد: " وعَلى الَّذين يطوقونه "، وهما من الشواذ.
فَأَما قِرَاءَة: " فديَة طَعَام مِسْكين " فِيهِ قراءتان معروفتان: أَحدهمَا هَذِه،
وَالثَّانيَِة: قِرَاءَة أهل الْمَدِينَة وَالشَّام " فديَة طَعَام مَسَاكِين " بِالْألف.
وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة ﴿وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة﴾ أَرَادَ بِهِ: فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام كَانُوا مخيرين بَين الصَّوْم والفدية، فَقَالَ: وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة؛ إِن اخْتَارُوا الْفِدْيَة.
وَقيل مَعْنَاهُ: وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فِي حَال الشَّبَاب، وعجزوا عَنهُ فِي الْكبر الْفِدْيَة إِذا أفطروا، وَهُوَ مروى عَن على، فعلى هَذَا لَا تكون الْآيَة مَنْسُوخَة.
فَأَما قِرَاءَة ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: وعَلى الَّذين يطوقونه فَلَا يطيقُونَهُ الْفِدْيَة.
180
﴿الْعسر ولتكلموا الْعدة ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ ولعلكم تشكرون (١٨٥) ﴾
وَأما قِرَاءَة مُجَاهِد يطوقونه أَي: يتطوقونه وَيُكَلِّفُونَهُ فَلَا يطيقُونَهُ.
وَأما قَوْله: ﴿فديَة طَعَام مَسَاكِين﴾ إِنَّمَا أضَاف الْفِدْيَة إِلَى الطَّعَام لِأَن الْفِدْيَة قدر من الطَّعَام، وَالطَّعَام اسْم الْجِنْس، وَهُوَ كَمَا يُقَال خَاتم فضَّة، وثوب خَز، وَنَحْو ذَلِك.
وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة ﴿فديَة﴾ رفع على الِابْتِدَاء ﴿طَعَام مِسْكين﴾ تَفْسِير لَهُ وَبدل عَنهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: " مِسْكين؛ لِأَن كل يَوْم يطعم مِسْكينا.
وَمن قَرَأَ: " مَسَاكِين " لِأَن جملَة طَعَام أَيَّام الصَّوْم تكون لمساكين.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَمن تطوع خيرا فَهُوَ خيرا لَهُ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ: من أطْعم مسكينين وَعَلِيهِ طَعَام مِسْكين وَاحِد، أَو أطْعم صَاعا وَعَلِيهِ مد، فَهُوَ خير لَهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَن تَصُومُوا خير لكم﴾ إِن قُلْنَا بقول النّسخ، مَعْنَاهُ: وَأَن تَصُومُوا خير لكم من الْفِدْيَة.
وَإِن قُلْنَا: الْآيَة غير مَنْسُوخَة فَمَعْنَاه: وَأَن تَصُومُوا فِي حَال الشَّبَاب خير لكم من الْفِدْيَة فِي حَال الْكبر وَالْعجز.
وَقيل: هَذَا فِي حق الشَّيْخ الْهَرم، أَن يتَكَلَّف الصَّوْم خير لَهُ من أَن يفْدي. وَالصَّحِيح: أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين ﴿إِن كُنْتُم تعلمُونَ﴾.
181
قَوْله تَعَالَى: ﴿شهر رَمَضَان﴾ سمى الشَّهْر بذلك لشهرته.
وَأما رَمَضَان كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يُسمى شهر رَمَضَان ناتقا.
قَالَ أَبُو عَليّ قطرب: إِنَّمَا سمى: رَمَضَان؛ لأَنهم كَانُوا يَصُومُونَ فِي الْحر الشَّديد، وَمِنْه الرمضاء: للرمل الَّذِي حمى بالشمس.
وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ اسْم من أَسمَاء الله، وَلذَلِك لَا يجمع على رمضانات، ويروى هَذَا
181
عَن النَّبِي غَرِيبا، وَالصَّحِيح أَنه اسْم الشَّهْر.
وَقد ورد فِي فضل الشَّهْر وَالصَّوْم أَخْبَار، مِنْهَا مَا روى مَرْفُوعا: " سيد الشُّهُور شهر رَمَضَان ".
وَصَحَّ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ أول لَيْلَة من رَمَضَان فتحت أَبْوَاب الرَّحْمَة، وغلقت أَبْوَاب جَهَنَّم، وسلسلت الشَّيَاطِين " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وَقَالَ: يَقُول الله تَعَالَى: كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا الصَّوْم؛ فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ.. " الْخَبَر.
وَاخْتلفُوا فِي تَخْصِيص الصَّوْم، مِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ أَشد الْعِبَادَات فِي كسر
182
الشَّهَوَات وقمع النَّفس. وَمِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ سر بَين العَبْد وَبَين ربه.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّمَا أنزل الْقُرْآن فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة فَكيف قَالَ: أنزل فِيهِ الْقُرْآن؟ وَالْجَوَاب: قَالَ ابْن عَبَّاس: أنزل الله تَعَالَى الْقُرْآن جملَة فِي رَمَضَان إِلَى بَيت فِي السَّمَاء الدُّنْيَا يُسمى بِبَيْت الْعِزَّة، ثمَّ مِنْهُ أنزل إِلَى الأَرْض إرْسَالًا.
روى وائله بن الْأَسْقَع عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أنزلت صحف إِبْرَاهِيم فِي أول لَيْلَة من رَمَضَان، وأنزلت التَّوْرَاة فِي اللَّيْلَة السَّادِسَة من رَمَضَان، وَأنزل الْإِنْجِيل فِي لَيْلَة الثَّالِث عشر من رَمَضَان، وَأنزل الْقُرْآن لأَرْبَع وَعشْرين من رَمَضَان ".
وَفِيه قَول ثَالِث مَعْنَاهُ: أنزل فِيهِ الْقُرْآن بفريضة صَوْم رَمَضَان.
وَإِنَّمَا سمى الْقُرْآن قُرْآنًا؛ لِأَنَّهُ يجمع السُّور والآي، والحروف، وأصل الْقُرْآن: الْجمع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(ذراعي عيطل أدماء بكر هجان اللَّوْن لم تقْرَأ جَنِينا)
وَقَوله تَعَالَى ﴿هدى للنَّاس﴾ رشاد وَبَيَان. وَقَوله تَعَالَى: ﴿وبينات من الْهدى وَالْفرْقَان﴾ أَي: دلالات واضحات من الْحَلَال وَالْحرَام، وَالْفرْقَان: المفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه﴾ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد الْمبرد: مَعْنَاهُ فَمن كَانَ مِنْكُم مُقيما فِي الْحَضَر فَأدْرك الشَّهْر فليصمه.
ثمَّ اخْتلفت الصَّحَابَة فِيمَن أدْرك الشَّهْر وَهُوَ مُقيم، ثمَّ سَافر على قَوْلَيْنِ: فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: لَا يجوز لَهُ أَن يفْطر. وَأكْثر الصَّحَابَة على أَنه يجوز الْفطر،
183
وَهُوَ الْأَصَح؛ لما صَحَّ عَن رَسُول الله بِرِوَايَة جَابر " أَنه سَافر فِي رَمَضَان فَلَمَّا بلغ كرَاع الغميم أفطر وَأفْطر النَّاس ".
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فليصمه﴾ أَي بِقدر مَا أدْرك وَهُوَ مُقيم ﴿وَمن كَانَ مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر﴾ إِنَّمَا أعَاد هَذَا ليعلم أَن هَذَا الحكم فِي النَّاسِخ مثل مَا كَانَ فِي الْمَنْسُوخ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر﴾ يَعْنِي فِي إِبَاحَة الْفطر بِالْمرضِ وَالسّفر، وَتَأْخِير الصَّوْم إِلَى أَيَّام أخر.
وَحكى عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: مَا خير رجل بَين أَمريْن فَاخْتَارَ أيسرهما؛ إِلَّا كَانَ ذَلِك أحبهما إِلَى الله.
وروى محجن بن أدرع: " أَن النَّبِي أخبر بِرَجُل كَانَ يُطِيل الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد طول النَّهَار فجَاء إِلَيْهِ وَأخذ بمنكبيه وهزهما هزا، ثمَّ قَالَ: إِن الله تَعَالَى رَضِي لهَذِهِ الْأمة باليسير، وَكره لَهُم الْعسر، وَإِن هَذَا الرجل رَضِي بالعسر وَيكرهُ الْيُسْر ".
ومشهور عَن رَسُول الله: " أَن الله يحب أَن تُؤْتى رخصه كَمَا يحب أَن تُؤْتى عَزَائِمه ".
184
( ﴿وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان فليستجيبوا لي﴾ ولتكملوا الْعدة) أَي: عدَّة الشَّهْر بِقَضَاء مَا أفطر فِي الْمَرَض أَو السّفر. ﴿ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ﴾ أَي: لتعظموه على مَا أرشدكم إِلَى مَا رضى بِهِ من صَوْم رَمَضَان. قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ تَكْبِيرَات لَيْلَة الْفطر وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عمر، وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا. وَقَالَ: حق على كل مُسلم أَن يكبر لَيْلَة الْفطر إِلَى أَن يفرغ من صَلَاة الْعِيد ﴿ولعلكم تشكرون﴾.
185
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب﴾ فِي سَبَب نزُول الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الصَّحَابَة قَالُوا: يَا رَسُول الله أَقَرِيب رَبنَا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فَنزلت الْآيَة ".
وَالثَّانِي: أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: ﴿ادْعُونِي استجب لكم﴾ قَالُوا: يَا رَسُول الله كَيفَ نَدْعُوهُ وَمَتى نَدْعُوهُ؛ فَنزلت الْآيَة.
وَقَول: ﴿فَإِنِّي قريب﴾ أَي: لَا يخفى على شَيْء، وَهُوَ أقرب إِلَى الْعباد من حَبل الوريد، وَأقرب إِلَى الْقلب من ذِي الْقلب.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان﴾ فِيهِ حذف. وَتَقْدِيره: أُجِيب دَعْوَة الداع إِن شِئْت. وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ﴾.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: أسمع دَعْوَة الدَّاعِي، تَقول الْعَرَب: فلَان يَدْعُو من لَا يُجيب، أَي من لَا يسمع، وَهَذَا لِأَنَّهُ قد يدعى فَلَا يُجيب، فَدلَّ أَنه أَرَادَ بالإجابة السماع.
وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة الْإِجَابَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يخيب من دَعَاهُ، فَإِنَّهُ إِن دَعَاهُ بِمَا قدر
185
﴿وليؤمنوا بِي لَعَلَّهُم يرشدون (١٨٦) أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ علم الله أَنكُمْ كُنْتُم تختانون أَنفسكُم فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفا لَهُ أعْطى، وَإِن دَعَاهُ بِمَا لم يقدر لَهُ يدّخر لَهُ الثَّوَاب فِي الْآخِرَة فَلَا يخيب دعاءه.
وَقد ورد عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " مَا من عبد يَقُول [يَا رب] إِلَّا قَالَ الله تَعَالَى: لبيْك عَبدِي، فيعجل مَا شَاءَ، ويدخر مَا شَاءَ ".
قَوْله تَعَالَى: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بِي﴾
قيل: الاستجابة هَاهُنَا بِمَعْنى الْإِجَابَة، وَعَلِيهِ يدل قَول الشَّاعِر:
(وداع دعايا من يُجيب إِلَى الندى فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب)
أَي: فَلم يجبهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ فليستدعوا مني الْإِجَابَة.
وَحَقِيقَته فليطيعوا لي. ﴿وليؤمنوا بِي لَعَلَّهُم يرشدون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
186
قَوْله تَعَالَى: ﴿أحل لكم﴾ أَي: أُبِيح لكم (لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم).
قيل: والرفث: كل مَا يُريدهُ الرجل من امْرَأَته، وَهُوَ بِمَعْنى الْوَطْء هَاهُنَا.
قَالَ ابْن عَبَّاس: إِن الله حييّ كريم، يكنى بالْحسنِ عَن الْقَبِيح.
﴿هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ﴾ قيل: مَعْنَاهُ: هن سكن لكم، وَأَنْتُم سكن لَهُنَّ. وَقيل: لَا يسكن شَيْء إِلَى شَيْء كسكون أحد الزَّوْجَيْنِ إِلَى الآخر. وَقيل: أَرَادَ بِهِ حَقِيقَة اللبَاس، فَإِن أَحدهمَا يصير لباسا لصَاحبه عِنْد الْمُبَاشرَة، قَالَ
186
﴿عَنْكُم فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم﴾ الشَّاعِر:
(إِذا مَا الضجيع ثنى جيده تثنت فَصَارَت عَلَيْهِ لباسا)
قَالَ الرّبيع بن أنس: مَعْنَاهُ: هن فرش لكم، وَأَنت لحف لَهُنَّ.
وَقَوله تَعَالَى: (علم الله أَنكُمْ كُنْتُم تختانون أَنفسكُم) هُوَ افتعال: من الْخِيَانَة، أَي: تخونون أَنفسكُم بمخالفة الْأَمر، وَترك الْوِقَايَة. وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفا عَنْكُم فَالْآن باشروهن﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ الْوَطْء. وَقيل: مَا دون الْوَطْء. وَقَوله تَعَالَى: ﴿وابتغوا مَا كتب الله لكم﴾ قَالَ أنس بن مَالك: أَرَادَ بِهِ طلب الْوَلَد.
وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ ابْتِغَاء لَيْلَة الْقدر.
وَقَالَ قَتَادَة وَهُوَ أحسن الْأَقْوَال: يَعْنِي: وابتغوا مَا كتب الله لكم من الرُّخْصَة بِإِبَاحَة الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء، فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس فِي الشواذ: " وَاتبعُوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا ".
وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الله تَعَالَى كَانَ قد أوجب الصَّوْم فِي الِابْتِدَاء من الْعَتَمَة إِلَى اللَّيْلَة الْقَابِلَة، وَكَانَ كل من نَام أَو صلى الْعشَاء حرم عَلَيْهِ الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء " فروى أَن رجلا يُقَال لَهُ: صرمة أَبُو قيس ظلّ يعْمل جَمِيع النَّهَار، ثمَّ آوى إِلَى منزله، وَطلب من امْرَأَته طَعَاما، فأبطأت، فغلبه النّوم، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ كَانَ قد حرم الطَّعَام وَالشرَاب فَأصْبح وَقد جهد جهدا شَدِيدا، حَتَّى خر مغشيا عَلَيْهِ، فَأخْبر بِهِ
187
﴿الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل﴾ رَسُول الله؛ فَنزلت الْآيَة بِإِبَاحَة الْأكل وَالشرب بِاللَّيْلِ.
وَسبب إِبَاحَة الْمُبَاشرَة: مَا روى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " يَا رَسُول الله إِنِّي أصبت امْرَأَتي بعد مَا نمت، فَقَالَ: مَا كنت جَدِيرًا بِهَذَا يَا عمر ".
" وروى أَن رجلا من الصَّحَابَة أخبر النَّبِي بِمثل ذَلِك، فَنزلت الْآيَة بِإِبَاحَة الْمُبَاشرَة " وَذَلِكَ معنى قَوْله: ﴿كُنْتُم تختانون أَنفسكُم﴾.
فَأَما قَوْله: ﴿وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى: أَرَادَ بالخيط: اللَّوْن، وَمَعْنَاهُ: بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿من الْفجْر﴾ سَبَب نُزُوله مَا روى " أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة أَخذ عدي ابْن حَاتِم عِقَالَيْنِ، أَحدهمَا أَبيض، وَالْآخر أسود، وَوَضعهمَا تَحت وسادته فَلَمَّا أصبح كَانَ ينظر إِلَيْهِمَا، ويتسحر، حَتَّى يتَبَيَّن الْأَبْيَض من الْأسود، فَأخْبر بِهِ النَّبِي فَقَالَ: إِنَّك لَعَرِيض الوساد ".
وَفِي رِوَايَة: " إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا، إِنَّمَا هُوَ بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل " وَهِي كلمة لَهُم يكنون بهَا عَن قلَّة الْفَهم؛ فَنزل قَوْله ﴿من الْفجْر﴾ وَالْفَجْر فجران:
188
﴿وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تقربوها كَذَلِك﴾ أَحدهمَا فجر مستطيل كذنب السرحان، يطاع صاعدا، ثمَّ يغيب، ويغلب الظلام، وَهُوَ الْفجْر الْكَاذِب.
وَالثَّانِي بعده: فجر مستطير، ينتشر فِي الْأُفق سَرِيعا، وَقيل: يخْتَلط بِهِ الْحمرَة، وَهُوَ الْفجْر الصَّادِق الَّذِي يحرم الطَّعَام ويبيح الصّيام.
وَتقول الْعَرَب: الْفجْر (بشير) الشَّمْس.
ويحكى عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان خلافًا غَرِيبا، وَهُوَ مَعْرُوف عَنهُ، أَنه قَالَ: أَرَادَ بِالْفَجْرِ طُلُوع الشَّمْس، وَكَانَ يُبِيح التسحر بعد طُلُوع الْفجْر.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل﴾ وَهَذَا يَقْتَضِي حُرْمَة الصَّوْم بِاللَّيْلِ لِأَنَّهُ قد جعله حدا.
وَقد قَالَ: " من صَامَ بِاللَّيْلِ فقد تَعب وَلَا أجر لَهُ ".
وَقَالَ أَيْضا: " إِذْ أقبل اللَّيْل من هَاهُنَا، وَأدبر النَّهَار من هَاهُنَا، فقد أفطر الصَّائِم ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد﴾ والعكوف: هُوَ الْمقَام فِي الْموضع.
وَقيل: نزلت الْآيَة فِي قوم من الْمُسلمين كَانُوا يخرجُون من الِاعْتِكَاف، ويباشرون الْأَهْل، ثمَّ يعودون إِلَى الْمُعْتَكف، فَحرم الله تَعَالَى الْمُبَاشرَة فِي الِاعْتِكَاف.
189
﴿يبين الله آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (١٨٧) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ وتدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام لتأكلوا فريقا من أَمْوَال النَّاس بالإثم وَأَنْتُم تعلمُونَ (١٨٨) يَسْأَلُونَك﴾
وَالِاعْتِكَاف جَائِز فِي كل الْمَسَاجِد، وَحكى عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان خلافًا شاذا فِيهِ فَقَالَ: لَا يجوز الِاعْتِكَاف إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَسَاجِد: فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى، وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَكَانَ يعيب على عبد الله بن مَسْعُود اعْتِكَافه فِي غَيرهَا من الْمَسَاجِد، وَكَانَ عبد الله يُنكره وَيرد عَلَيْهِ قَوْله، وَالْأمة على قَول عبد الله.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ حُدُود الله﴾ وَهِي مَا منع الله تَعَالَى عَنْهَا من الْمعاصِي.
وأصل الْحَد: الْمَنْع. وَمِنْه الْحداد للبواب؛ لِأَنَّهُ يمْنَع النَّاس، وَمِنْه الْحَدِيد؛ لِأَنَّهُ يحتمي بِهِ للامتناع من الأعادي.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَلَا تقربوها﴾ أَي: فَلَا ترتكبوها.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿كَذَلِك يبين الله آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
190
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ﴾ أَي: لَا يَأْكُل بَعْضكُم أَمْوَال بعض بِالْبَاطِلِ. وَالْأكل بِالْبَاطِلِ نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: أَن يكون بطرِيق الْغَصْب والنهب وَالظُّلم.
وَالْآخر: بطرِيق اللَّهْو مثل الْقمَار والرهان وَأُجْرَة الْمُغنِي وَنَحْو ذَلِك.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وتدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام﴾ قيل: مَعْنَاهُ: وَلَا تدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام، أَي لَا ترشوهم وتصانعوهم فيحكموا لكم بالجور.
وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ وتنسبونه إِلَى قَول الْحُكَّام وتتخذون قَوْلهم حجَّة.
﴿وَأَنْتُم تعلمُونَ﴾ خلَافَة، هَذَا دَلِيل على من يَقُول بنفوذ الْقَضَاء ظَاهرا وَبَاطنا. والإدلاء: الْإِلْقَاء يُقَال: أدلى دلوه، إِذا أرسل، ودلى إِذا أخرج.
190
﴿عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا وَلَكِن الْبر من اتَّقى وَأتوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون (١٨٩) ﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لتأكلوا فريقا﴾ أَي: طَائِفَة ﴿من أَمْوَال النَّاس بالإثم﴾ بالظلم ﴿وَأَنْتُم تعلمُونَ﴾.
191
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة﴾ وَهِي جمع الْهلَال، وَهُوَ اسْم للقمر أول مَا يَبْدُو دَقِيقًا وَإِنَّمَا سمى هلالا؛ لِأَن النَّاس يرفعون أَصْوَاتهم عِنْد رُؤْيَته. يُقَال: اسْتهلّ الصَّبِي: إِذا صَاح بالبكاء، وَالْعرب تسمى كل ثَلَاثَة من الشَّهْر باسم خَاص، فَتَقول للثَّلَاثَة الأولى: غرر، ثمَّ يَلِيهِ، نفل، ثمَّ يَلِيهِ، تسع، ثمَّ يَلِيهِ، عشر، ثمَّ يَلِيهِ، بيض، ثمَّ يَلِيهِ، ربع، وَالأَصَح روع، ثمَّ يَلِيهِ، ظلم، ثمَّ يَلِيهِ، حناوس، ثمَّ يَلِيهِ، وَادي، ثمَّ يَلِيهِ محاق.
وَسبب نزُول الْآيَة: مَا روى أَن معَاذ بن جبل، وثعلبة بن عثيمة، قَالَا: " يَا رَسُول الله، مَا بَال حَال الْقَمَر يَبْدُو دَقِيقًا؛ ثمَّ يمتلئ فَوْرًا ثمَّ يعود دَقِيقًا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج﴾.
يَعْنِي: فعلت مَا فعلت؛ ليَكُون مَوَاقِيت لصومكم، وفطركم، وحجكم، وآجال ديونكم ".
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا﴾ قَالَ الْبَراء بن عَازِب: نزلت الْآيَة فِينَا معشر الْأَنْصَار، كَانَ الرجل منا إِذا خرج إِلَى الْحَج ثمَّ عَاد، لَا يدْخل دَاره من الْبَاب، وَلَكِن ينقب نقبا فِي مُؤخر الْبَيْت، فَيدْخل مِنْهُ، ويعد الدُّخُول من بَاب الْبَيْت فجورا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا﴾ أَي: بآخرها.
﴿وَلَكِن الْبر من اتَّقى﴾ أَي: بر من اتَّقى ﴿وَأتوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا﴾ ردهم إِلَى الْأَبْوَاب ﴿وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم﴾ قيل: كَانَ فِي ابْتِدَاء
191
﴿وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم وأخرجوهم من حَيْثُ أخرجوكم والفتنة أَشد من الْقَتْل﴾ الْإِسْلَام، أَمر الله تَعَالَى نبيه بالكف عَن قتال الْمُشْركين ثمَّ لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة أمره بقتالهم إِذا قَاتلُوا؛ بقوله تَعَالَى: ﴿وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم﴾ [ثمَّ] أمره بقتالهم قَاتلُوا أَو لَو يقاتلوا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَعْتَدوا﴾ أَي: لَا تبدءوهم بِالْقِتَالِ.
وَقيل: وَلَا تَعْتَدوا أَي: لَا تقتلُوا المعاهدين مِنْهُم ﴿إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ﴾.
192
قَوْله تَعَالَى: ﴿واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم﴾ قيل: نسخت الْآيَة الأولى بِهَذِهِ كَمَا بَينا. وَقيل: بل نسخت بقوله تَعَالَى: ﴿اقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾.
وَقَالُوا: نسخت بهَا قَرِيبا من سبعين آيَة.
﴿حَيْثُ ثقفتموهم﴾ أَي: وَجَدْتُمُوهُمْ.
وَقَوله تَعَالَى ﴿وأخرجوهم من حَيْثُ أخرجوكم﴾ وَذَلِكَ أَنهم أخرجُوا الْمُسلمين من مَكَّة؛ فَقَالَ: أخرجوهم من دِيَارهمْ كَمَا أخرجوكم من دِيَاركُمْ.
﴿والفتنة أَشد من الْقَتْل﴾ يَعْنِي بالفتنة: الْكفْر، وَسبب ذَلِك: أَن الله تَعَالَى لما حرم بدايتهم بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْر الْحَرَام، بَادر إِلَى قِتَالهمْ بعض الْمُسلمين، فعيرهم الْكفَّار عَلَيْهِ، فَقَالَ الله تَعَالَى ﴿والفتنة أَشد من الْقَتْل﴾ يَعْنِي: الشّرك الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ أَشد من قِتَالهمْ الَّذِي بدءوا بِهِ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا تقاتلوهم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ كَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاء حَرَامًا بدايتهم بِقِتَال فِي الْبَلَد الْحَرَام، ثمَّ صَار مَنْسُوخا.
192
﴿وَلَا تقاتلوهم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى يقاتلونكم فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِك جَزَاء الْكَافرين (١٩١) فَإِن انْتَهوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (١٩٢) وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدّين لله فَإِن انْتَهوا فَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين (١٩٣) الشَّهْر﴾
قَالَ عَطاء: لم يصر هَذَا مَنْسُوخا. وَالأَصَح أَن الْآيَة مَنْسُوخَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِك جَزَاء الْكَافرين﴾
193
﴿فَإِن انْتَهوا﴾ يَعْنِي فَإِن أَسْلمُوا. ﴿فَإِن الله غَفُور رَحِيم﴾ لما سلف.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة﴾ أَي: شرك ﴿وَيكون الدّين لله﴾ أَي: قاتلوهم حَتَّى يسلمُوا لله. وَقيل: حَتَّى لَا تكون سَجْدَة إِلَّا لله.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِن انْتَهوا فَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين﴾ أَي: فَإِن أَسْلمُوا فَلَا نهب، وَلَا أسر، وَلَا قتل، إِلَّا على الَّذين بقوا على الشّرك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الشَّهْر الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص﴾ فِي معنى الْآيَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ بِهِ فِي أَمر الْعمرَة، وَذَلِكَ مَا روى " أَن النَّبِي خرج مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقعدَة، فَلَمَّا بلغ الْحُدَيْبِيَة صده الْمُشْركُونَ، فَصَالحهُمْ على أَن يعود فِي الْعَام الْمقبل، ثمَّ عَاد مُعْتَمِرًا فِي الْعَام الْمقبل فِي ذِي الْقعدَة فأقضاه الله تَعَالَى مَا فَاتَ فِي الْعَام الأول بِمَا فعله فِي الْعَام الثَّانِي " فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿الشَّهْر الْحَرَام بالشهر الْحَرَام﴾ يَعْنِي ذَا الْقعدَة. ﴿والحرمات قصاص﴾ يَعْنِي: حُرْمَة الشَّهْر الْحَرَام، وَحُرْمَة الْبَلَد الْحَرَام، وَحُرْمَة الْإِحْرَام.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه وَارِد فِي أَمر الْقِتَال، وَمَعْنَاهُ فَإِن بدءوكم بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْر الْحَرَام، وانتهكوا حرمته فَقَاتلهُمْ فِيهِ وَلَا تبالوا بحرمته؛ فَإِنَّهُ قصاص بِمَا فعلوا.
﴿فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم﴾ والاعتداء: الظُّلم،
193
﴿الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وأنفقوا فِي سَبِيل وَإِنَّمَا سمى الْجَزَاء على الظُّلم: اعتداء، على ازدواج الْكَلَام، وَمثله قَوْله تَعَالَى {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا﴾.
وَتقول الْعَرَب: ظَلَمَنِي فلَان فظلمته، أَي: جازيته على الظُّلم. وَيُقَال: جهل فلَان على فجهلت عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(أَلا لَا يجهلهن أحد علينا فنجهل فَوق جهل الجاهلينا)
وَقَالَ آخر:
(ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للْجَهْل بِالْجَهْلِ مسرج)
(وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ)
194
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأنفقوا فِي سَبِيل الله﴾ أَرَادَ بِهِ: الْإِنْفَاق فِي الْجِهَاد، وكل خير سَبِيل الله، وَلَكِن إِذا أطلق سَبِيل الله، ينْصَرف إِلَى الْجِهَاد.
﴿وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ قيل: الْبَاء زَائِدَة، وَتَقْدِيره: وَلَا تلقوا أَيْدِيكُم، وَعبر بِالْأَيْدِي عَن الْأَنْفس، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿بِمَا كسبت أَيْدِيكُم﴾ أَي: بِمَا كسبتم. وَقيل الْبَاء فِي موضعهَا، وَفِيه حذف، وَتَقْدِيره: وَلَا تلقوا أَنفسكُم بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة.
والتهلكة والهلاك: وَاحِد. وَقيل: بَينهمَا فرق، فالتهلكة: مَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ، والهلاك: مَا لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ. وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة بترك الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله.
وَالثَّانِي: قَالَ النُّعْمَان بن بشير، والبراء بن عَازِب: إِن المُرَاد بِهِ: أَن يُذنب الرجل
194
﴿الله وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة وأحسنوا إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله فَإِن أحصرتم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي وَلَا تحلقوا رءوسكم حَتَّى﴾ ذَنبا ثمَّ يَقُول: لَا تَوْبَة لي، فيقنط من رَحْمَة الله ونعوذ بِاللَّه.
وَالْأول أصح. لما روى عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِينَا معشر الْأَنْصَار فَإِن الله تَعَالَى لما نصر دنيه، وأعز نبيه، قُلْنَا: لَو أَقَمْنَا فِي أَمْوَالنَا نُصْلِحهَا، ونترك الْجِهَاد، فَإِنَّهَا تضيع، فَنزلت الْآيَة: ﴿وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ يَعْنِي: بترك الْإِنْفَاق فِي الْجِهَاد، وَالْإِقَامَة على الْأَمْوَال، حَتَّى روى: أَنه لما نزلت الْآيَة مازال أَبُو أَيُّوب يَغْزُو حَتَّى آخر غَزْوَة غَزَاهَا بقسطنطينية، فِي بعث بعثة مُعَاوِيَة وَتُوفِّي (هُنَالك) وَدفن فِي أصل سور قسطنطينية وهم يستسقون بِهِ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وأحسنوا﴾ يَعْنِي: بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيل الله.
وَقَالَ عِكْرِمَة: مَعْنَاهُ: أَحْسنُوا الظَّن بِاللَّه.
وَقيل مَعْنَاهُ: أَدّوا فَرَائض الله ﴿إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ﴾ قَالَ فُضَيْل بن عِيَاض: من كَانَت تَحت يَده دجَاجَة فَلم يحسن إِلَيْهَا لم يكن من الْمُحْسِنِينَ.
195
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله﴾ وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: فِي الشواذ: " وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة إِلَى الْبَيْت " من غير قَوْله: " لله " وَقَرَأَ الشّعبِيّ: وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله على الِابْتِدَاء.
وَاخْتلفُوا معنى الْإِتْمَام، قَالَ عمر: إِتْمَامهمَا أَن لَا ينْسَخ إِذْ كَانَ جَائِزا نسخه فِي الِابْتِدَاء. وَقَالَ عَليّ، وَابْن مَسْعُود: إِتْمَامهمَا أَن يحرم بهما من دويرة الْأَهْل. وَقيل: إِتْمَامهمَا أَن يكون الزَّاد وَالنَّفقَة من الْحَلَال. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: إِتْمَامهمَا أَن يقْصد
195
﴿يبلغ الْهَدْي مَحَله فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو﴾ الْحَج وَلَا يقْصد التِّجَارَة.
وَقيل: إِتْمَامهمَا أَن لَا يَعْصِي الله فِيهِ، وَيَأْتِي بِهِ على وَجهه كَمَا أَمر.
ثمَّ اعْلَم أَن الْعمرَة وَاجِبَة، وَهُوَ قَول ابْن عمر، وَعند أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ سنة، وَهُوَ مروى عَن جَابر.
وَالدَّلِيل على وُجُوبهَا: ظَاهر الْآيَة، وَهُوَ قَوْله: ﴿وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله﴾ وَظَاهر الْأَمر للْوُجُوب.
وَقد ورد فِي فضل الْحَج وَالْعمْرَة أَخْبَار، مِنْهَا: مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " العمرتان تكفران مَا بَينهمَا، وَالْحج المبرور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجنَّة ".
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِن أحصرتم﴾ قَالَ ابْن عمر: الْإِحْصَار: من الْعَدو. (وَقَالَ ابْن مَسْعُود: الْإِحْصَار: من الْعَدو) وَالْمَرَض كِلَاهُمَا مُعْتَبر. وَعَن ابْن عَبَّاس فِيهِ رِوَايَتَانِ. والإحصار والحصر بِمَعْنى وَاحِد.
وَقَالَ الْفراء: الْإِحْصَار: بِالْحَبْسِ، والحصر: منع الْعَدو. وَالصَّحِيح أَنه من الْعَدو دون الْمَرَض لقَوْله: ﴿فَإِذا أمنتم﴾ والأمن: من الْعَدو. وَمن قَالَ: بِالْأولِ قَالَ فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره. فَإِذا أمنتم من الْعَدو، وبرأتم من الْمَرَض.
وَقَول تَعَالَى: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهدى﴾ وَأَقل مَا يجب مِنْهُ: ذبح الشَّاة، والأعلى: نحر بَدَنَة، والأوسط: ذبح بقرة، وَالْهدى والتهدية وَالْهدى بِمَعْنى وَاحِد؛ وَهُوَ مَا يهدي إِلَى مَوضِع، أَو إِلَى شخص. قَالَ الشَّاعِر:
(حَلَفت بِرَبّ مَكَّة والمصلى وأعناق الْهدى مقلدات)
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا تحلقوا رؤوسكم حَتَّى يبلغ الْهدى مَحَله﴾ أَي: حَتَّى
196
﴿صَدَقَة أَو نسك فَإِذا أمنتم فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي فَمن﴾ يذبح فِي مَوْضِعه، وَمَوْضِع الذّبْح عندنَا: حَيْثُ أحْصر وتحلل.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: مَوْضِعه: مَكَّة. وَمَا قُلْنَاهُ أصح؛ لِأَن رَسُول الله " لما بلغ الْحُدَيْبِيَة مُعْتَمِرًا، فصده الْمُشْركُونَ، تحلل وَذبح هُنَالك ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَبُو بِهِ أَذَى من رَأسه﴾ نزل هَذَا فِي كَعْب بن عجْرَة. روى عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى. عَن كَعْب بن عجْرَة أَنه قَالَ: " كنت مَعَ رَسُول الله بِالْحُدَيْبِية، وَكنت أنفخ تَحت الْقدر وَالْقمل يتهافت على وَجْهي، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: مَا هَذَا؟ ! احْلق رَأسك، وَاذْبَحْ شَاة، أَو صم ثَلَاثَة أَيَّام، أَو أطْعم سِتَّة مَسَاكِين ". فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك﴾ يَعْنِي: ذبح الشَّاة.
وَذَلِكَ الْمَذْهَب عندنَا، أَن يذبح فِي فديَة الْأَذَى: شَاة، أَو يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام، أَو يتَصَدَّق بفرق من طَعَام، وَالْفرق: ثَلَاثَة أصوع، كل صَاع أَرْبَعَة أَمْدَاد، فَيتَصَدَّق على كل مِسْكين بمدين.
وَقَالَ عَطاء: يطعم عشرَة مَسَاكِين.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِذا أمنتم فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج﴾ قَالَ ابْن الزبير: يخْتَص التَّمَتُّع بالمحصر؛ لقَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا أمنتم﴾ وَعَامة الصَّحَابَة على أَنه جَائِز على الْعُمُوم للكافة.
ثمَّ مَذْهَب الْمَدَنِيين، والكوفيين: أَن التَّمَتُّع هُوَ: أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج،
197
﴿لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم تِلْكَ عشرَة كَامِلَة ذَلِك لمن لم يكن أَهله حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب﴾ ثمَّ يُقيم بِمَكَّة، ويحج من عَامه ذَلِك.
وسمى تمتعا؛ لِأَنَّهُ يسْتَمْتع بالمحظورات إِذا تحلل عَن الْعمرَة إِلَى أَن يحرم بِالْحَجِّ.
وَقَالَ طَاوس: لَا يخْتَص التَّمَتُّع بأشهر الْحَج، بل إِذا أحرم بِالْعُمْرَةِ فِي غير أشهر الْحَج يكون مُتَمَتِّعا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهدى﴾ أَي: ذبح الشَّاة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج﴾ وَذَلِكَ بِأَن يَصُوم يَوْمًا قبل التَّرويَة، وَيَوْم التَّرويَة، وَيَوْم عَرَفَة، وَيجوز أَن يَصُوم الثَّلَاثَة مُتَفَرِّقَة.
وَقَالَ ابْن عمر، وَعَائِشَة: يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام منى، وَذَلِكَ التَّشْرِيق وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم. وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَسَبْعَة إِذا رجعتم﴾ قَالَ ابْن عمر: مَعْنَاهُ إِذا رجعتم إِلَى الْأَهْل.
وَالصَّحِيح: أَنه إِذا أَرَادَ الرُّجُوع عَن الْحَج حَتَّى لَو صَامَ السَّبع فِي الطَّرِيق جَازَ وَيجوز مُتَفَرقًا أَيْضا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ عشرَة كَامِلَة﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: لَا يشكل أَن الثَّلَاثَة والسبع عشرَة، فَلم قَالَ: تِلْكَ عشرَة كَامِلَة؟ قُلْنَا: قيل: إِنَّمَا قَالَه تَأْكِيدًا، وَمثله قَول الفرزدق:
(ثَلَاث وَاثْنَتَانِ فهن خمس وسادسة تميل إِلَى شمام)
وَهَذَا لِأَن الْعَرَب مَا كَانُوا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحساب، وَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى فضل شرح وَزِيَادَة بَيَان.
198
( ﴿١٩٦) الْحَج أشهر مَعْلُومَات فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال﴾
وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا حبس إبهامه فِي الكرة الثَّالِثَة ". فَأَشَارَ إِلَيْهِم بأصابعه ليعرفوا الْحساب.
وَقيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، يَعْنِي: فَصِيَام عشرَة أَيَّام: ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج، وَسَبْعَة إِذا رجعتم، وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لقطع توهم الزِّيَادَة، فَإِن قَوْله: فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم. يُوهم وَخَمْسَة إِذا فَعلْتُمْ كَذَا، وَنَحْو ذَلِك، فَقَالَ: تِلْكَ عشرَة ليقطع توهم الزِّيَادَة.
وَقَوله: ﴿كَامِلَة﴾ أَي: كَامِلَة فِي الْأجر. وَقيل: كَامِلَة فِيمَا أُرِيد بِهِ وَإِقَامَة الصَّوْم مقَام الْهدى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك لمن لم يكن أَهله حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام﴾ قَالَ بعض الصَّحَابَة: أَرَادَ بحاضري الْمَسْجِد الْحَرَام: أهل مَكَّة، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: يَا أهل مَكَّة لَا تمتّع لكم. إِنَّمَا التَّمَتُّع للغرباء.
وَقيل: هم جَمِيع أهل الْحرم. وَقَالَ الشَّافِعِي: كل من كَانَ من مَكَّة على مَا دون مَسَافَة الْقصر؛ فَهُوَ من حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام.
﴿وَاتَّقوا الله﴾ أَي: فِي أَدَاء الْأَوَامِر ﴿وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب﴾ على ارْتِكَاب المناهي.
199
قَوْله تَعَالَى: ﴿الْحَج أشهر مَعْلُومَات﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد بِهِ: شَوَّال، وَذُو الْقعدَة، وَعشر من ذِي الْحجَّة.
وَقَالَ مَالك: كل ذِي الْحجَّة وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج﴾ قَالَ ابْن عمر، وَابْن مَسْعُود: أَرَادَ بِهِ: فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج بِالتَّلْبِيَةِ. أَي: فَمن لبّى.
199
﴿فِي الْحَج وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى واتقون يَا﴾
وَعِنْدنَا يخْتَص إِحْرَام الْحَج بأشهر الْحَج، وَعند أبي حنيفَة يجوز فِي جَمِيع السّنة. وَفِيه خلاف الصَّحَابَة، وَهُوَ مَذْكُور فِي الْفِقْه.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَلَا رفث﴾ قيل: هُوَ الْوَطْء. وَقيل: الرَّفَث: الإفحاش فِي القَوْل.
وَقيل: هُوَ أَن يتَعَرَّض لأمر الْوَطْء مَعَ النِّسَاء، وَذَلِكَ بِأَن يَقُول: إِذا حللنا فعلنَا كَذَا. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ محرما فَأَنْشد:
(فهن يَمْشين بِنَا هَميسا... إِن تصدق الطير نَنكْ لَميسا)
فَقيل لَهُ: أَتَرْفُثُ وَأَنت محرم؟ فَقَالَ: الرَّفَث: هُوَ مَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاء، أَي: يذكر فِي مشاهدتهن.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا فسوق﴾ الفسوق: السباب. وَقيل: هُوَ كل الْمعاصِي.
وَقَوله: ﴿وَلَا جِدَال فِي الْحَج﴾ قَالَ ابْن مَسْعُود: الْجِدَال: أَن يمارى الرجل صَاحبه حَتَّى يغضبه.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل الْجَاهِلِيَّة من الِاخْتِلَاف فِي أَمر الْحَج، حَتَّى كَانَ بَعضهم يقف بِعَرَفَة، وَبَعْضهمْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانَ يحجّ بَعضهم فِي ذِي الْقعدَة، وَبَعْضهمْ فِي ذِي الْحجَّة، وكل يَقُول: مَا فعلته فَهُوَ صَوَاب، فَقَالَ: ﴿وَلَا جِدَال فِي الْحَج﴾ أَي: اسْتَقر أَمر الْحَج على مَا فعله الرَّسُول، فَلَا خلاف فِيهِ من بعد وَذَلِكَ معنى قَوْله " أَلا إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته... " الحَدِيث.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله﴾ أَي: لَا يخفى عَلَيْهِ وَلَا يضيعه، بل يثيب عَلَيْهِ.
200
﴿أولي الْأَلْبَاب (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن يَبْتَغُوا فضلا من ربكُم فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام واذكروه كَمَا هدَاكُمْ وَإِن كُنْتُم من قبله﴾ وَقَوله تَعَالَى: ﴿وتزودوا﴾ نزل فِي قوم من الْيمن، كَانُوا يخرجُون إِلَى الْحَج من غير زَاد ويسألون النَّاس الزَّاد، وَرُبمَا يُفْضِي الْحَال بهم فِي السَّلب والنهب، فَقَالَ: ﴿وتزودوا﴾ أَي: اخْرُجُوا مَعَ الزَّاد.
وَقَوله: ﴿فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى﴾ يَعْنِي: من السَّلب وَالسُّؤَال.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: تزودوا بالكعك والسويق.
وَقَالَ غَيره: وتزودوا بالخشكنانج، والسويق. وَقَوله تَعَالَى: ﴿واتقون يَا أولي الْأَلْبَاب﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
201
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم﴾ فِي سَبَب نزُول هَذَا قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا روى عَن أبي أُمَامَة التَّيْمِيّ أَنه قَالَ: قلت لِابْنِ عمر: إِنَّا نكرى فِي هَذَا الْوَجْه يَعْنِي إِلَى مَكَّة وَالنَّاس يَقُولُونَ: لَا حج لكم، فَقَالَ ابْن عمر: أَلَسْت تقف؟ أَلَسْت تسْعَى؟ أَلَسْت تَطوف؟ قلت: نعم. فَقَالَ: لَك حج. وروى ابْن عمر " أَن رَسُول الله سُئِلَ عَن ذَلِك، فَلم يجب بِشَيْء حَتَّى نزل جِبْرِيل بِهَذِهِ الْآيَة ".
وَالثَّانِي: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة أسواق يُقَال لَهَا عكاظ، والمجنة، وَذُو الْمجَاز، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتجرون مِنْهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام كَانَ الْمُسلمُونَ يتحرجون عَن التِّجَارَة فِي تِلْكَ الْأَسْوَاق، فَنزل قَوْله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم﴾ يَعْنِي: بِالتِّجَارَة فِي تِلْكَ الْأَسْوَاق.
وَقَرَأَ ابْن الزبير: فضلا من ربكُم فِي مواسم الْحَج.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات﴾ أما عَرَفَات: سمى بذلك؛ لِأَن
201
﴿لمن الضَّالّين (١٩٨) ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور﴾ جِبْرِيل لما وقف بإبراهيم، كَانَ يَقُول لَهُ: عرفت. فَيَقُول: عرفت.
والإفاضة: الدّفع بِكَثْرَة، يُقَال: فاض الْإِنَاء. إِذا امْتَلَأَ حَتَّى سَالَ من الجوانب، وَمِنْه: رجل فياض، إِذا كَانَ كثير الْعَطاء، قَالَ الشَّاعِر:
(وأبيض فياض يَدَاهُ غمامة على معتقيه مَا تغب نوافله)
وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿فَإِذا أَفَضْتُم﴾ لِأَنَّهُ يدْفع بَعضهم بَعْضًا بِكَثْرَة عِنْد الرُّجُوع.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام﴾ والمشعر الْحَرَام، والمزدلفة، وَالْجمع أسامي مَوضِع وَاحِد. فالمشعر: الْمعلم فَإِن الْمزْدَلِفَة معلم للمبيت، وَالْوُقُوف، وَالدُّعَاء، وَالْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ. وَإِنَّمَا سمى: جمعا؛ لِأَنَّهُ يجمع هُنَالك بَين الْمغرب وَالْعشَاء.
وسمى: مُزْدَلِفَة، من الازدلاف وَهُوَ: الِاجْتِمَاع، والمزدلفة: مَوضِع بَين جبلين، يُسمى أَحدهمَا: قزَح يقف عَلَيْهِ الإِمَام، وَهُوَ من جملَة الْحرم وَلذَلِك سمى الْمشعر الْحَرَام.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿واذكروه كَمَا هدَاكُمْ﴾ أَي: واذكروه بِالتَّوْحِيدِ والتعظيم، كَمَا ذكركُمْ بالهداية.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِن كُنْتُم من قبله لمن الضَّالّين﴾ قيل: مَا كُنْتُم من قبله إِلَّا من الضَّالّين، وَقيل: مَعْنَاهُ: قد كُنْتُم من قبله لمن الضَّالّين.
202
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس﴾ يَعْنِي: من عَرَفَات.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: ثمَّ أفيضوا بِكَلِمَة التعقيب والإفاضة من عَرَفَات إِنَّمَا تكون قبل الْوُصُول إِلَى الْمزْدَلِفَة؟ قُلْنَا: " ثمَّ " بِمَعْنى " الْوَاو " هَهُنَا، يَعْنِي: وأفيضوا. وَهُوَ مثل قَوْله: ﴿ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا﴾ أَي: وَكَانَ من الَّذين آمنُوا، فَيكون
202
﴿رَحِيم (١٩٩) فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم فاذكروا الله كذكركم آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا﴾ جمعا بَين الْحكمَيْنِ.
وَقيل: تَقْدِيره: ثمَّ أَمركُم أَن تفيضوا من عَرَفَات. وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب﴾ (وَإِنَّمَا آتَاهُ الْكتاب قبل مُحَمَّد لَكِن مَعْنَاهُ ثمَّ أخْبركُم أَنا آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب)، كَذَلِك هَاهُنَا، فَيكون عمل " ثمَّ " فِي الْأَمر لَا فِي الْإِفَاضَة.
وَأما الْكَلَام فِي الْمَعْنى: قيل: إِن قُريْشًا وأحلافهم كَانُوا يقفون بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَقُولُونَ نَحن أهل حرم الله فَلَا نخرج من حرم الله. لِأَن عَرَفَات كَانَت فِي الْحل، وَأما سَائِر الْعَرَب كَانُوا يقفون بِعَرَفَات.
فَقَوله: ﴿ثمَّ أفيضوا﴾ خطاب لقريش، يَعْنِي: قفوا بِعَرَفَات، وأفيضوا مِنْهَا ﴿من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس﴾ يَعْنِي: سَائِر الْعَرَب.
وَقيل أَرَادَ بِالنَّاسِ فِي قَوْله: ﴿من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس﴾ إِبْرَاهِيم، وَقد يُسمى الْوَاحِد نَاسا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس﴾ وَأَرَادَ بِهِ: نعيم ابْن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ وَحده.
وَقَرَأَ الضَّحَّاك، وَسَعِيد بن جُبَير ﴿من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس﴾ يَعْنِي: آدم عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم﴾.
203
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم﴾ يَعْنِي: فَرَغْتُمْ من الْمَنَاسِك، وَذَلِكَ عِنْد رمي جَمْرَة الْعقبَة والاستقرار بمنى، وَقَوله: ﴿فاذكروا الله كذكركم آبَاءَكُم﴾
203
﴿فَمن النَّاس من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق (٢٠٠) وَمِنْهُم من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار (٢٠١) ﴾ يَعْنِي: فاذكروا الله بِالتَّكْبِيرِ والتمجيد وَالثنَاء عَلَيْهِ.
وَفِي قَوْله: ﴿كذكركم آبَاءَكُم﴾ قَولَانِ، قَالَ عَطاء: هُوَ أَن الصَّبِي أول مَا يتَكَلَّم فَإِنَّمَا يلهج بِذكر أَبِيه، فَيَقُول: يَا أَبَة. لَا يذكر غَيره، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فاذكروا الله﴾ لَا غَيره ﴿كذكركم آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا﴾.
وَالثَّانِي: هُوَ أَن الْعَرَب كَانُوا إِذا فرغوا من الْحَج، ذكرُوا مفاخر آبَائِهِم، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فاذكروا الله بدل ذكركُمْ آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا.
وَقَوله تَعَالَى: {فَمن النَّاس من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا﴾
أَرَادَ بِهِ: الْمُشْركين، كَانُوا لَا يسْأَلُون الله فِي الْحَج إِلَّا الدُّنْيَا، وَكَانَ الرجل مِنْهُم يَقُول: اللَّهُمَّ إِن أبي كَانَ عَظِيم الْقبَّة كَبِير الْجَفْنَة، كثير المَال، اللَّهُمَّ فاعطني مثل مَا أَعْطيته.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق﴾ من نصيب.
204
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُم من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة﴾ أَرَادَ بِهِ الْمُسلمين، وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ يَعْنِي: الْعلم وَالْعِبَادَة، ﴿وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة﴾ يَعْنِي: الْجنَّة.
وَحكى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ الْمَرْأَة الصَّالِحَة، ﴿وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة﴾ الْجنَّة.
وَقد ورد فِي الحَدِيث مَرْفُوعا: " من أُوتِيَ قلبا شاكرا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَامْرَأَة صَالِحَة تعينه على أَمر دينه، فقد جمع لَهُ خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ".
204
﴿أُولَئِكَ لَهُم نصيب مِمَّا كسبوا وَالله سريع الْحساب (٢٠٢) ﴾
وَقَالَ قَتَادَة: ﴿فِي الدُّنْيَا حَسَنَة﴾ يَعْنِي: الْعَافِيَة، ﴿وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة﴾ يَعْنِي: الْعَاقِبَة.
وروى أنس عَن النَّبِي: " أَنه عَاد مَرِيضا قد أنهكه الْمَرَض حَتَّى صَار كالفرخ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِمَ كنت تَدْعُو؟ فَقَالَ الرجل: قلت: اللَّهُمَّ إِن كنت معاقبي بِشَيْء فِي الْآخِرَة فعجله لي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: سُبْحَانَ الله، مَا تطِيق ذَلِك، هلا قلت: ﴿رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة﴾ ". وَقيل: كَانَ هَذَا أَكثر دُعَاء رَسُول الله.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وقنا عَذَاب النَّار﴾ أَي: اصرف عَنَّا عَذَاب النَّار.
205
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ لَهُم نصيب﴾ أَي: الاستجابة ﴿مِمَّا كسبوا﴾ من الدُّعَاء. ﴿وَالله سريع الْحساب﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: يُحَاسب الْعباد أسْرع من لمح الْبَصَر.
وَقَالَ أهل الْمعَانِي: يُحَاسب الْعباد من غير تَدْبِير وَلَا رُؤْيَة؛ لكَونه عَالما بِمَا للعباد، وَمَا على الْعباد فَلَا يحْتَاج إِلَى رُؤْيَة.
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: أَن الله آتٍ بالقيامة عَن قريب، فَإِن مَا هُوَ كَائِن لَا محَالة فَهُوَ قريب، فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى قرب الْقِيَامَة.
205
﴿فِي أَيَّام معدودات فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ لمن اتَّقى وَاتَّقوا الله اعلموا أَنكُمْ إِلَيْهِ تحشرون (٢٠٣) وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيشْهد﴾
206
قَوْله تَعَالَى: ﴿واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام معدودات﴾ يَعْنِي: أَيَّام منى، وَهِي أَيَّام التَّشْرِيق. قَالَ ابْن عمر: الْأَيَّام المعلومات وَالْأَيَّام المعدودات فِي أَرْبَعَة أَيَّام، فَيوم النَّحْر ويومان بعده هِيَ الْأَيَّام المعلومات، وَثَلَاثَة أَيَّام بعد يَوْم النَّحْر هِيَ الْأَيَّام المعدودات.
والمعدودات المحصيات، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لقلتهن، وَالْمرَاد بِالذكر مِنْهَا هَهُنَا هُوَ التَّكْبِيرَات أدبار الصَّلَوَات.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ﴾ أَرَادَ بِهِ: النَّفر فِي الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام التَّشْرِيق، يَعْنِي: فَمن تعجل بالنفر بِالرُّجُوعِ من منى فِيهِ فَلَا حرج عَلَيْهِ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ﴾ يَعْنِي: من تَأَخّر بالنفر الثَّانِي فِي الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام التَّشْرِيق فَلَا حرج عَلَيْهِ.
فَإِن قيل: الْآيَة فِيمَن رَجَعَ على إتْمَام الْمَنَاسِك، فَكيف نفى الْحَرج عَنهُ وَهُوَ بِمحل اسْتِحْقَاق الثَّوَاب لَا بِمحل الْحَرج؟ قُلْنَا: قَالَ ابْن مَسْعُود: أَرَادَ بِهِ: من [نفى] الْحَرج: أَنه رَجَعَ مغفورا لَهُ. وَهَذَا مؤيد بِالْحَدِيثِ، وَمَا روى مَرْفُوعا " من حج هَذَا الْبَيْت وَلم يرْفث وَلم يفسق؛ رَجَعَ كَيَوْم وَلدته أمه ".
وَقَالَ النَّخعِيّ مَعْنَاهُ: فَمن تعجل فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بالتعجيل، وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ.
وَفِيه قَول ثَالِث: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك، لِأَن بَعضهم كَانَ يزِيد فِي الْمقَام بمنى على الثَّلَاث تبررا وتقربا؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: من رَجَعَ فِي الْيَوْم الثَّانِي أَو الثَّالِث وَلم يزدْ على الثَّلَاث فَلَا حرج عَلَيْهِ. يَعْنِي: فِي ترك الزِّيَادَة.
206
﴿الله على مَا فِي قلبه وَهُوَ أَلد الْخِصَام (٢٠٤) وَإِذا تولى سعي فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا وَيهْلك﴾
وَفِيه قَول رَابِع: حسن، مَعْنَاهُ: من ترخص بالتعجيل فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بالترخص، وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بترك التَّرَخُّص؛ وَذَلِكَ أَن النَّبِي كَانَ قد ندب إِلَى الرُّخْصَة بقوله: " إِن الله يحب أَن تُؤْتى رخصه كَمَا يحب أَن تُؤْتى عَزَائِمه ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿لمن اتَّقى﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: مَعْنَاهُ: لمن اتَّقى الله بعد الْحَج فِي جَمِيع عمره.
وَقَالَ الْآخرُونَ: مَعْنَاهُ: لمن اتَّقى الْمعاصِي فِي الْحَج، وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَنكُمْ إِلَيْهِ تحشرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
207
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ نزلت الْآيَة فِي الْأَخْنَس بن شريق حَلِيف بني زهرَة فَإِنَّهُ أَتَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ: " إِنِّي أحبك، وَأُرِيد أَن أُؤْمِن بك، وَالله يعلم مَا فِي قلبِي، وَكَانَ يبطن بغضه، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يُعجبهُ قَوْله (وَيسر بِهِ) فَنزلت الْآيَة: ﴿وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ " يَعْنِي فِي الْعَلَانِيَة.
وَأما قَوْله: ﴿وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه﴾ قَرَأَ ابْن مَسْعُود: وشهيد الله على مَا فِي قلبه. وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه، وهما فِي الشواذ، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ أَلد الْخِصَام﴾ أَي: شَدِيد الْخُصُومَة قَالَ الشَّاعِر:
207
﴿الْحَرْث والنسل وَالله لَا يحب الْفساد (٢٠٥) وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم فحسبه جَهَنَّم ولبئس المهاد (٢٠٦) وَمن النَّاس، من يشري نَفسه ابْتِغَاء مرضات الله وَالله رؤوف﴾
وَقَالَ مُجَاهِد: ﴿أَلد الْخِصَام﴾ أَي: الظَّالِم فِي الْخُصُومَة.
208
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِذا تولى سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا﴾ فِيهِ نزلت الْآيَة أَيْضا؛ فَإِنَّهُ خرج من عِنْد النَّبِي فَرَأى حمارا فعقره، وَمر بزرع فأحرقه فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا وَيهْلك الْحَرْث والنسل﴾ فالحرث: الزَّرْع. والنسل: ولد كل دَابَّة.
﴿وَالله لَا يحب الْفساد﴾ أَي: لَا يرضى الْفساد، وَقيل: من الْفساد: كسر الدِّرْهَم، وشق الثَّوْب من غير مصلحَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم﴾ فِيهِ نزلت الْآيَة أَيْضا. ﴿وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة﴾ أَي: حمية الْجَاهِلِيَّة ﴿بالإثم﴾ أَي: بالظلم، والعزة: التكبر والمنعة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿فِي عزة وشقاق﴾.
وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: كفى بِالْمَرْءِ إثمان أَن يُقَال لَهُ: اتَّقِ الله، فَيَقُول: أَنْت الَّذِي تَأْمُرنِي بالتقوى.
وروى أَنه قيل لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: اتَّقِ الله. فَوضع خَدّه على الأَرْض تواضعا لله.
وَفِي رِوَايَة قيل لعمر: اتَّقِ الله: فَأنْكر الْمُغيرَة بن شُعْبَة على قَائِله، فَقَالَ عمر: إِنَّكُم لَا تزالون بِخَير مَا قَالُوا ذَلِك لنا، وَقَبلنَا مِنْهُم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فحسبه جَهَنَّم﴾ أَي: كافيه. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس.
(إِن تَحت (التُّرَاب) حزما وجودا وخصيما أَلد ذَا معلاق)
(وتملأ بيتنا أقطا وَسمنًا وحسبك من غنى شبع وروى)
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ولبئس المهاد﴾ المهاد: كل فرَاش يسْتَقرّ الْمَرْء عَلَيْهِ.
208
﴿بالعباد (٢٠٧) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ادخُلُوا فِي السّلم كَافَّة وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (٢٠٨) فَإِن زللتم من بعد مَا جاءتكم الْبَينَات فاعلموا أَن الله عَزِيز حَكِيم (٢٠٩) هَل﴾
209
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يشري نَفسه ابْتِغَاء مرضات الله﴾ قَالَ سعيد ابْن الْمسيب: " نزلت الْآيَة فِي صُهَيْب بن سِنَان، وَذَلِكَ أَنه خرج من مَكَّة مُهَاجرا إِلَى الْمَدِينَة فَتَبِعَهُ الْمُشْركُونَ ولحقوه، فنثر كِنَانَته وَقَالَ: إِنَّكُم تعلمُونَ أَنِّي من أرماكم، وَالله لَا تصلونَ إِلَيّ حَتَّى أرمي جَمِيع مَا بكنانتي ثمَّ أَخذ سَيفي وأضرب حَتَّى أعجز أَو ترجعوا عني ومالكم مَالِي ثمَّة، فَقَالُوا: أَيْن مَالك؟ فدلهم عَلَيْهِ، فَرَجَعُوا عَنهُ، فَلَمَّا سمع ذَلِك رَسُول الله قَالَ: ربح البيع يَا أَبَا يحيى ". فَهَذَا معنى قَوْله: و ﴿وَمن النَّاس من يشري نَفسه﴾ أَي: يَبِيع.
وَالشِّرَاء: البيع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(وشريت بردا لَيْتَني من بعد برد [صرت هامه] )
قَالَ رجل كَانَ لَهُ غُلَام يُسمى بردا، وَكَانَ مفتونا بِهِ، فَبَاعَهُ فندم عَلَيْهِ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَالله رءوف بالعباد﴾ أَي: شَدِيد الرَّحْمَة بهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ادخُلُوا فِي السّلم كَافَّة﴾ آمنُوا: أَي صدقُوا.
ادخُلُوا فِي السّلم كَافَّة، أَي: ادخُلُوا جَمِيعًا فِي الْإِسْلَام.
قَالَ الْأَزْهَرِي السّلم الصُّلْح، وَالسّلم: الانقياد، وَالْمرَاد بِهِ: الْإِسْلَام هَهُنَا.
209
﴿ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وَقضي الْأَمر وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (٢١٠) سل بني إِسْرَائِيل كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله﴾
وَقَالَ الْأَزْهَرِي أَيْضا: مَعْنَاهُ: ادخُلُوا فِي الْإِسْلَام وشرائعه كَافَّة.
وَفِيه قَول ثَالِث، مَعْنَاهُ: ادخُلُوا فِي الْإِسْلَام إِلَى مُنْتَهى شرائعه، كافين عَن الْمُجَاوزَة إِلَى غَيره، من الْكَفّ.
قَالَ ابْن عَبَّاس: نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن سَلام، وَقوم من الْيَهُود أَسْلمُوا، وَأَرَادُوا أَن يجمعوا بَين الْإِسْلَام واليهودية، فَقَالُوا: نلزم السبت فَلَا نَأْكُل لُحُوم الْإِبِل وَنَحْو ذَلِك، فَنزلت الْآيَة. أَي: كونُوا لِلْإِسْلَامِ خَاصَّة، وَلَا تجمعُوا بَينه وَبَين الْيَهُودِيَّة، وَكفوا عَن الْمُجَاوزَة إِلَى غَيره.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ خَاطب الْمُؤمنِينَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَام؟ قيل: يحْتَمل مَعْنَاهُ: الثَّبَات على الْإِسْلَام، وَيحْتَمل أَنه خطاب للَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ وَلم يُؤمنُوا بِالْقَلْبِ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان﴾ أَي: آثَار الشَّيْطَان، وَهِي جمع الخطوة. والخطوة: مَا بَين الْقَدَمَيْنِ ﴿إِنَّه لكم عَدو مُبين﴾.
210
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن زللتم﴾ زل يزل: إِذا ضل وَتَنَحَّى عَن الطَّرِيق، وأزل يزل: إِذا أسدى نعْمَة إِلَى غَيره. وَمِنْه قَوْله: " من أزلت إِلَيْهِ نعْمَة فليشكرها ".
وَقَوله تَعَالَى: ﴿من بعد مَا جاءتكم الْبَينَات﴾ الدلالات الواضحات.
﴿فاعلموا أَن الله عَزِيز حَكِيم﴾ فالعزيز: الْغَالِب الَّذِي لَا يفوتهُ شَيْء، والحكيم: ذُو الْإِصَابَة فِي الْأَمر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة﴾ وَالْآيَة من المتشابهات.
210
﴿شَدِيد الْعقَاب (٢١١) زين للَّذين كفرُوا الْحَيَاة الدُّنْيَا ويسخرون من الَّذين آمنُوا وَالَّذين اتَّقوا﴾
وروى أَصْحَاب الحَدِيث عَن أبي بن كَعْب وَمُجاهد، أَنَّهُمَا قَالَا فِي تَفْسِير الْآيَة: يَأْتِي الله يَوْم الْقِيَامَة فِي ظلل من الْغَمَام.
وَأما أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن النقاش الْمُفَسّر فَلم يتَعَرَّض لِلْآيَةِ بِشَيْء، وَقَالَ الزّجاج: يحْتَمل معنى الْآيَة من حَيْثُ اللُّغَة: يَأْتِي الله بِمَا وعدهم من الْعقَاب.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: وَالْأولَى فِي هَذِه الْآيَة وَمَا يشاكلها أَن نؤمن بِظَاهِرِهِ وَنكل علمه إِلَى الله تَعَالَى وننزه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن سمات الْحَدث وَالنَّقْص.
وَأما قَوْله: ﴿فِي ظلل﴾ فَهُوَ جمع الظلة وَهُوَ الستْرَة من الْغَمَام. قد ذكرنَا معنى الْغَمَام.
﴿وَالْمَلَائِكَة﴾ قرئَ بِالرَّفْع والخفض. فَإِذا قرئَ بِالرَّفْع، فَهُوَ منسوق على الله، وَإِذا قرئَ بالخفض فَهُوَ منسوق على الظلل.
﴿وَقضى الْأَمر﴾ أَي: فرغ من الْأَمر، وَذَلِكَ فصل الله الْقَضَاء بِالْحَقِّ بَين الْخلق.
﴿وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور﴾ قَالَ قطرب: إِنَّمَا خص بِهِ يَوْم الْقِيَامَة؛ لِأَن الْأَمر يخلص يَوْمئِذٍ لله تَعَالَى.
211
قَوْله تَعَالَى: ﴿سل بني إِسْرَائِيل﴾ هُوَ خطاب للرسول، يَعْنِي: سل الَّذين أَسْلمُوا مِنْهُم ﴿كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة﴾ أَي: من دلَالَة وَاضِحَة على نبوة مُوسَى.
وَقيل: مَعْنَاهُ: الدلالات الَّتِي آتَاهُم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل على نبوة مُحَمَّد ﴿وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب﴾ فِي مَعْنَاهُ قَولَانِ:
أَحدهمَا: وَمن يُغير عهد الله.
وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: وَمن يُنكر الدّلَالَة الَّتِي على نبوة مُحَمَّد.
211
﴿فَوْقهم يَوْم الْقِيَامَة وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب (٢١٢) كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَمَا﴾
212
قَوْله تَعَالَى: ﴿زين للَّذين كفرُوا الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾. قَالَ الزّجاج: المزين هُوَ الشَّيْطَان. فَإِن الله تَعَالَى قد زهد الْخلق فِي الدُّنْيَا، ورغبهم فِي الْآخِرَة. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: المزين هُوَ الله تَعَالَى والتزيين من الله هُوَ أَنه خلق الْأَشْيَاء الْحَسَنَة والمناظر المعجبة، فَنظر الْخلق إِلَيْهَا بِأَكْثَرَ من قدرهَا، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِك، ففتنوا بِهِ؛ [فَلذَلِك] التزيين من الله.
﴿ويسخرون من الَّذين آمنُوا﴾ أَي: يستهزئون. وهم رُؤَسَاء قُرَيْش كَأبي جهل وَغَيره، وَكَانُوا يسخرون من الْفُقَرَاء.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بالذين آمنُوا: عبد الله بن مَسْعُود، وعمار بن يَاسر، وخباب بن الْأَرَت، وَأَبا ذَر.
﴿وَالَّذين اتَّقوا﴾ أَي هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء ﴿فَوْقهم يَوْم الْقِيَامَة﴾ لأَنهم فِي أَعلَى عليين، وَأُولَئِكَ فِي أَسْفَل السافلين.
﴿وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب﴾ فِيهِ أَقْوَال، أَحدهَا: أَنه يُوسع على من يَشَاء من غير مضايقة وَلَا تقتير.
وَالْقَوْل الثَّانِي: مَعْنَاهُ: أَنه لَا يَأْخُذ شَيْئا من شَيْء مُقَدّر، كَالْعَبْدِ يَأْخُذ ألفا من أَلفَيْنِ، فَيعْطى قدرا من مقره فيخاف الإجحاف على مَاله؛ وَلَكِن الله يرْزق الْعباد من خزائنه الَّتِي لَا تنفذ.
وَالثَّالِث: مَعْنَاهُ: أَنه يقتر على من يَشَاء، ويبسط على من يَشَاء، وَلَا يُعْطي كل أحد على قدر حَاجته؛ بل يُعْطي الْكثير من لَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَلَا يُعْطي الْقَلِيل من يحْتَاج إِلَيْهِ.
وَالْقَوْل الرَّابِع: قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِيمَا سهل الله تَعَالَى على رَسُوله من
212
﴿اخْتلف فِيهِ إِلَّا الَّذين أوتوه من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات بغيا بَينهم فهدى الله الَّذين آمنُوا لما﴾ الِاسْتِيلَاء على بني قُرَيْظَة وَالنضير، على اسهل وَجه من غير قتال وَلَا تَعب.
213
وَقَوله تَعَالَى: ﴿كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة﴾ فالأمة فِي اللُّغَة: على وُجُوه، مِنْهَا: الْأمة بِمَعْنى الدّين، وَمِنْه قَول النَّابِغَة:
(حَلَفت، فَلم أترك لنَفسك رِيبَة وَهل يأثمن ذُو أمة وَهُوَ طائع)
أَي ذُو دين.
وَالْأمة: الْفرْقَة من النَّاس وَغَيرهم، فالترك أمة، وَالروم أمة، وَالْفرس أمة، وَمن الطير أمة، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم﴾.
وَالْأمة: الْحِين، وَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿وادكر بعد أمة﴾ أَي: بعد حِين.
وَالْأمة: الإِمَام الَّذِي يَقْتَدِي بِهِ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة﴾.
وَالْأمة: الْمعلم للخير. وَالْأمة: الْقَامَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(وَإِن مُعَاوِيَة الأكرمين حسان الْوُجُوه طوال الْأُمَم)
وَالْأمة بِكَسْر الْألف: النِّعْمَة، وَالْمرَاد بالأمة هَهُنَا الدّين.
يَعْنِي: كَانَ النَّاس على دين وَاحِد ثمَّ اخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ.
وَقَالَ بَعضهم وَهُوَ قَول مُجَاهِد أَرَادَ بِهِ آدم، كَانَ أمة وَاحِدَة.
وَقيل وَهُوَ قَول قَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير: أَرَادَ بِهِ عشْرين قرنا من بني آدم ونوح كَانُوا على الْإِسْلَام.
213
﴿اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (٢١٣) أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ مستهم البأساء وَالضَّرَّاء وزلزلوا حَتَّى﴾
وَقيل: أَرَادَ بِهِ النَّاس فِي زمن إِبْرَاهِيم كَانُوا على مِلَّة الْكفْر.
﴿فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ﴾.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يحكم الْكتاب؟ قيل قَرَأَ عَاصِم الجحدري: " ليحكم بَين النَّاس " بِضَم الْيَاء فَيكون الحكم من الْأَنْبِيَاء.
وَأما قَوْله: ﴿ليحكم بَين النَّاس﴾ يَعْنِي: ليحكم الَّذين أُوتُوا الْكتاب من النَّبِيين.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمَا اخْتلف فِيهِ إِلَّا الَّذين أوتوه﴾ يَعْنِي: أُوتُوا الْكتاب. ﴿من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات بغيا بَينهم﴾ أَي: حسدا وظلما. ﴿فهدى الله الَّذين آمنُوا لما اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ﴾ قَالَ زيد بن أسلم: اخْتلفُوا فِي الْقبْلَة، فهدانا الله إِلَى الْكَعْبَة، وَاخْتلفُوا فِي الْأَيَّام، فَاخْتَارَ الْيَهُود السبت، وَالنَّصَارَى يَوْم الْأَحَد، فهدانا الله للْجُمُعَة، وَاخْتلفُوا فِي عِيسَى، فَقَالَ بَعضهم: كَذَّاب. وَقَالَ بَعضهم: ابْن الله فهدانا الله لكَونه نَبيا عبدا، وَاخْتلفُوا فِي إِبْرَاهِيم، فَادَّعَاهُ كل فرقة فهدانا الله لكَونه حَنِيفا مُسلما.
وروى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ، وَأول النَّاس دُخُولا الْجنَّة، بيد أَنهم أُوتُوا الْكتاب قبلنَا وأوتيناه من بعدهمْ، النَّاس لنا تبع، فاليوم لنا، يَعْنِي: الْجُمُعَة وَغدا للْيَهُود، وَبعد غَد لِلنَّصَارَى ".
﴿وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾
214
﴿يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه حَتَّى نصر الله أَلا إِن نصر الله قريب (٢١٤) يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ قل مَا أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل وَمَا تَفعلُوا﴾
215
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة﴾.
نزل فِي الْمُهَاجِرين إِلَى الْمَدِينَة حِين أَصَابَهُم حر شَدِيد وفاقة عَظِيمَة فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة؛ تطييبا لقُلُوبِهِمْ وتسلية لَهُم.
فَقَوله: (أم) كلمة لِلْخُرُوجِ من كَلَام إِلَى كَلَام، ونكون بِمَعْنى: بل يَقُول الله تَعَالَى لَهُم: ﴿أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ﴾ يَعْنِي: وَلم يصبكم مَا أَصَابَهُم، وَقَوله تَعَالَى: ﴿مثل الَّذين خلوا﴾ أَي: صفة الَّذين خلوا. ﴿من قبلكُمْ مستهم البأساء﴾ الْفقر ﴿وَالضَّرَّاء﴾ الْمَرَض ﴿وزلزلوا﴾ حركوا بِشدَّة وخوفوا. ﴿حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله﴾ حَتَّى استبطئوا نصر الله. ﴿أَلا إِن نصر الله قريب﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ قل مَا أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين﴾ قيل: المُرَاد بِهِ الْوَصِيَّة الَّتِي كَانَت وَاجِبَة فِي الِابْتِدَاء للْوَالِدين والأقربين.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ التطوعات وَالصَّدقَات جعلهَا للْوَالِدين، والأقربين، واليتامى، وَالْمَسَاكِين، وَابْن السَّبِيل.
وَقيل: إِنَّه كَانَ فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ نسخت بِآيَة الزَّكَاة.
﴿وَمَا تَفعلُوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم﴾ أَي: يحصي ويجازي عَلَيْهِ. وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره﴾ أَي: يرى الْجَزَاء على الْعَمَل؛ لِأَن الْعَمَل فَائت فَلَا يرَاهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم﴾ أَي: شاق عَلَيْكُم.
وَاعْلَم أَن أَكثر الْعلمَاء على أَن الْجِهَاد فرض على الْكِفَايَة، وَقَالَ عَطاء وَهُوَ قَول الثَّوْريّ: أَنه تطوع قَالُوا: وَالْآيَة فِي الَّذين أمروا بِالْقِتَالِ من الصَّحَابَة.
215
﴿من خير فَإِن الله بِهِ عليم (٢١٥) كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شرا لكم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (٢١٦) يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ قل فِيهِ كَبِير وَصد عَن سَبِيل الله وَكفر بِهِ﴾
﴿وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا﴾ يَعْنِي: الْقِتَال ﴿وَهُوَ خير لكم﴾ بِإِصَابَة الشَّهَادَة، وحيازة الْغَنِيمَة، وَالظفر بالعدو.
(وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا) يَعْنِي: الْقعُود عَن الْقِتَال ﴿وَهُوَ شَرّ لكم﴾ بفوت الْمنَازل. قَالَ ابْن عَبَّاس: " كنت رَدِيف رَسُول الله فَقَالَ لي: يَا غُلَام ارْض بِمَا قدر الله لَك؛ فَعَسَى أَن تكره شَيْئا وَهُوَ خير لَك، وَعَسَى أَن تحب شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَك، وتلا هَذِه الْآيَة: ﴿وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ﴾ ".
216
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ﴾ أَي: عَن قتال فِيهِ، خفض على الْبَدَل ﴿قل قتال فِيهِ كَبِير﴾ عَظِيم. ثمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: ﴿وَصد عَن سَبِيل الله﴾ يَعْنِي: صدكم الْمُسلمين عَن الْإِسْلَام.
﴿وَكفر بِهِ﴾ أَي: كفركم بِاللَّه. ﴿وَالْمَسْجِد الْحَرَام﴾ أَي: وصدكم الْمُسلمين عَن الْمَسْجِد الْحَرَام.
﴿وَإِخْرَاج أَهله مِنْهُ﴾ أَي: إِخْرَاج أهل مَكَّة من مَكَّة ﴿أكبر عِنْد الله والفتنة أكبر من الْقَتْل﴾ أَي: وَالْكفْر الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ، وأفعالكم تِلْكَ، أكبر عِنْد الله، وَأَشد من قتال الْمُسلمين فِي الشَّهْر الْحَرَام.
قَالَ عُرْوَة بن الزبير: سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى " أَن النَّبِي بعث عبد الله بن جحش مَعَ ثَمَانِيَة نفر قبل مَكَّة، وَدفع إِلَيْهِم كتابا وَقَالَ: لَا تفكوه إِلَّا بعد يَوْمَيْنِ، فَلَمَّا مضى يَوْمَانِ فكوا الْكتاب، فَإِذا فِيهِ: امضوا إِلَى بطن النّخل وَذَلِكَ مَوضِع بَين مَكَّة والطائف وَفِيه استعلموا أَخْبَار قُرَيْش، فنزلوا هُنَالك، وَكَانُوا يستعلمون خُفْيَة، فَمر بهم عير من الطَّائِف عَلَيْهِم عَمْرو بن الْحَضْرَمِيّ مَعَ زبيب وأدم، فَرَمَاهُ وَاحِد من
216
﴿وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَإِخْرَاج أَهله مِنْهُ أكبر عِنْد الله والفتنة أكبر من الْقَتْل وَلَا يزالون يقاتلونكم حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمن يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (٢١٧) إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ يرجون رحمت الله وَالله غَفُور رَحِيم﴾ الْمُسلمين فَقتله وقادوا العير إِلَى رَسُول الله. وَكَانَ ذَلِك فِي آخر يَوْم من جُمَادَى الآخر، أَو فِي أول يَوْم من رَجَب وَكَانُوا شاكين فِيهِ فعيرهم الْمُشْركُونَ بِقَتْلِهِم ابْن الْحَضْرَمِيّ فِي الشَّهْر الْحَرَام فَنزلت الْآيَة ".
يَعْنِي الَّذِي فَعلْتُمْ أَنْتُم من تِلْكَ الْأَفْعَال أكبر وَأَشد من قَتلهمْ فِي الشَّهْر الْحَرَام.
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي لم يمد يَده إِلَى شَيْء من ذَلِك العير حَتَّى نزلت الْآيَة، ثمَّ قسمهَا بَين الْمُسلمين ".
﴿وَلَا يزالون يقاتلونكم حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا﴾ يَعْنِي: الْمُشْركين كَانُوا يُقَاتلُون الْمُسلمين ويعيرونهم على الْإِسْلَام.
﴿وَمن يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وألئك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ﴾.
217
قَالَ تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله﴾ هَذِه الْآيَة مُتَّصِلَة بِالْأولَى فِي الْمَعْنى وَذَلِكَ أَن عبد الله بن جحش لما مر بالسرية وَقتل ابْن الْحَضْرَمِيّ من قَتله قَالَ: الْمُشْركُونَ إِن لم يُصِيبُوا وزرا فَلَا ينالون خيرا فَنزلت هَذِه الْآيَة ﴿إِن الَّذين آمنُوا﴾ يَعْنِي عبد الله بن جحش وَقَومه ﴿وَالَّذين وَهَاجرُوا﴾ من أوطانهم ﴿وَجَاهدُوا﴾ يَعْنِي بالغزو فِي سَبِيل الله ﴿أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله﴾ أخبر أَنهم على رَجَاء الرَّحْمَة، وَإِنَّمَا لم يقطعوا لأَنْفُسِهِمْ بِالرَّحْمَةِ؛ لِأَن الْإِنْسَان يعرف من نَفسه أَنه لَا يُمكنهُ تأدية حق الله تَعَالَى على وَجهه فَلَا يَأْمَن تقصيرا؛ فَلَا يُمكنهُ الْقطع لنَفسِهِ بِالرَّحْمَةِ.
217
( ﴿٢١٨) يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر قل فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من﴾
وَلِأَنَّهُ رُبمَا يرتكب فِي الْمُسْتَقْبل مَا يسْتَوْجب بِهِ الْعقَاب.
﴿وَالله غَفُور رَحِيم﴾ فالغفور: الستور. والرحيم: العطوف.
218
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر﴾ فالخمر: كل شراب مُسكر، وسمى الْمُسكر: خمرًا؛ لِأَنَّهُ يخَامر الْعقل ويستره.
وأصل الْخمر: السّتْر والتغطية. وَمِنْه الْخمار؛ لِأَنَّهُ يستر الرَّأْس. وَيُقَال: دخل فلَان فِي خمار النَّاس، أَي تستر فيهم.
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: الْخمر مَا خامر الْعقل. وَهُوَ حجَّة أَصْحَاب الحَدِيث على أَن كل مُسكر خمر، وَمِنْه يُقَال للسكران من أَي شراب: كَانَ مخمورا.
وَالْميسر: الْقمَار. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: دعوا الكعاب فَإِنَّهُ من الميسر.
وَقَالَ ابْن سِيرِين: كل مَا يعلب بِهِ فَهُوَ ميسر، حَتَّى الْجَوْز الَّذِي يلْعَب بِهِ الصّبيان. ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَحْرِيم الْخمر أَنه بِأَيّ آيَة كَانَ؟.
قَالَ بَعضهم: هُوَ بِهَذِهِ الْآيَة، فَإِنَّهُ قَالَ: (قل فيهمَا إِثْم كَبِير) " وَلَفظ الْإِثْم " يدل على التَّحْرِيم؛ فَإِنَّهُ حرم الْخمر بِلَفْظ الْإِثْم فِي آيَة أُخْرَى، حَيْثُ قَالَ: ﴿قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم﴾ وَأَرَادَ بِهِ: الْخمر. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(شربت الْإِثْم حَتَّى ضل عَقْلِي كَذَاك الْإِثْم يذهب بالعقول)
وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَأكْثر الْمُفَسّرين: إِن تَحْرِيم الْخمر بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَة الْمَائِدَة. بِأَنَّهُ لما نزلت هَذِه الْآيَة: ﴿قل فيهمَا إِثْم كَبِير﴾ فَانْتهى بَعضهم، وَلم ينْتَه الْبَعْض. فَنزل قَوْله: ﴿لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى﴾ فَكَانُوا يتحينون للشُّرْب حَتَّى كَانَ
218
الرجل يشرب بعد الْعشَاء الْأَخِيرَة فَيُصْبِح وَقد زَالَ السكر، ثمَّ يشرب بعد صَلَاة الصُّبْح فيصحو إِذا جَاءَ وَقت الظّهْر، فَنزلت آيَة الْمَائِدَة. قَالَ ابْن عمر: حرمت الْخمر بِآيَة الْمِائَة، وروى هُوَ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " تَحْرِيم الْخمر بِآيَة الْمَائِدَة ".
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه لما سمع قَوْله: ﴿فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ﴾ قَالَ: انتهينا رَبنَا.
﴿قل فيهمَا إِثْم كَبِير﴾ قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: بالثاء وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كَبِير بِالْبَاء، فالكبير: بِمَعْنى الْعَظِيم، وَالْكثير: لِكَثْرَة عدد الآثام فِي الْخمر الَّتِي ذكرهَا فِي آيَة الْمَائِدَة ﴿إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء﴾ الْآيَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمَنَافع للنَّاس﴾ فالإثم فِي الْخمر: هُوَ مَا يَقع فِيهِ من الْعَدَاوَة والبغضاء والصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة.
وَأما الْمَنَافِع فِي الْخمر: اللَّذَّة، والفرح، واستمراء الطَّعَام، وَالرِّبْح فِي التِّجَارَة فِيهِ.
وَقد قَالَ حسان بن ثَابت: فِي الْخمر ونفعها:
(ونشربها فتتركنا أسودا... ولبوثا مَا ينهنهنا اللِّقَاء)
وَقَالَ آخر:
(وَإِذا سكرت فإنني... رب (الخورنق) والسدير)
(وَإِذا صحوت فإنني... رب الشويهة وَالْبَعِير)
وَأما الْمَنَافِع للنَّاس فِي الميسر: فَهُوَ إِصَابَة المَال فِيهِ من غير كد وتعب.
وَالْإِثْم فِيهِ: أَنه إِذا ذهب مَاله من غير عوض يَأْخُذهُ يسوءه ذَلِك؛ فيعادى صَاحبه، ويقصده بالسوء.
219
﴿نفعهما ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون (٢١٩) ﴾
وَقَوله ﴿وإثمهما أكبر من نفعهما﴾ قيل: مَعْنَاهُ: إثمهما بعد التَّحْرِيم أكبر من نفعهما قبل التَّحْرِيم.
وَقيل: إثمهما أكبر من نفعهما قبل التَّحْرِيم، يَعْنِي: الْإِثْم الَّذِي يصير الْخمر سَببا فِيهِ من الْعَدَاوَة والعربدة أكبر من نفعهما.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحده بِضَم الْوَاو، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، فَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ؛ فتقديره مَا الَّذِي يُنْفقُونَ، فَقَالَ: قل الَّذِي يُنْفقُونَ الْعَفو؛ وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فتقديره: مَاذَا يُنْفقُونَ؟ فَقَالَ: قل: يُنْفقُونَ الْعَفو. وَاخْتلفُوا فِي معنى الْعَفو، فَقَالَ طَاوس: هُوَ الْيَسِير من كل شَيْء، وَقَالَ أَكثر الْمُفَسّرين: الْعَفو: الْفضل، وَذَلِكَ أَن الصَّدَقَة إِنَّمَا تجب فِي الْفَاضِل عَن الْحَاجة، وَكَانَت الصَّحَابَة يكتسبون المَال، ويمسكون قدر النَّفَقَة، وَيَتَصَدَّقُونَ بِالْفَضْلِ، بِحكم هَذِه الْآيَة، ثمَّ نسخ ذَلِك بِآيَة الزَّكَاة.
وَقيل مَعْنَاهُ: [التَّصَدُّق] عَن ظهر الْغنى؛ وَذَلِكَ أَن يتَصَدَّق وَهُوَ غَنِي، وَلَا يتَصَدَّق وَهُوَ فَقير. فَيبقى كلا على النَّاس. وَهُوَ معنى قَوْله: " أفضل الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى ".
وَحَقِيقَة الْعَفو: الميسور. وَمِنْه قَوْله: ﴿خُذ الْعَفو﴾ أَي: مَا تيَسّر من أَخْلَاق الرِّجَال.
220
﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ويسألونك عَن الْيَتَامَى قل إصْلَاح لَهُم خير وَإِن تخالطوهم فإخوانكم وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح وَلَو شَاءَ الله لأعنتكم إِن الله عَزِيز حَكِيم (٢٢٠) ﴾
{كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون
221
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: يبين الله لكم الْآيَات فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَعَلَّكُمْ تتفكرون فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؛ فتعرفون فضل الْآخِرَة على الدُّنْيَا. فتزهدون فِي الدُّنْيَا، وتنفقون رَغْبَة فِي الْآخِرَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ويسألونك عَن الْيَتَامَى﴾ روى أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا﴾ تحرج الْمُسلمُونَ من أَمْوَال الْيَتَامَى تحرجا شَدِيدا، حَتَّى عزلوا أَمْوَال الْيَتَامَى عَن أَمْوَالهم فِي المرعى، وَالطَّعَام، والإدام، فَنزلت هَذِه الْآيَة بِإِبَاحَة المخالطة فِي ذَلِك كُله؛ لَكِن بِشَرْط أَنه إِن استخدم غُلَام الْيَتِيم يَخْدمه، وَإِن أكل بطعامه يُبدلهُ.
قَالَ مُجَاهِد: يُوسع عَلَيْهِ من طَعَام نَفسه لَا يتوسع من طَعَام الْيَتِيم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قل إصْلَاح لَهُم خير﴾ قَرَأَ الضَّحَّاك: قل إصْلَاح إِلَيْهِم خير، والمتلو: قل إصْلَاح لَهُم. وَمَعْنَاهُ: إصْلَاح لَهُم خير لكم فِي الدّين. ﴿وَإِن تخالطوهم فإخوانكم﴾ هُوَ إِبَاحَة المخالطة.
﴿وَالله يعلم الْمُفْسد﴾ يَعْنِي: الَّذِي يخالط فيخون ﴿من المصلح﴾ وَهُوَ الَّذِي يخالط فَلَا يقْصد الْخِيَانَة. ﴿وَلَو شَاءَ الله لأعنتكم﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: لأهلككم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يَجْعَل مَا أصبْتُم من أَمْوَال الْيَتَامَى موبقا لكم. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَو شَاءَ الله لما أَبَاحَ لكم المخالطة.
وَقَالَ أهل اللُّغَة: الْعَنَت: الْمَشَقَّة. وَمَعْنَاهُ: ﴿وَلَو شَاءَ الله لأعنتكم﴾ أَي: كلفكم فِي كل شَيْء مَا يشق عَلَيْكُم.
﴿إِن الله عَزِيز حَكِيم﴾ فالعزيز: هُوَ الَّذِي يَأْمر بعزة؛ سهل على الْعباد، أَو لم يسهل، والحكيم، قد ذكرنَا مَعْنَاهُ.
221
﴿وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة وَلَو أَعجبتكُم﴾
222
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا يجوز نِكَاح الكوافر أبدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؛ بِحكم هَذِه الْآيَة.
وَسَائِر الْمُفَسّرين وَالْعُلَمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم، على أَن الْآيَة مَنْسُوخَة فِي الكتابيات، بقوله: ﴿وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب﴾.
وروى عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَنه تزوج بنائلة بنت فرافصة وَكَانَت نَصْرَانِيَّة فَأسْلمت تَحْتَهُ. وَعَن طَلْحَة بن عبيد الله: أَنه تزوج بنصرانية. وَعَن حُذَيْفَة: أَنه تزوج يَهُودِيَّة. وَقَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير: أَرَادَ بالمشركات: الوثنيات.
فَإِن قَالَ قَائِل: الْكفَّار عنْدكُمْ مشركون كلهم، فَمن لَا يُنكر إِلَّا نبوة مُحَمَّد كَيفَ يكون مُشْركًا بِاللَّه؟
قُلْنَا: قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس صَاحب الْمُجْمل: هُوَ مُشْرك؛ لِأَنَّهُ يَقُول: الْقُرْآن الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّد كَلَام غير الله، وَهَذَا الْقُرْآن معجز لَا يَقُوله إِلَّا من كَانَ إِلَهًا، فَإِذا هُوَ كَلَام غير الله. وَكَأَنَّهُم أشركوا بِاللَّه غير الله.
وَأما سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى " أَن أَبَا مرْثَد الغنوي كَانَت لَهُ حَبِيبَة بِمَكَّة، وَكَانَ يُصِيبهَا بِالْفُجُورِ وَتسَمى عنَاقًا فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة وَأسلم، تمنت لَهُ حَاجَة، فَرجع إِلَى مَكَّة، فتزينت لَهُ، فَقَالَ أَبُو مرْثَد: إِنِّي قد دخلت فِي دين الْإِسْلَام، وَإِن الزِّنَا حرَام فِي ديني، فحتى أرجع فَاسْتَأْذن رَسُول الله أَن أَتزوّج بك، فَرجع وَاسْتَأْذَنَ؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن﴾ ".
وَقَوله: ﴿وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة﴾ نزل هَذَا فِي عبد الله بن رَوَاحَة. " كَانَت لَهُ أمة سَوْدَاء فلطمها، ثمَّ أخبر رَسُول الله بذلك فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ:
222
﴿وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك وَلَو أعجبكم أُولَئِكَ يدعونَ إِلَى النَّار وَالله يدعوا إِلَى الْجنَّة وَالْمَغْفِرَة بِإِذْنِهِ وَيبين آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يتذكرون (٢٢١) ويسألونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي﴾ إِنَّهَا مُؤمنَة، تؤمن بِاللَّه وَالرسل، وتحسن الْوضُوء، وَالصَّلَاة. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: بئْسَمَا صنعت. فَقَالَ: وَالله لأَتَزَوَّجَن بهَا، فَأعْتقهَا، وَتزَوج بهَا. وَكَانَ قد عرضت عَلَيْهِ حرَّة مُشركَة، فَعَيَّرَهُ الْمُشْركُونَ على نِكَاح الْأمة السَّوْدَاء؛ فَنزل قَوْله: ﴿وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة وَلَو أَعجبتكُم﴾ ".
﴿وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا﴾ فِي هَذَا إِجْمَاع، أَن الْمسلمَة لَا تنْكح من الْمُشْركين أجمع ﴿ولعَبْد مُؤَن خير من مُشْرك وَلَو أعجبكم﴾، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: ﴿خير من مُشْرك﴾ وَلَا خير فِي الْمُشرك؟ قيل: يجوز مثله كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ءآلله خير أما يشركُونَ﴾ وَيُقَال: الرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل.
﴿أُولَئِكَ يدعونَ إِلَى النَّار﴾ أَي: إِلَى أَسبَاب النَّار ﴿وَالله يَدْعُو إِلَى الْجنَّة وَالْمَغْفِرَة بِإِذْنِهِ﴾ أَي: بِقَضَائِهِ وإرادته ﴿وَيبين آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يتذكرون﴾
223
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويسألونك عَن الْمَحِيض﴾ أما السَّائِل عَنهُ: هُوَ أسيد بن حضير، وَعباد بن بشير. وَأما الْمَحِيض: مفعل من الْحيض. وَالْمرَاد بِهِ: نفس الْحيض.
قَالَ الْأَزْهَرِي: يُقَال: حَاضَت الْمَرْأَة حيضا، ومحيضا: إِذا نزل بهَا الدَّم من الرَّحِم فِي وَقت مَعْلُوم.
وَيُقَال: استحيضت الْمَرْأَة: إِذا نزل بهَا الدَّم من عرق لَا من الرَّحِم لَا فِي وَقت مَعْلُوم.
223
﴿الْمَحِيض وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن فَإِذا تطهرن فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين (٢٢٢) ﴾
﴿قل هُوَ أَذَى﴾ أَي: قذر. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: الْأَذَى: هُوَ الدَّم.
﴿فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض﴾ وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى عَن أنس: أَن الْيَهُود كَانُوا يعتزلون الْمَرْأَة فِي حَالَة الْحيض أَشد الاعتزال، وَكَانُوا لَا يؤاكلونها، وَلَا يشاربونها، ويخرجونها من الْبَيْت، فسألوا رَسُول الله عَن ذَلِك فَنزلت الْآيَة.
وَلم يرد بِهَذَا الاعتزال مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الاعتزال بترك الْوَطْء حَتَّى تحل المضاجعة، وَسَائِر أَنْوَاع الْمُبَاشرَة.
وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اصنعوا كل شَيْء إِلَّا الْوَطْء ".
وَفِيه قَول آخر: أَنه يفعل كل شَيْء ويجتنب مَا تَحت الْإِزَار، وَذَلِكَ مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
﴿وَلَا تقربوهن﴾ أَرَادَ بِهِ القربان: بِالْوَطْءِ؛ فَإِن قربانها بِغَيْر الْوَطْء مُبَاح. ﴿حَتَّى يطهرن﴾ يقْرَأ مخففا. وَالْمرَاد بِهِ حَتَّى يطهرن من الْمَحِيض. وَقَرَأَ أهل الْكُوفَة غير حَفْص " حَتَّى يطهرن " مشدد.
وَقَرَأَ أبي بن كَعْب، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا: " حَتَّى يتطهرن " فِي الشواذ.
وَقَوله: ﴿يطهرن﴾ بِمَعْنى: يتطهرن؛ إِلَّا أَنه أدغم التَّاء فِي الطَّاء. وَمَعْنَاهُ: حَتَّى
224
﴿نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنِّي شِئْتُم وَقدمُوا لأنفسكم وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا﴾ يغتسلن.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: قَوْله: ﴿يطهرن﴾ على التَّخْفِيف قد يكون بِمَعْنى الِاغْتِسَال، من فعل الطَّهَارَة.
وَالْكل حجَّة الشَّافِعِي فِي وجوب الِاغْتِسَال (لإباحة الْوَطْء فَإِنَّهُ) مد التَّحْرِيم إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿فَإِذا تطهرن﴾ أَي: اغْتَسَلْنَ ﴿فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: من حَيْثُ أَمركُم الله بالاجتناب فِي حَال الْحيض.
وَالثَّانِي وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة مَعْنَاهُ: من حَيْثُ أَبَاحَ الله، وَذَلِكَ بطرِيق النِّكَاح.
﴿إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين﴾ قيل: مَعْنَاهُ: التوابين من الذُّنُوب. والمتطهرين من الْعُيُوب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: معنى التوابين الرجاعين إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَار، وَمعنى المتطهرين: المتبرئين من حول أنفسهم وقوتهم.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن التوابين: من التَّوْبَة، والمتطهرين يَعْنِي: بالاستنجاء بِالْمَاءِ.
وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المتطهرين﴾ يَعْنِي: المتطهرين بالاستنجاء بِالْمَاءِ بعد الْحجر.
225
قَوْله تَعَالَى: ﴿نِسَاؤُكُمْ حرث لكم﴾ أَي: مَوضِع حرث لكم ومزدرع، وَقد قَالَ الشَّاعِر:
225
سمى الْعِيَال: حرثا، أنْشدهُ الْمبرد.
﴿فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم﴾ وَسبب نزُول هَذَا: مَا روى جَابر: أَن الْيَهُود قَالُوا من أَتَى امْرَأَته مولية جَاءَ وَلَده أَحول؛ فَنزلت الْآيَة.
﴿فَأتوا حَرْثكُمْ أَنِّي شِئْتُم﴾ أَي: (مقبلة ومدبرة) وقائمة وَقَاعِدَة، وَكَيف شِئْتُم.
وَقيل: مَعْنَاهُ: مَتى شِئْتُم.
قَالَ ابْن عَبَّاس: معنى قَوْله: ﴿أَنى شِئْتُم﴾ أَي: إِن شِئْتُم فاعزلوا، وَإِن شِئْتُم فَلَا تعزلوا.
قَالَ الشَّيْخ: وَاعْلَم أَن الْآيَة لَا تدل على إِبَاحَة إتْيَان النِّسَاء فِي غير المأتي؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ﴾ فَخص الْإِتْيَان بِموضع الْحَرْث، وَهُوَ الْقبل.
وروى نَافِع، عَن ابْن عمر. أَنه كَانَ يُبِيح إتْيَان الْمَرْأَة فِي الدبر، وأنكروا هَذَا على نَافِع. وَقَالُوا: كذب العَبْد على سَيّده عبد الله بن عمر فَإِنَّهُ مَا كَانَ يبيحه قطّ، وَحكى ذَلِك عَن مَالك أَيْضا، وَأنْكرهُ أَصْحَابه.
وَقد ورد عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِن الله لَا يستحي من الْحق، لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن ".
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هِيَ اللوطية الْكُبْرَى. وَقَالَ فِي الْعَزْل: هِيَ الموؤدة الصُّغْرَى.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَقدمُوا لأنفسكم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ التَّسْمِيَة على الْوَطْء. وَقيل: هُوَ طلب الْوَلَد. وَقيل: سَائِر أَفعَال الْخَيْر.
226
﴿أَنكُمْ ملاقوه وَبشير الْمُؤمنِينَ (٢٢٣) وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم أَن تبروا وتتقوا وتصلحوا بَين النَّاس وَالله سميع عليم (٢٢٤) لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي﴾
﴿وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَنكُمْ ملاقوه﴾ صائرون إِلَيْهِ ﴿وَبشر الْمُؤمنِينَ﴾ يَا مُحَمَّد.
227
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم﴾ نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن رَوَاحَة، كَانَ لَهُ ختن على ابْنَته، فَحلف أَن لَا يبره فَإِذا قيل لَهُ: أَلا تصل ختنك؟ فَقَالَ: حَلَفت وَكَانَ من أقربائه فَنزلت الْآيَة. ﴿وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم أَن تبروا﴾
والعرضة: كل مَا يعْتَرض فَيمْنَع من الشَّيْء. وَمَعْنَاهُ: وَلَا تجْعَلُوا الْحلف بِاللَّه سَببا يمنعكم عَن الْبر وَالتَّقوى.
وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تَسْتَكْثِرُوا من الْإِيمَان؛ فَإِن من كثر يَمِينه فقد جعل اسْم الله عرضة للهتك.
وَفِيه قَول آخر: مَعْنَاهُ: وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم أَن لَا تبروا، " وَلَا " محذوفة، وَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا أكل الْجَرَاد حروث قوم فحرثي همه أكل الْجَرَاد)
(فَقَالَت يَمِين الله أَبْرَح قَاعِدا وَإِن قطعت رَأْسِي لديك وأوصالي)
أَي: لَا أَبْرَح قَاعِدا.
﴿وتتقوا وتصلحوا بَين النَّاس وَالله سميع عليم﴾
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي إيمَانكُمْ﴾ اللَّغْو: كل مطرح (من) الْكَلَام وَفِي مَعْنَاهُ هَاهُنَا خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: وَهُوَ قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: يَمِين اللَّغْو: قَول الرجل: لَا وَالله، وبلى وَالله، وإي وَالله. وَهَذَا قَول الشَّافِعِي.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس: وَهُوَ أَن يحلف الرجل على شَيْء أَنه فعله وَلم يَفْعَله، أَو على عَكسه وَهَذَا قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ الشّعبِيّ: هُوَ الْيَمين فِي
227
﴿أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ وَالله غَفُور حَلِيم (٢٢٥) للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر فَإِن فاءوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (٢٢٦) وَإِن عزموا﴾ حَال الْغَضَب. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْحلف بِتَحْرِيم الْحَلَال.
وَقَالَ زيد بن أسلم: هُوَ أَن يَقُول الرجل: أعمى الله بَصرِي، أَو أتلف مَالِي، إِن لم أفعل كَذَا؛ فَهَذَا يَمِين اللَّغْو، وَالله لَا يُؤَاخذ بِهِ، وَلَو يُؤَاخذ بِهِ النَّاس لعجل عقوبتهم.
وَالأَصَح: مَا قَالَت عَائِشَة؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ﴾ وَكسب الْقلب: هُوَ الْقَصْد بِالْقَلْبِ إِلَى الْيَمين؛ فَدلَّ أَن يَمِين اللَّغْو: مَا لم يقْصد بِالْقَلْبِ.
﴿وَالله غَفُور﴾ أَي: ستور ﴿حَلِيم﴾ وَهُوَ الَّذِي لَا يعجل بالعقوبة.
228
قَوْله تَعَالَى: ﴿للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة اشهر﴾ الألية: الْيَمين. وَكَذَلِكَ الْإِيلَاء قَالَ الشَّاعِر:
(قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه وَإِن بدرت مِنْهُ الألية برت)
فَقَوله: ﴿للَّذين يؤلون﴾ أَي: يحلفُونَ. قَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا ينْعَقد الْإِيلَاء إِذا حلف على ترك الْوَطْء أبدا ومطلقا. وَمذهب أبي حنيفَة أَنه ينْعَقد الْإِيلَاء بِالْحلف على أَرْبَعَة أشهر. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه إِنَّمَا يصير موليا بِالْحلف على أَرْبَعَة أشهر، وَهِي ﴿تربص أَرْبَعَة اشهر﴾ أَي: انْتِظَار أَرْبَعَة أشهر.
﴿فَإِن فاءوا﴾ أَي: فَإِن رجعُوا عَن الْيَمين بِالْوَطْءِ فِي حق من يقدر على الْوَطْء، أَو بالْقَوْل فِي حق من لَا يقدر على الْوَطْء ﴿فَإِن الله غَفُور رَحِيم﴾ وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: " فَإِن فاءوا فِيهِنَّ " يَعْنِي فِي الْمدَّة، وَهَذَا يُوَافق قَول أبي حنيفَة.
﴿وَإِن عزموا الطَّلَاق﴾ يَعْنِي: بالإيقاع ﴿فَإِن الله سميع عليم﴾ لقَوْل الزَّوْج، عليم بِمَا يضمره.
وَمذهب الشَّافِعِي أَنه تجوز الْفَيْئَة بعد الْمدَّة بوقف حَتَّى يفِيء أَي: يُطلق، وَهُوَ
228
﴿الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم (٢٢٧ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء وَلَا﴾ مروى عَن عمر، وعَلى، وَأبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنْهُم.
وَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى أَنَّهَا تطلق طَلْقَة بَائِنَة بِانْقِضَاء الْمدَّة. وَهُوَ مروى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَابْن مَسْعُود، وَعلي، فِي رِوَايَة ضَعِيفَة، وَالْمَسْأَلَة فِي الخلافيات.
229
قَوْله تَعَالَى: ﴿والمطلقات﴾ يَعْنِي المخليات يُقَال: أطلق الْأَسير وَأطلق الْبَعِير إِذا خلاه.
﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ ينتظرن ﴿ثَلَاثَة قُرُوء﴾ والقرء: الطُّهْر، وَهُوَ قَول أهل الْحجاز.
قَالَ الزُّهْرِيّ: لم يقل أحد من أهل الْحجاز: أَن الْأَقْرَاء الْحيض؛ إِلَّا سعيد بن الْمسيب.
وَمذهب أبي حنيفَة. أَن الْأَقْرَاء الْحيض وَهُوَ مروى عَن عمر، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، وَهُوَ قَول أهل الْكُوفَة.
وَقَالَ أَبُو عمر بن الْعَلَاء: الْقُرْء اسْم ينْطَلق على الْحيض، وينطلق على الطُّهْر، وَيذكر بمعناهما أَيْضا.
وأصل الْقُرْء: الْجمع. وَقيل: هُوَ مَأْخُوذ من الْقُرْء بِمَعْنى الْوَقْت، يُقَال: أَقرَأت الرِّيَاح إِذا هبت لوَقْتهَا.
وقرأت النُّجُوم إِذا أفلت. وَيكون بِمَعْنى طلعت لوقت مَعْلُوم.
وأنشدوا فِي الْأَقْرَاء بِمَعْنى الْأَطْهَار قَول الْأَعْشَى:
229
﴿يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن إِن كن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك إِن أَرَادوا إصلاحا ولهن مثل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة وَالله عَزِيز حَكِيم (٢٢٨) الطَّلَاق مَرَّتَانِ فإمساك﴾
وَإِنَّمَا يضيع فِي السّفر زمَان الْأَطْهَار لَا زمَان الْحيض؛ لِأَنَّهُمَا مضيعة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن﴾ يَعْنِي: من الْحيض، وَالْحَبل.
قَالَ قَتَادَة: علم الله تَعَالَى أَن يكون فِي النِّسَاء لوائم، تَقول الْمَرْأَة: حِضْت، وَلم تَحض، وطهرت وَلم تطهر، وحبلت وَلم تحبل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن كن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر﴾ فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: ﴿إِن كن يُؤمن بِاللَّه﴾ وَالْحكم فِي الْكَافِرَة مثل الحكم فِي المؤمنة؟ قيل: مَعْنَاهُ: أَن هَذَا من فعل الْمُؤْمِنَات، كَمَا يُقَال: إِن كنت مُؤمنا فأد حَقي. يَعْنِي: من فعل الْمُؤمنِينَ أَدَاء الْحُقُوق. وَقَوله ﴿وبعولتهن﴾ أَي: أَزوَاجهنَّ ﴿أَحَق بردهن﴾ أَي: برجعتهن ﴿فِي ذَلِك﴾ يَعْنِي: فِي تِلْكَ الْمدَّة. ﴿إِن أَرَادوا إصلاحا﴾ مَعْنَاهُ: إِن أَرَادوا بالرجعة الصّلاح، وَحسن الْعشْرَة، وَلم يكن قَصده الْإِضْرَار، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة. كَانَ الرجل مِنْهُم يُطلق امْرَأَته، ثمَّ يُرَاجِعهَا إِذا أشرفت الْعدة على الِانْقِضَاء. ثمَّ يطلقهَا، ثمَّ يُرَاجِعهَا كَذَلِك، يقْصد بِهِ تَطْوِيل الْعدة عَلَيْهَا.
﴿ولهن مثل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي مَعْنَاهُ: إِنِّي أحب أَن أتزين لامرأتي كَمَا تحب امْرَأَتي أَن تتزين لي؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿ولهن مثل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وَفِيه قَول آخر، مَعْنَاهُ: على الرجل أَن يَتَّقِي لحقها كَمَا على الْمَرْأَة أَن تتقي لحقه يَعْنِي: من الْحَرَام.
﴿وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة﴾ قَالَ مُجَاهِد: بِالْجِهَادِ وَالْمِيرَاث. وَقيل: يَعْنِي: فِي الطَّلَاق؛ لِأَن الطَّلَاق بيد الرِّجَال. وَقَالَ حميد: باللحية. ﴿وَالله عَزِيز﴾ أَي: منيع
230
( ﴿بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان وَلَا يحل لكم أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا إِلَّا أَن يخافا أَلا يُقِيمَا حُدُود الله فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُود الله فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا﴾ حَكِيم).
231
قَوْله تَعَالَى: ﴿الطَّلَاق مَرَّتَانِ فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان﴾. قَالَ عُرْوَة بن الزبير: كَانَ النَّاس فِي الِابْتِدَاء يطلقون من غير حصر وَلَا عدد، فيطلق الرجل امْرَأَته فَلَمَّا قاربت انْقِضَاء الْعدة رَاجعهَا، ثمَّ طَلقهَا كَذَلِك، ثمَّ رَاجعهَا، وَقَالَ: لَا أخليك تتزوجين أبدا، فَنزلت الْآيَة ﴿الطَّلَاق مَرَّتَانِ﴾ " وَيَعْنِي: الطَّلَاق الَّذِي يملك عَقِيبه الرّجْعَة مَرَّتَانِ.
﴿فإمساك بِمَعْرُوف﴾ هُوَ الرّجْعَة، وَقيل: هُوَ الْإِمْسَاك بعد الرّجْعَة للصحبة. وَقَوله: ﴿بِمَعْرُوف﴾ هُوَ كل مَا يعرف فِي الشَّرْع من أَدَاء حُقُوق النِّكَاح، وَحسن الصُّحْبَة. ﴿أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان﴾ هُوَ أَن يَتْرُكهَا بعد الطَّلَاق حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا.
" وَسُئِلَ رَسُول الله أَيْن الطَّلقَة الثَّالِثَة؟ فَقَالَ: أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان ".
وَلَفظ السراح والفراق صريحان مثل الطَّلَاق عِنْد الشَّافِعِي.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الصَّرِيح لفظ وَاحِد وَهُوَ الطَّلَاق.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا يحل لكم أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا﴾ يَعْنِي: غصبا وظلما، وَذَلِكَ مثل قَوْله فِي سُورَة النِّسَاء: ﴿وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا أتأخذونه بهتانا وإثما مُبينًا﴾.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِلَّا أَن يخافا أَلا يُقِيمَا حُدُود الله﴾ يَعْنِي: إِنَّمَا يحل الْأَخْذ عِنْد
231
إِرَادَة الْخلْع، وَوُجُود الْخَوْف.
وَقَوله: ﴿إِلَّا أَن يخافا﴾ يقْرَأ بِفَتْح الْيَاء وَهُوَ الْمَعْرُوف. وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَحَمْزَة: " إِلَّا أَن يخافا " بِضَم الْيَاء. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " إِلَّا أَن تخافوا ".
أما الأول: رَاجع إِلَى الزَّوْجَيْنِ. وَأما قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: فَهِيَ خطاب للولاة والقضاة.
وَأما قِرَاءَة حَمْزَة: قيل: إِنَّه قصد اعْتِبَار معنى قِرَاءَة ابْن مَسْعُود، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَن يخَاف الزَّوْجَانِ؛ [فَيعلم] الْوُلَاة والقضاة. وَقَالُوا: إِنَّه لم يصب.
وَاخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الْخَوْف، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة إِمَام اللُّغَة: الْخَوْف بِمَعْنى الْعلم.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج: هُوَ على حَقِيقَة الْخَوْف، مَعْنَاهُ إِلَّا أَن يغلب على الظَّن خوف أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْخَوْف بِمَعْنى الظَّن، قَالَ الشَّاعِر:
(أَتَانِي كَلَام من نصيب (يَقُوله)
وَمَا خفت يَا سَلام أَنَّك [عائبي] )
أَي: مَا ظَنَنْت.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُود الله فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ﴾ أَي: فِيمَا اخْتلعت بِهِ. وَاخْتلفُوا فِي الْخلْع،
قَالَ طَاوس، وَالربيع بن أنس: يخْتَص جَوَاز الْخلْع بِحَال خوف النُّشُوز؛ تمسكا بِظَاهِر الْآيَة.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: يخْتَص جَوَاز الْخلْع بِقدر مَا سَاق إِلَيْهَا من الْمهْر، حَتَّى لَا يجوز بِالزِّيَادَةِ. وَقَالَ الْحسن: الْخلْع إِنَّمَا يجوز للولاة والقضاة؛ تمسكا بِظَاهِر الْآيَة.
232
﴿افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تعتدوها وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره فَإِن طَلقهَا فَلَا جنَاح﴾
وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْخلْع يجوز بِكُل حَال، وَبِكُل قدر تَرَاضيا عَلَيْهِ من الزَّوْجَيْنِ وَغَيرهمَا.
وَإِنَّمَا الْآيَة خرجت على وفْق الْعَادة فِي أَن الْخلْع إِنَّمَا يكون فِي حَال خوف النُّشُوز، وَهُوَ الأولى أَن يُؤْتى بِالْخلْعِ فِي حَال النُّشُوز، وبقدر الْمهْر.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تعتدوها﴾ أَي: فَلَا تجاوزوها، وحدود الله: كل مَا منع الشَّرْع من الْمُجَاوزَة عَنهُ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ﴾. ظَاهر الْمَعْنى.
233
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ من بعد﴾ هُوَ الطَّلقَة الثَّالِثَة. وَحكمهَا تَحْرِيم العقد إِلَى أَن يُوجد الزَّوْج الثَّانِي. ثمَّ التَّحْلِيل للزَّوْج الأول إِنَّمَا يحصل بِالْعقدِ وَالْوَطْء جَمِيعًا، على قَول أَكثر الْعلمَاء.
وَحكى عَن سعيد بن الْمسيب وَقيل: عَن سعيد بن جُبَير أَنه يحصل بِمُجَرَّد النِّكَاح. بظاهرة الْآيَة. وَقد عد هَذَا من شواذ الْخلاف.
وَالدَّلِيل على صِحَة القَوْل الأول: مَا روى " أَن امْرَأَة رِفَاعَة الْقرظِيّ جَاءَت إِلَى رَسُول الله، وَقَالَت: إِن رِفَاعَة بت طَلَاقي، وَتَزَوَّجت بعده بِعَبْد الرَّحْمَن بن الزبير، وَإِنَّمَا مَعَه مثل هدبة الثَّوْب. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أَتُرِيدِينَ أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك ". فدلت السّنة على اشْتِرَاط الْوَطْء وَهَذَا خبر صَحِيح.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿حَتَّى تنْكح زوجا غَيره﴾ فَالنِّكَاح بِمَعْنى الْوَطْء، وَيكون بِمَعْنى
233
﴿عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا إِن ظنا أَن يُقِيمَا حُدُود الله وَتلك حُدُود الله يبينها لقوم يعلمُونَ (٢٣٠) وَإِذ طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فأمسكوهن بِمَعْرُوف أَو سرحوهن بِمَعْرُوف وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا لتعتدوا وَمن يفعل ذَلِك فقد ظلم نَفسه وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات الله هزوا واذْكُرُوا نعمت الله عَلَيْكُم وَمَا أنزل عَلَيْكُم من الْكتاب﴾ العقد. ﴿فَإِن طَلقهَا﴾ يَعْنِي: الزَّوْج الثَّانِي ﴿فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا﴾ وَأَرَادَ بالرجعة هَاهُنَا: إنْشَاء النِّكَاح مَعَ الزَّوْج الأول.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِن ظنا أَن يُقِيمَا حُدُود الله﴾ يَعْنِي: إِن علما أَن يكون بَينهمَا الصّلاح، وَحسن الصُّحْبَة.
وَقَوله: ﴿وَتلك حُدُود الله يبينها لقوم يعلمُونَ﴾ أَي: يعلمُونَ مَا أَمر الله بِهِ
234
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ﴾ أَي: قاربن بُلُوغ الْأَجَل كَمَا يُقَال: بلغت الْمنزل، إِذا قاربه.
وَقَوله: ﴿فأمسكوهن بِمَعْرُوف﴾ أَي: راجعوهن بِالْمَعْرُوفِ.
﴿أَو سرحوهن بِمَعْرُوف﴾ أَو اتركوهن حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة.
﴿وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا لتعتدوا﴾ أَي: لَا تقصدوا بالرجعة الضرار بِالْمَرْأَةِ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. ﴿وَمن يفعل ذَلِك فقد ظلم نَفسه﴾ أَي: أضرّ بِنَفسِهِ لَا بِغَيْرِهِ.
(وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات الله هزوا) قَالَت عَائِشَة وَهُوَ الْأَصَح: هُوَ النَّهْي عَن قصد الْإِضْرَار (بالرجعة) فَإِن كل من خَالف أَمر الشَّرْع فَهُوَ متخذ آيَات الله هزوا. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء وَهُوَ قَول الْحسن: هُوَ أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يُطلق، ثمَّ يَقُول: مَا كنت جادا، وَيعتق، ثمَّ يَقُول: مَا كنت جادا، كنت لاعبا.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه نهى عَن الزِّيَادَة على قدر الطَّلَاق الثَّلَاث.
234
﴿وَالْحكمَة يعظكم بِهِ وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِكُل شَيْء عليم (٢٣١) وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ إِذا تراضوا بَينهم﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم﴾ قَالَ عَطاء: أَرَادَ بِهِ نعْمَة الْإِسْلَام.
﴿وَمَا أنزل عَلَيْكُم من الْكتاب﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿وَالْحكمَة﴾ يَعْنِي: السّنة.
﴿يعظكم بِهِ﴾ يرشدكم بِهِ ﴿وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِكُل شَيْء عليم﴾.
235
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ﴾ أَرَادَ ببلوغ الْأَجَل فِي هَذِه الْآيَة: تَمام انْقِضَاء الْعدة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ﴾ والعضل: الْمَنْع.
قَالَ الْخَلِيل: يُقَال: دَجَاج معضل، إِذا نشبت فِيهَا الْبَيْضَة وامتنعت من الْخُرُوج؛ لضيق الْمخْرج. وَمِنْه الدَّاء العضال، وَهُوَ الَّذِي لَا يُطَاق علاجه.
وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: أعضل بِي أهل الْكُوفَة. أَي: ضيقوا عَليّ، وأوقعوا بِي فِي أَمر شَدِيد.
وَأكْثر الْعلمَاء والمفسرين على أَنه خطاب للأولياء، نَهَاهُم عَن الِامْتِنَاع من التَّزْوِيج.
وَقد قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا بَين، أَنه دَلِيل على أَن الْمَرْأَة لَا تلِي عقد النِّكَاح.
وَنزلت الْآيَة فِي معقل بن يسَار الْمُزنِيّ؛ فَإِنَّهُ زوج أُخْته من رجل فَطلقهَا وَتركهَا حَتَّى انْقَضتْ عدتهَا، ثمَّ جَاءَ يخطبها مَعَ الْخطاب، ورغبت الْمَرْأَة فِيهِ، فَقَالَ معقل: زَوجتك أُخْتِي دون غَيْرك، وخطبها أَشْرَاف قومِي فاخترتك! أطلقتها، لَا أنكحتكها أبدا؛ فَنزلت الْآيَة.
وَفِيه قَول آخر: أَنه خطاب للأزواج؛ لِأَن ابْتِدَاء الْآيَة خطاب لَهُم.
وَمنع الْأزْوَاج هُوَ مَا ذكرنَا من أَن يطلقن، ثمَّ يُرَاجع، ثمَّ يُطلق. وَالْأول أصح.
وَقَوله تَعَالَى: {إِذا تراضوا بَينهم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِك يوعظ بِهِ من كَانَ مِنْكُم
235
﴿بِالْمَعْرُوفِ ذَلِك يوعظ بِهِ من كَانَ مِنْكُم يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِكُم أزكى لكم وأطهر وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (٢٣٢) والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ لَا﴾ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر) إِنَّمَا خصهم لِأَن الْوَعْظ إِنَّمَا يُؤثر فِي الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ذَلِكُم أزكى لكم وأطهر﴾ أزكى لكم أَي: خير لكم، وأطهر أَي: أصلح. ﴿وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ﴾.
236
قَوْله تَعَالَى: (والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ) هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر.
﴿حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة﴾.
فالحولان: (مُدَّة) الرَّضَاع، فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: كَامِلين؟
قيل: لِأَن الْحَوْلَيْنِ قد ينْطَلق على الْحول وَبَعض الْحول الثَّانِي، كَمَا فِي قَوْله: ﴿الْحَج أشهر مَعْلُومَات﴾ أطلق الْأَشْهر على شَهْرَيْن وَبَعض الثَّالِث، فَقَالَ: كَامِلين ليعرف أَنه أَرَادَ تَمام الْحَوْلَيْنِ. وَقيل: إِنَّمَا قَالَه تَأْكِيدًا.
وروى أَن امْرَأَة أَتَت بِولد لسِتَّة أشهر من وَقت النِّكَاح، فجَاء زَوجهَا إِلَى عُثْمَان فِي ذَلِك. فهم عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ برجمها، فَقَالَ عَليّ: لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا﴾ وَقَالَ: ﴿والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين﴾ فَإِذا ذهب الفصال حَوْلَيْنِ، بَقِي للْحَمْل سِتَّة أشهر، فَتَركهَا عُثْمَان، وَدَرَأَ الْحَد.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وعَلى الْمَوْلُود لَهُ﴾ يَعْنِي: الزَّوْج أَبُو الْوَلَد. ﴿رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ﴾ وَذَلِكَ نَفَقَة مُدَّة الرَّضَاع. ﴿لَا تكلّف نفس إِلَّا وسعهَا﴾ إِلَّا طاقتها،
236
﴿تكلّف نفس إِلَّا وسعهَا لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُود لَهُ بولده وعَلى الْوَارِث مثل ذَلِك فَإِن أَرَادَ فصالا عَن ترَاض مِنْهُمَا وتشاور فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا وَإِن أردتم أَن﴾ يَعْنِي: على الموسع بِقدر وَسعه، وعَلى المقتر بِقدر طاقته.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا﴾ بِفَتْح الرَّاء. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَغَيره بِضَم الرَّاء. وَقَرَأَ أبان [عَن] عَاصِم: " لَا تضارر " وَفِي الشواذ. فَمن قَرَأَ بِفَتْح الرَّاء فَمَعْنَاه: لَا تضار الْمَرْأَة بِوَلَدِهَا. يَعْنِي: لَا ينتزع الْأَب وَلَدهَا مِنْهَا، فيسلمه إِلَى غَيرهَا وَهِي راغبة فِي الْإِرْضَاع.
وَيحْتَمل أَن مَعْنَاهُ: أَن الْمَرْأَة لَا تضار بِوَلَدِهَا فتتركه (لغَيْرهَا)، وتمتنع من الْإِرْضَاع. وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَهَذَا أَيْضا مَعْنَاهُ، وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الثَّالِثَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَا مَوْلُود لَهُ بولده﴾ يَعْنِي الْأَب لَا يضر بولده فَيسلم إِلَى غير الْأُم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وعَلى الوراث مثل ذَلِك﴾ قَالَ عمر: أَرَادَ بِهِ على غير الْوَالِدين مثل ذَلِك النَّفَقَة، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة، فَإِنَّهُ يُوجب نَفَقَة الْقَرَابَة على الْإِخْوَة والأعمام.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَرَادَ بِمثل ذَلِك: ترك المضارة. وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَلم ير النَّفَقَة على غير الْوَالِدين. وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَرَادَ بالوارث هَذَا: الْوَلَد، عَلَيْهِ نَفَقَته من مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِن أَرَادَا فصالا﴾ أَي: فِيمَا دون الْحَوْلَيْنِ. ﴿عَن ترَاض مِنْهُمَا﴾ يَعْنِي: من الْوَالِدين ﴿وتشاور﴾ أَي: يشاور أهل الْعلم بِهِ حَتَّى يخبروا أَن الفصال فِي ذَلِك الْوَقْت لَا يضر بِالْوَلَدِ. والمشاورة: اسْتِخْرَاج الرَّأْي.
237
﴿تسترضعوا أَوْلَادكُم فَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِذا سلمتم مَا آتيتم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (٢٣٣) وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا فَإِذا بلغن أَجلهنَّ فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا فعلن﴾
وَقيل: إِن عمر ركب فرسا يشوره، أَي: يسْتَخْرج سيره، فَعَطب تَحْتَهُ، فَحكم شريحا؛ فقضي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ. وَقَالَ: إِنَّمَا ركبته سوما؛ فولاه الْقَضَاء، فَقضى بعد ذَلِك سبعين سنة.
وَقَوله: ﴿فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا﴾ أَي: فَلَا حرج فِي الفصال قبل تَمام الْحَوْلَيْنِ.
وَقَوله: ﴿وَإِن أردتم أَن تسترضعوا أَوْلَادكُم﴾ أَي: تستأجروا مُرْضِعَة لأولادكم، وَاللَّام محذوفة. وَمَعْنَاهُ: أَن تسترضعوا لأولادكم.
وَقَوله: ﴿فَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِذا سلمتم مَا آتيتم بِالْمَعْرُوفِ﴾.
يقْرَأ: " آتيتم " ممدودا، وَيقْرَأ: " أتيتم " مَقْصُورا وَمعنى الأول: إِذا سلمتم إِلَى الْأُم، وَمَا آتيتم أَي: مَا سميتم لَهَا من أجر الرَّضَاع بِقدر مَا أرضعت. وَيحْتَمل التَّسْلِيم إِلَى الْمُسْتَأْجرَة أجرتهَا إِلَى الرَّضَاع.
وَمن قَرَأَ " أتيتم " فَمَعْنَاه: إِذا سلمتم مَا أتيتم بِالْمَعْرُوفِ، يَعْنِي: إِذا سلمتم لأَمره وانقدتم لحكمه فِيمَا فَعلْتُمْ من الْمَعْرُوف. ﴿وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾.
238
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين يتوفون مِنْكُم﴾ قَرَأَ عَليّ: " يتوفون " بِفَتْح الْيَاء، وَمَعْنَاهُ: يستوفون أعمارهم. وَالْمَعْرُوف بِضَم الْيَاء، وَمَعْنَاهُ: وَالَّذين يموتون ويتوفى آجالهم ﴿ويذرون أَزْوَاجًا﴾ أَي: ويتركون أَزْوَاجًا وَالْمرَاد بالأزواج: الزَّوْجَات.
﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ ينتظرن ﴿بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا﴾ الْآيَة فِي عدَّة الْوَفَاة، وَهِي مقدرَة بأَرْبعَة أشهر وَعشر بِاتِّفَاق الْأمة لنَصّ الْكتاب.
238
﴿فِي أَنْفسهنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (٢٣٤) وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء أَو أَكُنْتُم فِي أَنفسكُم علم الله أَنكُمْ ستذكرونهن﴾
وَقيل: إِنَّمَا قدر بِتِلْكَ الْمدَّة لحكمة، وَهِي أَن الْوَلَد يرتكض فِي بطن الْحَامِل لنصف مُدَّة الْحمل وَأَرْبَعَة أشهر وَعشر قريب من نصف مُدَّة الْحمل.
والارتكاض: بِمَعْنى التحرك، وَيُقَال: امْرَأَة مركضة إِذا تحرّك [فِي] بَطنهَا، قَالَ الشَّاعِر:
(أَفِي كل عَام أَنْت جاشم غَزْوَة تشد لأقصاها عزيم عزائكا)
(مورثة مَالا وَفِي الْحَيّ رفْعَة لما ضَاعَ فِيهَا من قُرُوء نسائكا)
(ومركضة صريحي أَبوهَا يهان لَهَا الغلامة والغلام)
وَأما قَوْله: ﴿وَعشرا﴾ فَهِيَ لَيَال، يُقَال: عشرَة أَيَّام وَعشر لَيَال، وَإِنَّمَا خص اللَّيَالِي لِأَن كل أجل يبتدىء من اللَّيْل.
وَقَالَ الْمبرد: أَرَادَ بِهِ: عشر مدد، كل مُدَّة يَوْم وَلَيْلَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِذا بلغن أَجلهنَّ﴾ أَي: انْقَضتْ عدتهن.
﴿فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يَعْنِي: فِيمَا فعلن من اخْتِيَار الْأزْوَاج دون العقد، وَالْعقد إِلَى الْوَلِيّ.
وَقيل: مَعْنَاهُ فِيمَا (تزين) للأزواج زِينَة لَا ينكرها الشَّرْع. ﴿وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير﴾.
239
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء﴾ التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ فِي أَوَان الْعدة جَائِز. وَالْخطْبَة: خطْبَة العقد، يُقَال: خطب يخْطب خطْبَة إِذا خطب العقد. وخطب يخْطب خطْبَة إِذا خطب النَّاس بِكَلَام مَعْلُوم الأول وَالْآخر.
وَصُورَة التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ: أَن يَقُول للْمَرْأَة: إِنَّك لجميلة، وَإنَّك عَليّ لكريمة، وَإِنِّي لراغب فِي النِّسَاء، أَو مَا قضى الله يكون، وَنَحْو ذَلِك. فَهَذَا لَا بَأْس بِهِ فِي حق الْمُعْتَدَّة. وَلَا يجوز التَّصْرِيح بِالْخطْبَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِد: وَذَلِكَ أَن يَقُول: لَا تسبقيني بِالنِّكَاحِ، أَو يَقُول: لَا تفوتي على نَفسك، أَو أخطبك حَتَّى إِذا حللت أتزوجك، وَنَحْو هَذَا.
239
﴿وَلَكِن لَا تواعدوهن سرا إِلَّا أَن تَقولُوا قولا مَعْرُوفا وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله وَاعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي أَنفسكُم فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَن الله﴾
وَقيل: إِن ذَلِك يجوز مَعَ الْوَلِيّ بِأَن يَقُول لَهُ: لَا تسبقني بِالنِّكَاحِ وَنَحْو ذَلِك.
وَإِنَّمَا لَا يجوز التَّصْرِيح مَعهَا. وَالدَّلِيل على جَوَاز التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ: مَا روى أَن سكينَة بنت حَنْظَلَة تأيمت عَن زَوجهَا، فَدخل عَلَيْهَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر، وَقَالَ: تعلمين قَرَابَتي من رَسُول الله، وَقَرَابَتِي من عَليّ، وحقي فِي الْإِسْلَام، وشرفي فِي الْعَرَب. فَقَالَ سكينَة: أَتَخْطُبُنِي وَأَنا مُعْتَدَّة وَأَنت أَنْت يَعْنِي: مِنْك يُؤْخَذ الْعلم؟ ! فَقَالَ: مَا خطبتك، وَلَكِن ذكرت منزلتي.
ثمَّ روى " أَن رَسُول الله دخل على أم سَلمَة وَكَانَت فِي عدَّة زَوجهَا أبي سَلمَة، فَذكر عَلَيْهِ السَّلَام كرامته على الله، ومنزلته عِنْد الله، وَكَانَ يذكر من ذَلِك ويعتمد على يَدَيْهِ حَتَّى أثر الْحَصِير فِي يَدَيْهِ ". فَهَذَا كُله من التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ، وَدلّ الحَدِيث على جَوَازه.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أَو أكننتم فِي أَنفسكُم﴾ أَي: أضمرتم فِي أَنفسكُم أَمر النِّكَاح ﴿علم الله أَنكُمْ ستذكرونهن﴾ يَعْنِي: فِي أَنفسكُم. ﴿وَلَكِن لَا تواعدوهن سرا إِلَّا أَن تَقولُوا قولا مَعْرُوفا﴾ فِي معنى هَذَا السِّرّ أَقْوَال، أَصَحهَا: أَنه أَخذ مِيثَاق النِّكَاح مِمَّا، نهى الشَّرْع عَنهُ فِي حَال الْعدة.
وَقيل: السِّرّ: الزِّنَا. وَقيل: هُوَ الْوَطْء. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(أَلا زعمت بسباسة الْيَوْم أنني كَبرت وَأَن لَا يحسن السِّرّ أمثالي)
يَعْنِي: الْجِمَاع. قَالَ الشَّافِعِي قَوْله: ﴿لَا تواعدهن سرا﴾ هُوَ أَن يصف نَفسه بِكَثْرَة الْجِمَاع؛ ليرغبها فِي نِكَاحه.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِلَّا أَن تَقولُوا قولا مَعْرُوفا﴾ هُوَ مَا ذكرنَا من التَّعْرِيض الْمُبَاح.
قَوْله: ﴿وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح﴾ أَي: لَا تحققوا الْعَزْم على عقد النِّكَاح فِي الْعدة ﴿حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله﴾ أَي: فرض الْكتاب؛ لِأَن الْعدة من فرض الْكتاب.
﴿وَاعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي أَنفسكُم فَاحْذَرُوهُ﴾ هَذَا فِي التحذير عَمَّا نَهَاهُم عَنهُ. ﴿وَاعْلَمُوا أَن الله غَفُور حَلِيم﴾.
240
﴿غَفُور حَلِيم (٢٣٥) لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة ومتعوهن على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة﴾
241
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة﴾ تَقْدِيره: وَلم تمَسُّوهُنَّ، وَلم تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة.
هَذِه الْآيَة فِي الْمُطلقَة قبل الْفَرْض والمسيس. وَفِي الْآيَة دَلِيل على جَوَاز إخلاء النِّكَاح عَن تَسْمِيَة الْمهْر. وفيهَا دَلِيل على وجوب الْمُتْعَة فِي الْجُمْلَة؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿ومتعوهن﴾.
قَالَ ابْن عَبَّاس فِي الْمُتْعَة: أَعْلَاهَا خَادِم، وأوسطها الْوَرق، وَأَدْنَاهَا ثوب للكسوة. قَالَ الشَّافِعِي: وَاسْتحْسن فِي الْمُتْعَة أَن تكون من عشْرين درهما إِلَى ثَلَاثِينَ، وَفِي الْجُمْلَة هِيَ مفوضة إِلَى اجْتِهَاد الْحُكَّام، فَيُوجب على كل وَاحِد تَقْدِير مَا يرى ﴿على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ﴾.
قَالَ شرح: هَذَا إرشاد وَندب إِلَى الإمتاع، وَلم ير وجوب الْمُتْعَة، وَسَائِر الْعلمَاء ذَهَبُوا إِلَى وجوب الْمُتْعَة، فمذهب عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن لكل مُطلقَة مُتْعَة.
وَقَالَ ابْن عمر: لكل مُطلقَة مُتْعَة؛ إِلَّا الَّتِي فرض لَهَا زَوجهَا، وَطَلقهَا قبل الدُّخُول، حسبها نصف الْمُسَمّى، وَهَذَا أحد قولي الشَّافِعِي.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنَّهَا لَا تجب إِلَّا للَّتِي لم يفْرض لَهَا، وَطلقت قبل الدُّخُول.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرضتم﴾ هَذِه الْآيَة فِي الْمُطلقَة بعد الْفَرْض قبل الْمَسِيس، وَجب لَهَا نصف الْمُسَمّى عِنْد الطَّلَاق قبل الدُّخُول.
﴿إِلَّا أَن يعفون﴾ هَذَا فِي الزَّوْجَات، يُقَال: تَعْفُو، تعفوان، يعفون. وَمعنى عَفْو الْمَرْأَة: هُوَ الْفضل بترك النّصْف الَّذِي وَجب لَهَا.
﴿أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح﴾ قَالَ عَليّ وَهُوَ مَذْهَب شُرَيْح، وَالشعْبِيّ:
241
﴿فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح وَأَن تَعْفُو أقرب للتقوى وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم إِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (٢٣٧) حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَقومُوا لله قَانِتِينَ (٢٣٨) فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا﴾ إِن المُرَاد بِهِ: الزَّوْج، وعفوه: الْفضل بِإِعْطَاء تَمام الْمهْر.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ الْوَلِيّ وَهُوَ الْأَلْيَق بنظم الْآيَة وَرَأى جَوَاز إِبْرَاء الْوَلِيّ عَن مهر الْمَرْأَة.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه فِي أَب الْبكر خَاصَّة، وَله الْعَفو عَن مهر ابْنَته مَا دَامَت بكرا.
وَالْفَتْوَى على أَن لَيْسَ إِلَى الْوَلِيّ من الْعَفو شَيْء. وَإِنَّمَا الْآيَة فِي الزَّوْج، كَمَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ.
﴿وَأَن تَعْفُو أقرب للتقوى﴾ الْخطاب مَعَ الْكل. ﴿وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم﴾ أَي: أفضال بَعْضكُم على بعض. ﴿إِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾.
242
قَوْله تَعَالَى: ﴿حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى﴾ أَمر بالمحافظة على جَمِيع الْأَوْقَات.
وَأما الصَّلَاة الْوُسْطَى فَفِيهَا سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: قَالَ عمر، وَعلي، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأَبُو أَيُّوب، وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم هِيَ صَلَاة الْعَصْر، لِأَنَّهَا وسط (صَلَاتي) اللَّيْل وصلاتي النَّهَار.
وَعَن حَفْصَة أَنَّهَا قَالَت لكاتب مصحفها: إِذا بلغت قَوْله: ﴿حَافظُوا على الصَّلَوَات﴾ فَأَعْلمنِي، فَلَمَّا بلغه أعلمها، فَقَالَت: اكْتُبْ: وَالصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر.
وَقد صَحَّ الْخَبَر عَن رَسُول الله أَنه قَالَ يَوْم الخَنْدَق: " شغلونا عَن صَلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر مَلأ الله بطونهم وقبورهم نَارا ".
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول زيد بن ثَابت: أَنَّهَا صَلَاة الظّهْر، لِأَنَّهَا وسط النَّهَار.
242
وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَجَابِر: أَنَّهَا صَلَاة الصُّبْح. وَهُوَ [اخْتِيَار] الشَّافِعِي لِأَنَّهَا وسط صَلَاتي اللَّيْل وصلاتي النَّهَار.
ووراء هَذَا فِيهِ أَربع أَقْوَال غَرِيبَة: أَحدهَا قَالَه قبيصَة بن ذُؤَيْب: أَنَّهَا صَلَاة الْمغرب؛ لِأَنَّهَا وسط فِي عدد الرَّكْعَات.
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب، وَالربيع بن خثيم: أَنَّهَا كل صَلَاة من الصَّلَوَات الْخمس؛ لِأَن كل صَلَاة من الصَّلَوَات الْخمس: وسطى بَين الْأَرْبَع. وَإِنَّمَا خصّه بعد ذكر الصَّلَوَات تَأْكِيدًا وتحريضا على الْمُحَافظَة على جَمِيع الصَّلَوَات.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الْجُمُعَة.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا الْجَمَاعَة.
وَاخْتلفُوا فِي صَلَاة الصُّبْح أَنَّهَا من صَلَاة اللَّيْل، أَو من صَلَاة النَّهَار.
فَأكْثر الْعلمَاء على أَنَّهَا من صَلَاة النَّهَار.
وَقَالَ بَعضهم: أَنَّهَا [من] صَلَاة اللَّيْل. وَهَذَا الْخلاف يرجع إِلَى أَن النَّهَار من وَقت طُلُوع الْفجْر أَو [من] وَقت طُلُوع الشَّمْس.
فَمن قَالَ: إِنَّه من وَقت طُلُوع الْفجْر؛ جعل صَلَاة الصُّبْح من صَلَاة النَّهَار.
وَمن قَالَ: إِن النَّهَار من وَقت طُلُوع الشَّمْس؛ جعلهَا من صَلَاة اللَّيْل. وَاسْتدلَّ قَائِل هَذَا القَوْل بقول أُميَّة بن الصَّلْت.
(وَالشَّمْس تطلع كل آخر لَيْلَة حَمْرَاء يصبح لَوْنهَا يتورد)
وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: ليل مَحْض، ونهار مَحْض، ومشترك بَين اللَّيْل، وَالنَّهَار فَصَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء الْآخِرَة فِي مَحْض اللَّيْل.
وَصَلَاة الظّهْر وَالْعصر فِي مَحْض النَّهَار، وَصَلَاة الصُّبْح مُشْتَرك بَين اللَّيْل وَالنَّهَار.
243
﴿فَإِذا أمنتم فاذكروا الله كَمَا علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ (٢٣٩) وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا وَصِيَّة لأزواجهم مَتَاعا إِلَى الْحول غير إِخْرَاج فَإِن خرجن فَلَا﴾
وَفِيه قَول آخر هُوَ الْمُخْتَار: أَنه ليل لُغَة ونهار شرعا.
وَقَوله: ﴿وَقومُوا لله قَانِتِينَ﴾ أَي: مُطِيعِينَ ساكتين.
وَذَلِكَ أَن الْكَلَام كَانَ مُبَاحا فِي الصَّلَاة فِي الِابْتِدَاء، فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة؛ سكتوا.
والقارئ فِي الصَّلَاة سَاكِت عَن الْكَلَام. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه [لَو] حلف لَا يتَكَلَّم فَقَرَأَ الْقُرْآن لم يَحْنَث؛ لِأَنَّهُ كَلَام الله لَا كَلَامه.
خلافًا لأبي حنيفَة قَالَ: يَحْنَث.
244
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا﴾ هَذِه فِي صَلَاة الْخَوْف، يصلونَ مشَاة وفرسانا.
وَقَوله: ﴿فَإِذا أمنتم فاذكروا الله كَمَا علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ﴾ يَعْنِي: كَمَا علمكُم من أصل الصَّلَاة فِي حَال الْأَمْن.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا وَصِيَّة لأزواجهم﴾. يقْرَأ بِالْفَتْح، وَتَقْدِيره: أوصوا وَصِيَّة. وَيقْرَأ بِالضَّمِّ: وَتَقْدِيره: عَلَيْكُم وَصِيَّة، وَهَذَا ورد فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين كَانَت (الْعدة للوفاة) حولا كَامِلا، وَكَانَت نَفَقَة جَمِيع الْحول على الزَّوْج وَاجِبَة، وَكَانَ يجب عَلَيْهِ الْوَصِيَّة بِالْإِنْفَاقِ إِذا مَاتَ، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وَصِيَّة لأزواجهم مَتَاعا إِلَى الْحول﴾ أَي: نَفَقَة الْحول.
وَقَوله: ﴿غير إِخْرَاج﴾ وَحرم على الْوَارِث إِخْرَاج الْمُعْتَدَّة من الْبَيْت قبل تَمام الْحول، لَكِن إِذا خرجت بِنَفسِهَا سَقَطت نَفَقَتهَا. فنسخ ذَلِك بِآيَة عدَّة الْوَفَاة كَمَا سبق، وَتلك
244
﴿جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ من مَعْرُوف وَالله عَزِيز حَكِيم (٢٤٠) وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تعقلون (٢٤٢) ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت﴾ الْآيَة وَإِن كَانَت مُتَقَدّمَة فِي التِّلَاوَة وَلكنهَا مُتَأَخِّرَة فِي الْمَعْنى، وَهِي ناسخة لهَذِهِ الْآيَة.
وَقيل لعُثْمَان: أَلا تضع تِلْكَ الْآيَة مَكَان هَذِه الْآيَة، وَهَذِه مَكَان تِلْكَ؟ فَقَالَ: أكره أَن أغير الْقُرْآن عَن مَوْضِعه.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِن خرجن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ من مَعْرُوف﴾ هُوَ مَا ذكرنَا بعد الْفَرَاغ من الْعدة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَالله عَزِيز حَكِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
245
قَوْله تَعَالَى: ﴿وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ﴾ أعَاد ذكر الْمُتْعَة تَأْكِيدًا.
وَسبب نزُول الْآيَة: مَا روى أَنهم لما سمعُوا قَوْله تَعَالَى: ﴿مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ﴾ قَالُوا: إِن شِئْنَا نمتع، وَإِن شِئْنَا لَا نمتع، فَنزلت هَذِه الْآيَة.
﴿وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ﴾ أَي: الْمُتْعَة لَهُنَّ ملكا، جعلهَا لَهُنَّ بلام التَّمْلِيك. وَقَوله: ﴿حَقًا على الْمُتَّقِينَ﴾ يَعْنِي: وَاجِبا على الْمُؤمنِينَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته﴾ لِأَنَّهُ ذكر فِيمَا قبل كثيرا من الْآيَات، وَالْأَحْكَام، فَأَرَادَ بِهِ ذَلِك. وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تعقلون﴾ أَي: تفهمون وتفقهون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا أَرْبَعَة آلَاف، وَقَالَ غَيره: كَانُوا ثَمَانِيَة آلَاف، وَقَالَ السّديّ: كَانُوا [بضعَة]
245
فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون (٢٤٣) وقاتلوا فِي سَبِيل الله وَاعْلَمُوا أَن الله سميع عليم (٢٤٤) من ذَا) وَثَلَاثِينَ ألفا وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: أَرْبَعِينَ ألفا، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: أُلُوف، أَي: مؤتلفة قُلُوبهم، وَالصَّحِيح أَن المُرَاد بِهِ: الْعدَد كَمَا بَينا.
وَقَوله: ﴿حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا﴾ أَي: أماتهم الله ﴿ثمَّ أحياهم﴾ هَذَا [فِي] قوم من بني إِسْرَائِيل هربوا من الطَّاعُون، وَقَالُوا: نَذْهَب إِلَى أَرض لَيْسَ بهَا طاعون، فَذَهَبُوا فأماتهم اله تَعَالَى هُنَالك وبقوا سَبْعَة أَيَّام كَذَلِك، فَمر بهم نَبِي يُقَال لَهُ: حزقيل، فَدَعَا الله تَعَالَى فأحياهم. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أماتهم الله تَعَالَى قبل آجالهم؛ عُقُوبَة لَهُم، ثمَّ أحياهم ليستوفوا آجالهم.
وَفِي الْقَصَص: أَنه بعد مَا أحياهم كَانَ يُوجد مِنْهُم ريح الْمَوْت، وَكَذَلِكَ من أَوْلَادهم. وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِن الله لذُو فضل على النَّاس﴾ قيل: هُوَ على الْعُمُوم فِي حق الكافة فِي الدُّنْيَا، وَقيل: هُوَ على الْخُصُوص فِي حق الْمُؤمنِينَ. وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون﴾ أما الْكفَّار فَلَا يشكرون.
وَأما [الْمُؤْمِنُونَ] فَلم يبلغُوا غَايَة الشُّكْر.
246
قَوْله تَعَالَى: ﴿وقاتلوا فِي سَبِيل الله وَاعْلَمُوا أَن الله سميع عليم﴾ قيل الْخطاب مَعَ الصَّحَابَة. وَالْمعْنَى فِيهِ: أَن أُولَئِكَ الْقَوْم لما هربوا من الْمَوْت لم يَنْفَعهُمْ الْهَرَب حَتَّى أدركهم الْمَوْت، فَلَا تقعدوا وَأَنْتُم عَن الْقِتَال خوفًا من الْمَوْت؛ بل جاهدوا وقاتلوا فِي سَبِيل الله.
وَقيل: الْخطاب مَعَ أُولَئِكَ الْقَوْم من بني إِسْرَائِيل، فَإِنَّهُم إِنَّمَا قعدوا عَن الْقِتَال؛ فأماتهم الله ثمَّ أحياهم، وَأمرهمْ بِالْقِتَالِ.
246
﴿الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة وَالله يقبض ويبصط وَإِلَيْهِ﴾
247
قَوْله تَعَالَى: ﴿من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا﴾ الْقَرْض: هُوَ الْقطع. وَمِنْه المقراض، وسمى الْقَرْض قرضا؛ لِأَنَّهُ يقطع شَيْئا من مَاله ليكافأ عَلَيْهِ. أَو يرد عَلَيْهِ مثله.
قَالَ لبيد:
(وَإِذا جوزيت قرضا فأجزه إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتى لَيْسَ الْإِبِل)
فَإِن قيل: كَيفَ يكون الْإِقْرَاض من الله تَعَالَى؟ قيل مَعْنَاهُ: يقْرض أَنْبيَاء الله. فَقَالَ الضَّحَّاك: مَعْنَاهُ: يتَصَدَّق لله، وَسَماهُ قرضا لِأَن الله تَعَالَى قد وعد الثَّوَاب عَلَيْهِ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قرضا حسنا﴾ يَعْنِي: حَلَالا، وَقيل: حسنا أَي: طيبَة نَفسه بِهِ.
وَقَوله: ﴿فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة﴾ يقْرَأ بقراءات: فيضاعفه " بِضَم الْفَاء على إتباع قَوْله: ﴿يقْرض﴾.
وَقُرِئَ: " فيضاعفه ". بِفَتْح الْفَاء نصبا على جَوَاب الِاسْتِفْهَام. وَيقْرَأ: " فيضعفه " بِالْيَاءِ وَيقْرَأ بالنُّون: " فنضعفه ".
ولتضعيف والمضاعفة بِمَعْنى وَاحِد. والضعف كل مَا زَاد على الْمثل.
وَقَوله: ﴿أضعافا كَثِيرَة﴾ قَالَ السّديّ: كَثِيرَة لَا يعلم عَددهَا إِلَّا الله.
وَقَالَ غَيره: سَبْعمِائة ضعف.
وَقَوله: ﴿وَالله يقبض ويبسط﴾ فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال:
247
﴿ترجعون (٢٤٥) ألم تَرَ إِلَى الْمَلأ من بني إِسْرَائِيل من بعد مُوسَى إِذْ قَالُوا لبني لَهُم﴾
[أَحدهمَا] : قَالَ الْحسن: يقبض بالتقتير، ويبسط بالتوسيع.
وَقَالَ الزّجاج: يقبض بِقبُول الصَّدَقَة، ويبسط بِإِعْطَاء الثَّوَاب عَلَيْهِ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: يقبض بتقليل الْأَعْمَار، ويبسط بتكثير الْأَعْمَار.
وَالْقَوْل الرَّابِع: يقبض بِالتَّحْرِيمِ، ويبسط بِالْإِبَاحَةِ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِلَيْهِ ترجعون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
248
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ إِلَى الْمَلأ من بني إِسْرَائِيل من بعد مُوسَى﴾ الْمَلأ: أَشْرَاف كل قوم. وَفِي الْخَبَر: " أَنه لما قتل رُءُوس الْمُشْركين مثل أبي جهل، وَعتبَة، وَغَيرهمَا يَوْم بدر قَالَ رجل من الْأَنْصَار: مَا قتلنَا إِلَّا عَجَائِز صلعا أَي: أَوَاخِر الْقَوْم شُيُوخًا فكره ذَلِك رَسُول الله وَقَالَ: أُولَئِكَ الْمَلأ من قُرَيْش؛ لَو رَأَيْتهمْ هبتهم، وَإِن أمروك أطعتهم، واحتقرت فعلك مَعَ فعلهم ".
وَقَوله: ﴿إِذْ قَالُوا لنَبِيّ لَهُم ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله﴾ قيل: ذَلِك النَّبِي كَانَ اشمويل، وَقيل: كَانَ يُوشَع بن النُّون، وَقيل: هُوَ شَمْعُون، وسى بذلك؛ لِأَن الله تَعَالَى دَعَاهُ فَسَمعهُ. والقصة فِي ذَلِك: أَن بني إِسْرَائِيل [ظهر] عَلَيْهِم الْعَدو، وَسبوا من أَبنَاء مُلُوكهمْ أَرْبَعمِائَة وَأَرْبَعين نَفرا وَكَانُوا قد قعدوا عَن الْقِتَال أَربع سِنِين فَجَاءُوا إِلَى نَبِيّهم ذَلِك، وَقَالُوا لَهُ: ابْعَثْ لنا ملكا يجْتَمع أمرنَا عَلَيْهِ
248
﴿ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله قَالَ هَل عسيتم إِن كتب عَلَيْكُم الْقِتَال أَلا تقاتلوا قَالُوا وَمَا لنا أَلا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله وَقد أخرجنَا من دِيَارنَا وأبنائنا فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال توَلّوا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَالله عليم بالظالمين (٢٤٦) وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن الله قد﴾ فنقاتل فِي سَبِيل الله.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَ هَل عسيتم﴾ الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: بِفَتْح السِّين. وقرىء: " هَل عسيتم " بِكَسْر السِّين وهما فِي الْمَعْنى سَوَاء. وبالفتح أصوب.
وَقَوله: ﴿إِن كتب عَلَيْكُم الْقِتَال أَلا تقاتلوا﴾ وَمعنى الْآيَة: لَعَلَّكُمْ أَن تجبنوا عَن الْقِتَال فَلَا تقاتلوا.
وَقَوله: ﴿قَالُوا ومالنا أَلا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله﴾ أَي: مَا يمنعنا أَن نُقَاتِل فِي سَبِيل الله. ﴿وَقد أخرجنَا من دِيَارنَا﴾ لأَنهم كَانُوا أخرجُوا من بَيت الْمُقَدّس.
﴿وأبنائنا﴾ أَي: أخرجنَا من أَبْنَائِنَا بِالسَّبْيِ، والسبي فِيهِ مُضْمر، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(وَرَأَيْت زَوجك فِي الوغى مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا)
أَي: وحاملا رمحا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال توَلّوا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَالله عَلَيْهِم بالظالمين﴾ وَأَرَادَ بِالْقَلِيلِ: أُولَئِكَ الَّذين اقتصروا على الغرفة، وجاوزوا مَعَ طالوت وَسَيَأْتِي.
249
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكا﴾ قيل: إِنَّه كَانَ سقاء يَسْتَسْقِي على الْحمار.
وسمى طالوت؛ لطوله لِأَنَّهُ كَانَ أطول من كل أحد بِرَأْسِهِ ومنكبه.
وَقيل: كَانَ الرجل مِنْهُم إِذا رفع يَدَيْهِ وصل إِلَى رَأسه، يَعْنِي: رَأس طالوت.
249
بعث لكم طالوت ملكا قَالُوا أَنى يكون لَهُ الْملك علينا وَنحن أَحَق بِالْملكِ مِنْهُ وَلم يُؤْت سَعَة من المَال قَالَ إِن الله اصطفاه عَلَيْكُم وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم (٢٤٧) وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن آيَة ملكه أَن)
وَقَوله: ﴿قَالُوا أَنِّي يكون لَهُ الْملك علينا وَنحن أَحَق بِالْملكِ مِنْهُ﴾ أَي: كَيفَ يكون لَهُ الْملك علينا، وَلَيْسَ هُوَ من سبط النُّبُوَّة، وَالْملك؟
وَذَلِكَ أَن سبط النُّبُوَّة كَانَ سبط لاوي بن يَعْقُوب، وَهُوَ سبط مُوسَى بن عمرَان، وسبط الْملك كَانَ سبط يهوذا، وَكَانَ طالوت من سبط بنيامين، وَلم يكن سبط ملك وَلَا نبوة؛ وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا قد عصوا الله مَعْصِيّة عَظِيمَة؛ فَنزع الله مِنْهُم النُّبُوَّة وَالْملك وَكَانُوا يسمون سبط الْإِثْم.
وَقَوله: ﴿وَلم يُؤْت سَعَة من المَال﴾ لِأَنَّهُ كَانَ سقاء كَمَا بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ إِن الله اصطفاه عَلَيْكُم﴾ أَي: اخْتَارَهُ عَلَيْكُم.
وَقَوله: ﴿وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم﴾ أما الزِّيَادَة بالجسم: مَعْلُوم.
وَأما الْعلم: قيل أَرَادَ بِهِ علم الْحَرْب وَكَانَ طالوت أعلمهم بِأَمْر الْحَرْب وَقيل: أَرَادَ بِهِ علم الدّين، وَالْأول أصح.
وَقَوله: ﴿وَالله يُؤْتى ملكه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم﴾ فالواسع: ذُو السعَة، وَهُوَ الَّذِي يعْطى عَن غَنِي.
وَأما الْعَلِيم: فَقيل: الْعَلِيم والعالم بِمَعْنى وَاحِد، وَمِنْهُم من فرق بَين الْعَلِيم والعالم، فَقَالَ: الْعَالم: بِمَا كَانَ، والعليم: بِمَا يكون.
250
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن آيَة ملكه أَن يأتيكم التابوت﴾ طلبُوا مِنْهُ آيَة على الْملك، فَأخْبرهُم نَبِيّهم بِآيَة ملكه، وَذَلِكَ إتْيَان التابوت.
قيل: هُوَ التابوت الَّذِي كَانَ مَعَ مُوسَى وَهَارُون، كَانَت بَنو إِسْرَائِيل يخرجُون بِهِ إِلَى الْغَزَوَات ويستنصرون بِهِ.
250
﴿يأتيكم التابوت فِيهِ سكينَة من ربكُم وَبَقِيَّة مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون تحمله﴾
وَقيل: كَانَ من شجر الشمشاذ، وَكَانَ ثَلَاثَة أَذْرع فِي ذراعين.
وَفِيه قَول آخر: أَنه التابوت الَّذِي أنزلهُ الله تَعَالَى على آدم مَعَ الرُّكْن، وَكَانَ فِيهِ صور الْأَنْبِيَاء.
وَقَوله: ﴿فِيهِ سكينَة من ربكُم﴾ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: السكينَة لَهَا وَجه كوجه الْإِنْسَان، وَهِي بعد ريح هفافة.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ طست من ذهب كَانَ يغسل فِيهِ قُلُوب الْأَنْبِيَاء، وَقيل: هِيَ شَيْء يشبه الهر لَهُ عينان لَهما شُعَاع، وَله جَنَاحَانِ من الزمرد والزبرجد، وَكَانُوا إِذا سمعُوا صَوته تيقنوا بالنصر، وَكَانُوا إِذا خَرجُوا بالتابوت إِلَى الْحَرْب يضعونه قدامهم، فَإِن سَار سَارُوا، وَإِن وقف وقفُوا.
وَقَالَ مُجَاهِد: السكينَة آيَة كَانُوا يسكنون إِلَيْهَا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَبَقِيَّة مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون﴾ وَذَلِكَ عصى مُوسَى، ونعلاه، وعمامة هَارُون، ورضاض الألواح الَّتِي تَكَسَّرَتْ، وقفيز من الْمَنّ الَّذِي أنزل على بني إِسْرَائِيل.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ التَّوْرَاة، كَانَت فِي التابوت. ﴿مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون﴾ يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُون، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(فَلَا تبك مَيتا بعد ميت أجنه عَليّ وعباس وَآل أبي بكر)
أَي: دَفنه يَعْنِي: وَأَبُو بكر.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿تحمله الْمَلَائِكَة﴾ قَالَ الْحسن: كَانَ التابوت مَعَ الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء، فَلَمَّا تولى طالوت الْملك، حملت الْمَلَائِكَة التابوت ووضعوه بَينهم.
وَقيل: إِن العمالقة غلبوا على التابوت، ودفنوه، فَأمر الله تَعَالَى الْمَلَائِكَة حَتَّى استخرجوه، وَحَمَلُوهُ إِلَيْهِم.
251
﴿الْمَلَائِكَة إِن فِي ذَلِك لآيَة لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين (٢٤٨) فَلَمَّا فصل طالوت بالجنود قَالَ إِن الله مبتليكم بنهر فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ مني وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني إِلَّا من﴾
قَالَ ابْن عَبَّاس: إِن العمالقة لما غلبوا على التابوت أَخذهم الْبَاسُور، فعلموه أَن ذَلِك عُقُوبَة عَلَيْهِم من أجل التابوت، فشدوه على عجلة وَحَمَلُوهُ على ثورين، وساقوهما إِلَى الْمَفَازَة وتركوه فَجَاءَت الْمَلَائِكَة وَسَاقُوا ذَلِك إِلَى بني إِسْرَائِيل.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَة لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
252
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا فصل طالوت بالجنود﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ عدد الْجنُود ثَمَانِينَ ألفا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَ إِن الله مبتليكم بنهر﴾ وَذَلِكَ نهر كَانَ بَين أردن وفلسطين، وَمَعْنَاهُ: أَن الله ممتحنكم بذلك النَّهر؛ ليظْهر من لَهُ نِيَّة وَقصد فِي الْقِتَال، مِمَّن لَا نِيَّة لَهُ.
وَقَوله: ﴿فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ منى﴾ قَالَه طالوت، يَعْنِي: لَيْسَ من أهل ولايتي وصحابتي.
﴿وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني﴾ أَي: من لم يذقه، قَالَ الشَّاعِر:
(فَإِن شِئْت حرمت النِّسَاء سواكم وَإِن شِئْت لم أطْعم نقاخا وَلَا بردا)
أَي: لم أذق مَاء وَلَا نوما. يُقَال: منع الْبرد الْبرد أَي: منع الْبرد النّوم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ﴾ يقْرَأ بقراءتين، بِفَتْح الْغَيْن وَضمّهَا.
والغرفة بِفَتْح الْغَيْن: الْمرة. والغرفة بِضَم الْغَيْن: ملْء الْكَفّ.
وَقَوله: ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم﴾ قَالَ عِكْرِمَة: كَانَ عدد الْقَلِيل الَّذين اقتصروا على الغرفة: أَرْبَعَة آلَاف.
252
﴿اغترف غرفَة بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم فَلَمَّا جاوزه هُوَ وَالَّذين آمنُوا مَعَه قَالُوا لَا طَاقَة لنا الْيَوْم بجالوت وَجُنُوده قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا الله كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين (٢٤٩) وَلما برزوا لجالوت﴾
وَأكْثر الْمُفَسّرين وَهُوَ الْأَصَح على أَنهم كَانُوا ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر نَفرا.
قَالَ الْبَراء بن عَازِب: كُنَّا نتحدث أَن عدد أَصْحَاب رَسُول الله، ورضى عَنْهُم يَوْم بدر كَانُوا على عدَّة الَّذين جاوزا مَعَ طالوت، وَكَانُوا يَوْم بدر ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر نَفرا ". قَالَ الْبَراء بن عَازِب: وَلم يُجَاوز إِلَّا مُؤمن.
وَفِي الْقَصَص: أَنهم لما وصلوا إِلَى النَّهر، كَانَ قد ألْقى الله عَلَيْهِم الْعَطش، فَشرب الْكل إِلَّا هَذَا الْعدَد الْقَلِيل. وكل من شرب مِنْهُم اسودت شفتاه، وَلم يرو، وَبَقِي على الشط، وكل من اقْتصر على الغرفة روى وَجَاوَزَ.
وَقيل: إِن الْكل جاوزا، وَلَكِن حضر بَعضهم الْقِتَال، وَلم يحضر الْبَعْض.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا جاوزه هُوَ وَالَّذين آمنُوا مَعَه قَالُوا لَا طَاقَة لنا الْيَوْم بجالوت وَجُنُوده﴾
قَالَ ابْن عَبَّاس والسدى: إِنَّمَا قَالَه الَّذين انخذلوا وَلم يجاوزا، وَقيل: إِنَّمَا قَالَه من الَّذين جاوزوا؛ من قلت بصيرته فِي الدّين دون من قويت بصيرته.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا الله﴾ يَعْنِي: الَّذين قويت بصيرتهم.
﴿يظنون﴾ يستيقنون أَنهم ملاقو الله، وَقد ذكرنَا الظَّن بِمَعْنى الْيَقِين وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة الظَّن يَعْنِي: الَّذين يظنون إِصَابَة الشَّهَادَة فِي الْوَقْعَة.
وَقَوله: ﴿كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله﴾ بِقَضَائِهِ وإدارته.
﴿وَالله مَعَ الصابرين﴾ بالنصر والعونة.
253
وَقَوله: ﴿وَلما برزوا لجالوت وَجُنُوده﴾ كَانَ جالوت رَئِيس تِلْكَ العمالقة.
253
﴿وَجُنُوده قَالُوا رَبنَا أفرغ علينا صبرا وَثَبت أقدامنا وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين (٢٥٠) فهزموهم بِإِذن الله وَقتل دَاوُد جالوت وآتاه الله الْملك وَالْحكمَة وَعلمه مِمَّا يَشَاء وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض وَلَكِن الله ذُو فضل﴾
وَقَوله: ﴿قَالُوا رَبنَا أفرغ علينا صبرا﴾ مَعْنَاهُ: أصبب علينا.
وَقَوله: ﴿وَثَبت أقدامنا﴾ أَي: فِي الْقِتَال ﴿وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين﴾.
254
قَوْله تَعَالَى: ﴿فهزموهم بِإِذن الله﴾ أَي: كسروهم، يُقَال: سقاء مهزم، ومنهزم أَي: متكسر متثن بعضه على بعض.
وَقَوله ﴿بِإِذن الله﴾ أَي: بِقَضَائِهِ وإرادته.
وَقَوله: ﴿وَقتل دَاوُد جالوت﴾ وَفِي الْقِصَّة: أَن أَبَا دَاوُد حضر الْحَرْب مَعَ ثَلَاثَة عشر نَفرا من أَوْلَاده كَانَ أَصْغَرهم سنا دَاوُد، وَكَانَ [أصَاب] مَعَه مقلاع وقذافة، فبرز جالوت وَطلب البرَاز وَخرج إِلَيْهِ دَاوُد، ورماه بالمقلاع الْحجر بَين عَيْنَيْهِ وَخرج من قَفاهُ، وَأصَاب قوما آخَرين وقتلهم.
وَقَوله: ﴿وآتاه الله الْملك وَالْحكمَة﴾ جمع لدواد بَين الْملك وَالْحكمَة، يَعْنِي: النُّبُوَّة. قيل: بعده بِسبع سِنِين، وَلم يكن من قبل مجتمعا، بل كَانَ الْملك فِي سبط والنبوة فِي سبط، وَقيل: الْملك وَالْحكمَة: هُوَ الْعلم مَعَ الْعَمَل.
وَقَوله: ﴿وَعلمه مِمَّا يَشَاء﴾ قيل: صَنْعَة الدروع، وأصوات الطُّيُور، وَالزَّبُور.
وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض﴾ قَرَأَ نَافِع: " وَلَوْلَا دفاع الله " وَالْمعْنَى وَاحِد.
قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: مَعْنَاهُ: لَوْلَا دفع الله الْكفَّار بِالْمُؤْمِنِينَ؛ لكثر الْكفْر، وَنزلت السخطة، واستؤصلت الأَرْض.
254
﴿على الْعَالمين (٢٥١) تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ وَإنَّك لمن الْمُرْسلين (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله وَرفع بَعضهم دَرَجَات﴾
وَقَالَ عَليّ، وَعَامة الْمُفَسّرين: إِن الله يدْفع بالمتقي عَن غير المتقي، وبالصالح عَن الْفَاجِر، وبالمصلح عَن غير المصلح، وبالمؤمن عَن الْكَافِر، وَهُوَ معنى قَول النَّبِي " لَوْلَا مَشَايِخ ركع، وبهائم رتع، وصبيان رضع، لصب عَلَيْكُم الْعَذَاب صبا ".
وَقَالَ رَسُول الله " أَن الله يدْفع الْبلَاء بِالرجلِ الصَّالح عَن مائَة بَيت من أَهله وجيرانه ".
وَقَوله: ﴿وَلَكِن الله ذُو فضل على الْعَالمين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
255
قَوْله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ وَإنَّك لمن الْمُرْسلين﴾ وَهِي مَا ذكر من الْآيَات.
قَوْله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض﴾ هَذِه الْآيَة فِي بَيَان فضل الرُّسُل بَعضهم على بعض مَعَ استوائهم فِي أصل الرسَالَة.
وَقَوله: ﴿مِنْهُم من كلم الله﴾ يَعْنِي: مُوسَى وَقَوله: ﴿وَرفع بَعضهم دَرَجَات﴾ يَعْنِي: مُحَمَّدًا قَالَ الزّجاج: مَا أُوتى نَبِي آيَة إِلَّا أُوتى نَبينَا مثل تِلْكَ الْآيَة، وَقد أُوتى انْشِقَاق
255
﴿وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات وأيدناه بِروح الْقُدس وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات وَلَكِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من آمن وَمِنْهُم من كفر وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِن الله يفعل مَا يُرِيد (٢٥٣) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا مِمَّا رزقناكم من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلة وَلَا شَفَاعَة والكافرون هم﴾ الْقَمَر، وحنين الْجذع، وَكَلَام الشّجر، ونبع المَاء من بَين الْأَصَابِع، وَالْقُرْآن الْعَظِيم، وَبعث إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود، وَغَيره من الْأَنْبِيَاء بعث إِلَى قوم مخصوصين.
وَقَوله: ﴿وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات وأيدناه بِروح الْقُدس﴾ قد سبق ذكره.
وَقَوله: ﴿وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات﴾ هَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة حَيْثُ أحالوا الاقتتال على الْمَشِيئَة.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من آمن وَمِنْهُم من كفر﴾ مِنْهُم من تفضل عَلَيْهِ الله فَآمن، وَمِنْهُم من خذله الله فَكفر.
وَقَوله: ﴿وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا﴾ أَعَادَهُ ثَانِيًا تَأْكِيدًا. وَقَوله: ﴿وَلَكِن الله يفعل مَا يُرِيد﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
256
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا مِمَّا رزقناكم﴾ قَالَ السدى: أَرَادَ بِهِ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة. وَقَالَ غَيره: أَرَادَ بِهِ الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله وَقَوله: ﴿من قبل أَن يَأْتِي يَوْم﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿لَا بيع فِيهِ﴾ أَي: لَا فديَة فِيهِ، وسماها بيعا، لِأَن فِي الْفِدْيَة شِرَاء نَفسه.
وَقَوله: ﴿وَلَا خلة﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: قد نفى الْخلَّة هَاهُنَا فِي الْقِيَامَة، وَقد قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: ﴿الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو﴾ فَأثْبت الْخلَّة.
وَقيل: تَقْدِيره: الأخلاء فِي الدُّنْيَا بَعضهم لبَعض عَدو يَوْم الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا قَالَ ﴿وَلَا خلة وَلَا شَفَاعَة﴾ وَذَلِكَ أَن الْكفَّار كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْمَلَائِكَة أخلاؤنا والأصنام
256
﴿الظَّالِمُونَ (٢٥٤) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم لَهُ مَا فِي﴾ شفعاؤنا فَقَالَ: لَا تَنْفَع خلتهم وَلَا شفاعتهم.
وَقَوله: ﴿والكافرون هم الظَّالِمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
257
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ﴾ ذكره مُبَالغَة فِي الثَّنَاء، وَهُوَ مثل قَوْلهم: لَا كريم إِلَّا فلَان. أبلغ من قَوْلهم: فلَان كريم.
وَقَوله: ﴿الْحَيّ القيوم﴾ قَرَأَ عمر: " الْقيام ". وَقَرَأَ عَلْقَمَة: " الْقيم " وَالْمَعْرُوف: ﴿القيوم﴾. فالحي هُوَ الْبَاقِي الدَّائِم على الْأَبَد، وَهُوَ من الْحَيَاة.
والحياة: صفة الله تَعَالَى وَأما القيوم: قيل: هُوَ الْقَائِم على كل أحد بتدبيره فِي الدُّنْيَا.
وَقيل: هُوَ الْقَائِم على كل نفس بِمَا كسبت للمجازاة فِي الْآخِرَة.
وَقيل: هُوَ الْقَائِم بالأمور.
وَقَوله: ﴿لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم﴾ قَالَ الْمفضل الضَّبِّيّ: السّنة فِي الرَّأْس، وَالنَّوْم فِي الْقلب، فَالسنة أول النّوم، وَهُوَ النعاس.
وَمِنْهُم من فرق بَين السّنة وَالنُّعَاس، فَقَالَ: السّنة فِي الرَّأْس وَالنُّعَاس فِي الْعين، وَالنَّوْم فِي الْقلب.
وَالنَّوْم: غشية ثَقيلَة تقع على الْقلب تمنع من الْمعرفَة بالأشياء.
وَفِي الْأَخْبَار أَن " مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يَا رب أَلَك نوم؟ فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا مُوسَى انْظُر مَا تَقول، خُذ قَارُورَتَيْنِ فَأَخذهُمَا بيدَيْهِ فَألْقى الله عَلَيْهِ النّوم، فَوَقَعت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى وانكسرتا، قَالَ الله تَعَالَى: لَو كَانَ لي نوم مَا قَامَت سَمَاء وَلَا أَرض ".
وَقَوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾
257
﴿السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾
لأَنهم زَعَمُوا أَن الْمَلَائِكَة والأصنام يشفعون لَهُم فَقَالَ: ﴿من ذَا الَّذِي﴾ يُمكنهُ الشَّفَاعَة إِلَّا بِرِضَاهُ.
وَقَوله: ﴿يعلم مَا بَين أَيْديهم﴾ يَعْنِي: الْآخِرَة ﴿وَمَا خَلفهم﴾ يَعْنِي: الدُّنْيَا، وَقيل: ﴿مَا بَين أَيْديهم﴾ مَا قدمُوا ﴿وَمَا خَلفهم﴾ مَا خلفوا.
وَقَوله: ﴿وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾
الْإِحَاطَة: الْعلم بالشَّيْء بِجَمِيعِ جهاته وأنواعه، وَمَعْنَاهُ: وَلَا يحيطون بِشَيْء من علم الْغَيْب إِلَّا بِمَا شَاءَ، يَعْنِي: إِلَّا بِمَا أخبر بِهِ الرُّسُل، وَهُوَ مثل قَوْله فِي سُورَة الْجِنّ: ﴿فَلَا يظْهر على غيبه أحدا إِلَّا من ارتضى من رَسُول﴾.
وَقَوله: ﴿وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ قَرَأَ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ: " وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض " وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول.
وَاخْتلفُوا فِي الْكُرْسِيّ، قَالَ الْحسن: هُوَ الْعَرْش نَفسه. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: الْكُرْسِيّ مَوْضُوع قُدَّام الْعَرْش.
وَمعنى قَوْله: ﴿وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: سعته مثل سَعَة السَّمَاوَات وَالْأَرْض وأوسع مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهر فِي قِرَاءَة الْحَضْرَمِيّ، وَفِي الْأَخْبَار " أَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي جنب الْكُرْسِيّ كحلقة فِي فلاة، والكرسي فِي جنب الْعَرْش كحلقة فِي فلاة ".
وَفِي رِوَايَة عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي جنب الْكُرْسِيّ كدراهم سَبْعَة على الترس.
258
﴿وَلَا يئوده حفظهما وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم (٢٥٥) لَا إِكْرَاه فِي الدّين قد تبين الرشد من﴾ وروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: أَنه أَرَادَ بالكرسي علمه. وَمثله قَول الشَّاعِر:
(مَالِي بِأَمْرك كرْسِي أكاتمه وَلَا بكرسي علم الله مخلوقه).
وَمَعْنَاهُ: الْعلم. وَقيل: هُوَ ملكه وسلطانه. قَالَ الزّجاج: وَفِي الْجُمْلَة هُوَ أَمر عَظِيم يدل على كَمَال قدرته.
وَقَوله: ﴿وَلَا يؤده حفظهما﴾ قيل: هُوَ رَاجع إِلَى الله تَعَالَى. يَعْنِي: وَلَا يثقل عَلَيْهِ حفظ السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى الْكُرْسِيّ، وَقيل على هَذَا: إِن الْكُرْسِيّ تَحت الأَرْض كالعرش فَوق السَّمَاوَات، وَالسَّمَاوَات وَالْأَرْض على الْكُرْسِيّ. وَقيل: معلقَة بالكرسي.
﴿وَلَا يؤده﴾ أَي: لَا يثقل على الْكُرْسِيّ حفظ السَّمَاوَات وَالْأَرْض.
﴿وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم﴾ يَعْنِي بالعلى: المتعالي عَن الْأَشْيَاء والأنداد.
وَقيل: العلى بِالْملكِ والسلطنة. والعظيم: الْكَبِير.
وَقد ورد فِي فضل آيَة الْكُرْسِيّ أَخْبَار مِنْهَا:
مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ لأبي بن كَعْب: " أَي أعظم فِي الْقُرْآن؟ فَقَالَ: آيَة الْكُرْسِيّ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ليهنئك الْعلم أَبَا الْمُنْذر ".
259
قَوْله: ﴿لَا إِكْرَاه فِي الدّين﴾ قيل: سَبَب نزُول الْآيَة أَن الْمَرْأَة من أهل الْمَدِينَة كَانَ لَا يعِيش لَهَا ولدا؛ فَكَانَت تنذر وَتقول: إِن عَاشَ لي ولد لأهودنه، فَإِذا عَاشَ لَهَا ولد جعلته بَين الْيَهُود، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَأجلى رَسُول الله بني النَّضِير إِلَى الشَّام بَقِي بَينهم عدد من أَوْلَاد الْأَنْصَار قد هودوا فَاسْتَأْذنُوا رَسُول الله فِي استردادهم؛
259
﴿الغي فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا وَالله سميع عليم (٢٥٦) الله ولي الَّذين آمنُوا يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور﴾ فَنزلت الْآيَة ". ﴿لَا إِكْرَاه فِي الدّين﴾ فَمن شَاءَ مِنْهُم أَن يدْخل فِي الْإِسْلَام، فَلْيدْخلْ وَمن لم يَشَأْ فَلَا إِكْرَاه فِي الدّين.
وَقَالَ الشّعبِيّ: هَذَا فِي أهل الْكتاب لَا يجبرون على الْإِسْلَام إِذا بذلوا الْجِزْيَة.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه كَانَ فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة الْقِتَال.
وَقَوله: ﴿قد تبين الرشد من الغي﴾ أَي: الْحق من الْبَاطِل، وَالْإِيمَان من الْكفْر.
وَقَوله: ﴿فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه﴾ الطاغوت: هُوَ الشَّيْطَان، وينطلق على الْوَاحِد وَالْعدَد. وَقيل: كل مَا يعبد من دون الله فَهُوَ طاغوت.
وَأما الطاغوت فِي قَوْله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يتحكموا إِلَى الطاغوت﴾ هُوَ كَعْب بن الْأَشْرَف خَاصَّة.
وَقَوله: ﴿فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا﴾ العروة: الْكوز والدلو. وَالْمرَاد هَاهُنَا بالعروة الوثقى: العقد الوثيق الْمُحكم فِي الدّين.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله. قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَام. وَقيل: هُوَ الْقُرْآن وَمَعْنَاهُ: فقد تمسك بتمسك.
﴿لَا انفصام لَهَا﴾ أَي: لَا انْقِطَاع لَهَا ﴿وَالله سميع﴾ بدعائك إيَّاهُم إِلَى الْإِسْلَام ﴿عليم﴾ بحرصك على إسْلَامهمْ.
260
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله ولي الَّذين آمنُوا﴾ يَعْنِي: الْقيم عَلَيْهِم بالنصر والمعونة والمثوبة.
وَقَوله: ﴿يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور﴾ يَعْنِي: من الْكفْر إِلَى الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا سمى الْكفْر ظلمات؛ لِأَن طَرِيق الْكفْر مشتبه ملتبس. وَإِنَّمَا سمى الْإِسْلَام نورا لِأَن طَرِيقه بَين وَاضح.
260
﴿وَالَّذين كفرُوا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النُّور إِلَى الظُّلُمَات أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (٢٥٧) ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه أَن آتَاهُ الله الْملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت قَالَ أَنا أحيي وأميت قَالَ﴾
وَقَوله: ﴿وَالَّذين كفرُوا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النُّور إِلَى الظُّلُمَات﴾ أَي: من الْإِسْلَام إِلَى الْكفْر.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يخرجونهم من الْإِسْلَام وَلم يدخلُوا فِيهِ؟ قيل: هُوَ فِي قوم من الْمُرْتَدين خَاصَّة.
وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم؛ وَذَلِكَ أَنهم لما عدلوا وصرفوا عَن الْإِسْلَام؛ فكأنهم أخرجُوا عَنهُ، يَقُول الرجل لغيره: أخرجتني عَن صلتك، أَي: لم تعطني، وَلم تصلني.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
261
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه﴾ مَعْنَاهُ: هَل انْتهى إِلَيْك خبر الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم وَهُوَ نمروذ؟ قَالَه قَتَادَة.
وَهُوَ أول من تجبر فِي الأَرْض وَادّعى الربوبية. والمحاجة: المجادلة، ثمَّ بَين المحاجة فِي سِيَاق الْآيَة.
قَوْله: ﴿أَن آتَاهُ الله الْملك﴾ أَي: كَانَت تِلْكَ المحاجة فِي الربوبية من نظر الْملك وطغيانه.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّي الَّذِي يحي وَيُمِيت﴾ وَفِي الْقَصَص: أَن النَّاس قحطوا على عهد نمروذ، وَكَانُوا يتمارون من عِنْده الطَّعَام، وَكَانَ إِذا أَتَاهُ الرجل فِي طلب الطَّعَام يسْأَله من رَبك؟ فَإِذا قَالَ: أَنْت، بَاعَ مِنْهُ الطَّعَام، فجَاء إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم فِيمَن جَاءَ يمتار الطَّعَام، فَقَالَ لَهُ نمروذ: من رَبك؟ قَالَ: رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت، فأشغل بالمحاجة وَلم يُعْطه شَيْئا، فَانْصَرف عَنهُ إِبْرَاهِيم، وَمر بكثيب من الرمل، فَمَلَأ مِنْهُ الجواليق تطييبا لقلوب أَهله، فَلَمَّا بلغ منزله فَإِذا فِيهِ الدَّقِيق.
261
﴿إِبْرَاهِيم فَإِن الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب فبهت الَّذِي كفر وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (٢٥٨) أَو كَالَّذي مر على قَرْيَة وَهِي خاوية على﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَ أَنا أحيي وأميت﴾ هَذَا قَول نمروذ حِين قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: ربى الَّذِي يحيى وَيُمِيت.
قَالَ سُفْيَان: إِنَّه دَعَا برجلَيْن وَجب الْقَتْل عَلَيْهِمَا، فَقتل أَحدهمَا وَلم يقتل الآخر، فَهَذَا إحياؤه وإماتته.
وَقَوله: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيم فَإِن الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: لم انْتقل إِبْرَاهِيم من حجَّة إِلَى حجَّة، وَهَذَا يكون عَجزا؟ قيل: كَانَت الْحجَّة الأولى لَازِمَة، ومعارضة نمروذ إِيَّاه كَانَت فَاسِدَة؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَيَاة وَالْمَوْت اختراعا، وَلم يُعَارضهُ بِمثلِهِ لكنه خَافَ أَن يشْتَبه على السامعين، فَأتى بِحجَّة أوضح من الأولى؛ مُبَالغَة فِي الْإِلْزَام، وقطعا لشغب.
وَقَوله: ﴿فبهت الَّذِي كفر﴾ أَي: تحير بِغَلَبَة الْحجَّة عَلَيْهِ. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(وَمَا هُوَ إِلَّا أَن أَرَاهَا فَجْأَة فأبهت حَتَّى مَا أكاد أُجِيب)
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ بهت وَكَانَ يُمكنهُ أَن يُعَارض إِبْرَاهِيم فَيَقُول لَهُ: سل أَنْت رَبك حَتَّى يَأْتِي بهَا من الْمغرب؟ قُلْنَا: إِنَّمَا لم يقلهُ؛ لِأَنَّهُ خَافَ أَن لَو سَأَلَهُ ذَلِك دَعَا، فَأتى بهَا من الْمغرب؛ فَكَانَ زِيَادَة فِي فضيحته وانقطاعه.
وَالصَّحِيح أَن الله صرفه عَن تِلْكَ الْمُعَارضَة إِظْهَار للحجة عَلَيْهِ، ولتكون معْجزَة لإِبْرَاهِيم.
وَقَوله: ﴿وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
262
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو كَالَّذي مر على قَرْيَة﴾ تَقْدِيره: ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم، وَإِلَى الَّذِي مر على قَرْيَة؟
وَقيل: تَقْدِيره: هَل رَأَيْت كَالَّذي حَاج إِبْرَاهِيم، وكالذي مر على قَرْيَة؟.
262
﴿عروشها قَالَ أَنى يحيي هَذِه الله بعد مَوتهَا فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه قَالَ كم﴾
وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي مر على قَرْيَة، فَقَالَ قَتَادَة: هُوَ عَزِيز النَّبِي. وَقَالَ وهب: هُوَ إرمياء النَّبِي. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: هُوَ الْخضر عَلَيْهِم السَّلَام.
وَالصَّحِيح: أَنه كَانَ عَزِيز النَّبِي مر على قَرْيَة، يَعْنِي: على بَيت الْمُقَدّس.
وَقَوله: ﴿وَهِي خاوية على عروشها﴾ قيل: كَانَت السقوف سَاقِطَة على الأَرْض، وَكَانَت الجدران متساقطة على السقوف، فَهِيَ الخاوية على عروشها. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا كَانَت خَالِيَة، وَكَانَ قد خربها، بخْتنصر الْملك البابلي.
وَقَوله: ﴿قَالَ أَنى يحيى هَذِه الله بعد مَوتهَا﴾ وَفِي الْقِصَّة: أَن عَزِيزًا مر [بهَا] وَهُوَ على حمَار وَمَعَهُ التِّين والعصير فَقَالَ: إِنِّي يحيي هَذِه الله بعد مَوتهَا؟ !
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: أَنى يحيى هَذِه الله بعد مَوتهَا، وَهَذَا يكون سَببه الشَّك فِي قدرته؟ قيل: لم يكن شاكا فِيهِ؛ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك استبعادا على مَا يُقَال فِي الْعَادة، أَي: لَا يحي هَذِه الله بعد خرابها.
قَالَ عَطاء: دخل فِي قلبه مَا يدْخل فِي قُلُوب النَّاس.
وَقَوله: ﴿فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه﴾ أَي: أَحْيَاهُ، وَإِنَّمَا سمى الْإِحْيَاء بعثا؛ لِأَنَّهُ إِذا أحيي يبتعث للأمور.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما قَالَ تِلْكَ الْمقَالة غَلَبَة النّوم، فَقبض الله روحه مئة عَام، وَبعث ملكا عمر بَيت الْمُقَدّس فِي تِلْكَ الأعوام، ثمَّ لما أَحْيَاهُ بعث إِلَيْهِ ملكا فَسَأَلَهُ: كم لَبِثت؟
فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿قَالَ كم لَبِثت﴾ وَقَوله: ﴿قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَبُو بعض يَوْم﴾ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أَمَاتَهُ فِي أول النَّهَار وَبَعثه فِي آخر النَّهَار وَقبل غرُوب الشَّمْس، فَقَالَ:
263
﴿لَبِثت قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَو بعض يَوْم قَالَ بل لَبِثت مائَة عَام فَانْظُر إِلَى طَعَامك وشرابك لم يتسنه وَانْظُر إِلَى حِمَارك ولنجعلك آيَة للنَّاس وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ﴾ لَبِثت يَوْمًا، ثمَّ نظر إِلَى الشَّمْس لم تغرب بعد، فَقَالَ: أَو بعض يَوْم ﴿قَالَ﴾ يَعْنِي الْملك: ﴿بل لَبِثت مئة عَام فَانْظُر إِلَى طَعَامك وشرابك لم يتسنه﴾ أَي: لم يتَغَيَّر؛ فَإِن التِّين الَّذِي كَانَ مَعَه لم يتَغَيَّر؛ كَأَنَّهُ قطف من سَاعَته، وَكَذَلِكَ الْعصير كَأَنَّهُ عصر من سَاعَته.
قَالَ الْكسَائي: لم يتسنه، مَعْنَاهُ: كَأَنَّهُ لم تأت عَلَيْهِ السنون، وقطف من سَاعَته.
وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ لم ينتن، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى ﴿من حمأ مسنون﴾.
وَقيل: أَصله لم يتسنن، فقلبت إِحْدَى النونين هَاء وَمثله فِي كَلَام الْعَرَب كثير، مثل: يتمطى كَانَ فِي الأَصْل (يتمطط)، فقلبت إِحْدَى الطائين يَاء. وَقَالَ الشَّاعِر: (يقْضِي الْبَازِي إِذا الْبَازِي انْكَسَرَ... )
وَكَانَ فِي الأَصْل: (يقضض الْبَازِي).
وَقَوله: ﴿وَانْظُر إِلَى حِمَارك﴾ قيل: فَنظر إِلَيْهِ، فَإِذا عِظَام بيض تلوح نخرة فَركب الله تَعَالَى الْعِظَام بَعْضهَا على بعض، وَجعله حمارا من عِظَام، ثمَّ أَدخل فِيهِ الدَّم، ثمَّ كَسَاه الْجلد، ثمَّ نفخ فِيهِ الرّوح، فَقَامَ الْحمار ونهق، وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿ولنجعلك آيَة للنَّاس وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشزها﴾ يقْرَأ بقرائتين بالراء: نحييها، وبالزاي: يركب بَعْضهَا على بعض، من النشز، وَهُوَ الِارْتفَاع.
وَقَوله: ﴿ثمَّ نكسوها لَحْمًا﴾ فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها: وَانْظُر إِلَى حِمَارك، وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشزها، ثمَّ نكسوها لَحْمًا لنحييها.
264
﴿ننشزها ثمَّ نكسوها لَحْمًا فَلَمَّا تبين لَهُ قَالَ أعلم أَن الله على كل شَيْء قدير (٢٥٩) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى قَالَ أولم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن﴾
وَقَوله: ﴿ولنجعلك آيَة للنَّاس﴾ وَبَيَان الْآيَة فِيهِ: أَنه بعث شَابًّا، وَابْنه شيخ.
قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: أَمَاتَهُ الله وَهُوَ ابْن خمسين سنة وَامْرَأَته حَامِل، ثمَّ بعث بعد مئة سنة وَهُوَ ابْن خمسين، وَابْنه [ابْن] مئة سنة.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا تبين لَهُ قَالَ أعلم﴾ فَلَمَّا ظَهرت لَهُ قدرَة الله تَعَالَى على عمَارَة بَيت الْمُقَدّس، وإحياء الْمَوْتَى ﴿قَالَ أعلم﴾ يقْرَأ بقراءتين: على الْخَبَر، وعَلى الْأَمر، أما على الْخَبَر فَمَعْنَاه: علمت أَن الله على كل شَيْء قدير، وَأما على الْأَمر قَالَ لنَفسِهِ: ﴿أعلم أَن الله على كل شَيْء قدير﴾.
265
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى﴾ قيل: سَبَب سُؤَاله ذَلِك: أَن إِبْرَاهِيم مر على حَيَوَان على شط الْبَحْر مزقته السبَاع والوحش، وَكَانَ يَأْكُل مِنْهُ حيتان الْبَحْر، فَقَالَ: رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى.
وَفِيه قَول آخر: أَنه لما حجه نمروذ فِي إحْيَاء الْمَوْتَى؛ أَرَادَ أَن يعرف بالعيان مَا آمن بِهِ بالْخبر وَالِاسْتِدْلَال.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَ أَو لم تؤمن﴾ يَعْنِي: قد آمَنت فَلم تسْأَل؟ وَهَذَا مثل قَول الشَّاعِر:
(ألستم خير من ركب المطايا... )
يَعْنِي: أَنْتُم كَذَلِك.
وَقَوله: ﴿قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أَكَانَ إِبْرَاهِيم شاكا فِيهِ
265
﴿لِيَطمَئِن قلبِي قَالَ فَخذ أَرْبَعَة من الطير فصرهن إِلَيْك ثمَّ اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ﴾ حَتَّى احْتَاجَ إِلَى السُّؤَال، وَمَا معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم "؟ وَالْجَوَاب: أَنه لم يكن شاكا فِيهِ، وَلكنه إِنَّمَا آمن بالْخبر وَالِاسْتِدْلَال، فَأَرَادَ أَن يعرفهُ عيَانًا.
قَالَ عِكْرِمَة: لِيَزْدَادَ يَقِينا على يَقِين؛ لِأَن العيان فَوق الْخَبَر فِي ارْتِفَاع الْعلم. وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة ".
وَأما قَوْله: ﴿وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي﴾ ؛ وَذَلِكَ أَنه لما سَأَلَ ذَلِك تعلق بِهِ قلبه، فَقَالَ: وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي عَن ذَلِك التَّعَلُّق.
وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن الله تَعَالَى لما اتَّخذهُ خَلِيلًا، قَالَ ملك الْمَوْت: يَا رب، ائْذَنْ لي حَتَّى أُبَشِّرهُ؛ فبشره بِأَن الله اتخذك خَلِيلًا فَأَرَادَ أَن يرِيه الله إحْيَاء الْمَوْتَى تَخْصِيصًا لَهُ بكرامته؛ لِيَطمَئِن قلبه بالخلة.
وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي، فأعرف أَنِّي إِذا سَأَلتك أَعْطَيْتنِي، وَإِذا دعوتك أجبتني. وَأما قَوْله: " نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم " إِنَّمَا قَالَه على سَبِيل التَّوَاضُع، يَعْنِي: نَحن دونه، وأحق بِالشَّكِّ مِنْهُ، فَإِذا لمن نشك نَحن فَكيف يشك إِبْرَاهِيم؟
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَ فَخذ أَرْبَعَة من الطير﴾ قيل: هِيَ الطاووس، والديك، والحمامة، والغراب.
266
﴿جزاءاً ثمَّ ادعهن يأتينك سعيا وَاعْلَم أَن الله عَزِيز حَكِيم (٢٦٠) مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل فِي كل سنبلة مائَة حَبَّة وَالله﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فصرهن إِلَيْك﴾ أَي: فَضَمَّهُنَّ إِلَيْك. وَقَرَأَ حَمْزَة بِكَسْر الصَّاد.
وَفِيه تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: فَخذ أَرْبَعَة من الطير إِلَيْك فصرهن، أَي: فقطعن،
وَقَوله: ﴿ثمَّ اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ جُزْءا﴾ قيل: جعلهَا على أَرْبَعَة أجبل.
وَقَالَ السدى: على سَبْعَة أجبل، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: على أَرْبَعَة أَربَاع الْعَالم، جُزْءا على جبل بِجَانِب الشرق، وجزءا على جبل جَانب الغرب، وجزءا على الشمَال، وجزءا على الْجنُوب.
وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بقوله: ﴿اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ جُزْءا﴾ أَي: عشرا، وَكَانَ على عشرَة أجبل؛ حَتَّى ذهب بعض الْعلمَاء من هَذَا إِلَى أَنه لَو أوصى الْإِنْسَان بِجُزْء من مَاله ينْصَرف إِلَى الْعشْر.
وَقَوله: ﴿ثمَّ ادعهن يأتينك سعيا﴾ وَفِي الْقِصَّة: أَنه جُزْء تِلْكَ الطُّيُور الْأَرْبَعَة، وخلط اللَّحْم بِاللَّحْمِ، والريش بالريش، والعظم بالعظم، وَجعلهَا على الأجبل.
وَقيل: دقه بالهاون وَأخذ رءوسهن بَين أَصَابِعه، وَقيل: مناقيرهن، ثمَّ دعاهن؛ فَكَانَ يطير الريش إِلَى الريش، وَاللَّحم إِلَى اللَّحْم، وَالدَّم إِلَى الدَّم، ويركب بَعْضهَا على بعض، وأتين ساعيات إِلَى رءوسهن.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَاعْلَم أَن الله عَزِيز حَكِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
267
قَوْله تَعَالَى: ﴿مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله﴾ قيل: سَبِيل الله: الْجِهَاد.
267
﴿يُضَاعف لمن يَشَاء وَالله وَاسع عليم (٢٦١) الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله ثمَّ لَا يتبعُون مَا أَنْفقُوا منا وَلَا أَذَى لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم﴾
وَقيل: جَمِيع أَبْوَاب الْخَيْر سَبِيل الله.
وَقَوله: ﴿كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل فِي كل سنبلة مئة حَبَّة﴾ ضربه مثلا لِلْمُتقين وَمَا وعد من الثَّوَاب على الْإِنْفَاق.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ضرب الْمثل بِهِ، وَهل يتَصَوَّر فِي كل سنبلة مئة حَبَّة؟
قيل: لما كَانَ ذَلِك متصورا فِي الْجُمْلَة، صَحَّ ضرب الْمثل بِهِ وَإِن لم يعرف، وَمثله مَا قَالَه امْرُؤ الْقَيْس:
(ومسنونة زرق كأنياب أغوال... )
وناب الغول لَا يعرف، وَلَكِن لما تصور وجوده بِالْجُمْلَةِ مثل بِهِ. وَقيل: هُوَ يتَصَوَّر فِي سنبلة الدخن وَنَحْوه.
وَقَوله: ﴿وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء﴾ قيل: مَعْنَاهُ: يُضَاعف هَذِه المضاعفة لمن يَشَاء. وَقيل: مَعْنَاهُ يُضَاعف على هَذَا وَيزِيد لمن يَشَاء.
وَقَوله: ﴿وَالله وَاسع﴾ أَي: وَاسع الْفضل وَالرَّحْمَة وَالْقُدْرَة، يُعْطي عَن سَعَة.
وَقَوله: ﴿عليم﴾ أَي: عليم بنية من يُعْطي.
268
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله ثمَّ لَا يتبعُون مَا أَنْفقُوا منا وَلَا أَذَى﴾ أما الْمَنّ: فَهُوَ أَن يَقُول للْفَقِير: أَعطيتك كَذَا، وصنعت بك كَذَا، فيعدد عَلَيْهِ نعمه، وَأما الْأَذَى: فَهُوَ أَن يعير الْفَقِير، فَيَقُول لَهُ: إِلَى كم تسْأَل، وَكم تؤذيني فَلَا زلت فَقِيرا وَنَحْو ذَلِك.
وَقيل: من الْأَذَى: أَن يذكر إِنْفَاقه عَلَيْهِ عِنْد من لَا يُرِيد أَن يعرف.
وَقَوله: ﴿لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم﴾ أَي: ثوابهم، وَقَوله: ﴿وَلَا خوف عَلَيْهِم﴾
268
﴿يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَول مَعْرُوف ومغفرة خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى وَالله غَنِي حَلِيم (٢٦٣) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى كَالَّذي ينْفق مَاله رئاء النَّاس وَلَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَمثله كَمثل صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَاب فَأَصَابَهُ وابل﴾ وَلَا يخَافُونَ فَوَات الثَّوَاب، وَقَوله: ﴿وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾ أَي: على مَا أَنْفقُوا إِذا رَأَوْا الثَّوَاب.
269
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَول مَعْرُوف﴾ قَالَ الْحسن: هُوَ القَوْل الْجَمِيل.
وَقيل: هُوَ أَن يُعْطِيهِ ويبرك لَهُ، فَيَقُول: بَارك الله لَك فِيهِ، أَو يمنعهُ وَيَدْعُو لَهُ.
وَقَوله: ﴿ومغفرة﴾ هُوَ: أَن تستر خلته، وَلَا تهتك ستره.
وَقيل: هُوَ أَن تَعْفُو عَن الْفَقِير إِن بدرت مِنْهُ مساءة أَو أَذَى.
وَقَوله: ﴿خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى﴾ يَقُول: ذَلِك القَوْل الْمَعْرُوف، وَتلك الْمَغْفِرَة، خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى.
وَقَوله: ﴿وَالله غَنِي﴾ أَي: مستغن عَن صَدقَاتكُمْ. وَقَوله: ﴿حَلِيم﴾ أَي: لَا يعجل بالعقوبة إِذا منعتم الصَّدَقَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى﴾ قد ذكرنَا مَعْنَاهُمَا.
وَقيل: الْمَنّ فِي الصَّدَقَة بِمَنْزِلَة الْحَدث فِي الصَّلَاة، يُبْطِلهَا ويحبطها.
وَقَوله: ﴿كَالَّذي ينْفق مَاله رئاء النَّاس﴾ أَي: كإبطال الَّذِي ينْفق مَاله رئاء النَّاس؛ لِأَن الرِّيَاء يبطل الصَّدَقَة ويحبطها.
وَقَوله: ﴿وَلَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر﴾ يَعْنِي: النَّفَقَة مَعَ الرِّيَاء لَيْسَ من فعل الْمُؤمنِينَ.
وَفِي الْجُمْلَة كل من أَتَى بِالصَّدَقَةِ تقربا إِلَى مَخْلُوق فَلَا يكون مُؤمنا.
269
﴿فَتَركه صَلدًا لَا يقدرُونَ على شَيْء مِمَّا كسبوا وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين (٢٦٤) وَمثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ابْتِغَاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كَمثل جنَّة﴾
وَقَوله: ﴿فَمثله كَمثل صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَاب﴾ الصفوان: الْحجر الصلد الأملس.
وَقَوله: ﴿فَأَصَابَهُ وابل﴾ الوابل: الْمَطَر الشَّديد الْعِظَام الْقطر.
وَقَوله: ﴿فَتَركه صَلدًا﴾ أَي: أملس ﴿لَا يقدرُونَ على شَيْء مِمَّا كسبوا﴾ وَمعنى هَذَا الْمثل: أَن الَّذِي يرائي بِالْإِنْفَاقِ يفرق نَفَقَته، وَلَا يفوز بِشَيْء من الثَّوَاب، كالتراب الَّذِي يكون على الْحجر فَيُصِيبهُ الوابل؛ فَيفوت الَّذِي عَلَيْهِ، وَيبقى أملس، بِحَيْثُ لَا يقدر على شَيْء مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
270
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ابْتِغَاء مرضات الله﴾ أَي: خَالِصا لوجه الله.
وَقَوله: ﴿وتثبيتا من أنفسهم﴾ قَالَ قَتَادَة: هُوَ أَن يكون محتسبا بِالْإِنْفَاقِ.
وَقَالَ الْحسن: هُوَ أَن يثبت من نَفسه حَتَّى إِن كَانَت نِيَّته أَن يتَصَدَّق لله يفعل، وَإِن كَانَت نِيَّته غَيره يمسك، وَقَالَ الْكَلْبِيّ، وَالشعْبِيّ: هُوَ أَن يتَصَدَّق على يَقِين بالثواب، وتصديق بوعد الله فِيهِ.
وَقَوله: ﴿كَمثل جنَّة بِرَبْوَةٍ﴾ الْجنَّة: الْبُسْتَان. والربوة: الْمَكَان الْمُرْتَفع.
وَقَوله: ﴿أَصَابَهَا وابل﴾ كَمَا ذكرنَا. وَقَوله: ﴿فآتت أكلهَا ضعفين﴾ أَي: ثَمَرهَا ضعف مَا تُؤْتى غَيرهَا. قَوْله: ﴿فَإِن لم يصبهَا وابل فطل﴾ الطل: الْمَطَر الْخَفِيف الصغار الْقطر، وَيكون دَائِما.
وَمعنى هَذَا الْمثل: أَن الَّذِي ينْفق خَالِصا لوجه الله تَعَالَى لَا تخلف نَفَقَته، بل تنمو وتزكو بِكُل حَال: كَمَا أَن الْجنَّة الَّتِي على الربوة لَا تخلف، بل تنمو وتزكوا بِكُل حَال سَوَاء أَصَابَهَا الوابل، أَو أَصَابَهَا الطل؛ وَذَلِكَ أَن الطل إِذا كَانَ يَدُوم يعْمل عمل
270
﴿بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وابل فآتت أكلهَا ضعفين فَإِن لم يصبهَا وابل فطل وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (٢٦٥) أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُ فِيهَا من كل الثمرات وأصابه الْكبر وَله ذُرِّيَّة ضعفاء فأصابها إعصار فِيهِ نَار فاحترقت كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون (٢٦٦) يَا أَيهَا الَّذين﴾
الوابل الشَّديد.
وَقَوله: ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
271
قَوْله تَعَالَى: ﴿أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُ فِيهَا من كل الثمرات وأصابه الْكبر وَله ذُرِّيَّة ضعفاء﴾ أَي صغَارًا.
﴿فأصابها إعصارا فِيهِ نَار فاحترقت﴾ الإعصار: ريح ترْتَفع كالعمود نَحْو السَّمَاء، تسميه الْعَرَب، وَسَائِر النَّاس: زَوْبَعَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(إِن كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارا... )
وَأما معنى الْآيَة: روى أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - سَأَلَ الصَّحَابَة عَن معنى هَذِه الْآيَة، فَقَالُوا: الله أعلم، فَغَضب عمر، وَقَالَ: قُولُوا: نعلم، أَو لَا نعلم، وَنحن نعلم أَن الله يعلم؛ فَسَكَتُوا، وَكَانَ ابْن عَبَّاس فيهم فَقَالَ: فِي قلبِي شَيْء، فَقَالَ لَهُ عمر: قل، وَلَا تحقر نَفسك، ضرب مثلا لعمل. وروى تَمام الْكَلَام فِيهِ. - ثمَّ اخْتلفُوا، مِنْهُم من قَالَ: تَمام الْكَلَام من عمر، وَمِنْهُم من قَالَ: تَمام الْكَلَام من ابْن عَبَّاس -
وَتَمَامه: أَن الله تَعَالَى ضرب هَذَا مثلا للَّذي يعْمل طول عمره عملا، ثمَّ يحبطه برياء أَو بِشَيْء فِي آخر عمره، فيفوته ذَلِك، وَلَا يَنْفَعهُ فِي أحْوج حَال يكون إِلَيْهِ؛ كَالَّذي لَهُ بُسْتَان ذَات أَشجَار، وثمار وأنهار، فيدركه الْكبر، وَله عيلة كَبِيرَة وَأَوْلَاده صغَار، فَلَمَّا قرب إِدْرَاكه وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ، أَصَابَته نَار فَأَحْرَقتهُ، فيفوته ذَلِك (وَلَا ينْفق) فِي أحْوج حَال يكون إِلَيْهِ.
271
﴿آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون ولستم بآخذيه إِلَّا أَن تغمضوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَن الله غَنِي حميد (٢٦٧) ﴾
قَوْله: ﴿كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون﴾. ظَاهر الْمَعْنى.
272
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم﴾ أَي: من حَلَال مَا كسبتم، وَفِي هَذَا دلَالَة على أَن الْكسْب يتنوع إِلَى الطّيب، والخبيث.
وَقَوله: ﴿وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض﴾ قيل: هُوَ الْأَمر بِإِخْرَاج العشور.
وَقيل: هُوَ أَمر بِإِخْرَاج الْحُقُوق الَّتِي كَانَت وَاجِبَة فِي نَبَات الأَرْض فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ صَارَت مَنْسُوخَة بآيَات الزَّكَاة.
وَقيل: هُوَ فِي صدقَات التَّطَوُّع.
وَقَوله: ﴿وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون﴾ أم، وَتيَمّم: إِذا قصد. وَأَرَادَ بالخبيث: الرَّدِيء هَاهُنَا، أَي: وَلَا تقصدوا الرَّدِيء مِنْهُ تنفقون.
وَسبب نزُول الْآيَة: " مَا روى أَن أَصْحَاب النخيل على عهد رَسُول الله كَانُوا يأْتونَ بقنو فيعلقونه فِي الْمَسْجِد؛ ليأكله الْفُقَرَاء، فجَاء رجل بقنو حشف أَرَادَ مَا يكون، وعلقه، فَلم يرضه رَسُول الله وَنزلت الْآيَة: ﴿وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون﴾ ".
وَقَوله: ﴿ولستم بآخذيه إِلَّا أَن تغمضوا فِيهِ﴾ إِلَّا أَن تسامحوا وتساهلوا فِي أَخذه، وَمَعْنَاهُ: أَن الْحق لَو كَانَ لكم على غَيْركُمْ، فجَاء بِهِ رديئا لَا تأخذونه إِلَّا بإغماض فِيهِ، فتعتقدون أَنكُمْ تركْتُم بعض حقكم وأغمصتم.
وَقَوله: ﴿وأعلموا أَن الله غَنِي﴾ يُعْطي عَن غنى (حميد) مَحْمُود الْغنى، وَفِيه دَلِيل على أَن الْغنى لغير الله مَذْمُوم.
وَقيل: الحميد: الْمُسْتَحق للحمد.
272
﴿الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر ويأمركم بالفحشاء وَالله يَعدكُم مغْفرَة مِنْهُ وفضلا وَالله وَاسع عليم (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا﴾
273
قَوْله تَعَالَى: ﴿الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر﴾ يخوفكم بالفقر، وَالْبَاء محذوفة.
وَقَوله: ﴿ويأمركم بالفحشاء﴾ أَي: بِأَن لَا تتصدقوا وتبخلوا، وَمِنْه قَول طرفَة:
(عقيلة مَال الْفَاحِش المتشدد... )
أَي: الْبَخِيل المتشدد.
وَالْبخل دَاء عَظِيم، قَالَ " وَلَا دَاء أدوى من الْبُخْل ".
وَقَوله: ﴿وَالله يَعدكُم مغْفرَة مِنْهُ وفضلا﴾ مغْفرَة، أَي: عَفْو الله، وفضلا: بالثواب.
وَقَوله: ﴿وَالله وَاسع عليم﴾ وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُمَا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: وَهُوَ حِكْمَة الْقُرْآن، وَهُوَ أَن يعرف ناسخه ومنسوخه، ومقدمه ومؤخره، ومحكمه ومتشابهه، وَحَرَامه وَحَلَاله، وَأَمْثَاله.
وَقيل: هُوَ الْفِقْه فِي الدّين.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: هُوَ معرفَة مَعَاني الْأَشْيَاء وفهمها.
وَفِيه قَول رَابِع: هُوَ الْإِصَابَة، فعلا وقولا.
وَقَوله: ﴿وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب﴾.
قَرَأَ يَعْقُوب: " وَمن يُؤْت " بِكَسْر التَّاء يَعْنِي: وَمن يؤته الله الْحِكْمَة.
273
﴿كثيرا وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب (٢٦٩) وَمَا أنفقتم من نَفَقَة أَو أنذرتم من نذر فَإِن الله يُعلمهُ وَمَا للظالمين من أنصار (٢٧٠) إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ وَإِن تخفوها﴾
قيل: هَذِه الْحِكْمَة: هِيَ الْكِتَابَة، وَمَعْرِفَة الْخط.
وَقيل: هِيَ الْعقل. وَقيل الْأَمَانَة.
﴿وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب﴾ أَي: وَمَا يتفكر إِلَّا أولُوا الْعُقُول.
274
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أنفقتم من نَفَقَة أَو أنذرتم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِالنَّفَقَةِ: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَأما النّذر: هُوَ أَن يَنْوِي عمل الْخَيْر، وَصدقَة التَّطَوُّع.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن النَّفَقَة هِيَ صَدَقَة التَّطَوُّع، وَأما النّذر هُوَ مَا عرف من نذر اللِّسَان؛ وَهُوَ أَن يُوجب التَّصَدُّق على نَفسه.
وَقَوله: ﴿فَإِن الله يُعلمهُ﴾ أَي: يجازي. وَقَالَ مُجَاهِد: يُحْصِيه.
وَقَوله: ﴿وَمَا للظالمين﴾ أَي: الَّذين يتصدقون من الْغَصْب والنهب. ﴿من أنصار﴾ جمع النصير، أَي: مَا لَهُم من ينصر وَيمْنَع من الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَن تبدوا الصَّدقَات﴾ مَعْنَاهُ: إِن تظهروا. ﴿فَنعما هِيَ﴾ يقْرَأ بالقراءات بِفَتْح النُّون، وَكسر الْعين، وَيقْرَأ: بكسرهما، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو: بِكَسْر النُّون وَجزم الْعين، وَلم يرض ذَلِك مِنْهُ نحاة الْبَصْرَة، وَقَالُوا فِيهِ التقاء الساكنين، وَاسْتشْهدَ أَبُو عَمْرو بقوله لعَمْرو بن الْعَاصِ: " نعم المَال الصَّالح للرجل الصَّالح " وَالْكل فِي الْمَعْنى سَوَاء، وَمَعْنَاهُ: نعم خلة، هِيَ أَو نعم شَيْء هُوَ.
قَوْله: ﴿وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم﴾ قيل: هَذَا فِي صدقَات
274
﴿وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم وَيكفر عَنْكُم من سَيِّئَاتكُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير﴾
التَّطَوُّع، والإخفاء فِيهَا أفضل، وَقد روى عَن النَّبِي " أَنه قَالَ: صَدَقَة السِّرّ تفضل صَدَقَة الْعَلَانِيَة بسبعين ضعفا ".
وَإِمَّا الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة: فالإظهار فِيهَا أفضل، وَقد قَالَ " صَدَقَة الْعَلَانِيَة تفضل صَدَقَة السِّرّ بِخمْس وَعشْرين "، وَهَذَا فِي الزَّكَاة، وَالْأول فِي التطوعات.
وَقيل: الْآيَة فِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَكَانَ الْإخْفَاء خيرا فِي الْكل على عهد رَسُول الله فَأَما فِي زمننا فالإظهار خير فِي الزَّكَاة لسوء الزَّمَان، كَيْلا يساء الظَّن بِهِ.
وَقَوله: ﴿وَيكفر عَنْكُم﴾ يقْرَأ: بالنُّون، وَالْيَاء: وَيقْرَأ: بِالرَّفْع، والجزم ﴿من سَيِّئَاتكُمْ﴾ قيل: من صلَة فِيهِ. وَتَقْدِيره: وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ، فعلى هَذَا يكون شَامِلًا للصغائر، والكبائر.
وَفِيه قَول آخر: أَن " من " على التَّحْقِيق، والتفكير بالصدقات يكون من الصَّغَائِر فَأَما الْكَبَائِر فَإِنَّمَا تكفرها التَّوْبَة.
وَالْأول أقرب إِلَى أهل السّنة، وَقد قَالَ النَّبِي: " صَدَقَة السِّرّ تُطْفِئ غضب الرب ".
وَقَوله: ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير﴾ هَذَا ظَاهر الْمَعْنى.
275
( ﴿٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكُم هدَاهُم وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء وَمَا تنفقوا من خير فلأنفسكم وَمَا تنفقون إِلَّا ابْتِغَاء وَجه الله وَمَا تنفقوا من خير يوف إِلَيْكُم وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ (٢٧٢) للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي﴾
276
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُم هدَاهُم﴾ لَيْسَ المُرَاد بِهِ: هِدَايَة الدعْوَة، فَإِنَّهَا عَلَيْهِ حتم، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ: هِدَايَة التَّوْفِيق.
قَالَ سعيد بن جُبَير: " سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى: أَن النَّبِي نهى عَن التَّصْدِيق على المشتركين، وَإِنَّمَا كَانَ نهى عَنهُ، كي تحملهم الْحَاجة على الدُّخُول فِي الْإِسْلَام فَنزلت الْآيَة فَأمر النَّبِي - بالتصدق على أهل الْأَدْيَان كلهَا ".
وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ عَلَيْك هدَاهُم، بِأَن تلجئهم وتحملهم على الدُّخُول فِي الْإِسْلَام، ﴿وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء﴾ أَي يوفق من يَشَاء، ويخذل من يَشَاء.
قَوْله: ﴿وَمَا تنفقوا من خير فلأنفسكم﴾ أَي: تعلمونه لأنفسكم.
قَوْله: ﴿وَمَا تنفقون إِلَّا ابْتِغَاء وَجه الله﴾ هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر، أَي: أَنْفقُوا لوجه الله، وَمَعْنَاهُ: ابْتِغَاء مرضاة الله.
وَقيل: هُوَ على الْمُبَالغَة، فَإِن قَول الرجل: عملت لوجه فلَان. أبلغ وأشرف من قَوْله: عملت لفُلَان، فَذَكرنَا شرف اللَّفْظَيْنِ.
وَقَوله: ﴿وَمَا تنفقوا من خير يوف إِلَيْكُم﴾ أَي: يوفر عَلَيْكُم ثَوَابه.
﴿وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ﴾ ظَاهر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله﴾ يَعْنِي: تِلْكَ الصَّدقَات الَّتِي سبق ذكرهَا للْفُقَرَاء.
قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ فُقَرَاء الْمُهَاجِرين من مَكَّة.
وَأما قَوْله: ﴿أحْصرُوا فِي سَبِيل الله﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
[أَحدهَا] : قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي: حَبسهم الْعَدو والفقر عَن سَبِيل الله وَالْجهَاد، فصاروا مَحْصُورين عَنهُ.
276
﴿الأَرْض يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف تعرفهم بِسِيمَاهُمْ لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا﴾
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: أَرَادَ بِهِ: أَنهم خَرجُوا إِلَى الْحَرْب، فَأَصَابَتْهُمْ جراحات، فصاروا محصرين عَن الْجِهَاد بِسَبَب الْجِرَاحَات.
وَقَالَ قَتَادَة - وَهُوَ أحسن الْأَقْوَال -: مَعْنَاهُ: أَنهم حبسوا أنفسهم على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَتركُوا الْخُرُوج للتِّجَارَة والمعاش، ووقفوا أنفسهم على الْحَرْب.
وَقد ورد ذَلِك فِي أهل الصّفة، كَانُوا قَرِيبا من أَرْبَعمِائَة نفر، اجْتَمعُوا فِي مَسْجِد رَسُول الله وَكَانُوا لَا يأوون إِلَى أهل وَلَا إِلَى مَال، وَكَانَ يبْعَث النَّاس إِلَيْهِم بِفضل قوتهم، وَكَانُوا وقفُوا أنفسهم على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَقَالُوا: لَا تخرج سَرِيَّة إِلَّا وَنخرج مَعهَا، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿أحْصرُوا فِي سَبِيل الله﴾.
وَقَوله: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض﴾ هَذَا على الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين يرجع إِلَى الضَّرْب فِي الأَرْض للْجِهَاد.
وعَلى القَوْل الثَّالِث: هُوَ الضَّرْب فِي الأَرْض للمعاش وَالتِّجَارَة.
وَقَوله: ﴿يَحْسبهُم الْجَاهِل﴾ قَالَ قَالَ مُجَاهِد: لَيْسَ المُرَاد بِهَذَا الْجَاهِل خلاف الْعَالم وَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي لَا خبْرَة لَهُ وَلَا معرفَة بحالهم.
وَقَوله: ﴿أَغْنِيَاء من التعفف﴾ يَعْنِي: من القناعة الَّتِي لَهُم يظنهم من لم يعرفهُمْ أَغْنِيَاء.
قَوْله: ﴿تعرفهم بِسِيمَاهُمْ﴾ قيل: بالتخشع الَّذِي كَانَ لَهُم.
وَقَالَ الضَّحَّاك: بصفرة الألوان.
وَقَالَ ابْن زيد: برثاثة الثِّيَاب.
وَقيل: أثر الْجُوع والجهد.
وَقَوله: (لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا) أَي: إلحاحا.
277
﴿وَمَا تنفقوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم (٢٧٣) الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار سرا﴾
وَقيل: أَصله من إلحاف؛ فالإلحاف: السُّؤَال على الْعُمُوم، كَأَنَّهُ يسْأَل كل من يلقى.
وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بِهِ ترك السُّؤَال أصلا؛ فَإِنَّهُ إِذا سَأَلَ فقد ألحف، يعْنى: لَا يسْأَلُون أصلا.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قَالَ: ﴿أَغْنِيَاء من التعفف﴾ وَإِذا سَأَلَ لَا يكون متعففا، وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سَأَلَ وَعِنْده أُوقِيَّة فقد ألحف ". يَعْنِي: عِنْده أَرْبَعُونَ درهما.
وروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لِأَن يَأْخُذ أحدكُم حبله فيحتطب على ظَهره، خير لَهُ من يسْأَل النَّاس أعْطى أَو منع ".
وَقَوله: ﴿وَمَا تنفقوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
278
وَقَوله تَعَالَى: ﴿الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار سرا وَعَلَانِيَة﴾.
قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِي عَليّ ابْن أبي طَالب، كَانَت لَهُ أَرْبَعَة دَرَاهِم، فَتصدق بدرهم بِاللَّيْلِ، وَدِرْهَم بِالنَّهَارِ، وَدِرْهَم فِي السِّرّ، وَدِرْهَم فِي (العلن) ؛ فَنزلت الْآيَة رضَا بِفِعْلِهِ، وثناء عَلَيْهِ.
وَقيل: أَرَادَ بِالنَّفَقَةِ هَاهُنَا: النَّفَقَة على الْخَيل فِي سَبِيل الله؛ فَإِنَّهَا تعتلف من تِلْكَ النَّفَقَة لَيْلًا وَنَهَارًا، وسرا وَعَلَانِيَة؛ وَالنَّفقَة على الْخَيل فِي سَبِيل الله بَاب عَظِيم فِي
278
﴿وَعَلَانِيَة فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه فَانْتهى فَلهُ مَا سلف﴾
الْخَيْر. وَقد ورد فِي الحَدِيث: " أَنه يُؤجر بأوراثها وَأَبْوَالهَا ".
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
279
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا﴾ أَي: يَأْخُذُونَ، فَعبر بِالْأَكْلِ عَن الْأَخْذ؛ لِأَنَّهُ يُؤْخَذ ليؤكل.
وَقَوله: ﴿لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس﴾.
الْخبط: ضرب على غير اسْتِوَاء، يُقَال: فلَان يخبط خبط عشواء، إِذا كَانَ يسْلك طَرِيقا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ. وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(رَأَيْت المنايا خبط عشواء من تصب تمته وَمن تخطيء يعمر فيهرم)
وَمَعْنَاهُ: أَن آكل الرِّبَا يحْشر يَوْم الْقِيَامَة كَمثل السَّكْرَان، يقوم تَارَة، وَيَقَع أُخْرَى.
وَقيل: هُوَ من تخبط الشَّيْطَان، وَذَلِكَ [أَن] يدْخل الْإِنْسَان فيصرعه.
والمس: الْجُنُون، والخبط: أول الْجُنُون، وَمَعْنَاهُ: أَنه يحْشر يَوْم الْقِيَامَة كَمثل المصروع؛ وَذَلِكَ عَلامَة أَكلَة الرِّبَا يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا﴾. أَرَادَ بهم ثَقِيف؛ فَإِنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا.
279
﴿وَأمره إِلَى الله وَمن عَاد فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (٢٧٥) يمحق الله الرِّبَا ويربي الصَّدقَات وَالله لَا يحب كل كفار أثيم (٢٧٦) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين (٢٧٨) فَإِن﴾
﴿وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا﴾ هَذَا جوابهم.
وَقَوله: ﴿فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه فَانْتهى﴾ يَعْنِي من أكل الرِّبَا.
﴿فَلهُ مَا سلف﴾ أَي: مغفورا لَهُ مَا سلف مِنْهُ ﴿وَأمره إِلَى الله وَمن عَاد﴾ إِلَى أكل الرِّبَا ﴿فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ﴾.
280
قَوْله تَعَالَى: ﴿يمحق الله الرِّبَا﴾ أَي: يذهب بركَة المَال؛ فَإِن للْحَلَال بركَة، وَلَيْسَت لِلْحَرَامِ بركَة.
وَقيل: مَعْنَاهُ: يبطل الصَّدَقَة من الرِّبَا ﴿ويربي الصَّدقَات﴾ وَيكثر الصَّدقَات ﴿وَالله لَا يحب كل كفار أثيم﴾ فالكفار: عَظِيم الكفران، والأثيم: كثير الْإِثْم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾ وَقد سبق تَفْسِيره.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾. نزل هَذَا فِي ثَقِيف وَبنى مَخْزُوم تنازعوا إِلَى عتاب بن أسيد قَاضِي مَكَّة فَقَالَت ثَقِيف إِنَّمَا أسلمنَا على أَن مَا علينا من الرِّبَا مَوْضُوع وَمَا لنا بَاقِي فَكتب بذلك عتاب إِلَى رَسُول الله فَنزلت الْآيَة، فَبعث رَسُول الله بِالْآيَةِ إِلَى عتاب ليقْرَأ عَلَيْهِم ".
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾ يَعْنِي: ترك الرِّبَا من فعل الْمُؤمنِينَ ".
280
﴿لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله وَإِن تبتم فلكم رُءُوس أَمْوَالكُم لَا تظْلمُونَ وَلَا تظْلمُونَ (٢٧٩) وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة وَأَن تصدقوا خير لكم إِن كُنْتُم﴾
وَقيل: مَعْنَاهُ: إِذا كُنْتُم مُؤمنين.
وَالْآيَة فِي إبِْطَال رَبًّا الْجَاهِلِيَّة؛ وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يدينون النَّاس بِشَرْط أَن يزِيدُوا فِي الدّين عِنْد الْأَدَاء، وَكَانَ يقْرض الرجل غَيره، وَيضْرب لَهُ أَََجَلًا، ثمَّ عِنْد حُلُول الْأَجَل يَقُول لَهُ: زِدْنِي فِي الدّين حَتَّى أزيدك فِي الْأَجَل، فَهَذَا كَانَ رَبًّا الْجَاهِلِيَّة وَهُوَ حرَام.
281
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِن لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله﴾ أَي: فَأَيْقنُوا بِهِ.
وَيقْرَأ ممدودا: " فآذنوا بِحَرب من الله " أَي: أعلمُوا غَيْركُمْ أَن يتْركُوا الرِّبَا، إِنَّكُم حَرْب الله وَرَسُوله، فَإِذا علمْتُم فقد علمْتُم.
﴿وَإِن تبتم﴾ أَي: تركْتُم استحلال الرِّبَا، وَرَجَعْتُمْ عَنهُ ﴿فلكم رُءُوس أَمْوَالكُم﴾ أبطال الزِّيَادَة، وَجعل لَهُم أصل المَال.
وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿وَإِن تبتم فلكم رُءُوس أَمْوَالكُم﴾ لأَنهم مَا داموا على استحلال الرِّبَا كَانَ مَا لَهُم فَيْئا لَيْسَ لَهُم أَصله وَلَا فَرعه.
﴿لَا تظْلمُونَ وَلَا تظْلمُونَ﴾ أَي: لَا تظْلمُونَ بِطَلَب الزِّيَادَة، وَلَا تظْلمُونَ بِنُقْصَان حقكم فِي أصل المَال.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عسرة فَنظر إِلَى ميسرَة﴾ قَرَأَ: أبي بن كَعْب: " وَإِن كَانَ من عَلَيْهِ الدّين ذَا عسرة ". وَقَرَأَ عَطاء: " فناظرة إِلَى ميسرَة ".
وَالْمَعْرُوف: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عسرة﴾ أَي: وَإِن وَقع ذُو عسرة، أَو وَإِن كَانَ ذُو عسرة غريما لكم، فَنظر إِلَى ميسرَة، أَي: فأنظروه إِلَى الْيَسَار.
وَقَرَأَ نَافِع: " إِلَى ميسرَة " بِضَم السِّين، وَهُوَ مثل الأول فِي الْمَعْنى.
281
﴿تعلمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ (٢٨١) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه وليكتب﴾
وروى أَبُو الْيُسْر عَن النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - أَنه قَالَ: " من أنظر مُعسرا أظلهُ الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله ".
وروى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كَانَ فِيمَن قبلكُمْ رجل يداين النَّاس فَقَالَ لفتاه: إِذا كَانَ مُعسرا فَتَجَاوز عَنهُ؛ لَعَلَّ الله يتَجَاوَز عَنَّا، فلقى الله فَتَجَاوز عَنهُ ".
وَالْخَبَر فِي الصِّحَاح.
﴿وَإِن تصدقوا﴾ يَعْنِي بترك أصل المَال الَّذِي أعطيتموه قرضا. ﴿خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ﴾.
282
قَوْله - تَعَالَى: ﴿وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله﴾. قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذِه آخر آيَة نزلت على رَسُول الله.
قَالَ ابْن جريج: إِنَّمَا عَاشَ بعْدهَا سبع لَيَال، وَفِي رِوَايَة تسع لَيَال.
ويروى أَن جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما نزل بِهَذِهِ الْآيَة قَالَ: ضعها على رَأس مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَة من سُورَة الْبَقَرَة، وَهَذِه الْآيَة مسجلة سجلها الله على الْخلق كَافَّة.
﴿ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ﴾ وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أشهد أَن السّلف الْمَضْمُون الْمُؤَجل فِي كتاب الله، قد أنزل فِيهِ أطول آيَة، وتلا هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿تداينتم بدين﴾ أَي: تعاملتم بِالدّينِ، يُقَال: داينته، إِذا عاملته بِالدّينِ.
فَإِن قيل: قَوْله: ﴿تداينتم﴾ يُغني عَن الْمُعَامَلَة بِالدّينِ، فَلم قَالَ: تداينتم بدين؟ قيل: لِأَن الْعَرَب تَقول: تداينا - أَي: تعاطينا وتجازينا، وَإِن لم يكن فِي الدّين؛ فَقَالَ:
282
( ﴿بَيْنكُم كَاتب بِالْعَدْلِ وَلَا يأب كَاتب أَن يكْتب كَمَا علمه الله فليكتب وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق وليتق الله ربه وَلَا يبخس مِنْهُ شَيْئا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا أَو لَا﴾ تداينتم بدين) ليعرف الْمَعْنى المُرَاد من اللَّفْظ، وَيحْتَمل أَنه قَالَه تَأْكِيدًا. ﴿إِلَى أجل مُسَمّى﴾ الْأَجَل: مُدَّة مَعْلُومَة الأول وَالْآخر، وَهَذَا يشْتَمل على الْأَجَل فِي السّلم، وَالْأَجَل فِي الثّمن، وَالْأَجَل فِي الْقَرْض، وَلم يجوز أَكثر الْعلمَاء الْأَجَل فِي الْقَرْض، وَجوزهُ بَعضهم.
﴿فاكتبوه﴾ قيل: هُوَ على الْوُجُوب، وَهُوَ قَول مُجَاهِد.
وَقَالَ الشّعبِيّ: إِنَّمَا يجب الْكتب إِذا وجد مِمَّن يكْتب، وَالأَصَح أَنه على النّدب.
وَقَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: هَذَا الْأَمر مَنْسُوخ بقوله تَعَالَى: ﴿فَإِن أَمن بَعْضكُم بَعْضًا فليؤد الَّذِي أؤتمن أَمَانَته﴾.
وَقَوله: ﴿وليكتب بَيْنكُم كَاتب بِالْعَدْلِ﴾. الْكِتَابَة بِالْعَدْلِ هُوَ: أَن يكْتب من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان، وَلَا تَقْدِيم فِي الْأَجَل وَلَا تَأْخِير.
﴿وَلَا يأب كَاتب أَن يكْتب﴾ قيل: الْكِتَابَة وَاجِبَة على الكتبة لظَاهِر الْآيَة، وَالأَصَح أَنه على النّدب.
﴿كَمَا علمه الله فليكتب﴾ أَي: كَمَا شَرعه الله، فليكتب.
﴿وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق﴾ الإملال والإملاء بِمَعْنى وَاحِد.
والإملال لُغَة قُرَيْش وَبني أَسد، والإملاء: لُغَة قيس وَتَمِيم، وهما مذكوران فِي الْقُرْآن. فالإملال هَا هُنَا والإملاء فِي قَوْله: ﴿فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بكرَة وَأَصِيلا﴾.
﴿وليتق الله ربه﴾ يعْنى المملى ﴿وَلَا يبخس مِنْهُ شَيْئا﴾، وَلَا ينقص من الْحق شَيْئا.
وَقَوله: ﴿فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا﴾ أما السَّفِيه: قَالَ مُجَاهِد:
283
﴿يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ فليملل وليه بِالْعَدْلِ واستشهدوا شهيدين من رجالكم فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء أَن تظل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا﴾
الْجَاهِل.
وَقَالَ الزّجاج: هُوَ خَفِيف الْعقل، ويشتمل هَذَا على: الْمَرْأَة، وَالصَّغِير وَنَحْوه، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(مشين كَمَا اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرِّيَاح النواسم)
وَقيل: السَّفِيه: الصَّغِير وَمذهب الشَّافِعِي: أَنه المبذر الْمُفْسد لمَاله.
وَأما الضَّعِيف: هُوَ ضَعِيف الْعقل من عته، أَو جُنُون.
﴿أَو لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ﴾ أَي: لَا يقدر على الإملال من خرس، أَو عمى.
﴿فليملل وليه بِالْعَدْلِ﴾ يعْنى: ولى هَؤُلَاءِ.
أما من لم يجوز الْحجر على السَّفِيه - كالنخعي، وَابْن سِرين، وَغَيرهمَا - قَالُوا: أَرَادَ بالولى: صَاحب الْحق، يَعْنِي: إِن عجز من عَلَيْهِ الْحق من الإملال فليملل الَّذِي لَهُ الْحق.
﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم﴾ أَي: وَأشْهدُوا.
﴿فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ﴾ يَعْنِي: فَإِن لم يكن الشَّاهِدَانِ رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ.
﴿مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء﴾ وهم أهل الْفضل وَالدّين، قَالَه ابْن عَبَّاس. ﴿أَن تضل إِحْدَاهمَا﴾ أَن تنسى وتغفل إِحْدَاهمَا، وَذَلِكَ بِأَن يغيب حفظهَا عَن الشَّهَادَة، أَو تغيب الشَّهَادَة عَن الْحِفْظ.
﴿فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى﴾ وَذَلِكَ بِأَن تَقول: أَلسنا حَضَرنَا مجْلِس كَذَا؟ ألم نسْمع كَيْت وَكَيْت؟
284
﴿الْأُخْرَى وَلَا يأب الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا وَلَا تسأموا أَن تكتبوه صَغِيرا أَو كَبِيرا إِلَى أَجله ذَلِكُم أقسط عِنْد الله وأقوم للشَّهَادَة وَأدنى أَلا ترتابوا إِلَّا أَن تكون تِجَارَة حَاضِرَة﴾
وَقَرَأَ حَمْزَة: " إِن تضل فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى " على الشَّرْط.
قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، مَعْنَاهُ: تجْعَل إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى ذكرا، أَي: يقومان مقَام الذّكر، وَالْأول أصح.
﴿وَلَا يأب الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ: إِذا مَا دعوا للتحمل، وَإِنَّمَا سماهم شُهَدَاء على معنى أَنهم يَكُونُوا شُهَدَاء. وَقيل: هُوَ الدُّعَاء إِلَى الشَّهَادَة.
﴿وَلَا تسأموا﴾ أَي: لَا تملوا ﴿أَن تكتبوه صَغِيرا أَو كَبِيرا إِلَى أَجله﴾ يعْنى: الَّذِي قل أَو كثر.
﴿ذَلِكُم أقسط عِنْد الله﴾ أعدل عِنْد الله ﴿وأقوم للشَّهَادَة﴾ لِأَن الكتبة تذكر الشُّهُود.
﴿وَأدنى أَلا ترتابوا﴾ أَي: أَن لَا تَشكوا ﴿إِلَّا أَن تكون تِجَارَة حَاضِرَة﴾ قَرَأَ: بِضَم التَّاء على اسْم كَانَ، وَقَرَأَ بِفَتْح التَّاء، يَعْنِي: إِلَّا أَن تكون التِّجَارَة تِجَارَة حَاضِرَة، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(فدى لبني ذهل بن شَيبَان نَاقَتي إِذا كَانَ يَوْمًا ذَا كواكب أشهبا)
يَعْنِي: إِذا كَانَ الْيَوْم يَوْمًا.
﴿تديرونها بَيْنكُم﴾ يَعْنِي: إِذا كَانَت التِّجَارَة يدا بيد.
285
﴿تديرونها بَيْنكُم فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَلا تكتبوها وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم وَلَا يضار كَاتب وَلَا شَهِيد وَإِن تَفعلُوا فَإِنَّهُ فسوق بكم وَاتَّقوا الله ويعلمكم الله وَالله بِكُل شَيْء عليم (٢٨٢) وَإِن كُنْتُم على سفر وَلم تَجدوا كَاتبا فرهان مَقْبُوضَة فَإِن آمن بَعْضكُم بَعْضًا﴾
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَلا تكْتبُوا وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم﴾ أَمر بِهِ اسْتِحْبَابا.
﴿وَلَا يضار كَاتب وَلَا شَهِيد﴾ قَرَأَ عمر: " وَلَا يضارر " وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود " وَلَا يضارر " وَالْمَعْرُوف: ﴿وَلَا يضار﴾، وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون نهيا لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِد عَن الْإِضْرَار، وَيحْتَمل أَن يكون نهيا للمملى والداعي.
فَأَما إِضْرَار الشُّهُود وَالْكَاتِب: أَن يَأْبَى الْكِتَابَة وَالشَّهَادَة إِذا دعِي إِلَيْهَا. وَأما الْإِضْرَار بالكاتب وَالشُّهُود: أَن يَدعُوهُ وَهُوَ مَشْغُول، فيمنعه من شغله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن تَفعلُوا فَإِنَّهُ فسوق بكم﴾ أَي: مَعْصِيّة مِنْكُم (وَاتَّقوا الله ويعلمكم الله وَالله بِكُل شَيْء عليم).
286
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن كُنْتُم على سفر وَلم تَجدوا كَاتبا﴾. قَرَأَ عَطاء: " وَلم تَجدوا كتابا " وَهُوَ جمع الْكَاتِب، كَمَا يُقَال: قَائِم وَقيام، ونائم ونيام.
﴿فرهن مَقْبُوضَة﴾ وَيقْرَأ: " فرهان " مَقْبُوضَة وَالْمعْنَى وَاحِد.
وَحكم الرَّهْن مَعْلُوم، وَلَيْسَ ذكر السّفر، وَعدم الْكَاتِب على سَبِيل الشَّرْط فِي جَوَاز الرَّهْن؛ وَإِنَّمَا خرج الْكَلَام على الْأَعَمّ الْأَغْلَب.
﴿فَإِن أَمن بَعْضكُم بَعْضًا فليؤد الَّذِي اؤتمن أَمَانَته﴾ يَعْنِي: إِن ائتمنه فِي الدّين فليقضه على الْأَمَانَة.
﴿وليتق الله ربه وَلَا تكتموا الشَّهَادَة﴾ نهى الشُّهُود عَن كتمان الشَّهَادَة، وَهُوَ
286
﴿فليؤد الَّذِي اؤتمن أَمَانَته وليتق الله ربه وَلَا تكتموا الشَّهَادَة وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم (٢٨٣) لله مَا فِي السَّمَوَات مَا فِي الأَرْض وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله فَيغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَالله على كل﴾
حرَام.
﴿وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه﴾ قيل: مَا أوعد الله تَعَالَى على شَيْء كإيعاده على كتمان الشَّهَادَة، فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿فَإِنَّهُ آثم قلبه﴾ وَأَرَادَ بِهِ مسخ الْقلب، ونعوذ بِاللَّه ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم﴾
287
قَوْله تَعَالَى: ﴿لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض﴾ ملكا وملكا. ﴿وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله﴾ هَذَا مَنْسُوخ؛ فَإِنَّهُ روى: لما نزلت هَذِه الْآيَة شقّ ذَلِك على الْمُسلمين وَقَالُوا: يحاسبنا الله بِمَا نُحدث بِهِ أَنْفُسنَا؟ ! وبقوا فِي ذَلِك حولا كَامِلا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: " لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا) فَصَارَ هَذَا مَنْسُوخا بِهِ.
هَذَا قَول أبي هُرَيْرَة، وَابْن مَسْعُود، (وَابْن عمر)، وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبن عَبَّاس.
وَقد قَالَ النَّبِي: " إِن الله تَعَالَى عفى عَن أمتِي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا؛ مَا لم تعْمل أَو تكلم بِهِ " أَي: تَتَكَلَّم بِهِ ".
وَقَالَ أهل الْأُصُول: هَذَا لَيْسَ بمنسوخ؛ لِأَن قَوْله: ﴿يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله﴾ خبر، والنسخ لَا يرد على الْأَخْبَار، وَإِنَّمَا يرد على الْأَوَامِر والنواهي.
وَقد روى الْوَالِبِي، عَن ابْن عَبَّاس - فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة - أَن معنى قَوْله: ﴿يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله﴾ أَي: يعلمكم بِهِ، أَي: لَا يخفي عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك.
287
﴿شَيْء قدير (٢٨٤) أَمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون كل آمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من رسله وَقَالُوا سمعنَا وأطعنا غفرانك رَبنَا وَإِلَيْك الْمصير (٢٨٥) لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا﴾
﴿فَيغْفر لمن يَشَاء﴾ أَي: يغْفر للْمُؤْمِنين ﴿ويعذب من يَشَاء﴾ يَعْنِي: الْكَافرين ﴿وَالله على كل شَيْء قدير﴾.
288
قَوْله تَعَالَى: ﴿آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون﴾ لِأَنَّهُ ذكر الْآيَات وَالْأَحْكَام، ثمَّ قَالَ: آمن الرَّسُول بذلك كُله.
﴿والمؤمنون كل آمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من رسله﴾ وَقَرَأَ يَعْقُوب: " لَا يفرق " بِالْيَاءِ، أَي لَا يفرق الرَّسُول بَين أحد من رسله.
﴿وَقَالُوا سمعنَا وأطعنا﴾ أَي: قبلنَا ﴿غفرانك رَبنَا﴾ أَي: اغْفِر غفرانك، أَو أعطنا غفرانك رَبنَا ﴿وَإِلَيْك الْمصير﴾ أَي: الْمرجع.
قَوْله تَعَالَى: (لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا) أَي: طاقتها.
وَقيل: مَا (يشق) عَلَيْهَا. وَهُوَ مثل قَول الرجل: لَا أَسْتَطِيع أَن أنظر إِلَى فلَان، أَي: يشق عَليّ أَن أنظر إِلَيْهِ، فَكَذَلِك ذكر الوسع بِمَعْنى: السهولة، أَي: لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا مَا يسهل عَلَيْهَا.
وَهَذِه الْآيَة هِيَ الناسخة لما بَينا.
﴿لَهَا مَا كسبت﴾ أَي: من الْخَيْر ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت﴾ أَي: من الشَّرّ.
﴿رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا أَن نَسِينَا﴾ أَي: تركنَا، وَقيل: هِيَ على حَقِيقَة النسْيَان.
﴿أَو أَخْطَأنَا﴾ الْخَطَأ: يكون بِمَعْنى: الْعمد، وَيكون على حَقِيقَة الْخَطَأ، يُقَال: أَخطَأ يخطىء وَخطأ يخطأ [وَالْمرَاد] بقوله هَا هُنَا (أَو أَخْطَأنَا) أَي: تعمدنا.
288
﴿رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ واعف عَنَّا وأغفر لنا وارحمنا أَنْت مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين (٢٨٦) ﴾
﴿رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا﴾
قيل: هُوَ الْعَهْد الثقيل الَّذِي حمل من قبلنَا.
وَقيل: لَا تحمل علينا مَا يشق علينا.
وَقيل: الإصر: هُوَ ذَنْب لَا تَوْبَة لَهُ، أَي: اعصمنا من ذَنْب لَا تقبل لَهُ تَوْبَة.
﴿رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ﴾ فِي هَذَا دَلِيل على أَن الله تَعَالَى يجوز أَن يحمل الْعباد مَالا يطيقُونَهُ؛ لكنه إِنَّمَا حمل الْكفَّار مَا لَا يطيقُونَهُ وَلم يحمل الْمُؤمنِينَ. ﴿واعف عَنَّا﴾ أَي: امح عَنَّا ﴿واغفر لنا﴾ أَي: اسْتُرْ علينا. ﴿وارحمنا﴾ أَي: ارْحَمْ علينا.
﴿أَنْت مَوْلَانَا﴾ أَنْت ناصرنا والقيم بأمورنا. ﴿فَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين﴾ وَقد ورد فِي فضل الْآيَتَيْنِ أَخْبَار، مِنْهَا: مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من قَرَأَ فِي لَيْلَة بآيتين من آخر سُورَة الْبَقَرَة كفتاة ".
وروى أَنه قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: " هما آيتان أَنْزَلَتَا على من كنز تَحت الْعَرْش ".
و [وَآله أَجْمَعِينَ].
289
تَفْسِير سُورَة آل عمرَان
وَهِي مَدَنِيَّة

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل - رَضِي الله عَنهُ - لقد ورد فِي فضل هَذِه السُّورَة وَسورَة الْبَقَرَة أَخْبَار مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله [أَنه] قَالَ: " تعملوا الْبَقَرَة وَآل عمرَان فَإِنَّهُمَا الزهروان تظلان صَاحبهمَا يَوْم الْقِيَامَة ".
وروى عَنهُ أَنه قَالَ: " تَجِيء الْبَقَرَة وَآل عمرَان يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُمَا غمامتان أَو غيايتان أَو فرقان من طير صواف ".
290
﴿الم (١) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم (٢) نزل عَلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ وَأنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل (٣) من قبل هدى للنَّاس وَأنزل الْفرْقَان إِن﴾
291
Icon