جميعها مدنية بالإجماع، ومنها آية نزلت على ما قيل في حجة الوداع، وروي أنها آخر آي القرآن نزولا وهي ﴿ ٢٨١ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ الخ ومعظمها نزل في أول الهجرة. وهي أطول جميع سور القرآن، فآياتها مائتان و ثمانون وسبع آيات أو ست وعليه عدد المصاحف المشهورة الآن. ولا حاجة إلى بيان التناسب بينها وبين الفاتحة، وإن كان التناسب ظاهرا، فإنها لم توضع بعدها لأجله، وإنما وضعت في أول القرآن بعد فاتحته ( التي كانت فاتحته بما لها من الخصائص التي بيناها في تفسيرها ) لأنها أطول سورة وتليها بقية السبع الطوال بتقديم المدني منها على المكي، لا الطولى فالطولى، فإن الأنعام أطول من المائدة وهي بعدها، والأعراف أطول من الأنعام وقد أخرت عنها، وقدمت الأنفال على التوبة وهي أقصر منها، وكلتاهما مدنيتان، وإنما روعي الطول في ترتيب سور القرآن في الجملة لا في كل الأفراد. وروعي التناسب في ترتيب ذلك، يراه القارئ في محله من كل منها. ثم مزج المدني بالمكي في سائر السور، لأن اختلاف أسلوبيهما ومسائلها أدنى إلى تنشيط القارئ، وأنأى به عن الملل من التلاوة. وهذا من خصائص القرآن.
وقد رأينا أن نستدرك قبل الشروع في تفسيرها ما فاتنا في آخره من تلخيص ما اشتملت عليه من الدعوة إلى الإسلام، وما فيها من العقائد والأحكام، وقواعد الدين وأصول التشريع، فنقول :
( خلاصة سورة البقرة وما فيها من دعوة الإسلام وأحكامه وقواعده )
دعوة الإسلام العامة :
بدأ الله عز وجل سورة البقرة بدعوة القرآن، وكونه حقا لا مجال فيه لشك ولا ارتياب، وجعل الناس تجاه هدايته ثلاثة أقسام :
( ١ ) المؤمنون وهم قسمان : الذين يؤمنون بالغيب بمجرد سلامة الفطرة ويقيمون ركني الدين : البدني الروحي، والمالي الاجتماعي، والذين يؤمنون به بتأثير إيمانهم بما أنزل من قبله من كتب الرسل، إذ يرونه أكمل منها هداية وأصح رواية، وأقوى دلالة. ثم فصل هذه الأصول للإيمان في آية ( ١٧٦ ليس البر الخ ) وآيتي ﴿ ٢٨٤و ٢٨٥ لله ما في السموات وما في الأرض ﴾ الخ.
( ٢ ) الكافرون الراسخون في الكفر وطاعة الهوى، الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والهدى.
( ٣ ) المنافقون الذين يظهرون غير ما يخفون، ويقولون مالا يفعلون ﴿ فهذه آياتها الأولى إلى ٢٠ آية ﴾.
وقفى على هذا بدعوة الناس جميعا إلى عبادة ربهم وحده، وعدم اتخاذ الأنداد له، الذين يحبون من جنس حبه، ويذكرون معه في مقامات ذكره، ويشركون معه في مخ العبادة – الدعاء – أو يدعون من دونه ( أنظر الآيتين ٢١و ٢٢ وآيات الإسلام في قصة إبراهيم وإسماعيل ووصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهم من ١٢٤ – ١٣٨ كما يأتي، والآيات التي سنشير إليها في خطاب أمة الإجابة من ١٦٣- ١٧١ ).
ثم ثنى دعوة التوحيد بدعوة الوحي والرسالة واحتج على حقية هذه الدعوة بهذا الكتاب المنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم بتحدي الناس كافة بالإتيان بسورة من مثله، مع التصريح القطعي بعجزهم أجمعين، ورتب على هذا إنذار الكافرين بالنار، وتبشير المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار، وقفى على هذا ببيان بعض الأدلة العقلية على الإيمان، وبخلاصة النشأة الآدمية وعداوة الشيطان للإنسان. وتم ذلك بالآية ٣٩.
ثم خص بني إسرائيل بالدعوة، تاليا عليهم ما لم يكن يعلمه محمد لولا وحيه تعالى له، فذكرهم بنعمه، وأمرهم أن يؤمنوا بما أنزله على خاتم رسله، ونهاهم أن يكون المعاصرون له منهم أول كافر به، وحاجهم في الدين بتذكيرهم بأيام الله، وبأهم الوقائع التي كانت لسلفهم مع كليمه، من كفر وإيمان، وطاعة وعصيان، ثم بالتذكير لهم وللعرب بهدي جدهم إبراهيم الخليل، وبنائه لبيت الله الحرام مع ولده إسماعيل، ودعائهما إياه تعالى أن يبعث في الأميين رسولا منهم، وبأن علماءهم يعرفون أن محمدا هو الرسول الذي دعا به إبراهيم وبشر به موسى كما يعرفون أبناءهم، وبأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون، أي والفريق الآخر يؤمنون به، ويعترفون بوعد الله لإبراهيم ثم لموسى بقيام نبي من أبناء إخوتهم مثله.
بدئ هذا السياق بالآية ٤٠ من السورة ﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ﴾ الخ وانتهى بالآية ١٤٢ منها، وتخلله بعض الآيات الموجهة للمؤمنين للاعتبار بما فيه من شؤون أهل الكتاب السابقين والحاضرين من اليهود بالتفصيل ومن النصارى بالإجمال، إذ لم يكن أحد منهم مجاورا ولا مخالطا للمسلمين في تلك الحال، فإن نزول البقرة كان في أول عهد الهجرة. وما تقدم يناهز نصف السورة، وهو شطرها الخاص بأمة الدعوة، والشطر الثاني قد وجه لأمة الإجابة.
خطاب أمة الإجابة بموضوع الدعوة العام :
كان الانتقال من خطاب أهل الكتاب من أمة الدعوة إلى خطاب أهل القرآن من أمة الإجابة بذكر ما هو مشترك بين قوم موسى وقوم محمد من نسب إبراهيم والاتفاق على فضله وهدايته، وكان العرب في الجاهلية يعترفون بذلك إجمالا كالمسلمين، ثم بذكر أول مسألة عملية اختلف فيها القومان وهي مسألة القبلة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى بمكة إلى الكعبة المشرفة من جهة الشمال حيث تكون بينه وبين بيت المقدس في بلاد الشام، وهو قبلة بني إسرائيل ؛ فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع استقبال الكعبة التي هي في جنوبها، وبيت المقدس الذي هو في شمالها، فأعطى الله خاتم رسله سؤله بأمره بالتوجه إلى الكعبة وحدها ومسألة القبلة من شعائر الملة وخصائصها الدينية الاجتماعية، حتى إن النصارى وهم في الأصل مع رسولهم ( عيسى المسيح عليه السلام ) من أتباع شريعة التوراة قد ميزوا أنفسهم دون اليهود بابتداع قبله خاصة بهم غير قبلة رسولهم الذي اتخذوه إلها لهم وهي صخرة بيت المقدس.
بعد تأكيد أمر القبلة، وأنه من إتمام النعمة على هذه الأمة بين وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم وهي كما في دعاء إبراهيم وهي وتربية الأمة، وتعليمها الكتابة و الحكمة، ما لم تكن تعلم من القضاء والسياسة وأمور الدولة. فقال تعالى { ١٥١ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) ثم أمرهم بذكره وشكره تعالى، وبالاستعانة بالصبر والصلاة على النهوض بمهمات الأمور، وذكر التطواف والسعي بين الصفا والمروة لمناسبة اقتضاها المقام، ولعن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى بعد تبيينه للناس في الكتاب، واستثنى من تاب وأصلح وبين وأناب، وسجل اللعنة على من مات على كفره، وكونهم خالدين في النار لا يخفف عنهم العذاب.
ثم ذكر الأساس الأعظم للدين، وهو توحيد الالهية، بتخصيص الخالق سبحانه بالعبودية، وهو قوله تعالى ﴿ ١٦٣ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم ﴾ وقرن ذلك بالتذكير بآياته الكثيرة الدالة عليه في السموات والأرض وما بينهما ثم ذكر ما يقابل هذا التوحيد مقابلة التضاد، وهو الشرك باتخاذ الأنداد، والاعتماد فيه على تقليد الآباء والأجداد، وشنع على المقلدين والذين يدعون غير الله تعالى من المشركين. فجردهم من حلية العقل، وشبههم بالصم البكم العمي. وانتهى هذا بالآية ١٧١
ثم أوجب على المؤمنين الأكل من أجناس جميع الطيبات وأمرهم بالشكر له عليها، وحصر محرمات الطعام عليهم في الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، واستثنى من اضطر إليها، وإنما ذكر هذا في سياق كليات الدين المجملة لإبطال ما كان عليه المشركون وأهل الكتاب من التحليل والتحريم فيها الذي هو حق الله تعالى بتحكيم الأهواء، وقفى على هذا كله بوعيد الذين يكتمون ما أنزل الله، إيذانا بوجوب الدعوة وبيان الحق على كل من آمن بالله، وتحذيرا مما وقع بين أهل الكتاب من الاختلاف والشقاق والتحريف والنسيان لحظ عظيم مما أنزله الله.
وختم هذا السياق العام ببيان أصول البر ومجامعه في الآية المعجزة الجامعة لكليات العقائد والآداب والأعمال :﴿ ١٧٦ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب – الخ ﴾.
وقفى عليه بسياق طويل في الأحكام الشرعية الفرعية بدئ بأحكام القصاص في القتلى من آية ( ١٧٧ ) وانتهى بأحكام القتال وما تقتضيه من أمور الاجتماع وقواعده في آخر الجزء الثاني من تجزئة القرآن الثلاثينية وسنذكر أنواعها.
ثم عاد الكلام على بدئه في العقائد العامة من الرسالة والتوحيد وحججه والبعث، وفي الأحكام والآداب العامة التي هي سياج الدين ونظام الدنيا، ورأسها الإنفاق في سبيل الله، وهي طريق الحق والخير وسعادة الدارين، والإخلاص فيه وفي سائر الأعمال. ثم عاد إلى الأحكام الفرعية العملية إلى ما قبل ختم السورة كلها بالدعاء المعروف. وهاك بيان ما في السورة من أنواع أحكام الفروع العملية :
خطاب أمة الإجابة بالفروع العملية
كانت الأحكام الشرعية العملية منها تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عند استعداد الأمة لها بالنسبة إلى العبادات، وعند الحاجة إليها في العمل بالنسبة إلى المعاملات، والمذكور منها في سورة البقرة أنواع، نلخصها فيما يلي :
( ١ ) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بمدح أهلها في الآية ٣ والأمر بهما في الآية ١٠
( ٢ ) تحريم السحر، وكونه فتنة وكفرا أو مستلزما للكفر.
( ٣ ) أحكام القصاص في القتلى وهو المساواة فيها وحكمته ( آيتا ١٧٨و ١٧٩ )
( ٤ ) الوصية للوالدين والأقربين ( آيتا ١٨١و ١٨٢ )
( ٥ ) أحكام الصيام مفصلة وقد نزلت في السنة الثانية للهجرة ( آيات ١٨٣- ١٨٧ )
( ٦ ) تحريم أكل أموال الناس بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام للاستعانة بهم على أكل فريق منها بالإثم كما هو الفاشي في هذه الأزمنة ( آية ١٨٨ )
( ٧ ) جعل الأشهر الهلالية هي المعتمد عليها في المواقيت الدينية للناس، ومنها الصيام والحج وعدة النساء ومدة الإيلاء ( آية ١٨٩ )
( ٨ ) أحكام القتال وكونه ضرورة مقيدة بقتال من يقاتلنا ويهدد حرية ديننا دون غيرهم وبتحريم الاعتداء فيه، وغايته منع الفتنة في الدين وهو الإكراه فيه والتعذيب والإيذاء للصد عنه، والمراد ما يسمى في عرف هذا العصر بحيرة الاعتقاد والوجدان، ومنه أحكام القتال في الشهر الحرام ( آيات ١٩٠ – ١٩٥ ؛ ٢١٦- ٢١٨. ثم ٢٢٤ – ٢٥٢ ).
( ٩ ) الأمر بإنفاق المال في سبيل الله لأنه وسيلة للوقاية من التهلكة، وهذا يتناول الإنفاق للاستعداد للقتال الذي يرجى أن يكون سببا للسلم ومنع القتال، والسلامة من الهلاك، ويتناول غير ذلك كمنع العدوان العام والخاص، والنظم الضارة بالاجتماع ( آية ١٩٥ ) ثم الأمر بالإنفاق لأجل السلامة من هلاك الآخرة ( في الآية ٢٥٤ ) ثم الترغيب في الإنفاق والوعد بمضاعفة الأجر عليه بسبعمائة ضعف وأكثر وبيان شرط قبوله وآدابه وضرب الأمثال للإخلاص وللرياء فيه في سياق طويل ( من آية ١٩٦- ٢٠٣ )
( ١٠ ) أحكام الحج والعمرة ( من آية ١٩٦- ٢٠٣ )
( ١١ ) النفقات والمستحقون لها من الناس ( ٢١٠و ٢١٩و ٢٧٣ )
( ١٢ ) تحريم الخمر والميسر تحريما ظنيا اجتهاديا راجحا غير قطعي تمهيدا للتحريم الصريح بالنص القطعي ( ٢١٩ )
( ١٣ ) معاملة اليتامى ومخالطتهم في المعيشة ( ٢٢٠ )
( ١٤ ) تحريم نكاح المؤمنين المشركات، وإنكاح المشركين المؤمنات ( ٢٢١ )
( ١٥ ) تحريم إتيان النساء في المحيض وفي غير مكان الحرث ووجوب إتيانهن من حيث أمر الله بأي صفة كانت ( ٢٢٢و ٢٢٣ )
( ١٦ ) بعض أحكام الأيمان بالله، كجعلها مانعة من البر والتقوى والإصل
ﰡ
﴿ ألم ﴾ هو وأمثاله أسماء للسور المبتدأة به، ولا يضر وضع الاسم الواحد ﴿ ألم ﴾ لعدة سور، لأنه من المشترك الذي يعين معناه اتصاله بمسماه. وحكمة التسمية والاختلاف في ﴿ ألم ﴾ و ﴿ المص ﴾ نفوّض الأمر فيها إلى المسمي سبحانه وتعالى. [ ويسعنا في ذلك ما وسع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم، وليس من الدين في شيء أن يتنطع متنطع فيخترع ما يشاء من العلل، التي قلما يسلم مخترعها من الزلل. ]
هذا ملخص ما قاله شيخنا الأستاذ الإمام. وأقول الآن – أولا – إن هذه الحروف تقرأ مقطعة بذكر أسمائها لا مسمياتها، فنقول : ألف، لام، ميم، ساكنة الأواخر لأنها غير داخلة في تركيب الكلام فتعرب بالحركات – ثانيا – إن عدم إعرابها يرجح أن حكمه افتتاح بعض السور المخصوصة بها للتنبيه لما يأتي بعدها مباشرة من وصف القرآن والإشارة إلى إعجازه، لأن المكي منها كان يتلى على المشركين للدعوة إلى الإسلام، ومثل هذه السورة وما بعدها لدعوة أهل الكتاب إليه وإقامة الحجج عليهم به، وسيأتي توضيح ذلك بالتفصيل في تفسير أول سورة ( المص - الأعراف ). – ثالثا – اقتصر على جعل حكمتها الإشارة إلى إعجاز القرآن بعض المحققين من علماء اللغة وفنونها كالفراء وقطرب والمبرد والزمخشري وبعض علماء الحديث، كشيخ الإسلام أحمد تقى الدين ابن تيمية والحافظ المزي، وأطال الزمخشري في بيانه وتوجيهه بما يراجع في كشافه، وفي تفسير البيضاوي وغيره. – رابعا – إن أضعف ما قيل في هذه الحروف وأسخفه أن المراد بها الإشارة بأعدادها في حساب الجمل إلى مدة هذه الأمة أو ما يشابه ذلك. وروى ابن إسحق حديثا في ذلك عن بعض اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله. – خامسا – يقرب من هذا ما عنى به بعض الشيعة من حذف المكرر من هذه الحروف وصياغة جمل مما بقي منها في مدح علي المرتضى رضي الله عنه أو تفضيله وترجيح خلافته وقوبلوا بجمل أخرى مثلها تنقض ذلك كما وضحناه في مقالاتنا ( المصلح والمقلد ). – سادسا – أنه لا يزال يوجد في الناس حتى علماء التاريخ واللغات منهم من يرى أن في هذه الحروف رموزا إلى بعض الحقائق الدينية والتاريخية ستظهره الأيام.
ومن حكمة الإشارة إليه بهذا الكتاب ( أي المكتوب المرقوم ) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابته دون غيره فهو الكتاب وحده، ولا يضر أنه عند النزول لم يكن مكتوبا بالفعل لأنك تقول : أنا أملي كتابا، أو هلم أمل عليك كتابا. والإشارة البعيدة بالكاف يراد بها بعد مرتبته في الكمال : وعلوها عن متناول قريحة شاعر أو مقول خطيب قوال، والبعد والقرب في الخطاب الإلهي إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين، ولا يقال : إن شيئا بعيدا عنه تعالى أو قريبا منه في المكان الحسي لأن كل الأشياء بالنسبة إليه تعالى سواء. وإنما القرب منه والبعد عنه تعالى معنوي وهو أقرب إلينا من أنفسنا بعلمه.
﴿ لا ريب فيه ﴾ الريب والريبة الشك والظنة ( التهمة ) والمعنى : أن ذلك الكتاب مبرأ من وصمات العيب فلا شك فيه، ولا ريبة تعتريه، لا من جهة كونه من عند الله تعالى، ولا في كونه هاديا مرشدا، ويصح أن يقال : إنه في قوة آياته، ونصوع بيناته، بحيث لا يرتاب عاقل منصف، غير متعنت ولا متعسف، في كونه هداية مفاضة من سماه الحق، مهداة إلى الخلق، على لسان أمي لم يسبق له قبله الاشتغال بشيء من علومه، ولا الإتيان بكلام يقرب منه في بلاغته، ولا في أسلوبه حتى بعد نبوته، - ولهذا قال فيما يأتي قريبا ﴿ ٢٢ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ﴾ وحاصله : أنه كذلك في كل من نظمه وأسلوبه وبلاغته، ومن معانيه وعلومه وتأثيره في الهداية – لا يمكن أن توجه إليه الشبهة، أو تحوم حوله الريبة، سواء أشك في ذلك أحد بجهالته وعمى بصيرته – أو بتكلفه ذلك عنادا أو تقليدا – أم لا.
﴿ هدى للمتقين ﴾ خبر بعد خبر٢ والهدى مصدر في الأصل كالتقى والسرى والمراد بالهداية هنا الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة الخاصة والأخذ باليد على ما تقدم في تفسير المراد من ﴿ اهدنا الصراط ﴾ لأن كونه هاديا للمتقين بالفعل غير كونه هاديا – دالا – سائر الناس من غير مراعاة أخذهم بدلالته، واستقامتهم على طريقته، وكلمة " المتقين " من الاتقاء والاسم التقوى وأصل المادة : وقى يقي. والوقاية معروفة المعنى، وهو البعد أو التباعد عن المضر أو مدافعته، ولكن نجد هذا الحرف مستعملا بالنسبة إلى الله تعالى كقوله ﴿ فإياي فاتقون – واتقوا الله – واتقون يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ﴾ فمعنى اتقاء الله تعالى اتقاء عذابه وعقابه، وإنما تضاف التقوى إلى الله تعالى تعظيما لأمر عذابه وعقابه، وإلا فلا يمكن لأحد أن يتقي ذات الله تعالى ولا تأثير قدرته، ولا الخضوع الفطري لمشيئته.
ومدافعة عذاب الله تعالى تكون باجتناب ما نهى، وإتباع ما أمر، وذلك يحصل بالخوف من العذاب ومن المعذب، فالخوف يكون ابتداء من العذاب وفي الحقيقة من مصدره، فالمتقي هو من يحمي نفسه من العقاب - ولا بد في ذلك أن يكون عند نظر ورشد يعرف بهما أسباب العقاب والآلام فيتقيها.
وأقول الآن : إن العقاب الإلهي الذي يجب على الناس اتقاؤه قسمان : دنيوي وأخروي : وكل منهما يتقى باتقاء أسبابه، وهي نوعان : مخالفة دين الله وشرعه. ومخالفة سننه في نظام خلقه فأما عقاب الآخرة فيتقى بالإيمان الصحيح، والتوحيد الخالص، والعمل الصالح، واجتناب ما ينافي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل، وذلك مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأفضل ما يستعان به على فهمهما وإتباعهما سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأولين من آل الرسول وعلماء الأمصار، وأما عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم، ولا سيما سنن اعتدال المزاج وصحة الأبدان، وأمثلتها ظاهرة، وسنن الاجتماع البشري، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقف على معرفة نظام الحرب وفنونه، وإتقان آلاتها وأسلحتها، التي ارتقت في هذا العصر ارتقاء عجيبا. وهو المشار إليه بقوله تعالى ﴿ ٨ : ٦٠وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ﴾ كما يتوقف على أسباب القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة والصبر والثبات والتوكل على الله واحتساب الأجر عنده ﴿ ٨ : ٤٥ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ٤٦ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ ونحن نبين معنى التقوى في القرآن في كل موضوع بما يناسبه كالتقوى في الأكل من الطيبات في سورة المائدة ( ٥ : ٩١ ) ومثله في سياق تحريم الخمر منها ( آية ٩٠ ) وغير ذلك فيراجع كل شيء في موضعه. وقال شيخنا في بيان المراد بهؤلاء المتقين ما معناه : كان من الجاهلين من مقت الأصنام، وأدرك أن فاطر السموات والأرض لا يرضيه الخضوع لها، وأن الإله الحق يحب الخير، ويبغض الشر. فكان منهم من اعتزل الناس لذلك. وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال وتعظيم جانب الربوبية، وذلك ما كان يسمى صلاة في لسانهم – وبعض الخيرات التي يهتدي إليها العقل في معاملات الخلق.
وكان من أهل الكتاب من وصفهم الله تعالى قوله ﴿ ٣ : ١١٣ من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ١١٤ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ﴾ وبقوله ﴿ ٥ : ٨٢ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى : ذلك بأن منهم قسّيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * ٨٣ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا اكتبنا مع الشاهدين ﴾ فأمثال هؤلاء من الفريقين هم المراد بالمتقين. ولا حاجة إلى تخصيص ما جاء في وصفهم بالمؤمنين منهم بعد الإسلام أو بالمسلمين، بل أولئك هم الذين كان في قلوبهم اشمئزاز مما عليه أقوامهم، وفي نفوسهم شيء من التشوف إلى هداية يهتدون بها، ويشعرون باستعدادهم لها، إذا جاءهم شيء من عند الله تعالى. فالمتقون في هذه الآية إذن هم الذين سلمت فطرتهم فأصابت عقولهم ضربا من الرشاد ووجد في أنفسهم شيء من الاستعداد لتلقي نور الحق يحملهم على توقي سخط الله تعالى والسعي في مرضاته، بحسب ما وصل إليه علمهم، وأداهم إليه نظرهم واجتهادهم.
٢ بعض القراء يقف على لفظ "ريب" ويجعل "فيه هدى للمتقين" جملة مستقلة، وهو ضعيف بخلاف المتبادر من النظم. ويرجح قراءة الجمهور وتفسيرهم أول سورة السجدة﴿ألم. تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين﴾..
الإيمان هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها واستسلامها. وآيته العمل بما يقتضيه الإيمان عند عدم الصارف الذي يختلف باختلاف درجات المؤمنين في اليقين. والغيب ما غاب عنهم، كذات الله تعالى وملائكته والدار الآخرة. وإقامة الصلاة : الإتيان بهذه العبادة الروحية البدنية على أكمل وجه ممكن. وللصلاة صورة وروح، فصورتها عبادة الأعضاء، وروحها عبادة القلب، كما يعلم مما يأتي، وجمهور المفسرين على أن هذه الآية في المسلمين من العرب أو مطلقا، وما بعدها فيمن أسلم من أهل الكتاب خاصة. وفسرهما شيخنا تفسيرا هو أقرب إلى مدلول النظم، وإن كان أبعد عن الروايات فقال ما مثاله :
الناس قسمان مادي لا يؤمن إلا بالحسيات، وغير مادي بما لا يدركه الحس، أي بما غاب عن المشاعر متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم. وشك أن الإيمان بالله، وملائكته – وهي جنود غائبة لها مزايا وخواص يعلمها سبحانه وتعالى – وباليوم الآخر : إيمان بالغيب. ومن لا يؤمن بالله لا يمكن أن يهتدي بالقرآن، ومن يتصدى لهدايته لا بد له أن يقيم الحجة العقلية على أن لهذا العالم إلها متصفا بصفات الكمال التي لا تتحقق الألوهية إلا بها ثم يقنعه بأن هذا القرآن هداية من لدنه تعالى
لذلك وصف الله المتقين الذين يهتدون بالقرآن بقوله :﴿ الذين يؤمنون بالغيب ﴾ والإيمان بالغيب هو الاعتقاد بموجود وراء المحسوس – وقد كتب الأستاذ الإمام في صاحبه ما نصه :
[ وصاحب هذا الاعتقاد واقف على طريق الرشاد وقائم على أول النهج، لا يحتاج إلا إلى من يدله على المسلك، ويأخذ بيده إلى الغاية. فإن من يعتقد بأن وراء المحسوسات موجودات يصدق بها العقل، وإن كانت لا يأتي عليها الحس، إذا أقمت له الدليل على وجود فاطر السموات والأرض المستعلي عن المادة ولواحقها، المتصف بما وصف به نفسه على ألسنة رسله، سهل عليه التصديق وخف عليه النظر في جلي المقدمات وخفيها، وإذا جاء الرسول بوصف اليوم الآخر أو بذكر عالم من العوالم التي استأثر الله علمها، كعالم الملائكة مثلا لم يشق على نفسه تصديق ما جاء به الخبر بعد ثبوت النبوة – لهذا جعل الله سبحانه هذا الوصف في مقدمة أوصاف المتقين الذين يجدون في القرآن هدى لهم.
[ وأما من لا يعرف من الموجود إلا المحسوس ويظن أن لا شيء وراء المحسوسات وما اشتملت عليه، فنفسه تنفر من ذكر ما وراء مشهوده أو ما يشبه مشهوده، وقلما تجد السبيل إلى قلبه إذا بدأته بدعواك، نعم قد توصلك المجاهدة بعد مرور الزمان في إيراد المقدمات البعيدة، والأخذ به الطرق المختلفة، إلى تقريبه مما تطلب، ولكن هيهات أن ينصرك الصبر، أو يخضعه القهر، حتى يتم لك منه الأمر، فمثل هذا إذا عرض عليه القرآن نبا عنه سمعه، ولم يجمل من نفسه وقعه فكيف يجد فيه هداية، أو منقذا من غواية ؟
[ ولما كان الإيمان بالغيب يطلق عند الناس على ذلك الاستسلام التقليدي الذي لم يأخذ من النفس إلا ما أخذ اللفظ من اللسان، وليس له أثر في الأفعال، لأنه لم يقع تحت نظر العقل، ولم يلحظ وجدان القلب، بل أغلقت عليه خزانة الوهم، ومثل الذي يسمونه إيمانا لا يفيد في إعداد القلب للاهتداء بالقرآن – لما كان هذا شأنهم منّ الله علينا ببيان يشعر بحقيقة ما أراده تعالى من معنى الإيمان ] فذكر علامات المؤمنين بالغيب الذين ينتفعون بهداية القرآن بالجمل الآتية، قال،
﴿ ويقيمون الصلاة ﴾ الخ. الصلاة إظهار الحاجة والافتقار إلى المعبود بالقول أو العمل أو كليهما، وهو المراد بقولهم " الصلاة معناها الدعاء " لأن إظهار الحاجة إلى العظيم الكريم ولو بالفعل فقط التماس للحاجة واستدرار للنعمة، أو طلب لدفع النقمة، أرأيتم أولئك الذين يقفون بين أيدي الملوك ناكسي رءوسهم حاني ظهورهم، وتارة يقعون على أقدامهم يقبلونها، أليس الباعث على هذا العمل إما خوف من عقوبة يطلبون به دفعها، وإما حذر على نعمة يتوقون سلبها ورفعها، فيلتمسون بقاءها، ويرجون زيادتها ونماءها ؟
هذه الصلاة كانت توجد عند بعض الجاهليين وهم الذين كانوا يعرفون بالحنيفيين والحنفاء، وعند بعض أهل الكتاب. وكتب الأستاذ في وصفها ما نصه :
[ والصلاة بالمعنى الذي ذكرناه قد ظهر في الإسلام في أفضل أشكاله، وهو تلك الصلاة التي فرضها الله على المسلمين، فإن هذه الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم على النحو الذي جاءت به السنة المتواترة من أفضل ما يعبر به عن الإحساس بالحاجة إلى المعبود، وشعور الأنفس بعظمته لو أقامها المصلون وأتوا بها على وجهها ] ولذلك قال ﴿ ويقيمون الصلاة ﴾ ولم يقل يصلون وفرق بينهما، فإن الصلاة متى حددت بكيفية مخصوصة يقال لمن يؤديها بتلك الكيفية : إنه صلى، وإن كان عمله هذا خلوا من معنى الصلاة وقوامها المقصود من الهيئة الظاهرة، فاحتيج إلى لفظ يدل على هذا المعنى الذي به قوام الصلاة، وهو ما عبر عنه القرآن بلفظ الإقامة. وقد قالوا إن إقامة الصلاة عبارة عن الإتيان بجميع حقوقها من كمال الطهارة، واستيفاء الأركان والسنن. وهو لا يعدو وصف الصورة الظاهرة، وإنما قوام الصلاة الذي يحصل بالإقامة : هو التوجه إلى الله تعالى والخشوع الحقيقي له، والإحساس بالحاجة إليه تعالى.
وكتب شيخنا عند تفسير الصلاة هنا بما تقدم أخذا عنه ما نصه :
[ فإذا خلت صورة الصلاة من هذا المعنى لم يصدق على المصلي أنه أقام الصلاة فإنه قد هدمها بإخلائها من عمادها، وقتلها بسلبها روحها، ومن غريب مزاعم من يسمون أنفسهم بالمسلمين : أن حضور القلب في جميع أجزاء الصلاة واستشعار الخشية من أصعب ما تتجشمه النفس، بل يكاد يكون مستحيلا، لغلبة الخواطر على ذهن المصلي. هذا وأخشى أن يكون هذا جحودا لمعنى الصلاة، وإنما عرض لهم هذا الوهم الباطل من شدة الغفلة، واستحكام العلة، وإني أدلهم على طريقة لو أخذوا بها لشغلوا بمعنى الصلاة حتى عن الصلاة نفسها، تلك الطريقة : هي أن لا ينطق المصلي بلفظ إلا وهو يستورد معناه على ذهنه، فإذا قال ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ يستحضر معنى الحمد وإضافته إلى ذات الله تعالى، مع وصفه بالربوبية لجميع الأكوان العلوية والسفلية، وإذا قال مثل ﴿ مالك يوم الدين ﴾ تصور معنى الملك وتعلقه بذلك اليوم يوم الجزاء، وهكذا – فإذا أخذ المصلي على نفسه أن يتصور المعاني من ألفاظها التي ينطق بها فقد أقام الصلاة، أما وهو ينطق ولا يفقه ولا يلحظ بذهنه معنى لفظا ما يقول، فكيف يزعم أنه يصلي، " فضلا عن أنه يقيم الصلاة ؟ ]
﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ أقول : الرزق في اللغة النصيب والعطاء ويطلق على الحسي والمعنوي، كالمال والولد والعلم والتقوى. ويخص بأمور المعاش بقرينة حالية أو لفظية، وقال علماء أهل السنة : الرزق ما انتفع به، حلالا كان أو حراما، وخصه المعتزلة بالحلال. ونفاق الشيء كنفاده. وأنفقه جعله ينفق بصرفه إخراجه من يده. وقال الجمهور : إن الإنفاق هنا يشمل النفقة الواجبة على الأهل والولد وذي القربى وصدقه التطوع، إذ الآية نزلت قبل فرض الزكاة المعينة. وقوله تعالى ﴿ ومما رزقناهم ﴾ يدل على أن النفقة المشروعة تكون بعض ما يملك الإنسان لا كل ما يملك – فهو ركن من أركان الاقتصاد. والإنفاق في سبيل الله أظهر آيات الإيمان الصحيح. وقال شيخنا شارحا ذلك على طريقته ما مثاله :
هذا الوصف من أقوى أمارات الإيمان بالغيب، لأن كثيرا من الناس يأتون بضروب العبادات البدنية كالصلاة والصوم، ومتى عرض لهم ما يقتضي بذل شيء من المال لله تعالى يمسكون ولا تسمح أنفسهم بالبذل، وليس المراد بالإنفاق هنا ما يكون على الأهل والولد، ولا يسمونه بالجود والكرم، كقرى الضيوف ابتغاء عوض كالشهوة والجاه، أو الأنس بالأصحاب، لأن هذا ليس من آثار الإيمان بالغيب، وإنما هو الإنفاق الناشئ عن شعور بأن الله تعالى هو الذي رزقه وأنعم عليه به، وأن الفقير المحروم عبد الله مثله، وأنه حرم من سعة العيش لضعف أو حرمان من الأسباب التي توصل إلى الرزق [ أو عن إحساس بأن مصلحة من مصالح المسلمين ومنفعة من منافعهم العامة لا تقوم أو لا تصل إليهم إلا ببذل المال، وقد أوجب الله على من أوتي المال أن ينفق منه في ذلك السبيل وهو أفضل سبل الله ] فمن يجد من نفسه داعية لبذل أحب الأشياء إليه – وهو ماله – ابتغاء مرضاة الله تعالى وقياما بشكره، ورحمة لأهل العوز والبائسين من خلقه، فهو لا شك مستعد لقبول هداية القرآن أتم الاستعداد، حتى إذا ما دعى إليه لبى وأجاب، وأسلم إلى الله تعالى وأناب.
فهذا بيان حال الفرقة الأولى ممن يهتدي بالقرآن فعلا ويشملها لفظ المتقين بالمعنى السابق، وكان منهم بعض العرب الحنفاء، وبعض أهل الكتاب الصلحاء كما سبق بيانه. والمراد من كون القرآن هدى لهذه الفرقة أنها مستعدة لقبوله، ومهيأة للاسترشاد به، لأن الإيمان الإجمالي بالله وبحياة أخرى بعد هذه الحياة يوفى الناس فيها أجورهم بحسب أعمالهم البدنية والنفسية، واتقاء ما يحول دون السعادة في هذه الحياة بحسب الاجتهاد الناقص والتعليم الذي لم يقتنع به العقل. ولم تكن إليه النفس، قد هيأهم لقبول القرآن وأن يقتبسوا من نوره ما يذهب بظلمات الجهل والحيرة، ويمنح الأرواح ما تتشوف إليه بمقتضى الفطرة.
أقول : روى عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) أن المراد بالمؤمنين هنا من يؤمن بالنبي والقرآن من أهل الكتاب، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمن من مشركي العرب. واختاره ابن جرير وآخرون. وعن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة أن المؤمنين في الآيتين قسم واحد، وهو كل مؤمن وإنما تعدد ما يؤمنون به. فالعطف فيهما عطف الصفات لا عطف الموصوفين. وثم قال ثالث شاذ، وهو أن الآيتين في مؤمني أهل الكتاب. وقد بينا قول شيخنا وسيأتي شرحه. والمراد على كل
رأى من قوله تعالى ﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ الإيمان التفصيلي بكل ما أنزله الله تعالى في القرآن. وأما قوله ﴿ وما أنزل من قبلك ﴾ فيكفي فيه الإيمان الإجمالي. وقال شيخنا ما مثاله :
هذه هي الطبقة الثانية وأعيد لفظ ﴿ الذين ﴾ لتحقيق التمايز بين الطبقتين. وهذه الطبقة أرقى من الطبقة الأولى، لأن أوصافها تقتضي الأوصاف التي أجريت على تلك وزيادة، فالقرآن يكون هدى لها بالأولى، ومعنى كونه هدى لها : أنه يكون إمامها في أعمالها وأحوالها، لا تحيد عن النهج الذي نهجه لها، كما ذكرنا.
ما كل من أظهر الإيمان بما ذكر مهتد بالقرآن. فالمؤمنون بالقرآن على ضروب شتى، ونرى بيننا كثيرين ممن إذا سئل عن القرآن قال : هو كلام الله ولا شك ولكن إذا عرضت أعماله وأحواله على القرآن تراها مباينة له كل المباينة. والقرآن ينهى عن الغيبة والنميمة والكذب، وهو يغتاب ويسعى بالنميمة ولا يتأثم من الكذب. القرآن يأمر بالفكر والتدبر، وهو كما وصف القرآن المكذبين بقوله تعالى فيهم :﴿ ٥١ : ١١ الذين هم في غمرة ساهون ﴾ لا يفكر في أمر آخرته، ولا في مستقبله ولا مستقبل أمته، ولا يتدبر الآيات والنذر، ولا الحوادث والعبر.
إن المؤمن الموقن المذكور في الآية الكريمة هو الذي يزين أعماله وأخلاقه باستكمال ما هدي إليه من القرآن دائما، ويجعله معيارا يعرض عليه تلك الأعمال والأخلاق، ليتبين : هل هو مهتد به أم لا ؟ مثال ذلك : الصلاة. يصفها القرآن بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقال في المصلين ﴿ ٧٠ : ١٩- ٢٢ إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين ﴾.
فبين أن الصلاة تقتلع الصفات الذميمة الراسخة التي تكاد تكون فطرية. فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر. ولم تقتلع من نفسه جذور الجبن والهلع. وتصطلم جراثيم البخل والطمع، فليعلم أنه ليس مصليا في عرف القرآن، ولا مستحقا لما وعد عباده الرحمان.
أما لفظ " الإنزال " فالمراد به ما ورد من جانب الربوبية الرفيع الأعلى، وأوحى إلى العباد من الإرشاد الإلهي الأسمى، وسمي إنزالا لما في جانب الألوهية من ذلك العلو. علو الرب على المربوب، والخالق على المخلوقين، الذين لا يخرجون بالتكريم والاصطفاء عن كونهم عبيدا خاضعين. وقد سمى القرآن غير الوحي من إسداء النعم الإلهية إنزالا فقال ﴿ ٥٧ : ٢٥ وأزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ﴾ فنكتفي بهذا من معنى الإنزال، وهو ما يفهمه كل عربي، من حاضر وبدوي.
وأقول الآن : إنني كنت اكتفيت بهذا القدر في تفسير الإنزال، تحاميا لما في المسألة من خلاف وجدال، ولكنني عدت في التفسير إلى فصل المقال في مسائل النزاع، فأزيد عليه أن إنزال الحديد فيه أقوال أخرى للسلف والخلف، كقوله تعالى ﴿ ٣٩ : ٦ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ﴾ أوضحها أن المراد إنزال الأحكام المتعلقة بها. وقيل : إن الحديد نزل من الجن مع آدم. ومن المعلوم أن الإنزال في أصل اللغة وهو نقل الشيء من مكان عالي إلى ما دونه، ويطلق العلو مجازا في الأمور المعنوية، فهو علو مكان وعلو مكانة. ومن الثاني ﴿ ١٠، ٨٣ و إن فرعون لعال في الأرض ﴾.
والتحقيق أن علو المكان الحسي أمر نسبي يختلف باختلاف موقع الناس من الأشياء، والجهات كلها أمور نسبية لا حقيقية، وأن الله سبحانه وتعالى فوق جميع خلقه بائن منهم، بلا تشبيه ولا تمثيل، لا متصل بشيء ولا حال فيه، مستو على عرشه بالمعنى الذي أراده، وهذا وجه تسمية ما يأتي من لدنه إنزالا، فملك الوحي كان يتلقى الوحي منه عز وجل وينزل من السماء إلى الأرض فيتلقاه منه النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم صفة تلقى الملك عن الله تعالى لأنه من الغيب الذي نؤمن به مجملا كما بلغناه، ولا صفة تلقى النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل لأنه من شأن النبوة ولسنا بأنبياء، وهو من الصلة بين عالم الغيب والشهادة. ولكن الله وصف لنا تكليمه للبشر بقوله ﴿ ٤٢ : ٥١ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء ﴾ الآية – وقوله ﴿ ٢٦ : ١٩٣ نزل به الروح الأمين ١٩٤ على قلبك لتكون من المنذرين ١٩٥ بلسان عربي مبين ) ووصفه لنا رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في جوابه لمن سأله عنه. وهو الحارث بن هاشم المخزومي فقال " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " رواه الشيخان من حديث عائشة ( رضي الله عنها ) ثم قال تعالى :{ وبالآخرة هم يوقنون ﴾ أما لفظ ﴿ الآخرة ﴾ فقد ورد في القرآن كثيرا والمراد به الحياة الآخرة أو الدار الآخرة حيث الجزاء على الأعمال، ويتضمن كما وردت به النصوص القطعية من الحساب والجزاء على الأعمال، وأما اليقين فهو الاعتقاد المطابق للواقع الذي لا يقبل الشك ولا الزوال، فهو اعتقادان – اعتقاد أن الشيء كذا، واعتقاد أنه لا يمكن أن يكون إلا كذا.
وأقول الآن : هذا ما قاله شيخنا في الدرس، وهو عرف علماء المعقول من المنطقيين والمتكلمين وقد جاريناه عليه في مواضع، وأما اليقين في اللغة فهو الاعتقاد الجازم في غير الحسيات والضروريات كما صرحوا به، فالجزم بخبر الصادق والاعتقاد المبني على الدلالة والأمارات يسمى يقينا إذا كان ثابتا لا شك فيه. وفي لسان العرب : أن اليقين العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر، وهو نقيض الشك، والعلم نقيض الجهل ا ه فالإيمان الشرعي يشترط فيه اليقين اللغوي فقط وهو التصديق الجازم الذي لا شك فيه ولا تردد، ولا ملاحظة طرف راجح على طرف مرجوح فإن هذا هو الظن. واليقين المنطقي أكمل. وهو ما بنى عليه شيخنا ما يأتي مبسوطا لا ملخصا، قال ما معناه :
[ وصفهم بأنهم موقنون بالآخرة لأنهم مؤمنون بالقرآن، ولم يصف بهذا الوصف الطائفة الأولى لأنها وإن كانت تؤمن بالغيب وتتوجه إلى الله تعالى بالصلاة المخصوصة بها وتنفق مما رزقها الله، فذلك لا ينافي أنها في حيرة من أمر البعث والجزاء، وكذلك كانت قبل الإيمان بالقرآن. وكان من هداية القرآن لها : أن خرج بها من غمرات تلك الحيرة.
لا يعتد بما دون اليقين في الإيمان. وقد قال الله تعالى في اعتقاد قو ﴿ ( ٥٣ : ٢٨ وما لهم به من علم، إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ وإذا لم يكن الظان موقنا وعلى نور من ربه في اعتقاده، فما حال من هو دونه من الشاكين والمرتابين ؟ ويعرف اليقين في الإيمان بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال.
إننا نرى الرجل يأتي إلى المحكمة بدعوى زور يريد أن يأكل بها حق أخيه بالباطل أو يجامل آخر بشهادة زور، أو ينتقم بها من ثالث، وهو يعلم أنه مزور ومبطل، فيقال له : اتق الله أن أمامك يوما ﴿ يعض الظالم فيه على يديه ﴾ فيقول أعوذ بالله أنا أعلم أن أمامي يوما، وأن أمامي شبرا من الأرض – يعني القبر – والدنيا لا تغني عن الآخرة. ويحلف اليمين الغموس باسم الله تعالى أنه محق في دعواه أو في شهادته، ثم يظهر التحقيق أنه مزور، ويضطره إلى الاعتراف والإقرار بذلك، فكأن الإيمان بالله واليوم الآخر عنده خيال يلوح في ذهنه عند ما يريد الخلابة والخداع لأجل أكل الحقوق أو إرضاء الهوى، ولا يظهر له أثر في أعماله وأحواله كأثر الاعتقاد ببعض المشايخ الميتين، كما بينا ذلك من قبل ]
[ فمثل هذا الإيمان – وإن تعارف الناس على تسميته تلك – ليس من الإيمان الذي يقوم على ذلك المعنى من الإيقان، ويظهر أثره في الجوارح والأركان ].
ثم قال بعد كلام في آثار اليقين : اليقين إيمانك بالشيء، والإحساس به من طريق وجدانك كأنك تراه [ بأن يكون قد بلغ بك العلم به أن صار مالكا لنفسك مصرفا لها في أعمالها، ولا يكون العلم محققا للإيمان على هذا الوجه حتى تكون قد أصبته من إحدى طريقتين ( الأولى ) النظر الصحيح فيما يحتاج فيه إلى النظر كالإيقان بوجود الله ورسالة الرسل، وذلك بتلخيص المقدمات، والوصول بها إلى حد الضروريات، فأنت بعد الوصول إلى ما وصلت إليه كأنك راء ما استقر رأيك عليه.
( والطريق الأخرى ) خبر الصادق المعصوم بعد أن قامت الدلائل على صدقه وعصمته عندك، ولا يكون الخبر طريقا لليقين حتى تكون سمعت الخبر من نفس المعصوم صلى الله عليه وسلم أو جاءك عنه من طريق لا تحتمل الريب، وهي طريق التواتر دون سواها، فلا ينبوع لليقين بعد طول الزمن بيننا وبين النبوة إلا سبيل المتواترات التي لم يختلف أحد في وقوعها، فالإيقان بالمغيبات كالآخرة وأحوالها والملأ الأعلى وأوصافه، وصفات الله التي لا يهتدي إليها النظر١ لا يمكن تحصيله إلا من الكتاب العزيز، وهو الحق الذي جاءنا من الله لا ريب فيه ؛ فعلينا أن نقف عند ما أنبأ به من غير خلطك ولا زيادة ولا قياس.
وأكد الإيقان بالآخرة بقوله ( هم ) اهتماما بشأنه وليبين أن الإيقان بالآخرة خاصة من خواص الذين آمنوا بالقرآن وبما أنزل قبله من الكتب لا يشركهم فيه سواه. وقد علمت أنه لا بد أن يكون الموقن به من أحوال الآخرة قطعيا. فهذه الإضافات التي أضافوها على أخبار الغيب وخلقوا لها الأحاديث بل أضافوا إليها أيضا أقوال أهل الكتاب وأشياء أخرى نسبوها إلى السلف، وبعض غرائب جاءت على لسان المنتسبين للتصوف لا تدخل فيما يتعلق به اليقين، بل الجهل بالكثير منها خير من العلم به، فإنما الوصف الذي يمتاز به أهل القرآن هو اليقين، ولا يكون اليقين إلا حيث يكون القطع. وأما الظن فهو وصف من عابهم القرآن وأزرى بهم، فلا علاقة له بأحوالهم٢.
٢ بين القطع والظن المنطقيين يقين هو اليقين اللغوي كما تقدم..
ههنا إشارتان والمشار إليه عند الجمهور واحد وهو ما في الآيتين السابقتين من المؤمنين من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم، وكرر الإشارة للإعلام بأنه لا بد من تحقق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى وأنهم هم المفلحون. كذا قال بعضهم وهو تكلف ظاهر، وكذا قولهم : إن تنكير هدى هنا للتعظيم. وشيخنا قد جعل الإشارتين لنوعي المؤمنين المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللف والنشر المرتب، قال إن الإشارة الأولى ﴿ أولئك على هدى من ربهم ﴾ في هذه الآية للفرقة الأولى وهم الذين ينتظرون الحق لأنهم على شيء منه – كما يدل عليه تنكير " هدى " الدال على النوع – وينتظرون بيانا من الله تعالى ليأخذوا به، ولذلك تقبلوه عند ما جاءهم. فقد أشعر الله قلوبهم الهداية، بما آمنوا به من الغيب، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذي سبق، وأنفقوا مما رزقهم الله، وأما الفرقة الثانية وهم المؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فعلى هدى تشرك فيه تلك الفرقة الأولى ؛ لكن على وجه أكمل، لأنها مؤمنة بالقرآن وعاملة به. وقوله ﴿ على هدى ﴾ تعبير يفيد التمكن من الشيء كتمكن المستقر عليه، كقولهم " ركب هواه " ولقد كان أفراد تلك الفرقة ( أي الأولى ) على بصيرة وتمكن من نوع الهدى الذي كانوا عليه، فإن كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم، فهو كاف لإعدادهم وتأهيلهم لهما بالإيمان التفصيلي المنزل، ولذلك قبلوه عند ما بلغتهم دعوته.
وإلى الفرقة الثانية وقعت الإشارة ﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ كما هو ظاهر، وهم المفلحون بالفعل لاتصافهم بالإيمان الكامل بالقرآن وبما تقدمه من الكتب السماوية واليقين بالآخرة – لا مطلق الإيمان بالغيب إجمالا، ويرشد إلى التغاير بين مرجع الإشارتين ترك ضمير الفصل " هم " في الأولى وذكره في الثانية. ولو كان المشار إليه واحدا لذكر الفصل في الأولى، لأن المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التام، فهو خاص بهم دون سواهم، لكنه اكتفى عن التنصيص على تمكنهم من الهدى بحصر الفلاح منهم. ومادة الفلح تفيد في الأصل معنى الشق والقطع، ومثلها مادة الفلج بالجيم والفلخ بالخاء والفلذ والفلع والفلغ والفلق، والفل والفلم. ويطلق الفلاح والفلج على الفوز بالمطلوب، ولكن لا يقال أفلح الرجل إذا فاز بمرغوبه عفوا من غير تعب ولا معاناة، بل لا بد في تحقيق المعنى اللغوي لهذه المادة من السعي إلى الرغيبة والاجتهاد لإدراكها، فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلا بالإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله. وباتباع هذا الإيمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي التي نيط بها الوعد والوعيد فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك في الآخرة، ويدخل في هذا كله ترك الكذب والزور وتزكية النفس من سائر الرذائل كالشره والطمع والجبن والهلع والبخل والجور والقسوة وما ينشأ عن هذه الصفات من الأفعال الذميمة، وارتكاب الفواحش والمنكرات، والانغماس في ضروب اللذات. كما يدخل فيه الفضائل التي هي أضداد هذه الرذائل المتروكة وجميع ما سماه القرآن عملا صالحا من الفضائل وحسن المعاملة مع الناس [ والسعي في توفير منافعهم العامة والخاصة مع التزام العدل والوقوف عند ما حده الشرع القويم ؛ والاستقامة على صراطه المستقيم ].
وجملة القول : أن الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو الإيمان بالدين الإسلامي جملة وتفصيلا، فما علم من ذلك بالضرورة ولم يخالف فيه مخالف يعتد به، فلا يسع أحدا جهله، فالإيمان به إيمان، والإسلام لله به إسلام، وإنكاره خروج من الإسلام. وهو الذي يجب أن يكون معقد الارتباط الإسلامي وواسطة الوحدة الإسلامية، وما كان دون ذلك في الثبوت ودرجة العلم فموكول إلى اجتهاد المجتهدين، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك مثار اختلاف في الدين زاد الأستاذ هنا بخطه عند قولنا : اجتهاد المجتهدين ما نصه :[ أو ذوق العارفين أو ثقة الناقلين بمن نقلوا عنه ليكون معتمدهم فيما يعتقدون بعد التحري والتمحيص وليس لهؤلاء أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم، فإن ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون له مع المنقول عنه في الحال مثل ما للناقل معه، فلا بد أن يكون عارفا بأحواله وأخلاقه ودخائل نفسه، ونحو ذلك ما يطول شرحه، ويحصل الثقة للنفس بما يقول القائل ]
وأقول : معنى هذا أن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث، ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة، كصحيفة علي كرم الله وجهه المشتملة على بعض الأحكام كالدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة. ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ. وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة. وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منها أن يأخذه عنه، ولكن لا يجعل ذلك تشريعا عاما. وأما ذوق العارفين، فلا يدخل شيء منه في الدين، ولا يعد حجة شرعية بالإجماع، إلا ما كان من استفتاء القلب في الشبهات، والاحتياط في تعارض البينات.
﴿ ( ٦ ) إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( ٧ ) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ﴾.
قال الأستاذ : كان الذي تقدم بيانا من الله تعالى لصنفين من الناس لهم في القرآن هداية ولنفوسهم إلى الاهتداء به انبعاث ( الأول من الصنفين ) أولئك الذين ببلغهم لأول مرة، وهم ممن يخشى الله ويهاب سلطانه، وفي أصول اعتقادهم الإيمان بما وراء الحس على ما تقدم ( والثاني ) أولئك الذين آمنوا بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله [ وهذا الصنف قد يجتمع مع الذي قبله فيمن كانوا متقين مؤمنين بالغيب، ثم آمنوا بالنبي وبما جاء به، وقد يفترق الصنفان فيمن بقي إلى اليوم لم تبلغه الدعوة، وهو على تلك الأوصاف، ومن ولد من آباء مؤمنين ثم صدق إيمانه بعد أن بلغ رشده وملك عقله ].
أما هاتان الآيتان فقد بينتا حال طائفة ثالثة من الناس، وهم الكافرون، ثم يبين قوله تعالى ﴿ ومن الناس من يقول ﴾ الخ حال طائفة أخرى أخص منها وهم المنافقون، الذين يظهر من أقوالهم وفي بعض أفعالهم أنهم مؤمنون، ولكنهم في حقيقة أمرهم كافرون، بل شر من الكافرين [ فهذه أقسام أربعة ينقسم إليها الناس إذا بلغهم القرآن ونظروا فيه، ودعوا إلى الإيمان به والأخذ بهديه ].
بين الله تعالى لنبيه أنه إذا كان يوجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس هذا عيبا وتقصيرا في هداية الكتاب، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب، لأنه هداية كسائر الهدايات الطبيعية التي أعرض الناس وعموا عنها [ كهداية العقل والسمع والبصر ونحوها مما أكرم الله به هذا النوع البشري، وقد يحكم الرجل بأن في العمل مضرة تلحق به، ومع ذلك يعدل عن حكمه انتهازا للذة زينها له حسه أو همه ؛ ويأتي ذلك العمل على ما يعلم من سوء مغبته، فاحتقار الرجل لعقل نفسه لا يعد عيبا في تلك الموهبة الإلهية، ولا يحط من شأن النعمة فيها. أنظر إلى رجل يغمض عينيه ويمشي في طريق لا يعرفها فيسقط في حفرة وتتحطم عظامه، هل ينقص ذلك من قدر بصره، ويبخس من حق الله في الإحسان به، على هذا الذي لم يرد أن يستعمله فيما خلق له ] ففي الكلام تسلية لأهل الحق، وسيدهم هو النبي صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له أولا وبالأول.
قال الأستاذ : كان الذي تقدم بيانا من الله تعالى لصنفين من الناس لهم في القرآن هداية ولنفوسهم إلى الاهتداء به انبعاث ( الأول من الصنفين ) أولئك الذين ببلغهم لأول مرة، وهم ممن يخشى الله ويهاب سلطانه، وفي أصول اعتقادهم الإيمان بما وراء الحس على ما تقدم ( والثاني ) أولئك الذين آمنوا بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله [ وهذا الصنف قد يجتمع مع الذي قبله فيمن كانوا متقين مؤمنين بالغيب، ثم آمنوا بالنبي وبما جاء به، وقد يفترق الصنفان فيمن بقي إلى اليوم لم تبلغه الدعوة، وهو على تلك الأوصاف، ومن ولد من آباء مؤمنين ثم صدق إيمانه بعد أن بلغ رشده وملك عقله ].
أما هاتان الآيتان فقد بينتا حال طائفة ثالثة من الناس، وهم الكافرون، ثم يبين قوله تعالى ﴿ ومن الناس من يقول ﴾ الخ حال طائفة أخرى أخص منها وهم المنافقون، الذين يظهر من أقوالهم وفي بعض أفعالهم أنهم مؤمنون، ولكنهم في حقيقة أمرهم كافرون، بل شر من الكافرين [ فهذه أقسام أربعة ينقسم إليها الناس إذا بلغهم القرآن ونظروا فيه، ودعوا إلى الإيمان به والأخذ بهديه ].
بين الله تعالى لنبيه أنه إذا كان يوجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس هذا عيبا وتقصيرا في هداية الكتاب، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب، لأنه هداية كسائر الهدايات الطبيعية التي أعرض الناس وعموا عنها [ كهداية العقل والسمع والبصر ونحوها مما أكرم الله به هذا النوع البشري، وقد يحكم الرجل بأن في العمل مضرة تلحق به، ومع ذلك يعدل عن حكمه انتهازا للذة زينها له حسه أو همه ؛ ويأتي ذلك العمل على ما يعلم من سوء مغبته، فاحتقار الرجل لعقل نفسه لا يعد عيبا في تلك الموهبة الإلهية، ولا يحط من شأن النعمة فيها. أنظر إلى رجل يغمض عينيه ويمشي في طريق لا يعرفها فيسقط في حفرة وتتحطم عظامه، هل ينقص ذلك من قدر بصره، ويبخس من حق الله في الإحسان به، على هذا الذي لم يرد أن يستعمله فيما خلق له ] ففي الكلام تسلية لأهل الحق، وسيدهم هو النبي صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له أولا وبالأول.
قوله تعالى ﴿ إن الذين كفروا ﴾ أقول : هذا بيان لحال القسم الثاني من أقسام الناس تجاه هداية القرآن، وقد قطعه وفصله مما قبله، فلم يعطفه عليه للإشارة إلى ما بينهما من طول شقة الانفصال وعدم المشاركة في شيء ما، بخلاف القسم الثالث الآتي، فإن لهم حظا منه في الدنيا ولمن يتوب منهم حظ في الآخرة أيضا.
والكفر في اللغة : ستر الشيء وتغطيته وإخفاؤه، ولذلك وصف به الليل والبحر والزراع في قوله تعالى ﴿ ٥٧ : ٢٠ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ﴾ لأنهم يغطون الحب بالتراب – وفعله من باب نصر وقال الفارابي وتبعه الجوهري من باب ضرب وهو خطأ كما في المصباح – ومن المجاز : كفر النعمة بعدم شكرها وذكرها تنويها بها. وكذا الكفر بالله أو بوحدانيته وصفاته، أو كتبه ورسله وما جاءوا به عن الله تعالى، أي إنكاره وعدم التصديق به والإذعان له ولا سيما الشرك في عبادته – كل ذلك من ضروب الستر والتغطية السلبية في الأمور المعنوية، فهو مجاز لغة. وحقيقة شرعية في معناها الشرعي المشار إليه آنفا. والمراد بالذين كفروا هنا من علم الله تعالى أن الكفر رسخ في قلوبهم حتى فقدوا الاستعداد للإيمان. وقال شيخنا : الكفر هنا عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله أو جحود الكتاب نفسه، أو النبي الذي جاء به، وبالجملة ما علم من الدين بالضرورة [ بعد ما بلغت الجاحد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بلاغا صحيحا، وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادا أو تساهلا أو استهزاءا، نعني بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن ] ولم نسمع أن أحدا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كفر أحد بما وراء هذا فما عداه من الأفاعيل والأقاويل المخالفة لبعض ما أسند إلى الدين ولم يصل إلى العلم بأنه منه إلى حد الضرورة – أي لم يكن سنده قطعيا كسند الكتاب – فلا يعد منكره كافرا إلا إذا قصد بالإنكار تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فمتى كان للمنكر سند من الدين يستند إليه فلا يكفر [ وإن ضعفت شبهته في الاستناد إليه مادام صادق النية فيما يعتقد، ولم يستهن بشيء مما ثبت بالقطع وروده عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ].
وقد تجرأ بعض المتأخرين على تكفير من يتأول بعض الظنيات، أو يخالف شيئا مما سبق الاجتهاد فيه، أو ينكر بعض المسائل الخلافية، فجرأوا الناس على هذا الأمر العظيم، حتى صاروا يكفرون من يخالفهم في بعض العادات، وإن كانت من البدع المحظورات [ ثم هم على عقائد الكافرين، أخلاق المنافقين، ويعملون أعمال المشركين، ويصفون أنفسهم بالمؤمنين الصادقين ].
الكافرون أقسام ( منهم ) من يعرف الحق وينكره عنادا، وهؤلاء هم الأقلون ولا ثبات لهم ولا قوام، وكان منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من المشركين واليهود ولم يلبثوا أن انقرضوا.
قال الأستاذ : كنت قلت في هذا المعنى كلمة جديرة بأن تحفظ وهي " إن جحود الحق مع العلم به كاليقين في العلم١ كلاهما قليل في الناس ".
( ومنهم ) من لا يعرف الحق ولا يريد ولا يحب أن يعرفه وهم الذي قال الله تعالى فيهم ﴿ ٨ : ٢٢، ٢٣ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ﴾ فهؤلاء كلما صاح بهم صائح الحق فزعوا ونفروا، وأعرضوا واستكبروا، ففي أنفسهم شعور بالحق ولكنهم يجدون فيها زلزلة، كلما لاح لهم شعاعه يحجبونه عن أعينهم بأيديهم، وسبب ذلك : أنهم لم يستعملوا أنظارهم في فهم الحق، ويخافون لو استعملوها أن ينقصهم شيء مما يظنونه خيرا، ويتوهمونه معقودا بعقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم وساداتهم.
[ ومنهم : من مرضت نفسه واعتل وجدانه، فلا يذوق للحق لذة، ولا تجد نفسه فيه رغبة، بل انصرف عنه إلى هموم أخر ملكت قلبه وأسرت فؤاده، كالهموم التي غلبت الناس اليوم على دينهم وعقولهم، وهي ما استغرقت كل ما توفر لديهم من عقل وإدراك، واستنفدت كل ما يملكون من حول وقوة، في سبيل كسب مال أو توفير لذة جسمانية، أو قضاء شهوة وهمية، فعمي عليهم كل سبيل سوى سبل ما استهلكوا فيه، فإذا عرض عليهم حق أو ناداهم إليه مناد، رأيتهم لا يفهمون ما يقول الداعي، ولا يميزون بين ما يدعو إليه، وبين ما هم عليه، فيكون حظ الحق منهم الاستهزاء والاستهانة بأمره، فإذا وعدهم أو أوعدهم النذير، قالوا لا نصدق ولا نكذب، حتى ننتهي إلى ذلك المصير، وهذا القسم كالذي قبله كثير العدد في الناس في كل زمان ومكان، خصوصا في الأمم التي يفشو فيها الجهل، وتنطمس من أفرادها أعين الفطرة، وتتضب من أنفسهم ينابيع الفضائل، فيصبحون كالبهائم السائمة، لا هم لهم إلا فيما يملأ بطونهم، أو يداعب أوهامهم، ويصبح جمع هذين القسمين تحت قسم واحد وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين، والقسم الأول هو قسم المعاندين المكابرين ].
فكل من هذه الفرق ﴿ سواء عليهم أأنذرتهم٢ أم لم تنذرهم ﴾. الإنذار الإخبار والإعلام بالشيء، المقترن بالتخويف مما يترتب عليه من فعل يتضمن ذمه وطلب تركه أو ترك لأمر يتضمن مدحه وطلب فعله، نصا أو اقتضاء، والسواء اسم مصدر بمعنى الاستواء. والمعني : أنه الذين كفروا ولم يدخلوا في قسم المستعدين للإيمان لرسوخهم في الكفر، يستوي الإنذار وعدمه بالنسبة إليهم في الواقع. فالذي يعرض عن النور مع العلم به ويغمض عينيه كيلا يراه بغضا له لذاته أو تأذيا به، أو عنادا وعداوة لمن دعاه إليه – ماذا يفيده النور، وماذا يعيب النور من إعراضه ؟ والذي لا يعرف النور ولا يحب أن يعرفه لأن فساد طبيعته وخبث تربيته أنآه عنه وأبعده، وجعله يألف الظلمة كالخفاش، [ أو أفسد الجهل وجدانه فأصبح لا يميز بين نور وظلمة، ولا بين نافع وضار، ولا بين لذيذ ومؤلم، ماذا عساه يفيده النور مهما سطع، أو يؤثر فيه الضوء مهما ارتفع ؟ ]
﴿ لا يؤمنون ﴾ أقول : هذه جملة مفسرة لتساوي الإنذار وعدمه في حقهم لا في حقه صلى الله عليه وسلم وحق دعاة دينه، فهم يدعون كل كافر إلى دين الله الحق، لأنهم لا يميزون بين المستعد للإيمان وغير المستعد له، إذ هو أمر لا يعلمه إلا الله تعالى.
٢ في اجتماع مثل هاتين الهمزتين قراآت تتعلق بالأداء دون المعنى: قرأها الكوفيون وابن ذكوان بتحقيق الهمزتين، وهي لغة بني تميم، وأهل الحجاز يخففون فقرأ الحرميان من القراء وأبو عمرو وهشام بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية وأبو عمرو وقالون وإسماعيل عن نافع وهشام يدخلون بينهما ألفا في هذه الحالة، وابن كثير لا يدخل. وروي عن هشام تحقيقهما مع إدخال ألف بينهما. وعن ورش كابن كثير وقالون إبدال الثانية ألفا فيلتقي ساكنان على غير حده، وفاقا للكوفيين وخلافا للبصريين. والبصريون إنما يمنعون جعله قياسا ولكنهم لا يستطيعون رد ما ثبت بالتواتر سماعا ولا سيما القرآن..
قال الأستاذ : كان الذي تقدم بيانا من الله تعالى لصنفين من الناس لهم في القرآن هداية ولنفوسهم إلى الاهتداء به انبعاث ( الأول من الصنفين ) أولئك الذين ببلغهم لأول مرة، وهم ممن يخشى الله ويهاب سلطانه، وفي أصول اعتقادهم الإيمان بما وراء الحس على ما تقدم ( والثاني ) أولئك الذين آمنوا بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله [ وهذا الصنف قد يجتمع مع الذي قبله فيمن كانوا متقين مؤمنين بالغيب، ثم آمنوا بالنبي وبما جاء به، وقد يفترق الصنفان فيمن بقي إلى اليوم لم تبلغه الدعوة، وهو على تلك الأوصاف، ومن ولد من آباء مؤمنين ثم صدق إيمانه بعد أن بلغ رشده وملك عقله ].
أما هاتان الآيتان فقد بينتا حال طائفة ثالثة من الناس، وهم الكافرون، ثم يبين قوله تعالى ﴿ ومن الناس من يقول ﴾ الخ حال طائفة أخرى أخص منها وهم المنافقون، الذين يظهر من أقوالهم وفي بعض أفعالهم أنهم مؤمنون، ولكنهم في حقيقة أمرهم كافرون، بل شر من الكافرين [ فهذه أقسام أربعة ينقسم إليها الناس إذا بلغهم القرآن ونظروا فيه، ودعوا إلى الإيمان به والأخذ بهديه ].
بين الله تعالى لنبيه أنه إذا كان يوجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس هذا عيبا وتقصيرا في هداية الكتاب، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب، لأنه هداية كسائر الهدايات الطبيعية التي أعرض الناس وعموا عنها [ كهداية العقل والسمع والبصر ونحوها مما أكرم الله به هذا النوع البشري، وقد يحكم الرجل بأن في العمل مضرة تلحق به، ومع ذلك يعدل عن حكمه انتهازا للذة زينها له حسه أو همه ؛ ويأتي ذلك العمل على ما يعلم من سوء مغبته، فاحتقار الرجل لعقل نفسه لا يعد عيبا في تلك الموهبة الإلهية، ولا يحط من شأن النعمة فيها. أنظر إلى رجل يغمض عينيه ويمشي في طريق لا يعرفها فيسقط في حفرة وتتحطم عظامه، هل ينقص ذلك من قدر بصره، ويبخس من حق الله في الإحسان به، على هذا الذي لم يرد أن يستعمله فيما خلق له ] ففي الكلام تسلية لأهل الحق، وسيدهم هو النبي صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له أولا وبالأول.
ثم وصف سبحانه فقدهم لهذا الاستعداد، ورسوخهم في الكفر الذي لم يبق معه محل لغيره بهذا التعبير البليغ ﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ﴾.
قال الراغب : الختم والطبع يقال على وجهين : مصدر ختمت وطبعت، وهو تأثير الشيء كنقش الخاتم والطابع ( والثاني ) الأثر الحاصل عن النقش، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب نحو ﴿ ختم الله على قلوبهم * وختم على قلبه وسمعه ﴾ - إلى أن قال – فقوله ﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾... إشارة إلى ما أجرى الله به العادة أن الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل وارتكاب محظور – ولا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق – يورثه ذلك هيئةً تُمَرِّنُهُ على استحسان المعاصي، وكأنما يختم بذلك على قلبه. وعلى ذلك { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ) اه المراد منه.
وأقول : إن مراده أن هذا التعبير مثل لمن تمكن الكفر في قلوبهم حتى فقدوا الدواعي والأسباب التي تعطفهم إلى النظر والفكر في أدلة الإيمان ومحاسنه. ختم الله على قلوبهم فلا يدخلها غير ما رسخ فيها، وعلى أسماعهم فلا يسمعون آيات الله المنزلة سماع تأمل وتفقه. وقوله ﴿ وعلى أبصارهم غشاوة ﴾ جملة معطوفة على جملة ( ختم ) والغشاوة ما يغطى به الشيء، ومعنى هذه المادة : غ ش ي- التغطية. والمراد أن أبصارهم لا تدرك آيات الله المبصرة الدالة على الإيمان، فكل من الفريقين لا يرجى إيمانه وقد أسند الختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلى الله تعالى لأنه بيان لسنته تعالى في أمثالهم، وعبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر قد فرغ منه، وهو لا يدل على أنهم مجبورون على الكفر، ولا على منع الله تعالى إياهم منه بالقهر، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرنهم على الكفر وأعماله في قلوبهم بأنه استحوذ عليها وملك أمرها حتى لم يعد فيها استعداد لغيره كما تقدم مثله عن الراغب. ويوضح ما قلناه : قوله تعالى في سورة المنافقين ﴿ ٦٣ : ٣ ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم ﴾ وقوله في اليهود من سورة النساء ﴿ ٤ : ١٥٤ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم : قلوبنا غلف. بل طبع الله عليها بكفرهم ؛ فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ فذكر أن الطبع على قلوبهم إنما هو بسبب كفرهم وتلك المعاصي التي أسندها إليهم وقوله تعالى في سورة الجاثية ﴿ ٤٥ : ٢٢ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة – فمن يهديه من بعد الله ؟ أفلا تذكرون ؟ ﴾ فقد ذكر من فعله المسند إليه أنه اتخذ إلهه هواه ومن صار هواه معبوده لا يفيد معه شيء. وقد صرح هنا بأن الغشاوة على بصره من جعل الله تعالى، ولم يصرح بذلك في آية البقرة التي نفسرها، والمعنى واحد. ولشيخنا الأستاذ الإمام دقائق في هذه التعبيرات ادخرها الله تعالى له وهي مع هذا تغنيك عن تماري الأشعرية والمعتزلة في الآيات تعصبا لمذاهبهم. قال :
يقولون : إن الختم والطبع والرين. ألفاظ تجري على شيء واحد، وهو تغطية الشيء والحيلولة بينه وبين ما من شأنه أن يدخله ويمسه، والقلوب مراد بها العقول، والمراد بالسمع الأسماع، وإفراده أن أصله مصدر ومن شأن المصادر أن لا تجمع، وقد لوحظ هنا الأصل، والأبصار العيون التي تدرك المبصرات من الأشكال والألوان.
( قال ) وأنا أرى في مسألة هذا الجمع والإفراد رأيا آخرا، إذ لو صح ما قيل فإن البصر أيضا مصدر فلماذا جمعه ؟ والذي أراه أن العقل له وجوه كثيرة في إدراك المعقولات، فليس الناس فيه سواء ؛ فجمع لاختلاف الناس فيه، وأنواع تصرفهم في وجوهه، بخلاف السمع فإن أسماع الناس تتساوى في إدراك المسموعات فلا تتشعب تشعب العقول في إدراك المعقولات. وأما الأبصار فهي مثل العقول في التشعب، وأعظم معين للعقول في إدراكها، لأن أنواع المبصرات كثيرة فتعطي للعقل مواد كثيرة، والسمع لا يدرك إلا الصوت، وليس في الكلام عند النقل طريق من طرق العلم اليقيني إلا التواتر [ بخلاف ما نقطع فيه بالضرورة من طريق العقل والبصر، فهو كثير، فالأوليات١ كالحكم بأن الجزء أصغر من الكل وأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، والقضايا التي قياساتها معها٢ - من المعقولات المحضة. والتجربيات والحدسيات٣ يشترك فيها العقل والبصر، والقسم الأعظم من المشاهدات سبيل الإدراك فيه البصر. فالعقول والأبصار بمنزلة ينابيع كثيرة تنبجس من كل منها عيون للعلم مختلفة، بخلاف السمع فإنه ينبوع واحد لا اختلاف فيما يصدر عنه ] فالحاصل أن العقول والأبصار تتصرف في مدركات كثيرة فكأنها صارت بذلك كثيرة فجمعت، وأما السمع فلا يدرك إلا شيئا واحدا فأفرد.
سأله سائل : كيف هذا، وقد قالوا : إن السمع أفضل من البصر ؟ فقال : أنا لا أتكلم في التفضيل، ذلك إلى الله ورسوله، وإنما أشرح موجودا وأبين مناسبة اللفظ له، [ وإن المشاهدة قاضية بأن العقل لا منتهى لتصرفه، وبأن أقل ما قيل في البصر أنه يدرك الألوان، والأشكال، والمقادير ؛ والسمع لا يدرك إلا الأصوات فقط، كما أن الذوق لا يحس إلا بالمذوقات وحدها، وإن كان ما يصل من طريق السمع قد يتضمن حكاية عن معقول أو مبصر، ولكن وروده على الحكاية لا يغير من حقيقته، فهو معقول أو مبصر، فمن ذكر لك برهانا على حقيقة علمية فإنما تسمع منه الأصوات والحروف. وأما فهمك المقدمات ووصولك منها إلى النتائج فهو من طريق عقلك لا من طريق سمعك ؛ فإن كان حديث الأفضلية يستند إلى أن جميع المدركات قد يمكن أن يعبر عنها بالكلام – وهو مسموع – فقد بينا لك ما فيه، ويعارضه أن جميع ضروب الكلام يصح أن تكتب وطريق فهمها من الرقم إنما هو البصر، والحق أن المعول عليه في تعدد الطريق ليس ما يكون من قبيل الحكاية ؛ بل ما يكون من طبيعة القوة.
وأما انطباق الكلام على تلك الأقسام السابقة وبيان حرماتهم وكونهم كما وصفوا – فهو بالنسبة إلى الطائفة التي عاندت الحق وهي تعرفه – ظاهر لأنهم لما عاندوا الحق لأنه لم يأت على أيديهم [ فقد طبع على قلوبهم بطابع ذلك العناد نفسه، فإنه قد حيل بين عقولهم وإدراك ما يصيرون إليه بالإصرار على الباطل من ضعف أمر وفساد حال في الدنيا، وشقاء وخلود في نكال الآخرة، ثم هم قد حجبوا به عن إدراك ما يتبع ] ذلك الحق من المعارف والحقائق الأخرى ؛ فقد ختم على قلوبهم بالنسبة إلى ما حجبوا عنه.
وأما الختم على سمعهم فلأنهم صموا عن سماع الحق واستماع القول لفهمه، فمن أعرض عن فهم الحق فهو لم يسمع إلا صوتا لم ينفذ شيء من معناه إلى موضع الإدراك الحقيقي منه، فقد ختم على سمعه فلا ينفذ إليه شيء ينتفع به.
وأما الأبصار فإنما كانت عليها غشاوات عند هؤلاء الجاحدين، لأن فائدة البصر، هي التوقي من الخطر، والعبرة بما يبصر، فمن لم ينظر في الآيات الكونية التي تقع تحت بصره كل يوم كأنه لم يبصر شيئا منها، فقد ضرب على بصره بغشاوة. [ وأما بالنسبة إلى القسمين الآخرين اللذين جمعا تحت قسم واحد وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين كما سبق فالختم على القلوب والسمع والأبصار ظاهر لأنهم لم ينتفعوا بشيء من هذه القوى حتى في فهم ما يعرض عليهم، ورؤية ما يقع تحت حواسهم ] والكلام كله ضرب من التمثيل يعرفه اللسان وتعهده اللغة. والمعنى هو ما بينا والله أعلم. [ والكلام كان حديث الختم تمثيلا لفقد حقيقة الفهم والحرمان من فوائد تلك المواهب الإلهية : مواهب العقل والسمع والأبصار – كان إسناده إلى الله تأكيدا لمعنى الحرمان، وتقديرا لمصيبة الخسران، لأن ما ختم بيد الله لا تفضه يد سواه ].
وأما النكتة في استعمال الختم مع القلب والسمع، والغشاوة مع البصر ؛ فهي أن الختم من شأنه أن يكون على المكنون المستور. وهكذا موضع حس السمع، وموضع الإدراك من العقل، والإسماع في ظاهر الخلقة، وأما البصر فالحاسة منه ظاهرة منكشفة ( قال ) ومثل هذه الدقائق هي المرادة بقول صاحب التلخيص " ولكل كلمة مع صاحبتها مقام "
﴿ ولهم عذاب عظيم ﴾ أقول : العذاب اسم لما يؤلم ويذهب بعذوبة الحياة من ضرب ووجع وجوع وظمأ. قال الراغب : واختلف في أصله، فقال بعضهم : هو من قولهم : عذب الرجل إذا ترك المأكل ( زاد غيره من شدة العطش ) والنوم فهو عاذب وعذوب، فالتعذيب في الأصل هو حمل الإنسان أن يعذب، أي بجوع وبسهر. وقيل : أصله من العذب، فعذبته : أزلت عذب حياته. على بناء : مرّضته وقذيته٤ وقيل أصل التعذيب إكثار الضرب بعذبة السوط أي طرفه ا ه. وقال البيضاوي العذاب كالنكال بناء ومعنى تقول أعذب عن الشيء ونكل عنه – إذا أمسك ومنه الماء العذب لأنه يقمع العطش ويردعه، ولذلك يسمى نقاحا وفراتا ثم تسع فأطلق على كل ألم فادح وإن لم يكن عقابا يردع الجاني عن المعاودة إلخ. والعظيم ضد الحقير فهو فوق الكبير الذي هو ضد الصغير. وتنكير العذاب هنا للإشارة إلى أنه نوع منه مبهم مجهول عند أهل الدنيا، بناء على أن المراد به عذاب الآخرة التي هي من عالم الغيب. وقال شيخنا تبعا للجمهور : التنكير فيه للتعظيم والتهويل ووصفه مع ذلك بعظيم يدل على أنه بالغ حد العظمة كمّا وكيفا، فهو شديد الإيلام، وطويل الزمان. وهل هذا العذاب في الدنيا أم في الآخرة ؟ قال في آية ﴿ ٥ : ٤١ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ فيؤخذ من هذه الآية من آيات أخرى أن الإعراض عن هدى الإسلام، وما أرشد إليه من إصلاح المعاش والمعاد، جزاؤه الضنك والضيق وفقد العزة والسلطة في الدنيا، والعذاب العظيم في العقبى.
وهنا سأله سائل : هل الآية نص في التكليف بالمحال ؟ فقال : لا، وأنا لا أحب أن أحشر المسائل الخلافية في تفسير القرآن بل أحب أن أبين المعنى الذي كان يفهمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وما كان يخطر على بال أحد منهم التكليف بالحال. على أن الاتفاق واقع بين الأئمة بل بين الأمة على أن التكليف بالمحال غير واقع، وأن الله ﴿ لا يكلف نفسا إلا وسعها ﴾ كما صرح به الكتاب وتضافرت عليه الأحاديث النبوية، فما بقي من مواضع لا يمس نصوص الكتاب العزيز الذي ﴿ ٤١ : ٤٢ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ﴾
٢ هي ما يحكم العقل فيه بواسطة لا تغيب عن الذهن عند تصور طرفي القضية كقولنا: الأربعة زوج، بسبب وسط حاضر في الذهن وهو الانقسام بمتساويين.
٣ هي ما يحتاج العقل في الجزم بالحكم فيها إلى تكرار التجربة حتى تثبت بالمشاهدة مرة بعد أخرى. والحدسيات هي ما يجزم العقل بالحكم فيها بسبب تكرر المشاهدة، كقولنا: بخار الماء ذو قوة ضاغطة رافعة، ونور القمر مستفاد من نور الشمس، وكل هذا من إصلاح علم المنطق، ونحن نتحامى أمثال هذه الاصطلاحات فيما نقوله وفيما ننقله في التفسير ليفهمه جماهير القراء، ولكن هذا شيء كتبه شيخنا بخطه، فمن الأمانة نقله بحروفه..
٤ يقال قذيته أو قذيت عينه أي أخرجت القذى منها، فالهمزة للإزالة..
قدمنا أن الكلام من أول السور في القرآن وأقسام الناس بإزائه، وذكرنا منهم ثلاث فرق – فرقتان لهما فيه هدى ( إحداهما ) المتقون وبين حالهم بقوله ﴿ الذين يؤمنون بالغيب ﴾ الخ، ومنهم الذين كانوا يدعون الحنيفيين والمنصفون من أهل الكتاب الذين كانوا ينتظرون إشراق نور الحق ليهتدوا به كما تقدم.
( والثانية ) هي المذكورة في قوله تعالى ﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ الخ وهم كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وغيرهم على التحقيق.
وبينا أنه يوجد بإزاء هاتين الطائفتين طائفتان أخريان لا ترجى هدايتهما بالقرآن. الأولى منهما هي المشروح حالها في قوله تعالى ﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ الخ وهي كما قدمنا تنقسم إلى قسمين جاحدين لا يسمعون، ومعاندين يعرفون الحق ولا يذعنون.
وهذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها الآن هي المبينة لحال الفرقة الرابعة وهي فرقة من الناس توجد في كل آن وفي كل عصر. وليست الآيات كما قيل في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل.
ولذلك قال تعالى في بيان حالهم ﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ﴾ ولم يقل عنهم. إنهم يقولون مع ذلك " وآمنا بك يا محمد " وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر الذين لم يلبثوا أن انقرضوا كل هذه العناية، ويطيل في بيان حالهم أكثر مما أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس.
نعم إن الآيات على عمومها تتناول من كان منهم في عصر التنزيل تناولا أوليا وتصف حالهم وصفا مطابقا، وهي مع ذلك عبرة عامة شاملة لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف إلى يوم القيامة، وقد كان ويكون من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس ومن كل طائفة تدعي أنها على دين، ولم يحك عنهم دعوى الإيمان بالأنبياء والأعمال الصالحة – مع أن منهم الذين يدعون ذلك – لأن الإيمان باليوم الآخر يتضمن ذلك، فهو إنما يعرف من قبل الأنبياء، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي بلغت حد الإعجاز.
قد يقال : كان في أولئك القوم من كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر كمنافقي اليهود، فلم كذبهم ونفى عنهم الإيمان نفيا مطلقا مؤكدا بدخول الباء في خبر " ما " فقال ﴿ وما هم بمؤمنين ﴾ أي بداخلين في جماعة المؤمنين الصادقين ألبتة. وهو أبلغ من نفي فعل الإيمان المطابق للفظهم والمقيد بالإيمان بالله وباليوم الآخر ؟ والجواب : أن اعتقادهم التقليدي الضعيف لم يكن له أثر في أخلاقهم ولا في أعمالهم، فلو حصّل ما في صدورهم، ومحص ما في قلوبهم، وعرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم، لوجد أن ما كن لهم من عمل صالح كصلاة وصدقة فإنما مبعثه رئاء الناس، وحب السمعة، وهم من وراء ذلك منغمسون في الشرور، كالإفساد والكذب والغش والخيانة والطمع وغير ذلك من الرذائل التي حكاها عنهم الكتاب ونقلها رواة السنة، وهذه الأعمال تدل على أنهم لا يؤمنون بالله كما يحب ويرضى أن يؤمن به، وهو أن يشعر المؤمن بعظيم سلطانه، ويعلم أن الله سبحانه مطلع على سره وإعلانه، لأنه مهيمن على السرائر، وعالم بما في الضمائر، فيرضيه بظاهره وباطنه. بل كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات يظنون أنهم يرضون الله تعالى بذلك. ولذلك قال فيهم :﴿ يخادعون الله والذين آمنوا ﴾.
قدمنا أن الكلام من أول السور في القرآن وأقسام الناس بإزائه، وذكرنا منهم ثلاث فرق – فرقتان لهما فيه هدى ( إحداهما ) المتقون وبين حالهم بقوله ﴿ الذين يؤمنون بالغيب ﴾ الخ، ومنهم الذين كانوا يدعون الحنيفيين والمنصفون من أهل الكتاب الذين كانوا ينتظرون إشراق نور الحق ليهتدوا به كما تقدم.
( والثانية ) هي المذكورة في قوله تعالى ﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ الخ وهم كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وغيرهم على التحقيق.
وبينا أنه يوجد بإزاء هاتين الطائفتين طائفتان أخريان لا ترجى هدايتهما بالقرآن. الأولى منهما هي المشروح حالها في قوله تعالى ﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ الخ وهي كما قدمنا تنقسم إلى قسمين جاحدين لا يسمعون، ومعاندين يعرفون الحق ولا يذعنون.
وهذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها الآن هي المبينة لحال الفرقة الرابعة وهي فرقة من الناس توجد في كل آن وفي كل عصر. وليست الآيات كما قيل في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل.
﴿ يخادعون الله والذين آمنوا ﴾ أقول : الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لننزله عما هو بصدده من قولهم : خدع الضب إذا توارى في جحره، وضب خادع – إذا أوهم الصائد إقباله عليه ثم خرج من باب آخر، وأصله الإخفاء، هذا ما حرره البيضاوي، وقد جعله الراغب أعم، فلم يعتبر فيما يخفيه الخادع أن يكون مكروها، وهذا المعنى لا يمتنع إسناده إلى الله تعالى وإلى المؤمنين وهو ما تدل عليه صيغة المشاركة " يخادعون " وقالوا : إنه محال على الله وغير لائق بالمؤمنين بل يستقبح لأنه عمل المنافقين، وقد جاء في سورة النساء ﴿ ٤ : ١٤٢ إن النافقين يخادعون الله وهو خادعهم ﴾ ولما كان إخفاء شيء عن الله تعالى محالا فسروا مخادعتهم لله هنا وهناك بأنه خداع في الصورة لا في الحقيقة ؛ وذلك أنه شرع أن يعاملوا معاملة المؤمنين ولكنهم لا يجزون جزاءهم في الآخرة، بل يكونون في الدرك الأسفل من النار – فمعاملتهم الظاهرة غير جزائهم المغيب عنهم في الآخرة، كما أن عملهم الظاهر غير كفرهم الخفي في أنفسهم، فالجزاء من جنس العمل، ولكن عملهم خداع – ومقابله حق صورته صورة الخداع، ولكنه لا غش فيه لأن النصوص صريحة في كفر المنافقين – والتحقيق : أن فعل المشاركة هنا خاص بالفاعل المسند إليه فعله وهم المنافقون، وصيغة " فاعل " لا تطرد فيها المشاركة بالفعل كعاقبة اللص، وقد تكون مقدرة أو باعتبار الشأن أو القصد، ومن التكلف قول بعضهم إنه عبر عن مخادعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بمخادعة الله تعالى.
وقال شيخنا : العمل الظاهر الذي لا يصدقه الباطن إذا قصد به إرضاء آخر يسمى في اللغة مداجاة ومداراة ومخادعة، فإن كان يقصد به المخادعة فظاهر، وإلا فيكفي لصحة الإطلاق أن العمل عمل المخادع، لا عمل الطائع الخادع، وهذا مراد القرآن من مخادعة هؤلاء الذين هم من أهل الكتاب المؤمنين بالله إيمانا ناقصا، لم يقدروا الله فيه حق قدره، ويستحيل أن يقصد المؤمن بالله تعالى مخادعته، ولكنهم لجهلهم بالله ظنوا به ما سوغ وصفهم بما ذكر عنهم.
قال تعالى ﴿ وما يخدعون إلا أنفسهم ﴾ أقول : وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ( وما يخادعون إلا أنفسهم ) وهو دليل على ما قلنا آنفا في صيغة " فاعل " والمشاركة هنا للإشارة إلى أنهم هم الخادعون المخدوعون، وقراءة الجمهور ( يخدعون ) نص في أن مخادعتهم لله وللمؤمنين لا تأثير لها فيهما، فهي بالنسبة إليهما صورية وفي الحقيقة أن القوم يخدعون أنفسهم لأن ضرر عملهم خاص بهم، وعاقبته وبال عليهم وحدهم. وقال الأستاذ في الدرس فيها ما مثاله :
إذا رجع الإنسان إلى نفسه، وأصغى لمناجاة سره، يجد عندما يهم بعمل شيء أن في قلبه طريقين، وفي نفسه خصمين مختصمين، أحدهما يأمره بالعمل وسلوك الطريق الأعوج، وآخر ينهاه عن العوج، ويأمره بالاستقامة على المنهج، ولا يترجح عنده باعث الشر، ولا يجيب داعي السوء، إلا إذا خدع نفسه بعد المشاورة والمذاكرة المطوية فيها، وصرفها عن الحق، وزين لها الباطل، وهذه الشؤون النفسية في غاية الخفاء، تكون المنازعة ثم المخادعة ثم الترجيح ويمر ذلك كله كلمح البصر، وربما لا يلتفت إليه الإنسان بفكره، ولذلك قال ﴿ وما يشعرون ﴾ فإن الشعور هو إدراك ما خفي.
أقول : قال الراغب بعد ذكر الشعر – بفتح الشين وسكون العين وفتحها – من مفرداته وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما هو في الدقة كإصابة الشعر ومنه يسمى الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم : ليث شعري. وصار في التعارف اسما للموزون المقفى من الكلام ا ه
أقول : ويناسب هذا الشعار – بالكسر – للكساء الباطن الذي يمس شعر الإنسان. والمعروف في كتب اللغة أن شعر به – كنصر وكرم – يشعر شعرا – بالكسر والفتح – وشعورا معناه علم به وفطن له وأدركه. والفطنة تتعلق بالأمور الدقيقة وأطلق بعض المفسرين : أن الشعور إدراك المشاعر أي الحواس الخمس، والتحقيق أنه إدراك ما دق من حسي وعقلي، فلا تقول : شعرت بحلاوة العسل وبصوت الصاعقة وبألم كية النار، وإنما تقول : أشعر بحرارة ما في بدني، وبملوحة أو مرارة في هذا الماء، إذا كانت قليلة – وهيمنة وراء الجدار، وما ورد في القرآن من هذا الحرف يدل على هذا المعنى أي إدراك ما فيه دقة وخفاء.
فمعنى نفي الشعور عن المنافقين في مخادعتهم لله تعالى أنهم يجرون في كذبهم وتلبيسهم وريائهم على ما ألفوا وتعودوا، فلا يحاسبون أنفسهم عليه، ولا يراقبون الله فيه، وما كلهم يؤمنون بوجود الله وإحاطة علمه، ومن يؤمن بوجوده لم يتربّ على خشيته ومراقبته، ولا يفكر فيما يرضيه وفيما يغضبه، فهو يعمل عمل المخادع له وما يشعر بذلك. وأما مخادعتهم للمؤمنين فظاهرة لأنهم اتخذوهم أعداء وهم عاجزون عن إظهار عداوتهم، فأعمالهم التي يقصدون بها إرضاء المؤمنين كلها خداع ورياء وقد فصل شيخنا سر مخادعتهم وفلسفتها ببيان علمي جلي، فقال ما معناه : هؤلاء المغرورون إذا عرض زاجر الدين بينهم وبين شهواتهم قال لهم من أنفسهم ما يسهل لهم أمره من أمل في الغفران، أو تأويل إلى غير المراد، أو تحريف إلى ما يخالف القصد من الخطاب، وذلك بما رسخ في نفوسهم من ملكات السوء، المغشاة بصور من العقائد الملونة لما قد يتجلى للأعين فيما يسمونه إيمانا. وما هم في الحقيقة بمؤمنين، وإنما هم خادعون مخدوعون، ولكنهم لما عمي عليهم من أمر أنفسهم، لا يشعرون، لأن ذلك يمر في أنفسهم وهم عنه غافلون.
وفرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عند ما تسأل عنه : وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات، بصيرورته ملكة في النفس متصرفة في الإرادة، باعثة لها لعلى العمل. فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها – [ على النحو الذي ذكرنا فيتبع امتزاجه هذا تمكن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال. وهي ما يعبر عنه بالأخلاق والصفات كالكرم والشجاعة ونحوها فإنها إنما تنطبع في النفس تبعا للعلم الذي يلائمها ] وهو العلم الحقيقي الذي تصدر عنه الأعمال وربما يغفل الإنسان عنه ولا يلاحظه عند ما يعمل. وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره وبين وجوده وتحققه في نفسه.
ومن العلوم ما يلاحظ الإنسان أنه عنده فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة ويغيب عنها عند عدمها، لأنه لم يشر به القلب ولم يمتزج بالنفس فيصير صفة من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها [ وهذا النوع من العلم يتعلق بما تعلق به النوع الأول، كعلم الحلال والحرام الذي يحصله طلبة الفقه الإسلامي مثلا. وكعلم مزايا الفضيلة، ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق والنظار في كتب الأواخر والأوائل. لتغزير مادة العلم وتوسيع مجال القول وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل، يبقى في خزانة الخيال، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال لا إلى تحسين باطن الحال، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدنى أثر في عمل من أعمال صاحبه. وتسميته علما لأنه يدخل في تعريفه العام " صورة من الشيء حاضرة عند النفس " وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم الحقيقي ] فاستحضار هذا العلم كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه، ثم الذهول عنه ونسيانه عند الاشتغال بشيء آخر.
فهؤلاء – الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى – عندهم علم حقيقي تنبعث عنه أعمالهم، وإن كان باطلا في نفسه، وهو تصديقهم بما في شهواتهم، من المصلحة لذواتهم، وهو الذي رجح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الاعتقادات الدينية، فأبعدهم ذلك عن الاعتقاد الحقيقي الذي يعتد به وجعله رسما مخزونا في الخيال، لا أثر له في الأفعال، يدعونه بألسنتهم، وتكذيبهم في دعواهم أعمالهم وأحوالهم، ولذلك نسبهم إلى الدعوى القولية ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأول ﴿ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ﴾ فإنه هناك ذكر إيمانهم وقفى عليه بذكر العمل الذي يشهد له. ومن هنا يعلم ما الإيمان الذي يعتد به القرآن وهو يظهر لمن يقرأ القرآن ليحاسب به نفسه، ويزن إيمانه وأعماله لما يحكم به على إيمان من قبله وأعمالهم، لا لمن يقرؤه على أنه قصة تاريخية مات من يحكى عنها، واستثنى القارئ نفسه ممن حكم عليهم فيها، فإن كان مات من كانوا سبب النزول فالقرآن حي لا يموت، ينطبق حكمه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان [ فكل مؤمن بالله واليوم الآخر ومع ذلك يصدر في عمله عن شهواته، ولا يمنعه عن ركوب خطيئاته، فاعتقاده إنما هو خيال، لا يعلو عن لفظ في مقال، ودعوى عند جدال، فإذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه، مخادع لربه يظن أن علام الغيوب، لا ينظر إلى ما في القلوب ].
قدمنا أن الكلام من أول السور في القرآن وأقسام الناس بإزائه، وذكرنا منهم ثلاث فرق – فرقتان لهما فيه هدى ( إحداهما ) المتقون وبين حالهم بقوله ﴿ الذين يؤمنون بالغيب ﴾ الخ، ومنهم الذين كانوا يدعون الحنيفيين والمنصفون من أهل الكتاب الذين كانوا ينتظرون إشراق نور الحق ليهتدوا به كما تقدم.
( والثانية ) هي المذكورة في قوله تعالى ﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ الخ وهم كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وغيرهم على التحقيق.
وبينا أنه يوجد بإزاء هاتين الطائفتين طائفتان أخريان لا ترجى هدايتهما بالقرآن. الأولى منهما هي المشروح حالها في قوله تعالى ﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ الخ وهي كما قدمنا تنقسم إلى قسمين جاحدين لا يسمعون، ومعاندين يعرفون الحق ولا يذعنون.
وهذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها الآن هي المبينة لحال الفرقة الرابعة وهي فرقة من الناس توجد في كل آن وفي كل عصر. وليست الآيات كما قيل في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل.
﴿ في قلوبهم مرض ﴾ عهد عند العرب التعبير عن العقول بالقلوب والمرض هو ما يطرأ على العقول فيضعف تعقلها وإدراكها، والشك والوهم من أعراض هذا المرض، فهو ظلمة تعرض للعقل فتقف بشعاعه أن ينفذ إلى ما وراء التكاليف والأحكام من الأسرار والحكم. وهذا النفوذ هو الفقه في الدين الذي يسوق النفس إلى الأخذ به ظاهرا وباطنا وقد عبر القرآن عن فقد أمثال هؤلاء لهذا بقوله ﴿ ٧ : ١٧٩ لهم قلوب لا يفقهون بها ﴾ وربما كان التعبير عن العقول بالقلوب في مثل هذا المقام، لأن القلب يظهر فيه أثر الوجدان الذي هو السائق إلى الأعمال [ يظهر لك ذلك بما تجده من اضطراب قلبك عند اشتداد الخوف أو اشتداد الفرح، فإنك تحس بزيادة ضرباته وشدة نبضاته ] فصورة الاعتقاد إذا تناولها العقل من طريق التقليد والتسليم، فجعلها في زاوية من زوايا الدماغ، لم يكن لها سلطان على القلب ولا تأثير في الوجدان، واعتقاد لا يصحبه هذا السلطان ولا يصدر عنه هذا التأثير، لا يعتد الله تعالى به ولا يستفيد الإنسان منه كما تقدم آنفا، فمن لم يطرق الإيمان قلبه بقوة البرهان ولم يحل مذاقه منه في الوجدان، بحيث يكون هو المصرف له في أعماله لا ينفعه إيمانه، إلا إذا تمرن على الأعمال الصالحة عن فهم وإخلاص، حتى يحدث لقلبه الوجدان الصالح، فأهل اليقين ببعثهم يقينهم على العمل الصالح، وأهل التقليد تلحقهم أعمالهم الصالحة بأهل اليقين في الانتفاع بإيمانهم، وهذا الفريق الذي تحكي عنه الآيات، وتصفه بالكذب والخداع، " قد فقد الأمرين معا، ولا صحة للقلب إلا بهما، فمن فقدهما مرض ولا يلبث مرضه أن يقتله.
قال الأستاذ الإمام ما معناه : ولضعف العقل أسباب. منها : ما هو فطري كما هو حال أهل البله والعته، وهو الذي لا يكلف صاحبه ولا يلام، ومنها : ما يكون من فسد التربية العقلية كما هو حال المقلدين الذين لا يستعملون عقولهم، وإنما يكتفون بما عليه قومهم من الأوهام والخيالات، ويرين على قلوبهم ما يكسبونه من السيئات، وما يكونون عليه من التقاليد والعادات، ولا يعتنون بما أمر الله به من تمزيق هذه الحجب، وإزالة هذه السحب، للوقوف على ما وراءها من مخدرات العرفان، ونجوم الفرقان وشموس الإيمان، بل يكتفون بما حكى الله عنهم في قوله ﴿ ٤٣ : ٢٣ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثرهم مقتدون ﴾ حتى يجئ اليوم الذي يقولون فيه ﴿ ٣٣ : ٦٧ ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ﴾.
وأقول : إن المرض في أصل اللغة : خروج البدن عن اعتدال مزاجه وصحة أعضائه فيختل به بعض وظائفها وأعمالها، وتعرض الآلام لها. ويطلق مجازا على اختلال مزاج النفس، وما يخل بكمالها من نفاق وجهل، وارتياب وشك، وغير ذلك من فساد الاعتقاد الحق، واضطراب حكم العقل وفساد الخلق، والمرض هنا من النوع الثاني كما تقدم آنفا، وخصه شيخنا بمنافقي اليهود، فقال ما معناه : كان في قلوبهم مرض قبل مجئ النذير، وبيان الرشد من الغي، عندما كانوا في فترة حظهم من الكتب قراءة ألفاظها، ومن الأعمال إقامة صورها ؛
﴿ فزادهم الله مرضا ﴾ بعد ما جاءهم البرهان المنير ببعثة البشير النذير، ووجدوا منه زعزعة في أنفسهم ؛ ولكن أخذتهم العزة بالإثم فأبوا الإيمان ؛ ونبوا عن القرآن ؛ [ وزاد تمسكهم بما كانوا عليه واشتد حرصهم عليه ] فكان شعاع النور الذي جاء به الرسول عمى في أعينهم ؛ ومرضا على مرضهم ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي عذاب مؤلم فوق هذه الأمراض ؛ " أليم " صيغة فعيل من ألم يألم فهو أليم وصف به العذاب نفسه ﴿ بما كانوا يكذبون ﴾ [ في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر ؛ فإنهم لم يصدقوا بأعمالهم ؛ ما يزعمونه من حالهم ].
أقول : وأما مرض منافقي المدينة من العرب فهو الشك في نبوته صلى الله عليه وسلم كما روى عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما وعن الأول : أنه النفاق. وعن بعض تلاميذه : الرياء. وحسبك في زيادة مرضهم قوله تعالى ﴿ ٩ : ١٢٥ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ؟ - إلى قوله – وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ﴾.
أقول : قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( يكذبون ) بالتخفيف أي بسبب كذبهم ؛ وقرأ الباقون ( يكذبون ) بالتشديد أي ولهم عذاب أليم بسبب تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم والحكمة في القراءتين : إثبات جمعهم للرذيلتين، أي الكذب في دعوى الإيمان، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والسلام، والثانية سبب الأولى ؛ وهم إنما كانوا يكذبونه في أنفسهم، وفيما بينهم إذا خلوا إلى شياطينهم والعذاب عقوبة عليهما معا، أي على التكذيب وهو الكفر وعلى الكذب في دعوى الإيمان وهو النفاق. وهؤلاء في باطنهم شر من الذين كفروا عنادا من رؤساء قريش، فإنهم يكذبونه صلى الله عليه وسلم وإنما كانوا يجحدون جحود استكبار قال تعالى ﴿ ٦ : ٣٣ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ قال شيخنا : والقراءة الأولى هي المشهورة والعذاب فيها مقرون بالكذب لا بالتكذيب. وقد يقال : لم يجعل العذاب جزاء الكذب دون الكفر ؟ والجواب أن الكفر داخل في هذا الكذب، وإنما اختير لفظ الكذب في التعبير للتحذير عنه، وبيان فظاعته وعظم جرمه، ولبيان أن الكفر من مشتملاته، وينتهي إليه في غاياته، ولذلك حذر القرآن منه أشد التحذير، وتوعد عليه أسوأ الوعيد، وما فشا الكذب في قوم إلا فشت فيهم كل جريمة وكبيرة، لأنه ينشأ من دناءة النفس وضعف الحياء والمروءة، ومن كان كذلك لا يترك قبيحا إلا بالعجز عنه، نعوذ بالله تعالى من عمله ومنه. ا ه بالمعنى أن السؤال لا يرد إلا على قراءة التشديد.
تنطق هذه الآيات بأن ما عليه هذا الصنف من الغرور بما عنده من التقاليد قد سول له الباطل وزين له سوء عمله فرآه حسنا، وشوه في نظره كل حق لم يأته على لسان رؤسائه ومقلديه بنصه التفصيلي، فهو يراه قبيحا.
وقد صورت الآيات هذا الغرور بما حكته عن بعض أفراده وهو :﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ﴾ بما تصدون عن سبيل الله من آمن وتبغونها عوجاء، وتنفرون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء من الإصلاح، الذي يجتث أصول الفساد، ويصطلم جراثيم الأداء، ويحيي ما أماتته البدع من إرشاد الدين، ويقيم ما قوضته التقاليد من سنن المرسلين ﴿ قالوا إنما نحن مصلحون ﴾ بالتمسك بما استنبطه الرؤساء، وما كان عليه الأحبار والعرفاء، من تعاليم الأنبياء، فإنهم أعرف بسنتهم، وأدرى بطريقتهم، فكيف ندع ما تلقيناه منهم، ونذر ما يؤثر آباؤنا وشيوخنا عنهم، ونأخذ بشيء جديد، وطارف ليس له تليد ؟
هكذا شأن كل مفسد : يدعي أنه مصلح في نفس إفساده، فإن كان على بينة من إفساده عارفا أنه مضل – وإنما يكون كذلك إذا كان إفساده لغيره لعداوة منه له – فإنما يدعى ذلك لتبرئة نفسه من وصمة الإفساد بالتمويه والمواربة. وإن كان مسوقا إلى الإفساد بسوء التقليد الأعمى الذي لا ميزان فيه لمعرفة الإصلاح من الإفساد إلا الثقة بالرؤساء المقلدين، فهو يدعيه عن اعتقاد ولا يريد أن يفهم غير ما تلقاه عنهم : وإن كان أثر تقليدهم، والسير على طريقتهم، مفسدا للأمة في الواقع ونفس الأمر، لأن الوجود والحقيقة الواقعة لا قيمة لهما ولا اعتبار في نظر المقلدين بل هم لا يعرفون مناشئ الفساد ومصادر الخلل، ولا مزالق الزلل، لأنهم عطلوا نظرهم الذي يميز ذلك، وأرادوا أن يوقعوا غيرهم بهذه المهالك، بصدهم عن سبيل الإسلام، الداعي إلى الوحدة والالتئام. فكان ذلك منهم دعاء إلى الفرقة والانفصام، والثبات على عبادة الملائكة أو البشر أو الأصنام. وأي إفساد في الأرض أعظم من التنفير عن اتباع الحق، وعن الاعتصام بدين فيه سعادة الدارين، والأرض إنما تفسد وتصلح بأهلها ؟ ولذلك قال تعالى ﴿ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ﴾.
وإذا كانت الآيات في وصف طائفة من الناس توجد في كل أمة كما قدمنا فليحاسب بها نفسه كل مسلم يعتقد أن القرآن إمامه، وأن فيه هدى له فإنها حجة على كثير ممن يدعون الإسلام بالقول ويعملون بخلاف ما جاء به، ويتبعون غير سبيله ؟
وأقول الآن : هذه جملة ما قرره شيخنا في الدرس واضعا نصب عينيه منافقي اليهود، ولاسيما فقهائهم الذين كانوا مجاورين للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وشدة الشبه بينهم وبين فقهاء السوء، ولاسيما فقهاء عصرنا هذا – ولذلك نبه لعموم الآيات وشمولها لهم لها عودا على بدء، وإنما مراده بنفي الرياء عنهم أنهم يعتقدون ما قالوا هنا، وهو لا ينفي رياءهم في غيره من أقوالهم وأفعالهم. وقد كان لأولئك الأحبار والرؤساء من الإفساد غير ما ذكر، ومنه إغراء المشركين بقتال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ووعدهم بمساعدتهم عليه، وهذا إفساد كبير في الأرض، وكانوا يستبيحونه بأنه توسل إلى حفظ سلطتهم ورياستهم المهددة بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
ولم يذكر فيما كتبت عنه رأيه فيمن سألهم وقال لهم ما ذكر وأجابوه بهذا الجواب، هل هو الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنون ؟ وهي الاحتمالات التي ذكرها المفسرون – وزاد بعضهم رابعا وهو أن يكون بعضهم سأل بعضا لما كانوا عليه من اختلاف الحال وتباين الآراء، كما قال تعالى فيهم ﴿ ٥٩ : ١٤ تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ﴾ فأي مانع لنهي بعضهم لبعض عن نكث ما عاهدهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من إقرارهم على دينهم وحفظ أموالهم وأنفسهم بأن لا يؤلبوا عليه المشركين ولا يساعدوهم عليه – وأن يقولوا للناكثين المفسدين : إن الحرب فساد عظيم لا يؤمن أن يتعدى إلينا شرها فيطير من شررها ما نحترق به، فدعوا تأليب قوم محمد عليه ؟ - ثم أي مانع يمنع أن يجيبهم أولئك المفسدون ككعب بن الأشرف : إنما نحن مصلحون بمساعدة قومه عليه، لأننا نخشى منه ما لا نخشى منهم، فقد عشنا معهم أجيالا لم ينازعنا منهم أحد في صحة ديننا، لأنهم لا يدعون إلى شركهم ولا يحتقرون ما نحن عليه من الدين : بل يروننا فوقهم في العلم، ومنهم من يعطينا أولاده لتربيتهم ولا يكرهون أن نلقنهم ديننا، وأما محمد فيقول إننا ضللنا عن ديننا نفسه ويعيبنا بتحريف سلفنا وخلفنا لكتابنا، وبما كان من مخازي تاريخنا، كقتل الأنبياء، ونكث العهود، وأكل السحت. فإذا كان له الغلب على مشركي قومه لا نأمن أن يبقى لنا ديننا ومكانتنا السامية في بلاد العرب، وإن هو حفظ عهده لنا، ولم يغدر فيقاتلنا، فكيف إذا هو غدر بنا وقاتلنا بعد الفراغ من قومه ؟
هذا أقرب إلى المعقول مما قاله المفسرون في السؤال والسائل، وفيه وجه آخر لعله أقوى، وهو أن السؤال والجواب مفروضان فرضا، والمراد بيان حالهم في هذا الأمر وما تنطوي عليه جوانحهم بصيغة السؤال والجواب التي هي أقوى أساليب الكلام تنبيها للأذهان، وتوجيها لها إلى الإحاطة بمعاني الكلام، ولذلك يستعملها العلماء في بيان مهمات المسائل وحل عويص المشاكل، يقولون : إذا قيل كذا قلنا كذا، وإن سئلنا عن هذا أجبنا بكذا. وأما الفرق بين الشرطين في مثل هذا الأسلوب فالبلاغة تقتضي أن يكون السؤال بإذا عما كان سببه قويا من شأنه ألا يسكت عنه، ويصدر بأن إذا كان سببه ضعيفا ولكنه محتمل، فيجاب عنه احتياطا.
ثم أقول : إن ما تقدم مبني على أن السؤال والجواب في بيان حال منافقي اليهود، وهو المختار عند شيخنا. وقد ورد في التفسير المأثور جعله في بيان حال منافقي المدينة من العرب كعبد الله بن أبيّ ابن سلول وحزبه. فإنهم كانوا يفسدون في الأرض بالتشكيك في الدين، وبتفريق كلمة المؤمنين، كما فعلوا في غزوة أحد ثم في غزوة تبوك، فكان هذا شأنهم وإن كانت الغزوتان بعد نزول هذه السورة.
وروى تفسير إفسادهم بالكفر والمعاصي، وما قلناه منه ولكنه أخص وهو المتبادر. ودعواهم أن هذا إصلاح كدعواهم الإيمان، وكل مفسد وضال يسمى إفساده وضلاله بأسماء حسنة. كما يسمون الشرك بالله في زمننا بدعاء غيره : توسلا. وعن ابن عباس أنهم كانوا يقولون : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب ثم صورت الآيات ذلك الجهل والغرور في الفريقين بصورة أخرى أشد تشويها مما قبلها، لأن تلك صورتهم في عملهم، وهذه صورتهم في جوهر إيمانهم، وهي ﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ﴾
﴿ ولكن لا يعلمون ﴾ أن السفه محصور فيهم، ومقصور عليهم، وإنما عندهم شعور ما بأنهم ركبوا هواهم، ولم يتبعوا هدى سلفهم ولا هداهم، ينتحلون له العلل الضعيفة، وينتحلون له الأعذار السخيفة، فهو لم يصل إلى حد العلم الذي تتكيف به النفس. ويكفي في إثبات سفههم أنهم يعرفون حسن حال سلفهم، ويعترفون به، ولكن لا يقتدون بهم، ولا يقتفون أثرهم، وإنما يعتمدون في نجاتهم وسعادتهم على تلك الأماني والتعلات، كقولهم ﴿ : ٢٤ لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ﴾ وقولهم ﴿ ٥ : ١٨ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ وشعبه وأصفياؤه ؛ ولا يصح نفي الشعور عنهم في هذا المقام مع ذلك الاعتراف، وإنما هو نفي العلم الكامل الذي يزيل الشبه ويذهب بالعلل، ويبعث على الاقتداء بالعمل.
وهذا أيضا حجة على كثير من اللابسين لباس الإسلام، وهم من هذا الصنف يعتقدون كمال سلفهم، ولا يقتدون بهم، وإنما يطمعون في سعادة الدنيا والآخرة بانتسابهم إلى أولئك السلف العظام، ولكونهم من أمة النبي عليه الصلاة والسلام وهي خير أمة الأمم بشهادة الله في القدم، ولكنهم لا يعلمون أنها فضلت سواها بكونها أمة وسطا تقوم على جادة الاعتدال، في العقائد والأخلاق والأعمال، وتسعى في إصلاح البشر، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما سيأتي في تفسير ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ﴾ وتفسير ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ وليس عند هؤلاء السفهاء شيء من هذه الصفات، إلا الأماني والتعلات.
وأزيد في هذا السياق الذي شرحت به قول شيخنا في الدرس : تذكير هؤلاء المرضى القلوب من المسلمين، الذين اتبعوا سنن من قبلهم في هذا كما اتبعوهم في غيره " شبرا بشبر وذراعا بذراع " كما ورد في حديث الصحيحين – أزيد فيه تذكيرهم بقوله تعالى في أهل الكتاب الآتي في هذه السورة – ﴿ لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ﴾ وقوله فيهم وفي أفضل سلف هذه الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم :﴿ ٤ : ١٢٢ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يحز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ﴾ الآيات.
ثم أقول : إن جريان هذا السؤال والجواب في منافقي العرب أظهر مما قبله – فعبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه من منافقي المدينة كانوا أبعد عن الإيمان وأدنى إلى مخادعة الله ورسوله والمؤمنين من منافقي اليهود في أنفسهم وقومهم ومع المؤمنين. ولا شك أنهم كانوا يعدون المؤمنين الصادقين سفهاء الأحلام، في إتباعهم للرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، أما المهاجرون منهم فلأنهم عادوا قومهم وأقاربهم وهجروا وطنهم وتركوا ديارهم ليكونوا تابعين له. وأما الأنصار فلأنهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم. وكون هذا من السفه عند غير المؤمن بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به ظاهر جليّ، ولذلك نفى عنهم الشعور بأنهم هم السفهاء دون المؤمنين، ويؤيد ما قلته : ما حكاه الله تعالى عنهم في سورتهم بقوله ﴿ ٦٣ : ٧ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا. ولله خزائن السموات والأرض، ولكن المنافقين لا يفقهون ﴾.
هذا – وإننا أشرنا إلى نكتة اختلاف التعبير في نفي الشعور عن المنافقين في موضعين ونفي العلم في موضع واحد من هذه الآيات. وأزيد عليه في نكتة نفي العلم الآن ما ينبه الأذهان، إلى دقة التعبير في القرآن. وهو أن أمر الإيمان لا يتحقق إلا بالعلم اليقيني، فموضوعه علمي، ثم إن ثمرته السعادة في الدنيا والآخرة، ولا يدرك ذلك إلا من علم حقيقته. فنفي عنهم العلم بأنهم هم السفهاء فيما رموا به المؤمنين بالسفاه، بشبهة أنهم أخطأوا مصلحتهم ومصلحة قومهم الأنصار ومصلحة أمتهم العربية في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لأن عدم العلم بذلك سببه عدم العلم بكنه الإيمان وعاقبته. ومن جهل الملزوم كان بلوازمه أجهل، فكأنه قال : ولكن لا يعلمون ما الإيمان، حتى يعلموا أن المؤمنين سفهاء غاوون، أو عقلاء راشدون، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهم جاهلون به ويجهلون أنهم جاهلون.
ومن مباحث الأداء في الآيات : ما في اجتماع الهمزتين من آخر السفهاء وأول " ألا " من قراءة تحقيقهما بالنطق بهما معا وقراءتي تحقيق الأولى وتليين الثانية وعكسه، وقراءة بعضهم بهمزة واحدة وكذلك أمثالها من كل همزتين في كلمتين.
الآيات التي تقدمت في وصف هذا الصنف من الناس الذي قلنا إنه يوجد في كل أمة وملة وفي كل عصر، كانت عامة تصور حال أفراده في كل زمان ومكان وكان أسلوبها ظاهرا في العموم كقوله ﴿ يخادعون ﴾ الخ، وقوله : وإذا قيل لهم كذا – قالوا كيت وكيت.
وأما قوله تعالى :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ﴾ الآية، فهو وصف قد يختص ببعض أفراد هذا الصنف ممن كان في عصر التنزيل، جاء بعد الأوصاف العامة، وحكى بصيغة الماضي، ليكون كالتصريح بتوبيخ تلك الفئة من هذا الصنف، التي بلغت من التهتك في النفاق، والفساد في الأخلاق ؛ أن تظهر بوجهين، وتتكلم بلسانين، وما بلغ كل أفراد الصنف هذا المبلغ من الفساد والضعف.
ولهذه الخصوصية في الآية قال بعض الواهمين : إن جميع تلك الآيات في منافقي ذلك العصر. وقد مر تفنيده فلا نعيده. على أن هذه الفئة أيضا توجد في كل عصر وزمان، يكون فيه لأهل الحق قوة وسلطان، والحكاية عنها بصيغة الماضي الواقع لا تنافي ذلك. لأن " إذا " تدل على المستقبل، فمعنى الفعل مستقبل، وإنما اختيرت صيغة الماضي لتوبيخ أولئك الأفراد وإيذانهم بأن بضاعة النفاق والمداجاة، لا تروج في سوق المؤمنين لأنها مزجاة، وأن استهزائهم مردود إليهم، ووباله عائد عليهم.
كان أولئك النفر يدهنون في دينهم، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون، ﴿ وإذا خلوا إلى شياطينهم ﴾ من دعاة الفتنة وعمال الإفساد وأنصار الباطل، الذين يصدون عن سبيل الحق بما يقيمون أمامه من عقبات الوساوس والأوهام، وما يلقون فيه من أشواك المعايب وتضاريس المذام، وقال مفسرنا ( الجلال ) إنهم الرؤساء، والصواب ما قلنا، وكم من رئيس مغمول، لما في نفسه من الضعف والخمول، لا ينصر اعتقاده، وإن كان معترفا بأن فيه رشاده، وفي عزته عزه وإسعاده. وكم من مرءوس شديد العزيمة ؛ قوى الشكيمة، يكون له في نصر ملته، والمدافعة عن أمته، ما يعجز عنه الرؤساء، ولا يأتي على أيدي الأمراء.
وللذبابة في الجرح الممد يد | تنال ما قصرت عنه يد الأسد. |
أقول : هذا ملخص سياق الدرس. وقال الراغب : العمه التردد في الأمر من التحير. يقال : عمه فهو عنه وعامه وجمعه عمه ( بالتشديد ) ا ه والاستهزاء فعل الهزء – بسكون الزاي وضمها – وقصده بالعمل وهو اسم من هزئت به ومنه، وفي لغة هزأت – فهو من بابي تعب ونفع – واستهزأت به أي استخفت به وسخرت منه.
وقال البيضاوي : والاستهزاء السخرية والاستخفاف، يقال : هزأت به واستهزأت بمعنى – كأجبت واستجبت – وأصله الخفة، من الهزؤ وهو القتل السريع، يقال : هزأ فلان إذا مات، وناقته تهزأ به، أي تسرع وتخف. وقال الراغب الهزء مزح في خفية، وقد يقال لما هو كالمزح. ثم قال : والاستهزاء ارتياد الهزؤ وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزؤ كالاستجابة في كونها ارتيادا للإجابة، وإن كان يجري مجرى الإجابة. ثم قال بعد ذكر آيات من الشواهد : والاستهزاء من الله في الحقيقة لا يصح كما لا يصح من الله اللهو واللعب تعالى الله عنه. وقوله ﴿ الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ﴾ أي يجازيهم جزاء الهزؤ، ومعناه : أنه أمهلهم مدة ثم أخذهم مغافصة ( أي مفاجأة على غرة ) فسمى إمهاله إياهم استهزاء من حيث إنهم اغتروا به اغتراره بالهزؤ فيكون ذلك كالاستدراج من حيث لا يعلمون. ا ه. وأشهر الأقوال : أن معناه يجازيهم بالعقاب على استهزائهم أو يعاملهم معاملة المستهزئ بهم ﴿ ٥٧ : ١٣ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : انظرونا نقتبس من نوركم، قيل أرجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ﴾ الآية وقال تعالى ﴿ ٨٣ : ٢٩- ٣٥ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون – إلى قوله – فاليوم الذين آمنون من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون ﴾ وقيل : إن استهزاءه تعالى بهم إجراؤه أحكام المسلمين عليهم في الدنيا كما مر في خداعه لهم.
والطغيان مجاوزة الحد في العصيان. مأخوذ من طغيان الماء وهو تجاوز فيضانه الحد المألوف. والمدّ الزيادة في الشيء متصلة به، يقال : مد البحر زاد وارتفع ماؤه وانبسط. ومده الله قال تعالى ﴿ ٣١ : ٢٨ والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ﴾ ومد البحر يقابله الجزر، وهو انحسارا مائه عن الساحل ونقصان امتداده. ويسمى السيل مدا في قبيل التسمية بالمصدر، ومنه المدة من الزمان، والمدد – بالتحريك – للجيش. يقال مده وأمده. قال تعالى ﴿ ١٩ : ٧٥ قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمان مدا * حتى إذا رأوا ما يوعدون – إما العذاب وإما الساعة – فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ﴾ وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى في تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام ﴿ ٦ : ١٠٩ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ والمعنى : أن سنة الله تعالى في الذين وصلوا إلى هذه الغاية من فساد الفطرة هو ما بينه بقوله فيهم :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴾.
أحدهما : أن الاستبدال لا يكون شراء إلا إذا كان فيه فائدة يقصدها المستبدل منه، سواء كانت الفائدة حقيقية أو وهمية.
ثانيهما : أن الشراء يكون بين متبايعين بخلاف الاستبدال، فإذا أخذت ثوبا من ثيابك بدل آخر، يقال إنك استبدلت ثوبا بثوب، فالمعنى الذي تؤديه الآية : أن أولئك القوم اختاروا الضلالة على الهدى لفائدة لهم بإزائها يعتقدون الحصول عليها من الناس، فهو معاوضة بين طرفين يقصد بها الربح، وهذا هو معنى الاشتراء والشراء، ومثلهما البيع والابتياع، لا يؤديه مطلق الاستبدال ذلك بأنه كان عندهم كتب سماوية فيها مواعظ وأحكام، وفيها بشارة بأن الله يرسل إليهم نبيا يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصر التقاليد وأغلال التقيد بإرادة العبيد، ويرعى جميع الأمم بقضيب من حديد، فيرجع للعقول نعمة الاستقلال، ويجعل إرادة الأفراد هي المصرفة للأعمال فكان عندهم بذلك حظ من هداية العقل والمشاعر وهداية الدين والكتاب، ولكن نجمت فيهم الأحداث والبدع، وتحكمت فيهم العادات والتقاليد، وعلا سلطان ذلك كله على سلطان الدين، فضل الرؤساء في فهمه، بتحكيم تقاليدهم في أحكامه وعقائده، بضروب من التحريف والتأويل. وأهمل المرءوسون العقل والنظر في الكتاب بحظر الرؤساء وأثرتهم، فكان الجميع على ضلالة في استعمال العقل وفي فهم الكتاب، بعد أن كانا هدايتين ممنوحتين لهم لإسعادهم، وكانت المعاوضة عند الفريقين في ذلك بالمنافع الدنيوية : للرؤساء المال والجاه والتعظيم والتكريم باسم الدين، والمرؤوسين الاستعانة بجاه رؤساء الدين على مصالحهم ومنافعهم، ورفع أثقال التكاليف، بفتاوى التأويل والتحريف. هكذا استحبوا العمي على الهدى – وهو العقل والدين – رغبة في الحطام، وطمعا في الجاه الكاذب ﴿ فما ربحت تجارتهم ﴾ في الدنيا، إذ لم تثمر لهم ثمرة حقيقية، بل خسروا وخابوا إهمالهم النظر الصحيح الذي لا تقوم المصالح ولا تحفظ المنافع إلا به. وإسناد الربح إلى التجارة عربي في غاية الفصاحة لأن الربح هو النماء في التجر، وهذه المعاوضة هي التي من شأنها أن تثمر الربح، فإسناده إليها نفيا أو إثباتا إسناد صحيح لا يحتاج إلى التأويل [ كأنه قيل فلم يكن نماء في تجارتهم. على أن ذلك التأويل المعروف من أن إسناد الربح إلى التجارة لأنها سببه والوسيلة إليه وأن العبارة من المجاز العقلي – تأويل يتفق مع البلاغة ولا ينافيها، ولا زال المجاز العقلي من أفضل ما يزين البلغاء به كلامهم. ويبلغون به ما يشاءون من تفخيم معانيهم ].
﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ في دينهم لأنهم لم يأخذوه على وجهه ولم يفهموه حق فهمه أو ما كانوا مهتدين في هذه التجارة لأنهم باعوا فيها ما وهبهم الله من الهدى والنور بظلمات التقاليد وضلالات الأهواء والبدع التي زجوا أنفسهم فيها – أو ما كانوا مهتدين في طور من الأطوار ولا مس الرشد قلوبهم في وقت من الأوقات لأنهم نشؤوا على التقليد الأعمى من أول وهلة ولم يستعملوا عقولهم قط في فهم أسراره، واقتباس أنواره. ولا يذهبن الوهم إلى أن اشتراء الضلالة بالهدى يفيد أنهم كانوا مهتدين ثم تركوا الهدى للضلالة، فيتناقض أول الآية مع آخرها، إذ ليس لكل من منح الهدى يأخذ به فيكون مهتديا، وهؤلاء حمّلوه، فباعوه ولم يحملوه، وينظر إلى هذا الاشتراء، ويشبه الاستحباب في قوله تعالى ﴿ ٤١ : ١٧ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمي على الهدى ﴾ والله أعلم.
ومن مباحث الأداء قراءة حمزة والكسائي ( الهدى ) بالإمالة أي جعل مدها بين الألف والياء، وهي لغة بني تميم، وعدم الإمالة لغة قريش وهي الفصحى، ولما كان يعسر على لسان من اعتادها تركها أذن الله تعالى بها فيما أقرأ جبريل النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول : المثل بفتحتين والمثل بالكسر والمثيل كالشبه والشبه والشبيه وزنا ومعنى في الجملة، وهو من مثل الشيء مثولا إذا انتصب بارزا فهو ماثل. ومثل الشيء – بالتحريك – صفته التي توضحه وتكشف عن حقيقته أو ما يراد بيانه من نعومته وأحواله. ويكون حقيقة ومجازا، وأبلغه : تمثيل المعاني المعقولة بالصور الحسية وعكسه ومنه الأمثال المضروبة وتسمى الأمثال السائرة، وسيأتي تحقيق معناها في تفسير ﴿ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما ﴾ ومنه ما يسميه البيانيون الاستعارة التمثيلية وهو خاص بالمجاز. والتمثيل مثل أساليب البلاغة وأشدها تأثيرا في النفس وإقناعا للعقل، قال تعالى ﴿ ٢٩ : ٤٣ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾ وما رأيت أحدا من علماء البلاغة وفاه حقه من البيان المقنع إلا إمامهم الشيخ عبد القهار الجرجاني في كتابه ( أسرار البلاغة ) وهاك ما كنت كتبت في تفسير هذا المثل ثم ما بعده إجمالا ثم تفصيلا، مقتبسا معانيه من دروس أستاذنا الإمام :
هذا مثل من مثلين ضربهما الله في هذه الآيات للصنف الثالث من الناس الذين قرع القرآن أبواب قلوبهم. وكان من عناية الله تعالى في بيان حاله أن قفّى على ذلك التفصيل في شر فرقه وأطوارهم بضرب المثل الذي يقصد به تجلى المعنى في أتم مجاليه، وتأثر النفوس بما أودع فيه، ناهيك بما في التنقل في الأساليب من توجيه الذهن إلى سابق القول ودعوة الفكر إلى مراجعة ما مضى منه. ولولا أن بلاء هذا الصنف عظيم، وداءه دفين، وعلاجه متعسر – لأنه متولد من الدواء الذي كان يجب أن تكون فيه الصحة ونعمة العافية – لما كان من البلاغة ولا من الحكمة، أن يعني بشأنه كل هذه العناية، كما قلنا في تزييف رأي من ذهب إلى أن الكلام في تلك الشرذمة من المنافقين في عصر التنزيل ضرب الله تعالى لهذا الصنف في مجموعه مثلين، ينبئان بانقسامه إلى فريقين، خلافا لما في أكثر التفاسير في أن المثلين لفريق واحد، وأن معناهما وموضوعهما واحد.
( الأول ) من آتاهم الله دينا وهداية عمل بها سلفهم فجنوا ثمرها، وصلح حالهم بها، أيام كانوا مستقيمين على الطريقة، آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطنا، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم، بل ظنوا أن ما كان عند سلفهم من نعمة وسعادة إنما كان أمرا خصوا به، أو خيرا سيق إليهم، لظاهر قول أو عمل امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ذلك العمل لم يخالط سرائرهم، ولم تصلح به ضمائرهم، فأخذوا بتقاليد وعادات لم تدع في نفوسهم مجالا لغيرها، ولذلك لم يتفكروا قط في كونهم أحرى بالتمتع بتلك السعادة والسيادة من سلفهم، لأن حفظ الموجود، أيسر من إيجاد المفقود، بل لم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اقتدى من قبلهم بما فيه من شموس العرفان، ونجوم الفرقان، لزعمهم أن فهمه لا يرتقي إليه إلا أفراد من رؤساء الدين، يؤخذ بأقوالهم ما وجدوا، وبكتبهم إذا فقدوا.
فمثل هذا الفريق من الصنف المخذول في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية، وحرمانه من الاهتداء بها بالمرة، وانطماس الآثار دونها عنده – مثل من استوقد نارا الخ. والوجه في التمثيل : أن من يدعي الإيمان بكتاب نزل من عند ربه قد طلب بذلك الإيمان أن توقد له نار يهتدي بها في الشبهات، ويستضئ بها في ظلمات الريب والمشكلات، ويبصر على ضوئها ما قد يهجم عليه من مفترسة الأهواء والشهوات، فلما أضاءت ما حوله بما أودعته من الهدى والرشاد، وكاد بالنظر فيها يمشي على هداية وسداد – هجمت عليه من نفسه ظلمة التقليد الخبيث، وعصب عينيه شيطان الغرور، فذهب عنه ذلك النور، وأطبق عليه جو الضلالة بل طفئ فيه نور الفطرة، وتعطلت قوى الشعور بما بين يديه، فهم بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.
وأما الفريق الثاني فقد ضرب الله له المثل في قوله ﴿ أو كصيب من السماء ﴾ الخ، وهو الذي بقي له بصيص من النور، فله نظرات ترمي إلى ما بين يديه من الهداية أحيانا، ولمعاني التنزيل يسطع على نفسه الفينة بعد الفينة، ويتألق في نظره الحين بعد الحين، عند ما تحركه الفطرة، أو تدفعه الحوادث للنظر فيما بين يديه، ولكنه من التقاليد والبدع في ظلمات حوالك، ومن الخبط فيها على حال لا تخلو من المهالك، وهو في تخبطه يسمع قوارع الإنذار الإلهي ويبرق في عينيه نورا لهداية، فإذا أضاء له ذلك البرق السماوي سار، وإذا انصرف عنه بشبه الضلالات الغرارة قام وتحير لا يدري أين يذهب. ثم إنه ليعرض عن سماع نذر الكتاب ودعاة الحق، كمن يضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع إرشاد المرشد ولا نصح الناصح، يخاف من تلك القوارع أن تقتله، ومن صواعق النذر أن تهلكه هذا هو شأن فريقي هذا الصنف بما يشير إليه المثلان إجمالا.
وفي تفسير الآيات تفصيل ما أشرنا إليه.
*م/
قال تعالى ﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ﴾ العرب تستعمل لفظ " الذي " في الجمع كلفظي " ما " و " من " ومنه قوله تعالى ﴿ ٩ : ٦٩ وخضتم كالذي خاضوا ﴾ وإن شاع في " الذي " الإفراد لأن له جمعا وقد روعي في قوله " استوقد " لفظه، وفي قوله " ذهب الله بنورهم " معناه، والفصيح فيه مراعاة اللفظ أولا، ومراعاة المعنى آخرا. والتفنن في إرجاع الضمائر متفرعة ضرب من استعماله البلغاء، يقرر المعنى في الذهن ويهبه فضل تمكن وتأكيد، بما يحدث فيه من الروية والتوجه إلى الإحاطة بمعاني المختلفات.
أقول : استوقد النار طلب وقودها بفعله أو فعل غيره، وقالوا : إنه بمعنى أوقدها ويرجع إلى الأول بأنه طلب بإضرامها وإيرائها أن تقد. يقال : وقدت النار تقد وتوقدت واتقدت واستوقدت – لازم – ومعني الجملة في منافقي اليهود قد تقدم آنفا بالإجمال، وسيجيء تفصيله. وأما منافقو العرب – الذين قال تعالى فيهم من سورتهم ﴿ ٦٣ : ٣ ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا ﴾ الآية – فيقال فيهم : مثلهم وصفتهم في إسلامهم أولا وكفرهم آخرا كمثل فريق من الناس أوقد نارا لينتفع بها في ليلة حالكة الظلام، ويبصر ما حوله مما عساه يضره ليتقيه، أو ينفعه ليجتنيه
﴿ فلما أضاءت ما حوله ﴾ يقال ضاءت النار والشمس وأضاءت – لازم – ويقال ضاء المكان وأضاءته النار أي أظهرته بضوئها. قال العباس رضي الله عنه في النبي صلى الله عليه وسلم
أنت لما ظهرت أشرقت الأر | ض وضاءت بنورك الأفق |
ولا شك أن المستوقد تكون له حالة مع الله مرضية في التوجه إليه وقصد اتباع هداه، والاستضاءة بنوره الذي وهبه إياه، فإذا أعرض عنه وكله الله إلى نفسه، وذهب بنوره. وإذا ذهب النور لا يبقى إلا الظلمة، وما كان هؤلاء في ظلمة واحدة، ولكنها ظلمات بعضها فوق بعض، متعددة بتعدد أنواع التقاليد التي فتنوا بها، وبتعدد أنواع الهداية التي أعرضوا عنها، ولذلك قال :
﴿ وتركهم في ظلمات لا يبصرون ﴾ شيئا. حذف مفعول يبصرون إيذانا بالعموم، أي لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية ولا يرون طريقا من طرقها، لأنه صرف عنايته عنهم بتركهم سنته، وإهمالهم هدايته، ووكلهم إلى أنفسهم. ويا ويل من وكله الله إلى نفسه، وحرمه توفيقه، نسأل الله العافية.
هذا المثل مضروب لفريق لا ترجى هدايته، لأنه سد على نفسه جميع أبواب الهداية فلا يثق بعقله ولا بحواسه ولا بوجدانه إذا خالفت تقاليده وعدم الإبصار بذهاب النور غير كاف لتمثيل هذا اليأس والحرمان، لجواز أن يلوح بارق، أو يذر شارق، أو يصيح طارق، فتكون الهداية، وتنكشف الغواية، ولذلك عقبه بقوله تعالى﴿ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾.
هذا هو مثل الفريق الثاني من هذا الصنف من الناس، الذي كان أفراده ولا يزالون فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، وحجة على الدين، لأنهم بغرورهم بتقاليدهم التي اكتفوا بها من دينهم الموروث، يعبثون بعقولهم ؛ ويلهون بخيالاتهم ؛ ويجنون على مشاعرهم ومداركهم فيضعفونها، ويصارعون الفطرة الإلهية فيصرعونها حتى يكون بعضهم كالجمادات ﴿ صم بكم عمي ﴾ كما تقدم في المثل الأول ؛ ويألف البعض الآخر الظلمة بطول التقليد، ويكون أفراده في نور البرهان كالخفافيش في نور الشمس ؛ ولكنهم أمثل من الفريق الذي ضرب له المثل الأول لأن فيهم بقية من الرجاء ورمقا من الحياة ؛ يوجههم إلى الاقتباس من نور الهداية كلما أضاءت لهم بروقها، والمشي في الجادة كلما استبانوا طريقها، ولكن تحول دون ذلك ظلمات التقاليد العارضة، وتقف في السبيل عقبات البدع المعارضة، وقد يعدهم لاستماع قوارع الآيات التي تنذرهم بما حرفوا، وصوادع الحجج التي تبين لهم كيف انحرفوا، ولا يصدهم عنها إلا أنها نزعجهم إلى ترك ما صنفوا وألفوا، وهجر ما أحبوا وألفوا، وعدم المبالاة بسنة الآباء، وقلة الاحتفال بعظمة الرؤساء، فهم يتراوحون بين الخوف والرجاء، مذبذبين بين أهل الجحود وأهل اليقين ﴿ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾، ولا ينقطع منهم الأمل، حتى ينقطع بهم الأجل.
ألا تراهم عندما يقرع أسماعهم من كتاب ربهم ما يبين فساد سيرتهم، والتواء طريقتهم، كقوله تعالى في النعي على أمثالهم : وحكاية ما لم يرضه من أقوالهم، ﴿ ٤٣ بل قالوا أنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾ الخ : وقوله في بيان ندمهم على التقليد، عند ما يحل بهم الوعيد، ﴿ ٣٣ ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ﴾ يأخذهم الزلزال، ويتولاهم الاضطراب والقلق، وتنشق لهم الظلمة عن فلق، ويلمع في نفوسهم نور الهداية الفطرية فيمشون فيه خطوات، ثم تحيط بهم الظلمات، وينقطع بهم الطريق كما ألمعنا آنفا. وأسباب غلبة الظلمات على النور هي موافقة ما عليه الجمهور ؛ والإخلاد إلى الهوى ؛ وتفضيل عرض هذا الأدنى ؛ وانتظار المغفرة ولو بما تأولوه في معنى الشفاعة ؛ وتمني الربح من غير بضاعة ﴿ ٧ : ١٦٩ يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون : سيغفر لنا – وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه – ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ؟ ﴾ بلى هو عندهم مدروس بجدليات النحو والكلام ؛ ولكنه دارس الصوى والأعلام ؛ المنصوبة لهداية القلوب والأحلام ومقروء بالتجويد والأنغام ؛ ولكنه متروك الحكم والأحكام ؛ يقرؤونه لكسب الحطام ؛ لا لمعرفة الحلال والحرام، ولا يتلونه لإصلاح القلب واللسان ؛ بتزكية النفس وتغذية الإيمان ؛ ويكتبونه لشفاء الأبدان من الأسقام، لا لشفاء ما في الصدور من الأوهام والآثام، ولو كان له أنصار يدعون إليه ؛ وهداة يعتصمون به ويعولون عليه ؛ لتبددت الظلمات أمام الأنوار، ومحت آية الليل آية النهار.
تلك الإرشادات الإلهية بمنزلة المطر الذي ينزل من السماء ؛ والزلزال والاضطراب الذي أشرنا إليه بمنزلة الرعد، واستبانة الصراط المستقيم الذي يلمع في أنفسهم من ذلك كالبرق، والعادات والتقاليد والشهوات والخوف من ذم الجماهير عند العمل بما يخالفهم كالظلمات التي تصد عن سلوك الطريق بل تعميه على طالبه وتحجبه عنه، ولذلك قال تعالى في تمثيل حال هذا الفريق ﴿ أو كصيب من السماء ﴾ أي قوم نزل بهم صيب، ووصفه بأنه من السماء مع العلم بأن الصيب لا يكون إلا من السماء للإشعار بأنه أمر لا يملكون دفعه وليس ملاكه في أيديهم، ومن المعهود عند بلغاء العرب التعبير عما يلم بالناس مما لا دافع له بأنه نزل من السماء، ولا جرم أن تلك السوانح التي تسنح في الأفكار، والإلهامات الإلهية، لأصحاب الفطرة الزكية، التي يكون من أثرها ما أشار إليه المثل، وتقدم التنبيه عليه، هي أمر وهبي واقع، ماله من دافع.
قال تعالى في وصف الصيب ﴿ فيه ظلمات ورعد وبرق ﴾ الظلمات هي ظلمة الليل وظلمة السحب وظلمة الصيب نفسه ؛ والرعد هو الصوت المعروف الذي يسمع في السحاب عند اجتماعه أحيانا، والبرق هو الضوء الذي يلمع في السحاب في الغالب وقد يلمع من الأفق حيث لا سحاب، وقال مفسرنا الجلال السيوطي : إن الرعد ملك أو صوته، والبرق يسوق به السحاب، كأن الملك جسم مادي لأن الصوت المسموع بالآذان من خصائص الأجسام، وكأن السحاب حمار بليد لا يسير إلا إذا زجر بالصراخ الشديد والضرب المتتابع. وما ذكرناه هو الذي كان يفهمه العرب من اللفظين، وهو الذي يفهمه الناس اليوم، ولا يجوز صرف الألفاظ عن معانيها الحقيقية إلا بدليل صحيح، ولا سيما إذا صرفت عن معاني من عالم الشهادة الذي يعرفه الواضعون والمتكلمون، إلى معاني من عالم الغيب لا يعلمها إلا الله تعالى ومن أعلمهم الله تعالى إياها بالوحي، ولكن أكثر المفسرين ولعوا بحشو تفاسيرهم بالموضوعات التي نص المحدثون على كذبها، كما ولعوا بحشوها بالقصص والإسرائيليات التي تلقفوها من أفواه اليهود وألصقوها بالقرآن لتكون بيانا له وتفسيرا، وجعلوا ذلك ملحقا بالوحي، والحق الذي لا مرية فيه : أنه لا يجوز إلحاق شيء بالوحي غير ما تدل عليه ألفاظه وأساليبه، إلا ما ثبت بالوحي عن المعصوم الذي به ثبوتا لا يخالطه الريب أقول : هذا ما قاله الأستاذ في الرعد والبرق ردا على الجلال فيما تبع فيه ما روى في التفسير المأثور عن بعض الصحابة والتابعين، ولا يصح منه شيء، وأمثله ما رواه الترمذي بسند ضعيف من سؤال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رأينا السيوطي لم يذكر من هذه الروايات شيئا في تفسير الآية من كتابه ( الدر المنثور ) المخصص لنقل المأثور، وكذلك ابن كثير، وكأن هذا عده من الإسرائيليات مع عدم صحة الرواية فيه. وفسرها البغوي بمفهومها اللغوي. فقال في الرعد " هو الصوت الذي يسمع من السحاب " وفي البرق " هو النار التي تخرج منه " ثم قال : قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين : الرعد اسم ملك يسوقه السحاب. والبرق لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب. وقيل الصوت زجر السحاب وقيل تسبيح الملك، وقيل الرعد نطق الملك والبرق ضحكه. وقال مجاهد : الرعد اسم الملك ويقال لصوته أيضا رعد، والبرق اسم ملك يسوق السحاب. وقال شهر بن حوشب : الرعد ملك يزجى السحاب فإذا تبددت ضمها، فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النار فهي الصواعق، وقيل : الرعد انحراف الريح بين السحاب، والأول أصح اه. ولم يذكر الحديث المرفوع لأنه أضعف عنده مما ذكره فيما يظهر.
أقول : ولا شك عندي في أن هذه الأقوال كلها مما كان يذيعه مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه بين المسلمين، من الصحابة والتابعين، ولو صح في حديث مرفوع بسماع صحيح لا يحتمل أن يكون من الإسرائيليات لما وقع فيه مثل هذا الخلاف، ولأمكن حمله على أن المراد به الإشارة إلى أن هذه المظاهر الكونية تقع بفعل ملك موكل بالسحاب، ولكن لا حاجة إلى ذلك مع عدم صحة شيء في المسألة والملائكة من عالم الغيب، وهم لا يراهم الناس إلا إذا تمثلوا لنبي أو ولي على سبيل المعجزة أو الإرهاص كتمثل الروح للسيدة مريم عليها السلام ورؤية الصحابة لجبريل في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم بصورة رجل يسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان والبرق من عالم الشهادة لا من عالم الغيب.
وقول البغوي : وقيل الرعد : انخراق الريح بين السحاب – يريد به قول فلاسفة اليونان الذي اغتر به بعض المسلمين، قال البيضاوي : والرعد صوت يسمع من السحاب. المشهور أن سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد اه. وهو قول باطل والسحاب بخار لا يحدث اضطرابه صوتا.
وقال تعالى في أصحاب الصيب ﴿ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ﴾ الصاعقة هي ما كان يعرفه العرب ويعرفه كل واحد وهو ما ينزل في أثناء المطر والبرق والرعد فيصعق ما ينزل به، بأن يهلك أو يلحقه ضرر، وما تفسيرنا للبرق والرعد والصاعقة مع كونها معروفة لكل الناس إلا لأن المفسرين صرفوا أفهامهم عن المعروف إلى غيره، كما حكى عن ( أرسطو ) حكيم قدماء اليونان أن تلاميذه سألوه عن تعريف الحركة، فقام ومشى، وما أنطقهم بالسؤال عنها على بداهتها إلا أنهم اعتادوا أن يسمعوا من الفلاسفة أقوالا في الأمور الجلية. تجعلها غامضة خفية.
وأما حقيقة البرق والرعد والصاعقة وأسباب حدوثها فليس من مباحث القرآن لأنه من علم الطبيعة – أي الخليقة – وحوادث الجو التي في استطاعة الناس معرفتها باجتهادهم ولا تتوقف على الوحي. وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال، وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين ؛ والعلم بالكون ينمى ويضعف في الناس ويختلف باختلاف الزمان. فقد كان الناس يعتقدون في بعض الأزمنة أن الصواعق تحدث من أجسام مادية لما كان يشمونه في محل نزولها من رائحة الكبريت وغيره، ورجعوا عن هذا الاعتقاد في زمن آخر ملاحظين أن تلك الرائحة لا تكون دائما في محل الصاعقة. وقد ظهر في هذا الزمان أن في الكون سيّالا يسمونه الكهرباء، من آثاره ما ترون من التلغراف والتليفون والترامواي.
وهذه الأضواء الساطعة في البيوت والأسواق، من غير شموع ولا زيت ولا ذبال وإنما تكون باتصال سلكين دقيقين كالخيوط التي تخاط بها الثياب، أحدهما يحمل أو يوصل السيال الذي يسمونه الموجب، والآخر يوصل السيال المسمى بالسالب، وباتصال السلكين، يتولد النور من تلاقي السالين، وبانقطاعهما أو الفصل بينهما ينفصل السيالان فينقطع الضوء من المصابيح والحركة من الآلات والكهربائية موجودة في كل شيء، والبرق في السحاب يتولد من اتصال نوعيها الموجب والسالب بقدرة الله تعالى، كما يتولد في الأرض بعمل الإنسان. وقد استنزل بعض علماء الكهربائية قبس الصاعقة من السحاب إلى الأرض، والصاعقة من أثر الكهربائية، وهي تفريغ السحاب طائفة منها في مكان لجاذب في الأرض يجذبه، وكثيرا ما حصل الصعق لعمال التلغراف، لما بين السحاب والأسلاك من الجاذبية. ومعرفة الناس بالسبب الحقيقي للصواعق هداهم إلى حفظ الأبنية الشاهقة منها باتخاذ القضيب المعروف الذي يسمى قضيب الصاعقة، فلا تنزل الصواعق على بناء رفع فوقه هذا القضيب، ولا مجال في تفسير القرآن للتطويل في أمثال هذه المسائل الطبيعية لأنها تطلب من فنونها الخاصة بها، فلنعد إلى بيان المثل.
استحضر حال قوم مشاة في فلاة من الأرض نزل عليهم بعد ما أقبل ظلام الليل صيّب من السماء قصفت رعوده، ولمعت بروقه، وتصوّر كيف يهوون بأصابعهم إلى آذانهم كلما حدث قاصف من الرعد، ليدفعوا شدة وقعه بسد منافذ السمع برءوس الأنامل، وعبر عن الأنامل هذا التعبير المجازي اللطيف للإشارة بشدة عنايتهم بسد آذانهم، ومبالغتهم في إدخال أناملهم في صما ليخها، كأن كل واحد منهم يحاول بما دهمه من الخوف أن يغرس إصبعه كلها في أذنه
﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ ليس عندي عن أستاذنا شيء في هذه الجملة ومعناها واضح لا يحتاج إلى التفسير، ولكن قال بعض المفسرين : إن قدير بمعنى قادر ومثله كل صيغة مبالغة في أسمائه تعالى لأنه لا تفاوت فيها. وفيه أن المبالغة في الكلام، لأجل التأثير في الأفهام، فقوله ﴿ علام الغيوب ﴾ أبلغ من قوله ﴿ عالم الغيب ﴾ ولكل منهما موقع، وهاهنا لما هدد المنافقين بأنه لو شاء أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، علله بأنه على كل شيء قدير، للإعلام بأن تعلق مشيئته يتصل به تعلق قدرته، فما شاء كان قطعا لأنه لا يعجزه شيء، وتأثير الأسباب في مسبباتها منوط بمشيئته تعالى.
( تنبيه صادع. في تطبيق القرآن على ما هو واقع )
( وظهور معاني الأمثال المضروبة للمنافقين، في كثير من العلماء والعامة من المسلمين )
عقب الأستاذ تفسير هذه الآيات بتنبيه، ارتاع له الخامل والنبيه، ذلك أنه بين أن القرآن هاد ومرشد إلى يوم القيامة، وأن معانيه عامة شاملة، فلا يعد ويوعد ويعظ ويرشد أشخاصا مخصوصين، وإنما نيط وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره بالعقائد والأخلاق والعادات والأعمال التي توجد في الأمم والشعوب. فلا يغترن أحد بقول بعض المفسرين : إن هذه الآيات نزلت في المنافقين الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فيتوهم أنها لا تتناوله وإن كانت منطبقة عليه. لأنه لم يتخذ القرآن إماما وهاديا، ولم يستعمل عقله ومشاعره فيما خلقت له، بل اكتفى عن ذلك بتقليد آبائه ومعاصريه، في كل ما هم فيه، ذكر ذلك عند بيان وجه الاتصال بين الآيات السابقة وما بعدها، فقال بعد تلاوة الآية التالية ما معناه :﴿ ( ٢١ ) يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ( ٢٢ ) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أنداد وأنتم تعلمون ﴾
( الوجه الثاني ) – وهو الراجح أن الخطاب عام للناس كافة، ووجه الاتصال بين الآيات على هذا أنه لما بين تعالى في أصناف الناس هذا الصنف الذي احتقر أفراده نعم الله تعالى عليهم. واستعظموها وأكبروها على من قبلهم. فحرموا أنفسهم من أجل المزايا الإنسانية. وأجلوا سلفهم حتى رفعوهم إلى مرتبة الربوبية. خاطب الناس عامة بأن يعبدوه ملاحظين معنى الربوبية والخالقية التي تشملهم ومن قبلهم من السلف فتنظمهم جميعا في سلك العبودية للخالق تعالى شأنه. ولا يكون كذلك الصنف الخاسر الكفور بنعم المشاعر والعقل وهداية الدين. إذ لم يستعملوا عقولهم في فهم ما أنزل عليهم. بل اكتفوا بتقليد بعض رؤسائهم وعلمائهم، زاعمين أنه لا يقوى على فهم كتاب الله تعالى غيرهم، كأن الله تعالى أنزل كتبه وخاطب بها نفرا معدودين في وقت محدود، ولم يجعله هداية عامة للأمة، وإنما ألزم سائر الناس في سائر الأوقات الاكتفاء باتباع أولئك الرؤساء واتباع أتباعهم وهلم جرا٢ ثم تركوا أتباعهم اتكالا على شفاعتهم، واكتفاء بالانتساب إليهم، وزعما أن الله أعطاهم ما لا يعطى مثله لأحد سواهم، وإن عملوا مثل عملهم ؛ تعالى الله عن الظلم والمحاباة وهو ذو الرحمة التي لا تنتهي وذو الفضل العظيم.
هذا النداء الإلهي المشعر بأن نسبة الناس الأولين إلى الله تعالى كنسبة الآخرين واحدة : هو الخالق وهم المخلوقون، وهو المستحق للعبادة وهم المأمورون بها أجمعين، - حجة علينا وعلى جميع من استنّ بسنة ذلك الصنف من قبلنا. ( قال شيخنا ) : وأخصّ طلاب علوم الدين بالذكر٣ فينبغي للطالب أن يوجه نفسه إلى فهم القرآن، ويحملها على الاهتداء به، فإذا هو فعل ذلك تظهر عليه آداب الإسلام التي أشار إليها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله " أدبني ربي فأحسن تأديبي٤ " وإنما كان أدبه٥ ومن اشتغل بهذا الاشتغال وصل إلى معرفة أمراض المسلمين الحاضرة، ومنابع البدع التي فشت فيهم، ومثارات الفتن التي فرقتهم، ويعرف علاج ذلك. وأن من ذاق حلاوة القرآن لا ينظر في كتاب ولا يتلقى علما٦ إلا ما يفتح له باب الفهم في القرآن أو ما يفتح له بابه القرآن فيجده مرآته، وما عدا ذلك مبعد عنه، والبعد عن القرآن هو عين البعد عن الله تعالى وذلك هو الضلال البعيد.
كل ما أمرنا به القرآن وأرشدنا إلى النظر فيه فالاشتغال به اشتغال بالقرآن، فإذا قال ﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ﴾ فذلك تنبيه وإرشاد إلى الاعتبار بما في خلقنا من الحكم والأسرار ؛ وينبغي لنا البحث عنها كما قال في آية أخرى :﴿ ٥١ : ٢٠، ٢١ وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون ﴾ وإلى الاعتبار بتاريخ من قبلنا، كما قال في آية أخرى :﴿ ٣٠، ٤٢ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ﴾ وأمثال ذلك كثير.
لا يتعظ الإنسان بالقرآن فتطمئن نفسه بوعده وتخشع لوعيده إلا إذا عرف معانيه، وذاق حلاوة أساليبه، لا يأتي هذا إلا بمزاولة الكلام العربي البليغ مع النظر في بعض النحو ؛ كنحو أن هشام وبعض فنون البلاغة كبلاغة عبد القاهر٧ وبعد ذلك يكون له ذوق في فهم اللغة يؤهله لفهم القرآن. قال الإمام أبو بكر الباقلاني : من زعم أنه يمكنه أن يفهم شيئا من بلاغة القرآن بدون أن يمارس البلاغة بنفسه فهو كاذب مبطل.
فهل يصلح لمسلم بلغ ورشد وطلب العلم أن لا يجعل القرآن إمامه ويتخذه فورا يمشي به في الناس ويهتدي به في ظلمات البدع ؟
أمامنا عقبتان كؤدان لا نرتقي عما نحن فيه إلا باقتحامهما، وهما الكسل وتسجيل القصور على أنفسهما بجهل قيمة نعم الله تعالى علينا. وصاحب هاتين الخلتين يمقت كل من يرشده إلى الخير ويهديه للحق. لأنه يكلفه ضد طبعه. فلا يرى مهربا من الاعتراف بضلاله وغيه، إلا بالقدح بمرشده وناصحه.
على كل منا أن ينظر في نفسه وينظر في القرآن العظيم ويزن به ما هو عليه من العقائد والأخلاق والأعمال. فإن رجح به ميزانه فهو مسلم حقيقي فليحمد الله تعالى. وإلا فليسع فيما يكون به الرجحان.
لا بد لنا من النظر الطويل والفكر القويم فيما نحن فيه. فمن لم يتفكر لم يهتد إلى الحق. ومن لم يهتد إليه فهو ضال. فماذا بعد الحق إلا الضلال ).
هذا ما تذكرناه من التنبيه الذي قلنا إن الأستاذ قفى به على تفسير الآيات التي وردت في صنفي المنافقين ومرضى القلوب بإزاء القرآن، ووصل به بينها وبين قوله تعالى ﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم ﴾ الآيات. وهاك تفسيرها بالتفصيل.
﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم ﴾ أقول : إن الله تعالى قد افتتح هذه السورة بذكر كتابه القرآن وكونه حقا لا ريب فيه. وذكر بعد ذلك أصناف البشر تجاهه من المهتدين به بالقوة وبالفعل. ومن الكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهدى. ومن المنافقين المذبذبين بين المؤمنين والكافرين. وفيه ما يفهم منه أن هؤلاء متفاوتون، منهم المستعد للإخلاص في الإيمان ومن فقد الاستعداد له. وحكمة بيان حال الميؤس من إيمانهم أنهم ليسوا حجة على هداية القرآن بل هو حجة عليهم.
بعد هذا التمهيد جاءت هذه الآية والآيات الأربع بعدها مصرحات بدعوة جميع الناس إلى دين الله تعالى الحق ببيان أصوله وأسسه وهي ( ١ ) توحيد الألوهية بعبادة الله تعالى وحده. مع ملاحظة توحيد الربوبية ( ٢ ) القرآن. آيته الكبرى ودينه التفصيلي ( ٣ ) نبوة محمد صلى الله عليه وسلم المرسل بهذا القرآن ( ٤ ) الجزاء في الآخرة على الكفر وأعماله بالنار. وعلى الإيمان وأعماله بالجنة.
تقدم تحقيق معنى العبادة ومعنى الرب في تفسير الفاتحة. وبدء الدعوة بالأمر بعبادة الله تعالى وحده هو سنة جميع المرسلين قال تعالى ﴿ ١٦ : ٣٦ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ فكان كل رسول يبدأ دعوته بقوله ﴿ يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ﴾ وذلك أن جميع تلك الأمم كانت تؤمن بأن الله خالق الخلق هو ربهم مدبر أمورهم، وإنما كان كفرهم الأعظم بعبادة غير الله تعالى بالدعاء الذي هو ركن العبادة الأعظم في وجدان جميع البشر، وبغير الدعاء والاستغاثة من العبادات العرفية، كالتقرب إلى المعبود بالنذور وذبح القرابين أو الطواف والتمسح به، إن كان جسما أو تمثالا لملك أو بشر أو حيوان أو قبرا لإنسان، ومنهم من كان ينكر البعث أيضا، ولما كان المخاطبون بالدعوة هنا أولا وبالذات في ضمن الدعوة العامة، وهم اليهود والعرب في المدينة وما حولها يؤمنون برب العالمين ووحدانيته ويعبدون غيره إما بدعائه مع الله أو من دون الله وإما يجعله شارعا يتبعونه فيما يصدره من أحكام التعبد أو الحرام والحلال – لما كانوا كذلك احتج على دعوتهم إلى توحيد الله تعالى بالتعبير بلفظ " رب " مضافا إليهم فقال ﴿ اعبدوا ربكم ﴾ ووصفه بما يدل على انفراده بالربوبية من الصفات المسلمة عندهم وهي الخلق والتكوين والرزق فقال ﴿ الذي خلقكم والذين من قبلكم ﴾ إلى آخر الآية التالية – أي إذا كان ربكم هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم، وهو سخر لكم السماء والأرض لرزقكم ومنافعكم فيجب أن تعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه فتجعلونه مساويا له وتفضلونه على أنفسكم تفضيلا من نوع تفضيل الخالق على المخلوق والرب على المربوب.
وهاك تفضيل ذلك بما كتبته من سياق درس شيخنا مفصلا له تفصيلا :
يقول تعالى ﴿ يا أيها الناس ﴾ الذين يدعون الإيمان بالله قولا بأفواههم ولم يمس الإيمان الحق سواد قلوبهم، ولا كان له سلطان على أرواحهم، ويدعون الإيمان باليوم الآخر ولم يستعدوا له بتهذيب أنفسهم وإصلاح أعمالهم، وإنما يأتون ببعض صور العبادات بحكم العادات الموروثة، وقلوبهم مشغولة عن الله الذي لا تفيد العبادة عنده إلا بالتوجه إليه وابتغاء مرضاته، والشعور بعظمته وجلاله، فهم يخادعون الله بهذه الظواهر التي لا معنى لها، والصور التي لا روح فيها، وإنما يخدعون في الحقيقة أنفسهم لأن أعمالهم هذه لا تفيدهم في الدنيا عزة وسعادة ولا تنجيهم في الآخرة.
ويا أيها الناس الذين لم يرزؤوا بهذا الخذلان، ولم يبتلوا بهذا الافتتان، سواء كانوا من أهل الكفر أو من أهل الإيمان، ﴿ اعبدوا ربكم ﴾ جميعا عبادة خشوع وإخلاص وأدب وحضور، كأنكم تنظرون إليه وترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم، وينظر دائما إلى محل الإخلاص منكم وهو قلوبكم، واستعينوا على إشعار نفوسكم هذا الخشوع والحضور والإخلاص في العبادة باستحضار معنى الربوبية فإنه هو ربكم الذي أنشأكم فيما لا تعلمون ﴿ ١٦ : ٧٨ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ﴾ وغذاكم بنعمه، ونماكم بكرمه، كما فعل مثل ذلك بسلفكم الصالح فشكروه وعبدوه وحده مقرين بهذه التربية، ومعظمين لهذه المنة، فليدع ذلك الصنف احتقارهم النعم التي هو فيها والاقتصار على تعظيم نعمة الله على السلف فقط فإن هذا الرب العظيم ﴿ الذي خلقكم و ﴾ خلق ﴿ الذين من قبلكم ﴾ قد رباكم كما ربى سلفكم، ووهبكم من الهدايات مثلما وهبكم، فمن شكر منهم ومنكم زاده نعما، ومن كفر بهذه النعم جعلها عليه نقما ليكون عبرة ومثلا للآخرين. وذلك من رحمته بالعالمين. وقد أقسم تعالى على ذلك في كتابه المجيد. فقال ﴿ ١٤ : ٧ لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾ وفي القصص حياة لأولي الألباب. وما يتذكر إلا من أناب.
هكذا أمر الله تعالى عباده أجمعين. بأن يعبدوه وحده مخلصين له الدين. وأرشدهم بإعلامه إياهم أنه ساوى بينهم وبين من قبلهم في المواهب الخلقية – إلى الاستقلال بالعمل. وقدر نعمته عليهم قدرها. ليعلموا أن كل النعم التي تكتسب بالشكر – وهي ما عدا النبوة – مقدورة لهم. كما كانت مقدورة لمن قبلهم. وأنهم إذا زادوا على أنفسهم شكرا يزادون نعما. و ما الشكر إلا استعمال المواهب والنعم فيما وهبت لأجله. فالذين يقولون إننا لا نقدر على فهم الدين بأنفسنا من الكتاب والسنة لأن عقولنا وأفهامنا ضعيفة. وإنما علينا أن نأخذ بقول من قبلنا من آبائنا. لأن عقولهم كانت أقوى. وكانوا على فهم الدين أقدر. بل لا يمكن أن يفهمه غيرهم، أولئك كافرون بنعمة العقل، وغير مهتدين بهذه الآية الناطقة بالمساواة في المواهب وسعة الرحمة والفضل. وكذلك الذين يتخذون وسطاء بينهم وبين الله تعالى لأجل التقريب إليه زلفى بغير ما شرعه لهم من الدين ما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام – وهم الوسائل في الهداية والإرشاد – أو لأجل الشفاعة لهم عنده لينالوا جزاء ما شرعه من الدين. من غير طريق العمل به وإتباع المرسلين – قد احتقروا نعم ا
٢ مما يرد به عليهم: أن الذين يكتبون ويعلمون كثيرون. فإذا زعم المقلد أن الله تعالى أمر باتباعهم من غير نظر ولا استدلال وهم غير معينين فلا شك أن اتباع أي مذهب أو دين واجب، ولا فرق بين سني ومبتدع ولا بين مسلم وكافر..
٣ قد خص طلاب العلوم بالذكر لأنه يرى أن علماء الأزهر وأمثالهم من كبار الشيوخ هم الفريق الميئوس منهم ممن شرح حالهم، بل قال لي: إن من تطول مدة طلبه للعلم في الأزهر وأمثاله فإنه يفقد الاستعداد للعلم..
٤ رواه العسكري في الأمثال من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا، وسنده ضعيف، ومعناه كما قالوا صحيح..
٥ يشير الأستاذ إلى حديث عائشة عند أحمد ومسلم وغيرهما وقد سألها سعد بن هشام عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت "ألست تقرأ القرآن؟ قال قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن"..
٦ قد يقال: إن هذا إنما يصح في العلوم الشرعية ووسائلها من الفنون العربية دون العلوم العقلية والكونية والاجتماعية، والصواب أن هذه العلوم تفتح من باب الفهم في القرآن ما لا يفتحه علم الفقه وعلم الكلام، وستأتي الإشارة إلى ذلك..
٧ يعني في كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لأن كلا منهما مصداق جلي لاسمه، فهو يعلم قارئه البلاغة بعبارته ومباحثه ويعينه على جعلها ملكة في نفسه وذوقا له بأسلوبه وبلاغته. ولذاك حثنا الأستاذ على طبعهما وقرأهما لطلاب البلاغة في الجامع الأزهر. وأما مختصر السعد ومطوله فلا يتعلم قارئهما إلا الاصطلاحات الجافة التي تفسد ملكة البيان وتبعد بقارئها عن ذوق البلاغة..
ثم بعد أن امتن بنعمة الإيجاد، ونعمة الفراش والمهاد، ونعمة السماء، التي هي كالبناء، ذكر نعمة الإمداد، الذي تحفظ به هذه الأجساد، وهي مادة الغذاء، التي بها النمو والبقاء، فقال ﴿ وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ﴾ الثمرات ما يحصل من النبات نجما كان أو شجرا : يصلح الزارع والغارس الأرض، ويبذر البذر، ويغرس الفسيل، ويتعاهد ذلك بالسقي والعذق، فيكون له كسب في رزقه، ولكنه ليس له كسب في إنزال المطر الذي يسقى به، ولا في تغذية النبات بماء المطر أو النهر المجتمع من المطر ؛ وبأجزاء الأرض وعناصرها الأخر، ولا في تولد خلاياه التي بها نموه ولا في إثماره إذا أثمر، وإنما كل ذلك بيد الله القدير – فعلينا أن نتفكر في ذلك لنزداد تعظيما له وإجلالا فلا نعبد معه أحدا.
وبعد أن عرفنا الله تعالى بأنفسنا، وبنعمته علينا وعلى سلفنا وبعد أن عرفنا ذاته الكريمة بآثار رحمته ومننه العظيمة، وصرنا جديرين بأن نعرف أن العبد عبد فلا يعبد. وأن الرب رب فلا يشرك به ولا يجحد. قال تفريعا وترتيبا على ما سبق ﴿ فلا تجعلوا لله أندادا ﴾ من سلفكم المخلوقين مثلكم تطلبون منهم ما لا يطلب إلا منه. وهو كل ما تعجزون عنه. ولا يصل كسبكم إليه، لا تفعلوا ذلك فإنهم في الخلق والعبودية مثلكم.
الأنداد جمع ند بكسر النون وفسر بالشريك وهو في اللغة المضارع والكفء، يقال فلان ند فلان ومن أنداد فلان أي يضارعه ويماثله ولو في بعض الشؤون. والأنداد الذين اتخذوا في جانب الله هم الذين خضع الناس لهم وصمدوا إليهم في بعض الحاجات، لمعنى يعتقده فيهم الخاضعون المخاطبون بترك الأنداد أولا وبالذات، وهم مشركوا العرب وأهل الكتاب. فالعرب كانت تسمي ذلك الخضوع والصمود عبادة إذا لم يكن عندهم وحي ينهاهم عن عبادة غير الله فيتحاموا هذا اللفظ " العبادة " ويستبدلوا به لفظ التعظيم أو التوسل مثلا تأويلا لظاهر نص التنزيل. وأما أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا فكانوا يؤولون فلا يسمون هذا الاتخاذ عبادة ولا أولئك المعظمين آلهة أو أندادا أو أربابا. وفرق بين الاتخاذ بالفعل والتسمية بالقول. والجميع متفقون على أنه لا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله وإنما كانوا يسمون دعاءهم غير الله والتقرب إليه توسلا واستشفاعا. ويسمون تشريعهم لهم العبادات وتحليلهم لهم المنكرات. وتحريمهم عليهم بعض الطيبات. فقها واستنباطا من التوراة. إلا أن من النصارى من لا يتحامون التصريح بعبادة السيدة مريم وبعض القديسين استعمالا للفظ في مدلوله اللغوي.
وصور العبادة تختلف عند الأمم اختلافا عظيما وأعلاها عند المسلمين الأركان الخمسة والدعاء. وقالوا : كل عمل غير محظور تحسن فيه النية لله تعالى فهو عبادة. كأن المعنى الذي يجعل جميع الأعمال عبادة هو التوجه إلى الله تعالى وحده وابتغاء مرضاته، ولها عند أهل الكتاب صور أخرى والمؤولون يخصون هذه الصور بالله تعالى وإذا ابتدعوا صورة فيها معنى العبادة يسمونها باسم آخر يستحلونها بل يستحبونها به. ولكنهم لا يخرجون بالتسمية أو التأويل عن حيز من يتخذ من دون الله أندادا كما ذكر الله عنهم في قوله ﴿ ٩ : ٣٠ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ ولم يكن منهم سوى التوسل بهم والأخذ في الدين بقولهم تقليدا لهم بدون فهم لما جاء على لسان الوحي، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقدماء الفرس جعلوا لله ندا في الخلق والإيجاد، فقالوا : إن للخير إلها هو الإله الأول. وإن للشر إلها يضاده. وليس النهي في الآية عن هذا الند الشريك لأن المخاطبين لا يدينون به كما قلنا وتدل عليه الآيات الكثيرة.
لذلك وصل النهي بقوله عز وجل ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أي والحال أنكم تعلمون أنه لا ند له لأنكم إذ سئلتم : من خلقكم وخلق من قبلكم ؟ تقولون الله. وإذا سئلتم : من يرزقكم من السموات والأرض ومن يدبر الأمر ؟ تقولون الله. فلماذا تستغيثون إذن بغير الله وتدعون غير الله ؟ ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضر ولا تنفع وادعيتم أنهم شفعاؤكم عند الله ؟ ومن أين جاءكم أن التقرب والتوسل إلى الله يكون بغير ما شرعه من الدين حتى قلتم ﴿ ٣٩ : ٣ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ﴾ ؟
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم. وخلق وسائطكم وشفعاءكم وأعدكم جميعا للتقوى التي تقربكم إليه زلفى، وساوى بينكم في أنواع المواهب إلا أنه خص الأنبياء عليهم السلام بالوحي ليعلموكم ما أخطأ نظركم ورأيكم فيه، فعليكم أن تهتدوا بما جاءوا به، فإن صد المرؤوسين عن ترك تقاليدهم وإتباع الوحي من غير زيادة فيه ولا نقصان منه خوفهم الرؤساء. فقد أثاروا رؤساءهم على الله وجعلوهم له أندادا، ومن صد الرؤساء عن هذا الإتباع توقع زوال المنفعة والجاه لدى المرؤوسين فقد اتخذوهم أندادا، فالند هو المكافئ والمثل، وأنتم بترككم الحق لخوفهم ورجائهم تفضلونهم على الله تعالى وتجعلونه أقل الأنداد تعظيما، ففروا رحمكم الله إلى الله، ولا تخافوا غيره ولا ترجوا سواه، فعار على من يعرف الله أن يؤثر رضاء أحد على رضاه، لا فرق بين رئيس ومرءوس، وتابع ومتبوع، بل هذا لا يقع من مؤمن حقيقي لأن الله تعالى يقول ﴿ ٣ : ١٧٥ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾.
قلنا : إن الكلام من أول السورة في القرآن وتفصيل أحوال الناس في الإيمان به وعدمه، وهذه الآية دليل على عدم الخروج عن هذا الموضوع في كل ما تقدم فالآيات متصل بعضها ببعض، كحبات من الجوهر نظمت في سلك واحد، فإنه بعد ما ذكر المتقين الذين يهتدون بالقرآن وعلاماتهم، وبين خصائصهم وصفاتهم، وذكر الجاحدين المعاندين، وما هم عليه من العمى عن جلية الحق المبين وما رزئوا به من الصمم المعنوي حتى لا يسمعون الحجج والبراهين، وما أصيبوا به من البكم بالنسبة لقول الحق أو سؤال المرشدين، ثم ذكر المذبذبين بين ذلك فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وذكر فرقهم وأصنافهم، وبين خلائقهم وأوصافهم، وضرب لهم الأمثال، ونضلهم في ميدان الجدال، بسهام الحجج النافذة، وسيوف البراهين القاطعة – بعد هذا كله تحداهم بالكتاب الذي يدعوا إليه ويناضل عنه ويكافح دونه ﴿ ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ﴾ فقال :﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ﴾.
﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ﴾ أي يا أيها الناس عليكم بعد أن تنسلوا من مضايق الوسواس، وتتسللوا من مآزق الهواجس وتنزعوا ما طوقكم به التقليد من القلائد، وتكسروا مقاطر ما ورثتم من العوائد، أن تهرعوا إلى الحق فتطلبوه ببرهانه، وأن تبادروا إلى ما دعيتم إليه فتأخذوه بربانه، فإن خفي عليكم الحق بذاته، فهذه آية من أظهر آياته، وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن من رجل أمي مثل الذي جاءكم به، وهو عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله تساوي سورة في هدايتها، وتضارعها في أسلوبها وبلاغتها، وأنتم فرسان البلاغة، وعصركم أرقى عصور الفصاحة، وقد اشتهر كثيرون منكم بالسبق في هذا الميدان ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم ممن يسابقكم من قبل في هذا الرهان، لأنه لم يؤت هذا الاستعداد بنفسه، ولم يتمرن عليه أو يتكلفه لمباراة أهله – فاعلموا أن ما جاء به بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم لم يكن إلا بوحي إلهي، وإمداد سماوي، لم يسم عقله إلى علمه، ولا بيانه إلى أسلوبه ونظمه.
وعبر عن كون الريب بأن للإيذان بأن من شأن هذا التنزيل أن يرتاب فيه١ لأن الحق فيه ظاهر بذاته، يتلألأ نوره في كل آية من آياته، ولكن
إذا لم تكن للمرء عين صحيحة | فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر |
وقوله تعالى ﴿ من مثله ﴾ فيه وجهان ( أحدهما ) أن الضمير في " مثله " للقرآن المعبر عنه بقوله ( مما نزلنا ) ( والثاني ) أنه لعبدنا. قال شيخنا وهو أرجح بدليل " من " الداخلة على " مثله " الدالة على النشوء، أي فإن كان أحد ممن يماثل الرسول بالأمية يقدر على الإتيان بسورة فليفعل قال تعالى ﴿ وادعوا شهداءكم ﴾ الذين يشهدون لكم أنكم أتيتم بسورة من مثله، وهؤلاء الشهداء هم غير الله تعالى بالضرورة أي ادعوا كل من تعتمدون عليه ليشهد لكم ﴿ من دون الله ﴾ أو ادعوا كل أحد غير الله تعالى ليؤيد دعواكم، كما أيد الله تعالى دعوة عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وانظروا هل يغنيكم دعاؤكم شيئا ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في دعواكم [ أن عندكم فيه ريبا، وإنما يصدق المرتاب في ريبه إذا خفيت الحجة، وغلبت الشبهة، وكان جادا في النظر، فهو يقول : إن كنتم صدقتم في أنكم مرتابون فلديكم ما يمحص الحق فجدوا في الفكر، ولا تتوانوا في النظر، وتدبروا هذا الكتاب وها هو ذا معروض عليكم، وائتوا بسورة واحدة من مثل هذا النبي الأمي، فإذا أمكن لكم ذلك فلخاطر الريب أن يمر بنفوسكم، وإلا فما وجه إعراضكم عن دعوته، وإبطائكم عن تلبيته ؟ ].
( أقول ) هذا محصل سياق الأستاذ في الدرس وقد قرأه بعد كتابتنا له وكتب العبارة الأخيرة لإيضاحه بخطه بعد طبع التفسير في المنار. وترجيحه كون الضمير في مثله للنبي صلى الله عليه وسلم خاص بهذه الآية وهو لا ينافي العجز عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن من غير الأميين ورجح الجمهور الأول لموافقة الآيات الأخرى في هذا التحدي. وأول ما نزل في هذا المعنى : قوله تعالى في سورة الإسراء ﴿ ١٧ : ٨٨ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾ ثم نزل بعدها آية يونس ﴿ ١٠ : ٣٨ أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ ثم آية هود ﴿ ١١ : ١٣ أم يقولون افتراه قل فائتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ وهذه السور الثلاث نزلت بمكة متتابعات كما رواه العلماء بهذا الشأن ولكن في رواية عن ابن عباس أن سورة يونس مدنية والرواية الأخرى هي الموافقة لقول الجمهور ولأسلوبها فإنه أسلوب السور المكية.
وقال بعض علماء الكلام إن الله تعالى تحدى الناس أولا بالقرآن في جملته في آية الإسراء ثم تحداهم بعشر سور مثله في آية هود ثم تحداهم بسورة واحدة مثله في آية يونس وكل ذلك بمكة ثم بسورة من مثله في آية البقرة بالمدينة. وهذا ترتيب معقول لو ساعد عليه تاريخ النزول. والظاهر أن التحدي في سورتي يونس وهود خاص ببعض أنواع الإعجاز وهي ما يتعلق بالأخبار كقصص الرسل مع أقوامهم وهو من أخبار الغيب الماضية التي لم يكن لمن أنزل عليه القرآن عليم بها ولا قومه كما قال تعالى عقب قصة نوح من سورة هود ﴿ ١١ : ٤٩ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ وكما قال في سورة القصص عقب قصة موسى ﴿ ٢٨ : ٤٤ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ﴾ إلى آخر الآية ٤٦ وكما قال في سورة آل عمران عقب قصة مريم ﴿ ٣ : ٤٤ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾ الآية.
ولعل وجه التحدي بعشر سور مفتريات دون سورة واحدة هو إرادة نوع خاص من أنواع الإعجاز وهو الإتيان بالخبر الواحد بأساليب متعددة متساوية في البلاغة وإزالة شبهة تخطر بالبال بل بعض الناس أوردها على الإعجاز بالبلاغة والأسلوب وهي أن الجملة أو السورة المشتملة على القصة يمكن التعبير عنها في اللغة بعبارات مختلفة تؤدى المعنى ولا بد أن تكون عبارة منها ينتهي إليها حسن البيان مع السلامة من كل عيب لفظي أو معنوي يخل بالفهم أو التأثير المطلوب فيمن سبق إلى هذه العبارة أعجز غيره عن الإتيان بمثلها لأن تأليف الكلام في اللغة لا يحتمل ذلك ومن الأمثال التي وضحوا بها هذه الشبهة قوله تعالى ﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ ﴾ قالوا إن هذه الجملة تحتمل بالتقديم والتأخير بضعة تراكيب أفصحها وأبلغها وأسلمها من الضعف والإبهام تركيب الآية. ولكن القرآن عبر عن بعض المعاني وبعض القصص بعبارات مختلفة الأسلوب والنظم من مختصر ومطول، والتحدي بمثله لا يظهر في قصة مخترعة مفتراة بل لا بد من التعدد الذي يظهر فيه التعبير عن المعنى الواحد والقصة الواحدة بأساليب مختلفة وتراكيب متعددة كما نرى في سوره فتحداهم بعشر سور مثله في هدايتها وبلاغتها وأسلوبها واشتمالها على الحكم والعبر والأسوة الحسنة المعينة على التربية والتهذيب كما هو شأن القرآن في قصصه. كأنه يقول أدع لكم ما في سور القصص من الأخبار عن الغيب، وأتحداكم أنتم وسائر الذين تستطيعون الاستعانة بهم على الإتيان بعشر سور مثل سور القرآن في قصصها، مع السماح لكم بجعلها قصصا مفتراة من حيث موضوعها، فإن جئتم به مثل سوره القصصية، في سائر مزاياها اللفظية والمعنوية، فأنا أعترف لكم بدحض حجتي عليكم.
وأما اكتفاؤه في سورة يونس بعدها بالتحدي بسورة واحدة في مقام الرد على قولهم " افتراه " فلأنه لم يقيده بكونها مفتراة، لا من باب التخفيف عليهم بالواحدة بعد عجزهم عن العشر، فيدخل فيه خبر الغيب والتزام الصدق.
فعلم من هذا التفصيل أن التحدي بإعجاز القرآن لذاته في جملته والتحدي ببعض أنواع إعجازه في عشر سور مثله وبسورة مثله – كلاهما ثابت في السور المكية قبل نزول آية البقرة وسورتها بعد الهجرة في المدينة المنورة، ولما كان كفار المدينة الذين يوجه إليهم الاحتجاج أولا بالذات هم اليهود وهم يعدون أخبار الرسل في القرآن غير دالة على علم الغيب تحداهم بسورة من مثل النبي صلى الله عليه وسلم في أميته ليشمل ذلك وغيره مع بقاء التحدي المطلق بسورة واحدة مثله على إطلاقه غير مقيد بكونه من مثل محمد صلى الله عليه وسلم وسيأتي بحث وجوه هذا الإعجاز قريبا.
إعجاز القرآن : قد ثبت بالفعل، وتواتر فيه النقل، وحسبك منه وجود ما لا يحصى من المصاحف في جميع الأقطار التي يسكنها المسلمون، وكذا في غيرها ووجود الألوف من حفاظه في مشارق الأرض ومغاربها، وهي تحكي لنا هذه الآيات في التحدي بإعجازه، ولو وجد له معارض أتى بسورة مثله لتوفرت الدواعي على نقلها بالتواتر أيضا، بل لكانت فتنة ارتد بها المسلمون على أدبارهم.
ولما كان إعجازه لمزايا فيه تعلو قدرة المخلوق علما وحكما وبيانا للعلم والحكمة حار العلماء في تحديد وجه الإعجاز بعد ثبوته بالعلم اليقيني الذي بلغ حد الضرورة في ظهوره، حتى قال بعض علماء المعتزلة : إن إعجازه بالصرفة، يعنون أن الله تعالى صرف قدرة بلغاء العرب الخلص في عصر التنزيل عن التوجه لمعارضته فلم يهتدوا إليها سبيلا، ثم تسلسل ذلك في غيرهم واستمر إلى عصرنا هذا، وهذا رأى كسول أحب أن يريح نفسه من عناء البحث وإجالة قدح الفكر في هذا الأمر، وللباحثين فيه أقوال، كتبت فيها فصول وألفت فيها رسائل وكتب، وقد عقدت هذا الفصل عند طبع هذا الجزء من التفسير لبيانها وإيضاحها، لما علمت من شدة حاجة المسلمين أنفسهم إليها، دع أمر دعوة غيرهم أو الاحتجاج عليهم بها.
إعجاز القرآن بأسلوبه ونظمه.
( الوجه الأول ) اشتماله على النظم الغريب، والوزن العجيب، والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من كلام العرب في مطالعه وفواصله ومقاطعه. هذه عبارتهم وأوردوا عليها شبهتين وأجابوا عنهما ؛ وحصروا نظم الكلام منثوره مرسلا وسجعا، ومنظومه قصيدا ورجزا، في أربعة أنواع لا يمكن عد نظم القرآن وأسلوبه واحدا منهما، كما يدل عليه كلام الوليد بن المغيرة من أكبر بلغاء قريش الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم وعادوه استكبارا، وجاحدوه استعلاء واستنكارا. أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس قال " إن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ؛ فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، قال : وماذا أقول ؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله٢ وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال : والله ما يرضى قومك حتى تقول فيه. قال فدعني أفكر، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. وكان هذا سبب نزول قوله تعالى ﴿ ذرني ومن خلقت وحيدا ﴾ الآيات.
ولعمري إن مسالة النظم والأسلوب لإحدى الكبر، وأعجب العجائب لمن فكر وأبصر، ولم يوفها أحد حقها، على كثرة ما أبدؤوا وأعادوا فيها، وما هو بنظم واحد ولا بأسلوب واحد، وإنما هو مائة أو أكثر : القرآن مائة وأربع عشرة سورة متفاوتة في الطول والقصر : من السبع الطوال التي تزيد السورة فيه على المائة وعلى المائتين من الآيات – إلى السور المئين – إلى الوسطى من المفصل إلى ما دونها من العشرات فالآحاد كالثلاث الآيات فما فوقها، وكل سورة منها تقرأ بالترتيل المشبه للتلحين، المعين على الفهم المفيد للتأثير، على اختلافها في الفواصل، وتفاوت آياتها في الطول والقصر، فمنها المؤلف من كلمة واحدة ومن كلمتين ومن ثلاث، ومنها المؤلف من سطرين أو بضعة أسطر، ومنها المتفق في أكثر الفواصل أو كلها، ومنها المختلف في السورة الواحدة منها، وهي على ما فيها متشابه وغير متشابه في النظم، متشابهة كلها في مزج المعاني العالية بعضها ببعض، ومن صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى، وآياته في الأنفس والآفاق، والحكم والمواعظ والأمثال، وبيان البعث والمآل، ودار الأبرار ودار الفجار، والاعتبار بقصص الرسل والأقوام وأحكام العبادات والمعاملات والحلال والحرام.
يقول قائل : إن أساليب جميع الفصحاء والبلغاء متفاوتة كذلك، لا يشبه أسلوب منها أسلوبا، ولا يستويان منظوما ولا منثورا، فمجرد اختلاف الأسلوب والنظم لا يصح أن يعد معجزا ( ونقول ) من قال هذا فقد أبعد النجعة، وأوغل في مهامه الغفلة. فمهما تختلف منظومات الشعراء فلن تعدو بحور الشعور المنقولة عن المتقدمين. والتوشيحات والأرجال المعروفة عند المولدين. ومهما تختلف خطب الخطباء والمترسلين من الكتاب. والمؤلفين في العلوم والشرائع والآداب فلن تعدوا أنواع الكلام الأربعة التي بدأنا القول بها. ولا يشبه شيء من هذه ولا تلك نظم سورة القرآن ولا أكثرها. ولكل منهم نظم وأسلوب خاص.
فإن شئت أن تشعر سمعك وذوقك بالفرق بين نظم الكلام البشري ونظم الكلام الإلهي فائت بقارئ حسن الصوت يسمعك بعض أشعار المفلقين. وخطب المصاقع المفوّهين. المتقدمين والمتأخرين. بكل ما يستطيع من نغم وتحسين. ثم ليتل عليك بعد ذلك بعض سور القرآن المختلفة النظم والأسلوب كسورة النجم وسورة القمر وسورة الرحمان وسورة الواقعة وسورة الحديد – مثلا – ثم حكم ذوقك ووجدانك في الفرق بينها في أنفسها. ثم في الفرق بين كل منها وبين كلام البشر في كل أسلوب من أساليب بلغائهم. وتأثير كل من الكلامين في نفسك. بعد اختلاف وقعه في سمعك.
بل تأمل المعنى الواحد من المعاني المكررة في القرآن. لأجل تقريرها في الأنفس ونقشها في الأذهان. كالاعتبار بأحوال أشهر الرسل مع أقوامهم من مختصر ومطول. وافطن لاختلاف النظم والأساليب فيها. فمن المختصر ما في سور الذاريات والنجم والقمر والفجر. ومن المطول ما في سور الأعراف والشعراء وطه. لعلك إن تدبرت هذا تشعر بالبون الشاسع بين كلام المخلوقين وكلام الخالق. وتحكم بهذا الضرب من الإعجاز حكما ضروريا وجدانيا لا تستطيع أن تدفعه عن نفسك، وإن عجزت عن بيانه بقولك.
ومن اللطائف البديعة التي يخالف بها نظم القرآن نظم كلام العرب من شعر ونثر : أنك ترى السور ذات النظم الخاص والفواصل المقفاة تأتي في بعضها فواصل غير مقفاة، فتزيدها حسنا وجمالا وتأثيرا في القلب، وتأتي في بعض آخر آيات مخالفة لسائر آيها في فواصلها وزنا وقافية، فترفع قدرها وتكسوها جلالة وتكسبها روعة وعظمة، وتجدد من نشاط القارئ وترهف من سمع المستمع، وكان ينبغي للخطباء والمترسلين أن يحاكوا هذا النوع من محاسنه، وإن كانوا يعجزون عن معارضة السورة في جملتها، أو الصعود إلى أفق بلاغتها، ومن أعجب هذه السور أوائل سور المفصل بل المفصل كله. قال شيخنا الأستاذ الإمام : كان المعقول أن يحدث القرآن في هذه اللغة من البلاغة في البيان فوق ما أحدثه بدرجات.
إعجاز القرآن ببلاغته
( الوجه الثاني ) بلاغته التي تقاصرت عنها بلاغة سائر البلغاء قبله وفي عصر تنزيله وفيما بعده. ولم يختلف أحد من أهل البيان في هذا، وإنما أورد بعض المخالفين بعض الشبه على كون بلاغة كل سورة من قصار سوره بلغت حد الإعجاز فيه، والقائلون به لا يحصرون إعجاز كل سورة فيه، ويتحقق التحدي عندهم بإعجاز بعض السور القصيرة بغيره. كأخبار الغيب في سورة الكوثر التي هي أقصر سورة، على أن مسيلمة تصدى لمعارضتها بمحاكاة فواصلها، فجاء بخزي كان حجة على عجزه وصحة إعجازها.
ومن الناس من لا يفقه سر هذه البلاغة ويمارى فيما كتب علماء المعاني والبيان من قواعدها، زاعمين أنه يمكن حمل كل كلام عليها، وأن الإحالة على الذوق فيها إحالة على مجهول، لا تقوم به حجة ولا يثبت به مدلول، لأن الذوق المعنوي كالحسي خاص بصاحبه " من ذاق عرف " وسبب هذا جهلهم اللغة العربية الفصحى نفسها، فقد مرت القرون في أثر القرون على ترك الناس لمدارسة الكلام البليغ منها واستظهاره واستعماله، واقتصار مدارس الأمصار على قراءة كتب النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع وهي أدنى ما وضع في فنونها فصاحة وبيانا، وأشدها عجمة وتعقيدا، وهي الكتب التي اقتصر مؤلفوها على سرد القواعد بعبارة فنية دقيقة بعيدة عن فصاحة أهل اللغة وعن بيان المتقدمين الواضعين لهذه الفنون ومن بعدهم إلى القرن الخامس، كالخليل وسيبويه وأبي علي وابن جنى وعبد القهار الجرجاني، حتى صار أوسع الناس علما بهذه الفنون أجهل قراء هذه اللغة بها. وأعجزهم عن فهم الكلام البليغ منها، بله الإتيان بمثله، فمن لم يقرأ من كتاب البلاغة إلا مثل السمرقندية وشرحي جوهر الفنون وعقود الجمان فشرحي التلخيص للسعد التفتازاني وحواشيهما لا يرجى أن يذوق للبلاغة طعما، أو يقيم للبيان وزنا، فأنى يهتدي إلى الإعجاز بهما سبيلا، أو ينصب عليه دليلا ؟ وإنما يرجى هذا الذوق لمن يقرأ أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر فإنهما الكتابان اللذان يحيلانك في قوانين البلاغة على وجدانك، وما تجد من أثر الكلام في قلبك وجنانك، فترى أن علمي البيان شعبة من علم النفس، وأن قواعدهما يشهد لها الشعور والحس، ولكن لا بد مع ذلك من قراءة الكثير من منظوم الكلام البليغ ومنثوره، واستظهار بعضه مع فهمه، كما قرر حكيمنا ابن خلدون في الكلام على علم البيان من مقدمته.
فهذا هو الأصل في تحصيل ملكة البلاغة فهما وأداء، والقوانين الموضوعة لها مستنبطة من الكلام البليغ وليس هو مستنبطا منها، وقد عكست القضية منذ القرون الوسطى حتى ساغ لمستقل الفكر أن يقول في الكتب التي أشرنا إليها وهي التي تقرأ في مدرسة الجامع الأزهر وأمثالها : إن قواعدها تقليدية لا يمكن أن يعلم بها تفاضل الكلام، إذ يمكن حمل كل كلام عليها، ولذلك كان أكثر الناس مزاولة لها أضعفهم بيانا، وأشدهم عيا وفهاهة.
فمعرفة مكانة القرآن من البلاغة لا يحكمها من الجهة الفنية والذوقية إلا من أوتى حظا عظيما من مختار كلام البلغاء المنظوم والمنثور، من مرسل ومسجوع، حتى صار ملكة له وذوقا، واستعان على فهم فلسفته بمثل كتابي عبد القهار والصناعتين لأبي هلال العسكري والخصائص لابن جني، وأساس البلاغة للزمخشري ؛ ومغني اللبيب لإبن هشام هذه مقدمات البلاغة ونتيجتها الملكة، ولها غاية يمكن العلم بها من التاريخ، وهي ما كان للقرآن من التأثير في الأمة العربية، ثم فيمن حذقها من الأعاجم أيضا. الحد الصحيح للبلاغة في الكلام هي أن يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل، والوجدان من النفس ( وقد يعبر عنهما بالقلب ). ولم يعرف في تاريخ البشر أن كلاما قارب القرآن في قوة تأثيره في العقول والقلوب، فهو الذي قلب طباع الأمة العربية وحولها عن عقائدها وتقاليدها، وصرفها عن عادتها وعداواتها، وصدف بها عن أثرتها وثاراتها، وبدلها بأميتها حكمة وعلما، وبجاهليتها أدبا رائعا وحلما، وألف من قبائلها المتفرقة أمة واحدة سادت العالم بعقائدها وفضائلها وعدلها وحضارتها، وعلومها وفنونها.
اهتدى إلى هذا النوع من إعجازه بعض حكماء أوربة مستنبطا له من هذه الغاية التاريخية وبينه في الرد على من زعم من دعاة النصرانية أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يؤت مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات المع
وعبر عن نفي وقوع الفعل منهم بإن التي يعبر بها عما يشك في شرطه، أو بجزم المتكلم بعد وقوعه، ومقتضى القاعدة أن يكون الشرط هنا بإذا لأن المحقق أنهم لن يفعلوا كما صرحت به الآية مع القطع بأن الله تعالى منزه عن الشك. ولكن القواعد التي تذكر في علم البلاغة قد ينظر فيها إلى حال المخاطب لا حال المتكلم، والمعول عليه هو ما يقصد المتكلم أن يبلغه من نفس المخاطب ويودعه في ذهنه، فهاهنا يخاطب الله المرتابين، والذين هم في جحودهم وعنادهم كالواثقين الموقنين، خطابا يؤذن أوله بأن عدم الإتيان بما تحداهم به مشكوك فيه، ولازمه أن المعارضة جائزة منهم، وداخلة في حدود إمكانهم، خاطبهم بهذا مراعاة لظاهر حالهم التي تومئ إلى القدرة على المعارضة، وتشير إلى إمكان الإتيان بالسورة. ثم كر على هذا الإيذان الإيهام بالنقض بلا تلبث ولا تريث، وأبطل مراعاة الظاهر بل حولها إلى تهكم، بالنفي المؤكد الذي ذهب بذلك الذماء، واستبدل اليأس بالرجاء، كأنه يقول إن إعراضكم عن الإيمان، بعد سماع هذا القرآن. الذي أفاض العلوم على أمي لم يترب في معاهد العلم، وأظهر معجزات البلاغة على من لم يكن يعرف منه التبريز بها في نثر ولا نظم، يدل على أنكم تدعون استطاعة الإتيان بسورة من مثله وما أنتم بمستطيعين، ولو استعنتم عليه بجميع العالمين. ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾.
كان يتحداهم بمثل هذه الآيات الصادعة التي تثير النخوة، وتهيج الغيرة مع علو كعبهم في البلاغة ورسوخ عرقهم في أساليبها وفنونها، في عصر ارتقت فيه دولة الكلام، ارتقاء لم تعرف مثله الأيام، حتى كانوا يتبارون فيه ويتنافسون. ويباهون ويفاخرون، ويعقدون لذلك المجامع ويقيمون الأسواق، ثم ينهض بليغ من مصاقعهم إلى المناهضة ( أقول ) بل تواتر عنهم ما كان " من الإعراض عن المعارضة بأسلاب ألسنتهم، والفزع إلى المقارعة بأسنة أسلهم " ١ وسفك دمائهم بأسيافهم، وتخريب بيوتهم بأيديهم، أفلم يكن الأجدر بمداره قريش وفحولها. وغرر بني معد وحجولها، أن يجتمعوا على تأليف سورة ببلاغتهم التي كانوا يتبارون فيها بسوق عكاظ وغيرها من مجامع مفاخراتهم ويؤثروا هذا على سوق الخميس بعد الخميس من صناديدهم إلى يثرب لقتال محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن به رضي الله عنه في بدر وأحد ووراء الخندق لو كان ذلك مستطاعا لهم ؟ ومثل هذا يقال في اليهود الذين كانوا بجواره في المدينة فأمنهم على دينهم وأموالهم وأعراضهم، فأبوا إلا إعانة مشركي قومه عليه حتى اضطروه إلى قتالهم، وإخراج بقية السيف من دياره. فلا شك أن الله تعالى قد رفع هذا الكلام إلى درجة لا يرتقي البشر إليها، وهو تعالى جده العالم بمبلغ استطاعتهم، والمالك لأعنة قدرتهم.
قال المتكلمون في بلاغة القرآن إننا نجده لم يلتزم شيئا مما كانوا يلتزمون بسجعهم وإرسالهم، ورجزهم وأشعارهم، بل جاء على النمط الفطري، والأسلوب العادي، الذي يتسنى لكل إنسان أن يحذو مثاله، ولكنهم عجزوا فلم يأتوا ولم يأت غيرهم بسورة من مثله، ثم نلاحظ أيضا أن القرآن بهذا الأسلوب قد تحدى به كل من بلغه من العرب، على تفرق ديارهم، وتنائي أقطارهم، وأرسل الرسول على الأطراف يدعو الناس إلى الإيمان به، فعمت الدعوة وبلغت مبلغها ولم ينبر أحد للمعارضة كما قلنا. ألا يدل هذا على نهاية العجز وعمومه، وإحساس كل بليغ بالضعف في نفسه عن الانبراء لمباراته، والتسامي لمحاكاته، وعلى أن الله تعالى جعله فوق القدر، خارقا لما يعتاد من كسب البشر ؟ بلى، وإن لهذا الإعجاز وجهين. أحدهما : كونه معجزا بذاته لأنه في مرتبة لا يمكن لبشر أن يرتقي إليها، وثانيهما : أنه جاء على لسان أمي لبث أربعين سنة لم يوصف بالبلاغة ولم يؤثر عنه شيء من العلم. وقد ذكروا وجوها أخرى للإعجاز ينطوي عليها القرآن. منها قوله هنا ﴿ ولن تفعلوا ﴾ بناء على أن المخبر هو الله تعالى. عالم الغيب وما يكون في المستقبل. ومن فائدة هذا القول في عهد نزوله. وقبل ظهور تأويله : أن قرعه لسمع من لا يؤمن بالغيب يقتضي أشد التحريض على المعارضة التي يظهر به العجز ويقوم البرهان بالإعجاز المقتضي للإيمان. لولا مكابرة المستكبرين لوجدانهم. وجحودهم ألسنتهم لما استيقنته قلوبهم. ﴿ ٢٧ : ١٤ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا. فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ وأما من يؤمن بالغيب ويعتقد الخوارق فما عليه إلا أن ينتهي إلى عجزه ويبادر إلى الإيمان به وبرسالة من أنزل عليه، للعلم القطعي بأنه لا يمكن لعاقل أن يجزم بذلك إلا إذا كان مطلعا على الغيب. فهو خبر عن الله عز وجل.
قال تعالى مخاطبا للفريقين بعد تسجيل العجز عليهم ﴿ فاتقوا النار ﴾ وهي موطن عذاب الآخرة نؤمن بها لأنها من عالم الغيب الذي أخبر الله تعالى به ولا نبحث عن حقيقتها. ولا نقول أنها شبيهة بنار الدنيا ولا إنها غير شبيهة بها. وإنما نثبت لها جميع الأوصاف التي وصفها الله تعالى بها كقوله ﴿ التي وقودها الناس والحجارة ﴾ المراد بالحجارة الأصنام كما في قوله تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حطب جهنم ﴾ ولا يسبقن إلى الفهم أنها لا توجد إلا بوجود الناس والحجارة إذ يصح أن يكونوا وقودها بعد وجودها. والوقود بالفتح ما توقد به النار. وبالضم مصدر وقد. وسمع المصدر بالفتح أيضا.
وقال بعضهم في تفسير " وقودها " إن الناس بأعمالهم وعبادة بعضهم بعضا وانحرافهم عن صراط الحق المستقيم. والحجارة بعبادة الناس لها – سببان في إيجاد النار وإعدادها لهم. فبذلك كانوا كالوقود الذي تضرم به النار. وفي الكلام تقديم السبب، وهو الناس والحجارة على المسبب، وهو قوله تعالى ﴿ أعدت للكافرين ﴾ وبهذا التفسير يظهر الحصر في جملة ﴿ وقودها الناس والحجارة ﴾ فإنها اسمية معرفة الطرفين. وخص الحجارة بالذكر لأنها أظهر المعبودات عند العرب.
والمراد بالكافرين الذين لا يجيبون دعوة الأنبياء عليهم السلام والذين ينحرفون عن أصولها بعد الأخذ بها لبدع يبتدعونها وتقاليد يحدثونها.
وتأويلات يلفقونها. فهؤلاء هم الذين أعدت وهيئت النار لهم لأنهم الذين يستحقون الخلود فيها، ومن وردها ورودا وانتهى إلى موطن آخر فذلك الموطن هو الذي أعد له. وليس بعد الدنيا موطن إلا الجنة جعلنا الله من أهلها بالتوفيق للتقوى، أو النار نعوذ بالله منها ومما يقرب إليها من قول وعمل.
إعجاز القرآن : قد ثبت بالفعل، وتواتر فيه النقل، وحسبك منه وجود ما لا يحصى من المصاحف في جميع الأقطار التي يسكنها المسلمون، وكذا في غيرها ووجود الألوف من حفاظه في مشارق الأرض ومغاربها، وهي تحكي لنا هذه الآيات في التحدي بإعجازه، ولو وجد له معارض أتى بسورة مثله لتوفرت الدواعي على نقلها بالتواتر أيضا، بل لكانت فتنة ارتد بها المسلمون على أدبارهم.
ولما كان إعجازه لمزايا فيه تعلو قدرة المخلوق علما وحكما وبيانا للعلم والحكمة حار العلماء في تحديد وجه الإعجاز بعد ثبوته بالعلم اليقيني الذي بلغ حد الضرورة في ظهوره، حتى قال بعض علماء المعتزلة : إن إعجازه بالصرفة، يعنون أن الله تعالى صرف قدرة بلغاء العرب الخلص في عصر التنزيل عن التوجه لمعارضته فلم يهتدوا إليها سبيلا، ثم تسلسل ذلك في غيرهم واستمر إلى عصرنا هذا، وهذا رأى كسول أحب أن يريح نفسه من عناء البحث وإجالة قدح الفكر في هذا الأمر، وللباحثين فيه أقوال، كتبت فيها فصول وألفت فيها رسائل وكتب، وقد عقدت هذا الفصل عند طبع هذا الجزء من التفسير لبيانها وإيضاحها، لما علمت من شدة حاجة المسلمين أنفسهم إليها، دع أمر دعوة غيرهم أو الاحتجاج عليهم بها.
إعجاز القرآن بأسلوبه ونظمه.
( الوجه الأول ) اشتماله على النظم الغريب، والوزن العجيب، والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من كلام العرب في مطالعه وفواصله ومقاطعه. هذه عبارتهم وأوردوا عليها شبهتين وأجابوا عنهما ؛ وحصروا نظم الكلام منثوره مرسلا وسجعا، ومنظومه قصيدا ورجزا، في أربعة أنواع لا يمكن عد نظم القرآن وأسلوبه واحدا منهما، كما يدل عليه كلام الوليد بن المغيرة من أكبر بلغاء قريش الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم وعادوه استكبارا، وجاحدوه استعلاء واستنكارا. أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس قال " إن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ؛ فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، قال : وماذا أقول ؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله٢ وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال : والله ما يرضى قومك حتى تقول فيه. قال فدعني أفكر، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. وكان هذا سبب نزول قوله تعالى ﴿ ذرني ومن خلقت وحيدا ﴾ الآيات.
ولعمري إن مسالة النظم والأسلوب لإحدى الكبر، وأعجب العجائب لمن فكر وأبصر، ولم يوفها أحد حقها، على كثرة ما أبدؤوا وأعادوا فيها، وما هو بنظم واحد ولا بأسلوب واحد، وإنما هو مائة أو أكثر : القرآن مائة وأربع عشرة سورة متفاوتة في الطول والقصر : من السبع الطوال التي تزيد السورة فيه على المائة وعلى المائتين من الآيات – إلى السور المئين – إلى الوسطى من المفصل إلى ما دونها من العشرات فالآحاد كالثلاث الآيات فما فوقها، وكل سورة منها تقرأ بالترتيل المشبه للتلحين، المعين على الفهم المفيد للتأثير، على اختلافها في الفواصل، وتفاوت آياتها في الطول والقصر، فمنها المؤلف من كلمة واحدة ومن كلمتين ومن ثلاث، ومنها المؤلف من سطرين أو بضعة أسطر، ومنها المتفق في أكثر الفواصل أو كلها، ومنها المختلف في السورة الواحدة منها، وهي على ما فيها متشابه وغير متشابه في النظم، متشابهة كلها في مزج المعاني العالية بعضها ببعض، ومن صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى، وآياته في الأنفس والآفاق، والحكم والمواعظ والأمثال، وبيان البعث والمآل، ودار الأبرار ودار الفجار، والاعتبار بقصص الرسل والأقوام وأحكام العبادات والمعاملات والحلال والحرام.
يقول قائل : إن أساليب جميع الفصحاء والبلغاء متفاوتة كذلك، لا يشبه أسلوب منها أسلوبا، ولا يستويان منظوما ولا منثورا، فمجرد اختلاف الأسلوب والنظم لا يصح أن يعد معجزا ( ونقول ) من قال هذا فقد أبعد النجعة، وأوغل في مهامه الغفلة. فمهما تختلف منظومات الشعراء فلن تعدو بحور الشعور المنقولة عن المتقدمين. والتوشيحات والأرجال المعروفة عند المولدين. ومهما تختلف خطب الخطباء والمترسلين من الكتاب. والمؤلفين في العلوم والشرائع والآداب فلن تعدوا أنواع الكلام الأربعة التي بدأنا القول بها. ولا يشبه شيء من هذه ولا تلك نظم سورة القرآن ولا أكثرها. ولكل منهم نظم وأسلوب خاص.
فإن شئت أن تشعر سمعك وذوقك بالفرق بين نظم الكلام البشري ونظم الكلام الإلهي فائت بقارئ حسن الصوت يسمعك بعض أشعار المفلقين. وخطب المصاقع المفوّهين. المتقدمين والمتأخرين. بكل ما يستطيع من نغم وتحسين. ثم ليتل عليك بعد ذلك بعض سور القرآن المختلفة النظم والأسلوب كسورة النجم وسورة القمر وسورة الرحمان وسورة الواقعة وسورة الحديد – مثلا – ثم حكم ذوقك ووجدانك في الفرق بينها في أنفسها. ثم في الفرق بين كل منها وبين كلام البشر في كل أسلوب من أساليب بلغائهم. وتأثير كل من الكلامين في نفسك. بعد اختلاف وقعه في سمعك.
بل تأمل المعنى الواحد من المعاني المكررة في القرآن. لأجل تقريرها في الأنفس ونقشها في الأذهان. كالاعتبار بأحوال أشهر الرسل مع أقوامهم من مختصر ومطول. وافطن لاختلاف النظم والأساليب فيها. فمن المختصر ما في سور الذاريات والنجم والقمر والفجر. ومن المطول ما في سور الأعراف والشعراء وطه. لعلك إن تدبرت هذا تشعر بالبون الشاسع بين كلام المخلوقين وكلام الخالق. وتحكم بهذا الضرب من الإعجاز حكما ضروريا وجدانيا لا تستطيع أن تدفعه عن نفسك، وإن عجزت عن بيانه بقولك.
ومن اللطائف البديعة التي يخالف بها نظم القرآن نظم كلام العرب من شعر ونثر : أنك ترى السور ذات النظم الخاص والفواصل المقفاة تأتي في بعضها فواصل غير مقفاة، فتزيدها حسنا وجمالا وتأثيرا في القلب، وتأتي في بعض آخر آيات مخالفة لسائر آيها في فواصلها وزنا وقافية، فترفع قدرها وتكسوها جلالة وتكسبها روعة وعظمة، وتجدد من نشاط القارئ وترهف من سمع المستمع، وكان ينبغي للخطباء والمترسلين أن يحاكوا هذا النوع من محاسنه، وإن كانوا يعجزون عن معارضة السورة في جملتها، أو الصعود إلى أفق بلاغتها، ومن أعجب هذه السور أوائل سور المفصل بل المفصل كله. قال شيخنا الأستاذ الإمام : كان المعقول أن يحدث القرآن في هذه اللغة من البلاغة في البيان فوق ما أحدثه بدرجات.
إعجاز القرآن ببلاغته
( الوجه الثاني ) بلاغته التي تقاصرت عنها بلاغة سائر البلغاء قبله وفي عصر تنزيله وفيما بعده. ولم يختلف أحد من أهل البيان في هذا، وإنما أورد بعض المخالفين بعض الشبه على كون بلاغة كل سورة من قصار سوره بلغت حد الإعجاز فيه، والقائلون به لا يحصرون إعجاز كل سورة فيه، ويتحقق التحدي عندهم بإعجاز بعض السور القصيرة بغيره. كأخبار الغيب في سورة الكوثر التي هي أقصر سورة، على أن مسيلمة تصدى لمعارضتها بمحاكاة فواصلها، فجاء بخزي كان حجة على عجزه وصحة إعجازها.
ومن الناس من لا يفقه سر هذه البلاغة ويمارى فيما كتب علماء المعاني والبيان من قواعدها، زاعمين أنه يمكن حمل كل كلام عليها، وأن الإحالة على الذوق فيها إحالة على مجهول، لا تقوم به حجة ولا يثبت به مدلول، لأن الذوق المعنوي كالحسي خاص بصاحبه " من ذاق عرف " وسبب هذا جهلهم اللغة العربية الفصحى نفسها، فقد مرت القرون في أثر القرون على ترك الناس لمدارسة الكلام البليغ منها واستظهاره واستعماله، واقتصار مدارس الأمصار على قراءة كتب النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع وهي أدنى ما وضع في فنونها فصاحة وبيانا، وأشدها عجمة وتعقيدا، وهي الكتب التي اقتصر مؤلفوها على سرد القواعد بعبارة فنية دقيقة بعيدة عن فصاحة أهل اللغة وعن بيان المتقدمين الواضعين لهذه الفنون ومن بعدهم إلى القرن الخامس، كالخليل وسيبويه وأبي علي وابن جنى وعبد القهار الجرجاني، حتى صار أوسع الناس علما بهذه الفنون أجهل قراء هذه اللغة بها. وأعجزهم عن فهم الكلام البليغ منها، بله الإتيان بمثله، فمن لم يقرأ من كتاب البلاغة إلا مثل السمرقندية وشرحي جوهر الفنون وعقود الجمان فشرحي التلخيص للسعد التفتازاني وحواشيهما لا يرجى أن يذوق للبلاغة طعما، أو يقيم للبيان وزنا، فأنى يهتدي إلى الإعجاز بهما سبيلا، أو ينصب عليه دليلا ؟ وإنما يرجى هذا الذوق لمن يقرأ أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر فإنهما الكتابان اللذان يحيلانك في قوانين البلاغة على وجدانك، وما تجد من أثر الكلام في قلبك وجنانك، فترى أن علمي البيان شعبة من علم النفس، وأن قواعدهما يشهد لها الشعور والحس، ولكن لا بد مع ذلك من قراءة الكثير من منظوم الكلام البليغ ومنثوره، واستظهار بعضه مع فهمه، كما قرر حكيمنا ابن خلدون في الكلام على علم البيان من مقدمته.
فهذا هو الأصل في تحصيل ملكة البلاغة فهما وأداء، والقوانين الموضوعة لها مستنبطة من الكلام البليغ وليس هو مستنبطا منها، وقد عكست القضية منذ القرون الوسطى حتى ساغ لمستقل الفكر أن يقول في الكتب التي أشرنا إليها وهي التي تقرأ في مدرسة الجامع الأزهر وأمثالها : إن قواعدها تقليدية لا يمكن أن يعلم بها تفاضل الكلام، إذ يمكن حمل كل كلام عليها، ولذلك كان أكثر الناس مزاولة لها أضعفهم بيانا، وأشدهم عيا وفهاهة.
فمعرفة مكانة القرآن من البلاغة لا يحكمها من الجهة الفنية والذوقية إلا من أوتى حظا عظيما من مختار كلام البلغاء المنظوم والمنثور، من مرسل ومسجوع، حتى صار ملكة له وذوقا، واستعان على فهم فلسفته بمثل كتابي عبد القهار والصناعتين لأبي هلال العسكري والخصائص لابن جني، وأساس البلاغة للزمخشري ؛ ومغني اللبيب لإبن هشام هذه مقدمات البلاغة ونتيجتها الملكة، ولها غاية يمكن العلم بها من التاريخ، وهي ما كان للقرآن من التأثير في الأمة العربية، ثم فيمن حذقها من الأعاجم أيضا. الحد الصحيح للبلاغة في الكلام هي أن يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل، والوجدان من النفس ( وقد يعبر عنهما بالقلب ). ولم يعرف في تاريخ البشر أن كلاما قارب القرآن في قوة تأثيره في العقول والقلوب، فهو الذي قلب طباع الأمة العربية وحولها عن عقائدها وتقاليدها، وصرفها عن عادتها وعداواتها، وصدف بها عن أثرتها وثاراتها، وبدلها بأميتها حكمة وعلما، وبجاهليتها أدبا رائعا وحلما، وألف من قبائلها المتفرقة أمة واحدة سادت العالم بعقائدها وفضائلها وعدلها وحضارتها، وعلومها وفنونها.
اهتدى إلى هذا النوع من إعجازه بعض حكماء أوربة مستنبطا له من هذه الغاية التاريخية وبينه في الرد على من زعم من دعاة النصرانية أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يؤت مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات المع
لما بين تعالى في الآية السابقة ما أعده للكافرين الذين قامت عليهم الحجة فجحدوا بها، أراد أن يبين في هذه الآية نصيب مقابل هؤلاء، وهم الذين ظهر لهم الدليل فآمنوا، ولاح لهم نور الهداية فاهتدوا، فالكلام متصل بعضه ببعض. ولذلك عطف الجملة على ما قبلها، أنها متممة لفائدتها، إذ لا بد بعد بيان جزاء الكافرين، من بيان جزاء المؤمنين، والإرشاد ترهيب وترغيب، والخطاب يصح أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وأن يكون عاما لكل من يسمع الأمر من أهله، وقالوا : إن الأخير هو المعروف في لسان العرب والمفهوم عندهم من أمثال هذا الخطاب، كقوله تعالى ﴿ ١٥ : ٤٩ نبئ عبادي ﴾ وقوله ﴿ ٣٦ : ١٣ واضرب لهم مثلا... ﴾ فهو في عمومه جار مجرى الأمثال، " والمخاطب الأول به هو الرسول على كل حال.
قال تعالى ﴿ وبشر الذين آمنوا ﴾ ولم يذكر بماذا آمنوا لأن متعلق الإيمان كان معروفا عند المخاطبين، وهو الله تعالى وصفاته التي ورد بها النقل الصريح. وأثبتها العقل الصحيح، والوحي ومن جاء به، والبعث والجزاء. فهذه هي الأصول التي كان يدعو إليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن صدقهم فيها كان مؤمنا ويصدق بما يتبع ذلك من التفصيل.
( قال الأستاذ ) ولا بد في تحقق الإيمان من اليقين، ولا يقين إلا ببرهان قطعي لا يقبل الشك والارتياب، ولا بد أن يكون البرهان على الألوهية والنبوة عقليا، وإن كان الإرشاد إليها سمعيا، ولكن [ لا ينحصر البرهان العقلي المؤدي إلى اليقين في تلك الأدلة التي وضعها المتكلمون وسبقهم إلى كثير منها الفلاسفة الأقدمون، وقلما تخلص مقدماتها من خلل، أو تصح طرقها من علل، بل قد يبلغ أمي علم اليقين بنظرة صادقة في ذلك الكون الذي بين يديه، أو في نفسه إذا تجلت بغرائبها عليه، وقد رأينا من أولئك الأميين، مللا يلحقه في يقينه آلاف من أولئك المتفننين، الذين أفنوا أوقاتهم في تنقيح المقدمات وبناء البراهين، وهم أسوأ حالا من أدنى المقلدين ].
( وأقول ) كان الأستاذ قد أطلق اشتراط البرهان العقلي هنا كما أطلقه في مواضع أخرى تقدم بعضها والبحث فيه ثم قيده هنا بما بين به خطأ بعض المتكلمين في اشتراطهم البراهين المنطقية التي سموها قطعية على ما فيها من خلل وعلل. والحق أن اطمئنان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير تردد ولا اضطراب كاف في النجاة في الآخرة، وأن أفضل الأدلة ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق، فبداهة العقل فيه كافية عند سليم الفطرة الذي لم يبتل بشكوك الفلاسفة وجدليات المتكلمين ولا بتقليد المبطلين. هذا وإن إطلاق الإيمان وذكر المؤمنين وما أعد لهم من غير وصله بذكر متعلقاته معهود في القرآن لأن المتعلق معلوم للسامعين كما قلنا، وهو بالنسبة لمن لم يؤمنوا : ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم إجمالا من الأصول، وأما المؤمنون فقد عرفوه مفصلا تفصيلا ثم وصف المؤمنين الذين يستحقون البشارة بقوله ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ وأطلق في هذا أيضا كما أطلق في كثير من الآيات لأن العمل الصالح معروف عند الناس بالإجمال، وذلك كاف في الترغيب فيه وجعله تابعا للإيمان متصلا به ولازما من لوازمه، وبين الأعمال الصالحة بالتفصيل في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ الخ وكالآيات في أول سورة ( المؤمنون ) وآخرها وآخر سورة الفرقان وأوائل سورة المعارج وغير ذلك. كأن الله تعالى يقول : إن العمل الصالح معروف عند الناس لأنه أودع في نفوسهم ما يميزون به بين الخير والشر، ولكن بعضهم يضل بانحراف يطرأ على نفسه فيخرجها عن الاعتدال الفطري ثم يضل بضلاله آخرون، فتكون التقاليد والعادات الناشئة عن هذا الضلال هي الميزان عند الضالين في معرفة الصلاح والفساد، والخير والشر لا أصل الهداية الفطرية، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " رواه الشيخان وغيرهما – يعني أن الإنسان لو ترك ونفسه لاهتدى إلى الحق ما دام بعيدا عن التقاليد والعادات وقد بلغ فساد الطباع وانحراف الفطرة في بعض الأمم مبلغا كادوا يخرجون به عن طور البشر، كمتنطعي البراهمة إذ ذهبوا إلى أن كمال الأرواح وسعادتها إنما هو في تعذيب الأبدان وحرمانها من لذاتها. ولذلك جدوا في البعد عن اللذات الجسمانية بأنواعها، فمالوا عن سنن الاعتدال، ومنوا أبدانهم وعقولهم بالفساد والاعتدال، وكبعض كفرة العرب وطائفة من البراهمة إذ زعموا أنه لا خير إلا في اللذة البدنية ولا شر إلا في الألم الجسداني، فالسعادة والكمال عندهم في البعد عن الآلام البدينة، والتمتع بالشهوات الحسية، فمثل هؤلاء المرضى النفوس المحرومين من الكمال الوحي، والعقلي كمثل من غلبت عليه الصفراء فصار يذوق الحلو مرا، وإن من المرضى من يشتهي في طور النقه ما لا يشتهي في حال الصحة والاعتدال وكذلك الحبالى في مدة الوحم.
يرى الجبناء أن الجبن حزم | وتلك خديعة الطبع اللئيم |
ومما وصف الله تعالى به الجنات قوله ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ والمناسبة ظاهرة فإن البساتين حياتها في الأنهار. ( قال شيخنا ) وهل سميت دار النعيم جنة وجنات على سبيل التشبيه وذكرت الأنهار ترشيحا له أم سميت بذلك لأنها مشتملة على الجنات تسمية للكل باسم البعض ؟ الله أعلم بمراده. وأقول : لو لم يرد في هذا المقام إلا ذكر الجنة أو الجنات لوجب التفويض وامتنع الترجيح، أما وقد ذكر في آيات أخرى أنواع من الشجر المثمر وذكر الثمرات. فقد تعين ترجيح الشق الثاني، وإلا كان هر بنا من تشبيه أسرى الألفاظ عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه، إلى تأويلات الباطنية المعطلين لدلالتها من كل وجه.
ألم تر إلى ربك كيف ذكر من شأن أهل تلك الجنات فيها أنهم ﴿ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا ﴾ كلمة " من " الأولى للابتداء والثانية للتبعيض، أي كلما رزقوا من الجنات رزقا من بعض ثمارها ﴿ قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ﴾ أي هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الأيمان والعمل الصالح، فهو كقوله تعالى ﴿ ٣٩ : ٧٤ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ﴾ وذهب الجلال وغيره إلى اختيار أن معناه تشبيه ثمرات الآخرة بثمرات الدنيا لأنها مثلها في اللون والشكل والرائحة وإن كانت تفضلها في الطعم واللذة فقوله تعالى ﴿ وأتوا به متشابها ﴾ بيان لسبب القول على هذا التفسير، أي أتوا بما ذكر من الرزق في الدنيا والآخرة متشابها بعضه يشبه بعضا، محصله : أنهم عند ما يؤتون برزق الجنة يبادرون إلى الحكم بأنه غير ما وعدوا به وأنه عين رزق الدنيا، لأن التشابه يكون سبب الاشتباه عليهم، ولكنهم يعرفون الفرق بعد ذلك بالطعم لأن فرقا عظيما بين لذة رزق الدنيا ورزق الجنة، والتعبير بكلما ينافي هذا التفسير لأن الاشتباه إنما يكون في المرة الأولى، ثم يعرفون التفاوت معرفة تذهب به وتمنع من الحكم بأن هذا عين ذاك أما بالنسبة لأفراد النوع الواحد من الثمار فبالاختبار، وأما بالنسبة لما بعد النوع الأول من الأنواع فبالقياس عليه. وما ذهب إليه الجلال مناف للبلاغة في المعنى أيضا لأن تشابه رزقي الدنيا والآخرة في الألوان والروائح واختلافه في الطعم فقط ليس فيه كبير تشويق لأن اللذة في التنقل، ثم إن أطوار الجنة مخالفة لأطوار الدنيا، والتشويق للناس إنما يكون بحسب ما عهدوا واعتادوا وألفوا. وإننا نعلم أن الأكل في الدنيا لأجل حفظ البنية من الانحلال، ولا انحلال في دار الخلد والبقاء، فلا بد أن يكون الأكل والشرب هناك على ما ورد لحكمة أخرى، أو هو لتحصيل لذة لا نعرفها لأنها من أحوال عالم الغيب، وإنما نؤمن بما ورد ونفوض أمر حقيقته وحكمته إلى الله تعالى. ومما ورد أنه لذة أعلى من لذات الدنيا.
أقول : بل قال ابن عباس رضي الله عنهما " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي " وفي حديث الصحيحين المرفوع عن الله عز وجل " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " وهو تفسير قوله تعالى ﴿ ٣٢ : ١٧ فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾ وذهب بعض المفسرين إلى ما قلناه أولا من أن ذلك الرزق هو عين ما وعدوا به جزاء على أعمالهم، فكلما رزقوا ثمرة منه يذكرون الوعد الإلهي شكرا الله على توفيقهم لذلك العمل الذي له أعدّ هذا الجزاء، كما تفيد آية ﴿ وقالوا الحمد لله ﴾ التي ذكرناها آنفا، فهو من قبيل ارتباط الموعود به بالموعود عليه كأن الأعمال عين الجزاء ﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾ وقوله تعالى بعد ذلك ( ﴿ وأتوا به متشابها ﴾ تأكيدا وتقرير لما تضمنه قولهم وهذا هو الراجح الذي اختاره شيخنا، وهنالك قول ثالث، وهو أن رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته، ويختلف في طعمه ولذته، وهو المتبادر من اللفظ.
ثم قال ﴿ ولهم فيها أزواج مطهرة ﴾ أي مبالغ في تطهيرهن وتزكيتهن فليس فيهن ما يعاب من خبث جسدي حتى ما هو في الدنيا طبيعي كالحيض والنفاس، ولا نفسي كالمكر والكيد وسائر مساوئ الأخلاق، لأنهن طهرن من كل نوع من أنواع التطهير ونساء الجنات من المؤمنات الصالحات، وهن المعروفات في القرآن بالحور العين، وصحبة الأزواج في الآخرة كسائر شؤونها الغيبية نؤمن بما أخبر به الله تعالى منها لا نزيد فيه ولا ننقص منه، ولا نبحث في كيفيته، وإنما نعرف بالإجمال أن أطوار الحياة الآخرة أعلى وأكمل من أطوار الحياة الدنيا كما تقدم، ونحن نعلم أن الحكمة في لذة الأزواج بالمصاحبة الزوجية المخصومة هي التناسل وإنماء النوع. ولم يرد أن في الآخرة تناسلا، فلا بد أن تكون لذة المصاحبة الزوجية هناك أعلى، وحكمتها أسمى وإننا نؤمن بها ولا نبحث في حقيقت
الآيات متصلة بما قبلها لم يختلف النظم ولم يخرج الكلام عن الموضوع الأصلي وهو الكتاب الذي لا ريب فيه، وحال الناس في الإيمان به وعدم الإيمان، ولا فصل في صحة هذا الوصل بين أن يكون الكلام ردا على اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقرات كالذباب والعنكبوت كما يروى عن ابن عباس، أو ردا على المنافقين الذين أنكروا الأمثال في الآيات السابقة بمستوقد النار والصيب من السماء زاعمين أنه لا يليق بالله ضرب الأمثال، أو يكون المراد بالمثل القدوة تقريرا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم. أما على الأول فيقال : إنه إنما نص هنا على نفي الاستحياء من ضرب أي مثل، ولم يذكر ذلك هناك عند تمثيل الأولياء الذين اتخذوهم من دون الله بالذباب والعنكبوت لأن المقام هنا مقام ذكر الاعتراض الموجه على القرآن، فيكون هذا مقام رد شبه المكابرين عنه، وأما على الثاني والثالث فهو أظهر، على أنه لا حاجة في فهم الآية إلى ما قالوه في سببها، فإن لم تكن ردا لما قيل فهي رد لما قد يقال. أو يجول في خواطر أهل المكابرة والجدال، والمجاحدة والمحال.
والاستحياء – قال صاحب الكشاف : إنه من الحياء وهو انكسار وتغير في النفس يلم بها إذا نسب إليها أو عرض لها فعل تعتقد قبحه، وفي الحالة الثانية يكون مانعا من الفعل الذي يعرض، يقال : فلان يستحي أن يفعل كذا، أي إن نفسه تنكسر فتنقض عن فعله، ويقال إنه استحيا من عمل كذا، أي إن نفسه انفعلت وتألمت عند ما عرض عليه عمله فرآه شينا أو نقصا. ويقال حيى بهذا المعنى، كأنه أصيب في حياته، كما يقال : نسي إذا أصيب في نساه – وهو عرق يسمونه عرق النسا بفتح النون – وحشى إذا أصيب في حشاه. وقالوا : إن الحياء ضعف في الحياة بما يصيب موضعها وهو النفس، فمعنى عدم استحياء الله تعالى أنه لا يعرض له ذلك الانكسار والانفعال، ولا يعتريه ذلك التأثر والضعف فيمتنع من ضرب المثل، بل هو يضرب من الأمثال الهادية والمطابقة لحال الممثل به ما يعلم أنه يجلي الحقائق ويؤثر في القلوب. ولكن صاحب الكشاف وغيره أرادوا أن يجعلوا الآية دليلا على اتصاف الله تعالى بالحياء، فقالوا إن النفي خاص ومثله إذا ورد إذا ورد على شيء يدل على أن ذلك الشيء قابل للاتصاف بالمنفى، فمن لا قدرة له على شيء لا ينفى عنه، لا تقول : إن عيني لا تسمع وأذني لا ترى، وقالوا : إن معنى نفي الاستحياء هو أن الله تعالى لا يرى من النقص أن يضرب مثلا بعوضة فما دونها، لأنه خالق كل شيء، وقد ورد في الحديث نسبة الحياء إلى الله تعالى، والنافون له يؤولون ما ورد بأثره وغايته.
أقول : هذا مؤدى ما قاله الأستاذ في الدرس، والحديث في وصفه تعالى بالحياء مروي عن يعلى بن أمية وعن سلمان الفارسي أخرجهما أحمد وأبوا داود والأول النسائي والثاني الترمذي وابن ماجه والحاكم وحسنوهما. والتحقيق : أن الحياء انفعال النفس وتألمها من النقص والقبيح بالغريزة الفضلى غريزة حب الكمال فهو كمال لها خلافا لأولي الوقاحة الذين يعدونه ضعفا ونقصا. وإنما النقص الإفراط في هذه الصفة بحيث تضعف عن الإقدام على الشيء الحسن النافع اتقاء لذم من لا يعرف حسنه أولا يعترف به والمثل في اللغة الشبه والشبيه وضربه عبارة عن إيقاعه وبيانه وهو في الكلام أن يذكر لحال من الأحوال ما يناسبها ويشابهها ويظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا، ولما كان المراد به بيان الأحوال كان قصة وحكاية، واختير له لفظ الضرب لأنه يأتي عند إرادة التأثير وهيج الانفعال، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعا ينفذ أثره إلى قلبه، وينتهي إلى أعماق نفسه، ولكن في الكلام قلبا حيث جعل المثل هو المضروب وإنما هو مضروب به. هذا الذي قاله الأستاذ وهو أبلغ في المعنى من جعل الضرب للمثل كضرب القبة والخيمة أو ضرب النقود.
وإذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره والتنفير عنه بحال الأشياء التي جرى العرف بتحقيرها، واعتادت النفوس النفور منها، ومثل هذا لا يخفى على بليغ، ولا على عاقل أيضا، ولذلك قال بعضهم : إن المنكرين لم يروا في القرآن شيئا يعاب، فتمحلوا بقولهم هذا :
كضرائر الحسناء قلن لوجهها | حسدا وبغضا إنه لذميم |
ثم ذكر تعالى أن الناس في ذلك فريقان ﴿ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ﴾ لأنه ليس نقصا في حد ذاته ؛ وقد جاء في كلامه تعالى فهو ليس نقصا في جانبه، وإنما هو حق لأنه مبين للحق ومقرر له، وسائق إلى الأخذ به، بما له من التأثير في النفس، وذلك أن المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرها، والمثل هو الذي يفصل إجمالها، ويوضح إبهامها، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها، ومشكاة الهداية ونبراسها، ورحم الله تعالى عبد القاهر الجرجاني إمام البلاغة والواضع الأول لعلمي المعاني والبيان، ومؤلف أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لتحقيق إعجاز القرآن، حيث قال في كتابه الأول :
" واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، وكسبها منقبة ؛ ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفا.
" فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهز للعطف وأسر للألف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح ؛ وأقضى بغرر المواهب والمنائح، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر،
" وإن كان ذما كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحده أحد،
" وإن كان حجاجا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر.
" وإن كان افتخارا كان شأوه أبعد، وشرفه أجد، ولسانه ألد.
" وإن كان اعتذارا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسل، ولغرب الغضب أفلّ، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث.
وإن كان وعظا كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر ؛ وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يجلى الغياية، ويبصر الغاية ويبرئ العليل، ويشفى الغليل " الخ
﴿ وأما الذين كفروا ﴾ فيجادلون في الحق بعد ما تبين، ويمارون بالبرهان وقد تعين، فيخرجون من الموضوع، ويعرضون عن الحجة، ويتتبعون الكلم المفردة ؛ حتى إذا ظفروا بكلمة لا يستعذبها ذوق المتطرفين، ولا تدور على السنة المتكلفين، أظهروا العجب منها، وطفقوا يتساءلون عنها ﴿ فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ﴾ ولو أنصفوا لعرفوا، ولكنهم ارتابوا في الحق فانصرفوا ﴿ ١٨ : ٥٤ وكان الإنسان أكثر شيئا جدلا ﴾ يذهب به جدله إلى قياس رب العالمين، بمتنطعي المتأدبين. وينكر على ربه المثل والقياس، ولا ينكره على نفسه وعلى الناس.
قال تعالى في جوابهم ﴿ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ﴾ أي يضل بالمثل أو بالكلام المضروب فيه المثل أولئك الذين يجعلونه شبهة على الإنكار والريب، ويهدي به الذين يقدرون الأشياء بغاياتها، ويحكمون عليها بحسب فائدتها. وأنفع الكلام ما جلى الحقائق، وهدى إلى أقصد الطرائق، وساق النفوس بقوة التأثير، إلى حسن المصير ﴿ ٣٠ : ٤٣ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾ فهؤلاء العالمون هم المؤمنون الذين يعلمون أنه الحق من ربهم وهم المهديون به، وأما الذين قالوا ﴿ ماذا أراد الله ﴾ الخ، أي الذين ينكرون المثل لكفرهم فهم الضالون به، وقد بين شأنهم بقوله ﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾ فعرفت علة ضلالهم وهي الفسوق أي الخروج عن هداية الله تعالى في سننه في خلقه التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وبكتابه بالنسبة إلى الذين أوتوه. وليس المراد بالفاسقين ما هو معروف في الاصطلاحات الشرعية وهم العصاة بما دون الكفر من المعاصي، فإنه لا يصح هنا، وتلك الاصطلاحات حادثة بعد التنزيل. وقد كان التعبير بيضل مشعرا بأن المثل هو منشأ الإضلال والهداية بذاته، فنفى في ذلك بهذه الجملة ليبين أن منشأ الضلال راسخ فيهم وفي أعمالهم وأحوالهم ثم إن الآية تشعر بأن المهتدين في الكثرة كالضالين مع أن هؤلاء أكثر وكأن الحكمة في التسوية إفادة أن المؤمنين المهتدين على قلتهم أجل فائدة وأكثر نفعا وأعظم آثارا من أولئك الكفار الفاسقين الضالين على كثرتهم، لأن المؤمنين كما قيل " قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا " ولذلك جعل الواحد في القتال بعشرة في حال القوة والعزيمة، وباثنين في حال الضعف، قيل هو ضعف البدن، وقيل : بل ضعف البصيرة، ولقد كان من أثر ذلك العدد القليل من المؤمنين الأولين أن سادوا جميع العالمين.
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا | إلى المجد حتى عدّ ألف بواحد |
إن الكرام كثير في البلاد وإن | قلوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا |
وهذا وإن ما تقدم تقريره في ضرب المثل وضلال قوم به وهداية آخرين، هو مبني على أن المراد به المثل الكلامي كما عليه الجمهور، أخذا مما ورد في سبب النزول، وتقدم عن بعضهم أن المراد بالمثل في الآية القدوة الذي يؤتم به ويهتدي بهديه ؛ وهذا المعنى للمثل معروف، وقد نطق به القرآن في قوله تعالى ﴿ ٤٣ : ٥٦ فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ﴾ وقوله ﴿ ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ﴾ وقال فيه { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل
وصف الضالين بالفسوق ثم بين من حال فسوقهم نقض العهد الموثق، وقطع ما يجب أن يوصل، والإفساد في الأرض، وسجل بذلك عليهم الخسران وحصرهم في مضيقه، بحيث لا يسلم منه إلا من رجع عن فسوقه، ( أقول ) فعلم بهذا أن المراد بإسناد الإضلال إليه تعالى في الآية السابقة بيان سنته تعالى في أصحاب هذه الأعمال من الفساق وهو أنهم يضلون حتى بما هو سبب من أشد أسباب الهداية تأثيرا وهو المثل المذكور بسبب رسوخهم في الفسق ونقضهم للعهد الخ.
وليس المعنى أنه تعالى خلق الضلال فيهم خلقا وأجبرهم عليه إجبارا.
العهد هنا لفظ مجمل لم يتقدم الآيات ما يشعر به، ولم يتل فيما تلاها ما يبينه، وكذلك ما أمر الله به أن يوصل، ليس في سابق الآيات، ولا في لاحقها ما يفسره ويبين المراد منه، فما المعنى الذي يتبادر منهما إلى أفهام المخاطبين، ويصح أن يؤخذ من حال أولئك الفاسقين، الذين أنكروا على الله أن مثلا يقتدى به من البشر أو من العرب، أو الذين أنكروا الوحي لمجيء الأمثال القولية فيه بما يعد حقيرا من المخلوقات في عرف المتكبرين والمتطرفين منهم ؟ دل ذكر العهد والسكوت عما يفسره. وإطلاق ما أمر الله به أن يوصل بدون بيان ما يفصله، على أن الله تعالى ما وصفهم إلا بما هم متصفون به، ولا حاجة إلى بيان المجمل بالقول إذا كان الوجود قد تكفل ببيانه، والواقع قد فسره بلسانه، ويرشده إلى فهم العهد الإلهي هنا ما قلناه في معنى الفسوق فإن الفاسقين ﴿ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ﴾ فإذ كان معنى الفسوق الخروج عن سنن الله تعالى في خلقه التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وعن هداية الدين بالنسبة إلى الذين أوتوه خاصة، فعهد الله تعالى هو ما أخذهم به بمنحهم ما يفهمون به هذه السنن المعهودة للناس بالنظر والاعتبار، والتجربة والاختبار. أو العقل والحواس المرشدة إليها، وهي عامة، والحجة بها قائمة على كل من وهب نعمة العقل وبلغ سن الرشد سليم الحواس، ونقيضه عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالا صحيحا حتى كأنهم فقدوها وخرجوا من حكمها، كما قال تعالى ﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾ وكما قال فيهم أيضا ﴿ صم بكم عمي فهم لا يعقلون ﴾.
هذا هو القسم الأول من العهد الإلهي وهو العام الشامل، والأساس للقسم الثاني المكمل الذي هو الدين، فالعهد فطري خلقي، وديني شرعي، فالمشركون نقضوا الأول ؛ وأهل الكتاب الذين لم يقوموا بحقه نقضوا الأول والثاني جميعا، وأعني بالناقضين من أنكر المثل من الفريقين. والميثاق اسم لما يوثق به الشيء ويكون محكما يعسر نقضه. والله تعالى قد وثق العهد الفطري بجعل العقول بعد الرشد قابلة لإدراك السنن الإلهية في الخلق، ووثق العهد الديني بما أيد به الأنبياء من الآيات البينات، ولأحكام المحكمات، وقد وثق العهد الأول بالعهد الثاني أيضا، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم فهو ناقض لعهد الله فاسق عن سننه في تقويم البنية البشرية وإنمائها، وإبلاغ قواها وملكاتها حد الكمال الإنساني الممكن لها وأما قوله ﴿ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ﴾ ففيه من الإجمال نحو ما في نقض العهد، وليس هو بمعناه على طريق التأكيد. وإنما هو وصف مستقل جاء متمما لما سبقه. وهذا الأمر نوعان : أمر تكوين وهو ما عليه الخلق من النظام والسنن المحكمة، وقد سمى الله تعالى التكوين أمرا بما عبر بقوله ( كن ) وأمر تشريع وهو ما أوحاه إلى أنبيائه وأمر الناس بالأخذ به، ومن النوع الأول ترتيب النتائج على المقدمات. ووصل الأدلة بالمدلولات، وإفضاء الأسباب إلى المسببات، ومعرفة المنافع والمضار بالغايات. فمن أنكر نبوة النبي بعد ما قام الدليل على صدقه. أو أنكر سلطان الله على عباده بعد ما شهدت له بها آثاره في خلقه. فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى التكوين الفطري – وكذلك من أنكر شيئا مما علم أنه جاء به الرسول. لأنه إن كان من الأصول الاعتقادية ففيه القطع بين الدليل والمدلول. وإن كان من الأحكام العملية ففيه القطع بين المبادئ والغايات. لأن كل ما أمر الدين به قطعا فهو نافع ومنفعته تثبتها التجربة والدليل. وكل ما نهى عنه حتما فلا بد أن تكون عاقبته مضرة. فالذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه هم الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل بغايته. أما بالنسبة إلى الإيمان بالله تعالى وبالنبوة فيقطعون ما أمر به بمقتضى التكوين والنظام الفطري. وأما بالنسبة إلى الأحكام فيقطعون ما أمر به في كتبه أمر تشريع وتكليف. وصلة الأرحام تدخل في كل من القسمين إذا كان مشركو العرب قد نقضوا عهد الفطرة وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل بمقتضاها بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وإيذائه وهو ذو رحم بهم. فالمكذبون من أهل الكتابين قد قطعوا صلات الأمرين كما نقضوا العهدين : فإن الله تعالى قد بشرهم في الكتب المنزلة على أنبيائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر للمبشر به صفات وأعمالا وأحوالا تنطبق عليه أتم الانطباق فحرموا واجتهدوا في صرفها عنه وهم متعمدون ﴿ وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ﴾ ومنهم من يحمل تلك الصفات والعلامات على غيره. ومنهم من ينتظر مبعوثا آخر يجئ الزمان به.
التعبير بالقطع هنا أبلغ من التعبير بالنقض ولذلك جاء بعده متمما له. كأن عهد الله تعالى إلى الناس حبل محكم الطاقات موثق الفتل. وكأن هذا الحبل قد وصل بحكمة أمر التكوين وحكم أمر التشريع بين جمع المنافع التي تنفع الناس.
فلم يكتف أولئك الفاسقون المنكرون للمثل الذي ضربه الله لعباده بنقض حبل العهد الإلهي. وحل طاقاته ونكث فتله حتى قطعوه قطعا. وأفسدوا بذلك نظام الفطرة ونظام الهداية الدينية أصلا وفرعا. ولذلك عقب هذا الوصف بقوله ﴿ ويفسدون في الأرض ﴾ وأي إفساد أكبر من إفساد من أهمل هداية العقل وهداية الدين ؟ وقطع الصلة بين المقدمات والنتائج. وبين المطالب والأدلة والبراهين. من كان هذا شأنه فهو فاسد في نفسه ووجوده في الأرض مفسد لأهلها لأن شره يتعدى كالأجرب يعدي السليم. ولذلك ورد في السنة النهي عن قرناء السوء. والمشاهدة والتجربة مؤيدة للسنة ومصدقة لها. خصوصا إذا قعدوا في سبيل الله يصدون عنها ويبغونها عوجا. فإن إفسادهم يكون أشد انتشارا وأشمل خسارا ولما كان إفساد هؤلاء عاما للعقائد والأخلاق والأعمال لأن علته فقد الهدايتين هداية الفطرة وهداية الدين – سجل عليهم الخسران وحصره فيهم بقوله ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة أما خسرانهم في الدنيا فهو ظاهر لأرباب البصائر الصافية. والفضائل السامية. ولكنه يخفى على الأكثرين. بالنسبة إلى الأغنياء من أولئك الخاسرين. يرونهم متمتعين بلذات الدنيا وشهواتها. فيحسبون أنهم مغبوطون سعداء بها. فيكون هذا الحسبان من آلات الإفساد. ولو سبروا أغوارهم. وبلوا أخبارهم. لأدركوا أن ما هم فيه من ظلمة النفس وضيق العطن وفساد الأخلاق ينغص عليهم أكثر لذاتهم ويقذف بهم إلى الإفراط الذي يولد الأمراض الجسدية والنفسية. ويثير في نفوسهم كوامن الوساوس. ويجعل عقولهم كالكرة تتقاذفها صوالجة الأوهام. وأن حب الراحة يوقعهم في تعب لا نهاية له. وهو تعب البطالة والكسل أو العمل الاضطراري ومن لا يذوق لذة العمل الاختياري لا يذوق لذة الراحة الحقيقية. لأن الله تعالى لم يضع الراحة في غير العمل. وإنما سعادة الدنيا بصحة الجسم والعقل وأدب النفس الذي يرشد إليه الدين. فمن فقد هذه الأشياء فقد خسر الدنيا والآخرة و﴿ ذلك هو الخسران المبين ﴾
الكلام متصل بما قبله ومرتبط به ارتباطا محكما والخطاب للفاسقين الذين يضلون بالمثل فإنه وصفهم أولا بنقص العهد الإلهي الموثق، وقطع ما أمر به سبحانه أن يوصل، سواء كان الأمر أمر تكوين وهو السنن الكونية، أو أمر تشريع وهو الديانة السماوية.
ثم بعد هذا البيان جاء الاستفهام التعجيبي عن صفة كفرهم مقترنا بالبرهان الناصع على أنه لا وجه له، ولا شبهة تسوغ الإقامة عليه، فقال ﴿ كيف تكفرون بالله ﴾ أي بأي صفة من صفات الكفر بالله تعالى تأخذون، وعلى أية شبهة فيه تعتمدون، وحالكم في موتتكم وحياتكم تأبى عليكم ذلك ولا تدع لكم عذرا فيه ؟ وبين هذه الحال بقوله ﴿ وكنتم أمواتا فأحياكم ﴾ أي والحال إنكم كنتم قبل هذه النشأة الأولى من حياتكم الدنيا أمواتا منبثة أجزاؤكم في الأرض، بعضها في طبقتها الجامدة وبعضها في طبقتها السائلة وبعضها في طبقتها الغازية ( الهوائية ) لا فرق في ذلك بينها وبين أجزاء سائر الحيوان والنبات، فخلقكم أطوارا من سلالة من طين، فكنتم بالطور الأخير في أحسن تقويم، وفضلكم على غيركم بما وهبكم من العقل والإدراك، وما سخر لكم من الكائنات ﴿ ثم يميتكم ﴾ بقبض الروح الحي الذي به نظام حياتكم هذه فتنحل أبدانكم بمفارقته إياها وتعود إلى أصلها الميت وتنبث في طبقات الأرض وتدغم في عوالمها، حتى ينعدم هذا الوجود الخاص بها.
﴿ ثم يحييكم ﴾ حياة ثانية كما أحياكم بعد الموتة الأولى بلا فرق إلا ما تكون به الحياة الثانية أرقى في مرتبة الوجود وأكمل لمن يزكون أنفسهم في تلك، وأدنى منها وأسفل فيمن يدسونها ويفسدون فطرتها ﴿ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ﴾.
﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ فينبئكم بما عملتم، ويحاسبكم على ما قدمتم، ويجازيكم به وأقول إن تراخي الإرجاع إلى الله تعالى عن حياة البعث عبارة عن تأخير الحساب والجزاء وطول زمن الوقوف والانتظار كما ورد في حديث الشفاعة العظمى وغيره. فإذا كان هذا شأنكم معه وهذا فضله عليكم، وهذا مبدأكم وذلك منتهاكم، فكيف تكفرون به وتنكرون به وتنكرون عليه أن يضرب لكم مثلا تهتدون به، ويبعث فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من قيام مصالحكم في حياتكم الأولى، وسعادتكم في حياتكم الأخرى ؟
لا يقال كيف يحتج عليهم بالحياة الثانية قبل الإيمان بالوحي الذي هو دليلها ومثبتها ؟ لأنه احتجاج على مجموع الناس بما عليه الأكثرون منهم، ولا عبرة بالشذاذ المنكرين للبعث في هذا المقام لأن الاحتجاج بالحياة الأولى بعد الموتة الأولى كاف للتعجيب من كفرهم بالله وإنكارهم عليه أن يضرب مثلا ما لهداية الناس زعما أن هذا لا يليق بعظمته، فإن من أوجد هذا الإنسان الكريم، وجعله في أحسن تقويم، وركب صورته من تلك الذرات الصغيرة، والنطفة المهينة الحقيرة، والعلقة الدموية أو الدودية، والمضغة اللحمية، ﴿ لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ﴾ والكلام مسوق لإبطال شبه منكري المثل والقرآن الذي جاء به، لا لإبطال شبه منكري البعث بلوامع شبهه، ثم إن تمثيل إحدى الحياتين بعد الموت بالأخرى داحض لحجة من يزعم عدم إمكان الثانية، لأن ما جاز في أحد المثلين جاز في الآخر، والكلام في إثبات الوحي الإلهي للنبي المرسل من البشر والإيمان بالبعث تابع له ثم بعد بيان بعض آياته في أنفسهم بذكر المبدأ والمنتهى ذكرهم بآياته في الآفاق فقال ﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ﴾.
يصور لنا قوله تعالى ﴿ خلق لكم ﴾ قدرته الكاملة، ونعمه الشاملة، وأي قدرة أكبر من قدرة الخالق ؟ وأي نعمة أكمل من جعل كل ما في الأرض مهيئا لنا، ومعدا لمنافعنا ؟ وللانتفاع بالأرض طريقان ( أحدهما ) الانتفاع بأعينها في الحياة الجسدية ( وثانيهما ) النظر والاعتبار بها في الحياة العقلية، والأرض هي ما في الجهة السفلى، أي ما تحت أرجلنا، كما أن المراد بالسماء كل ما في الجهة العليا أي فوق رءوسنا وإننا ننتفع بكل ما في الأرض برها وبحرها من حيوان ونبات وجماد، ومالا تصل إليه أيدينا ننتفع فيه بعقولنا بالاستدلال به على قدرة مبدعه وحكمته. والتعبير بقي يتناول ما في جوف الأرض من المعادن بالنص الصريح.
( وأقول هنا ) إن هذه الجملة هي نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء " إن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة " والمراد إباحة الانتفاع بها أكلا وشربا ولباسا وتداويا وركوبا وزينة، وبهذا التفصيل تدخل الأشياء التي يضر استعمالها في بعض الأشياء وينفع في بعض، كالسموم التي يضر أكلها وشربها وينفع التداوي بها، وليس لمخلوق حق في تحريم شيء أباحه الرب لعباده تدينا به إلا بوحيه وإذنه ﴿ قل ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا * قل الله أذن لكم على أم الله تفترون ﴾ ؟. وما يحظره الطبيب على المريض من طعام حلال في نفسه وما يمنع الحاكم العادل الناس من التصرف فيه من المباحات لدفع مفسدة أو رعاية مصلحة – فليس من التحريم الديني للشيء ولا يكون دائما، وإنما يتبعان في ذلك كما يأمران به بحق وعدل مادامت علته قائمة.
قال تعالى ﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾ يقال استوى على الشيء إذا قصد إليه قصدا مستويا خاصا به لا يلوي على غيره. وقال الراغب إذا تعدى استوى بإلى اقتضى الانتهاء إلى الشيء إما بالذات وإما بالتدبير، والمراد أن إرادته توجهت إلى مادة السماء كما قال في سورة فصلت ﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان ﴾ الخ.
﴿ فسواهن سبع سماوات ﴾ فأتم خلقهن من تلك المادة الدخانية فجعلهن سبع سماوات تامات منتظمات الخلق. وهذا الترتيب يوافق ما كان معروفا عند اليهود عن سيدنا موسى عليه السلام من أن الله تعالى خلق الأرض أولا، ثم خلق السموات والنور، ولا مانع من الأخذ بظاهر الآية فإن الخلق غير التسوية ألا ترى أن الإنسان في طور النطفة والعلقة يكون مخلوقا ولكنه لا يكون بشرا سويا في أحسن تقويم كما يكون عند إنشائه خلقا آخر، وسنبين إن شاء الله تعالى عند تفسير قوله تعالى ﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ﴾ أن العالم كان شيئا واحد ثم فصله الله تعالى بالخلق تفصيلا، وقدره تقديرا، فلا مانع إذن من أن يكون خلق الأرض وما فيها سابقا على تسوية السماء سبعا، نعم إن هذا من أسرار الخلقة التي لا نعرفها وربما يتوهم أن هذه الآية تناقض أو تخالف قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء وأنوارها ﴿ ٧٩ : ٣٠ والأرض بعد ذلك دحاها ﴾ والجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) أن البعدية ليست بعدية الزمان ولكنها البعدية في الذكر وهي معروفة في كلام العرب وغيرهم فلا بعد في أن تقول فعلت كذا لفلان وأحسنت عليه بكذا وبعد ذلك ساعدته في عمل كذا كما تقول وزيادة على ذلك ساعدته في عمله، تريد نوعا آخر من أنواع الإحسان، من غير ملاحظة التأخر في الزمان ( ثانيهما ) أن الذي كان بعد خلق السماء هو دحو الأرض أي جعلها ممهدة مدحوة قابلة للسكنى والاستعمار لا مجرد خلقها وتقدير أقواتها فيها، وخلق الله وتقديره لم ينقطع من الأرض ولا ينقطع منها ما دامت وكذلك يقال في غيرها.
( وأزيد على ذلك الآن ) أن الدحو في أصل اللغة دحرجة الأشياء القابلة للدحرجة كالجوز والكرى والحصا ورميها ويسمون المطر الداحي لأنه يدحو الحصى وكذا اللاعب بالجوز. وفي حديث أبي رافع كنت ألاعب الحسن والحسين رضوان الله عليهما بالمداحي وهي أحجار أمثال القرصة كانوا يحفرون ويدحون فيها بتلك الأحجار، فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها وإن لم يقع غلب، ذكره في اللسان وقال بعده الدحو هو رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره. وأقول إن ما ذكره وأعاد القول فيه من لعبة الدحو بالحجارة المستديرة كالقرصة لا يزال مألوفا عند الصبيان في بلادنا ويسمونه لعب الأكرة، ويحرفها بعضهم فيقول الدكرة. وقال الراغب في مفردات القرآن قال تعالى ﴿ والأرض بعد ذلك دحاها ﴾ أي أزالها عن مقرها كقوله ﴿ يوم ترجف الأرض والجبال ﴾ وهو من قولهم دحا المطر الحصى الخ، ولكن فرقا بين دحو الأرض ودحرجتها من مكانها عند التكوين، ورجفها قبيل خرابها عند قيام الساعة، وقد يكون المراد به – والله أعلم – أنه دحاها عندما فتقها هي والسموات من المادة الدخانية التي كانت رتقا وفيه دلالة أو إشارة – على الأقل – إلى أنها كرة أو كالكرة في الاستدارة، ولا يبعد أن يكون المراد بدحوها ودحرجتها حركتها بقدرته تعالى في فلكها ﴿ وكل في فلك يسبحون ﴾، وهذا لا ينافي ما قيل من أن معناه بسطها أي وسعها ومد فيها ؛ وأنه سطحها أي جعل لها سطحا واسعا يعيش عليه الناس وغيرهم، فمن جعل مسألة كرويتها وسطحها أمرين متعارضين يقول بكل منهما قوم يطعنون في الآخرين فقد ضيقوا من اللغة والدين واسعا بقلة بضاعتهم فيهما معا.
وحاصل القول أن الله تعالى خلق هذه الأرض وهذه السموات التي فوقنا بالتدريج وما أشهدنا خلقهن، وإنما ذكر لنا ما ذكره للاستدلال على قدرته وحكمته وللامتنان علينا بنعمته، لا لبيان تاريخ تكوينهما بالترتيب، لأن هذا ليس من مقاصد الدين، فابتداء الخلق غير معروف ولا ترتيبه إلا أن تسوية السماء سبع سماوات يظهر أنه كان بعد تكوين الأرض، ويظهر أن السماء كانت موجودة إلا أنها لم تكن سبعا، ولذلك ذكر الاستواء إليها وقال ﴿ فسواهن سبع سماوات ﴾ فنؤمن بأنه فعل ذلك لحكم يعلمها، وقد عرض علينا ذلك لنتدبر ونتفكر، فمن أراد أن يزداد علما فليطلبه من البحث في الكون. [ وعليه بدراسة ما كتب الباحثون فيه من قبل، وما اكتشف المكتشفون من شؤونه وليأخذ من ذلك بما قام عليه الدليل الصحيح لا بما يتخرص به المتخرصون، ويخترعونه من الأوهام والظنون ] وحسبه أن الكتاب أرشده إلى ذلك وأباحه له.
هذه الإباحة للنظر والبحث في الكون بل هذا الإرشاد إليها بالصيغ التي تبعث الهمم وتشوق النفوس ككون كل ما في الأرض مخلوقا لنا محبوسا على منافعنا هو مما امتاز به الإسلام في ترقية الإنسان، فقد خاطبنا القرآن بهذا على حين أن أهل الكتاب كانوا متفقين في تقاليدهم وسيرتهم العملية على أن العقل والدين ضدان لا يجتمعان، والعلم والدين خصمان لا يتفقان، وأن جميع ما يستنتجه العقل خارجا عن نص الكتاب فهو باطل.
ولذلك جاء القرآن يلح أشد الإلحاح بالنظر العقلي، والتفكير والتدبر والتذكر، فلا تقرأ منه قليلا إلا وتراه يعرض عليك الأكوان ويأمرك بالنظر فيها واستخراج أسرارها، واستجلاء حكم اتفاقها واختلافها ﴿ ١٠ : ١٠١ قل انظروا ماذا في السموات والأرض ٢٩ : ١٩ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ٢٢ : ٤٦ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ٨٨ : ١٧ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا. وإكثار القرآن من شيء دليل على تعظيم شأنه ووجوب الاهتمام به، ومن فوائد الحث على النظر في الخليقة للوقوف على أسرارها بقدر الطاقة، واستخراج علومها لترقية النوع الإنساني الذي خلقت هي لأجله – مقاومة تلك التقاليد الفاسدة التي كان عليها أهل الكتاب فأودت بهم وحرمتهم من الانتفاع بما أمر الله الناس أن ينتفعوا به.
كانت أوروبا المسيحية في غمرة من الجهل، وظلمات من الفتن، تسيل الدماء فيها أنهارا لأجل الدين، وباسم الدين وللإكراه على الدين، ثم فاض طوفان تعصبها على المشرق ورجعت بعد الحروب الصليبية تحمل قبسا من دين الإسلام وعلوم أهله، فظهر فيهم بعد ذلك قوم قالوا إن لنا الحق في أن نتفكر، وأن نعلم وأن نستدل، فحاربهم الدين ورجاله حربا عوانا انتهت بظفر العلم ورجاله بالدين ورجاله، وبعد غسل الدماء المسفوكة قام منذ مائتي سنة إلى اليوم رجال منهم يسمون هذه المدنية القائمة على دعائهم العلم : المدنية المسيحية، ويقولون بوجوب محق سائر الأديان ومحوها بعد انهزامها من إمام الدين المسيحي لأنها لا تتفق مع العلم وفي مقدمتها الدين الإسلامي، وحجتهم على ذلك حال المسلمين، نعم إن المسلمين أمسوا وراء الأمم كلها في العلم حتى سقطوا في جاهلية أشد جهلا من الجاهلية الأولى، فجهلوا الأرض التي هم عليها، وضعفوا عن استخراج منافعها، فجاء الأجنبي يتخطفها من بين أيديهم وهم ينظرون ؛ وكتابهم قائم على صراطه يصيح بهم ﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا * وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه – قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ قل هي للدين آمنوا في الحياة الدنيا ﴾ الآية وأمثال ذلك. ولكنهم ﴿ صم بكم عمي فهم لا يعقلون ﴾ إلا من رحم الله، ولو عقلوا لعادوا، ولو عادوا لاستفادوا، وبلغوا ما أرادوا، وها نحن أولاء نذكرهم بكلام الله لعلهم يرجعون، ولا نيأس من روح الله ﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾.
ثم ختم الآية سبحانه وتعالى بقوله ﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ أي فهو المحيط بكيفية التكوين وحكمته، وبما ينفع الناس بيانه، وإذا كان العاقل يدرك أن هذا النظام المحكم لا يكون إلا من عليم حكيم فكيف يصح له أن ينكر عليه أن يرسل من يشاء من خلقه لهداية من شاء من عباده ؟ فهذا الآخر يتصل بأول الآية في تقرير رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وإبطال شبه الذين أنكروا أن يكون البشر رسولا ؛ والذين أنكروا أن يكون من العرب رسول، لأن قصارى ذلك كله اعتراض الجاهلين، على من هو بكل شيء عليم.
( تمهيد للقصة ومذهب السلف والخلف في المتشابهات )
إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشئون الإلهية التي يعز الوقوف عليها كما هي، وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب من قبلنا، ومثل لنا المعاني في صور محسوسة، وأبرز لحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار، كما هي سنته في مخاطبة الخلق، وبيان الحق، وقد ذهب الأستاذ إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها، لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال، وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته، ولا يجامع ما جاء به الدين من وصف الملائكة ككونهم ﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ وقد أورد الأستاذ مقدمة تمهيدية لفهم القصة فقال ما مثاله :
أجمعت الأمة الإسلامية على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات١وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره، وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص الكتاب أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه. فللمسلمين فيه طريقتان :
( إحداهما ) طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل في النقل كقوله تعالى ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ وقوله عز وجل ﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ﴾ وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك، مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا وصورها لمخيلاتنا.
( والثانية ) طريقة الخلف وهي التأويل يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بد له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل ( قال الأستاذ ) وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته علم الغيب. وإننا نسير في فهم الآيات على كلا الطريقتين أنه لا بد للكلام من فائدة يحمل عليها، لأن الله عز وجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد منه معنى.
( وأقول ) أنا – مؤلف هذا التفسير : إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى وإنما أذكر من كلام شيخنا ومن كلام غيره ومن تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري الناس أن ما انتشر في الأمة من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين جعل قبول مذهب السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما يخلفه، أو طول ممارسة الرد عليهم، ولا نعرف في كتب علماء السنة أنفع في الجمع بين النقل والعقل من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وإنني أقول عن نفسي : إنني لم يطمئن قلبي بمذهب السلف تفصيلا إلا بممارسة هذه الكتب.
فنحن قد سمعنا بآذاننا شبهات على بعض الآيات والأحاديث لم يسهل علينا دفعها وإقناع أصحابها بصدق كلام الله وكلام رسوله إلا بضرب من التأويل وأمثال تقربها من عقولهم ومعلوماتهم أحسن التقريب، وقد غلط كثير من علماء الكلام والمفسرين في بيان مذهب السلف وفي معاني التفويض والتأويل وتجد تفصيل ذلك لنا في أوائل تفسير سورة آل عمران كما أخطأ من قالوا إن الدليل العقلي هو الأصل فيرد إليه الدليل السمعي ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقا والحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن كلا من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي، فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا حتى نرجح أحدهما على الآخر، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب ترجيح القطعي مطلقا، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول على المعقول لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالإتباع مما ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا العقلية التي يكثر فيها الخطأ جدا، فظواهر الآيات في خلق آدم مثلا مقدم في الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه مادامت ظنية لم تبلغ درجة القطع.
وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن أن من الخير لك أن تطمئن قلبا بمذهب السلف ولا تحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبك إلا بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربية فلا حرج عليك، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأئمة علماء السلف قد تأولوا بعد الظاهر كما فعل الإمام أحمد وغيره في آيات المعية. وآخرون في غيرها، والذي عليك قبل كل شيء أن توقن بأن كلام الله كله حق، وألا تؤول شيئا منه بسوء القصد. وكذا ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الدين بغير شبهة. والتفسير الموافق للغة العرب لا يسمى تأويلا وإنما يجب معه تنزيه الخالق وعدم تشبيه عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه.
إذا تقرر هذا فهناك تفسير هذا السياق بما قرره شيخنا في الأزهر قال ما مثاله : أما الملائكة فيقول السلف فيهم : إنهم خلق أخبرنا الله تعالى بوجودهم وببعض عملهم فيجب علينا الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم، فنفوض علمها إلى الله تعالى، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك ولكننا نقول إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطيور إذ لو كانت كذلك لرأيناها، وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار فإننا نستدل بذلك على أن في الكون عالما آخر ألطف من هذا العالم المحسوس وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا بل يحكم بإمكانه لذاته، ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به.
( قال الأستاذ ) وقد بحث أناس في جوهر الملائكة وحاولوا معرفتهم ولكن من وقفهم الله تعالى على هذا السر قليلون، والدين إنما شرع للناس كافة، فكان الصواب الاكتفاء بالإيمان بعالم الغيب من غير بحث عن حقيقته لأن تكليف الناس هذا البحث أو العلم يكاد يكون من تكليف ما لا يطاق، ومن خصه الله تعالى بزيادة في العلم فذلك فضله يؤتيه من يشاء، فقد ورد في الصحيح عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه في هذا العلم اللدنى الخاص وقد سئل " هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم. فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن الخ " وأما ذلك الحوار في الآيات فهو شأن من شؤون الله تعالى مع ملائكته صوره لنا في هذه القصة بالقول والمراجعة والسؤال والجواب ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول ولكننا نعلم أنه ليس كما يكون منا، وأن هناك معاني قصدت إفادتها بهذه العبارات وهي عبارة عن شأن من شؤونه تعالى قبل خلق آدم وأنه كان يعد له الكون، وشأن مع الملائكة يتعلق بخلق نوع الإنسان، وشأن آخر في بيان كرامة هذا النوع وفضله.
وأما الفائدة فيما وراء البحث في حقيقة الملائكة وكيفية الخطاب بينهم وبين الله تعالى فهي من وجوه.
( أحدهما ) أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه، ولا سيما عند الحيرة، والسؤال يكون بالمقال ويكون بالحال والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها ( كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي ) وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
( ثانيها ) إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليفة وحكمها لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
( ثالثها ) أن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم ؛ وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل ؛ بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم، وذلك أنه بعد أن أخبرهم بأنه يعلم مالا يعلمون علم آدم الأسماء ثم عرضهم على الملائكة كما سيأتي بيانه.
( رابعها ) تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس ؛ ومحاجتهم في النبوة بغير برهان على إنكار ما أنكروا وبطلان ما جحدوا، فإذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين ؛ وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، أي فعليك أيها الرسول أن تصبروا على هؤلاء المكذبين ؛ ورشد المسترشدين، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين، وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها. وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب وكونه لا ريب فيه وفي الرسول وكونه يبلغ وحي الله تعالى ويهدي به عباده وفي اختلاف الناس فيهما، ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها أو قريبة منها مع كون الجميع في سياق موضوع واحد.
وأما الخلف فمنهم من تكلم في حقيقة الملائكة ووضع لهم تعريفا ومنهم من أمسك عن ذلك وقد اتفقوا على أنهم يدركون ويعلمون. والقصة على مذهبهم وردت مورد التمثيل لتقرب من أفهام الخلق ما تفيدهم معرفته من حال النشأة الآدمية، وما لها من المكانة والخصوصية : أخبر الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، ففهموا من ذلك أن الله يودع في فطرة هذا النوع الذي يجعله خليفة أن يكون ذا إرادة مطلقة واختيار في عمله غير محدود، وأن الترجيح بين ما يتعارض من الأعمال التي تعن له تكون بحسب علمه، وأن العلم إذا لم يكن محيطا بوجوه المصالح والمنافع فقد يوجه الإرادة إلى خلاف المصلحة والحكمة وذلك هو الفساد، وهو متعين لازم الوقوع، لأن العلم المحيط لا يكون إلا لله تعالى، فعجبوا كيف يخلق الله هذا النوع من الخلق وسألوا الله تعالى بلسان المقال إن كانوا ينطقون، أو بلسان الحال والتوجيه إليه لاستفاضة المعرفة بذلك وطلب البيان والحكمة، وعبر الله عن ذلك بالقول لأنه هو المعهود بالاستعلام والاستفهام عند البشر الذين أنزل القرآن لهدايتهم، كما نسب القول إلى السموات والأرض في قوله ﴿ قالتا أتينا طائعين ﴾.
فأول ما ألقى إليهم من الإلهام أو غيره من طريق الإعلام هو وجوب الخضوع والتسليم، لمن هو بكل شيء عليم، لأن ما يضيق عنه علم أحد ويحار في كيفيته يتسع له علم من هو أعلم منه، ومن شأن الإنسان أن يسلم لمن يعتقد أنه فوقه في العلم ما يتصدى له مهما يكن بعيد الوقوع في اعتقاده، ومثل الأستاذ لذلك بمشايخ الصوفية مع مريديهم.
ومن ذلك اعتقاد جماهير الناس في بلاد الحضارة والصناعات في هذا العصر إمكان أمور وأعمال لم يكن أحد يتصور إمكانها من قبل إلا بعض كبار علماء النظر، فإذا قيل إنهم يحاولون عمل كذا فإنهم يصدقون، وإن لم يعقلوا كيف يعملونه.
فإن الذين يصنعون سلكا لنقل الأخبار بالكهرباء إلى الأماكن البعيدة في دقيقة أو دقائق قليلة يصدقون بأنهم يوصلون تلك الأخبار من غير سلك، وقد كان، ويصدقون بإمكان إيجاد آلة تجمع بين نقل الصوت ورؤية المتكلم وهو ما يحاولون الآن، وإذا قال لنا أهل هذه الصناعة إن ذلك ممكن الحصول صدقناهم فيما يقولون
تقدم في بيان معنى الخليفة أن علم الملائكة وعملهم محدودان، وأن علم الإنسان وعمله غير محدودين، وبهذه الخاصة التي فطر الله الناس عليها كان الإنسان أجدر بالخلافة من الملائكة.
وهذه هي حجة الله البالغة على الملائكة التي بينها لهم بعد ما نبههم إلى علمه المحيط بما لا يعلمون.
فقال ﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ﴾ أي أودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين، فالمراد بالأسماء المسميات عبر عن المدلول بالدليل، لشدة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له، وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر. والعلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات أنفسها، والألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح فهي تتغير وتختلف والمعنى لا تغير فيه ولا اختلاف.
قال الأستاذ : ثم إن الاسم قد يطلق إطلاقا صحيحا على ما يصل إلى الذهن من المعلوم أي صورة المعلوم في الذهن، وبعبارة أخرى : ما به يعلم الشيء، عند العالم، فاسم الله مثلا هو ما به عرفناه في أذهاننا، بحيث يقال : أننا نؤمن بوجوده، ونسند عليه صفاته، فالأسماء هي ما به نعلم الأشياء، وهي العلوم المطابقة للحقائق. والاسم بهذا الإطلاق هو الذي جرى الخلاف في أنه عين المسمى أو غيره، وقد كان اليونانيون يطلقون على ما في الذهن من المعلوم لفظ الاسم ؛ والخلاف في أن ما في الذهن من الحقائق هو عينها أو صورتها مشهور كالخلاف في أن العلم عين المعلوم أو غير المعلوم، وأما الخلاف في أن الاسم الذي هو اللفظ عين المسمى أو غيره فهو ما أخطأ في الناظرون لعدم الدقة في التمييز بين الإطلاقات لبداهة أن اللفظ غير معناه بالضرورة، والاسم بذلك الإطلاق الذي ذكرناه هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ ﴿ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ﴾ فاسمه جل شأنه ما يمكننا أن نعلم منه ما نعلم من صفاته ؛ وما يشرق في أنفسنا من بهائه وجلاله، ولا مانع من الأسماء هذا المعنى، وهو لا يختلف في التأويل عما قالوه من إرادة المسميات ولكنه على ما نقول أظهر وأبين.
( وأقول ) تقدم لنا في أول سورة الفاتحة أن اسم الله تعالى يسبح وبعظم ومنه إسناد التسبيح إليه قولا وكتابة. وتسبيحه وتعظيمه بدون ذكر اسمه خاص بالقلب، ومن تعمد إهانة اسم الله تعالى يكفر كمن يتعمد إهانة كتابه.
ثم إن الذي يتبادر إلى الفهم من صيغة التعليم هو التدريج قال تعالى ﴿ ٢ : ١٥١ ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾ وما كان ذلك إلا تدريجا وهذا ظاهر في جميع الآيات التي فيها لفظ التعليم كقوله ﴿ ٤ : ١١٥ وعلمك ما لم تكن تعلم ﴾ وقوله ﴿ ٣ : ٤٨ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾ إلى غير ذلك – ولكن المتبادر من تعليم آدم الأسماء : أنه كان دفعة واحدة إذا أريد بآدم شخصه بالفعل أو بالقوة، ولذلك قال شيخنا :
علم الله آدم كل شيء ولا فرق في ذلك بين أن يكون له هذا العلم في آن واحد أو في آنات متعددة والله قادر على كل شيء، ثم إن هذه القوة العلمية عامة للنوع الآدمي كله، ولا يلزم من ذلك أن يعرف أبناؤه الأسماء من أول يوم فيكفي في ثبوت هذه القوة لهم معرفة الأشياء بالبحث والاستدلال، علم الله آدم الأسماء على نحو ما بينا ﴿ ثم عرضهم على الملائكة ﴾ أي أطلعهم اطلاعا إجماليا بالإلهام الذي يليق بحالهم على مجموع تلك الأشياء ولو عرضت على نفوسهم عرضا تفصيليا لعلموها ولم يكن علمهم محدودا والحال أنه عرضها عليهم وسألهم عنها سؤال تعجيز.
﴿ فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ﴾ المسميات والغرض من الإنباء بأسمائها الإبانة عن معرفتها ومعنى ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي إن كان هناك موقع للدهشة والاستغراب من جعل الخليفة في الأرض من البشر، وكان ما طرق نفوسكم وطرأ على أذهانكم أولا حالا محله، ومصيبا غرضه، ولما تعرفوا حقيقة ما يمتاز به الخليفة فأنبئوني بأسماء ما عرضته عليكم.
قال الأستاذ : إن هذه التأكيدات١ تشعر بأن سؤال الاستغراب الأول كان يتنسم منه شيء ؛ وكذلك الجواب عن ﴿ أنبئوني ﴾ بقولهم ﴿ لا علم لنا ﴾ ولذلك ختموا الجواب بالتبرؤ من كل شيء والثناء على الله تعالى بالعلم الثابت الواجب لذاته العلية، والحكمة البالغة اللازمة له، فقد تقدم في تفسير الفاتحة أن صيغة ( فعيل ) تدل غالبا على الصفات الراسخة اللازمة، فكان جواب الملائكة بهذا مؤذنا بأنهم رجعوا إلى ما كان يجب أن لا يغفل مثلهم عنه، وهو التسليم لسعة علم الله وحكمته حتى يبلغ الكتاب أجله.
﴿ ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض ﴾ ومن كان هذا شأنه فلا يخلق شيئا سدى ولا يجعل الخليفة في الأرض عبثا ﴿ وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ﴾ والذي يبدونه هو ما يظهر أثره في نفوسهم، وأما ما يكتمون فهو ما يوجد في غرائزهم وتنطوي عليه طبائعهم.
وقد علم مما تقدم أن كل هذه الأقوال والمراجعات والمناظرات يفوض السلف الأمر إلى الله تعالى في معرفة حقيقتها، ويكتفون بمعرفة فائدتها، وحكمتها، وقد تقدم بيان ذلك. وأما الخلف فيلجاون إلى التأويل، وأمثل طرقه في هذا المقام التمثيل، وقد مضت سنة الله في كتابه بأن يبرز لنا الأشياء المعنوية، في قوالب العبارة اللفظية، ويجلى لنا المعارف المعقولة، بالصور المحسوسة، تقريبا للأفهام، وتسهيلا للإعلام، ومن ذلك أنه عرفنا بهذه القصة قيمة أنفسنا، وما أودعته فطرتنا، مما نمتاز على غيرنا من المخلوقات، فعلينا أن نجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا مستعدين لها من دون الملائكة وسائر الخلق لتظهر حكمة الله فينا، ولعلنا نشرف على معنى إعلام الله الملائكة بفضلنا، ومعنى سجودهم لأصلنا ﴿ ٢٤ : ٣٥ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ﴾
بعد ما عرف الله الملائكة بمكانة آدم ووجه جعله خليفة في الأرض أمرهم بالخضوع له وعبر عن ذلك بالسجود، فقال ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ وهو سجود لا نعرف صفته، ولكن أصول الدين تعلمنا أنه ليس سجود عبادة إذ لا يعبد إلا الله تعالى، والسجود في اللغة التطامن والخضوع والانقياد، وأعظم مظاهره الخرور نحو الأرض للأذقان ووضع الجبهة على التراب، وكان عند بعض القدماء من تحية الناس للملوك والعظماء، ومنه سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليهم السلام. والسجود لله تعالى قسمان، سجود العقلاء المكلفين له تعبدا على الوجه المشروع – وسجود المخلوقات كلها لمقتضى إرادته فيها. قال تعالى ﴿ ١٣ : ١٥ ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها ﴾ الآية وقال ﴿ والنجم والشجر يسجدان ﴾ وفي معناهما آيات. ﴿ فسجدوا إلا إبليس ﴾ أي سجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة، كما يفهم من الآية وأمثالها في القصة إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن ﴿ ١٧ : ٥٠ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ﴾ وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة والجن فصلا جوهريا يميز أحدهما عن الآخر وإنما هو اختلاف أصناف، عند ما تختلف أوصاف، كما ترشد إليه الآيات. فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة، وقد أطلق في القرآن لفظ الجنة على الملائكة على رأي جمهور المفسرين في قوله تعالى ﴿ ٣٧ : ١٥٨ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ﴾ وعلى الشياطين في آخر سورة الناس [ وعلى كل حال فجميع هؤلاء المسميات بهذه الأسماء من علام الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها ولا نقول بنسبة شيء إليها ما لم يرد لنا فيه نص قطعي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ] وصف الله تعالى إبليس بأنه ﴿ أبى ﴾ السجود والانقياد ﴿ واستكبر ﴾ فلم يمتثل أمرا الحق ترفعا عنه. وزعما بأنه خير من الخليفة عنصرا، وأزكى جوهرا، كما حكى الله تعالى عنه في غير هذه السورة ﴿ ٧ : ١١ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ والاستكبار بمعنى التكبر وهو الظهور بصفة الكبرياء التي من آثارها الترفع عن الحق، كأن السين والتاء للإشعار بأن الكبر ليس من طبيعة إبليس ولكنه مستعد له، ثم قال تعالى بعد وصفه بالإباء والاستكبار ﴿ وكان من الكافرين ﴾ قال بعض المفسرين كان من حق الترتيب أن يقال : كان من الكافرين واستكبر وأبى لأن الكفر عنده سبب الاستكبار والاستكبار سبب الإباء، ومثل هذا المفسر يعلل مخالفة الترتيب الطبيعي في النظام برعاية الفاصلة ( قال الأستاذ ) ولكن نظم الآية جاء على مقتضى الطبيعة في الذكر، فإنه يفيد أن الله تعالى أراد أن يبين الفعل أولا لأنه المقصود بالذات وهو الإباء ثم يذكر سببه وعلته وهو الاستكبار ثم يأتي بالأصل في العلة والمعلول والسبب والمسبب وهو الكفر.
( أقول ) وقال بعض المفسرين : إن " كان " هنا بمعنى صار وخطأه ابن فورك وقال إن الأصول ترده، ووجهه عند قائله : وصار بهذا الإباء والاستكبار من جملة الكافرين، لما علم من أنه لم يكن قبل هذا العصيان المتضمن للاعتراض على الرب سبحانه من الكافرين، وقد جعل بعضهم مناط كفره هذا الاعتراض على ربه عز وجل لأن المعصية وحدها لا تقتضي الكفر كما تدل عليه النصوص، وفيه أن ذلك في معصية المسلم، وهو المذعن لأمر الله ونهيه إذا غلبه غضب أو شهوة فعصى، وهو لا يلبث أن يندم ويتوب. وعصيان إبليس رفض للإذعان والاستسلام ابتداء وهو كفر بغير نزاع، ككفر الذين صدقوا الرسل بقلوبهم ولم يتبعوهم عنادا واستكبارا ﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ﴾ والجمهور : أن المعنى : وكان في علم الله من الكافرين.
ثم إن الأستاذ أعاد هنا ملخص ما تقدم بيانه في وجه اتصال الآيات بما قبلها وكون الكلام في القرآن والرسول الذي جاء به وتسليته بهذه القصة ثم توسع في الكلام عن الملائكة فقال ما مثاله ملخصا : تقدم أن الملائكة خلق غيبي لا نعرف حقيقته، وإنما نؤمن به بإخبار الله تعالى الذي نقف عنده ولا نزيد عليه، وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل صنف وظيفة وعمل، ونقول الآن إن إلهام الخير والوسوسة بالشر مما جاء في لسان صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم وقد أسندا إلى هذه العوالم الغيبية، وخواطر الخير التي تسمى إلهاما وخواطر الشر التي تسمى وسوسة كل منهما محله الروح فالملائكة والشياطين إذن أرواح تتصل بأرواح الناس فلا يصح أن تمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة لنا [ لأن هذه لو اتصلت بأرواحنا، فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا، ونحن لا نحس بشيء يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس، فإذن هي من عالم غير عالم الأبدان قطعا ] والواجب على المسلم في مثل الآية : الإيمان بمضمونها مع التفويض أو الحمل على أنها حكاية تمثيل ؛ ثم الاعتبار بالنظر في الحكم التي سيقت لها القصة.
( وأقول ) إن إسناد الوسوسة إلى الشياطين معروف في الكتاب والسنة، وأما إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها السلام، ومن حديث الشيخين في المحدّثين وكون عمر منهم – والمحدثون يفتح الدال وتشديدها الملهمون – ومن حديث الترمذي والنسائي وابن حبان وهو " إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة. فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ ﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾ قال الترمذي حسن غريب لا نعلمه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص. والرواية " إيعاد " في الموضعين كما أن الآية من الثلاثي في الموضعين، فما قالوه في التفرقة بين الوعد والإيعاد أغلبي فيما يظهر ؛ وإلا فهو غير صحيح، واللمة بالفتح الإلمام بالشيء والإصابة.
( قال الأستاذ ) وذهب بعض المفسرين مذهبا آخر في فهم معنى الملائكة وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان، فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده قائما قوامه بروح إلهي.
سمى في لسان الشرع ملكا، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوى الطبيعية إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة. والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرا هو مناطها، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكا وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموسا طبيعيا لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع – فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات [ وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودا لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح ولكن أعرف قوة لا أفهم حقيقتها. ولا يعلم إلا الله علام يختلف الناس ؟ وكل يقر بوجود شيء غير ما يرى ويحس ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه، وماذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما غيّب عنه لو قال : أصدق بغيب أعرف أثره، وإن كنت لا أقدره قدره، فيتفق مع المؤمنين بالغيب، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي، ويحظى بما يحظى به المؤمنون ؟ ].
يشعر كل من فكر في نفسه ووازن بين خواطره عند ما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعا كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى، فهذا يورد وذاك يدفع، واحد يقول : افعل وآخر يقول لا تفعل، حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشيء الذي أودع في أنفسنا، ونسميه قوة وفكرا – وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه، وروح لا تكتنه حقيقتها – لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكا ( أو يسمى أسبابه ملائكة ) أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حجر فيها على الناس فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة السلطان النافذ والعلم الواسع ؟
( وأقول ) إن الإمام الغزالي سبق إلى بيان هذا المعنى وعبر عنه بالسبب وقال إنه سمي ملكا، فإنه بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم قال " ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث، ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب، هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب، فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة، وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا ؛ واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقا، والذي يتهيأ به لقبول الشر يسمى إغواء وخذلانا، فإن المعاني المختلفة تحتاج إلى أسامي مختلفة، " ا ه المراد منه فليراجعه في كتاب شرح عجائب القلب من الإحياء، ثم قال الأستاذ الإمام ما معناه :
فإذا صح الجري على هذا التفسير فلا يستبعد أن تكون الإشارة في الآية إلى أن الله تعالى لما خلق الأرض ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصا بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعداه ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به، خلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعدا للتصرف بجمع هذه القوى وتسخيرها في عمارة الأرض، وعبر عن تسخير هذه القوى له بالسجود الذي يفيد معنى الخضوع والتسخير، وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حد له والتصرف الذي لم يعط لغيره خليفة الله في أرضه، لأنه أكمل الموجودات في هذه الأرض واستثنى من هذه القوى قوة واحدة عبر عنها بإبليس وهي القوة التي [ لزها الله بهذا العالم لزا. وهي التي تميل بالمستعد للكمال أو بالكمال إلى النقص وتعارض مد الوجوه لترده إلى العدم أو تقطع سبيل البقاء وتعود بالموجود إلى الفناء أو التي ] تعارض في اتباع الحق وتصد عن عمل الخير وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتم بها خلافته فيصل إلى مراتب الكمال الوجودي التي خلق مستعدا للوصول إليها [ تلك القوة التي ضللت آثارها قوما فزعموا أن في العالم إلها يسمى إله الشر. وما هي بآله ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلا هو ].
( قال ) ولو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق.
( وأقول ) عن غرض الأستاذ من هذا التأويل الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة إقناع منكري الملائكة بوجودهم، بتعبير مألوف عندهم تقبله عقولهم، وقد اهتدى به كثيرون، وضل به آخرون فأنكروه عليه وزعموا أنه جعل الملائكة قوى لا تعقل فرد عليهم كتابة بما نصه بحروفه :
[ ولست أحيط علما بما فعلت العادة والتق
مجمل الآيات أن هذا العالم لما استعد لوجود هذا النوع الإنساني واقتضت الحكمة الإلهية إيجاده واستخلافه في الأرض آذن الله تعالى الأرواح المنبثة في الأشياء لتدبيرها ونظامها بذلك، وأن تلك الأرواح فهمت من معنى كون الإنسان خليفة أنه يفسد النظام ويسفك الدماء، حتى أعلمها الله تعالى بأن علمها لم يحط بمواقع حكمته، ولا يصل إلى حيث يصل علمه تعالى. ثم أوجد آدم وفضله بتعليمه الأسماء كلها، على أن كل صنف من تلك الأرواح لا يعلم إلا طائفة منها، ولذلك أخضع له تلك الأرواح إلا روحا واحدا هو مبعث الشر ومصدر الإغواء فقد أبى الخضوع، واستكبر عن السجود، لما كان في طبيعته من الاستعداد لذلك. والاستعداد في الشيء إنما يظهر بظهور متعلقه. فلا يقال : إذا كان لكل روح من هذه الأرواح والقوى الغيبية علم محدود فكيف ظهر من الروح الابليسي ما لم يسبق له وهو مخالفة الأمر بالسجود لآدم والتصدي لإغوائه ؟ لا يقال ذلك لأنه كان مستعدا لهذا العصيان والإباء فلما أمر عصى. ولما وجد خلقا مستعدا للوسوسة اتصل به ووسوس إليه. كما أن ألوان ورق الشجر والزهور موجودة كامنة في البذرة ولكنها لا تظهر إلا عند الاستعداد لها ببلوغ الطور المحدود من النمو.
ومجمل الآيات اللاحقة : أن الله تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بها ونهاهما عن الأكل من شجرة مخصوصة وأخبرهما أن قربها ظلم. وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما مما كان فيه من النعيم إلى ضده. ثم إن آدم تاب إلى الله من معصيته فقبله. ثم جعل سعادة هذا النوع بإتباع هدى الله وشقاءه بتركه. وقد تقدم أن الآيات كلها قد سيقت للاعتبار ببيان الفطرة الإلهية التي فطر عليها الملائكة والبشر. وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقى من الإنكار. وتقدم وجه ذلك في الآيات السابقة. وأما وجهه في هذه الآيات فظاهر، وهو أن المعصية من شأن البشر. كأنه يقول : فلا تأس يا محمد على القوم الكافرين ولا تبخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ فقد كان الضعف في طباعهم ينتهي إليهم من أول سلف لهم. تغلب عليهم الوساوس. وتذهب بصرهم الدسائس. انظر ما وقع لآدم وما كان منه وسنة الله مع ذلك لا تتبدل. فقد عوقب آدم على خطيئته بإهباطه مما كان فيه. وإن كان قد قبل توبته. وغفر هفوته ] فالمعصية دائما مجلبة الشقاء. وقد استقر أمر البشر على أن سعادتهم في اتباع الهداية الإلهية وشقاءهم في الانحراف عن سبلها.
وأما تفسير هذه الآيات بالتفصيل فقد اختلف علماء المسلمين من أهل السنة وغيرهم في ( الجنة ) هل هي البستان أو المكان الذي تظلله الأشجار بحيث يستتر الداخل فيه كما يفهمه أهل اللغة ؟ أم هي الدار الموعود بها في الآخرة ؟ والمحققون من أهل السنة على الأول. قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره المسعى بالتأويلات : نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين أو غيضة من غياض كان آدم وزوجه منعمين فيها، وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها، وهذا هو مذهب السلف، ولا دليل لمن خاض في تعيين مكانها من أهل السنة وغيرهم.
وبهذا التفسير تنحل إشكالات كثيرة وهي ( ١ ) إن الله خلق آدم في الأرض ليكون هو ونسله خليفة فيها، فالخلافة مقصود منهم بالذات فلا يصح أن تكون عقوبة عارضة ( ٢ ) إنه لم يذكر أنه بعد خلقه في الأرض عرج به إلى السماء ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم ( ٣ ) إن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المؤمنون المتقون، فكيف دخلها الشيطان الكافر الملعون ؟ ( ٤ ) إنها ليست محلا للتكليف ( ٥ ) إنه لا يمنع من فيها من التمتع بما يريد منها ( ٦ ) إنه لا يقع فيها العصيان. وبالجملة إن الأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على ما كان في جنة آدم، ومنه كون عطائها غير مجذوذ ولا مقطوع وغير ذلك.
( أقول ) وقد أجاب بعضهم عن بعض هذه الإشكالات ولكل من الفريقين إشكالات وأجوبة أطال في بيانها ابن القيم في ( حادي الأرواح ) ولم يرجح شيئا ولذلك مال بعضهم إلى الوقف، وما اختاره شيخنا أقوى. وقد قال به أبو حنيفة وتبعه أبو منصور، وقد كان ظهر لي عند كتابة تفسير الآيات شيء آخر لم يذكره الأستاذ الإمام ولم أره في كتب التفسير وهو أن القول بأن آدم أسكن جنة الآخرة يقتضي أن تكون الآخرة هي الدار الأولى والدنيا فتكون التسمية للدارين غير صحيحة وينافى أيضا كون الجنة دار ثواب يدخلها المتقون جزاء بما كانوا يعلمون كما ورد في الآيات الكثيرة.
وقد قال تعالى ﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ ولم يقل ( ادخل ) ولو انتقل من الأرض التي خلق فيها إلى الجنة لقال هذا أو ما بمعناه مما يشير على الانتقال فقوله ﴿ اسكن ﴾ يشير إلى أن الخلقة كانت في تلك الجنة أو بالقرب منها، وقوله ﴿ وكلا منها رغدا حيث شئتما ﴾ إباحة للتمتع بتلك الجنة والتنعم بما فيها أي كلا منها أكلا رغدا واسعا هنيئا من أي مكان منها إلا شيئا واحدا نهاهما عنه بقوله ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ﴾ لأنفسكما بالوقوع فيما يترتب على الأكل منها، ولم يعين الله تعالى لنا هذه الشجرة فلا نقول في تعيينها شيئا، وإنما نعلم أن ذلك لحكمة اقتضته، ولعل في خاصية تلك الشجرة ما هو سبب خروجهما من حال إلى حال، وربما كان في الأكل منها ضرر، أو كان النهي ابتلاء وامتحانا منه تعالى ليظهر به ما في استعداد الإنسان من الميل إلى الإشراف على كل شيء واختباره، وإن كان في ذلك معصية يترتب عليها ضرر١
فأما الأولى فليس في القرآن نص فيها ولا يلزمنا حمل قوله تعالى ﴿ وخلق منها زوجها ﴾ على ذلك لأجل مطابقة سفر التكوين، فإن القصة لم ترد في القرآن كما وردت في التوراة التي في أيدي أهل الكتاب حكاية تاريخية، وإنما جاء القرآن بموضع العبرة في خلق آدم واستعداد الكون لأن يتكمل به، وكونه قد أعطي استعدادا في العلم والعمل لا نهاية لهما ليظهر حكم الله ويقيم سننه في الأرض فيكون خليفة له، وكونه لا يسلم من داعية الشر والتأثر بالوسوسة التي تحمل على المعصية. ولكون التاريخ غير مقصود له لأن مسائله من حيث هي تاريخ ليست من مهمات الدين من حيث هو دين، وإنما ينظر الدين من التاريخ إلى وجه العبرة دون غيره، لم يبين الزمان والمكان كما بينا في سفر التكوين، وكان بيانهما سببا لرفض الباحثين في الكون وتاريخ الخليفة لدين النصرانية، لأن العلم المبني على الاختبار والمشاهدة أظهر خطأ ما جاء من التاريخ في التوراة، ووجدت للإنسان آثار في الأرض تدل على أنه أقدم مما حددته التوراة في تاريخ تكوينه، فقام فريق من أهل الكتاب يركب التعاسيف في التأويل، وفريق يكفر بالكتاب والتنزيل.
( أقول ) فإن قلت : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة في الصحيحين في تعليل التوصية بالنساء " فإن المرأة خلقت من ضلع " قلنا : إنه على حد قوله تعالى ﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾ كما قالوا في شرحه- وسيأتي في تفسير القصة من سورة الأعراف. ولم يتعرض شيخنا في الدرس لقوله تعالى ﴿ وخلق منها زوجها ﴾ ولكنه كتب بعد ذلك وقبل ما ستراه عنه في تفسير سورة النساء ما نصه :
[ وأما قوله تعالى في سورة النساء ﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ﴾ وفي سورة الأعراف ﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ﴾ فقد قال غير واحد من المفسرين : إن المعنى من جنسها كما قال في سورة الروم { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) فإن المعنى هناك على أنه خلق أزواجا من جنسنا، ولا يصح أن يراد أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها كما هو ظاهر ) ].
( قال ) وأما مسألة عصمة آدم فالجري على طريقة السلف يذهب بنا إلى أن العصيان والتوبة من المتشابه، كسائر ما ورد في القصة مما لا يركن العقل إلى ظاهره، ولنا أن نقول : إن تلك مخالفة صدرت منه قبل أن يدركه عزم النبوة كما قال جل شأنه ﴿ فنسي ولم نجد له عزما ﴾ والاتفاق إنما هو على العصمة عن مخالفة الأوامر بعد النبوة. وقد يكون الذي وقع من آدم نسيانا، فسمي تفخيما لأمره عصيانا، والنسيان والسهو مما لا ينافي العصمة، فإن جعلنا الكلام كله تمثيلا فحديث الإخلال بالعصمة مما لا يمر بذهن العاقل.
وأما تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه : إن القرآن كثيرا ما يصور المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب، أو أسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير، فهو يدعو بها الأذهان، إلى ما وراءها من المعاني، كقوله تعالى ﴿ ٥٠ : ٣٠ يوم نقول لجهنم هل امتلأت ؟ وتقول هل من مزيد ﴾ فليس المراد أن الله تعالى يستفهم منها وهي تجاوبه، وإنما هو تمثيل لسعتها وكونها لا تضيق بالمجرمين مهما كثروا، ونحوه قوله عز وجل بعد ذكر الاستواء إلى خلق السماء ﴿ ٤١ : ١١ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾ والمعنى في التمثيل ظاهر.
( أقول ) وهذا الأمر يسمى أمر التكوين، ويقابله أمر التشريع، وإنما سمي أمر التكوين للتعبير عنه في التنزيل بقوله تعالى ﴿ ٣٦ : ٨٢ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾ فهو تصوير لتعلق إرادة الربوبية بالإيجاد، ولا أذكر عن أحد من المفسرين المتبعين للأثر تصريحا بأن الأوامر في قصة آدم من أمر التكوين إلا للحافظ ابن كثير فإنه ذهب في تفسير ﴿ قال فاهبط منها ﴾ من سورة الأعراف إلى أن الأمر فيه أمر قدري كوني، ومثله ما في معناه من قصة آدم ومن الآيات الأخرى من مخاطبة إبليس للرب وجوابها في شأن إغوائه للبشر وإنظاره إلى يوم القيامة.
( قال الأستاذ الإمام ما مثاله ) وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا : إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض – وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطى استعدادا في العلم والعمل لا حد لهما هو تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض – وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه في استعمارها – وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته – وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك – وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والإفساد في الأرض – ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن سكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري.
هذا ملخص ما تقدم في سابق آيات القصة.
وأما التمثيل فيما نحن فيه منها فيصح عليه أن يراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ذات الشجر الملتف ما يلذ له من مرأى ومأكول ومشروب ومشموم ومسموع، في ظل ظليل، وهواء عليل، وماء سلسبيل، كما قال تعالى في القصة من سورة طه ﴿ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ﴾ ويصح أن يعبر عن السعادة بالكون في الجنة وهو مستعمل، ويصح أن يراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة، فيقال كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، وكان من قريش كذا يعني القبيلة التي أبوها قريش، وفي كلام العرب كثير من هذا.
ويصح أن يراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، وفسرت بكلمة الكفر. وفي الحديث تشبيه المؤمن بشجرة النخل – ويصح أن يكون المراد بسكنى الجنة وبالهبوط منها أمر التكوين فقد تقدم أن الأمر الإلهي قسمان : أمر تكوين وأمر تكليف.
والمعنى على هذا : أن الله تعالى كون النوع البشري على ما نشاهده في الأطوار التدريجية التي قال فيها سبحانه ﴿ ٧١ : ١٤ وقد خلقكم أطوارا ﴾ فأولها طور الطفولية١ وهي لا هم فيها ولا كدر، وإنما هي لعب ولهو، كأن الطفل دائما في جنة ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، جارية الأنهار، متناغية الأطيار، وهذا معنى ﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ وذكر الزوجة مع أن المراد بآدم النوع الآدمي للتنبيه على الشمول وعلى أن استعداد المرأة كاستعداد الرجل في جميع الشئون البشرية، فأمر آدم وحواء بالسكنى أمر تكوين، أي إنه تعالى خلق البشر ذكورا وإناثا هكذا – وأمرهما بالأكل حيث شاءا عبارة عن إباحة الطيبات وإلهام معرفة الخير – النهي عن الشجرة عبارة عن إلهام معرفة الشر، وأن الفطرة تهدي إلى قبحه ووجوب اجتنابه، وهذان الإلهامان اللذان يكونان للإنسان في الطور الثاني وهو طور التمييز هما المراد بقوله تعالى ﴿ ٩٠ : ١١ وهديناه النجدين ﴾ وسوسة الشيطان وإزلاله لهما عبارة عن وظيفة تلك الروح الخبيثة التي تلابس النفوس البشرية فتقوى فيها داعية الشر، أي إن إلهام التقوى والخير أقوى في فطرة الإنسان أو هو الأصل، ولذلك لا يفعل الشر إلا بملابسة الشيطان له ووسوسته إليه – والخروج من الجنة مثال لما يلاقيه الإنسان من البلاء والعناء بالخروج عن الاعتدال الفطري – وأما تلقي آدم الكلمات وتوبته فهو بيان لما عرف في الفطرة السليمة من الاعتبار بالعقوبات التي تعقب الأفعال السيئة، ورجوعه إلى الله تعالى عند الضيق والتجائه إليه في الشدة. وتوبة الله تعالى عليه عبارة عن هدايته إياه إلى المخرج من الضيق، والتفلت من شرك البلاء، بعد ذلك الاعتبار والالتجاء، وذكر توبة الله على الإنسان ترد ما عليه النصارى من اعتقاد أن الله تعالى قد سجل معصية آدم عليه وعلى بنيه إلى أن يأتي عيسى ويخلصهم منها وهو اعتقاد تنبذه الفطرة، ويرده الوحي المحكم المتواتر.
فحاصل القول : أن الأطوار الفطرية للبشر ثلاثة. طور الطفولة وهو طور نعيم وراحة، وطور التمييز الناقص وفيه يكون الإنسان عرضة لإتباع الهوى بوسوسة الشيطان، وطور الرشد والاستواء وهو الذي يعتبر فيه بنتائج الحوادث، ويلتجئ فيه عند الشدة إلى القوة الغيبية العليا التي منها كل شيء وإليها يرجع الأمر كله، فهكذا كان الإنسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه ( قال الأستاذ ) كأن تدرج الإنسان في حياته الاجتماعية ابتدأ ساذجا سليم الفطرة، قويم الوجهة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل، متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالذهبي.
ثم لم يكفه هذا النعيم المرفه فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم، طاعة للشهوة، وميلا مع خيال اللذة، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم فثار النزاع، وعظم الخلاف، واستنزل الشقاء، وهذا هو الطور الثاني وهو معروف في تاريخ الأمم ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر، ووزن الخير والشر بميزان النظر والفكر، وتحديد حدود للأعمال إليها نزعات الشهوات، ويقف عندها سير الرغبات، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله.
( وأقول الآن ) إن توبة آدم عليه السلام بناء على تفسير القصة بحمل الكلام على الحقيقة قد كانت بالرجوع إلى الله واعترافه مع حواء بظلمهما لأنفسهما وطلبهما المغفرة والرحمة منه تعالى، لا بمجرد تدبر العقل ووزن الخير والشر بميزان الفكر الخ ما قاله شيخنا هنا تبعا لبعض علماء الاجتماع من المؤرخين، وقد بين هو في بحث الحاجة إلى الرسالة من رسالة التوحيد أن عقل البشر لا يستقل بوضع حدود للأعمال تنتهي إليها نزغات الشهوات ؛ ويقف عندها سير الأهواء والرغبات، بل لا بد من تشريع إلهي لذلك، ولكنه أوجز هنا فترك المسألة مبهمة مظلمة، وإننا نرى أن طور العقل والفكر قد بلغ في هذا العصر مرتقى لم يعرف في التاريخ ما يقربه، ووضع علماؤه وحكماؤه شرائع وقوانين لإيقاف التنازع والتخاصم عند حد لا يتفاقم شره، ثم نرى أعلم هذه الأمم ودولها مبعث الشرور والشقاوة، والخبث والرياء والحروب والفتن، فلا هداية إلا هداية الدين الإلهي الذي تذعن له الأنفس بمحض العبودية لله تعالى.
مجمل الآيات أن هذا العالم لما استعد لوجود هذا النوع الإنساني واقتضت الحكمة الإلهية إيجاده واستخلافه في الأرض آذن الله تعالى الأرواح المنبثة في الأشياء لتدبيرها ونظامها بذلك، وأن تلك الأرواح فهمت من معنى كون الإنسان خليفة أنه يفسد النظام ويسفك الدماء، حتى أعلمها الله تعالى بأن علمها لم يحط بمواقع حكمته، ولا يصل إلى حيث يصل علمه تعالى. ثم أوجد آدم وفضله بتعليمه الأسماء كلها، على أن كل صنف من تلك الأرواح لا يعلم إلا طائفة منها، ولذلك أخضع له تلك الأرواح إلا روحا واحدا هو مبعث الشر ومصدر الإغواء فقد أبى الخضوع، واستكبر عن السجود، لما كان في طبيعته من الاستعداد لذلك. والاستعداد في الشيء إنما يظهر بظهور متعلقه. فلا يقال : إذا كان لكل روح من هذه الأرواح والقوى الغيبية علم محدود فكيف ظهر من الروح الابليسي ما لم يسبق له وهو مخالفة الأمر بالسجود لآدم والتصدي لإغوائه ؟ لا يقال ذلك لأنه كان مستعدا لهذا العصيان والإباء فلما أمر عصى. ولما وجد خلقا مستعدا للوسوسة اتصل به ووسوس إليه. كما أن ألوان ورق الشجر والزهور موجودة كامنة في البذرة ولكنها لا تظهر إلا عند الاستعداد لها ببلوغ الطور المحدود من النمو.
ومجمل الآيات اللاحقة : أن الله تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بها ونهاهما عن الأكل من شجرة مخصوصة وأخبرهما أن قربها ظلم. وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما مما كان فيه من النعيم إلى ضده. ثم إن آدم تاب إلى الله من معصيته فقبله. ثم جعل سعادة هذا النوع بإتباع هدى الله وشقاءه بتركه. وقد تقدم أن الآيات كلها قد سيقت للاعتبار ببيان الفطرة الإلهية التي فطر عليها الملائكة والبشر. وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقى من الإنكار. وتقدم وجه ذلك في الآيات السابقة. وأما وجهه في هذه الآيات فظاهر، وهو أن المعصية من شأن البشر. كأنه يقول : فلا تأس يا محمد على القوم الكافرين ولا تبخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ فقد كان الضعف في طباعهم ينتهي إليهم من أول سلف لهم. تغلب عليهم الوساوس. وتذهب بصرهم الدسائس. انظر ما وقع لآدم وما كان منه وسنة الله مع ذلك لا تتبدل. فقد عوقب آدم على خطيئته بإهباطه مما كان فيه. وإن كان قد قبل توبته. وغفر هفوته ] فالمعصية دائما مجلبة الشقاء. وقد استقر أمر البشر على أن سعادتهم في اتباع الهداية الإلهية وشقاءهم في الانحراف عن سبلها.
قال تعالى ﴿ فأزلهما الشيطان عنها ﴾ أي حولهما وزحزحهما عن الجنة أو حملهما على الزلة بسبب الشجرة وقرأ حمزة ( فأزالهما ) والشيطان إبليس الذي لم يسجد ولم يخضع وقد وسوس لهما بما ذكر في سورتي الأعراف وطه حتى أوقعهما في الزلل وحملهما على الأكل من الشجرة فأكلا ﴿ فأخرجهما مما كانا فيه ﴾ أي من ذلك المكان أو النعيم الذي كانا فيه، فكان الذنب متصلا بالعقوبة اتصال السبب بالمسبب ثم بين الله تعالى كيفية الإخراج بقوله ﴿ وقلنا اهبطوا ﴾ يعني آدم وزوجه وإبليس فلا حاجة لتقدير إرادة ذرية آدم بالجمع كما فعل مفسرنا ( الجلال ) فإن العداوة في قوله عز وجل ﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ تنافي هذا التقدير فإن العداوة بين الإنسان والشيطان لا بين الإنسان وذريته. والأصل في الهبوط أن يكون من مكان عال إلى أسفل منه، ولذلك احتج به من قال : إن آدم كان في السماء، وقد يستعمل في مطلق الانتقال أو مع اعتبار العلو والسفل في المعنى. وقال الراغب : الهبوط الانحدار على سبيل القهر ولا يبعد أن تكون تلك الجنة في ربوة فسمى الخروج منها هبوطا أو سمى بذلك لأن ما انتقلوا إليه دون ما كانوا فيه أو هو كما يقال هبط من بلد إلى بلد، كقوله تعالى لبني إسرائيل ( اهبطوا مصرا ).
ثم قال تعالى ﴿ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾ أي إن استقراركم في الأرض وتمتعكم فيها ينتهيان إلى زمن محدود وليسا بدائمين ففي الكلام فائدتان ( إحداهما ) أن الأرض ممهدة مهيأة للمعيشة فيها والتمتع بها ( والثانية ) أن طبيعة الحياة فيها تنافي الخلود والدوام، فليس الهبوط لأجل الإبادة ومحو الآثار، وليس للخلود كما زعم إبليس بوسوسته إذ سمى الشجرة المنهي عنها ( شجرة الخلد وملك لا يبلى ) يعنى أن الله أخرجهم من جنة الراحة إلى أرض العمل لا ليفنيهم، وعبر عن ذلك بالاستقرار في الأرض، ولا ليعاقبهم بالحرمان من التمتع بخيرات الأرض، وعبر عن ذلك بالمتاع، ولا ليمتعهم بالخلود وعبر عن ذلك بكون الاستقرار والمتاع إلى حين.
فأما الأولى فليس في القرآن نص فيها ولا يلزمنا حمل قوله تعالى ﴿ وخلق منها زوجها ﴾ على ذلك لأجل مطابقة سفر التكوين، فإن القصة لم ترد في القرآن كما وردت في التوراة التي في أيدي أهل الكتاب حكاية تاريخية، وإنما جاء القرآن بموضع العبرة في خلق آدم واستعداد الكون لأن يتكمل به، وكونه قد أعطي استعدادا في العلم والعمل لا نهاية لهما ليظهر حكم الله ويقيم سننه في الأرض فيكون خليفة له، وكونه لا يسلم من داعية الشر والتأثر بالوسوسة التي تحمل على المعصية. ولكون التاريخ غير مقصود له لأن مسائله من حيث هي تاريخ ليست من مهمات الدين من حيث هو دين، وإنما ينظر الدين من التاريخ إلى وجه العبرة دون غيره، لم يبين الزمان والمكان كما بينا في سفر التكوين، وكان بيانهما سببا لرفض الباحثين في الكون وتاريخ الخليفة لدين النصرانية، لأن العلم المبني على الاختبار والمشاهدة أظهر خطأ ما جاء من التاريخ في التوراة، ووجدت للإنسان آثار في الأرض تدل على أنه أقدم مما حددته التوراة في تاريخ تكوينه، فقام فريق من أهل الكتاب يركب التعاسيف في التأويل، وفريق يكفر بالكتاب والتنزيل.
( أقول ) فإن قلت : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة في الصحيحين في تعليل التوصية بالنساء " فإن المرأة خلقت من ضلع " قلنا : إنه على حد قوله تعالى ﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾ كما قالوا في شرحه- وسيأتي في تفسير القصة من سورة الأعراف. ولم يتعرض شيخنا في الدرس لقوله تعالى ﴿ وخلق منها زوجها ﴾ ولكنه كتب بعد ذلك وقبل ما ستراه عنه في تفسير سورة النساء ما نصه :
[ وأما قوله تعالى في سورة النساء ﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ﴾ وفي سورة الأعراف ﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ﴾ فقد قال غير واحد من المفسرين : إن المعنى من جنسها كما قال في سورة الروم { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) فإن المعنى هناك على أنه خلق أزواجا من جنسنا، ولا يصح أن يراد أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها كما هو ظاهر ) ].
( قال ) وأما مسألة عصمة آدم فالجري على طريقة السلف يذهب بنا إلى أن العصيان والتوبة من المتشابه، كسائر ما ورد في القصة مما لا يركن العقل إلى ظاهره، ولنا أن نقول : إن تلك مخالفة صدرت منه قبل أن يدركه عزم النبوة كما قال جل شأنه ﴿ فنسي ولم نجد له عزما ﴾ والاتفاق إنما هو على العصمة عن مخالفة الأوامر بعد النبوة. وقد يكون الذي وقع من آدم نسيانا، فسمي تفخيما لأمره عصيانا، والنسيان والسهو مما لا ينافي العصمة، فإن جعلنا الكلام كله تمثيلا فحديث الإخلال بالعصمة مما لا يمر بذهن العاقل.
وأما تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه : إن القرآن كثيرا ما يصور المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب، أو أسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير، فهو يدعو بها الأذهان، إلى ما وراءها من المعاني، كقوله تعالى ﴿ ٥٠ : ٣٠ يوم نقول لجهنم هل امتلأت ؟ وتقول هل من مزيد ﴾ فليس المراد أن الله تعالى يستفهم منها وهي تجاوبه، وإنما هو تمثيل لسعتها وكونها لا تضيق بالمجرمين مهما كثروا، ونحوه قوله عز وجل بعد ذكر الاستواء إلى خلق السماء ﴿ ٤١ : ١١ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾ والمعنى في التمثيل ظاهر.
( أقول ) وهذا الأمر يسمى أمر التكوين، ويقابله أمر التشريع، وإنما سمي أمر التكوين للتعبير عنه في التنزيل بقوله تعالى ﴿ ٣٦ : ٨٢ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾ فهو تصوير لتعلق إرادة الربوبية بالإيجاد، ولا أذكر عن أحد من المفسرين المتبعين للأثر تصريحا بأن الأوامر في قصة آدم من أمر التكوين إلا للحافظ ابن كثير فإنه ذهب في تفسير ﴿ قال فاهبط منها ﴾ من سورة الأعراف إلى أن الأمر فيه أمر قدري كوني، ومثله ما في معناه من قصة آدم ومن الآيات الأخرى من مخاطبة إبليس للرب وجوابها في شأن إغوائه للبشر وإنظاره إلى يوم القيامة.
( قال الأستاذ الإمام ما مثاله ) وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا : إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض – وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطى استعدادا في العلم والعمل لا حد لهما هو تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض – وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه في استعمارها – وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته – وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك – وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والإفساد في الأرض – ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن سكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري.
هذا ملخص ما تقدم في سابق آيات القصة.
وأما التمثيل فيما نحن فيه منها فيصح عليه أن يراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ذات الشجر الملتف ما يلذ له من مرأى ومأكول ومشروب ومشموم ومسموع، في ظل ظليل، وهواء عليل، وماء سلسبيل، كما قال تعالى في القصة من سورة طه ﴿ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ﴾ ويصح أن يعبر عن السعادة بالكون في الجنة وهو مستعمل، ويصح أن يراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة، فيقال كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، وكان من قريش كذا يعني القبيلة التي أبوها قريش، وفي كلام العرب كثير من هذا.
ويصح أن يراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، وفسرت بكلمة الكفر. وفي الحديث تشبيه المؤمن بشجرة النخل – ويصح أن يكون المراد بسكنى الجنة وبالهبوط منها أمر التكوين فقد تقدم أن الأمر الإلهي قسمان : أمر تكوين وأمر تكليف.
والمعنى على هذا : أن الله تعالى كون النوع البشري على ما نشاهده في الأطوار التدريجية التي قال فيها سبحانه ﴿ ٧١ : ١٤ وقد خلقكم أطوارا ﴾ فأولها طور الطفولية١ وهي لا هم فيها ولا كدر، وإنما هي لعب ولهو، كأن الطفل دائما في جنة ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، جارية الأنهار، متناغية الأطيار، وهذا معنى ﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ وذكر الزوجة مع أن المراد بآدم النوع الآدمي للتنبيه على الشمول وعلى أن استعداد المرأة كاستعداد الرجل في جميع الشئون البشرية، فأمر آدم وحواء بالسكنى أمر تكوين، أي إنه تعالى خلق البشر ذكورا وإناثا هكذا – وأمرهما بالأكل حيث شاءا عبارة عن إباحة الطيبات وإلهام معرفة الخير – النهي عن الشجرة عبارة عن إلهام معرفة الشر، وأن الفطرة تهدي إلى قبحه ووجوب اجتنابه، وهذان الإلهامان اللذان يكونان للإنسان في الطور الثاني وهو طور التمييز هما المراد بقوله تعالى ﴿ ٩٠ : ١١ وهديناه النجدين ﴾ وسوسة الشيطان وإزلاله لهما عبارة عن وظيفة تلك الروح الخبيثة التي تلابس النفوس البشرية فتقوى فيها داعية الشر، أي إن إلهام التقوى والخير أقوى في فطرة الإنسان أو هو الأصل، ولذلك لا يفعل الشر إلا بملابسة الشيطان له ووسوسته إليه – والخروج من الجنة مثال لما يلاقيه الإنسان من البلاء والعناء بالخروج عن الاعتدال الفطري – وأما تلقي آدم الكلمات وتوبته فهو بيان لما عرف في الفطرة السليمة من الاعتبار بالعقوبات التي تعقب الأفعال السيئة، ورجوعه إلى الله تعالى عند الضيق والتجائه إليه في الشدة. وتوبة الله تعالى عليه عبارة عن هدايته إياه إلى المخرج من الضيق، والتفلت من شرك البلاء، بعد ذلك الاعتبار والالتجاء، وذكر توبة الله على الإنسان ترد ما عليه النصارى من اعتقاد أن الله تعالى قد سجل معصية آدم عليه وعلى بنيه إلى أن يأتي عيسى ويخلصهم منها وهو اعتقاد تنبذه الفطرة، ويرده الوحي المحكم المتواتر.
فحاصل القول : أن الأطوار الفطرية للبشر ثلاثة. طور الطفولة وهو طور نعيم وراحة، وطور التمييز الناقص وفيه يكون الإنسان عرضة لإتباع الهوى بوسوسة الشيطان، وطور الرشد والاستواء وهو الذي يعتبر فيه بنتائج الحوادث، ويلتجئ فيه عند الشدة إلى القوة الغيبية العليا التي منها كل شيء وإليها يرجع الأمر كله، فهكذا كان الإنسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه ( قال الأستاذ ) كأن تدرج الإنسان في حياته الاجتماعية ابتدأ ساذجا سليم الفطرة، قويم الوجهة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل، متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالذهبي.
ثم لم يكفه هذا النعيم المرفه فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم، طاعة للشهوة، وميلا مع خيال اللذة، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم فثار النزاع، وعظم الخلاف، واستنزل الشقاء، وهذا هو الطور الثاني وهو معروف في تاريخ الأمم ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر، ووزن الخير والشر بميزان النظر والفكر، وتحديد حدود للأعمال إليها نزعات الشهوات، ويقف عندها سير الرغبات، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله.
( وأقول الآن ) إن توبة آدم عليه السلام بناء على تفسير القصة بحمل الكلام على الحقيقة قد كانت بالرجوع إلى الله واعترافه مع حواء بظلمهما لأنفسهما وطلبهما المغفرة والرحمة منه تعالى، لا بمجرد تدبر العقل ووزن الخير والشر بميزان الفكر الخ ما قاله شيخنا هنا تبعا لبعض علماء الاجتماع من المؤرخين، وقد بين هو في بحث الحاجة إلى الرسالة من رسالة التوحيد أن عقل البشر لا يستقل بوضع حدود للأعمال تنتهي إليها نزغات الشهوات ؛ ويقف عندها سير الأهواء والرغبات، بل لا بد من تشريع إلهي لذلك، ولكنه أوجز هنا فترك المسألة مبهمة مظلمة، وإننا نرى أن طور العقل والفكر قد بلغ في هذا العصر مرتقى لم يعرف في التاريخ ما يقربه، ووضع علماؤه وحكماؤه شرائع وقوانين لإيقاف التنازع والتخاصم عند حد لا يتفاقم شره، ثم نرى أعلم هذه الأمم ودولها مبعث الشرور والشقاوة، والخبث والرياء والحروب والفتن، فلا هداية إلا هداية الدين الإلهي الذي تذعن له الأنفس بمحض العبودية لله تعالى.
مجمل الآيات أن هذا العالم لما استعد لوجود هذا النوع الإنساني واقتضت الحكمة الإلهية إيجاده واستخلافه في الأرض آذن الله تعالى الأرواح المنبثة في الأشياء لتدبيرها ونظامها بذلك، وأن تلك الأرواح فهمت من معنى كون الإنسان خليفة أنه يفسد النظام ويسفك الدماء، حتى أعلمها الله تعالى بأن علمها لم يحط بمواقع حكمته، ولا يصل إلى حيث يصل علمه تعالى. ثم أوجد آدم وفضله بتعليمه الأسماء كلها، على أن كل صنف من تلك الأرواح لا يعلم إلا طائفة منها، ولذلك أخضع له تلك الأرواح إلا روحا واحدا هو مبعث الشر ومصدر الإغواء فقد أبى الخضوع، واستكبر عن السجود، لما كان في طبيعته من الاستعداد لذلك. والاستعداد في الشيء إنما يظهر بظهور متعلقه. فلا يقال : إذا كان لكل روح من هذه الأرواح والقوى الغيبية علم محدود فكيف ظهر من الروح الابليسي ما لم يسبق له وهو مخالفة الأمر بالسجود لآدم والتصدي لإغوائه ؟ لا يقال ذلك لأنه كان مستعدا لهذا العصيان والإباء فلما أمر عصى. ولما وجد خلقا مستعدا للوسوسة اتصل به ووسوس إليه. كما أن ألوان ورق الشجر والزهور موجودة كامنة في البذرة ولكنها لا تظهر إلا عند الاستعداد لها ببلوغ الطور المحدود من النمو.
ومجمل الآيات اللاحقة : أن الله تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بها ونهاهما عن الأكل من شجرة مخصوصة وأخبرهما أن قربها ظلم. وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما مما كان فيه من النعيم إلى ضده. ثم إن آدم تاب إلى الله من معصيته فقبله. ثم جعل سعادة هذا النوع بإتباع هدى الله وشقاءه بتركه. وقد تقدم أن الآيات كلها قد سيقت للاعتبار ببيان الفطرة الإلهية التي فطر عليها الملائكة والبشر. وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقى من الإنكار. وتقدم وجه ذلك في الآيات السابقة. وأما وجهه في هذه الآيات فظاهر، وهو أن المعصية من شأن البشر. كأنه يقول : فلا تأس يا محمد على القوم الكافرين ولا تبخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ فقد كان الضعف في طباعهم ينتهي إليهم من أول سلف لهم. تغلب عليهم الوساوس. وتذهب بصرهم الدسائس. انظر ما وقع لآدم وما كان منه وسنة الله مع ذلك لا تتبدل. فقد عوقب آدم على خطيئته بإهباطه مما كان فيه. وإن كان قد قبل توبته. وغفر هفوته ] فالمعصية دائما مجلبة الشقاء. وقد استقر أمر البشر على أن سعادتهم في اتباع الهداية الإلهية وشقاءهم في الانحراف عن سبلها.
ثم قال ﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات ﴾ أي ألهمه الله إياها فأناب إليه بها وهي كما في سورة الأعراف ﴿ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ﴾ تاب آدم بذلك وأناب إلى ربه ﴿ فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ﴾ أي قبل توبته ؛ وعاد عليه بفضله ورحمته، وبين سبب ذلك بأنه تعالى هو التواب أي الذي يقبل التوبة كثيرا، فمهما يذنب العبد ويندم ويتب يتب الرب عليه، وبأنه هو الرحيم بعباده مهما يسئ أحدهم بما هم سبب لغضبه تعالى ويرجع إليه فإنه يحفه برحمته. وكل ما ورد في هبوط آدم وحواء من تعيين الأمكنة فهو من الإسرائيليات الباطلة.
فأما الأولى فليس في القرآن نص فيها ولا يلزمنا حمل قوله تعالى ﴿ وخلق منها زوجها ﴾ على ذلك لأجل مطابقة سفر التكوين، فإن القصة لم ترد في القرآن كما وردت في التوراة التي في أيدي أهل الكتاب حكاية تاريخية، وإنما جاء القرآن بموضع العبرة في خلق آدم واستعداد الكون لأن يتكمل به، وكونه قد أعطي استعدادا في العلم والعمل لا نهاية لهما ليظهر حكم الله ويقيم سننه في الأرض فيكون خليفة له، وكونه لا يسلم من داعية الشر والتأثر بالوسوسة التي تحمل على المعصية. ولكون التاريخ غير مقصود له لأن مسائله من حيث هي تاريخ ليست من مهمات الدين من حيث هو دين، وإنما ينظر الدين من التاريخ إلى وجه العبرة دون غيره، لم يبين الزمان والمكان كما بينا في سفر التكوين، وكان بيانهما سببا لرفض الباحثين في الكون وتاريخ الخليفة لدين النصرانية، لأن العلم المبني على الاختبار والمشاهدة أظهر خطأ ما جاء من التاريخ في التوراة، ووجدت للإنسان آثار في الأرض تدل على أنه أقدم مما حددته التوراة في تاريخ تكوينه، فقام فريق من أهل الكتاب يركب التعاسيف في التأويل، وفريق يكفر بالكتاب والتنزيل.
( أقول ) فإن قلت : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة في الصحيحين في تعليل التوصية بالنساء " فإن المرأة خلقت من ضلع " قلنا : إنه على حد قوله تعالى ﴿ خلق الإنسان من عجل ﴾ كما قالوا في شرحه- وسيأتي في تفسير القصة من سورة الأعراف. ولم يتعرض شيخنا في الدرس لقوله تعالى ﴿ وخلق منها زوجها ﴾ ولكنه كتب بعد ذلك وقبل ما ستراه عنه في تفسير سورة النساء ما نصه :
[ وأما قوله تعالى في سورة النساء ﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ﴾ وفي سورة الأعراف ﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ﴾ فقد قال غير واحد من المفسرين : إن المعنى من جنسها كما قال في سورة الروم { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) فإن المعنى هناك على أنه خلق أزواجا من جنسنا، ولا يصح أن يراد أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها كما هو ظاهر ) ].
( قال ) وأما مسألة عصمة آدم فالجري على طريقة السلف يذهب بنا إلى أن العصيان والتوبة من المتشابه، كسائر ما ورد في القصة مما لا يركن العقل إلى ظاهره، ولنا أن نقول : إن تلك مخالفة صدرت منه قبل أن يدركه عزم النبوة كما قال جل شأنه ﴿ فنسي ولم نجد له عزما ﴾ والاتفاق إنما هو على العصمة عن مخالفة الأوامر بعد النبوة. وقد يكون الذي وقع من آدم نسيانا، فسمي تفخيما لأمره عصيانا، والنسيان والسهو مما لا ينافي العصمة، فإن جعلنا الكلام كله تمثيلا فحديث الإخلال بالعصمة مما لا يمر بذهن العاقل.
وأما تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه : إن القرآن كثيرا ما يصور المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب، أو أسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير، فهو يدعو بها الأذهان، إلى ما وراءها من المعاني، كقوله تعالى ﴿ ٥٠ : ٣٠ يوم نقول لجهنم هل امتلأت ؟ وتقول هل من مزيد ﴾ فليس المراد أن الله تعالى يستفهم منها وهي تجاوبه، وإنما هو تمثيل لسعتها وكونها لا تضيق بالمجرمين مهما كثروا، ونحوه قوله عز وجل بعد ذكر الاستواء إلى خلق السماء ﴿ ٤١ : ١١ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾ والمعنى في التمثيل ظاهر.
( أقول ) وهذا الأمر يسمى أمر التكوين، ويقابله أمر التشريع، وإنما سمي أمر التكوين للتعبير عنه في التنزيل بقوله تعالى ﴿ ٣٦ : ٨٢ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾ فهو تصوير لتعلق إرادة الربوبية بالإيجاد، ولا أذكر عن أحد من المفسرين المتبعين للأثر تصريحا بأن الأوامر في قصة آدم من أمر التكوين إلا للحافظ ابن كثير فإنه ذهب في تفسير ﴿ قال فاهبط منها ﴾ من سورة الأعراف إلى أن الأمر فيه أمر قدري كوني، ومثله ما في معناه من قصة آدم ومن الآيات الأخرى من مخاطبة إبليس للرب وجوابها في شأن إغوائه للبشر وإنظاره إلى يوم القيامة.
( قال الأستاذ الإمام ما مثاله ) وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا : إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض – وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطى استعدادا في العلم والعمل لا حد لهما هو تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض – وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه في استعمارها – وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته – وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك – وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والإفساد في الأرض – ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن سكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري.
هذا ملخص ما تقدم في سابق آيات القصة.
وأما التمثيل فيما نحن فيه منها فيصح عليه أن يراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ذات الشجر الملتف ما يلذ له من مرأى ومأكول ومشروب ومشموم ومسموع، في ظل ظليل، وهواء عليل، وماء سلسبيل، كما قال تعالى في القصة من سورة طه ﴿ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ﴾ ويصح أن يعبر عن السعادة بالكون في الجنة وهو مستعمل، ويصح أن يراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة، فيقال كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، وكان من قريش كذا يعني القبيلة التي أبوها قريش، وفي كلام العرب كثير من هذا.
ويصح أن يراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، وفسرت بكلمة الكفر. وفي الحديث تشبيه المؤمن بشجرة النخل – ويصح أن يكون المراد بسكنى الجنة وبالهبوط منها أمر التكوين فقد تقدم أن الأمر الإلهي قسمان : أمر تكوين وأمر تكليف.
والمعنى على هذا : أن الله تعالى كون النوع البشري على ما نشاهده في الأطوار التدريجية التي قال فيها سبحانه ﴿ ٧١ : ١٤ وقد خلقكم أطوارا ﴾ فأولها طور الطفولية١ وهي لا هم فيها ولا كدر، وإنما هي لعب ولهو، كأن الطفل دائما في جنة ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، جارية الأنهار، متناغية الأطيار، وهذا معنى ﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ وذكر الزوجة مع أن المراد بآدم النوع الآدمي للتنبيه على الشمول وعلى أن استعداد المرأة كاستعداد الرجل في جميع الشئون البشرية، فأمر آدم وحواء بالسكنى أمر تكوين، أي إنه تعالى خلق البشر ذكورا وإناثا هكذا – وأمرهما بالأكل حيث شاءا عبارة عن إباحة الطيبات وإلهام معرفة الخير – النهي عن الشجرة عبارة عن إلهام معرفة الشر، وأن الفطرة تهدي إلى قبحه ووجوب اجتنابه، وهذان الإلهامان اللذان يكونان للإنسان في الطور الثاني وهو طور التمييز هما المراد بقوله تعالى ﴿ ٩٠ : ١١ وهديناه النجدين ﴾ وسوسة الشيطان وإزلاله لهما عبارة عن وظيفة تلك الروح الخبيثة التي تلابس النفوس البشرية فتقوى فيها داعية الشر، أي إن إلهام التقوى والخير أقوى في فطرة الإنسان أو هو الأصل، ولذلك لا يفعل الشر إلا بملابسة الشيطان له ووسوسته إليه – والخروج من الجنة مثال لما يلاقيه الإنسان من البلاء والعناء بالخروج عن الاعتدال الفطري – وأما تلقي آدم الكلمات وتوبته فهو بيان لما عرف في الفطرة السليمة من الاعتبار بالعقوبات التي تعقب الأفعال السيئة، ورجوعه إلى الله تعالى عند الضيق والتجائه إليه في الشدة. وتوبة الله تعالى عليه عبارة عن هدايته إياه إلى المخرج من الضيق، والتفلت من شرك البلاء، بعد ذلك الاعتبار والالتجاء، وذكر توبة الله على الإنسان ترد ما عليه النصارى من اعتقاد أن الله تعالى قد سجل معصية آدم عليه وعلى بنيه إلى أن يأتي عيسى ويخلصهم منها وهو اعتقاد تنبذه الفطرة، ويرده الوحي المحكم المتواتر.
فحاصل القول : أن الأطوار الفطرية للبشر ثلاثة. طور الطفولة وهو طور نعيم وراحة، وطور التمييز الناقص وفيه يكون الإنسان عرضة لإتباع الهوى بوسوسة الشيطان، وطور الرشد والاستواء وهو الذي يعتبر فيه بنتائج الحوادث، ويلتجئ فيه عند الشدة إلى القوة الغيبية العليا التي منها كل شيء وإليها يرجع الأمر كله، فهكذا كان الإنسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه ( قال الأستاذ ) كأن تدرج الإنسان في حياته الاجتماعية ابتدأ ساذجا سليم الفطرة، قويم الوجهة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل، متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالذهبي.
ثم لم يكفه هذا النعيم المرفه فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم، طاعة للشهوة، وميلا مع خيال اللذة، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم فثار النزاع، وعظم الخلاف، واستنزل الشقاء، وهذا هو الطور الثاني وهو معروف في تاريخ الأمم ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر، ووزن الخير والشر بميزان النظر والفكر، وتحديد حدود للأعمال إليها نزعات الشهوات، ويقف عندها سير الرغبات، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله.
( وأقول الآن ) إن توبة آدم عليه السلام بناء على تفسير القصة بحمل الكلام على الحقيقة قد كانت بالرجوع إلى الله واعترافه مع حواء بظلمهما لأنفسهما وطلبهما المغفرة والرحمة منه تعالى، لا بمجرد تدبر العقل ووزن الخير والشر بميزان الفكر الخ ما قاله شيخنا هنا تبعا لبعض علماء الاجتماع من المؤرخين، وقد بين هو في بحث الحاجة إلى الرسالة من رسالة التوحيد أن عقل البشر لا يستقل بوضع حدود للأعمال تنتهي إليها نزغات الشهوات ؛ ويقف عندها سير الأهواء والرغبات، بل لا بد من تشريع إلهي لذلك، ولكنه أوجز هنا فترك المسألة مبهمة مظلمة، وإننا نرى أن طور العقل والفكر قد بلغ في هذا العصر مرتقى لم يعرف في التاريخ ما يقربه، ووضع علماؤه وحكماؤه شرائع وقوانين لإيقاف التنازع والتخاصم عند حد لا يتفاقم شره، ثم نرى أعلم هذه الأمم ودولها مبعث الشرور والشقاوة، والخبث والرياء والحروب والفتن، فلا هداية إلا هداية الدين الإلهي الذي تذعن له الأنفس بمحض العبودية لله تعالى.
أمرهم الله تعالى بالهبوط مرتين، فالأولى بيان لحالهم في أنفسهم بعد الهبوط من تلك الجنة أو الخروج من ذلك الطور وهو أن حالهم تقتضي العداوة والاستقرار في الأرض والتمتع بها، وعدم الخلود فيها، والثانية، بيان لحالهم من حيث الطاعة والمعصية وآثارها، وهي أن حالة الإنسان في هذا الطور لا تكون عصيانا مستمرا شاملا، و لا تكون هدى واجتباء عاما – كما كان يفهم لو اقتصر على ذكر توبة الله على آدم وهدايته واجتبائه – وإنما الأمر موكول إلى اجتهاد الإنسان وسعيه، ومن رحمة الله تعالى به أن يجعل في بعض أفراده الوحي ويعلمهم طرق الهداية، فمن سلكها فاز وسعد، ومن تنكبها خسر وشقي، وهذا هو السر في إعادة ذكر الهبوط لا أنه أعيد للتأكيد كما زعموا.
قال تعالى ﴿ قلنا اهبطوا منها جميعا ﴾ أي فقد انتهى طور النعيم الخالص والراحة العامة وادخلوا في طور لكم فيه طريقان : هدى وضلال، إيمان وكفران، فلاح وخسران ﴿ فإما يأتينكم مني هدى ﴾ من رسول مرشد وكتاب مبين ﴿ فمن تبع هداي ﴾ الذي أشرعه، وسلك صراطي المستقيم الذي أحدده ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ من وسوسة الشيطان، ولا مما يعقبها من الشقاء والخسران ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ على فوت مطلوب، أو فقد محبوب، لأنهم يعلمون بهذه الهداية أن الصبر والتسليم مما يرضى الله تعالى ويوجب مثوبته، ويفتح للإنسان باب الاعتبار بالحوادث، ويقويه على مصارعة الكوارث، فيكون له من ذلك خير عوض عما فاته، وأفضل تعزية عما فقده.
قال الأستاذ الإمام ما مثاله : الخوف عبارة عن تألم الإنسان من توقع مكروه يصيبه، أو توقع حرمان من محبوب يتمتع به أو يطلبه، والحزن ألم يلم بالإنسان إذا فقد ما يحب، وقد أعطانا الله جل ثناؤه الطمأنينة التامة في مقابلة ما تحدثه كلمة ( اهبطوا ) من الخوف من سوء المنقلب. وما تثيره من كوامن الرعب، فالمهتدون بهداية الله تعالى لا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات، لأن اتباع الهدى يسهل عليهم طريق اكتساب الخيرات، ويعدهم لسعادة الدنيا والآخرة، ومن كانت هذه وجهته، يسهل عليه كل ما يستقبله، ويهون عليه كل ما أصابه أو فقده، لأنه موقن بأن الله يخلفه، فيكون كالتعب في الكسب، لا يلبث أن يزل بلذة الربح الذي يقع أو يتوقع.
وإذا قال قائل : إن الدين يقيد حرية الإنسان ويمنعه بعض اللذات التي يقدر على التمتع بها. ويحزنه الحرمان منها، فكيف يكون هو المأمن من الأحزان، ويكون بإتباعه الفوز وبتركه الخسران ؟ فجوابه : إن الدين لا يمنع من لذة إلا إذا كان في إصابتها ضرر على مصيبها، أو على أحد إخوانه من أبناء جنسه الذي يفوته من منافع تعاونهم إذا آذاهم أثر مما يناله بالتلذذ وبإيذائهم، ولو تمثلت لمستحل اللذة المحرمة مضارها التي تعقبها في نفسه وفي الناس، وتصور ما لها من التأثير في فساد العمران لو كانت عامة، وكان صحيح العقل معتدل الفطرة، لرجح عنها متمثلا بقول الشاعر :
* لا خير في لذة من بعدها كدر *
فكيف إذا كان مع ذلك يؤمن باليوم الآخر، ويعلم أن هذه المحرمات تدنس الروح فلا تكون أهلا لدار الكرامة في يوم القيامة.
( قال الأستاذ ) وليست سعادة الإنسان في حرية البهائم بل في الحرية التي تكون في دائرة الشرع ومحيطه. فمن اتبع هداية الله فلا شك أنه يتمتع تمتعا حسنا ويتلقى بالصبر كل ما أصابه، وبالطمأنينة ما يتوقع أن يصيبه، فلا يخاف ولا يحزن.
يريد أن رجاء الإنسان فيما وراء الطبيعة هو الذي يقيه من تحكم عوادي الطبيعة فيه، وبدون ذلك الرجاء تتحكم فيه أشد مما تتحكم في البهائم التي هي أقوى منه طبيعة ﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ فالتماس السعادة بحرية البهائم، هو الشقاء اللازم، وقد صرح بلفظ التمتع الحسن أخذا من قوله تعالى { ١١ : ٣ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ) الآية.
فالآيات الدالة على أن سعادة الدنيا معلولة للاهتداء بالدين كثيرة جدا، وقد حجبها عن كثير من المسلمين قولهم في الكافرين : لهم الدنيا ولنا الآخرة، يغالطون أنفسهم بحجة القرآن عليهم. وآيات سورة طه في قصة آدم أوضح في المراد من آيات البقرة، وهي قوله عز وجل ﴿ ٢٠ : ١٢٣، ١٢٤ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ الآيات.
تتأيا الطير غدوته *** ثقة بالشبع من جزره
أي تتحرى الطير وتقصد خروجه صباحا إلى القتال أو الصيد لثقتها بما سبق من التجارب بأن تستشبع مما يترك لها من الفرائس.
وأطلقت الآية على كل قسم من الأقسام التي تتألف منها سور القرآن العظيم وتفصله من غيره فاصلة يقف القارئ عندها في تلاوته. ويميزها الكاتب له ببياض أو بنقطة دائرة أو ذات نقش أو بالعدد. والعمدة في معرفة الآيات بفواصلها التوقيف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان أكثرها يدرك من النظم، والآيات تطلق في القرآن على هذه وهي الآيات المنزلة من عند الله تعالى لأنها دلائل لفظية على العقائد والحكم والأحكام والآداب التي شرعها لعباده كما تدل في جملتها على كونها من عند الله تعالى لاشتمالها على ما تقدم بيانه من وجود البشر عن مثلها. وتطلق أيضا على كل ما يدل على وجود الخالق تعالى وقدرته ووحدانيته وصفات كماله من هذه المخلوقات، ومن نتائج العقول وبراهينها، أو على غير ذلك من السنن والعبر.
وهذه الآية مقابل قوله قبله ﴿ فمن اتبع هداي ﴾ الخ، أي وأما الذين لم يتبعوا هداي وهم الذين كفروا بنا وكذبوا بآياتنا المبينة لسبيل ذلك الهدى – كما قال قبل قصة آدم ﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ﴾ – أو : وأما الذين كفروا بآياتنا اعتقادا، وكذبوا بها لسانا، فجزاؤهم ما يأتي، والتكذيب كفر، سواء أكان عن اعتقاد بعدم صدق الرسول أم مع اعتقاد صدقه وهو تكذيب الجحود والعناد الذي قال لرسوله صلى الله عليه وسلم في أهله ﴿ ٦ : ٣٣ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ كما أن الكفر القلبي قد يوجد مع تصديق اللسان كما هي حال المنافقين. والمعنى كما قرره شيخنا بالاختصار : والذين كفروا وكذبوا بآيتنا التي يجعلها دلائل الهداية وحجج الإرشاد بأن جحدوا بها وأنكروا، ولم يذعنوا لصدقها، اتباعا لخطوات الشيطان وعملا بوسوسته، وذهابا مع إغوائه ﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ تقدم تفسير الخلود في آخر الآية ٢٥ وأقول : إن هذه الجملة تدل على الحصر أو الاختصاص الإضافي، أي أولئك الكافرون المكذبون البعداء هم دون متبعي هداي أصحاب النار وأهلها هم فيها خالدون لا يظعنون عنها. أي وهم في خوف قاهر، وحز مساور، وقد فسر الجلال الآيات بالكتب المنزلة، وهو يصح في القرآن فإنه آية على نفسه، وعلى صدق من جاء به، وسائر الكتب تحتاج إلى آية تدل على أنها من عند الله تعالى.
( قال الأستاذ ) بعد تفسير الكفر بالجحود، والتكذيب بالإنكار : وكل منهما يأتي في فرق من الناس، فمنهم من لا تقوى ولا إيمان له وهم الذين لا يؤمنون بالغيب لأنه ليس عندهم أصل للنظر فيما جاءهم، فهؤلاء منكرون وهم مكذبون لأن التكذيب يشمل عدم الاعتقاد بصدق الدعوى التي جاء بها الرسول واعتقاد كذبها، والجحود قد يأتي من المعتقد. قال تعالى { ٢٧ : ١٤ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ).
فهذا هو الطور الأخير للإنسان بعد ما وكل إلى كسبه، وجعل فلاحه وخسرانه بعمله، فمن لطف الله به أن أيده بهداية الدين بعد هداية الحس والوجدان والعقل، فبهذه الهدايات يرتقي بالتدريج ما شاء الله تعالى.
لا يزال الكلام في الكتاب وكونه لا ريب فيه وبيان أحوال الناس وأصنافهم في أمره. وقد قلنا إن التفنن في مسائل مختلفة منتظمة في سلك موضوع واحد هو من أنواع بلاغة القرآن وخصائصه المدهشة التي لم تسبق لبليغ، ولن يبلغ شأوه فيها بليغ : ذكر الكتاب أنه لا ريب فيه، ثم ذكر اختلاف الناس في فابتدأ بالمستعدين للإيمان به المنتظرين للهدى الذي يضيء نوره منه، وثنى بالمؤمنين، وثلث بالكافرين، وقفى عليهم بالمنافقين. ثم ضرب الأمثال لفرق الصنف الرابع ثم طالب الناس كلهم بعبادته، ثم أقام البرهان على كون الكتاب منزلا من الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين بما أعجزهم، ثم حذر وأنذر، وبشر ووعد، ثم ذكر المثل والقدوة وهو الرسول، وذكر اختلاف الناس فيه كما ذكر اختلافهم في الكتاب، ثم حاج الكافرين، وجاءهم بأنصع البراهين، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين، وخلق السموات والأرض لمنافعهم، ثم ذكر خلق الإنسان وبين أطواره، ثم طفق يخاطب الأمم والشعوب الموجودة في البلاد التي ظهرت فيها النبوة تفصيلا، فبدأ في هذه الآيات بذكر اليهود للمعنى الذي نذكره. والكلام لم يخرج بهذا التنويع عن انتظامه في سلكه، وحسن اتساقه في سبكه، فهو دائر على قطب واحد في فلكه، وهو الكتاب، والمرسل به، وحاله مع المرسل إليهم.
قال تعالى :
﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ﴾ ( أقول ) إسرائيل لقب نبي الله يعقوب ابن نبيه اسحق ابن نبيه وخليله إبراهيم ( ع. م ) قيل معناه الأمير المجاهد مع الله. والمراد ببنيه ذريته من أسباطه الإثنى عشر ؛ وأطلق عليهم لقبه في كتبهم وتواريخهم كما تسمى العرب القبيلة كلها باسم جدها الأعلى. ولما كانت سورة البقرة أول السور المدنية الطول وكان جل يهود بلاد العرب في جوارها دعاهم الله تعالى فيها إلى الإسلام وأقام عليهم الحجج والبراهين وبين لهم من حقيقة دينهم وتاريخ سلفهم ما لم يكن يعلمه أحد من قومه المجاورين لهم فضلا عن أهل وطنه بمكة المكرمة. قال شيخنا في سياق درسه ما مثاله :
" اختص بني إسرائيل بالخطاب اهتماما بهم لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية والمؤمنة بالأنبياء المعروفين، ولأنهم كانوا أشد الناس على المؤمنين، ولأن في دخولهم في الإسلام من الحجة على النصارى وغيرهم أقوى مما في دخول النصارى من الحجة عليهم، وهذه النعمة التي أطلقها في التذكير لعظم شأنها هي نعمة جعل النبوة فيهم زمنا طويلا ( أو أعم ) ولذلك كانوا يسمون شعب الله كما في كتبهم ؛ وفي القرآن إن الله اصطفاهم وفضلهم، ولا شك أن هذه المنقبة نعمة عظيمة من الله منحهم إياها بفضله ورحمته فكانوا بها مفضلين على العالمين من الأمم والشعوب وكان الواجب عليهم أن يكونوا أكثر الناس لله شكرا، وأشدهم لنعمته ذكرا، وذلك بأن يؤمنوا بكل نبي يرسله لهدايتهم، ولكنهم جعلوا النعمة حجة الإعراض عن الإيمان، وسبب إيذاء النبي عليه السلام، لأنهم زعموا أن فضل الله تعالى محصور فيهم، وأنه لا يبعث نبيا إلا منهم ؛ ولذلك بدأ الله تعالى خطابهم بالتذكير بنعمته، وقفى عليه بالأمر بالوفاء بعهده. فقال :
﴿ وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ﴾ عهد الله تعالى إليهم يعرف من الكتاب الذي نزله إليهم، فقد عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ؛ وأن يؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم، وأن يخضعوا لأحكامه وشرائعه، وعهد إليهم أن يرسل نبيا من بني إخوتهم أي بني إسماعيل يقيم شعبا جديدا. هذا هو العهد الخاص المنصوص، ويدخل في عموم العهد عهد الله الأكبر الذي أخذه على جميع البشر بمقتضى الفطرة وهو التدبر والتروي، ووزن كل شيء بميزان العقل والنظر الصحيح، لا بميزان الهوى والغرور، ولو التفت بنو إسرائيل إلى هذا العهد الإلهي العام، أو إلى تلك العهود الخاصة المنصوصة في كتابهم، لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوا النور الذي أنزل معه وكانوا من المفلحين، ولا حاجة إلى تخصيص العهد بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم كما فعل مفسرنا ( الجلال ) فإن الإيمان داخل في العهد العام وهو من أفراد العهد الخاص فلا دليل على قصر عموم العهد المضاف عليه.
هذا هو عهد الله وأما عهدهم فهو التمكين في الأرض المقدسة والنصر على الأمم الكافرة والرفعة في الدنيا وخفض العيش فيها. هذا هو الشائع في التوراة التي بين أيديهم، ولا شك أن الله تعالى قد وعدهم أيضا بسعادة الآخرة، ولكن لا دليل على هذا في التوراة إلا الإشارات، ولذلك ظنّ بعض الباحثين أن اليهود لا يؤمنون بالبعث، ومع هذا يقول ( الجلال ) كغيره إن هذا العهد هو دخول الجنة ويقتصر عليه.
ولما كان من موانع الوفاء بالعهد الذي فشا تركه في شعب إسرائيل خوف بعضهم من بعض لما بين الرؤساء والمرؤوسين من المنافع المشتركة عقب الأمر بالوفاء بقوله ﴿ وإياي فارهبون ﴾ أي إن كنتم تخافون فوت بعض المنافع، ونزول بعض المضار بكم إذا خالفتم الجماهير واتبعتم الحق، فالأولى أن لا تخافوا ولا ترهبوا إلا من بيده أزمة المنافع كلها، وهو الله الذي أنعم عليكم بتلك النعمة الكبرى أو النعم كلها، وهو وحده القادر على سلبها، وعلى العقوبة على ترك الشكر عليها، فارهبوه وحده لا ترهبوا سواه.
لا يزال الكلام في الكتاب وكونه لا ريب فيه وبيان أحوال الناس وأصنافهم في أمره. وقد قلنا إن التفنن في مسائل مختلفة منتظمة في سلك موضوع واحد هو من أنواع بلاغة القرآن وخصائصه المدهشة التي لم تسبق لبليغ، ولن يبلغ شأوه فيها بليغ : ذكر الكتاب أنه لا ريب فيه، ثم ذكر اختلاف الناس في فابتدأ بالمستعدين للإيمان به المنتظرين للهدى الذي يضيء نوره منه، وثنى بالمؤمنين، وثلث بالكافرين، وقفى عليهم بالمنافقين. ثم ضرب الأمثال لفرق الصنف الرابع ثم طالب الناس كلهم بعبادته، ثم أقام البرهان على كون الكتاب منزلا من الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين بما أعجزهم، ثم حذر وأنذر، وبشر ووعد، ثم ذكر المثل والقدوة وهو الرسول، وذكر اختلاف الناس فيه كما ذكر اختلافهم في الكتاب، ثم حاج الكافرين، وجاءهم بأنصع البراهين، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين، وخلق السموات والأرض لمنافعهم، ثم ذكر خلق الإنسان وبين أطواره، ثم طفق يخاطب الأمم والشعوب الموجودة في البلاد التي ظهرت فيها النبوة تفصيلا، فبدأ في هذه الآيات بذكر اليهود للمعنى الذي نذكره. والكلام لم يخرج بهذا التنويع عن انتظامه في سلكه، وحسن اتساقه في سبكه، فهو دائر على قطب واحد في فلكه، وهو الكتاب، والمرسل به، وحاله مع المرسل إليهم.
ثم انتقل من الأمر بالوفاء بعموم العهد إلى العهد الخاص المقصود من السياق فقال تعالى جل شأنه ﴿ وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ﴾ من تعليم التوراة وكتب الأنبياء كالتوحيد والنهي عن الفواحش والمنكرات والأمر بالمعروف وما يتصل بهذا من الإرشاد الموصل إلى السعادة، فإذا نظرتم في القرآن ووجدتموه مصدقا لما معكم من مقاصد الدين الإلهي وأصوله ووعود الأنبياء وعهودهم، تعلمون أن الروح الذي نزل به هو عين الروح الذي نزل بما سبقه، وتعلمون أنه لا غرض لهذا النبي الذي يدعوكم إلى مثل ما دعاكم إليه موسى والأنبياء إلا تقرير الحق، وهداية الخلق، بعد ما طرأ من ضلالة التأويل، وجهالة التقليد، فبادروا إلى الإيمان بهذا الكتاب الذي قامت به الحجة عليكم من وجهين ( أحدهما ) إعجازه ( وثانيهما ) كونه مصدقا لما معكم ﴿ ولا تكونوا أول كافر به ﴾ أي ولا تبادروا إلى الكفر به والجحود له مع جدارتكم بالسبق إليه، وهذا الاستعمال معروف في الكلام البليغ لهذا المعنى لا يقصد بالأولية فيه حقيقتها. والخطاب عام لليهود في كل عصر وزمان ثم قال ﴿ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ﴾ الآيات هي الدلائل التي أيد بها النبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها القرآن فهو كقوله تعالى ﴿ اشتروا الضلالة بالهدى ﴾ أي لا تعرضوا عن الإيمان بهذا النبي وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل وهو ما يستفيده رؤساؤكم من المرؤوسين من مال وجاه أوقعاهم في الكبر والغرور، وما يتوقعه المرؤوسون من الزلفى والحظوة بتقليد الرؤساء واتباعهم وما يخشونه إذا خالفوهم من المهانة والذلة، وإنما سمى هذا الجزاء قليلا لأن كل ما عدا الحق قليل وحقير بالنسبة إليه، وكيف لا يكون قليلا وصاحبه يخسر عقله وروحه قبل كل شيء لإعراضه عن الآيات البينات، والبراهين الواضحات، ثم إنه يخسر عن الحق وما يكون له من الشأن العظيم وحسن العاقبة، ثم إنه يخسر مرضاة الله تعالى وتحل به نقمه في الدنيا وعقوبته في الآخر، وختم هذه الآية بشبه ما ختم به ما قبلها وذلك قوله ﴿ وإياي فاتقون ﴾ وليس في هذه مع سابقتها تكرار ولا شبه تكرار كما يتوهم، فقد حال كل من القولين محله، ولا مندوحة عن واحد منهما لأن استبدال الباطل بالحق إنما كان منهم لاتقاء الرئيس فوت المنفعة من المرءوس، واتقاء المرءوس غضب الرئيس، فدحض هذه الشبهة بالأمر بتقوى الله وحده الذي بيده قلوب العباد وجوارحهم، وهو المسخر لهم في أعمالهم، وبيده الخير كله، وهو على كل شيء قدير.
لا يزال الكلام في الكتاب وكونه لا ريب فيه وبيان أحوال الناس وأصنافهم في أمره. وقد قلنا إن التفنن في مسائل مختلفة منتظمة في سلك موضوع واحد هو من أنواع بلاغة القرآن وخصائصه المدهشة التي لم تسبق لبليغ، ولن يبلغ شأوه فيها بليغ : ذكر الكتاب أنه لا ريب فيه، ثم ذكر اختلاف الناس في فابتدأ بالمستعدين للإيمان به المنتظرين للهدى الذي يضيء نوره منه، وثنى بالمؤمنين، وثلث بالكافرين، وقفى عليهم بالمنافقين. ثم ضرب الأمثال لفرق الصنف الرابع ثم طالب الناس كلهم بعبادته، ثم أقام البرهان على كون الكتاب منزلا من الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين بما أعجزهم، ثم حذر وأنذر، وبشر ووعد، ثم ذكر المثل والقدوة وهو الرسول، وذكر اختلاف الناس فيه كما ذكر اختلافهم في الكتاب، ثم حاج الكافرين، وجاءهم بأنصع البراهين، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين، وخلق السموات والأرض لمنافعهم، ثم ذكر خلق الإنسان وبين أطواره، ثم طفق يخاطب الأمم والشعوب الموجودة في البلاد التي ظهرت فيها النبوة تفصيلا، فبدأ في هذه الآيات بذكر اليهود للمعنى الذي نذكره. والكلام لم يخرج بهذا التنويع عن انتظامه في سلكه، وحسن اتساقه في سبكه، فهو دائر على قطب واحد في فلكه، وهو الكتاب، والمرسل به، وحاله مع المرسل إليهم.
ثم قال ﴿ ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ﴾ بينت هذه الآية مسلكهم في الغواية والإغواء في سياق النهي عنه. فقد جاء في كتبهم التحذير من أنبياء كذبة فيهم ويعلمون العجائب، وجاء فيها أيضا أنه تعالى يبعث فيهم نبيا من ولد إسماعيل يقيم به أمة، وأنه يكون من ولد الجارية ( هاجر ) وبين علاماته بما لا لبس فيه ولا اشتباه، ولكن الأحبار والرؤساء، كانوا يلبسون على العامة الحق بالباطل فيوهمونهم أن النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء الذين نعتتهم الكتب بالكذبة ( حاشاه ) ويكتمون ما يعرفون من نعوته التي لا تنطبق على سواه، وما يعلمون من صفات الأنبياء الصادقين وما يدعون إليه، وكله ظاهر فيه عليه الصلاة والسلام بأكمل المظاهر.
ومن اللبس أيضا ما يفتريه الرؤساء والأحبار فيكون صادا لهم عن سبيل الله وعن الإيمان بنبيه عن ضلال وجهل وهو لبس أصول الدين بالمحدثات والتقاليد التي زادوها على الكتب المنزلة بضروب من التأويل والاستنباط من كلام بعض المتقدمين وأفعالهم، فكانوا يحكمون هذه الزيادات في الدين حتى في كتب الأنبياء ويعتذرون بأن الأقدمين أعلم بكلام الأنبياء وأشد إتباعا لهم في فهم الواسطة بينهم وبين الأنبياء ؛ وعلى من بعدهم الأخذ بما يقولون دون ما يقول الأنبياء الذين يصعب عليهم فهم كلامهم بزعمهم، ولكن الله لم يقبل هذا العذر منهم فأسند إليهم ذلك اللبس وكتمان الحق الموجود في التوراة إلى اليوم، وكذلك لا يقبل الله ممن بعدهم ترك كتابه لكلام الرؤساء بحجة أنهم أكثر علما وفهما، فكل ما يعلم من كتاب الله تعالى يجب العمل به، وإنما يسأل الإنسان أهل الفهم عما لا يعلم منه ليعلم فيعمل.
لا يزال الكلام في الكتاب وكونه لا ريب فيه وبيان أحوال الناس وأصنافهم في أمره. وقد قلنا إن التفنن في مسائل مختلفة منتظمة في سلك موضوع واحد هو من أنواع بلاغة القرآن وخصائصه المدهشة التي لم تسبق لبليغ، ولن يبلغ شأوه فيها بليغ : ذكر الكتاب أنه لا ريب فيه، ثم ذكر اختلاف الناس في فابتدأ بالمستعدين للإيمان به المنتظرين للهدى الذي يضيء نوره منه، وثنى بالمؤمنين، وثلث بالكافرين، وقفى عليهم بالمنافقين. ثم ضرب الأمثال لفرق الصنف الرابع ثم طالب الناس كلهم بعبادته، ثم أقام البرهان على كون الكتاب منزلا من الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وتحدى المرتابين بما أعجزهم، ثم حذر وأنذر، وبشر ووعد، ثم ذكر المثل والقدوة وهو الرسول، وذكر اختلاف الناس فيه كما ذكر اختلافهم في الكتاب، ثم حاج الكافرين، وجاءهم بأنصع البراهين، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين، وخلق السموات والأرض لمنافعهم، ثم ذكر خلق الإنسان وبين أطواره، ثم طفق يخاطب الأمم والشعوب الموجودة في البلاد التي ظهرت فيها النبوة تفصيلا، فبدأ في هذه الآيات بذكر اليهود للمعنى الذي نذكره. والكلام لم يخرج بهذا التنويع عن انتظامه في سلكه، وحسن اتساقه في سبكه، فهو دائر على قطب واحد في فلكه، وهو الكتاب، والمرسل به، وحاله مع المرسل إليهم.
ثم قال جل ثناؤه ﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ﴾ فبعد الدعوة إلى الإيمان اليقيني دعاهم إلى العمل الصالح على الوجه النافع المرضى لله تعالى وكانوا ضلوا عنه بالتمسك بالظواهر والوقوف عند الرسوم فقد كانوا يصلون ولكنهم ما كانوا يقيمون الصلاة، لأن الإقامة هي الإتيان بالشيء مقوما كاملا وهي في الصلاة التوجه إلى الله تعالى بالقلب والخشوع بين يديه والإخلاص له في الذكر والدعاء والثناء، فهذا هو روح الصلاة الذي شرعت لأجله ولم تشرع لهذه الصورة، فإن الصورة تتغير في حكم الله تعالى على ألسنة أنبيائه لأنها رابطة مذكرة، فلم تكن للأنبياء صورة واحدة للصلاة، ولكن هذا الروح لا يتغير فهو واحد لم يختلف فيه نبي ولم ينسخ في دين.
ثم أمر بعد الصلاة التي تطهر الروح وتقربها من الله تعالى بالزكاة التي هي عنوان الإيمان ومظهر شكر الله على نعمه والصلة العظيمة بين الناس. وقد عهد في القرآن قرن الأمر بإتيان الزكاة بإقامة الصلاة، ومن أقام الصلاة لا ينسى الله تعالى ولا يغفل عن فضله، ومن كان كذلك فهو جدير ببذل المال في سبيله، مواساة لعياله ومساعدة على مصالحهم التي هي ملاك مصلحته، فإن الإنسان إنما يكتسب المال من الناس بحذقه وعمله معهم فهو لم يكن غنيا إلا بهم ومنهم، فإذا عجز بعضهم عن الكسب لآفة في فكره ونفسه أو علة في بدنه، فيجب على الآخرين الأخذ بيده، وأن يكونوا عونا له حفظا للمجموع الذي ترتبط مصالح بعضه بمصالح البعض الآخر، وشكرا لله على ما ميزهم به من النعمة، وظاهر أن الغني في حاجة دائمة إلى الفقير كما أن الفقير في حاجة إليه، ولكن النفوس تمرض فتغفل عن المصلحة في بذل المال ومساعدة الفقير والضعيف مبالغة وغلوا في حب المال الذي هو شقيق الروح كما يقولون، لهذا جعل الله بذل المال والإنفاق في سبل الخير علامة من علامات الإيمان، وجعل البخل من آيات النفاق والكفر كما سيأتي في بعض الآيات.
قال الأستاذ الإمام : إن البخل – ومنبعه القسوة على عباد الله تعالى والحرص على المال استرسالا في الشهوات، وميلا مع الأهواء – لا يجتمع مع الإيمان الصحيح في قلب واحد قط. وليس لأحد أن يزعم أنه يؤمن بالله وبما أنزل على رسله من الأوامر والنواهي حتى يقوم بما أمر الله فيما طلب منه على ما يحب الله ويرضى.
ثم أمر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالركوع مع الراكعين، والركوع صورة الصلاة أو جزء من أجزائها، وقد أخره ولم يصله بالصلاة لحكمة جليلة لا رعاية للفاصلة كما زعم بعض المفسرين، فليس من الجائز أن يكون في القرآن ما يعرض فيه إخلال بالمعنى لأجل رعاية الفاصلة، بل هذا لا يرتضيه البلغاء من الناس فكيف يقع في كلام الله تعالى ؟ وإنما وردت هذه الأوامر الثلاثة مرتبة كما يحب الله تعالى فإقامة الصلاة في الرتبة الأولى من عبادة الله تعالى لأنها روح العبادة والإخلاص له، ويليها إيتاء الزكاة لأنها تدل أيضا على زكاة الروح وقوة الإيمان، وأما الركوع وهو صورة الصلاة البدنية أو بعض صورتها أشير به إليها فهو في المرتبة الثالثة فرض للتذكير بسابقيه وما هو بعبادة لذاته، وإنما كان عبادة لأنه يؤدى امتثالا لأمر الله تعالى وإظهارا لخشيته، والخشوع لعظمته، ولكنه قد يصير عادة لا يلاحظ فيها امتثال ولا إخلاص فلا يعد عند الله شيئا، وإن عده أهل الرسوم كل شيء، بخلاف إقامة الصلاة بالمعنى الذي ذكرناه وإيتاء الزكاة، ولا يخفى أن الفصل بين معني الصلاة وصورتها بالزكاة فيه تعظيم لشأن الزكاة. وسنتكلم على الزكاة والإنفاق في سبيل الله بالتفصيل في تفسير آية أخرى إن شاء الله تعالى.
( استدراكات وبيان لأغلاط معنوية )
ذكرت ما قاله الأستاذ الإمام في تفسير ( واركعوا مع الراكعين ) بعد الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وفاتني أن أذكر ما أفهمه أنا في هذا الأمر بعد الأمرين، وهو أنه أمر بصلاة الجماعة أي وصلوا مع المصلين لا فرادى، وهو يؤيد بظاهره قول من قال بوجوبها. ويصح الجمع بينه وبين ما قاله شيخنا رحمه الله تعالى. ويأتي مثله في أمر مريم عليها السلام بذلك وحينئذ لا يحتاج إلى بيان حكمة أو نكتة لقوله تعالى ( مع الراكعين ) دون الراكعات لأن تغليب الذكور في صلاة الجماعة أظهر من تغليبهم في الصلاة مطلقا.
الكلام موجه إلى بني إسرائيل وقد تقدم في الآيات السابقة أن الله ذكرهم بنعمته، وأمرهم بالوفاء بعهده، وأن يرهبوه ويتقوه وحده، وأن يؤمنوا بالقرآن، ونهاهم أن يكونوا أول كافر به، وأن يشتروا بآياته ثمنا قليلا، وأن يلبسوا الحق بالباطل ويكتموه عمدا. ثم أمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وطفق في هذه الآيات يوبخهم على سيرتهم المعوجة في الدين، ويهديهم إلى طريق الخروج منها.
اليهود كسائر الملل يدعون الإيمان بكتابهم والعمل به، والمحافظة على أحكامه والقيام بما يوجبه، ولكن الله تعالى علمنا أن من الإيمان – بل مما يسمى في العرف إيمانا – مالا يعبأ به، فيكون وجوده كعدمه، وهو الإيمان الذي لا سلطان له على القلب، ولا تأثير له في إصلاح العمل، كما قال ﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ﴾ وكانت اليهود في عهد بعثه عليه الصلاة والسلام قد وصلوا في البعد عن جوهر الدين إلى هذا الحد. كانوا – ولا يزالون – يتلون الكتاب تلاوة يفهمون بها معاني الألفاظ، ويجلون أوراقه وجلده، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته، لأن الذين يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به كما قال تعالى وعلى الوجه الذي يرضاه تعالى : يتلون ألفاظه وفيها البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويأمرون بالعمل بأحكامه وآدابه من البر والتقوى، ولكن الأحبار القارئين الآمرين الناهين ما كانوا يبينون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم وتقاليدهم، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إلا إذا لم يعارض حظوظهم وشهواتهم. فقد عهد الله إليهم في الكتاب أنه يقيم من إخوانهم نبيا يقيم الحق١ وفرض عليهم الزكاة، ولكنهم كانوا يحرفون البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويؤلونها. ويحتالون لمنع الزكاة فيمنعونها، وجعلت لهم مواسم واحتفالات دينية تذكرهم بما آتى الله أنبياءهم من الآيات وما منحهم من النعم لينشطوا إلى إقامة الدين والعمل بالكتاب. ولكن القلوب قست بطول الأمد ففسقت النفوس عن أمر ربها. وهذه التوراة التي بين أيديهم لا تزال حجة عليهم، فلو سألتهم عما فيها من الأمر بالبر والحث على الخير لاعترفوا وما أنكروا، ولكن أين العمل الذي يهدي إليه الإيمان، فيكون عليه أقوى حجة وبرهان.
كذلك كان شأن أحبار اليهود وعلمائهم في معرفة ظواهر الدين بالتفصيل وكان عامتهم يعرفون من الدين العبادات العامة والاحتفالات الدينية وبعض الأمور الأخرى بالإجمال، ويرجع المستمسك منهم بدينه في سائر أموره إلى الأحبار فيقلدهم فيما يأمرونه به، وكانوا يأمرونه صوابا فيما ليس لهم فيه هوى، وإلا لجأوا إلى التأويل والتحريف والحيلة ليأخذوا من الألفاظ ما يوافق الهوى ويصيب الغرض، فإذا وجه الخطاب في قوله تعالى ﴿ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ﴾ إلى حملة الكتاب فذاك لأن الأمر والنهي وظيفتهم، وإذا كان عاما فذاك لأن شأن العامة فيما يعرفون من الدين بالإجمال كشأن الرؤساء فيما يعرفون بالتفصيل، ولا يكاد يوجد أحد لا يأمر بخيره ولا بحث على بر، فإذا كان الآمر لا يأتمر بما يأمر به فالحجة قائمة عليه بلسانه.
وبخ الله هؤلاء القوم على أنهم كانوا يأمرون الناس بالبر كالأخذ بالحق ومعرفته لأهله، وعمل الخير والوعد عليه بالسعادة مع الغفلة عن أنفسهم وعدم تذكيرها بذلك، وما أجمل التعبير عن هذه الحالة بنسيان الأنفس، فإن من شأن الإنسان أن لا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة، كأنه يقول : إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البر ووعيده على تركه فكيف نسيتم أنفسكم ﴿ وأنتم تتلون الكتاب ﴾ وتأمرون الناس بإتباعه وتعرفون منه ما لا يعرفه المأمورون ؟ أفيعلمون مع نقص العلم بفائدة العمل، ولا تعملون على كمال العلم وسعته ؟ ولما كان هذا غير معقول قفى على استفهام التوبيخ بقوله ﴿ أفلا تعقلون ﴾ يعني ألا يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا السفه ؟ فإن من له مسكة من العقل لا يدعى كمال العلم بالكتاب والإيمان اليقيني به والقيام بالإرشاد إليه : هذا كتاب الله، هذه وصايا الله، هذا أمر الله، قد وعد العامل به السعادة في الدنيا أو الآخرة أو كليهما، فخذوا به واستمسكوا بعراه، وحافظوا عليه، - ثم هو لا يعمل ولا يستمسك ؟
مثل من كانت هذه حاله كمثل رجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى بحيث لا يضل سالكه، ثم هو يسلك طريقا آخر مظلما طامس الأعلام وكلما لقي في طريقه شخصا نصح له أن لا يمشي معه، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه، أو مثل ساغب يدعو الناس على المائدة الشهية، ويبيت على الجوع والطوى، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم.
إذا كان هذا لا يقع من صحيح العقل فكذالك أمر المؤمن بشعب الإيمان وعدم الائتمار بها، مع تذكرها وتلاوة كلام الله فيها. فلا بد لتعقل هذا من القول بأن الإيمان بالوعد على البر والوعيد على الفجور غير يقيني عند الآمر المخالف. ويؤيده أن القوم كانوا عقلاء في كسب المال وحفظ الجاه الدنيوي وإنما ضلوا من جهة الدين بأخذه على غير وجهه.
الخطاب عام لليهود الذين كان هذا حالهم وعبرة لغيرهم لأنه منبئ عن حال طبيعية للأمم في مثل ذلك الطور الذي كانوا فيه، ولذلك كان القرآن هداية للعالمين إلى يوم الدين، لا حكاية تاريخ يقصد بها هجاء الإسرائيليين، فلتحاسب أمة نفسها في أفرادها ومجموعها لئلا يكون حالها كحال من ورد النص فيهم فيكون حكمها عند الله كحكمهم، لأن الجزاء على أعمال القلوب والجوارح، لا لمحاباة الأشخاص والأقوام أو معاداتهم.
( فإن قيل ) إن من يأمر غيره بالبر وينسى نفسه قد يكون متكلا في ترك العمل على الشفاعات والمكفرات، كالأذكار والصدقات، لا أنه يترك لعدم اليقين في الإيمان، وإذا أمر غيره بالبر مع هذا فذاك لأنه يلاحظ المكفرات في شأن نفسه ولا يلاحظها في شأن غيره.
( نقول ) إن العالم بالدين لا يخفى عليه أن حكم الله تعالى واحد عام، فكيف يحتم البر على غيره ويوهمه أنه لا يقر به من رضوان الله ويبعده من سخطه إلا هو، وينسى نفسه فلا يحتم عليها ذلك ؟ ثم كيف يجهل أن الشفاعات والأعمال الصالحة التي ورد أنها تكفر السيئات لا يصح أن تكون مثبطة عن عمل البر أو سببا لتركه لأنه خلاف المقصود من الدين ؟ فهل يكون فرع من فروع الدين هادما لأصوله وسائر فروعه ؟ كل ذلك كان ينبغي أن يكون بعيدا عن العالم بالدين الذي يتلو كتاب الله تعالى ولكن هذا الضرب من الخذلان يعرض لأرباب الأديان عند فساد حال الأمم، فنبه الله تعالى عليه بهذا التعبير اللطيف وهو نسيان النفس مع تلاوة الكتاب، فكأن الزاعم أنه مؤمن ولا يعمل عمل الإيمان، نسي أنه هو الذي يزعم الإيمان، وصاحب هذا النسيان يمضي في العمل القبيح من غير فكر ولا روية بل انبعاثا مع الحظوظ والشهوات التي حكمها في نفسه، وملكها زمام عقله وحسه، ولكنه لا يلاحظها في غيره عند ما يعرض عليه عمله السيء أو يراه معرضا عن عمل البر ولذلك يعظه ويذمه.
صبرت ولا والله مالي طاقة ***على الصبر، لكني صبرت على الرغم
والصبر الحقيقي المبني على التسليم يحصل بتذكر وعد الله تعالى بالجزاء الحسن للصابرين على أعمال البر التي تشق على النفس وعن الشهوات المحرمة التي تصبو إليها، وبتذكر أن المصائب من فعل الله وتصرفه في خلقه فيجب الخضوع له والتسليم لأمره، ومن عجيب أمر هذا الصبر : انه يقي الإنسان من الخسران متى حسن في كل شيء كما تفيده سورة ( العصر ) ويؤيده الاختبار، وقد اشتهر أن " من صبر ظفر " وربما أتينا على شيء من معنى الصبر وأنه قوة من قوى النفس تدخل النظام في كل عمل من أعمالها – في موضع آخر.
الاستعانة بالصبر تكون بالالتفات إلى الأسباب التي تأفك الناس وتصرفهم عن صراط الشريعة كاتباع الشهوات، والولوع باللذات، والبعد عن المؤلمات، ثم القياس بينها وبين ما رغب الله فيه، أو أوعد بالعقاب على فعله، ثم بملاحظة أن ما أوعد الله تعالى به أولى بأن يتقى، وما وعد به أولى بأن يرجى ويطلب، وضرب الأستاذ لمن يفقدون الصبر فيقعون في الخسران مثلا : صاحب الحاجة يهزه الطيش والتسرع إلى قضاء حاجته ويفقد الصبر على مرارتها فيكذب لاعتقاد أن حاجته تقضى فيدفع المضرة أو يجلب المنفعة بالكذب، وأنه بالصدق يفوته هذا، فيقترف جريمة الكذب لهذا الاعتقاد، وهو ظان بل واهم، ومتى اقترفه مرة هان عليه فيعود إليه فيكون كذابا [ ومتى عرف بذلك ضاعت الثقة به وفسد حاله وأصبح يجد الحاجة إلى الصدق أشد مما كان منها إلى الكذب ] ويؤيد ما قاله الأستاذ الإمام : حديث " لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " رواه الشيخان عن ابن مسعود، وإذا ذكر مثل هذا الرجل أو تذكر من تلقاء نفسه الوعيد على الكذب وما ورد في ذلك من آيات في كتاب الله وآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وما يجلبه لصاحبه من مقت الله وغضبه، يسبق إلى ذهنه المكفرات ( ومثلها الشفاعات وسعة العفو والمغفرة ) كالاستغفار قبل النوم مائة مرة وقول كذا من الذكر بعد صلاة الصبح كذا وكذا مرة فلا يبقى للوعيد معها أثر، إذ يذعن بأن ذنبه يغفر لا محالة، وينسى سبب المغفرة الحقيقي وهو التوبة النصوح والرجوع إلى الله تعالى، وأن العفو عن غير التائب الأواب على الله تعالى مجهول بالنسبة إلى علمنا وإن كان جائزا عقلا، فإننا لم نطلع على ما في علم الله تعالى فنعلم أننا ممن يعفو عنهم.
[ وكيف نترك ما جاء عن الله في كتابه وعلى لسان نبيه من النصوص القاطعة الدالة على أن لعنة الله مسجلة على الكاذبين وهي بعمومها لا تدع لوهم مجالا في نزول سخط الله بالكاذب، ثم نخترع لأنفسنا تعلة نتوكأ عليها في ارتكاب هذه الجريرة ونسندها إلى سعة عفو الله، أو إلى مجمل من القول لا يبينه إلا تلك النصوص القاطعة ؟ إن هذا إلا خبال أو تصوير خيال، أو فقد للإيمان بصحة تلك النصوص القاطعة نعوذ بالله ].
( وأقول ) إنما جعل شيخنا جريمة الكذب مثلا لاستباحة فاسدي الدين للمعاصي لأنه في معناه العام أكبر الكبائر وشر الرذائل حتى أن الكفر والشرك شعبة منه، ولأنه ليس مما تغلب المرء عليه سَوْرَة غضب وثورة شهوة يقترف بالتروي والتعمد، ولأنه مع ذلك عام فاش في جميع طبقات الناس في عصرنا هذا حتى العلماء والوزراء ومن فوقهم. ومن العجائب أننا سمعنا بآذاننا وقرأنا وروينا عن أعداء الإصلاح وأهله من افتراء الكذب على دعاته ما لا تستطيع عقولنا له تأويلا إلا بما كتبه شيخنا في هذه العبارة من الخبال في أنفسهم التي فسدت فطرتها : أو من فقد الإيمان بصحة النصوص إما فقدا تاما عاما وإما فقدا خاصا بالحال التي يفترون فيها الكذب وغيره من الجرائم على حد ما ورد في الحديث المتفق عليه " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " الخ على أحد التأويلات له : ووجه العجب والغرابة في هذا النوع من الكذب : أنه بحسب الظاهر انتصار للدين ودفاع عنه وهو هدم له.
ثم أقول إن مثل من يقترف السيئات معتمدا على العفو والشفاعة كمثل من يرتكب الجرائم في ملأ من الناس وعلى رءوس الأشهاد متعرضا لقبض الشرطة عليه وسوقه إلى المحكمة لتحكم عليه بعقوبة الجريمة اعتمادا على أن الأمير أو السلطان قد يعفو عنه بعد الحكم عليه بالعقوبة ومثل هذا لا يختلف اثنان في حمقه والله تعالى قد بين لنا شرط نفع الأعمال الصالحة في مغفرة الذنوب وهو اقترانها بالتوبة الصحيحة كقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين ﴿ فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ﴾ الآيات وقوله ﴿ ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ) وقوله { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ وأما الشفاعة فحسبك قوله فيها ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ مع الجزم بأنه تعالى لا يرضى بالكذب ولا بغيره من الجرائم. ومن يأذن تعالى بهم بالشفاعة لا يعلمهم غيره عز وجل.
ثم قال الأستاذ الإمام ما معناه : ومن الناس من يكتفي بالاعتذار عن ذنوبه وجرائمه بأنه غير معصوم، وذكر بعض الشواهد عمن يظن أن لهم في الدين قدم صدق، وقال إن من هذا رأيه يتصور أن الصدق واتباع الحق إنما هو شأن طائفة معدودة من البشر وهم الأنبياء عليهم السلام، وكل من عداهم فليس من شأنه أن يثبت على عمل صالح، ويكتفي بهذه التكأة في تسلية نفسه وتجريئها على الجرائم.
وكفى بهذا حمقا، فليس يلزم من كون غير النبي ليس معصوما أن يكون إلف مآثم، وحلف جرائم، وخدن عظائم، ولو لزم أن يكون الناس هكذا لكانت الشرائع عبثا، والتهذيب لغوا، ولفسدت الأرض وخرب العمران.
[ وهل يصح في حكم العقل أن يقال : إن الشرائع والحدود وضروب الوعد والوعيد لم ينعم الله بتشريعها إلا لأجل المعصومين ؟ وهل يحتاج المعصوم إلى وعد أو وعيد ؟ وما فائدتهما بالنسبة إليه، وقد أيقن بتوفيق الله له وأنه لا يأتي أمرا يخالف ما أمر به ولا يقترف شيئا مما نهى عنه ؟ ثم كيف لا يكون لغير المعصومين نصيب في الوعيد ولا الزجر مع أنهم أحق الناس بالردع وأحوجهم إلى التخويف من سوء العاقبة ؟ ].
وأما الاستعانة بالصلاة فهي أقرب إلى حصول المأمول وإرجاع النفس إلى الله تعالى لما لها من التأثير في الروح، لكنها أشق على النفس الأمارة بالسوء.
ولذلك قال تعالى ﴿ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ﴾ أي لثقيلة شديدة الوقع كقوله ﴿ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ﴾ إلا على المخبتين المتطامنة قلوبهم وجوارحهم لله تعالى. فهؤلاء هم الذين يستفيدون بالصلاة الصبر وكل الخلائق الحسنة لما تعطيه الصلاة من مراقبة الله تعالى. كما قال عز وجل ﴿ إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين ﴾ فمن خواص الصلاة الصبر ونفى الجزع، ومن خواصها النهي عن الفحشاء والمنكر. ومن خواصها الجود والسخاء – فالمصلي الحقيقي هو البار الحقيقي الذي لا يترك الحق لأجل شهوة، ولا لما يعرض له في معاملاته مع الخلق من خوف وخشية. هذا أثر صلاة الخاشعين بالإجمال. ولذلك قال تعالى ﴿ قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون ﴾.
تقدم تذكير بني إسرائيل بالنعمة في آية قبل هذه الآية. مقرونا بالأمر بالوفاء بعهد الله، وبالوعد بالجزاء عليه، والأمر بالخشية منه والرهبة له وحده. ( وهي آية ٣٩ ) وتلاها آيات أمرهم فيها بالإيمان بالقرآن ونهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمانه. ثم أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم وبخهم على نسيان أنفسهم من البر مع أمرهم للناس به وتلاوته الكتاب الداعي إليه، ودلهم على الطريق التي لو سلكوها عوفوا من هذا النسيان، تلك الطريق هي الاستعانة بالصبر والصلاة التي فقدوها بفقد روحها وهو الإخلاص والخشوع، وبعد هذا عاد إلى التذكير بالنعمة بنوع من التفصيل، فإن النعمة في الآية الأولى مجملة والإجمال ينبه الفكر إلى الذكر في الجملة، فإذا تلاه التفصيل والبيان كان على استعدادهم تام لكمال الفهم [ فيكون التذكر أتم والتأثر أقوى، والشكر على النعمة أرجى ].
ثم طلب منهم أن يذكروا نعمته عليهم، وتفضيله إياهم على الناس، إحياء لشعور الكرامة في نفوسهم، ووصله بالأمر باتقاء يوم الدين والجزاء. وهذا أسلوب حكيم في الوعظ، فينبغي لكل واعظ أن يبدأ وعظه بإحياء إحساس الشرف وشعور الكرامة في نفوس الموعوظين لتستعد بذلك لقبول الموعظة [ وتجد من ذلك الإحساس معونة من العزيمة الصادقة التي هي من خصائص النفوس الكريمة على عوامل الهوى والشهوة، فإن النفس إذا استشعرت كرامتها وعلوها ونظرت إلى ما في الرذائل من الخسة أبى لها ذلك الشعور – شعور العلو والرفعة – أن تنحط إلى تعاطي تلك الخسائس، وكان ذلك من أقوى الوسائل لمساعدة الواعظ على بلوغ قصده من نفس من يوجه إليه وعظه، ثم إن في الوعظ مسا يؤلم نفس الموعوظ وجرحا يكاد يحملها على النفرة من تلقينه والاستنكاف من سماعه، فذكر الواعظ لما يشعر بكرامة المخاطب ورفعة شأنه، وإباء ما ينمى إليه أن يدوم على مثل ما يقترف يقبل بالنفس على القبول كما يقبل الجريح على من يضمد جراحه ويسكن آلامه ].
ألا وإن هذا الشعور الشرف والرفعة ملازم للإنسان لا يفارقه ولكنه قد يضعف حتى لا يظهر له أثر، وفي تحريك الواعظ له اعتراف ضمني بكرامة وفضل للموعوظ يشفعان له بما يستلزمه الوعظ من مظنة الإهانة فيسهل احتماله ويقرب قبوله.
شعور العزة والكرامة أمر شريف يحييه الإيمان في نفوس المؤمنين الصادقين بل يستلزمه على وجه أكمل لأن صاحب الإيمان الصحيح يرى أن له نسبة على الرب العظيم خالق السموات والأرض، وأنه سنده وممده، وعند ذلك تعلو نفسه وترتفع كما قيل :
قوم يخالجهم زهو بسيدهم *** والعبد يزهو على مقدار مولاه
من كان يشعر لنفسه بقيمة أو يجد لها حقا في أن تعز وتكرم تراه إذا خلا بنفسه وتذكر أنه ألم بنقيصة يتألم ويتململ ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. وإذا تذكر المؤمن أن قلبه الذي تشرف بمعرفة الله تعالى [ وأن شرف تلك المعرفة خلصه من العبودية لغيره وصيره مربوبا لرب العالمين وحدد فهو في ذلك مع أرفع رفيع وأكرم كريم سواء – إذا ذكر ذلك لم يرمن بمثل هذا الاختصاص أن يجاوره ما يدنسه من الاستعباد لما يذله، بل يرى أن ذلك الشعور الطاهر والعرفان الهادي إلى مقامات الكرامة لا ينبغي أن يزاحمه في موطنه من القلب دنس من رجس الرذائل ] فينفر من هذه المزاحمة وتثقل عليه ويسهل عليه التزكي مما ألم به والإنابة إلى الله تعالى ( قال ) لهذا بدأ الله تعالى تذكير بني إسرائيل بما بدأ وثنى بما ثنى، وهو يتضمن من التقريع والتوبيخ ما يشعر بغلظ طباعهم وفساد قلوبهم فإن من لا يتأدب بإحياء إحساس الكرامة، يؤدب بالتأنيب والإهانة
العبد يقرع بالعصا *** والحر تكفيه الإشارة
فقوله تعالى ﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ﴾ مؤكد لمثله في الآية ٣٩ وتمهيد لما عطفه عليه من تفصيل الإجمال في الآية وما بعدها من الآيات، وما اقترن به من بيان كفرهم للنعم، وما تخللها من المواعظ والحجج، وأوله وأعلاه قوله ﴿ وأني فضلتكم على العالمين ﴾ أي أعطيتكم من الفضل – وهو الزيادة فيما يحسن – ما لم أعط غيركم من الشعوب حتى ذات المزايا الدنيوية كالمصريين وسكان البلاد المقدسة.
قال الأستاذ الإمام ما معناه : ناداهم باسم أبيهم الذي هو أصل عزمهم وسؤددهم ومنشأ تفضيلهم، وأسند النعمة إليهم جميعا إليه وحده لأن النعمة عمتهم والتفضيل شملهم، ثم طفق يفصل النعمة التي ذكرها مجملة فيما سبق بذكر أمهات أنواعها فذكر تفضيلهم على العالمين بمحض كرمه وفضله، فإن بني إسرائيل كغيرهم من البشر. والتفضيل هو مناط الأخذ بالفضائل وترك الرذائل، لأن الذي يرى نفسه رذلا خسيسا، لا يبالي ما يفعل. ومن يرى نفسه مفضلا مكرما، فإنه يرتفع عن الدنايا والخسائس التي تدنس شرفه وتذهب بفضله. والحكمة في التذكير بالتفضيل : أن يتذكروا أن الذي فضلهم له أن يفضل غيرهم كمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وتنبيههم إلى عدم الذهول عن أنفسهم ليذكرها عند أمر الناس بالبر، ويعلموا أنهم أولى بأن يبروا ممن يأمرونهم بالبر، لأنهم يتلون الكتاب الداعي إليه وهو آية تفضيلهم. وإلى أنهم أحق باستعمال الفكر في الآيات التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم وأجدر من جميع الشعوب بالإيمان به، فإن المفضل أولى بالسبق إلى الفضائل ممن فضل هو عليه.
ثم إن الفضل على العالمين إن كان بكثرة الأنبياء فيهم فهو ظاهر على عمومه لأنه لا يعرف شعب من الشعوب يزاحمهم في هذه المزية. ولا تقتضي هذه الفضيلة بأن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، ولا تنافي أن يفضلهم أخس الشعوب – بله غيره – إذا هم انحرفوا عن هدى أنبيائهم وتركوا سنتهم واهتدى إليها ذلك الشعب الذي كان فضولا. وإن كان المراد من لتفضيل هو القرب من الله تعالى بمرضاته، فلا بد من تخصيصه بأولئك الأنبياء والمهتدين بهم من أهل زمانهم والتابعين لهم فيه، ومن تقييده بمدة الاستقامة على العمل الذي استحقوا به التفضيل.
تقدم تذكير بني إسرائيل بالنعمة في آية قبل هذه الآية. مقرونا بالأمر بالوفاء بعهد الله، وبالوعد بالجزاء عليه، والأمر بالخشية منه والرهبة له وحده. ( وهي آية ٣٩ ) وتلاها آيات أمرهم فيها بالإيمان بالقرآن ونهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمانه. ثم أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم وبخهم على نسيان أنفسهم من البر مع أمرهم للناس به وتلاوته الكتاب الداعي إليه، ودلهم على الطريق التي لو سلكوها عوفوا من هذا النسيان، تلك الطريق هي الاستعانة بالصبر والصلاة التي فقدوها بفقد روحها وهو الإخلاص والخشوع، وبعد هذا عاد إلى التذكير بالنعمة بنوع من التفصيل، فإن النعمة في الآية الأولى مجملة والإجمال ينبه الفكر إلى الذكر في الجملة، فإذا تلاه التفصيل والبيان كان على استعدادهم تام لكمال الفهم [ فيكون التذكر أتم والتأثر أقوى، والشكر على النعمة أرجى ].
ثم طلب منهم أن يذكروا نعمته عليهم، وتفضيله إياهم على الناس، إحياء لشعور الكرامة في نفوسهم، ووصله بالأمر باتقاء يوم الدين والجزاء. وهذا أسلوب حكيم في الوعظ، فينبغي لكل واعظ أن يبدأ وعظه بإحياء إحساس الشرف وشعور الكرامة في نفوس الموعوظين لتستعد بذلك لقبول الموعظة [ وتجد من ذلك الإحساس معونة من العزيمة الصادقة التي هي من خصائص النفوس الكريمة على عوامل الهوى والشهوة، فإن النفس إذا استشعرت كرامتها وعلوها ونظرت إلى ما في الرذائل من الخسة أبى لها ذلك الشعور – شعور العلو والرفعة – أن تنحط إلى تعاطي تلك الخسائس، وكان ذلك من أقوى الوسائل لمساعدة الواعظ على بلوغ قصده من نفس من يوجه إليه وعظه، ثم إن في الوعظ مسا يؤلم نفس الموعوظ وجرحا يكاد يحملها على النفرة من تلقينه والاستنكاف من سماعه، فذكر الواعظ لما يشعر بكرامة المخاطب ورفعة شأنه، وإباء ما ينمى إليه أن يدوم على مثل ما يقترف يقبل بالنفس على القبول كما يقبل الجريح على من يضمد جراحه ويسكن آلامه ].
ألا وإن هذا الشعور الشرف والرفعة ملازم للإنسان لا يفارقه ولكنه قد يضعف حتى لا يظهر له أثر، وفي تحريك الواعظ له اعتراف ضمني بكرامة وفضل للموعوظ يشفعان له بما يستلزمه الوعظ من مظنة الإهانة فيسهل احتماله ويقرب قبوله.
شعور العزة والكرامة أمر شريف يحييه الإيمان في نفوس المؤمنين الصادقين بل يستلزمه على وجه أكمل لأن صاحب الإيمان الصحيح يرى أن له نسبة على الرب العظيم خالق السموات والأرض، وأنه سنده وممده، وعند ذلك تعلو نفسه وترتفع كما قيل :
قوم يخالجهم زهو بسيدهم *** والعبد يزهو على مقدار مولاه
من كان يشعر لنفسه بقيمة أو يجد لها حقا في أن تعز وتكرم تراه إذا خلا بنفسه وتذكر أنه ألم بنقيصة يتألم ويتململ ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. وإذا تذكر المؤمن أن قلبه الذي تشرف بمعرفة الله تعالى [ وأن شرف تلك المعرفة خلصه من العبودية لغيره وصيره مربوبا لرب العالمين وحدد فهو في ذلك مع أرفع رفيع وأكرم كريم سواء – إذا ذكر ذلك لم يرمن بمثل هذا الاختصاص أن يجاوره ما يدنسه من الاستعباد لما يذله، بل يرى أن ذلك الشعور الطاهر والعرفان الهادي إلى مقامات الكرامة لا ينبغي أن يزاحمه في موطنه من القلب دنس من رجس الرذائل ] فينفر من هذه المزاحمة وتثقل عليه ويسهل عليه التزكي مما ألم به والإنابة إلى الله تعالى ( قال ) لهذا بدأ الله تعالى تذكير بني إسرائيل بما بدأ وثنى بما ثنى، وهو يتضمن من التقريع والتوبيخ ما يشعر بغلظ طباعهم وفساد قلوبهم فإن من لا يتأدب بإحياء إحساس الكرامة، يؤدب بالتأنيب والإهانة
العبد يقرع بالعصا *** والحر تكفيه الإشارة
ثم قال تعالى ﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ﴾ أي واحذروا يوما عظيما أمامكم سيقع فيه من الحساب والجزاء ما لا منجاة من هوله إلا بتقوى الله في جميع الأحوال، ومراقبته جميع الأعمال، فهو يوم لا تقضي فيه نفس، مهما يكن قدرها عظيما عن نفس مهما يكن ذنبها صغيرا – شيئا ما، كحمل وزرها، أو تكفير ذنبها ﴿ ٣٥ : ١٨ ولا تزر وزارة وزر أخرى، وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ﴾ وصف اليوم بهذا الوصف ولم يقل يوم القيامة مثلا للإشعار بأن التصرف في ذلك اليوم والأمر كله لله، فليس فيه ما اعتاد الناس في هذه الدنيا من دفاع بعضهم عن بعض. وعبر عن هذا المعنى في أول سورة بقوله ﴿ مالك يوم الدين ﴾ ثم وصفه هنا بوصف آخر يناسب الأول فقال ﴿ ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ﴾ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ولا تقبل ) بالتاء، والمعنى لا يقبل منها أن تأتي بشفيع يشفع لها ولا يؤخذ منها فداء أو بدل إن هي استطاعت أن تأتي بذلك كما يظن أكثر الكفار، ولن تستطيع. قال البيضاوي : وكأنه أريد بالآية نفي أن يدفع أحد من أحد العذاب من كل وجه محتمل، وفصل هذه الوجوه بما يشمل الثلاث المنفية، وجملة المعنى : أنه يوم لا تأثير لأحد فيه ولا كسب، ولا ينطق فيه أحد إلا بإذن الله تعالى. وقال ( الجلال ) أي ليس لها شفاعة فتقبل، واستدل بقوله تعالى حكاية عن المجرمين في الآخرة ﴿ ٢٦ : ١٠٠ فما لنا من شافعين ﴾ الآية وفسر العدل بالفداء قال ﴿ ولا هم ينصرون ﴾ أي يمنعون من عذاب الله. قال الأستاذ الإمام : ولا دليل في هذا على أن المراد ما ذكره في مسألة الشفاعة وإنما السياق في الآية وأمثالها يدل على أن المراد بيان أن ذلك اليوم يوم تنقطع فيه الأسباب، وتبطل منفعة الأنساب، وتتحول فيه سنة هذه الحياة من انطلاق الإنسان في اختياره يدفع عن نفسه بالعدل والفداء، ويستعين على المدافعة بالشفاعة عند السلاطين والأمراء، وقد يوجد له فيها أنصار ينصرونه بالحق وبالباطل على سواء. بل يكون له في ذلك اليوم شأن آخر مع ربه تضمحل فيه جميع الوسائل إلا ما كان من إخلاصه في علمه، قبل حلول أجله ورحمة الله العلي الكبير له، بضعف حوله، وضيق طوله، وأنه يوم لا يتحرك فيه عضو إلا بإذن الله، ولا يقدر أحد أن ينبس بكلمة إلا بإذن الله ﴿ ٨٢ : ١٩ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾.
كان اليهود المخاطبون ببيان هذه الحقيقة كغيرهم من أمم الجاهلية وأهل الملل الوثنية كقدماء المصريين واليونان يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا فيتوهمون أنه يمكن تخلص المجرمون من العقاب بفداء يدفع بدلا وجزاء عنه – كما يستبدل بعض حكامهم منفعة مالية بعقوبة بدنية – أو بشفاعة من بعض المقربين إلى الحاكم يغير بها رأيه ويفسخ إرادته. ولقد اكتسح الإسلام هذه العقائد وآثارها العملية بالتوحيد الخالص، وأتى بنيانها من القواعد، ولكن المسلمين لم يسلموا منها فقد دخل في الإسلام أقوام يحملون أوزارا مما كانوا عليه من الوثنية، ولم يلقنوا الدين من القرآن ولا كما أرشد القرآن، ولكنهم تقلدوه ممن لا يعرفه حق المعرفة، ولقنوه كما ترشد إليه كتب التقليد من مصطلحات مبتدعة، فكانوا على بقية مما كان عندهم وعلى جهل بالإسلام، وجاء قوم آخرون تعمدوا الإفساد فجعلوا بالتأويل الباطل حقا، والكذب صدقا.
وذكر الأستاذ الإمام هنا بعض العادات المصرية التي لا تزال يعمل بها باسم الدين وهي من إرث قدماء الوثنيين، كإعطائهم لغاسل الميت شيئا من النقد يسمونه " أجرة المعدية " أي أجرة نقله إلى الجنة. وغير ذلك مما يعملونه للأموات، ولمن يعتقدون فيهم الولاية والقرب من الله، ومثله أكثر تقاليدهم في بناء المقابر واحتفالاتها.
ثم ذكر المكفرات التي يعتقدها اليهود كقربان الإثم وقربان الخطيئة وقربان السلامة والمحرقة والاكتفاء ممن لم يجد القربان بحمامتين يكفر بهما عن ذنبه. وقال : وكانوا يفهمون أن هذه الأشياء تكفر الذنوب بذاتها. والحق أنها عقوبات لا مكفرات فإن من فهم التوراة حق فهمها يعلم أن المكفر الحقيقي هو التوبة والإقلاع عن الذنب ثم تقديم القربان يكون تربية وعقوبة. وقد أخبرهم الله تعالى في هذه الآية بأن يوم القيامة لا يقبل فيه عدل يفتدى الإنسان به. قال : وكانوا يعتقدون أنهم بانتسابهم للأنبياء لا يدخلون النار أو لا تمسهم إلا أياما معدودة، لأن لهم الجاه والتأثير يوم القيامة، ولا يرضون أن يتركوا أبناءهم في العذاب، ثم زادوا على ذلك شفاعة الأحبار لمن ينتسب إليهم. ومتى ضعف الدين يوجد من رؤسائه من يروج هذه العقائد في العامة لما تسوق إليهم من المنافع. وكذلك كان اليهود حتى جاء الإسلام بهذه الآية وأمثالها فمحا هذه العقيدة ليعلم المؤمنون به أنه لا ينفع الإنسان يوم القيامة إلا مرضاة الله تعالى بالإيمان الخالص والعمل الصالح.
في القرآن آيات ناطقة بنفي الشفاعة مطلقا، كقوله تعالى في وصف يوم القيامة ﴿ لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ﴾ وأخرى ناطقة بنفي الشفاعة، كقوله عز وجل ﴿ ٧٤ : ٤٨ فما تنفعهم شفاعة الشافعين ﴾ وآيات تفيد النفي بمثل قوله ﴿ ٢ : ٢٥٥ إلا بإذنه ﴾ وقوله ﴿ ٢١ : ٢٨ إلا لمن ارتضى ﴾ فمن الناس من يحكم الثاني بالأول ومنهم من يرى أنه لا منافاة بينهما فنحتاج إلى حمل أحدهما على الآخر لأن مثل هذا الاستثناء ( أي الاستثناء بالإذن والمشيئة ) معهود في أسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للإشعار بأن ذلك بإذنه ومشيئته عز وجل، كقوله تعالى ﴿ ٨٨ : ٦، ٧ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ﴾ وقوله ﴿ ١١ : ١٠٧ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك ﴾ فليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها ؟
الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك كان أراد غيره – حكم به أم لا – فلا يحمل تتحقق الشفاعة إلا بترك الإرادة وفسخها لأجل الشفيع. فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن كان أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أن المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به. وأما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء، وهو عالم بأنه ظلم وأن العدل في خلافه، ولكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب منه على العدالة. وكل من النوعين محال على الله تعالى، لأن إرادته تعالى على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير.
( قال شيخنا ) فما ورد في إثبات الشفاعة يكون على هذا من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم، وأنها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة عبر عنها بهذه العبارة " الشفاعة " ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي.
وأما مذهب الخلف في التأويل لنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنها دعاء يستجيبه الله تعالى١ والأحاديث الواردة في الشفعة تدل على هذا ففي رواية الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم يسجد يوم القيامة ويثني على الله تعالى بثناء يلهمه يومئذ فيقال له " ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع " وليس في الشفاعة بهذا المعنى أن الله سبحانه يرجع عن إرادة كان أرادها لأجل الشافع وإثما هي إظهار كرامة الشافع بتنفيذ الإرادة الأزلية عقيب دعائه، وليس فيها أيضا ما يقوي غرور المغرورين الذين يتهاونون بأوامر الدين ونواهيه اعتمادا على شفاعة الشافعين، بل فيه أن الأمر كله لله، وأنه لا ينفع أحدا في الآخرة إلا طاعته ورضاه ﴿ فما تنفعهم شفاعة الشافعين * فما لهم عن التذكرة معرضين ؟ ﴾ ﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾
هذه الآية كالتي قبلها واللواتي بعدها تفصيل لنعمة الله على شعب إسرائيل التي ذكرت من قبل مجملة ؛ وابتداء التفصيل بذكر التفضيل لما تقدم من الحكمة في ذكره، وهو نهض الهمة إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة والترفع عن الرضا بما دون المقام الذي رفعهم الله إليه، وتوطين النفس لقبول الموعظة الخ ما تقدم. ثم ذكرهم ما حل بهم من البلاء والعقوبات جزاء على جرائمهم، وبلطف الله تعالى بهم إنجائهم من البلاء وتوبته عليهم المرة بعد المرة ليعرفهم مقدار فضله وعقوبته معا.
والآية معطوفة على ما قبلها من سلسلة الذكريات فقوله ﴿ وإذ نجيناكم من فرعون ﴾ عطف تفضيل على الإجمال في قوله ﴿ اذكروا نعمتي ﴾ أي نعمي كثيرة، لأن المفرد المضاف يفيد العموم، أي واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون وفرعون لقب لمن تولى ملك مصر قبل البطالسة، وآله خاصته وقد يطلق على قومه قدماء المصريين. ولما كانت التنجية لا تكون إلا من ظلم أو شر بين ما نجاهم منه بقوله ﴿ يسومونكم سوء العذاب ﴾ أي يكلفونكم ويبغونكم ما يسوءكم ويذلكم من العذاب، ثم بين ذلك بقوله ﴿ يذبحون أبناءكم ويستحيون نسائكم ﴾ أي يقتلون ذكران نسلكم ويستبقون إناثه أحياء لإضعافكم وإذلالكم المفضي إلى قطع نسلكم وإبادتكم ﴿ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾ أي وفي ذلكم العذاب وفي التنجية منه – في كل منهما – بلاء وامتحان عظيم لكم من ربكم، كما قال في آية أخرى ﴿ ٧ : ١٦٨ وبلوناهم الحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾.
( قال الأستاذ الإمام ) في هذه الآية بعد قراءة عبارة الجلال ما مثاله : خاطب الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما كان لآبائهم. لأن الإنعام على أمة بعنوان أنها أمة كذا، هو إنعام شامل للأمة من أصابه ذلك الإنعام من أفرادها ومن لم يصبه. ويصح الامتنان به على اللاحقين منهم والسابقين كما يصح الفخر به منهم أجمعين، كما أن الإنعام على شخص بشيء يختص بعضو من أعضائه كلبوس يلبسه أو لذيذ طعامه يطعمه يكون إنعاما على الشخص، ولا يقال، إنه إنعام على لسان فلان ولا على رأسه، أو يده أو رجله ؛ ولأن ما وصل إلى مجتمع بعنوان ذلك الاجتماع والرابطة التي ربطت أفراده بعضهم ببعض يكون له أثر في مجموع الأفراد، لا سيما إذا كان الواصل من نقمه أو نعمه مسببا عن عمل الأمة. شرا أو خيرا، ولا يكون لذلك أثر في الأمة يورثه السلف الخلف ما بقيت الأمة. وأنواع البلاء التي ذكر بها اليهود في القرآن كانت لشعب إسرائيل من حيث هو شعب إسرائيل لأن الجرائم التي كان البلاء عقوبة عليها إنما كانت من مجموع الشعب. من حيث هو شعب إسرائيل، ثم إن الله تعالى كان يتوب على الشعب بعد كل بلاء ويفيض عليه النعم. فتكون العقوبة تربية وتعليما تفيد المعتبرين بها نعمة وسعادة.
لا أقول إن هذا الخطاب إيماء أو إشارة للمخاطبين بأن يستحضروا تاريخ أمتهم الماضي يتذكروا صنع الله تعالى فيهم فيعتبروا بما أصابهم من نعماء وضراء. وسعادة البقاء، ويتفكروا فيما حل بهم من بعدهم، وما ينتظر أن يحل بهم، وإنما الكلام نص صريح لا يحتاج إلى التأويل. فالروابط الاجتماعية بين أفراد الأمم وجماعاتها كالروابط الحيوية بين أعضاء الشخص الواحد بلا فرق. تعثر الرجل فتخدش أو توثأ، والألم يلم بالشخص كله من حيث هو شخص حي بحياة واحدة تستوي فيها رجله وسائر أعضائه. ولذلك يسعى بجملته لإزالة ألم الرجل ويتوقى أسباب العثار بعد ذلك مستعينا بكل أعضائه وقواه.
علمنا الله تعالى هذا بما قص علينا من أخبار الأمم. وأنعم على أمتنا – التي لا تختص بشعب ولا جنس – بهذا القرآن الكريم فكان لهم به نعم لا تحصى تعرف من الكتاب والسنة. منها أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا ومنها أنهم كانوا مستضعفين فمكن لهم في الأرض وأورثهم أرض الشعوب القوية وديارهم وجعل لهم السلطان عليهم، ومنها أنهم جعلهم أمة وسطا لا تفريط عندها ولا إفراط، ليكونوا شهداء على الناس الذين غلوا وأفرطوا، والذين قصروا وفرطوا. ثم لما كفرت بأنعم الله أنزل بها ألوانا من البلاء والنقم بعنوان الأمة. فإن التتار إنما نكلوا بها و تبروا ما علوا تتبيرا لأنها الأمة الإسلامية، ثم زحف عليها الغربيون أيام حروب الصليب وجاسوا خلال الديار، لأنها الأمة الإسلامية، ثم إن الفتن لا تزال تحل بديارها، وتنقصها من أطرافها، وسوط عذاب الله يصب عليها بعنوان الأمة الإسلامية، وقد مرت عليها قرون وهي لا تعتبر بما مضى، ولا تتربى بما حضر، بل جهلت الماضي فحارت في الماضي، لا تعرف سببه ولا مخرج منه.
أليس من العجيب أن الجمهور الأعظم من المشتغلين بالعلم منها هم أجهلها بتاريخها ؛ لا يعرفون شيئا من ماضيها ولا حاضرها ؟ ولكنهم يعترفون بأن الأمة في بلاء كبير، ويعتذرون بالقضاء والقدر عن معرفة الأسباب، ويكلون إلى القضاء والقدر النجاة منه أو البقاء فيه.
إن هذه الأمة أمة واحدة وإن اختلفت ديارها وتعددت أجناسها، ولا يمكن أن تعرف حقيتها إلا بعد معرفة تاريخها الماضي، فلا بد من تتبع السواقي والجداول إلى الينبوع الأول الذي هو الأصل.
كان سلفنا رضي الله تعالى عنهم يضبطون أحوال من قبلهم من أمور الدين والدنيا بكل اعتناء ودقة، حتى كانوا يروون البيت من الشعر أو النكتة بين العاشق ومعشوقته بالأسانيد المتصلة، وليست هذه المبالغة مما يؤخذ عليهم فإن الأمة إنما تكون أمة بدينها ولغتها وأخلاقها وعاداتها، فإذا لم يحفظ خلفها عن سلفها هذه المقومات١ بحفظ تاريخها تكون عرضة للتغير بتأثير حوادث الزمان وتقلبات شئون الاجتماع مع جهل المتأخر بما كان عليه المتقدم وبكيفية حدوث التغيير الضار للجهل بالتاريخ. بهذا تفعل فواعل الكون بالأمة الجاهلة أفاعيلها حتى تقلب كيانها، وتقوض بنيانها، وتقطع عرى الربط العامة بين أفرادها، فلا يكون لهم عمل إلا للمصلحة الشخصية، وهي لا حفاظ لها في مجموع الأمة إلا بالمصلحة العامة، فإذا أهملت تكون الأمة من الهالكين.
عنيت أمتنا بالتاريخ عناية لم تسبقها به أمة فلم تكتف بضبط الوقائع وتلقيها بالرواية كالسنة النبوية ؛ بل تفننت فيها فصنفت في تاريخ الأشخاص كما صنفت في تاريخ البلاد والشعوب، ثم نوعت تاريخ الأشخاص فجعلت لكل طبقة تاريخا فترى في المكاتب طبقات المفسرين وطبقات المحدثين وطبقات النحويين وطبقات الأطباء وطبقات الشعراء إلى غير ذلك. ثم اهتدى بعضهم إلى استنباط قواعد العمران وأصول الاجتماع من التاريخ فصنف ابن خلدون في ذلك مقدمة تاريخه. ولو لم تنقطع بنا سلسلة العلم من ذلك العهد لكنا أتممنا ما بدأ به سلفنا ولكننا تركناه وسبقنا غيرنا إلى إتمامه واستثماره. فالتاريخ هو المرشد الأكبر للأمم العزيزة اليوم إلى ما هي فيه من سعة العمران. وعزة السلطان ؛ وكان القرآن هو المرشد الأول للمسلمين إلى العناية بالتاريخ ومعرفة سنن الله في الأمم منه، وكان الاعتقاد بوجوب حفظ السنة وسيرة السلف هو المرشد الثاني إلى ذلك. فلما صار الدين يؤخذ من غير الكتاب والسنة أهمل التاريخ بل صار ممقوتا عند أكثر المشتغلين بعلم الدين، فإن وجد من يلتفت إليه فإنما يكون متبعا في ذلك سنة قوم آخرين، نكتفي الآن بهذا التنبيه ونعود إلى إتمام تفسير الآية التي صرفنا إليه بمخاطبة بني إسرائيل في زمن تنزيل القرآن بما كان من تعذيب آل فرعون لسلفهم وإنعام الله عليهم بالإنجاء من ذلك العذاب.
أول من دخل مصر من بني إسرائيل هو يوسف عليه السلام وانضم إليه بعد ذلك إخوته ونما نسله فيها وكثر، حتى قيل : إنهم كانوا يوم خرجوا من مصر ستمائة ألف وهذا النمو كان في مدة أربعمائة سنة. وكان المصريون من آل فرعون لا يحبون مساكنة الغرباء٢ فلما رأى فرعون نمو شعب إسرائيل خاف مغبة الأمر، لأنه كان يعلم أنهم إذا كثروا يتبسطون في الأرض ويزاحمون المصريين فطفق يستذلهم ويكلفهم الأعمال الشاقة، كصنع الطوب لبناء الهياكل والبرابي لعلمه بأن الذل يقلل النسل ويفضي بالأمة إلى الانقراض، ولكنهم ظلوا مع الاستذلال يتناسلون ويكثرون. فلما رآهم الحكام المصريون يزدادون نسلا، وأنهم مع هذا محافظون على عاداتهم وتقاليدهم ولا يمازجون المصريين وعندهم الأثرة والإباء لاعتقادهم أنهم شعب الله وأفضل خلقه، خافوا أن يقووا بالكثرة فيعدوا عليهم ويغلبون على بلادهم كلها أو بعضها، وإنما كانوا يزدادون على الذل نسلا لأن الذل لا يؤثر إلا في الزمن الطويل، ذلك بأن الذليل الذي لا تطلق إرادته في أعماله هو بمنزلة الشخص الذي يضعف عن تناول الغذاء الذي يمد حياته فهو يذبل رويدا رويدا حتى ينحل ويموت. والقوة المعنوية التي تحفظ حياة الأمم هي قوة الأرواح والإرادات، لأن الجسم محمول بالروح. والعمل النافع إنما يكون بالإرادة فمتى خذلت النفوس بالتسلط على إرادتها تبعها الجسم فيضعفها. والضعيف يأتي بنتاج ضعيف ويكون نسل نتاجه أضعف من نسله، ويتسلسل هكذا حتى يكون من لوازم ضعف النسل إسراع الموت إلى صغاره قبل بلوغ سن الرشد. وبهذا ينقرض النسل، كما حصل لهنود أمريكا وسكان شمالي أوستراليا.
استبطأ المصريون أثر الاستذلال في الإسرائيليين فعملوا على انقراضهم بقتل ذكرانهم واستحياء إناثهم فأمر فرعون القوابل بأن يقتلن كل ذكر لبني إسرائيل عند ولادته ؛ لأن من سنة الله في الخلق أن قوام الشعوب والقبائل وحفظ الأجناس إنما يكون بالذكور. وقال مفسرنا ( الجلال ) تبعا لغيره إن سبب العذاب وتقتيل الأبناء دون البنات هو أن بعض الكهنة أخبر فرعون بأن سيولد من بني إسرائيل ولد ينزع منه ملكه ويكون على يديه هلكه ( قال الأستاذ الإمام ) وليس لهذا القول سند صحيح ولا يعرف في التاريخ، وما قلناه هو الذي يعرفه بنو إسرائيل ويتناقلونه في كتبهم المعروفة بالمقدسة وغير المقدسة وهو المعقول في نفسه أيضا.
٢ يوجد في المصريين الآن من يكتب ويخطب لإحياء سنة آل فرعون ببغض المهاجرين إلى مصر ويبغض فيهم وإن كانوا على لغته ومن أتباع حكومته العثمانية، وكذا من أهل الدين الذي ينتمي إليه. ويوجد شرذمة من المصريين تلغط بلفظ المصريين والدخلاء، انخداعا بالدعوة إلى السنة الفرعونية التي تبطل إذا نجحت "ولن تنجح" سنة القرآن الذي أرشد إلى أن الله جعل الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتمازجوا، وجعل أكرمهم أتقاهم وأنفعهم لعباده، و قد اهتدى فلاسفة أوروبا إلى أن هذه السنة غاية كمال البشر ا هـ من حاشية المنار سنة ١٣٢٠ وأقول الآن عند طبع هذا مستقلا في أوائل سنة ١٣٤٦: إن تلك النزعة قد قويت ووجد من القبط وزنادقة المسلمين من يجعلون الجنسية المصرية فوق الإسلام ومنهم من يدعون إلى التفصي من الدين والجنسية العربية وإلى استبدال التفرنج بهما كما فعل الكماليون في الترك..
جاء في الآية السابقة ذكر تنجية بني إسرائيل من آل فرعون، وهو على كونه تفصيلا لما قبله من حيث التذكير بالنعم، مجمل من حيث الإنجاء، فإنه يشمل النجاة بجميع أنواعها من ذلك العذاب. وذكر في هذه الآية نعمته في طريق الإنجاء بالتفصيل بعد الإجمال لبيان عناية الله تعالى بهم فيها، إذ جعل وسيلته من خوارق العادات ؛ وجعل في طريقه هلاك عدوهم. وقد يقال : إن هذه نعمة مستقلة من نعمه تعالى عليهم، لا أنها بيان الإجمال في التي قبلها.
لما أرسل الله تعالى موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه يدعوهم إلى توحيد الله وإلى أن يخلى بينه وبين شعب إسرائيل بعد إطلاقهم من ذلك الاستبعاد والتعذيب لم يزدهم فرعون إلا تعذيبا وتعذيبا. وفي سفر الخروج من تاريخ التوراة أن الله تعالى أنبأ موسى بأنه يقسي قلب فرعون فلا يخفف العذاب عن بني إسرائيل ولا يرسلهم مع موسى حتى يريه آياته. وأنه بعد الدعوة زاد ظلما وعتوا فأمر الذين كانوا يسخرون بني إسرائيل في الأعمال الشاقة بأن يزيدوا في القسوة عليهم وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ( الطوب ) ويكلفوهم أن يجمعوا التبن ويعملوا كل ما كانوا يعملونه من اللبن لا يخفف عنهم منه شيء. فأعطى الله تعالى موسى وأخاه هارون الآيات البيات، فحاول فرعون معارضتها بسحر السحرة فلما آمن السحرة برب العالمين رب موسى وهارون لعلمهم أن ما جاء به ليس من السحر وإنما هو تأييد من الله تعالى ورأى ما رأى بعد ذلك من آيات الله لموسى سمح بخروج بني إسرائيل بل طردهم طردا، وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب وكانت إقامتهم في مصر ٤٣٠ سنة. ثم أتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأنجى الله بني إسرائيل وأغرق فرعون ومن معه، وذلك قوله عز وجل :
﴿ وإذ فرقنا بكم البحر ﴾ أي واذكروا من نعمنا عليكم إذ فرقنا بكم البحر فجعلنا لكم فيه طريقا يبسا سلكتموه في هربكم من فرعون ﴿ فأنجيناكم ﴾ بعبوره من جانب إلى آخر ﴿ وأغرقنا آل فرعون ﴾ إذ عبروا وراءكم ﴿ وأنتم تنظرون ﴾ ذلك بأعينكم، ولولاه لعظم عليكم خبر غرقهم ولم تصدقوه.
( قال الأستاذ الإمام ) فلق البحر كان من معجزات موسى. وقد قلنا في رسالة التوحيد : إن الخوارق الجائزة عقلا أي التي ليس فيها اجتماع النقيضين ولا ارتفاعها لا مانع من وقوعها بقدرة الله تعالى على يد نبي من الأنبياء، ويجب أن نؤمن بها على ظاهرها، ولا يمنعنا هذا الإيمان من الاهتداء بسنن الله تعالى في الخلق واعتقاد أنها لا تتبدل ولا تتحول، كما قال الله في كتابه الذي ختم به الوحي، على لسان نبيه الذي ختم به النبيين، فانتهى بذلك زمن المعجزات، ودخل الإنسان بدين الإسلام في سن الرشد، فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الاعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال، كما كان في سن الطفولية ( النوعية ) بل أرشده تعالى بالوحي الأخير ( القرآن ) إلى استعمال عقله في تحصيل الإيمان بالله وبالوحي، ثم جعل له كل إرشادات الوحي مبينة معللة مدللة حتى في مقام في الأدب ( كما أوضحنا ذلك في رسالة التوحيد ) فإيماننا بما أيد الله تعالى به الأنبياء من الآيات لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتق عقولهم إلى فهم البرهان، لا ينافي كون ديننا هو دين العقل والفطرة وكونه حتم علينا الإيمان بما يشهد له العيان، من أن سننه تعالى في الخلق لا تبديل لها ولا تحويل.
( أقول ) وجملة القول أن الذي يمنعه العقل هو وقوع المحال، فلا يمكن أن يؤيد نبي بما هو مستحيل عقلا، لأن المستحيل هو الذي لا يمكن وقوعه وما وقع لا يكون مستحيلا. ولذلك سمى المتكلمون المعجزات " خوارق العادات " ومنهم من يقول : إن لها أسبابا خفية روحية لم يطلع الله الأمم عليها ولكنه خص بها الأنبياء عليهم السلام والمشهور : أن الله يخلقها بغير سبب لتدل على أن السنن والنواميس لا تحكم على واضعها ومدبرها، وإنما هو الحاكم المتصرف بها، وإنما كان هذا هو المشهور لأنه الظاهر، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن ينفي ذلك النفي المطلق عن عالم الغيب ؟ وقد ذكر القولين الإمام الغزالي وأشار إليهما الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد.
( قال ) وزعم الذين لا يحبون المعجزات من المتهورين أن عبور بني إسرائيل البحر كان في إبان الجزر، فإن في البحر الأحمر رقاق إذا كان الجزر الذي عهد هناك شديدا يتيسر للإنسان أن يعبر ماشيا ولما اتبعهم فرعون بجنوده ورآهم قد عبروا البحر تأثرهم وكان المد تفيض ثوائبه ( وهي المياه التي تجئ عقيب الجزر ) فلما نجا بنو إسرائيل كان المد قد طغى وعلا حتى أغرق المصريين، تحقق إنعام الله على بني إسرائيل يتم بهذا التوفيق لهم والخذلان لعدوهم ولا ينافي الامتنان به عليهم كونه ليس آية لموسى عليه السلام، فإن نعم الله بغير طريق المعجزات أعم وأكثر – كذا قالوا، قال شيخنا : ولكن يدل على كونه آية له وصف كل فرق منه بالطود العظيم. وإذا تيسر تأويل كل آيات القصة من القرآن فإنه يتعسر تأويل قوله تعالى في سورة الشعراء ﴿ فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ وهو الموافق لما في التوراة. ا ه.
ويقول المؤولون إنهم لما عبروا انفرق بهم وكانوا لاستعجالهم واتصال بعضهم ببعض قد جعلوا ذلك الماء الرقاق فريقين عظيمين ممتدين كالطودين وأن هذه الآية تشعر بذلك، فإنه يقول ﴿ وإذ فرقنا بكم البحر ﴾ ولم يقل : فرقنا لكم البحر : والظاهر أن الباء هنا للآلة، كما تقول قطعت بالسكين : وأما قوله تعالى ﴿ ٢٦ : ٦٣ وأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ﴾ فإنه لا ينافي أن الانفلاق كان بهم كما في آية البقرة لا بالعصا، وذلك أن الذي أوحاه الله تعالى إلى موسى هو أن يخوض البحر ببني إسرائيل وقد عهد أن من كان بيده عصا إذا أراد الخوض في ماء كترعة أو نهر فإنه يضرب الماء أولا بعصاه ثم يمشي، فهذه الآية معبرة عن هذا المعنى أي ألهمه الله عند ما وصل إلى البحر أن يضرب به بعصاه ويمشي ففعل ومشى وراءه بنو إسرائيل بجمعهم الكبير، فانفلق بهم البحر. وأما قوله تعالى ﴿ فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ فهو تشبيه معهود مثله في مقام البالغة، كقوله تعالى ﴿ ١١ : ٤٢ وهي تجري بهم في موج كالجبال ﴾ وقوله ﴿ ٤٢ : ٣٢ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ﴾ فالأمواج والسفن الجواري لا تكون كالجبال الشاهقة، والأعلام الباسقة، وإنما تقضي البلاغة بمثل هذا التعبير، لكمال التصوير وإرادة التأثير.
هذا ما ينتهي إليه تأويل المؤولين ولم يبسطه الأستاذ الإمام في الدرس، وإنما قرر أن فرق البحر كان معجزة لموسى عليه السلام، وحكى عن المتهورين من الذين لا يحبون المعجزات خلافه، وهو أنهم يزعمون أن عبور البحر كان في وقت الجزر وإنما بسطنا تأولهم لئلا يتوهموا أننا لم نقل به لأننا لن نهتد لتوجيهه مثلهم، ولا يهمنا أن ننازعهم في تأويل آية بخصوصها إذا علمنا أنهم يثبتون الآيات الكونية تأييدا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإذا كانوا ينفونها كلها فالأولى لهم أن لا يتعبوا في تأويل جزئياتها، فإن منها ما لا يقبل التأويل بحال من الأحوال، وحينئذ يكون الكلام بيننا وبينهم لإثباتها أولا في قدرة الله وإرادته، ثم في إثبات أصل الوحي وإرسال الرسل. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ولنا أن نقول هنا إن الباء في قوله " بكم " سببية أو للملابسة لا للآلة، وقد أشار البيضاوي على ذلك كله بقوله : فلقناه وفصلناه بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك لسلوككم فيه أو بسبب إنجائكم أو متلبسا بكم. وأزيد الآن : أنني رأيت بعد كتابة ما تقدم ببضع سنين جزءا من تفسير الأصبهاني في خزانة كتب كوبريلي باشا في الآستانة فراجعت تفسير هذه الآية فيه فألفيته يذكر في الباء الوجهين، أي إن فرق البحر حصل بهم، أي بنفس عبورهم أو بسببهم. ومثله قول البغوي : قيل معناه فرقناه لكم، وقيل : فرقنا البحر بدخولهم إياه.
في هذه الآيات ضرب من ضروب التذكير غير ما سبقه، ومن البلاغة والحكمة أن يجيء تاليا له ومتأخرا عنه : مهد أولا للتذكير تمهيدا يسترعي السمع، ويوجه الفكر ويستميل القلب، وهو الابتداء بذكر النعمة مجملة والتفضيل على العالمين ولا يرتاح الإنسان لحديث كحديث مناقب قومه ومفاخرهم – ثم طفق يفصل النعمة ويشرحها ؛ فبدأ بذكر فرد من أفرادها لا يقترن به ذكر سيئة من سيئاتهم وهو تنجيتهم من ظلم آل فرعون، ولكن ذكر معه أكبر ضروب ذلك الظلم وهو قتل الأبناء- : يخفض من عتو تلك النفوس المعجبة المتكبرة التي تعتقد أن الله لا يسود عليهم شعبا آخر، وهو مع هذا لا يفر بها عن الإصغاء والتدبر، لأنه لم يفاجئها بشيء فيه نسبة التقصير وعمل السوء إليها. ثم ثنى بذكر نعمة خاصة خالصة تسكن النفس إلى ذكرها، إذ لا يشوب الفخر بهما تنغيص من تذكر غضاضة تتصل بواقعتها، وهي فرق البحر بهم، وإنجاؤهم، وإغراق عدوهم.
لا جرم أن نفوس الإسرائيليين كانت تهتز وتأخذها الأريحية عندما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية لما فيها من الشهادة بعناية الله تعالى بهم، ولا سيما إذا قارنوا بين هذا التذكير وبين تذكير مشركي العرب بتلك القوارع الشديدة، لم يتركها بعد هذه الهزة تجمح في عجبها وفخرها، وتتمادى في إبائها وزهوها، بل عقب عليها فذكر بعد هذه النعمة سيئة لهم هي كبرى السيئات التي ظلموا بها أنفسهم وكفروا نعمة ربهم وهي اتخاذ العجل إلها، وقدم على ذكرها خبر مواعدة موسى وهي من النعم، وختمها بذكر العفو، ثم قفى عليها بذكر نعمة إيتائهم الكتاب والفرقان وهذا ما يجعل أنفس السامعين الواعين قلقة يتنازعها شعورا اعتراف المذكر الواعظ لها بالشرف، وشعور رميه إياها بالظلم والسرف.
بعد هذا كله استعدت تلك النفوس لأن تسمع آيات مبدوءة بذكر سيئاتها من غير تمهيد ولا توطئة، فانتقل الكلام إلى هذا الضرب من التذكير مبدوء بقوله تعالى ﴿ وإذ قال موسى لقومه ﴾ أي واذكر أيها الرسول فيما تلقيه على بني إسرائيل وغيرهم إذ قال موسى لقومه الذين اتخذوا من حليهم عجلا عبدوه إذ كان يناجي ربه في الميقاتين الزماني والمكاني ﴿ يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ﴾ إلها عبدتموه. والقصة مفصلة في سورتي الأعراف وطه المكيتين لأن قصة موسى فيهما مقصودة بالذات، وأما ما هنا فهو تذكير لبني إسرائيل بما تقدم وجهه في سياق دعوتهم إلى الإسلام ﴿ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾ أي فتوبوا إلى خالقكم الذي لا يجوز أن تعبدوا معه إلها آخر بعضكم بعضا، فإن قتل المرء لأخيه كقتله لنفسه، ويحتمل اللفظ أن يكون معناه ليبخع كل من عبد العجل نفسه انتحارا.
تكلم الأستاذ الإمام في التوبة وقال : إنها محو أثر الرغبة في الذنب من لوح القلب، والباعث عليها هو شعور التائب بعظمه من عصاه وما له من السلطان عليه في الحال، وكون مصيره إليه في المآل، لا جرم أن الشعور بهذا السلطان الإلهي بعد مفارقة الذنب يبعث في قلب المؤمن الهيبة والخشية ويحدث في روحه انفعالا مما فعل وندما على صدوره عنه، ويزيد هذا الحال في النفس تذكر الوعيد على ذلك الذنب، وما رتبه الله عليها من العقوبة في الدنيا والآخرة. هذا أثر التوبة في النفس، وهذا الأثر ويزعج التائب إلى القيام بأعمال تضاد ذلك الذنب الذي تاب منه وتمحو أثره السيء ﴿ ١١ : ١١٤ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾.
فمن علامة التوبة النصوح : الإتيان بأعمال تشق على النفس وما كانت لتأتيها لولا ذلك الشعور الذي يحدثه الذنب. وهذه العلامة لا تتخلف عن التوبة سواء كان الذنب مع الله تعالى أو مع الناس. ألا ترى أن أهون ما يكون من إنسان يذنب مع آخر يباهى به أن يجيء معترفا بالذنب معتذرا عنه ؟ وهذا ذل يشق على النفس لا محالة، وقد أمر بنو إسرائيل بأشق الأعمال في تحقيق التوبة من أكبر الذنوب، وهو الرغبة عن عبادة من خلقهم وبرأهم إلى عبادة ما عملوا بأيديهم وقد قال ﴿ فتوبوا إلى بارئكم ﴾ لينبههم إلى أن الإله الحقيقي هو الخالق البارئ ليتضمن الأمر الاحتجاج عليهم والبرهان على جهلهم. ذلك العمل الذي أمرهم به موسى هو قتل أنفسهم. والقصة في التوراة التي بين أيديهم إلى اليوم : دعا موسى إليه من يرجع إلى الرب، فأجابه بنو لاوي فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا ففعلوا، وقتل في ذلك اليوم " نحو ثلاثة آلاف " وقال مفسرنا ( الجلال ) كغيره إن الذين قتلوا سبعون ألفا والقرآن لم يعين العدد، والعبرة المقصودة من القصة لا تتوقف على تعيينه فنمسك عنه. كذا قال الأستاذ الإمام، وهذا مذهبه في جميع مبهمات القرآن عند النص القطعي لا يتعداه، ويثبت أن الفائدة لا تتوقف على سواه.
قال تعالى ﴿ ذلكم خير لكم عند بارئكم ﴾ لأنه يطهركم من رجس الشرك الذي دنستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا لما وعدكم به في الدنيا ولمثوبته في الآخرة وقوله ﴿ فتاب عليكم ﴾ من كلام الله تعالى لا تتمة لكلام موسى عليه السلام في الظاهر وهو معطوف على محذوف تقديره ففعلتم ما أمركم موسى به فتاب عليكم ﴿ إنه هو التواب الرحيم ﴾ أي إنه هو وحده الكثير التوبة على عباده بتوفيقهم لها وقبولها منهم، وإن تعددت قبلها جرائمها، الرحيم بهم، ولولا رحمته لعجل بإهلاكهم ببعض ذنوبهم الكبرى ولا سيما الشرك به.
في هذه الآيات ضرب من ضروب التذكير غير ما سبقه، ومن البلاغة والحكمة أن يجيء تاليا له ومتأخرا عنه : مهد أولا للتذكير تمهيدا يسترعي السمع، ويوجه الفكر ويستميل القلب، وهو الابتداء بذكر النعمة مجملة والتفضيل على العالمين ولا يرتاح الإنسان لحديث كحديث مناقب قومه ومفاخرهم – ثم طفق يفصل النعمة ويشرحها ؛ فبدأ بذكر فرد من أفرادها لا يقترن به ذكر سيئة من سيئاتهم وهو تنجيتهم من ظلم آل فرعون، ولكن ذكر معه أكبر ضروب ذلك الظلم وهو قتل الأبناء- : يخفض من عتو تلك النفوس المعجبة المتكبرة التي تعتقد أن الله لا يسود عليهم شعبا آخر، وهو مع هذا لا يفر بها عن الإصغاء والتدبر، لأنه لم يفاجئها بشيء فيه نسبة التقصير وعمل السوء إليها. ثم ثنى بذكر نعمة خاصة خالصة تسكن النفس إلى ذكرها، إذ لا يشوب الفخر بهما تنغيص من تذكر غضاضة تتصل بواقعتها، وهي فرق البحر بهم، وإنجاؤهم، وإغراق عدوهم.
لا جرم أن نفوس الإسرائيليين كانت تهتز وتأخذها الأريحية عندما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية لما فيها من الشهادة بعناية الله تعالى بهم، ولا سيما إذا قارنوا بين هذا التذكير وبين تذكير مشركي العرب بتلك القوارع الشديدة، لم يتركها بعد هذه الهزة تجمح في عجبها وفخرها، وتتمادى في إبائها وزهوها، بل عقب عليها فذكر بعد هذه النعمة سيئة لهم هي كبرى السيئات التي ظلموا بها أنفسهم وكفروا نعمة ربهم وهي اتخاذ العجل إلها، وقدم على ذكرها خبر مواعدة موسى وهي من النعم، وختمها بذكر العفو، ثم قفى عليها بذكر نعمة إيتائهم الكتاب والفرقان وهذا ما يجعل أنفس السامعين الواعين قلقة يتنازعها شعورا اعتراف المذكر الواعظ لها بالشرف، وشعور رميه إياها بالظلم والسرف.
﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ أي واذكروا إذا قلتم لنبيكم يا موسى لن نصدق بما جئت به تصديق إذعان وإتباع حتى نرى الله عيانا لنبيكم جهرة فيأمرنا بالإيمان لك ﴿ فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ﴾ أي فأخذت القائلين ذلك منكم الصاعقة وأنتم تنظرون ذلك بأعينكم. وسيأتي بيان هذا بالتفصيل في سورة الأعراف، فالقصة هنالك مقصودة بكل ما فيها من فائدة وعبرة، وإنما المراد بها هنا التذكير كما تقدم.
قال الأستاذ الإمام : سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى واقعة مستقلة لا تتصل بمسألة عبادة العجل وهي معروفة عند بني إسرائيل ومنصوصة في كتابهم وذلك أن طائفة منهم قالوا لماذا اختص موسى وهارون بكلام الله تعالى من دوننا. وانتشر هذا القول في بني إسرائيل وتجرأ جماعة منهم بعد موت هارون وهاجوا على موسى وبني هارون وقالوا لهم عن نعمة الله على شعب إسرائيل هي لأجل إبراهيم وإسحاق فتشمل جميع الشعب، وقالوا لموسى لست أفضل منا فلا يحق لك أن تترفع وتسود علينا بلا مزية، وأننا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فأخذهم إلى خيمة العهد فانشقت الأرض وابتلعت طائفة منهم وجاءت نار من الجانب الآخر فأخذت الباقين، وهذه النار هي المعبر عنها هنا بالصاعقة، وهل ثمة من نار غير الاشتغال بالكهرباء وهو ما تحدثه الصاعقة التي تحدث الانشقاق في الأرض أيضا ؟ وقد أخذ هذا العذاب تلك الطائفة والآخرون ينظرون، وهكذا كان بنو إسرائيل يتمردون ويعاندون موسى عليه السلام وكان سوط عذاب الله يصب عليهم، فرموا بالأمراض والأوبئة وسلطت عليهم الهوام وغيرها حتى أماتت منهم خلقا كثيرا. فمجاحدتهم ومعاندتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن بدعا من أعمالهم.
في هذه الآيات ضرب من ضروب التذكير غير ما سبقه، ومن البلاغة والحكمة أن يجيء تاليا له ومتأخرا عنه : مهد أولا للتذكير تمهيدا يسترعي السمع، ويوجه الفكر ويستميل القلب، وهو الابتداء بذكر النعمة مجملة والتفضيل على العالمين ولا يرتاح الإنسان لحديث كحديث مناقب قومه ومفاخرهم – ثم طفق يفصل النعمة ويشرحها ؛ فبدأ بذكر فرد من أفرادها لا يقترن به ذكر سيئة من سيئاتهم وهو تنجيتهم من ظلم آل فرعون، ولكن ذكر معه أكبر ضروب ذلك الظلم وهو قتل الأبناء- : يخفض من عتو تلك النفوس المعجبة المتكبرة التي تعتقد أن الله لا يسود عليهم شعبا آخر، وهو مع هذا لا يفر بها عن الإصغاء والتدبر، لأنه لم يفاجئها بشيء فيه نسبة التقصير وعمل السوء إليها. ثم ثنى بذكر نعمة خاصة خالصة تسكن النفس إلى ذكرها، إذ لا يشوب الفخر بهما تنغيص من تذكر غضاضة تتصل بواقعتها، وهي فرق البحر بهم، وإنجاؤهم، وإغراق عدوهم.
لا جرم أن نفوس الإسرائيليين كانت تهتز وتأخذها الأريحية عندما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية لما فيها من الشهادة بعناية الله تعالى بهم، ولا سيما إذا قارنوا بين هذا التذكير وبين تذكير مشركي العرب بتلك القوارع الشديدة، لم يتركها بعد هذه الهزة تجمح في عجبها وفخرها، وتتمادى في إبائها وزهوها، بل عقب عليها فذكر بعد هذه النعمة سيئة لهم هي كبرى السيئات التي ظلموا بها أنفسهم وكفروا نعمة ربهم وهي اتخاذ العجل إلها، وقدم على ذكرها خبر مواعدة موسى وهي من النعم، وختمها بذكر العفو، ثم قفى عليها بذكر نعمة إيتائهم الكتاب والفرقان وهذا ما يجعل أنفس السامعين الواعين قلقة يتنازعها شعورا اعتراف المذكر الواعظ لها بالشرف، وشعور رميه إياها بالظلم والسرف.
قال تعالى ﴿ ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ﴾ ذهب الأستاذ الإمام إلى أن المراد بالبعث هو كثرة النسل أي أنه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرهم وظن أن سينقرضون بارك الله في نسلهم ليعد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها.
والعبرة الاجتماعية في الآيات أن الخطاب في كل ما تقدم كان موجها إلى الذين كانوا في عصر التنزيل، وأن كلامهم عن الأبناء والآباء واحد لم تختلف فيه الضمائر حتى كأن الذين قتلوا أنفسهم بالتوبة والذين صعقوا بعد ذلك هم المطالبون بالاعتبار وبالشكر، وما جاء الخطاب بهذا الأسلوب إلا لبيان معنى وحدة الأمة واعتبار أن كل ما يبلوها الله به من الحسنات والسيئات وما يجازيها به من النعم والنقم إنما يكون لمعنى موجود فيها يصح أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق كأنه وقع به، ليعلم الناس أنه سنة الله تعالى في الاجتماع الإنساني أن تكون الأمم متكافلة يعتبر كل فرد منها سعادته بسعادة سائر الأفراد وشقاءه بشقائهم، ويتوقى نزول العقوبة به إذا فشت الذنوب في الأمة وإن لم يواقعها هو ﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ وهذا التكافل في الأمم هو المعراج الأعظم لرقيها لأنه يحمل الأمة التي تعرفه على التعاون على الخير والمقاومة للشر فتكون من المفلحين.
في هذه الآيات ضرب من ضروب التذكير غير ما سبقه، ومن البلاغة والحكمة أن يجيء تاليا له ومتأخرا عنه : مهد أولا للتذكير تمهيدا يسترعي السمع، ويوجه الفكر ويستميل القلب، وهو الابتداء بذكر النعمة مجملة والتفضيل على العالمين ولا يرتاح الإنسان لحديث كحديث مناقب قومه ومفاخرهم – ثم طفق يفصل النعمة ويشرحها ؛ فبدأ بذكر فرد من أفرادها لا يقترن به ذكر سيئة من سيئاتهم وهو تنجيتهم من ظلم آل فرعون، ولكن ذكر معه أكبر ضروب ذلك الظلم وهو قتل الأبناء- : يخفض من عتو تلك النفوس المعجبة المتكبرة التي تعتقد أن الله لا يسود عليهم شعبا آخر، وهو مع هذا لا يفر بها عن الإصغاء والتدبر، لأنه لم يفاجئها بشيء فيه نسبة التقصير وعمل السوء إليها. ثم ثنى بذكر نعمة خاصة خالصة تسكن النفس إلى ذكرها، إذ لا يشوب الفخر بهما تنغيص من تذكر غضاضة تتصل بواقعتها، وهي فرق البحر بهم، وإنجاؤهم، وإغراق عدوهم.
لا جرم أن نفوس الإسرائيليين كانت تهتز وتأخذها الأريحية عندما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية لما فيها من الشهادة بعناية الله تعالى بهم، ولا سيما إذا قارنوا بين هذا التذكير وبين تذكير مشركي العرب بتلك القوارع الشديدة، لم يتركها بعد هذه الهزة تجمح في عجبها وفخرها، وتتمادى في إبائها وزهوها، بل عقب عليها فذكر بعد هذه النعمة سيئة لهم هي كبرى السيئات التي ظلموا بها أنفسهم وكفروا نعمة ربهم وهي اتخاذ العجل إلها، وقدم على ذكرها خبر مواعدة موسى وهي من النعم، وختمها بذكر العفو، ثم قفى عليها بذكر نعمة إيتائهم الكتاب والفرقان وهذا ما يجعل أنفس السامعين الواعين قلقة يتنازعها شعورا اعتراف المذكر الواعظ لها بالشرف، وشعور رميه إياها بالظلم والسرف.
بعد هذا ذكر الله تعالى نعمة أخرى بل نعمتين من النعم التي من بها على بني إسرائيل فكفروا بها ولكنه لم يذكر ما كان به الكفران، بل طواه وأشار إليه بما ختم به الآية من أنهم لم يظلموا الله تعالى بذلك الذنب المطوي وإنما ظلموا أنفسهم، وهذا أسلوب آخر من أساليب البيان في التذكير وضرب من ضروب الإيجاز التي هي أقوى الإعجاز.
أما النعمة الأولى فقوله تعالى ﴿ وظللنا عليكم الغمام ﴾ قال الأستاذ الإمام : هذه نعمة مستقلة متصلة بما قبلها في سياق الذكرى، منفصلة عنها في الوقوع، فإن التظليل استمر إلى دخولهم أرض الميعاد، ولولا أن سياق الله إليهم الغمام يظللهم في التيه لسعفتهم الشمس ولفحت وجوههم. وقال لا معنى لوصف الغمام بالرقيق كما قال المفسر ( الجلال ) وغيره، بل السياق يقتضي كثافته إذ لا يحصل الظل الظليل الذي يفيده حرف التظليل، إلا بسحاب كثيف بمنع حر الشمس ووهجها. وكذلك لا تتم النعمة التي بها المنة إلا بالكثيف وهو المنقول المعروف عند الإسرائيليين أنفسهم وأما النعمة الثانية ففي قوله تعالى ﴿ وأنزلنا عليكم المن والسلوى ﴾ ما منح من الله تعالى يسمى إيجاده إنزالا ومنه ﴿ وأنزلنا الحديد ﴾ على أن المن ينزل كالندى وهو مادة لزجة حلوة تشبه العسل تقع على الحجر وورق الشجر مائعة ثم تجمد وتجف فيجمعها الناس، ومنها الترنجبين وبه فسر المن مفسرنا وغيره. وأما السلوى فقد فسروها بالسماني وهو الطائر المعروف فمعنى النزول يصح فيه على حقيقته أيضا. وظاهر أن قوله تعالى ﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ مقدر فيه القول. وفي ( سفر الخروج ) أن بني إسرائيل أكلوا المن أربعين سنة وأن طعمه كالرقاق بالعسل ؛ وكان لهم بدلا من الخبز وليس المراد أنه لم يكن لهم أكل سواه إلا السلوى فقد كان معهم المواشي ولكنهم كانوا محرومين من النبات والبقول كما يعلم مما يأتي وفي قوله تعالى ﴿ وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ تقرير لقاعدة مهمة وهي أن كل ما يطلبه الدين من العبد فهو لمنفعته، وكل ما ينهاه عنه فإنما يقصد به دفع الضرر عنه، ولن يبلغ أحد نفس الله فينفعه، ولن يبلغ أحد ضره فيضره، كما ثبت في الحديث القدسي. فكل عمل ابن آدم له أو عليه ﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾.
المراد بالقرية المدينة، وهي في الأصل اسم لمجتمع الناس ومسكن النمل الذي يبنيه ومادتها تدل على الاجتماع، ومنها قريت الماء في الحوض إذا جمعته وأطلقت على الأمة نفسها : ثم غلب استعمالها في البلاد الصغيرة ولا يصح هنا فإن الرغد لا يتيسر للإنسان كما يشاء إلا في المدن الواسعة الحضارة، ( قال شيخنا ) ونسكت عن تعيين القرية كما سكت القرآن فقد أمر بني إسرائيل بدخول بلاد كثيرة وكانوا يؤمرون بدخولها خاشعين لله خاضعين لأمره مستشعرين عظمته وجلاله ونعمه وأفضاله وهو معنى السجود وروحه المراد هنا.
وأما صورة السجود من وضع الجباه على الأرض فلا يصح أن تكون مرادة لأنها سكون والدخول حركة وهما لا يجتمعان. والمراد بالحطة الدعاء بأن تحط عنهم خطايا التقصير وكفر النعم. وتبديل القول بغيره عبارة عن المخالفة كأن الذي يؤمر بالشيء فيخالف قد أنكر أنه أمر به وادعى أنه أمر بخلافه. يقال بدلت قولا غير الذي قيل. أي جئت بذلك القول مكان القول الأول.
وهذا التعبير أدل على مخالفة والعصيان من كل تعبير خلافا لما يتراءى لغير البليغ من أن الظاهر أن يقال. بدلوا القول بغيره دون أن يقال، غير الذي قيل لهم، فإن مخالف أمر سيده قد يخالفه على سبيل التأويل مع الاعتراف به، فكأنه يقول في الآية إنهم خالفوا الأمر خلافا لا يقبل التأويل، حتى كأنه قيل لهم غير الذي قيل. وليس المعنى أنهم أمروا بحركة يأتونها، وكلمة يقولونها، وتعبدوا بذلك وجعل سببا لغفران الخطايا عنهم فقالوا غيره وخالفوا الأمر، وكانوا من الفاسقين. وأي شيء أسهل على المكلف من الكلام يحرك به لسانه، وقد اخترع أهل الأديان من ذلك ما لم يكلفوا قوله لسهولة القول على ألسنتهم، فكيف يقال أمر هؤلاء بكلمة يقولونها فعصوا بتركها ؟ إنما يعصى العاصي إذا كلف ما يثقل على نفسه ويحملها على غير ما اعتادت، وأشق التكاليف حمل العقول على أن تفكر في غير ما عرفت، وحث النفوس على أن تتكيف بغير ما تكيفت.
وذهب المفسر ( الجلال ) إلى ترجيح اللفظ على المعنى والصورة على الروح ففسر السجود ككثير من غيره بالانحناء، وقال إنهم أمروا بأن يقولوا ( حطة ) فدخلوا زحفا على أستاههم وقالوا : حبة في شعيرة : أي أننا نحتاج إلى الأكل ومنشأ هذه الأقوال الروايات الإسرائيلية ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خدع بها المفسرون ولا نجيز حشوها في تفسير كلام الله تعالى.
وأقول إن ما اختاره الجلال مروي في الصحيح ولكنه لا يخلو من علة إسرائيلية وسنبين ذلك في تفسير المسألة من سورة الأعراف مع المقابلة بين العبارات المختلفة في السورتين وبيان وجوهها ؛ وتحقيق معاني ألفاظها.
وأقول الآن : القاعدة أن ترتيب الحكم على المشتق يدل على أن مصدره علة له كقوله ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ فالسرقة علة للقطع. والموصول مع صلته هنا كذلك، والمعنى ﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ﴾ بسبب ظلمهم، ثم أكدها هذا السبب الخاص العارض المعبر عنه بالفعل الماضي ببيان سبب عام يشمله ويشمل غيره هم يفعلونه دائما وهو قوله ﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ أي بسبب تكرار الفسوق والعصيان منهم واستمرارهم عليه الذي كان هذا الظلم منه.
( قال الأستاذ ) ونكست عن تعيين نوع ذلك الرجز كما هو شأننا في كل ما أبهمه القرآن. وقال المفسر وغيره إنه الطاعون، واحتج بعضهم عليه بقوله تعالى ﴿ من السماء ﴾ وهو كما تراه. والرجز هو العذاب وكل نوع منه رجز. وقد ابتلى الله بني إسرائيل بالطاعون غير مرة، وابتلاهم بضروب أخرى من النقم في إثر كل ضرب من ضروب ظلمهم وفسوقهم، ومن أشد ذلك تسليط الأمم عليهم، وحسبنا ما جاء في القرآن عبرة وتبصرة فنعين ما عينه، ونبهم ما أبهمه ﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾.
هذا بيان لحال آخر من أحوال بني إسرائيل في هجرتهم وعناية الله تعالى بهم فيها. أصابهم الظمأ فعادوا على موسى باللائمة أن أخرجهم من أرض مصر الخصبة المتدفقة بالأمواه، وكانوا عند كل ضيق يمنون عليه أن خرجوا معه من مصر ويجهرون بالندم. فاستغاث موسى بربه واستسقاه لقومه كما قصه الله تعالى علينا بقوله ﴿ وإذ استسقى موسى لقومه ﴾ أي طلب السقيا لهم من الله تعالى ﴿ فقلنا اضرب بعصاك الحجر ﴾ قال الأستاذ الإمام : أمره أن يضرب بعصاه حجرا من حجارة تلك الصحراء بتلك العصا التي ضرب بها البحر فضربه ﴿ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ﴾ بعدد أسباطهم وذلك قوله عز وجل ﴿ قد علم كل أناس مشربهم ﴾.
( قال ) وكون هذا الحجر هو الذي روي أنه تدحرج بثوب موسى يوم كان يغتسل كما قال المفسر ( الجلال ) لا دليل عليه، وقصة الثوب ليست في القرآن فيحمل تعريف الحجر على أنه المعهود في القصة، وإنما يفهم التعريف أن الحجر الذي ضرب فتفجرت منه المياه حجر مخصوص له صفات تميزه عندهم ككونه صلبا أو عظيما تتسع مساحته لتلك العيون ويصلح أن تكون منه موارد لتلك الأمم [ أو كونه يقع تحت أعينهم منفردا عن غيره ليس في محلتهم سواه، وقد يكون التعريف للدلالة على الجنس ليفيدنا بُعد المرغوب عن التناول، وعظمة القدرة الإلهية وأثرها الجليل في تقريبه وتحصيله ] وعبر عنه في سفر الخروج بالصخرة : ولو علم الله تعالى أن لنا فائدة في أكثر مما دل عليه هذا الخطاب من التعيين لما تركه.
ثم أراد أن يصور حال بني إسرائيل في هذه النعمة واغتباطهم بما منحهم من العيش الرغد في مهاجرهم فقال ﴿ كلوا واشربوا من رزق الله ﴾ فعبر عن الحال الماضية بالأمر ليستحضر سامع الخطاب أولئك القوم في ذهنه ويتصور اغتباطهم بما هم فيه حتى كأنهم حاضرون والآن والخطاب يوجه إليهم. وهذا ضرب من ضروب إيجاز القرآن التي لا تجارى ولا تمارى ثم قال ﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ أي لا تنشروا فسادكم في الأرض وتكونوا في الشرور قدوة سيئة للناس. يقال عثا إذا نشر الشر والفساد وأثار الخبث فهو أخص من مطلق الإفساد ولذلك مع كون " مفسدين " حالا من ضمير " تعثوا ".
قال الأستاذ الإمام : إن كثيرا من أعداء القرآن يأخذون عليه عدم الترتيب في القصص ويقولون هنا إن الاستسقاء وضرب الحجر كان قبل التيه وقبل الأمر بدخول تلك القرية فذكرها هنا بعد تلك الوقائع. والجواب عن هذه الشبهة يفهم مما قلناه مرارا في قصص الأنبياء والأمم الواردة في القرآن. وهو أنه لم يقصد بها التاريخ وسرد الوقائع مرتبة بحسب أزمنة وقوعها وإنما المراد بها الاعتبار والعظة ببيان النعم متصلة بأسبابها لتطلب بها. وبيان النقم بعللها لتتقى من جهتها. ومتى كان هذا هو الغرض من السياق فالواجب أن يكون ترتيب الوقائع في الذكر على الوجه الذي يكون أبلغ في التذكير وأدعى إلى التأثير.
إن الباحثين في التاريخ لهذا العهد قد رجعوا إلى هذا الأسلوب في التقديم والتأخير وقالوا ستأتي أيام يستحيل فيها ترتيب الحوادث والقصص بحسب تواريخها لطول الزمن وكثرة النقل مع حاجة الحاضرين. وقالوا إن الطريق إلى ذلك هو أن ننظر في كل حادثة من حوادث الكون كالثورات والحروب وغيرها ونبين أسبابها ونتائجها من غير تفصيل ولا تحديد لجزئيات الوقائع بالتاريخ، فإن ترتيب الوقائع هو من الزينة في وضع التأليف فلا يتوقف عليه الاعتبار، بل ربما يصد عنه بما يكلف الذهن من ملاحظته وحظه – هذا ضرب من ضروب الإصلاح العلمي جاء به القرآن وأيده سير الاجتماع في الإنسان.
هذا ما نقوله إذا سلمنا أن الاستسقاء كان قبل التيه لا فيه ولنا أن نقول إن أرض التيه هي الأرض الممتدة على ساحل البحر الأحمر من بيداء فلسطين مما يلي حدود مصر وفيها كان الاستسقاء بلا خلاف ( وفي سفر الخروج أنه كان في رفيديم التي انتقل إليها بنو إسرائيل من ( سين ) التي بين إيليم وسيناء. ويطلق التيه على ضلال بني إسرائيل أربعين سنة في الأرض. والعبرة في القصة على ما يظهر من التوراة أن موسى كان يحاول نزع ما في قلوب قومه من الشرك الذي أشربوا عقائده في مصر، وما في نفوسهم من الذل الذي طبعه فيها استبداد المصريين وتعبيدهم إياهم، ليكونوا أعلياء أعزاء بعبادة الله تعالى وحده، وأن يدخل بهم أرض الميعاد وهي بلاد الشام التي وعد الله بها آباءهم. وكانوا لطول الإقامة في مصر قد ألفوا الذل وأنسوا بالشعائر والعادات الوثنية، فكانوا لا يخطون خطوة إلا ويتبعونها بخطيئة، وكلما عرض لهم شيء من مشقات السفر يتبرمون بموسى ويتحسرون على مصر ويتمنون الرجوع إليها ( كما سبق القول ) ويستبطئون وعد الله فتارة يطلبون منه أن يجعل لهم إلها غير الله. وتارة يصنعون عجلا ويعبدونه، وتارة يفسقون عن أمر ربهم ويكفرون نعمه. ولما أمرهم بدخول البلاد المقدسة التي وعدهم الله أبوا واعتذروا بالخوف من أهلها الجبارين لما استحوذ عليهم من الجبن الذي هو حليف الذل. وكان موسى أرسل كالبا ويوشع بن نون رائدين لينظر حال البلاد في القوة والضعف وأرسل غيرهما عشرة من بقية أسباط بني إسرائيل فأخبر هؤلاء بأن في تلك الأرض قوما جبارين فقال بنو إسرائيل : إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها. فأخبر يوشع وكالب بأن الأرض كما وعد الله وأن دخولها سهل والظفر مضمون بالاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه، فلم يسمعوا لهما بل ( قالوا إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها ) فضرب الله عليهم التيه أربعين سنة لحكمة بالغة وهي إرادة انقراض أولئك القوم الذين تأشبت في نفوسهم عقائد الوثنية، وزايلتها صفات الرجولية، حتى فسد مزاجها، وتعذر علاجها، وخروج نشء جديد يتربى على العقائد الصحيحة، وأخلاق الشهامة والرجولية، فتاهوا حتى انقرض أولئك المصابون باعتلال الفطرة، وبقي النشء الجديد وبعض الذين كانوا عند الخروج من مصر صغارا لا يقدرون على حمل السلاح وقضى الله أمرا كان مفعولا.
هذا ضرب آخر مما ذكر الله تعالى به بني إسرائيل في سياق دعوتهم إلى الإسلام قال صاحب الكشاف : كانوا قوما فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء ا ه وقال الأستاذ الإمام في تفسيره ونقده ورده، ما نصه : فلاحة بتشديد اللام جمع فلاح بمعنى الزراع، وعكرهم بكسر العين أصلهم، وأجم الطعام من باب ضرب وعلم كرهه من المداومة عليه. وهو بيان لما بعثهم على أن يسألوا موسى أن يدعو ربه ليخرج لهم تلك الأشياء التي طلبوها والسبب في جهرهم بذلك وثورتهم عليه كأنه يقول : إن الحامل لهم على ذلك هو تمكن العادة من نفوسهم فلما خرجوا منها وجاءهم ما لم يكونوا يألفون نزعوا إلى ما كانوا قد عودوه من قبل. ولو كان الأمر كما قال لكان في ذلك التماس عذر لهم، ولما عد الله هذا القول في خطاياهم، بل إن السآمة من تناول طعام واحد قد يكون من لوازم الطباع البشرية إلا ما شذ منها لعادة أو ضرورة ولا يعد ما هو من منازع الطباع جرما إذا لم يسقط ذلك في محظور. وسياق الآيات قبلها وما يلحق بعد ذلك من قوله تعالى ﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ﴾ الخ كل ذلك يدل على أن ما عدد من أفاعيلهم مع تضافر الآيات بين أيديهم وتوارد نعم الله عليهم كله من خطاياهم، ومن ذلك قوله تعالى ﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبث الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ﴾ ويؤكد ذلك إيراد تلك العقوبة الشديدة من ضرب الذلة والمسكنة واستحقاق غضب الله تعالى عقب مقالهم هذا.
والذي يقع عليه الفهم من الآية أن النزق قد استولى على طباعهم وملك البطر أهواءهم حتى كانوا يستخفون بذلك الأمر العظيم الذي هيأهم الله له من التمكن في الأرض الموعودة والخروج من الخسف الذي كانوا فيه. ومع كثرة ما شاهدوا من آيات الله القائمة على صدق وعده لهم لم تستيقنه أنفسهم، بل كانوا على ريب منه، وكانوا يظنون أن موسى عليه السلام خدعهم بإخراجهم من مصر وجاء بهم في البرية ليهلكهم، فلذلك دأبوا على إعانته والإكثار من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع حتى ييأس منهم فيرتد بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة ولهم مطمع في العيش وأمل في الخلاص من الهلكة، فما ذكره الله عنهم في هذه الآية على حد قولهم ﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ ويرشد إلى ما فيه من الإعنات قولهم :﴿ لن نصبر على طعام واحد ﴾. فقد عبر عن مسألتهم بما فيه حرف النفي الذي يأتي لسلب الفعل في مستقبل الزمان مع تأكيده فكأنهم قالوا : اعلم أنه لم يبق لك أمل في بقائنا معك على هذه الحالة من التزام طعام واحد فإن كانت لك منزلة عند الله كما تزعم فادعه يخرج لنا ما يمكن معه أن نبقى معك إلى أن يتم الوعد الذي وعدك ووعدتنا – وهم يعلمون أنهم كانوا في برية غير منبتة، وربما لم يكن قولهم هذا عن سآمة ولا أجم من وحدة الطعام، ولكنه نزق وبطر كما بينا وطلب للخلاص مما يخشون على أنفسهم. ويؤيد ذلك ما هو معروف في أخباره. ووصفوا الطعام بالواحد مع أنه نوعان – المن والسلوى – لأنهما طعام كل يوم، والعرب تقول لمن يأكل كل يوم عدة ألوان لا تتغير : إنه يأكل من طعام واحد. كأنهم ينظرون إلى أن مجموع الألوان هي غذاؤه الذي لا يتغير فهي غذاء واحد فإذا تغيرت الألوان تغير نوع الغذاء فكان طعاما متعددا.
والبقل من النبات ما ليس بشجر دقّ ولا جل كما ذكره ابن سيده. وقال أبو حنيفة ما ينبت في بزرة ولا ينبت في أرومة ثابتة. وفرق ما بين البقل ودق الشجر أن البقل إذا رعي لم يبق له ساق، والشجر تبقى له سوق وإن دقت.
وأرادوا من البقل ما يطعمه الإنسان من أطايب الخضر كالكرفس والنعناع ونحوهما مما يغري بالقضم، ويعين على الهضم، والقثاء هي أخت الخيار تسميها العامة " القتة " والعدس والبصل معروفان، والفوم هو الحنطة. وقال الكسائي وجماعة : هو الثوم أبدلت الثاء فاء كما في جدث وجدف. وطلبهم للحنطة هو طلبهم للخبز الذي يصنع منها ﴿ قال ﴾ موسى عليه السلام تقريعا لهم على أشرهم وإنكارا لتبرمهم ﴿ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ ﴾ أي أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المن والسلوى ؟ والمن فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية والسلوى من أطيب لحوم الطير وفي مجموعها غذاء تقوم به البنية وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة وتغذية. أقول : والأدنى في اللغة الأقرب، واستعير للأخس والأدون كما استعير البعد للرفعة. والاستبدال طلب شيء بدل من آخر، والباء تدخل المبدل منه المراد تركه. ثم قال ﴿ اهبطوا مصرا ﴾ من الأنصار ﴿ فإن لكم ما سألتم ﴾ أي فإنكم إن هبطتموه ونزلتموه وجدتم فيه ما سألتم. أما هذه الأرض التي قضى الله أن تقيموا فيها إلى أجل محدود فليس من شأنها أن تنبت هذه البقول وإن الله جل شأنه لم يقض عليكم بالتيه في هذه البرية إلا لجبنكم وضعف عزائمكم عن مغالبة من دونكم من أهل الأمصار، فلو صح ما تزعمون من كراهتكم للطعام الواحد فأنتم الذين قضيتم به على أنفسكم بما فرط منكم. فإن أردتم الخلاص مما كرهتم فأقدموا على محاربة من يليكم من سكان الأرض الموعودة، فإن الله كافل لكم النصر عليهم، وعند ذلك تجدون طلبتكم فالتمسوا الخير في أنفسكم وفي أفعالكم فإن الله لا يضيع أجر العاملين.
قال تعالى ﴿ وضربت عليهم الذلة والمسكنة ﴾ الذلة والذل خلق خبيث من أخلاق نفس الإنسان يضاد الإباء والعزة، وأصل المادة فيه معنى اللين. فالذل بالكسر اللين وبالضم والكسر ضد الصعوبة، وإذا تتبعت المادة وجدتها لا تخلو من هذا المعنى. صاحب هذا الخلق لين ينفعل لكل فاعل، ولا يأبى ضيم ضائم. غير أن هذا الخلق الذي يهون على النفس قبول كل شيء لا يظهر أثره غالبا على البدن وفي القول إلا عند الاستدلال والقهر، وكثيرا ما ترى الأذلاء تحسبهم أعزاء، يختالون في مشيتهم من الكبرياء، ويباهون بما لهم من سلف وآباء، وربما فاخروا من لا يخشون سطوته من الكبراء.
وإذا ما خلا الجبان بأرض***طلب الطعن وحده والنزالا
ولكن متى شعر الذليل بنية من نفس القاهر أو طاف بذهنه خيال يد تمتد إليه استخذى واستكان، وظهر السكون على بدنه، واشتمل الخشوع على قوله وفعله، وهذا الأثر الذي يسطع من النفس على البدن هو الذي يسمى المسكنة. وإنما سمي الفقر مسكنة لأن العائل المحتاج تضعف حركته ويذهب نشاطه فهو بعدم ما يسد عوزه كأنه يقرب من عالم الجماد، فلا تظهر فيه حاجة الاحياء فيسكن. والمشاهدة ترشدنا إلى تحقيق ما عليه أهل المسكنة في أوضاع أعضائهم، وما يبدو على وجوههم، وما طبع في أقوالهم وأعمالهم. فضرب الذلة والمسكنة على اليهود هو جعل الذل وضعف العزيمة محيطين بهم كما تحيط القبة المضروبة بمن فيها. أو إلصاقهما بطباعهم كما تطبع الطغرى على السكة ﴿ وباؤوا بغضب من الله ﴾ أي رجعوا به كما يقال رجع أو عاد بصفقة المغبون – إذا كان ذلك آخر شوطه ومنتهى سعيه. وكذلك كان آخر أطوار اليهود في بغيهم أيام ملكهم. والمراد به فقد الملك وما يتبعه. وقال شيخنا استحقوا غضبه ومن استحقه فقد أصابه، فقد غضب الله عليهم، وتنكير الغضب دلالة على أنه نوع عظيم من سخطه جل شأنه ﴿ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ﴾ ( أقول ) أي ذلك العقاب بضرب الذلة والمسكنة وبالغضب الإلهي بسبب ما جروا عليه من الكفر بآيات الله الخ فإنهم بإحراجهم لموسى عليه السلام وإعناتهم له في المطالب، مع كثرة ما شاهدوا من العجائب، وما أظهر الله لهم من الغرائب، قد دلوا على أن لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم بها كافرون في الحقيقة. ونسيان الآيات وعدها كأن لم تكن يعده الكتاب العزيز كفرا كما قال شيخنا ﴿ ويقتلون النبيين بغير الحق ﴾ مع أن الكتاب يحرم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عنهم إلا بحقه المبين فيه، كل ذلك دل فيهم على طباع بعيدة عن الكرم، وقلوب غلف دون الفهم، ومن كان هذا شأنه فالأجدر به أن يكون ذليلا مقهورا، ثم هو مهبط غضب الله ومحط نقمه، لأنه أشد الناس كفرا لنعمه، وقوله ﴿ بغير الحق ﴾ مع أن قتل النبيين لا يكون إلا كذلك يزيد في شناعة حالهم، ويصرح بأنهم لم يكونوا مخطئين في الفهم، ولا متأولين للحكم، بل ارتكبوا هذا الجرم العظيم عامدين، وهم يعلمون أنهم بارتكابه مخالفون لما شرع الله تعالى لهم في كتاب دينهم ﴿ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ قال الأستاذ : ذلك الذل وتلك الخلافة بالغضب إنما لزماهم لأنهم عصوا الله فيما أمرهم أن يأخذوا به من الأحكام، ولأنهم اعتدوا تلك الحدود التي حدها الله لهم في شرائع أنبيائهم، وقد كانت تلك الأحكام والحدود هي الوسيلة لإخراجهم من الذل وتمكين العز والسلطان لهم في الأرض الموعودة لأنها كانت الكافلة بنظامهم، الحافظ لبناء جماعتهم، فإذا أهملوها فسدت ألفتهم، وانهدم بناؤهم، وأسرعت إليهم الذلة التي لم تكن فارقتهم، إلا منهزمة من يدي سلطان الشريعة، ولم يكن يصدها عنهم إلا معاقل النظام تحت رعايته، ولزمتهم الذلة والمسكنة بعد هذا لزوم الطابع للمطبوع.
والمتبادر وعده الأستاذ احتمالا أن ترجع الإشارة في ( ذلك ) إلى الثاني أي الكفر بآيات الله وقتل النبيين. أي إن كفرهم وجراءتهم على النبيين بالقتل إنما منشؤها عصيانهم واعتداؤهم حدود دينهم، لأن الذي يدين بدين أو شريعة أيا كانت يتهيب لأول الأمر مخالفتها، فإذا خالفها لأول مرة تركت المخالفة أثرا في نفسه، وضعفت هيبة الشريعة في نظره، فإذا عاد زاد ضعف سلطة الشريعة على إرادته، ولا يزال كذلك حتى تصير المخالفة طبعا ورينا، وينسى ما قام على الشريعة من دليل وما كان لها من سيطرة، ويضرى بالعدوان، كما يضرى الحيوان بالافتراس وكل عمل يسترسل فيه العامل تقوى ملكته فيه خصوصا ما اتبع فيه الهوى.
أحاط القضاء في الآية السابقة باليهود فلم يدع منهم حاضرا ولا غائبا فألزم الذل باطنهم، وكسا بالمسكنة ظاهرهم، وبوأهم منازل غضبه، وجعل أرواحهم مساقط نقمه، فذلك الله الذي يقول ﴿ وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله ﴾ سجلت الآية عليهم هذا العذاب الشديد بما كسبت أيديهم واستشعرت قلوبهم من كفر بآيات الله، وانصراف عن العبرة، واستعصاء على الموعظة وخروج عن حدود الشريعة واعتداء على أحكامها. اقترف ذلك سلفهم، وتبعهم عليه خلفهم، فحقت عليهم كلمة ربك، فلو قرّ الخطاب عندها، ولم يتلها من رحمته ما بعدها، لحقّ على كل يهودي على وجه الأرض أن ييأس، وأن لا يبقى عنده للأمل في عفو الله متنفس ؛ بل كان ذلك القنوط لازما لكل عاص، قابضا على نفس كل معتد، لا فرق بين اليهود وغيرهم، فإن سبب ما نزل باليهود إنما هو عصيانهم واعتداؤهم حدود ما شرع الله لهم، وسنن الله في خلقه لا تتغير وأحكامه العادلة فيهم لا تتبدل، لهذا جاء قوله تعالى ﴿ إن الذين آمنوا ﴾ الخ بمنزلة الاستثناء من حكم الآية السابقة وإنما ورد على هذا الأسلوب البديع متضمنا لجميع من تمسك بهدى نبي سابق وانتسب إلى شريعة سماوية ماضية، ليدل على أن الجزاء السابق – وإن حكى على أنه من خطأ اليهود خاصة، - لم يصبهم إلا لجريمة قد تشمل الشعوب عامة وهي الفسوق عن أوامر الله وانتهاك حرماته، فكل من أجرم كما أجرموا سقط عليه من غضب الله ما سقط عليهم، وعلى أن الله جل شأنه لم يأخذهم بما أخذهم لأمر يختص بهم على أنهم من شعب إسرائيل أو من ملة يهود بل ﴿ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾.
وأما أنساب الشعوب وما تدين به من دين وما تتخذه من ملة فكل ذلك لا أثر له في رضاء الله ولا غضبه، ولا يتعلق به رفعة شأن قوم ولا ضعتهم، بل عماد الفلاح ووسيلة الفوز بخيري الدنيا والآخرة إنما هو صدق الإيمان بالله تعالى بأن يكون التصديق به سطوعا على النفس من مشرق البرهان، أو جيشانا في القلب من عين الوجدان، فيكون الاعتقاد بوجوده وصفاته خاليا من شوب التشبيه والتمثيل، واليقين في نسبة الأفعال إليه خالصا من وساوس الوهم والتخييل ويكون المؤمن قد ارتقى بإيمانه مرتقى يشعر فيه بالجلال الإلهي. فإذا رفع بصره إلى الجناب الأرفع أغضى هيبة وأطرق إلى أرض العمودية خشوعا، وإذا أطلق نظره فيما بين يديه، مما سلطه الله عليه، شعر في نفسه عزة الله، ووجد فيها قوة تصرفه بالحق فيما يقع تحت قواه. لا يعدو حدا ضرب له، ولا يقف دون غاية قدر له أن يصل إليها، فيكون عبد الله وحده، سيدا لكل شيء بعده.
كتب ما تقدم الأستاذ بقلمه إذ اقترحت أن يكتب تفسير الآية كما قرره في درسه وأنني أتمه على المنهج الذي جريت عليه فأقول :
هذا هو الإيمان المرضي عند الله تعالى الذي يكون أصلا لتهذيب أخلاق صاحبه، ومصدرا للأعمال الحسنة عنه. وللإيمان إطلاق آخر وهو التصديق بالدين في الجملة أي الإيمان بالله وبأن ما جاء به فلان النبي مثلا هو صحيح غير مكذوب على الله تعالى ويدخل فيه أهل الفرق الضالة من كل دين من الأديان السماوية، فهو إطلاق صحيح لغة وعرفا كما تقدم في تفسير قوله تعالى ﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ﴾ أي إنهم يصدقون بأن للعالم إلها، وبأن بعد الموت بعثا، ولكن هذا الإيمان ليس مطابقا في تفصيله للإذعان الذي له السلطان الأعلى على النفوس في تزكيتها وتهذيبها وحملها على الأعمال الصالحة، وهذا الإطلاق هو الذي عناه الأستاذ الإمام بقوله : لا أثر له في رضا الله ولا غضبه الخ وهو كون الدين جنسية لمن ينتسب إليه فقوله تعالى ﴿ إن الذين آمنوا ﴾ مراد به المسلمون الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم والذين سيتبعونه إلى يوم القيامة، وكانوا يسمون المؤمنين والذين آمنوا. وقوله :﴿ والذين هادوا والنصارى والصابئين ﴾ يراد به هذه الفرق من الناس التي عرفت بهذه الأسماء أو الألقاب من الذين اتبعوا الأنبياء السابقين، وأطلق على بعضهم لفظ يهود والذين هادوا، وعلى بعضهم لفظ النصارى، وعلى بعضهم لفظ الصابئين ﴿ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ﴾ هذا بدل مما قبله أي من آمن منهم بالله إيمانا صحيحا – وتقدم شرحه ووصفه آنفا – وآمن باليوم الآخر كذلك وقد تقدم تفسيرها في أوائل السورة، وعمل عملا صالحا تصلح به نفسه وشؤونه مع من يعيش معه، وما العمل الصالح بمجهول في عرف هؤلاء الأقوام، وقد بينته كتبهم أتم بيان، ﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي إن حكم الله العادل سواء وهو يعاملهم بسنة واحدة لا يحابي فيها فريقا ويظلم فريقا. وحكم هذه السنة أن لهم أجرهم المعلوم بوعد الله لهم على لسان رسولهم ولا خوف عليهم من عذاب الله يوم يخاف الكفار والفجار مما يستقبلهم ولا هم يحزنون على شيء فاتهم. وتقدم هذا التعبير في الآية ( ٣٨ ) مع تفسيره.
فالآية بيان لسنة الله تعالى في معاملة الأمم تقدمت أو تأخرت فهو على حد قوله تعالى ﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب : من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ﴾ فظهر بذلك أنه لا إشكال في حمل من آمن بالله واليوم الآخر الخ على قوله ﴿ إن الذين آمنوا ﴾ الخ ولا إشكال في عدم اشتراط الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الكلام في معاملة الله تعالى لكل الفرق أو الأمم المؤمنة بنبي ووحي بخصوصها ؛ الظانة أن فوزها في الآخرة كائن لا محالة لأنها مسلمة أو يهودية أو نصرانية أو صائبة مثلا، فالله يقول إن الفوز لا يكون بالجنسيات الدينية وإنما يكون بإيمان صحيح له سلطان على النفس، وعمل يصلح به حال الناس، ولذلك نفى كون الأمر عند الله بحسب أماني المسلمين أو أماني أهل الكتاب، وأثبت كونه بالعمل الصالح مع الإيمان الصحيح.
أخرج ابن جرير وابن حاتم عن السدي قال : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم : ديننا قبل دينكم، ، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا : وقالت النصارى مثل ذلك. فقال المسلمون كتابنا بعد كتابكم ونبينا صلى الله عليه وسلم بعد نبيكم، وديننا بعد دينكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا فأنزل الله تعالى ﴿ ليس بأمانيكم ﴾ الآية. وروي نحوه عن مسروق وقتادة. وأخرج البخاري في التاريخ من حديث أنس مرفوعا " ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا نحن نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. والحكمة في عناية الله تعالى بالنعي على المغترين بالانتساب إلى الدين أيا كان ظاهره، فإن هذا الغرور هو الذي صرفهم عن العمل به اكتفاء بالانتساب إليه وجعله جنسية فقط. وترك العمل لازم أو ملزوم لعدم الفقه في الدين، أي عدم فهم حكمه وأسراره، وتبع هذا في الأمم السابقة ترك النظر فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المغرور بما هو فيه لا ينظر فيما سواه نظرا صحيحا لا سيما إذا كان مخالفا له.
وذكر الأستاذ الإمام في تفسير هذه الآية مسألة أهل الفترة والخلاف المشهور فيها وهو أن جمهور أهل السنة يقول إنهم ناجون لأنه لا تكليف إلا بشرع وهؤلاء لم تبلغهم دعوة، ومن قال إن بالعقل يدرك الواجب والمحرم والاعتقاد الصحيح والباطل عدهم غير ناجين. وهذا رأى المعتزلة وجماعة من الحنفية، وجمهور الأشاعرة على أنه لا يمكن إدراك ذلك إلا بالشرع، ثم إن محل النظر في أهل الفترة من كان منهم كالعرب الذين كانوا يعتقدون نبوة أنبياء ولا يجدون لديهم شيئا من أحكام دينهم خالصا من الشوائب سالما من النزغات الفاسدة. وأما مثل اليهود فلا يصح أن يسموا أهل فترة فإنهم على نسيانهم حظا مما ذكروا به وتحريفهم بعض ما حفظوه قد بقي جوهر دينهم معروفا لم يغش أحكامه ما يمنع الاهتداء بها والله تعالى يقول ﴿ ٥ : ٤٣ وعندهم التوراة فيها حكم الله ﴾ وكذلك المسيحيون لا يسمون أهل فترة لأن عندهم في التوراة في ووصايا الأنبياء ما عند اليهود وزيادة مما حفظوا من وصايا المسيح وروح الدعوة موجود عندهم، ولكنهم لا يعملون بهذه الوصايا ولا يأخذون بتلك الأحكام، ولا عذر لهم يحول دون العقوبة. وأما الصابئون فإن كانوا فرقة من النصارى كما يظهر من الوفاق بينهما في كثير من التقاليد كالعمودية والاعتراف وتعظيم يوم الأحد فالأمر ظاهر أن حكمهم كحكمهم وإن كان الخلط عندهم أكثر، والبعد عن الأصل أشد، حتى إنهم اعتقدوا تأثير الكواكب، وأحاطت بهم البدع من كل جانب، على أنهم أقرب إلى روح المسيحية من النصارى فإن عندهم الزهد والتواضع اللذين يفضيان من كل كلمة تؤثر عن المسيح عليه السلام، والنصارى صاروا أشد أمم الأرض عتوا وطمعا وإسرافا في حظوظ الدنيا. ويقال إن الصابئة ملة مستقلة يؤمنون بكثير من الأنبياء المعروفين ولكن قد اختلط عليهم الأمر كما اختلط على الحنفاء من العرب إلا أن عندهم من التقاليد والأحكام ما لم يكن عند العرب، فإن كانوا أقرب إليهم فلهم حكمهم وإلا فهم كاليهود والنصارى يسألون عن العمل بدينهم بعد فهمه كما يجب حتى يأتيهم هدى آخر، كأن تبلغهم دعوة الإسلام فإن لم يفعلوا فهم مؤاخذون.
علمنا أن أهل الفترة هم الذين لم تبلغهم دعوة صحيحة تحرك إلى النظر أو بلغهم أن بعض الأنبياء بعثوا ولكن لم يصل إليهم شيء صحيح من شرائعهم، فهم يؤمنون بهم إيمانا إجماليا كالحنفاء من العرب الذين كانوا يؤمنون بإبراهيم وإسماعيل ولا يعرفون من دينهما شيئا خالصا كما تقدم آنفا. وحجة الأشاعرة على عدم مؤاخذتهم آيات كقوله تعالى ﴿ ١٧ : ١٥ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ وقوله ﴿ ٤. ١٦٥ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ وذهب كثير منهم إلى الاكتفاء ببلوغ دعوة أي نبي في ركني الدين الركينين وهما الإيمان بالله وباليوم الآخر، فمن بلغته وجب عليه الإيمان بهذين الأصلين، وإن لم يكن النبي مرسلا إليه.
وذهب جمهور الحنفية وكذلك المعتزلة إلى أن أصول الاعتقاد تدرك بالعقل فلا تتوقف المؤاخذة عليها على بلوغ دعوة رسول، وإنما يجيء الرسل مؤكدين لما يفهم العقل موضحين له ومبينين أمورا لا يستقل بإدراكها كأحوال الآخرة وكيفيات العبادة التي ترضي الله تعالى. وأولوا آية ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ بأن المراد بالتعذيب هو الاستئصال في الدنيا بإفناء الأمة أو استدلالها، والذهاب باستقلالها، وينافيه ما يدل استعمال " وما كنا " من إرادة نفي الشأن الدال على عموم السلب، ولهم في كتبهم أدلة ومناقشات ليس هذا من مواضعها.
وعن الإمام الغزالي أن الناس في شأن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصناف ثلاثة – من لم يعلم بها بالمرة – أي كأهل أمريكا لذلك العهد – وهؤلاء ناجون حتما ( أي إن لم تكن بلغتهم دعوة أخ
أطمع الله تعالى بالآية السابقة بني إسرائيل في رحمته بعد ما قرعهم بالنذر التي تكاد توقع اليأس في قلوبهم، وبين لهم ولسائر الناس أن المنفذ إلى هذا الطمع بل الباب الذي يؤدي إلى هذا الرجاء هو الجمع بين الأمرين اللذين بعث لتقريرهما الأنبياء عليهم السلام وهما الإيمان الصحيح اليقيني والعمل الصالح، وإشراك غير بني إسرائيل في هذا الحكم لا يقضي بانتهاء السياق، بل لا يزال الكلام في بني إسرائيل، ولذلك عقب الأطماع بالتذكير ببعض الوقائع التي استحقوا فيها العقوبة فحالت دون وقوعها الرحمة فقال ﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ﴾ وهو العهد الذي أخذه عليهم وتقدم الكلام فيه، وأما قوله ﴿ ورفعنا فوقكم الطور ﴾ فقد ذكر المفسرون فيه قصة وهي أن الله تعالى ظلل بني إسرائيل بالطور وهو الجبل المعروف وخوفهم يرفعه فوقهم ليذعنوا ويؤمنوا. ثم اعترض عليه بعضهم بأنه إكراه على الإيمان وإلجاء إليه وذلك ينافي التكليف، وأجيب بأجوبة منها أن ما يفعل بالإكراه يعود اختياريا بعد زوال ما به الإكراه، ومنها أن مثل هذا الإلجاء والإكراه كان جائزا في الأمم السابقة، ويزيد من قال هذا أن نفي الإكراه في الدين خاص بالإسلام لقوله تعالى ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ وقوله ﴿ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾.
قال الأستاذ الإمام : لا حاجة لنا في فهم كتاب الله إلى غير ما يدل عليه بأسلوبه الفصيح فهو لا يحتاج في فهمه إلى إضافات ولا ملحقات، وقد ذكر لنا مسألة رفع الطور فوق بني إسرائيل ولم يقل إنه أراد بذلك الإكراه على الإيمان، وإنما حكى عنهم في آية أخرى أنهم ظنوا أنه واقع بهم فقد قال تعالى في سورة الأعراف ﴿ وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ﴾ والنتق الزعزعة والهز والجذب والنفض ونتق الشيء ينتقه وينتقه – من بابي ضرب ونصر – نتقا جذبه واقتلعه وقد يكون ذلك في الآية بضرب من الزلزال كما يدل عليه التعبير بالنتق وهو في الأصل بمعنى الزعزعة والنفض. والمفهوم من أخذ الميثاق أنهم قبلوا الإيمان وعاهدوا موسى عليه. فرفع الطور وظنهم أنه واقع بهم من الآيات التي رأوها بعد أخذ الميثاق كان لأجل أخذ ما أوتوه من الكتاب بقوة واجتهاد لأن رؤية الآيات تقوي الإيمان، وتحرك الشعور والوجدان، ولذلك خاطبهم عند رؤية تلك الآية بقوله ﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ أي تمسكوا به واعملوا بجد ونشاط، لا يلابس نفوسكم فيه ضعف، ولا يصحبها وهن ولا وهم، ثم قال ﴿ واذكروا ما فيه ﴾ أي بالمحافظة على العمل به، فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخا في النفس مستقرا عندها، ويؤثر عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه قال : يهتف العلم بالعمل. فإن أجابه وإلا ارتحل. وذلك أن العلم إنما يحضر في النفس مجملا غير سالم من إبهام وغموض، فإذا برز للوجود بالعمل صار تفصيليا جليا، ثم ينقلب النظري منه بالتكرار والمواظبة بديهيا ضروريا. وبذلك يثبت فلا ينسى. وأما النسيان فإنه حليف الكفر وإنه ليصل بالإنسان إلى حد يساوي فيه من لم تسبق له معرفة بالشيء قط لأنه لا أثر له في النفس ولا في الظاهر. ولا فرق بين من بلغته دعوة الهداية فسلم بها وقبلها ثم ترك العمل بها حتى نسيها، وبين من لم تبلغه البتة ومن بلغته على وجه غير مقنع فلم يؤمن – إلا بما تكون الحجة به على الأول أظهر، وكونه بالمؤاخذة أجدر، والثاني معذور عند الجماهير، وكذلك الثالث إذا استمر على النظر من غير تقصير، فعلى هذا تكون منزلة الناسي هي التي تلى منزلة الجاحد المعاند، وهو خليق بأن يحشر يوم القيامة أعمى عن طريق النجاة والسعادة، حتى إذا لقي ربه قال ﴿ ٢٠ : ١٢٤ رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾.
وأقول : إن في هذا لحجة على قراء القرآن الذين ليس لهم منه إلا التغني بألفاظه وأفئدتهم هواء لا أثر فيها للقرآن، وأعمالهم لا تنطبق على ما جاء به القرآن، وهذا شر نوعي الإنسان، وقد ضرب له أبو حامد الغزالي مثل عبيد أقطعهم سيدهم بستانا وكلفهم إصلاحه وعمارته، وكتب لهم كتابا يبين لهم فيه كيف يسيرون في هذا الإصلاح، وكيف تكون حياتهم فيه، ووعدهم على الإحسان بمكافأة وأجر فوق ما يستفيدونه من ثمرات البستان وغلاته، وتوعدهم على الإساءة في العمل بالعقوبة الشديدة وراء ما يفوتهم من خيرات البستان، وما يذوقون من مرارة سوء المعامل فيما بينهم، فكان حظهم من الكتاب تعظيم رقه وورقه، والتغني بلفظه، وتكرار تلاوته، بدون مبالاة بالأمر والنهي ولا اعتبار بالوعد والوعيد فيه، بل عاثوا في أرض البستان مفسدين فأهلكوا الحرث والنسل، فهل يكون حظ هؤلاء من الكتاب غير أنه حجة عليهم، وقاطع لألسنة العذر منهم ؟ ؟
أمرهم بالذكر الذي يثبت بالعمل، ووصله بذكر فائدته وهي إعداده النفس لتقوى الله عز وجل، فقال ﴿ لعلكم تتقون ﴾ فإن المواظبة على العمل بما يرشد إليه الكتاب تطبع في النفس ملكة مراقبة الله تعالى فتكون بها نقية نقية، راضية مرضية ( والعاقبة للتقوى ).
شايع الأستاذ الإمام المفسرين على أن رفع الطور كان آية كونية، أي أنه انتزع من الأرض وصار معلقا فوقهم في الهواء، وهذا هو المتبادر من الآية بمعونة السياق، وإن لم تكن ألفاظها نصا فيه، إذ الرفع والارتفاع هو جعل الشيء – أو أن يكون الشيء – رفيعا عاليا كما قال تعالى ﴿ فيها سرر مرفوعة ﴾ وقال ﴿ وفرش مرفوعة ﴾ فكل من السرر والفرش تكون مرفوعة وهي على الأرض. وقوله تعالى في آية الأعراف ﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ﴾ ليس نصا أيضا في كون الجبل رفع في الهواء. فأصل النتق في اللغة الزعزعة والزلزلة كما سبق. قال في حقيقة الأساس : نتق البعير الرحل زعزعه، ونتقت الزبد أخرجته بالمخض، ونتق الله الجبل رفعه مزعزعا فوقهم ا ه. والظلة كل ما أظلك سواء كان فوق رأسك أوفى جانبك وهو مرتفع له ظل، فيحتمل أنهم لما كانوا بجانب الطور رأوه منتوقا، أي مرتفعا مزعزعا فظنوا أن سيقع بهم، وينقض عليهم، ويجوز أن ذلك كان في أثر زلزال تزعزع له الجبل، وقد سبق القول ببطلان كون ذلك إرهابا للإكراه على قبول التوراة، وإذ صح هذا التأويل، لا يكون منكرا ارتفاع الجبل في الهواء مكذبا للقرآن.
أباح الله تعالى لبني إسرائيل العمل في ستة أيام من الأسبوع وحظر عليهم العمل في يوم واحد وهو يوم السبب، وفرض عليهم في هذا اليوم الاجتهاد في الأعمال الدينية إحياء للشعور الديني في قلوبهم، وإضعافا لشرههم في جمع الحطام وحبهم للدنيا، فتجاوز طائفة منهم حدود الله في السبت واعتدوها، فكان جزاؤهم على ذلك جزاء من لم يرض نفسه بآداب الدين، وجزاء مثله هو الخروج من محيط الكمال الإنساني، والرتوع في مراتع البهيمية، كالقرد في نزواته، والخنزير في شهواته، وقد سجل الله تعالى عليهم ذلك بحكم سنة الفطرة، والنواميس التي أقام بها نظام الخليقة، وذلك قوله عز وجل ﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ﴾ أي وأقسم أنكم لقد علمتم نبأ الذين تجاوزوا حدود حكم الكتاب في ترك العمل الدنيوي يوم السبت – وسيأتي نبؤهم مفصلا في سورة الأعراف ﴿ فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال : ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى ﴿ ٦٢ : ٥ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ﴾ ومثل هذا قوله تعالى ﴿ ٥ : ٦٠ وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ﴾ والخسوء هو الطرد والصغار. والأمر للتكوين، أي فكانوا بحسب سنة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس : والمعنى أن هذا الاعتداء الصريح لحدود هذه الفريضة قد جرأهم على المعاصي والمنكرات بلا خجل ولا حياء حتى صار كرام الناس يحتقرونهم ولا يرونهم أهلا لمجالستهم ومعاملتهم.
وذهب جمهور المفسرين : إلى أن تلك القرية أيلة وقيل طبرية أو مدين وقالوا إن ذلك كان في زمن داود عليه السلام، والقرآن لم يعين المكان ولا الزمان، والعبرة المقصودة لا تتوقف على تعيين هذه الجزئيات، فالحجة فيما ذكر قائمة على بني إسرائيل ومبينة أن مجاحدتهم ومعاندتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ليست بدعا من أمرهم. ثم أنها عبرة بينة لكل من يفسق عن أمر ربه فيتخذ إلهه هواه ويعيش عيشة بهيمية.
وذهب الجمهور أيضا إلى أن معنى ( كونوا قردة ) إن صورهم مسخت فكانوا قردة حقيقيين، والآية ليست نصا فيه ولم يبق إلا النقل ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة لأنهم يعلمون بالمشاهدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سننه في خلقه، وإنما العبرة الكبرى في العلم بأن من سنن الله تعالى في الذين خلوا من قبل : أن من يفسق عن أمر ربه، ويتنكب الصراط الذي شرعه له، ينزل عن مرتبة الإنسان ويلتحق بعجماوات الحيوان.
أي جعلنا هذه العقوبة نكالا وهو ما يفعل بشخص من إيذاء وإهانة ليعتبر غيره أي عبرة ينكل من يعلم بها أي يمتنع من اعتداء الحدود، ومن هذه المادة ( النكل ) للقيد أو هو أصلها ومنها النكول عن اليمين في الشرع وهو الامتناع، وما بين يديها يراد به من وقعت في زمنهم كما يراد بما خلفها من بعدهم إلى ما شاء لله تعالى.
وأما كونها موعظة للمتقين فهو أن المتقي يتعظ بها في نفسه بالتباعد عن الحدود التي يخشى اعتداؤها ﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها ﴾ ويعظ بها غيره أيضا ولا يتم كون تلك العقوبة نكالا للمتقدمين والمتأخرين وموعظة للمتقين، إلا إذا كانت جارية على السنة المطردة في تربية الأمم وتهذيب الطباع، وذلك ما هو معروف لأهل البصائر، ومشهور عند عرفاء الأوائل والأواخر [ وحديث المسخ والتحويل وأن أولئك قد تحولوا من أناس إلى قردة وخنازير إنما قصد به التهويل والإغراب فاختيار ما قاله مجاهد هو الأوفق بالعبرة والأجدر بتحريك الفكرة ].
وأقول : إنه ليس في تفسير الآية حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم نص فيه على كون ما ذكر مسخا لصورهم وأجسادهم. وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره قول مجاهد في أن المسخ معنوي وقول الآخرين إنه صوري، ثم قال والصحيح أنه معنوي صوري. فما مراده بذلك ؟
هذه القصة مما أراد الله تعالى أن يقصه علينا من أخبار بني إسرائيل في قسوتهم وفسوقهم للاعتبار بها. ومن وجوه الاعتبار أن التنطع في الدين والإحفاء في السؤال، مما يقتضي التشديد في الأحكام، فمن شدد شدّد عليه، ولذلك نهى الله تعالى هذه الأمة عن كثرة السؤال بقوله ﴿ ٥ : ١٠١ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسوءكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم. عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ﴾ وفي الحديث الصحيح " ويكره لكن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال " وقد امتثل سلفنا الأمر فلم يشددوا على أنفسهم فكان الدين عندهم فطريا ساذجا وحنيفيا سمحا، ولكن من خلفنا من عمد إلى ما عفا الله عنه فاستخرج له أحكاما استنبطها باجتهاده، وأكثروا منها حتى صار الدين حملا ثقيلا على الأمة فسئمته وملت، وألقته وتخلت.
قال الأستاذ الإمام : جاءت هذه الآيات على أسلوب القرآن الخاص الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، فهو في هذه القصص لم يلتزم ترتيب المؤرخين ولا طريقة الكتاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع حتى في القصة الواحدة. وإنما ينسق الكلام فيه بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر إلى النظر تحريكا، ويهز النفس للاعتبار هزا. وقد راعى في قصص بني إسرائيل أنواع المنن التي منحهم الله تعالى إياها، وضروب الكفران والفسوق التي قابلوها بها، وما كان في أثر كل ذلك من تأديبهم بالعقوبات، وابتلائهم بالحسنات والسيئات، وكيف كانوا يحدثون في أثر كل عقوبة توبة، ويحدث لهم في أثر كل توبة نعمة، ثم يعودون إلى بطرهم، وينقلبون إلى كفرهم.
كان في الآيات السابقة يذكر النعمة فالمخالفة فالعقوبة فالتوبة فالرحمة كالتفضيل على العالمين، وأخذ الميثاق، والإنجاء من آل فرعون، وما كان في أثر ذلك على ما أشرنا الآن وأجملنا، وأوضحنا من قبل وفصلنا. وفي هذه القصة اختلف النسق فذكر المخالفة بعد في قوله ﴿ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ﴾ ثم المنة في الخلاص منها في قوله ﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك ذكر وسيلة الخلاص وهي ذبح البقرة بما يعجب السامع ويشوقه إلى معرفة ما وراءها [ حيث لم يسبق في الكلام عهد لسبب أمر موسى لقومه أن يذبحوا بقرة، فالمفاجأة بحكاية ما كان من ذلك الأمر والجدال الذي وقع فيه يثير الشوق في الأنفس إلى معرفة السبب فتتوجه الفكرة بأجمعها إلى تلقيه ] إذ الحكمة في أمر الله أمة من الأمم بذبح بقرة خفيّة وجديرة بأن يعجب منها السامع ويحرص على طلبها. لا سيما إذا لم يعتد فهم الأساليب الأخاذة بالنفوس الهازة للقلوب. وأقول : قد جرى على هذا الأسلوب كتاب القصص المخترعة والأساطير التي يسمونها الروايات في هذا العصر.
يقول أهل الشبهات في القرآن : إن بني إسرائيل لا يعرفون هذه القصة إذ لا وجود لها في التوراة فمن أين جاء بها القرآن ؟ ونقول : إن القرآن جاء بها من عند الله الذي يقول في بني إسرائيل المتأخرين : إنهم نسوا حظا مما ذكروا به وأنهم لم يؤتوا إلا نصيبا من الكتاب. على أن هذا الحكم منصوص في التوراة وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي، ثم يقولون إن أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل : ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة أو كانت هي السبب فيه. وما هذه بالقصة الوحيدة التي صححها القرآن، ولا هذا الحكم بالحكم الأول الذي حرفوه أو أضاعوه وأظهره الله تعالى.
( قال الأستاذ ) وقد قلت لكم غير مرة إنه يجب الاحتراس في قصص بني إسرائيل وغيرهم من الأنبياء وعدم الثقة بما زاد على القرآن من أقوال المؤرخين والمفسرين. فالمشتغلون بتحرير التاريخ والعلم اليوم يقولون معنا إنه لا يوثق بشيء من تاريخ تلك الأزمنة التي يسمونها أزمنة الظلمات إلا بعد التحري والبحث واستخراج الآثار فنحن نعذر المفسرين الذين حشوا كتب التفسير بالقصص التي لا يوثق بها لحسن قصدهم، ولكننا لا نعول على ذلك بل ننهى عنه ونقف عند نصوص القرآن لا نتعداها، وإنما نوضحها بما يوافقها إذا صحت روايته.
( وأقول ) إن ما أشار إليه الأستاذ من حكم التوراة المتعلق بقتل البقرة هو في أول الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنية الاشتراع ونصه :
( ١ ) إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله.
( ٢ ) يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل.
( ٣ ) فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير.
( ٤ ) وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي.
( ٥ ) ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لأنه إياهم اختار الأب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب، وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة.
( ٦ ) ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي.
( ٧ ) ويصرخون ويقولون : أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر.
( ٨ ) اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل. فيغفر لهم الدم ا هـ.
فعلم من هذا أن الأمر بذبح البقرة كان لفصل النزاع في واقعة قتل ويروون في قصته روايات منها أن القاتل كان أخ المقتول قتله لأجل الإرث وأنه اتهم أهل الحي بالدم وطالبهم به. ومنها أنه كان ابن أخيه. وغير ذلك مما لا حاجة إليه، وكانوا طلبوا من موسى الفصل في المسألة وبيان القاتل ولما أمرهم بذبح البقرة استغربوه لما فيه من المباينة لما يطلبون، والبعد بينه وبين ما يريدون، فذلك قوله تعالى ﴿ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا ﴾ أي سخرية يهزأ بنا، وهذا القول من سفههم وخفة أحلامهم وجهلهم بعظمة الله تعالى وما يجب أن يقابل به أمره من الاحترام والامتثال، وإن لم تظهر حكمته بادي الرأي، ولولا ذلك لامتثلوا وانتظروا النتيجة بعد ذلك. ولما كان في جوابهم هذا رمى لموسى عليه السلام بالسفه والجهالة ﴿ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ﴾ أي ألتجئ إلى الله وأعتصم بتأديبه إياي من الجهالة والهزء بالناس.
هذه القصة مما أراد الله تعالى أن يقصه علينا من أخبار بني إسرائيل في قسوتهم وفسوقهم للاعتبار بها. ومن وجوه الاعتبار أن التنطع في الدين والإحفاء في السؤال، مما يقتضي التشديد في الأحكام، فمن شدد شدّد عليه، ولذلك نهى الله تعالى هذه الأمة عن كثرة السؤال بقوله ﴿ ٥ : ١٠١ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسوءكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم. عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ﴾ وفي الحديث الصحيح " ويكره لكن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال " وقد امتثل سلفنا الأمر فلم يشددوا على أنفسهم فكان الدين عندهم فطريا ساذجا وحنيفيا سمحا، ولكن من خلفنا من عمد إلى ما عفا الله عنه فاستخرج له أحكاما استنبطها باجتهاده، وأكثروا منها حتى صار الدين حملا ثقيلا على الأمة فسئمته وملت، وألقته وتخلت.
قال الأستاذ الإمام : جاءت هذه الآيات على أسلوب القرآن الخاص الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، فهو في هذه القصص لم يلتزم ترتيب المؤرخين ولا طريقة الكتاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع حتى في القصة الواحدة. وإنما ينسق الكلام فيه بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر إلى النظر تحريكا، ويهز النفس للاعتبار هزا. وقد راعى في قصص بني إسرائيل أنواع المنن التي منحهم الله تعالى إياها، وضروب الكفران والفسوق التي قابلوها بها، وما كان في أثر كل ذلك من تأديبهم بالعقوبات، وابتلائهم بالحسنات والسيئات، وكيف كانوا يحدثون في أثر كل عقوبة توبة، ويحدث لهم في أثر كل توبة نعمة، ثم يعودون إلى بطرهم، وينقلبون إلى كفرهم.
كان في الآيات السابقة يذكر النعمة فالمخالفة فالعقوبة فالتوبة فالرحمة كالتفضيل على العالمين، وأخذ الميثاق، والإنجاء من آل فرعون، وما كان في أثر ذلك على ما أشرنا الآن وأجملنا، وأوضحنا من قبل وفصلنا. وفي هذه القصة اختلف النسق فذكر المخالفة بعد في قوله ﴿ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ﴾ ثم المنة في الخلاص منها في قوله ﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك ذكر وسيلة الخلاص وهي ذبح البقرة بما يعجب السامع ويشوقه إلى معرفة ما وراءها [ حيث لم يسبق في الكلام عهد لسبب أمر موسى لقومه أن يذبحوا بقرة، فالمفاجأة بحكاية ما كان من ذلك الأمر والجدال الذي وقع فيه يثير الشوق في الأنفس إلى معرفة السبب فتتوجه الفكرة بأجمعها إلى تلقيه ] إذ الحكمة في أمر الله أمة من الأمم بذبح بقرة خفيّة وجديرة بأن يعجب منها السامع ويحرص على طلبها. لا سيما إذا لم يعتد فهم الأساليب الأخاذة بالنفوس الهازة للقلوب. وأقول : قد جرى على هذا الأسلوب كتاب القصص المخترعة والأساطير التي يسمونها الروايات في هذا العصر.
يقول أهل الشبهات في القرآن : إن بني إسرائيل لا يعرفون هذه القصة إذ لا وجود لها في التوراة فمن أين جاء بها القرآن ؟ ونقول : إن القرآن جاء بها من عند الله الذي يقول في بني إسرائيل المتأخرين : إنهم نسوا حظا مما ذكروا به وأنهم لم يؤتوا إلا نصيبا من الكتاب. على أن هذا الحكم منصوص في التوراة وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي، ثم يقولون إن أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل : ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة أو كانت هي السبب فيه. وما هذه بالقصة الوحيدة التي صححها القرآن، ولا هذا الحكم بالحكم الأول الذي حرفوه أو أضاعوه وأظهره الله تعالى.
( قال الأستاذ ) وقد قلت لكم غير مرة إنه يجب الاحتراس في قصص بني إسرائيل وغيرهم من الأنبياء وعدم الثقة بما زاد على القرآن من أقوال المؤرخين والمفسرين. فالمشتغلون بتحرير التاريخ والعلم اليوم يقولون معنا إنه لا يوثق بشيء من تاريخ تلك الأزمنة التي يسمونها أزمنة الظلمات إلا بعد التحري والبحث واستخراج الآثار فنحن نعذر المفسرين الذين حشوا كتب التفسير بالقصص التي لا يوثق بها لحسن قصدهم، ولكننا لا نعول على ذلك بل ننهى عنه ونقف عند نصوص القرآن لا نتعداها، وإنما نوضحها بما يوافقها إذا صحت روايته.
( وأقول ) إن ما أشار إليه الأستاذ من حكم التوراة المتعلق بقتل البقرة هو في أول الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنية الاشتراع ونصه :
( ١ ) إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله.
( ٢ ) يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل.
( ٣ ) فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير.
( ٤ ) وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي.
( ٥ ) ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لأنه إياهم اختار الأب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب، وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة.
( ٦ ) ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي.
( ٧ ) ويصرخون ويقولون : أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر.
( ٨ ) اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل. فيغفر لهم الدم ا هـ.
﴿ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ﴾ أي ما الصفات المميزة لها ؟ قال الأستاذ الإمام : إن السؤال بما هي ليس جاريا هنا على اصطلاح علماء المنطق من جعله سؤالا عن حقيقة الماهية، وإنما هو على حسب أسلوب اللغة، والعرب يسألون بما عن الصفات التي تميز الشيء في الجملة كالذي ذكره في الجواب.
﴿ قال إنها بقرة لا فارض ﴾ أي غير مسنة انقطعت ولادتها ﴿ ولا بكر ﴾ لم تلد بالمرة والمراد بها التي لم تلد كثيرا ﴿ عوان بين ذلك ﴾ العوان النصف في السن من النساء والبهائم أي هي بين ما ذكر من السنين الفارض والبكر فالمشار إليه بكلمة ذلك متعدد في المعنى وإن كان لفظه منفردا. و " بين " من الكلم التي تختص بالمتعدد تقول جلست بينهم أو بينهما ولا تقول جلست بينه واستعمال الإشارة والضمير المفردين فيما هو بمعنى الجمع على تقدير التعبير عنه بالمذكور أو " ما ذكر " كثير في كلامهم ومنه قول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق*** كأنه في الجسم توليع البهق
ذكر هذا الوصف المميز للبقرة في الجملة وقال ﴿ فافعلوا ما تؤمرون ﴾
هذه القصة مما أراد الله تعالى أن يقصه علينا من أخبار بني إسرائيل في قسوتهم وفسوقهم للاعتبار بها. ومن وجوه الاعتبار أن التنطع في الدين والإحفاء في السؤال، مما يقتضي التشديد في الأحكام، فمن شدد شدّد عليه، ولذلك نهى الله تعالى هذه الأمة عن كثرة السؤال بقوله ﴿ ٥ : ١٠١ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسوءكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم. عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ﴾ وفي الحديث الصحيح " ويكره لكن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال " وقد امتثل سلفنا الأمر فلم يشددوا على أنفسهم فكان الدين عندهم فطريا ساذجا وحنيفيا سمحا، ولكن من خلفنا من عمد إلى ما عفا الله عنه فاستخرج له أحكاما استنبطها باجتهاده، وأكثروا منها حتى صار الدين حملا ثقيلا على الأمة فسئمته وملت، وألقته وتخلت.
قال الأستاذ الإمام : جاءت هذه الآيات على أسلوب القرآن الخاص الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، فهو في هذه القصص لم يلتزم ترتيب المؤرخين ولا طريقة الكتاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع حتى في القصة الواحدة. وإنما ينسق الكلام فيه بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر إلى النظر تحريكا، ويهز النفس للاعتبار هزا. وقد راعى في قصص بني إسرائيل أنواع المنن التي منحهم الله تعالى إياها، وضروب الكفران والفسوق التي قابلوها بها، وما كان في أثر كل ذلك من تأديبهم بالعقوبات، وابتلائهم بالحسنات والسيئات، وكيف كانوا يحدثون في أثر كل عقوبة توبة، ويحدث لهم في أثر كل توبة نعمة، ثم يعودون إلى بطرهم، وينقلبون إلى كفرهم.
كان في الآيات السابقة يذكر النعمة فالمخالفة فالعقوبة فالتوبة فالرحمة كالتفضيل على العالمين، وأخذ الميثاق، والإنجاء من آل فرعون، وما كان في أثر ذلك على ما أشرنا الآن وأجملنا، وأوضحنا من قبل وفصلنا. وفي هذه القصة اختلف النسق فذكر المخالفة بعد في قوله ﴿ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ﴾ ثم المنة في الخلاص منها في قوله ﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك ذكر وسيلة الخلاص وهي ذبح البقرة بما يعجب السامع ويشوقه إلى معرفة ما وراءها [ حيث لم يسبق في الكلام عهد لسبب أمر موسى لقومه أن يذبحوا بقرة، فالمفاجأة بحكاية ما كان من ذلك الأمر والجدال الذي وقع فيه يثير الشوق في الأنفس إلى معرفة السبب فتتوجه الفكرة بأجمعها إلى تلقيه ] إذ الحكمة في أمر الله أمة من الأمم بذبح بقرة خفيّة وجديرة بأن يعجب منها السامع ويحرص على طلبها. لا سيما إذا لم يعتد فهم الأساليب الأخاذة بالنفوس الهازة للقلوب. وأقول : قد جرى على هذا الأسلوب كتاب القصص المخترعة والأساطير التي يسمونها الروايات في هذا العصر.
يقول أهل الشبهات في القرآن : إن بني إسرائيل لا يعرفون هذه القصة إذ لا وجود لها في التوراة فمن أين جاء بها القرآن ؟ ونقول : إن القرآن جاء بها من عند الله الذي يقول في بني إسرائيل المتأخرين : إنهم نسوا حظا مما ذكروا به وأنهم لم يؤتوا إلا نصيبا من الكتاب. على أن هذا الحكم منصوص في التوراة وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي، ثم يقولون إن أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل : ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة أو كانت هي السبب فيه. وما هذه بالقصة الوحيدة التي صححها القرآن، ولا هذا الحكم بالحكم الأول الذي حرفوه أو أضاعوه وأظهره الله تعالى.
( قال الأستاذ ) وقد قلت لكم غير مرة إنه يجب الاحتراس في قصص بني إسرائيل وغيرهم من الأنبياء وعدم الثقة بما زاد على القرآن من أقوال المؤرخين والمفسرين. فالمشتغلون بتحرير التاريخ والعلم اليوم يقولون معنا إنه لا يوثق بشيء من تاريخ تلك الأزمنة التي يسمونها أزمنة الظلمات إلا بعد التحري والبحث واستخراج الآثار فنحن نعذر المفسرين الذين حشوا كتب التفسير بالقصص التي لا يوثق بها لحسن قصدهم، ولكننا لا نعول على ذلك بل ننهى عنه ونقف عند نصوص القرآن لا نتعداها، وإنما نوضحها بما يوافقها إذا صحت روايته.
( وأقول ) إن ما أشار إليه الأستاذ من حكم التوراة المتعلق بقتل البقرة هو في أول الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنية الاشتراع ونصه :
( ١ ) إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله.
( ٢ ) يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل.
( ٣ ) فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير.
( ٤ ) وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي.
( ٥ ) ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لأنه إياهم اختار الأب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب، وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة.
( ٦ ) ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي.
( ٧ ) ويصرخون ويقولون : أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر.
( ٨ ) اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل. فيغفر لهم الدم ا هـ.
وكان يجب عليهم الاكتفاء به والمبادرة بعده للامتثال ولكنهم أبوا إلا تنطعا واستقصاء في السؤال ﴿ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ﴾.
الفاقع الشديد الصفرة في صفاء بحيث لا يخالطه لون آخر، وبعض أهل اللغة لا يخصه بالأصفر بل يجعله وصفا لكل لون صاف.
هذه القصة مما أراد الله تعالى أن يقصه علينا من أخبار بني إسرائيل في قسوتهم وفسوقهم للاعتبار بها. ومن وجوه الاعتبار أن التنطع في الدين والإحفاء في السؤال، مما يقتضي التشديد في الأحكام، فمن شدد شدّد عليه، ولذلك نهى الله تعالى هذه الأمة عن كثرة السؤال بقوله ﴿ ٥ : ١٠١ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسوءكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم. عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ﴾ وفي الحديث الصحيح " ويكره لكن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال " وقد امتثل سلفنا الأمر فلم يشددوا على أنفسهم فكان الدين عندهم فطريا ساذجا وحنيفيا سمحا، ولكن من خلفنا من عمد إلى ما عفا الله عنه فاستخرج له أحكاما استنبطها باجتهاده، وأكثروا منها حتى صار الدين حملا ثقيلا على الأمة فسئمته وملت، وألقته وتخلت.
قال الأستاذ الإمام : جاءت هذه الآيات على أسلوب القرآن الخاص الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، فهو في هذه القصص لم يلتزم ترتيب المؤرخين ولا طريقة الكتاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع حتى في القصة الواحدة. وإنما ينسق الكلام فيه بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر إلى النظر تحريكا، ويهز النفس للاعتبار هزا. وقد راعى في قصص بني إسرائيل أنواع المنن التي منحهم الله تعالى إياها، وضروب الكفران والفسوق التي قابلوها بها، وما كان في أثر كل ذلك من تأديبهم بالعقوبات، وابتلائهم بالحسنات والسيئات، وكيف كانوا يحدثون في أثر كل عقوبة توبة، ويحدث لهم في أثر كل توبة نعمة، ثم يعودون إلى بطرهم، وينقلبون إلى كفرهم.
كان في الآيات السابقة يذكر النعمة فالمخالفة فالعقوبة فالتوبة فالرحمة كالتفضيل على العالمين، وأخذ الميثاق، والإنجاء من آل فرعون، وما كان في أثر ذلك على ما أشرنا الآن وأجملنا، وأوضحنا من قبل وفصلنا. وفي هذه القصة اختلف النسق فذكر المخالفة بعد في قوله ﴿ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ﴾ ثم المنة في الخلاص منها في قوله ﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك ذكر وسيلة الخلاص وهي ذبح البقرة بما يعجب السامع ويشوقه إلى معرفة ما وراءها [ حيث لم يسبق في الكلام عهد لسبب أمر موسى لقومه أن يذبحوا بقرة، فالمفاجأة بحكاية ما كان من ذلك الأمر والجدال الذي وقع فيه يثير الشوق في الأنفس إلى معرفة السبب فتتوجه الفكرة بأجمعها إلى تلقيه ] إذ الحكمة في أمر الله أمة من الأمم بذبح بقرة خفيّة وجديرة بأن يعجب منها السامع ويحرص على طلبها. لا سيما إذا لم يعتد فهم الأساليب الأخاذة بالنفوس الهازة للقلوب. وأقول : قد جرى على هذا الأسلوب كتاب القصص المخترعة والأساطير التي يسمونها الروايات في هذا العصر.
يقول أهل الشبهات في القرآن : إن بني إسرائيل لا يعرفون هذه القصة إذ لا وجود لها في التوراة فمن أين جاء بها القرآن ؟ ونقول : إن القرآن جاء بها من عند الله الذي يقول في بني إسرائيل المتأخرين : إنهم نسوا حظا مما ذكروا به وأنهم لم يؤتوا إلا نصيبا من الكتاب. على أن هذا الحكم منصوص في التوراة وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي، ثم يقولون إن أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل : ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة أو كانت هي السبب فيه. وما هذه بالقصة الوحيدة التي صححها القرآن، ولا هذا الحكم بالحكم الأول الذي حرفوه أو أضاعوه وأظهره الله تعالى.
( قال الأستاذ ) وقد قلت لكم غير مرة إنه يجب الاحتراس في قصص بني إسرائيل وغيرهم من الأنبياء وعدم الثقة بما زاد على القرآن من أقوال المؤرخين والمفسرين. فالمشتغلون بتحرير التاريخ والعلم اليوم يقولون معنا إنه لا يوثق بشيء من تاريخ تلك الأزمنة التي يسمونها أزمنة الظلمات إلا بعد التحري والبحث واستخراج الآثار فنحن نعذر المفسرين الذين حشوا كتب التفسير بالقصص التي لا يوثق بها لحسن قصدهم، ولكننا لا نعول على ذلك بل ننهى عنه ونقف عند نصوص القرآن لا نتعداها، وإنما نوضحها بما يوافقها إذا صحت روايته.
( وأقول ) إن ما أشار إليه الأستاذ من حكم التوراة المتعلق بقتل البقرة هو في أول الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنية الاشتراع ونصه :
( ١ ) إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله.
( ٢ ) يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل.
( ٣ ) فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير.
( ٤ ) وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي.
( ٥ ) ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لأنه إياهم اختار الأب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب، وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة.
( ٦ ) ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي.
( ٧ ) ويصرخون ويقولون : أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر.
( ٨ ) اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل. فيغفر لهم الدم ا هـ.
وكان يجب أن يكتفوا بهذه المميزات ولكنهم زادوا تنطعا إذ ﴿ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ﴾ وقد أرادوا بهذا السؤال زيادة التمييز ككونها عاملة أو سائمة.
هذه القصة مما أراد الله تعالى أن يقصه علينا من أخبار بني إسرائيل في قسوتهم وفسوقهم للاعتبار بها. ومن وجوه الاعتبار أن التنطع في الدين والإحفاء في السؤال، مما يقتضي التشديد في الأحكام، فمن شدد شدّد عليه، ولذلك نهى الله تعالى هذه الأمة عن كثرة السؤال بقوله ﴿ ٥ : ١٠١ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسوءكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم. عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ﴾ وفي الحديث الصحيح " ويكره لكن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال " وقد امتثل سلفنا الأمر فلم يشددوا على أنفسهم فكان الدين عندهم فطريا ساذجا وحنيفيا سمحا، ولكن من خلفنا من عمد إلى ما عفا الله عنه فاستخرج له أحكاما استنبطها باجتهاده، وأكثروا منها حتى صار الدين حملا ثقيلا على الأمة فسئمته وملت، وألقته وتخلت.
قال الأستاذ الإمام : جاءت هذه الآيات على أسلوب القرآن الخاص الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، فهو في هذه القصص لم يلتزم ترتيب المؤرخين ولا طريقة الكتاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع حتى في القصة الواحدة. وإنما ينسق الكلام فيه بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر إلى النظر تحريكا، ويهز النفس للاعتبار هزا. وقد راعى في قصص بني إسرائيل أنواع المنن التي منحهم الله تعالى إياها، وضروب الكفران والفسوق التي قابلوها بها، وما كان في أثر كل ذلك من تأديبهم بالعقوبات، وابتلائهم بالحسنات والسيئات، وكيف كانوا يحدثون في أثر كل عقوبة توبة، ويحدث لهم في أثر كل توبة نعمة، ثم يعودون إلى بطرهم، وينقلبون إلى كفرهم.
كان في الآيات السابقة يذكر النعمة فالمخالفة فالعقوبة فالتوبة فالرحمة كالتفضيل على العالمين، وأخذ الميثاق، والإنجاء من آل فرعون، وما كان في أثر ذلك على ما أشرنا الآن وأجملنا، وأوضحنا من قبل وفصلنا. وفي هذه القصة اختلف النسق فذكر المخالفة بعد في قوله ﴿ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ﴾ ثم المنة في الخلاص منها في قوله ﴿ فقلنا اضربوه ببعضها ﴾ الخ وقدم على ذلك ذكر وسيلة الخلاص وهي ذبح البقرة بما يعجب السامع ويشوقه إلى معرفة ما وراءها [ حيث لم يسبق في الكلام عهد لسبب أمر موسى لقومه أن يذبحوا بقرة، فالمفاجأة بحكاية ما كان من ذلك الأمر والجدال الذي وقع فيه يثير الشوق في الأنفس إلى معرفة السبب فتتوجه الفكرة بأجمعها إلى تلقيه ] إذ الحكمة في أمر الله أمة من الأمم بذبح بقرة خفيّة وجديرة بأن يعجب منها السامع ويحرص على طلبها. لا سيما إذا لم يعتد فهم الأساليب الأخاذة بالنفوس الهازة للقلوب. وأقول : قد جرى على هذا الأسلوب كتاب القصص المخترعة والأساطير التي يسمونها الروايات في هذا العصر.
يقول أهل الشبهات في القرآن : إن بني إسرائيل لا يعرفون هذه القصة إذ لا وجود لها في التوراة فمن أين جاء بها القرآن ؟ ونقول : إن القرآن جاء بها من عند الله الذي يقول في بني إسرائيل المتأخرين : إنهم نسوا حظا مما ذكروا به وأنهم لم يؤتوا إلا نصيبا من الكتاب. على أن هذا الحكم منصوص في التوراة وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي، ثم يقولون إن أيدينا لم تسفك هذا الدم. اغفر لشعبك إسرائيل : ويتمون دعوات يبرأ بها من يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة أو كانت هي السبب فيه. وما هذه بالقصة الوحيدة التي صححها القرآن، ولا هذا الحكم بالحكم الأول الذي حرفوه أو أضاعوه وأظهره الله تعالى.
( قال الأستاذ ) وقد قلت لكم غير مرة إنه يجب الاحتراس في قصص بني إسرائيل وغيرهم من الأنبياء وعدم الثقة بما زاد على القرآن من أقوال المؤرخين والمفسرين. فالمشتغلون بتحرير التاريخ والعلم اليوم يقولون معنا إنه لا يوثق بشيء من تاريخ تلك الأزمنة التي يسمونها أزمنة الظلمات إلا بعد التحري والبحث واستخراج الآثار فنحن نعذر المفسرين الذين حشوا كتب التفسير بالقصص التي لا يوثق بها لحسن قصدهم، ولكننا لا نعول على ذلك بل ننهى عنه ونقف عند نصوص القرآن لا نتعداها، وإنما نوضحها بما يوافقها إذا صحت روايته.
( وأقول ) إن ما أشار إليه الأستاذ من حكم التوراة المتعلق بقتل البقرة هو في أول الفصل الحادي والعشرين من سفر تثنية الاشتراع ونصه :
( ١ ) إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله.
( ٢ ) يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل.
( ٣ ) فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير.
( ٤ ) وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي.
( ٥ ) ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لأنه إياهم اختار الأب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب، وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة.
( ٦ ) ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي.
( ٧ ) ويصرخون ويقولون : أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر.
( ٨ ) اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل. فيغفر لهم الدم ا هـ.
﴿ قال إنه يقول إنها بقرة ﴾ سائمة ﴿ لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ﴾ أي غير مذللة بالعمل في الحراثة ولا في السقي.
﴿ مسلمة ﴾ من العيوب أو من سائر الأعمال ﴿ لاشية فيها ﴾ أي ليس فيها لون آخر غير الصفرة الفاقعة. والشيه مصدر كالعدة من وشى الثوب يشيه إذا جعل فيه خطوطا من غير لونه بنحو تطريز. ولما استوفى جميع المميزات والمشخصات ولم يروا سبيلا إلى سؤال آخر.
﴿ قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون ﴾ أي وما قاربوا أن يذبحوها إلا بعد أن انتهت أسئلتهم، وانقطع ما كان من تنطعهم وتعنتهم. روى ابن جرير في التفسير بسند صحيح عن ابن عباس موقوفا " لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم " وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا مرسلا : وهاهنا يذكر المفسرون قصة في حكمة هذا التشديد وهو المصير إلى بقرة معينة لشخص معين كان بارا بوالدته وقد يكون هذا صحيحا غير أنه لا داعي إليه في التفسير وبيان المعنى. وقد يشتبه بعض الناس فيما ذكر بأن أحكام الله تعالى لا تكون تابعة لأفعال الناس العارضة ويرد هذه الشبهة أن التكليف كثيرا ما يكون عقوبة لأنه تربية للناس. وقد وردت الأسئلة والأجوبة في هذه القصة مفصولة غير موصولة بالفاء وذلك ما يقتضيه الأسلوب البليغ فقد تقرر في البلاغة أن القول إذا أشعر بسؤال كان ما يأتي بعده مما يصح أن يكون جوابا للسؤال المقدر مفصولا عما قبله، وقوله ﴿ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴾ يشعر بسؤال كأنه قيل ماذا كان منهم بعد الأمر فأجيب عنه بقوله ﴿ قالوا أتتخذنا هزوا ﴾ وهذا يشعر بسؤال أيضا كأنه قيل ماذا قال موسى إذ قالوا ذلك فأجاب ﴿ قال أعوذ بالله ﴾ الخ وهكذا ورد غيرها من المراجعات في التنزيل كما ترى في قصة موسى وفرعون.
هذا هو أول القصة المحتوية على المخالفة على ما أشرنا إليه وهي القتل ثم التنازع في القاتل ثم تشريع الحكم لكشف الحقيقة بذبح البقرة وما كان من إلحاحهم في السؤال على ما سبق.
فقوله تعالى ﴿ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ﴾ أسند فيه القتل إلى الأمة وإن كان القاتل واحدا باعتبار ما تقدم من كونها في مجموعها وتكافلها كالشخص الواحد. والتدارؤ تفاعل من الدرء وهو الدفع فمعناه التدافع وهو يدل على أنه كان خصام واتهام، وكان كل يدرأ عن نفسه ويدعى البراءة ويتهم غيره، وكان للقاتلين والعارفين بهم حظوظ وأهواء كتموا فيها الحقيقة ولذلك قال تعالى بعد التذكير بالجريمة ﴿ والله مخرج ما كنتم تكتمون ﴾ من الإيقاع بقوم برآء تتهمونهم بالقتل لإخفاء القاتل لأنه لا يخفى عليه مكركم.
هذا هو أول القصة المحتوية على المخالفة على ما أشرنا إليه وهي القتل ثم التنازع في القاتل ثم تشريع الحكم لكشف الحقيقة بذبح البقرة وما كان من إلحاحهم في السؤال على ما سبق.
وأما قوله ﴿ فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ﴾ فهو بيان لإخراج ما يكتمون. ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة. قيل إن المراد اضربوا المقتول بلسانها وقيل بفخذها وقيل بذنبها... وقالوا إنهم ضربوه فعادت إليه الحياة وقال : قتلني أخي أو ابن أخي فلان الخ ما قالوه ؛ والآية ليست نصا في مجمله فكيف بتفصيله. والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية. ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس أي يحييها بمثل هذه الأحكام. وهذا الإحياء على حد قوله تعالى ﴿ ٥ : ٣٢ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾ وقوله ﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ فالإحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين.
ثم قال ﴿ ويريكم آياته ﴾ بما يفصل بها في الخصومات، ويزيل من أسباب الفتن والعداوات، فهو كقوله تعالى ﴿ ٤ : ٠٥١ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ﴾ وأكثر ما يستعمل مثل هذا التعبير في آيات الله في خلقه الدالة على صدق رسله. وليس عندي شيء عن شيخنا في تفسير هذه الجملة ولكنه قال في تعليلها ما يرجح القول الأول وهو ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ أي تفقهون أسرار الأحكام وفائدة الخضوع للشريعة، فلا تتوهمون أن ما وقع مختص بهذه الواقعة في هذا الوقت، بل يجب أن تتلقوا أمر الله في كل وقت بالقبول من غير تعنت.
﴿ ( ٧٤ ) ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء إن منها لما يهبط من خشية الله. وما الله بغافل عما تعملون ﴾.
( أقول ) وصفهم الله تعالى بأنه قد طرأ عليهم بعد رؤية تلك الآيات ما أزال أثرها من قلوبهم، وذهب بعبرتها من عقولهم، فقال ﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ﴾ فالعطف بثم يفيد أن الأولين منهم قد خشعت قلوبهم لما رأوا في زمن موسى عليه السلام ما رأوا ثم خلف من بعدهم خلف كان أمر قسوتها ما وصفه عز وجل. والقسوة الصلابة وهي من صفات الأجسام. ووصف القلوب بالقسوة مجاز تشبيه مما يسمونه الاستعارة بالكناية، ويصح في " أو " الترديد والتشكيك وهو بالنسبة إلى المخاطبين لا إلى المتكلم باعتبار ما يعهد في التخاطب العربي كأن عربيا يحدث آخر ويقول له : إن هذه القلوب في قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها. ويصح فيها التقسيم أي إن القسوة عمت قلوبكم فأقلها قسوة يشبه الحجر الصلد، ومنها ما هو أشد منه قسوة، وأظهر منهما أن تكون للإضراب على طريقة المبالغة، أي بل هي أشد قسوة من الحجارة، إذ لا شعور فيها يأتي بخير، ولا عاطفة تفيض منها بعبرة، والحجارة ليست كذلك، لأن منها ما يفيض بالخيرات، ومنها ما يكون موضع ظهور آثار القدرة الإلهية في الجمادات.
وصف الحجارة بالثلاث الصفات الآتية بعد أن شبه القلوب بها في الصلابة المطلقة، وفرق بين القلوب وبينها بالإضراب والانتقال إلى أن القلوب أشد صلابة، وأراد أن يبين بهذه الصفات وجه ضعف الصلابة في الحجارة وشدتها في القلوب مكان الكلام يشبه أن يكون عذرا عن الحجارة دون القلوب، والمراد بالقلوب ما اعتبرت عنوانا له وهو الوجدان والعقل، وأكثر ما تستعمل في الأول لأنه سائق الإقناع والإذعان، ويطلق لفظ القلب على النفس الناطقة لأن من شأن القلب أن يتأثر مما يتأثر منه الوجدان أو العقل أو الروح مطلقا. وفي الكلام من المبالغة أن هذه القلوب فقدت خاصة التأثر والانفعال بما يرد عليها من المواعظ والآيات التي هي من خواص الروح الإنساني حتى كأن أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى دركة الجماد كالحجارة، بل نزلوا عن دركة الحجارة أيضا، وذلك ما أفاده قوله تعالى ﴿ وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله ﴾ التفجر تفعل من الفجر وهو الشق الواسع يكون للمطاوعة كفجرته فتفجر ( بالتشديد فيهما ) ويكون لتكرر الفعل وحصوله مرة بعد أخرى، ومثله التشقق إلا أنه أعم، ولما في التفجر من معنى السعة عبر به عن خروج الأنهار من الصخور الكبار وهو معهود في الجبال، وعبر بالتشقق لخروج الماء الذي يصدق بالقليل منه.
والمعنى أن هذه الحجارة على صلابتهما وقسوتها تتأثر بالماء الرقيق اللطيف فيشقها وينفذ منها بقلة أو كثرة فيحيي الأرض وينفع النبات والحيوان. وأما هذه القلوب فلم تعد تتأثر بالحكم والنذر ولا بالعظات والعبر، فالحكم لا تقوى على شقها والنفوذ منها إلى أعماق الوجدان، وأنوار الفطرة قد انطفأت فيها فلا يظهر شعاعها على إنسان، ومن الحجارة ما يشقه الماء القليل كماء العيون والينابيع الحجرية، ومنها ما لا يفجره إلا الماء الغمر الذي يسمى نهرا ﴿ وإن منها لما يهبط من خشية الله ﴾ وهو ما ينحط من أعلى الجبل ومن أثنائه بسبب أثر من آثار القهر الإلهي كالبراكين والصواعق التي تهبط بها الصخور وتندك الجبال، وقد جعل هذا شبها للآيات الإلهية التي أظهرها على يد عبده ونبيه موسى عليه السلام. فهي حوادث عظيمة في الكون تفزع بها نفوس المؤمنين إلى الله، وتخشع لأمره ونهيه، لعظمتها وخفاء سر إيجادها. كما تفزع النفوس من حوادث البراكين والصواعق التي تدك الصخور وتدمر الحصون، وقد أصبحت تلك القلوب بعد مشاهدة الآيات لا تتأثر بها ولا تزداد إيمانا.
فملخص التشبيه أن قلوبكم تشبه الحجارة في القسوة بل قد تزيد في القساوة عنها، فإن الحجارة الصم تتأثر في باطنها بالماء اللطيف النافع بعضها بالقوي منه وبعضها بالضعيف ؛ ولكن قلوبكم لا تتأثر بالحكم والمواعظ التي من شأنها التأثير في الوجدان، والنفوذ إلى الحنان، والحجارة تتأثر بالحوادث الهائلة التي يحدثها الله في الكون كالصواعق والزلازل، ولكن قلوبكم لم تتأثر بتلك الآيات الإلهية التي تشبهها، فلا أفادت فيه المؤثرات الداخلية ولا المؤثرات الخارجية كما أفادت في الأحجار، فبذلك كانت قلوبكم أشد قسوة، ثم هددهم بقوله ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ أي فهو سيربيكم بضروب النقم، إذا لم تتربوا بصنوف النعم.
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يرون أن أولى الناس بالإيمان وأقربهم منه اليهود لأنهم موحدون ومصدقون بالوحي والبعث في الجملة ولذلك كانوا يطمعون بدخولهم في الإسلام أفواجا لأنه مصدق لما معهم في الجملة ومحل لجميع شبهات الدين وحال لجميع إشكالاته بالتفصيل وواضع له على قواعد لا ترهق الناس عسرا ﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾.
كان هذا الطمع في إيمانهم مبنيا على وجه نظري معقول لولا أنهم اكتفوا بجعل الدين رابطة جنسية، ولم يجعلوه هداية روحية، ولذلك كانوا يتصرفون فيه باختلاف المذاهب والآراء، ويحرفون كلمه عن مواضعه بحسب الأهواء، وما أعذر الله المؤمنين في طمعهم هذا إلا بعد ما قص عليهم من نبأ بني إسرائيل الذين كانوا على عهد التشريع وشاهدوا الآيات ما علم به أنهم في المجاحدة والمعاندة على عرق راسخ ونحيزة موروثة لا يكفي في زلزالها كون القرآن مبينا في نفسه لا يتطرق إليه ريب، ولا يتسرب إليه شك، ولذلك بدأ السورة بوصف الكتاب بهذا وكونه هدى للمتقين من أهل الكتاب وغيرهم. وثنى ببيان أن من الناس من يعانده ويباهته، ومنهم المذبذب الذي يميل مع الريحين، فلا يثبت مع أحد الفريقين، ثم أفاض في شرح حال بني إسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلا قليل من أهل العلم والتقوى، وكان الأكثرون أشد الناس استكبارا عن الإيمان وإيذاء للرسول ولمن اتبعه من المؤمنين. وبعد هذا كله أنكر على المؤمنين ذلك الطمع بدخول اليهود في دين الله أفواجا، ووصل الإنكار بحجة واقعة ناهضة، تجعل تلك الحجة النظرية داحصة فعلم بهذا أن الكلام لا يزال متصلا في موضوع الكتاب وأصناف الناس بالنسبة إلى الإيمان به وعدم الإيمان. كلما بعد العهد جاء ما يذكر به تذكيرا
قال تعالى ﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ﴾ كان الظاهر أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ولكن خاطب المؤمنين معه لأنهم كانوا يشاركونه في الألم من إيذائهم والطمع بهدايتهم فأشركهم بالتسلية كما سبق، ولأن طمع بعض المؤمنين بإيمانه كان يحملهم على الانبساط معهم في المعاشرة إلى حد الإفضاء إليهم ببعض الشؤون الملية المحضة واتخاذهم بطانة، وكان يعقب ذلك من الضرر ما يعقب حتى نهاهم الله تعالى عن اتخاذ البطانة من دون المؤمنين إذا كانوا موصوفين بأوصاف هؤلاء، وذلك قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر ﴾ والآية الآتية تدل على هذا الإفضاء أيضا.
أما الحجة التي وصلها بإنكار الطمع بإيمانهم للدلالة على أنه طمع في غير مطمع فهي تعمد تحريف كلام الله ممن سمعه منهم. وذلك أن موسى اختار بأمر الله سبعين رجلا من قومه لسماع الوحي ومشاهدة الحال التي يكلمه الله تعالى بها وقد سمعوا كلام الله تعالى على الوجه الذي لا نعرفه، وإنما نعرف أنهم صحبوه إلى حيث كان يناجي الله تعالى، وكان من شأن الله تعالى معهم أن صدقوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام هو وحي من الله تعالى. والتصديق بذلك لا يتوقف على معرفة كيفيته وكنهه فإن أكثر ما نصدق به تصديق يقين لا نعرف حقيقته وكنهه ولا كيفية تكوينه وإيجاده. وقد كان من أولئك المختارين أنهم لما رجعوا إلى قومهم حرفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وأذعنوا له بأن صرفوه عن وجهه بالتأويل – كما حققه ابن جرير الطبري وغيره وهذا التحريف ثابت عندهم منصوص في التوراة والتاريخ الديني الذي يسمى التاريخ المقدس.
فدل هذا وما سبقه على أن القسوة المانعة من التأثر والتدبر، ومكابرة الحق والتقصي عن عقال الشريعة، كان شنشنة قديمة فيهم، ثم تأصل فصار غريزة مطبوعة، فإعراضه عن القرآن لا يستلزم الطعن عليه، ولا القول بجواز تسلق شيء من الريب إليه، فإنهم قد حرفوا وبدلوا، وعاندوا وجاحدوا، وهم يشاهدون الآيات الحسية، ويؤخذون بالعقوبات المعاشية، فكيف يستنكر بعد هذا أن يعرضوا عن دين دلائله عقلية، وآيته الكبرى معنوية، وهي القرآن المعجز بما فيه من علوم الهداية، ودقائق البلاغة، وأنباء الغيب على أنه من أمي عاش أربعين سنة لم يؤثر عنه فيها شيء من العلم، ولم يزاحم فحول البلاغة في نثر ولا نظم، وفهم تلك الدلائل إنما يكون من ذوي العقول الحرة والقلوب السليمة، الذين لطف شعورهم، ورق وجدانه وصحت أذواقهم.
قال ابن جرير : لو كان المراد بما هنا تحريف كلام التوراة المكتوب لما قال يسمعون كلام الله ثم يحرفونه فزيادة " يسمعون " هنا لا بد لها من حكمة ولولا ذلك لجاء الكلام على نسق الآيات الأخرى التي ذكر فيها التحريف كأن يقول " وقد كان فريق منهم يحرف كلام الله ". وقوله تعالى " من بعد ما عقلوه " نص في التعمد وسوء القصد، وإبطال لما عساه يعتذر لهم به من سوء الفهم، ثم قال " وهم يعلمون " أي كانوا يفعلون فعلتهم الشنعاء في حال العلم بالصواب واستحضاره لا أنهم كانوا على نسيان أو ذهول. وفي هذين القيدين من النعي والتشنيع عليهم مالا مزيد عليه. وكيف وقد بطل بهم العذر الخطأ والنسيان، وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان.
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يرون أن أولى الناس بالإيمان وأقربهم منه اليهود لأنهم موحدون ومصدقون بالوحي والبعث في الجملة ولذلك كانوا يطمعون بدخولهم في الإسلام أفواجا لأنه مصدق لما معهم في الجملة ومحل لجميع شبهات الدين وحال لجميع إشكالاته بالتفصيل وواضع له على قواعد لا ترهق الناس عسرا ﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾.
كان هذا الطمع في إيمانهم مبنيا على وجه نظري معقول لولا أنهم اكتفوا بجعل الدين رابطة جنسية، ولم يجعلوه هداية روحية، ولذلك كانوا يتصرفون فيه باختلاف المذاهب والآراء، ويحرفون كلمه عن مواضعه بحسب الأهواء، وما أعذر الله المؤمنين في طمعهم هذا إلا بعد ما قص عليهم من نبأ بني إسرائيل الذين كانوا على عهد التشريع وشاهدوا الآيات ما علم به أنهم في المجاحدة والمعاندة على عرق راسخ ونحيزة موروثة لا يكفي في زلزالها كون القرآن مبينا في نفسه لا يتطرق إليه ريب، ولا يتسرب إليه شك، ولذلك بدأ السورة بوصف الكتاب بهذا وكونه هدى للمتقين من أهل الكتاب وغيرهم. وثنى ببيان أن من الناس من يعانده ويباهته، ومنهم المذبذب الذي يميل مع الريحين، فلا يثبت مع أحد الفريقين، ثم أفاض في شرح حال بني إسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلا قليل من أهل العلم والتقوى، وكان الأكثرون أشد الناس استكبارا عن الإيمان وإيذاء للرسول ولمن اتبعه من المؤمنين. وبعد هذا كله أنكر على المؤمنين ذلك الطمع بدخول اليهود في دين الله أفواجا، ووصل الإنكار بحجة واقعة ناهضة، تجعل تلك الحجة النظرية داحصة فعلم بهذا أن الكلام لا يزال متصلا في موضوع الكتاب وأصناف الناس بالنسبة إلى الإيمان به وعدم الإيمان. كلما بعد العهد جاء ما يذكر به تذكيرا
ثم بعد هذا الاحتجاج انتقل إلى بيان بعض أحوال الذين كانوا في زمن التنزيل وقد غير الأسلوب هنا فإنه كان يحكي سيئاتهم مبتدئا بكلمة ( وإذ ) لأنه تذكير بما كان في الزمان الماضي. والابتداء بكلمة ( إذا ) هنا هو المناسب في الحكاية عن حال واقعة في الحال، مستمرة في الاستقبال، والمراد من حكاية أحوال الحاضرين، بيان أنها مساوي لأحوال سلفهم الغابرين، وأنه لا يرجى من هؤلاء أفضل مما كان من أولئك. قال :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا. وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ ﴾
ترشد هذه الآية إلى طور من أطوار البشر في زمن الإصلاح وهي أن جماهير الناس يقعون في الحيرة بين الهداية الجديدة والتقاليد القديمة لا ينظرون إلى الحق فيتحروا اتباعه أين كان، ولكنهم يفكرون في منفعتهم الخاصة. يقولون : نخشى أن نجهر بالجديد فيخذل حزبه ويتفرق شمله، فنكون من الخاسرين. ولا نأمن إن بقينا على القديم أن يتقلص ظله. ويذل أهله، فنكون مع الضالين. فالحزم أن نوافق كل حزب نخلو به ونعتذر إلى الآخر إذا هو علم بما كان منا إلى أن نتبين الفوز في أحد الفريقين : فيكونون هكذا مذبذبين كما قال تعالى " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا. وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " الخ الضمير في قالوا الثانية غير الضمير في قالوا الأولى كما هو ظاهر من السياق، ولا لبس فيه ولا اشتباه، ومثله مستفيض في كلام البلغاء وفي التنزيل أيضا كقوله تعالى ﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ﴾ فإن المنهي عن العضل الأولياء لا المطلقون. والكلام في القرآن للمكلفين كافة فيوجه كل كلام إلى صاحبه الذي يتعين أن يكون له بقرينة الحال أو المقال. فإذا وجه الخطاب بالطلاق إلى الأزواج لأنه لا يكون إلا منه فكذلك يوجه الخطاب بالنهي عن العضل – وهو منع المرأة من التزوج – إلى الأولياء لأنه لا يكون إلا منهم. وعلى هذه الطريقة يتخرج قوله ﴿ قالوا آمنا ﴾ وقوله ﴿ قالوا أتحدثونهم ﴾ فالكلام في مجموع اليهود، ويوجه الأول إلى الذين يلاقون المؤمنين ( والثاني ) إلى الذين يلاقيهم هؤلاء من قومهم ويعدلونهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما فتح الله عليهم.
المراد بالفتح هنا الإنعام بالشريعة والأحكام ؛ والبشارة بالنبي عليه الصلاة والسلام، شبه الذي يعطي الشريعة بالمحصور يفتح عليه فيخرج من الضيق. أو معنى ﴿ بما فتح الله عليكم ﴾ بما حكم به وأخذ به الميثاق عليكم من الإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم ونصره، وقوله ﴿ ليحاجوكم به عند ربكم ﴾ معناه يقيمون به عليكم الحجة من كتاب ربكم وهو التوراة من حيث إن ما تحدثونهم به موافق لما في القرآن فلهم أن يقولوا : لولا أن محمدا نبي لما علم بهذا الذي حكاه عنكم وقد كان مثلنا لا يعرف من أمر الكتاب شيئا : هذا ما جرى عليه المحققون في تفسير ﴿ عند ربكم ﴾ وهو انه بمعنى في كتابه فهو كقوله في أهل الإفك ﴿ فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ﴾ أي في حكمه المبين في كتابه.
وذهب مفسرنا ( الجلال ) إلى أن معناه المحاجة في الآخرة والنظم لا يأباه، ولكن فيه اعترافا من اللائمين المؤنبين بأن المسلمين على الحق الذي لا ينجى عند الله سواه.
ومن اعتقد هذا لا يجعله تعليلا للإنكار على من يراه من قومه يحدث المؤمنين بما يوافقهم ويقوي حجتهم، بل فيه أيضا أن ترك تحديثهم لا يمنعها في الآخرة.
مثل هذه الذبذبة تكون من الأمم في طور الضعف ولا سيما ضعف الإرادة والعلم، ولو كان لأولئك القوم إرادة قوية لثبتوا ظاهرا على ما يعتقدونه باطلا ولم يصانعوا مخالفيهم من أهل الملة الأولى أو الملة الآخرة،
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يرون أن أولى الناس بالإيمان وأقربهم منه اليهود لأنهم موحدون ومصدقون بالوحي والبعث في الجملة ولذلك كانوا يطمعون بدخولهم في الإسلام أفواجا لأنه مصدق لما معهم في الجملة ومحل لجميع شبهات الدين وحال لجميع إشكالاته بالتفصيل وواضع له على قواعد لا ترهق الناس عسرا ﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾.
كان هذا الطمع في إيمانهم مبنيا على وجه نظري معقول لولا أنهم اكتفوا بجعل الدين رابطة جنسية، ولم يجعلوه هداية روحية، ولذلك كانوا يتصرفون فيه باختلاف المذاهب والآراء، ويحرفون كلمه عن مواضعه بحسب الأهواء، وما أعذر الله المؤمنين في طمعهم هذا إلا بعد ما قص عليهم من نبأ بني إسرائيل الذين كانوا على عهد التشريع وشاهدوا الآيات ما علم به أنهم في المجاحدة والمعاندة على عرق راسخ ونحيزة موروثة لا يكفي في زلزالها كون القرآن مبينا في نفسه لا يتطرق إليه ريب، ولا يتسرب إليه شك، ولذلك بدأ السورة بوصف الكتاب بهذا وكونه هدى للمتقين من أهل الكتاب وغيرهم. وثنى ببيان أن من الناس من يعانده ويباهته، ومنهم المذبذب الذي يميل مع الريحين، فلا يثبت مع أحد الفريقين، ثم أفاض في شرح حال بني إسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلا قليل من أهل العلم والتقوى، وكان الأكثرون أشد الناس استكبارا عن الإيمان وإيذاء للرسول ولمن اتبعه من المؤمنين. وبعد هذا كله أنكر على المؤمنين ذلك الطمع بدخول اليهود في دين الله أفواجا، ووصل الإنكار بحجة واقعة ناهضة، تجعل تلك الحجة النظرية داحصة فعلم بهذا أن الكلام لا يزال متصلا في موضوع الكتاب وأصناف الناس بالنسبة إلى الإيمان به وعدم الإيمان. كلما بعد العهد جاء ما يذكر به تذكيرا
وقد وبخهم الله تعالى وأنكر عليهم هذا التلون والدهان في الدين ولقاء كل فريق بوجه يظهرون له ما يسرون من أمر الآخر فقال ﴿ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ﴾ يعني أيقول اللائمون أو المنافقون كلهم ما قالوا، ويكتمون من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ما كتموا، ويحرفون من كتابهم ما حرفوا، ولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفر وكيد، وما يعلنون من إظهار إيمان وود، فإن كانوا مؤمنين بإحاطة علمه تعالى فلم لا يحفلون باطلاعه على ظواهرهم، وإحاطته بما يجول في أطواء ضمائرهم، وبما يترتب على علمه من خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يرون أن أولى الناس بالإيمان وأقربهم منه اليهود لأنهم موحدون ومصدقون بالوحي والبعث في الجملة ولذلك كانوا يطمعون بدخولهم في الإسلام أفواجا لأنه مصدق لما معهم في الجملة ومحل لجميع شبهات الدين وحال لجميع إشكالاته بالتفصيل وواضع له على قواعد لا ترهق الناس عسرا ﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾.
كان هذا الطمع في إيمانهم مبنيا على وجه نظري معقول لولا أنهم اكتفوا بجعل الدين رابطة جنسية، ولم يجعلوه هداية روحية، ولذلك كانوا يتصرفون فيه باختلاف المذاهب والآراء، ويحرفون كلمه عن مواضعه بحسب الأهواء، وما أعذر الله المؤمنين في طمعهم هذا إلا بعد ما قص عليهم من نبأ بني إسرائيل الذين كانوا على عهد التشريع وشاهدوا الآيات ما علم به أنهم في المجاحدة والمعاندة على عرق راسخ ونحيزة موروثة لا يكفي في زلزالها كون القرآن مبينا في نفسه لا يتطرق إليه ريب، ولا يتسرب إليه شك، ولذلك بدأ السورة بوصف الكتاب بهذا وكونه هدى للمتقين من أهل الكتاب وغيرهم. وثنى ببيان أن من الناس من يعانده ويباهته، ومنهم المذبذب الذي يميل مع الريحين، فلا يثبت مع أحد الفريقين، ثم أفاض في شرح حال بني إسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلا قليل من أهل العلم والتقوى، وكان الأكثرون أشد الناس استكبارا عن الإيمان وإيذاء للرسول ولمن اتبعه من المؤمنين. وبعد هذا كله أنكر على المؤمنين ذلك الطمع بدخول اليهود في دين الله أفواجا، ووصل الإنكار بحجة واقعة ناهضة، تجعل تلك الحجة النظرية داحصة فعلم بهذا أن الكلام لا يزال متصلا في موضوع الكتاب وأصناف الناس بالنسبة إلى الإيمان به وعدم الإيمان. كلما بعد العهد جاء ما يذكر به تذكيرا
قال تعالى ﴿ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ﴾ ذلك الذي تقدم هو شأن علمائهم : يحرفون كتاب الله ويخرجون من حكمه بالتأويل، وهذا هو شأن عامتهم : لا علم لهم بشيء من الكتاب، ولا معرفة لهم بالأحكام، وما عندهم من الدين فهو أماني يتمنونها وتجول صورها في خيالاتهم، وهذه الصور هي كل ما عندهم من العلم بدينهم، وما على بينة منها، وإنما هي ظنون يلهون بها. وهذا هو محل الذم لا مجرد كونهم أميين، فإن الأمي قد يتلقى العلم عن العلماء الثقات ويعقله عنهم بدليله فيكون علمه صحيحا وهؤلاء لم يكونوا كذلك.
فإن قيل : لم سمى ما كانوا عليه من الأماني ظنا مع أنهم أخذوه عن رؤساء دينهم الموثوق بهم عندهم وسلموه تسليما فلم يكن في نفوسهم ما يخالفه ومثل هذا يسمى اعتقادا وعلما ؟ نقول إنما العلم بالدليل ولا يسمي مثل ذلك علما إلا من لا يعرف معنى العلم. على أنه لم يكن راجحا ومسلما إلا لأن مقابله لم يخطر ببالهم ولو أورد عليهم لتزلزل ما عندهم ثم زال، أو ظهر فيه الشك وتطرق إليه الاحتمال، ويصح أن يقال في مثل هؤلاء إن الظن أو التردد كان نائما في نفوسهم وهو عرضة لأن يوقظه نقيضه ويذهب به متى طرأ. ونوم الظن لا يصح أن يسمى اعتقادا.
قال الأستاذ الإمام : هذه الأماني توجد في كل الأمم في حال الضعف والانحطاط يفتخرون بما بين أيديهم من الشريعة وبسلفهم الذين كانوا مهتدين بها وبما لهم من الآثار التي كانت ثمرة تلك الهداية، وتسول لهم الأماني أن ذلك كاف في نجاتهم وسعادتهم وفضلهم على سائر الناس. هكذا كان اليهود في زمن التنزيل وقد اتبعنا سنتهم وتلونا تلوهم فظهر فينا تأويل الحديث الصحيح " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع " وإننا نقرأ أخبارهم فنسخر منهم ولا نسخر من أنفسنا، ونعجب لهم كيف رضوا بالأماني ونحن غارقون فيها.
ثم إن الآية تدل على بطلان التقليد وعدم الاعتداد بإيمان صاحبه وقد مضى على هذا إجماع الصدر الأول وأهل القرون الثلاثة وإنما كان الجاهل يأخذ عن العالم العقيدة ببرهانها، والأحكام بروايتها، ولا يتقلد رأيه كيفما كان، من غير بينة ولا برهان، وفسر بعضهم الأماني بالأكاذيب ابتداء، ومنهم من فسرها بالقراآت أي أنهم لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الفاظه من غير فهم ولا اعتبار يظهر أثرهما في العمل. فهو على حد { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) وقد ورد التمني بمعنى القراءة ومنه قول الشاعر :
تمنى كتاب الله أول ليله | تمني داود الزبور على رسل |
قال الأستاذ الإمام : إنما يحسن تفسير هذه الآيات من كان على علم بتاريخ اليهود في ذلك العصر ووقوف على حالهم، وإن كانت إلا نسخة من حال بعض الشعوب الموجودين الآن.... كانوا أكثر الناس مراء وجدالا في الحق وإن كان بينا باهرا، وأشد الناس كذبا وغرورا وأكلا لأموال الناس، بالباطل كالربا الفاحش وغشا وتدليسا وتلبيسا، وكانوا مع ذلك يعتقدون أنهم شعب الله الخاص وأفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان. فهذه هي الأماني التي صدتهم عن قبول الإسلام. وأما اللفظ والنظم ففيه أن قوله تعالى " إلا أماني " استثناء منقطع والعلم المنفي قاصر لا يشمل الأماني. ويصح أن يكون معتديا والآية على حد قولهم " ما علمت فلانا الأفاضل " ويكون المعنى أنهم إنما يعلمون من الكتاب أنه مجموعة أماني يمنونها أنفسهم، فهم لا يأخذون منه إلا ما هو لهم ويمدهم في غرورهم، وأما ما ينبههم على سيئات أعمالهم فكأنه غير معروف لهم من الكتاب..
قال المفسر ( الجلال ) إنهم كانوا يكتبون الأحكام على خلاف ما هي عليه في الكتاب كآية الرجم ووصف النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الأستاذ الإمام لو كان هذا هو المراد من هذه الآية لما بدئ الكلام بالفاء وإنما الآية وعيد على أن لبسوا على الناس بالكتابة وتأليف الكتب الدينية وإيهام العامة أن كل ما كتبوه فيها مأخوذ من كتاب الله كما يعتقد المقلدون من كل ملة بكتب الدين التي يؤلفها علماؤهم في الأصول والفروع حتى أن بعضهم يقول إن اختلافها لا ينافي كونها من عند الله خلافا لقوله تعالى ﴿ ولو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾. فهذه الكتب هي مثار الأماني والغرور ولذلك أنذر على أصحابها الهلاك بعد ما ذكر أصناف اليهود من منافقين ومحرفين وأميين فقال ﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ﴾ أقول : أي ويل وهلاك عظيم لأولئك العلماء الذي يكتبون الكتب بأيديهم ويودعونها آراءهم ويحملون الناس على التعبد بها قائلين إن ما فيها من عند الله ويمكن الاستغناء بها عن كتاب الله الذي نفهم منه مالا يفهم غيرنا : يخطبون بتلك الكتب ميل العامة وودهم ويبتغون الجاه عندهم ويأكلون أموالهم بالدين. ولذلك قال ﴿ ليشتروا به ثمنا قليلا ﴾ وكل ما يباع به الحق ويترك لأجله فهو قليل لأن الحق أثمن الأشياء وأغلاها، وأرفعها وأعلاها، ولذلك كرر الوعيد فقال ﴿ فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ﴾ فالهلاك والويل محيط بهم من أقطارهم ونازل بهم من جانب الوسيلة ومن جانب المقصد.
قال الأستاذ الإمام : من شاء أن يرى نسخة مما كان عليه أولئك اليهود فلينظر فيما بين يديه فإنه يراها واضحة جلية. يرى كتبا ألفت في عقائد الدين وأحكامه حرفوا فيها مقاصد وحولوها إلى ما يغر الناس ويمنيهم ويفسد عليهم دينهم، ويقولون هي من عند الله وما هي من عند الله. وإنما هي صادة عن النظر في كتاب الله والاهتداء به. ولا يعمل هذا إلا أحد رجلين : رجل مارق من الدين يتعمد إفساده ويتوخى إضلال أهله فيلبس لباس الدين ويظهر بمظهر أهل الصلاح ويخادع بذلك الناس ليقبلوا ما يكتب ويقول. ورجل يتحرى التأويل ويستنبط الحيل ليسهل على الناس مخالفة الشريعة ابتغاء المال والجاه.
ثم ذكر الأستاذ وقائع طابق فيها بين ما كان عليه اليهود من قبل وما عليه المسلمون الآن – ذكر وقائع للقضاة والمأذونين، وللعلماء والواعظين، فسقوا فيها عن أمر ربهم، فمنهم من يتأول ويغتر بأنه يقصد نفع أمته كما كان أحبار اليهود يفتون بأكل الربا أضعافا ليستغني شعب إسرائيل، ومنهم من يفعل ما يفعل عامدا عالما أنه مبطل ولكن تغره أماني الشفاعات والمكفرات.
هذا ضرب من ضروب غرورهم عطفه على ما قبله فقال ﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴾ قيل هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل والذي عليه أكثر اليهود أنها سبعة أيام لأن عمر الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة فالإسرائيلي الذي لا تدركه الشفاعة يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم. ومثل هذا الحكم لا يمكن القول به إلا بعهد من الله تعالى مالك يوم الدين والجزاء وإلا كان افتئاتا عليه سبحانه وقولا عليه بغير علم وهذا ما رد به عليهم ولله الحجة البالغة وأمر رسوله أن يخاطبهم به بقوله ﴿ قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ﴾ أي هل عهد الله إليكم ذلك ووعد به فكان حقا لكم عنده، لأن الله لا يخلف عهده ؟ وقال ابن جرير وبعض المفسرين معناه هل اتخذتم عند الله عهدا بإتباع شريعته اعتقادا وائتمارا وانتهاء وتخلقا فأنتم واثقون بعهد الله في كتابه لمن كان كذلك بالنجاة من النار ودخول الجنة ومغفرة ما عساه يفرط منه من السيئات أو العقوبة عليه مدة قصيرة ؟ ؟ والاستفهام للإنكار أي لستم على عهد من الله تعالى ولذلك كذبهم بقوله ﴿ أم تقولون على الله مالا تعلمون ﴾ أي أم تقولون على الله شيئا ليس لكم به علم، إذ العلم بمثله لا يكون إلا بوحي منه يبلغه عنه رسله، والقول على الله بغير علم جرأة وافتيات عليه وكفر به. والمعنى أنه لا بد من أحد الأمرين إذ لا واسطة بينهما : إما اتخاذ عهد عند الله، وإما القول على الله بغير علم وإذا كان اتخاذ العهد لم يحصل تعين أنكم تكذبون على الله بجهلكم وغروركم.
بلى مبطلة لدعواهم، وقال الأستاذ : للسيئة هنا إطلاقها وخصها مفسرنا ( الجلال ) وبعض المفسرين بالشرك. ولو صح هذا لما كان لقوله تعالى
﴿ وأحاطت به خطيئته ﴾ معنى. فإن الشرك أكبر السيئات وهو يستحق هذا الوعيد لذاته كيفما كان. ومعنى إحاطة الخطيئة هو حصرها لصاحبها وأخذها بجوانب إحساسه ووجدانه كأنه محبوس فيها لا يجد لنفسه مخرجا منها. يرى نفسه حرا مطلقا وهو أسير الشهوات، وسجين الموبقات، ورهين الظلمات ؟ وإنما تكون الإحاطة بالاسترسال في الذنوب، والتمادي على الإصرار، قال تعالى ﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ أي من الخطايا والسيئات ففي كلمة " يكسبون " معنى الاسترسال والاستمرار، وران عليه غطاه وستره أي أن قلوبهم قد أصبحت في غلف من ظلمات المعاصي حتى لم يبق منفذ للنور يدخل إليها منه. ومن أحدث لكل سيئة يقع فيها توبة نصوحا وإقلاعا صحيحا لا تحيط به الخطايا ولا ترين على قلبه السيئات. روى أحمد والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن ﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ لمثل هذا كان السلف يقولون : المعاصي يريد الكفر.
قوله ﴿ فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ خبر ﴿ من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ﴾ أي هم أصحاب دار العذاب في الآخرة الأحقاء بها دون من لم يصل إلى درجتهم في الدنيا وهو من في قلبه شيء من نور الإيمان وتوحيد الله تعالى وما يتبعه من الخير.
قال الأستاذ الإمام : ومن المفسرين من ترك السيئة في الآية على إطلاقها فلم يؤولها بالشرك ولكنهم أولوا جزاءها فقالوا إن المراد بالخلود طول مدة المكث لأن المؤمن لا يخلد في النار وإن استغرقت المعاصي عمره وأحاطت الخطايا بنفسه فانهمك فيها طول حياته. أولوا هذا التأويل هروبا من قول المعتزلة : إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وتأييدا لمذهبهم أنفسهم المخالف للمعتزلة، والقرآن فوق المذاهب يرشد إلى أن من تحيط به خطيئته لا يكون أو لا يبقى مؤمنا.
( وأقول ) - : إن فتح باب تأويل الخلود يجرئ أصحاب استقلال الفكر في هذا الزمان على الدخول فيه، والقول بأن معنى خلود الكافرين في العذاب طول مكثهم فيه لأن الرحمان الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ما كان ليعذب بعض خلقه عذابا لا نهاية له لأنهم لم يهتدوا بالدين الذي شرعه لمنفعتهم لا لمنفعته ولكنهم لم يفقهوا المنفعة، وإذا كان التقليد مقبولا عند الله كما يرى فاتحو الباب فقد وضح عذر الأكثرين لأنهم مقلدون لعلمائهم – الخ ما يتكلم به الناس ولا سيما في هذا العصر فإن هذه المسألة قديمة وهي أكبر مشكلات الدين. نعم إن العلماء يحتجون عليهم بالإجماع ولو سكوتيا ولكن التأويل باب لا يكاد يسده متى فتح شيء.
الآيات السابقة كانت تذكيرا بالنعم التاريخية الملية وبالتقصير في الشكر وعواقبه. وذلك كالتفضيل على العالمين الذي يرفع النفس، والإنجاء من آل فرعون ومن الغرق، وإيتاء موسى الكتاب والآيات البينات، وتسهيل المعيشة عليهم في التيه بما ساق الله إليهم من المن والسلوى، ثم ما كان منهم في أثر كل نعمة وما أعقبه كفر النعم من النقم. ولم يذكر فيما سبق من الأحكام العملية إلا ما جاء على سبيل التبع لهذه الأصول. وفي هذه الآية وما بعدها التذكير بأمهات الأحكام في العبادات والمعاملات وما كان من إهمالها وترك العمل بها. هذا هو المراد أولا وبالذات على أن فيما يأتي إعادة الإشارة إلى بعض ما مضى قضى بها ما كان عليه اليهود من سوء الفهم وغلظ القلوب وكثرة المشاغبات والمماراة فالخطاب معهم دائما في باب الإطناب.
قال الأستاذ الإمام : لاحظ بعض البلغاء والمفسرين أن القرآن يطنب ويبدئ ويعيد في خطاب اليهود خاصة، وذلك لما كانت شحنت به أذهانهم مما يسمى علما أو فقها فأبعدهم عن أن يصل شعاع الحق إلى ما وراء ذلك من نفوسهم، ويكتفي بالإيجاز بل بالإشارة الدقيقة في خطاب العرب لما كانوا عليه من سرعة الفهم ورقة الإحساس لقربهم من السذاجة الفطرية، فالإشارة إلى البرهان في ضمن تمثيل، يغنى عندهم عن الإسهاب والتطويل، ولذلك خاطبهم بمثل قوله في الأصنام ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ).
قوله تعالى ﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ﴾ أي واذكر أيها الرسول إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق عليهم في سياق خطابهم ولم يبينه لعلمهم به وقولنا هنا ﴿ لا تعبدون إلا الله ﴾ الخ بيان له أي للميثاق لا مقول قول محذوف كما قال المفسر. يقال : أخذت عليك عهدا تفعل كذا : كما تقول : أن تفعل كذا : سواء. وهو خبر بمعنى النهي للمبالغة والتأكيد، يلاحظ فيه أن الأمر والنهي قد امتثل فيخبر بوقوعه، أو إنه لتوثيقه والتشديد في تأكيده سيتمثل حتما فيخبر بأنه كائن لا محالة. ( أقول ) وهذا النهي عن عبادة غير الله مستلزم للأمر بعبادته تعالى ولم يصرح به لأنهم كانوا يعبدون الله وإنما يخشى عليهم الشرك به كما وقع منهم في بعض الأجيال ومن غيرهم من الشعوب، فالأصل الأول لدين الله على ألسنة جميع رسله هو أن يعبد الله وحده ولا يشرك به عبادة أحد سواه من ملك ولا بشر ولا ما دونهما بدعاء ولا بغيره من أنواع العبادة كما قال ﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ فالتوحيد لا يحصل إلا بالجمع بين الأمرين.
قال تعالى ﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ أي وتحسنون بالوالدين إحسانا، والإحسان نهاية البر فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين في التوراة حتى أنه يوجد فيها الآن أن من يسب والديه يقتل. وقد قرن الأمر بالإحسان بالوالدين إلى الأمر بالتوحيد أو النهي عن الشرك فهو كقوله تعالى ﴿ وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ﴾ وليست هذه العناية بأمر الوالدين في الكتب السماوية لكونهما سبب وجود الوالد كما يقول الناس فإنه لا منة لهما على الولد بهذه السببية لأنها لم تكن إكراما له ولا عناية به، كيف وهو لم يكن معروفا أو موجودا فيكرم، وإنما كانت بباعث الشهوة وإرضاء النفس، ومنهم من لم يكن يخطر بباله الولد إلا بعد الزواج بزمن طويل، ومنهم من كان يود أن لا يولد له، أو أن يكون له ولد واحد أو ولدان فقط، فيكون له أكثر. فإذا كان وجوب الإحسان بالوالدين معلولا لإرادتهما الولد فينبغي أن يخص هذا الإحسان بولد لم يكن لهما من الزوجية حظ سواه بعينه، وهو ما لا وجود له. ذلك كلام شعري والعلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد هي العناية الصادقة التي بذلاها في تربيته والقيام بشؤونه أيام كان ضعيفا عاجزا جاهلا لا يملك لنفسه نفعا، ولا يقدر أن يدفع عنها ضررا، إذ كانا يحوطانه بالعناية والرعاية، ويكفلانه حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه، فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما عن علم واختيار، بل من الشغف الصحيح والحنان العظيم وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، وإذا وجب على الإنسان أن يشكر لكل من يساعده على أمر عسير فضله، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد وما كانت به المساعدة، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله تعالى وهما اللذان كانا يسعدانه على كل شيء، أيام كان يتعذر عليه كل شيء ؟ ؟
وكذلك حب الوالدين ليست علته كما يقول الناس كونه جزءا منهما وفلذة كبدها، هذا كلام شعري لا حقيقي أيضا، فإن جسم الإنسان مركب من الأغذية النباتية والحيوانية، فلو كانت العلة صحيحة لكان ينبغي أن يحب الحنطة والغنم أكثر مما يحب والديه. وإنما لحب الوالدين الولد منبعان ( أحدهما ) حنان فطري أودعه الله تعالى فيهما لإتمام حكمته ( وثانيهما ) ما جرت به سنة البشر من التفاخر بالأولاد ومن الأمل بالاستفادة منهم في المستقبل وليست الفائدة محصورة في المال والعون على المعيشة، وإنما تتناول الشرف والجاه أيضا.
وكم أب قد علا بابن له شرفا ***كما علا برسول الله عدنان
ولما كان حب الوالدين للأولاد بمكانة من القوة لا يخشى زوالها ترك النص على الإحسان بهم وثنى بالإحسان بمن دونهم في النسب فقال ﴿ وذي القربى ﴾.
الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة ويوثق الروابط الطبيعية بين الأقربين حتى تبلغ البيوت في وحدة المصلحة درجة الكمال. والأمة تتألف من البيوت ( العائلات ) فصلاحها صلاحها. وهاهنا قال الأستاذ كلمة جليلة وهي " من لم يكن له بيت لا تكون له أمة " وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد، ثم بين سائر الأقربين، فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين ؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءا من بنية أمة، لأنه لن تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس، فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءا منهم يسره ما يسرهم، ويؤلمه ما يؤلمهم، ويرى منفعتهم عين منفعته، ومضرتهم عين مضرته، وهو ما يجب على كل شخص لأمته. قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة وصلتها أمتن من كل صلة، فجاء الدين يقدم حقوق الأقربين على سائر الحقوق وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص.
ثم ذكر حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال ﴿ واليتامى والمساكين ﴾ واليتيم هو من مات أبوه وهو صغير وقد قدم الوصية به على الوصية بالمسكين ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة فعلم أنها مقصودة لذاتها.
قال الأستاذ الإمام : أكد الله تعالى الوصية باليتيم، وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا وحسبك أن القرآن نهى عن قهر اليتيم وشدد الوعيد على أكل ماله تشديدا خاصا ولو كان السر في ذلك غلبة المسكنة على اليتامى لاكتفى هنا بذكر المساكين. كلا إن السر في ذلك هو كون اليتيم لا يجد في الغالب من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه، والعناية بأموره الدينية والدنيوية، فإن الأم إن وجدت تكون في الأغلب عاجزة ولا سيما إذا تزوجت بعد أبيه فأراد الله تعالى – وهو أرحم الراحمين – بما أكد من الوصية بالأيتام أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم يربونهم تربية دينية دنيوية لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالا. فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد. والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة، فإهمال اليتامى لسائر أولاد الأمة.
وأما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشاحذون الملحفون الذين يقدرون على كسب ما يفي بحاجاته أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا إلا أنهم اتخذوا السؤال حرفة يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملا ينفع الناس، ولكن المسكين من يعجز عن كسبٍ يكفيه.
وأما قوله عز وجل ﴿ وقولوا للناس حسنا ﴾ فهو كلام جديد له شأن مخصوص ولذلك تغير فيه الأسلوب فلم يرد على النسق الذي قبله مع دخوله في الميثاق فإنه بين فيما سبق الحقوق العملية وعبر عنها بالإحسان ويستحيل أن يحسن الإنسان بالفعل إلى جميع الناس لأنه لا يمكن أن يعامل جميع الناس، فالذين لا بد له من معاملتهم هم أهل بيته وأقاربه الذين ينشأ فيهم ويتربى بينهم فجاء النص بوجوب الإحسان في معاملتهم لتصلح بذلك حال البيوت. ثم إن اليتامى والمساكين من قومه هم الذين لا يستغنون عن إحسانه وإحسان أمثاله بالفعل، لأنه لا قيم للأولين، ولا غناء عند الآخرين ففرض عليه أن يجعل لهم حظا منه. ثم بعد بيان ما به إصلاح البيوت من إعانة الأقربين وما به صلاح بعض العامة من معونة اليتامى والمساكين على إصلاح بيوتهم بقي بيان حقوق سائر الأمة وهي النصيحة لهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم، فهذا هو معنى قوله تعالى ﴿ وقولوا للناس حسنا ﴾ وليس معناه مجرد التلطف بالقول والمجاملة في الخطاب، فالحسن هو النافع في الدين أو الدنيا، وهو لا يخرج عما ذكرنا، فلما كان هذا النوع من الحقوق مستقلا بذاته جاء بأسلوب آخر ولا شك أن في القيام بهذه الفرائض إصلاح الأمة كلها.
جاء الأمر بالعبادة مجملا ليعلم الإنسان أنه مكلف بكل فرد من أفرادها يحسب الطاقة، ولكن من العبادة ما لا يهتدي إليه الإنسان إلا بهداية إلهية، وأكبر ذلك النوع إقامة الصلاة لإصلاح نفوس الأفراد، وإيتاء الزكاة لإصلاح شئون الاجتماع. لذلك قال تعالى بعد ما تقدم ﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ وإنما إقامة الصلاة بالإخلاص لله والصدق في التوجه إليه والخشوع لعظمته وجلاله والاستكانة لعز سلطانه، ولا تكون بمجرد الإتيان بصورة الصلاة ورسومها الظاهرة، ولو كان هذا هو المراد لما وصفهم بالتولي والإعراض عنه، فإنهم ما أعرضوا عن صورة الصلاة إلى ذلك اليوم الذي ذكرهم فيه بهذه الآيات وإلى هذا اليوم أيضا. وأما الزكاة فقد كان بعض أحبارهم يزعم أنها تلك المحرقات والقرابين المفروضة لتكفير الخطايا أو شكر الله تعالى على إخراجهم من مصر وغير ذلك من النعم. وليس الأمر كذلك، فإن لهم زكوات مالية، منها مال مخصوص يؤدى لآل هارون وهو إلى الآن في اللاوين. ومنها مال للمساكين. ومنها ما يؤخذ من ثمرات الأرض. ومنها سبت الأرض، وهو تركها في كل سبع سنين مرة بلا حرث ولا زرع، وكل ما يخرج منها في تلك السنة فهو صدقة.
قال تعالى ﴿ ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ﴾ أي ثم كان من أمركم بعد هذا الميثاق الذي فيه سعادتكم أن توليتم عن العمل به وأنتم في حالة الإعراض عنه وعدم الاكتراث له. وقد يتولى الإنسان منصرفا عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويوفيه حقه، فليس كل متول عن شيء معرضا عنه ومهملا له على الدوام، لذلك كان ذكر هذا القيد ﴿ وأنتم معرضون ﴾ لازما لا بد منه وليس تكرارا كما يتوهم، وإنما هو متمم للمعنى ومؤكد للمبالغة في الترك المستفاد من التولي قال الأستاذ الإم
كان التذكير في الآية السابقة بأهم المأمورات التي أخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل بها بعد توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وبيان أنهم نقضوا ميثاق الله تعالى ولم يأتمروا بها، وفي هاتين الآيتين التذكير بأهم المنهيات التي أخذ لله تعالى الميثاق عليهم باجتنابها، وبيان أنهم نقضوا ميثاقه ولم ينتهوا عنها، وقد قال هناك ﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ﴾ أي الذين نزلت عليهم التوراة، ثم التفت إلى خطاب الحاضرين في زمن التنزيل فقال ﴿ ثم توليتم ﴾ وقال هنا ﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ﴾ تماديا في سياق الالتفات وتذكيرا بوحدة الأمة واعتبارها كالشخص الواحد يصيب الخلف أثر ما كان عليه السلف من خير وشر ما استنوا بسنتهم. وجروا على طريقتهم، كما تؤثر أعمال الشخص السابقة في قواه النفسية، وطبع ملكاته بعد انحلال مادة تلك الأعضاء التي ابتدأت العمل وحلول مواد أخرى في محلها تتمرن على مثل ذلك العمل، فما يفعله الشخص في صغره، يبقى أثره في قواه في كبره، فكذلك الأمم.
وقد أورد النهي عن سفك بعضهم دم بعض وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم بعبارة تؤكد معنى وحدة الأمة، وتحدث في النفس أثرا شريفا يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر، ووجدان يتأثر، فقال ﴿ لا تسفكون دماءكم ﴾ فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده. وقال ﴿ ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ﴾ على هذا النسق. وهذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن. فهذه الأحكام لا تزال محفوظة عند الإسرائيليين في الكتاب وإن لم يجروا عليها في العمل، ولكن العبارة عنها عندهم لا تطاول هذه العبارة التي تدهش صاحب الذوق السليم، والوجدان الرقيق : فهذا إرشاد حكيم طلع من ثنايا الأحكام يهدي إلى أسرارها، ويومئ إلى مشرق أنوارها، من تدبره علم أنه لا قوام للأمم، إلا بالتحقق بما تضمنته هذه الحكم، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم. لا فرق في الاحترام بين الروح التي تجول في بدنه والدم الذي يجري في عروقه وبين الأرواح والدماء التي يحيا بها إخوانه الذين وحدت بينه وبينهم الشريعة العادلة والمصالح العامة، هذا هو الوجه الوجيه في الآية، وقيل : معناها لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل والإحراج من الديار. ويقال في قوله ﴿ لا تسفكون ﴾ كما قيل قبله في قوله ﴿ لا تعبدون إلا الله ﴾ من تضمن صيغة الخبر للتأكيد.
وقوله تعالى ﴿ ثم أقررتم وأنتم تشهدون ﴾ فيه وجهان ( أحدهما ) أنه يخاطبهم بما كان من اعتراف سلفهم بالميثاق وقبوله وشهودهم الوحي الذي نزل به على موسى عليه الصلاة والسلام. و ( ثانيهما ) أن المراد الحاضرون أنفسهم، أي أنكم أيها المخاطبون بالقرآن قد أقررتم بهذا الميثاق وتعتقدونه في قلوبكم، ولا تنكرونه بألسنتكم، بل تشهدون به وتعلنونه، فالحجة ناهضة عليكم به.
كان التذكير في الآية السابقة بأهم المأمورات التي أخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل بها بعد توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وبيان أنهم نقضوا ميثاق الله تعالى ولم يأتمروا بها، وفي هاتين الآيتين التذكير بأهم المنهيات التي أخذ لله تعالى الميثاق عليهم باجتنابها، وبيان أنهم نقضوا ميثاقه ولم ينتهوا عنها، وقد قال هناك ﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ﴾ أي الذين نزلت عليهم التوراة، ثم التفت إلى خطاب الحاضرين في زمن التنزيل فقال ﴿ ثم توليتم ﴾ وقال هنا ﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ﴾ تماديا في سياق الالتفات وتذكيرا بوحدة الأمة واعتبارها كالشخص الواحد يصيب الخلف أثر ما كان عليه السلف من خير وشر ما استنوا بسنتهم. وجروا على طريقتهم، كما تؤثر أعمال الشخص السابقة في قواه النفسية، وطبع ملكاته بعد انحلال مادة تلك الأعضاء التي ابتدأت العمل وحلول مواد أخرى في محلها تتمرن على مثل ذلك العمل، فما يفعله الشخص في صغره، يبقى أثره في قواه في كبره، فكذلك الأمم.
ثم بعد بيان هذا الميثاق وتسجيله عليهم بأنهم يعرفونه لا ينكرون منه شيئا ذكر نقضهم إياه فقال ﴿ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ﴾ الحاضرون الشاهدون المشاهدون ﴿ تقتلون أنفسكم ﴾ أي يقتل بعضكم بعضا، كما كان يفعل من قبلكم مع اعترافكم بأن الميثاق مأخوذ عليكم كما كان مأخوذا عليهم : كان بنو قينقاع من اليهود أعداء بني قريظة إخوانهم في الدين وكان الأولون حلفاء الأوس، والآخرون مع بني النضير حلفاء الخزرج. ثم افترقوا فبقي بنو النضير مع الخزرج وحالف بنو قريظة الأوس، وكان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء وكانوا يقتتلون ومع كل حلفاؤه، فهذا ما احتج الله تعالى على بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم في عصر التنزيل. ويتبع هذا القتال الأسر، ومن لوازمه الإخراج من الديار ولذلك قال ﴿ وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ﴾ والتظاهر التعاون وتظاهرون أصله تتظاهرون كما قرأ الجمهور، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بحذف إحدى التائين للتخفيف وهو مقيس مشهور. كان كل فريق من اليهود يظاهر حلفاء من العرب ويعاونهم على إخوانه من اليهود بالإثم كالقتل والسلب، وبالعدوان كالإخراج من الديار.
ومن مثارات العجب أنهم كانوا إذا اتفقوا على فداء الأسرى يفدى كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه وإن كانوا من أعدائه ويعتذرون عن هذا بأنهم مأمورون في الكتاب بفداء أسرى شعب إسرائيل. فإن كانوا مستمسكين بالكتاب فلم قاتلوا شعب إسرائيل وأخرجوهم من ديارهم وهم منهيون عن ذلك في الكتاب ؟ هذا لعب بالكتاب واستهزاء بالدين ولذلك قال تعالى ﴿ وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ﴾ بعد أن كنتم أسرتموهم وأخرجتموهم بالتظاهر عليهم مع العرب ﴿ وهو محرم عليكم إخراجهم ﴾ بميثاق أغلظ من طلب مفاداتهم ﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب ﴾ وهو فداء الأسرى ﴿ وتكفرون ببعض ﴾ آخر منه وهو النهي عن القتل والإخراج ؟ أليس من الحماقة والهزء والسخرية أن يدعي مدع مثل هذا الإيمان بأهون الأمور مع الكفر بأعظمها ؟ والإيمان لا يتجزأ فالكفر بالبعض كالكفر بالكل.
قال الأستاذ الإمام : في التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على ما سبق بيانه في معنى قوله تعالى ﴿ وأحاطت به خطيئته ﴾ فالقرآن يصرح هنا وفي آيات كثيرة بأن من يقدم على الذنب لا تضطرب نفسه قبل إصابته، ولا يتألم ويندم بعد وقوعه فيرجع إلى الله تعالى تائبا، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله تعالى عنه وتحريمه له، فهو كافر به، لأن المؤمن بأن هذا شيء حرمه الله تعالى، المصدق بأنه من أسباب سخطه وموجبات عقوبته، ولا يمكن أن لا يكون لإيمان قلبه أثر في نفسه، فإن من الضروريات أن لكل اعتقاد أثرا في النفس، ولكل أثر في النفس تأثيرا في الأعمال. وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة الناطقة بأنه " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ؛ ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن ".
سمى الله الذنب ههنا كفرا لما تقدم وتوعد عليه بوعيد الكفر فقال ﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ﴾ الخ أوعدهم الله تعالى كما أوعد من قبلهم ومن بعدهم بأنهم يعاقبون على نقض ميثاق الدين الذي يجمعهم، والشريعة التي هي مناط وحدتهم، ورباط جنسيتهم ؛ بالخزي العاجل، والعذاب الآجل، وقد دل المعقول، وشهد الوجود، بأنه ما من أمة فسقت عن أمر ربها ؛ واعتدت حدود شريعتها، إلا وانتكث فتلها، وتفرق شملها، ونزل بها الذل والهوان، وهو الخزي المراد في القرآن، وهذه هي سنة الخليقة ذكرها ليعتبر بها من صرفته الغفلة عنها.
وأما العذاب الآجل الذي عبر عنه بقوله ﴿ ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ﴾ فهو على كونه من عالم الغيب معقول المعنى، وهاد إلى حكمة عليا، ذلك أن النفوس البشرية إذا سحل مريرها، واختلت بفساد الأخلاق أمورها وكثرت في هذا العالم شرورها، حتى سلبت ما أعده الله تعالى لمن حافظوا على الحقيقة، واستقاموا على الطريقة، تكون جديرة بأن تسلب في الآخرة ما أعده الله تعالى للأرواح العالية، وما وعد به أصحاب النفوس الزاكية، فإن سعادة الدار الدنيا لم تكن أجرا على أعمال بدنية، لا تتعلق بصلاح النفس في خلق ولا نية، وإنما هي ثمرة تزكية النفس، التي يتوسل إليها بعمل الحس، فإذا كان هذا شأن سعادة الدنيا فكيف يكون نعيم الآخرة جزاء حركات جسدية، وهي الدار التي تغلب فيها الروحانية ؟ ؟ ؟ ﴿ ٩١ : ٧ – ١٠ ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ﴾.
﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ بل هو محيط به لا يخفى عليه منه شيء. وقد قرأ عاصم في رواية المفضل ( تردون ) بالخطاب لمناسبة قوله ( منكم ) كما قرأ الجمهور ( تعملون ) بالخطاب لذلك، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ويعقوب ( يعملون ) على الغيبة لرجوع الضمير إلى ( من يفعل ).
كان التذكير في الآية السابقة بأهم المأمورات التي أخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل بها بعد توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وبيان أنهم نقضوا ميثاق الله تعالى ولم يأتمروا بها، وفي هاتين الآيتين التذكير بأهم المنهيات التي أخذ لله تعالى الميثاق عليهم باجتنابها، وبيان أنهم نقضوا ميثاقه ولم ينتهوا عنها، وقد قال هناك ﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ﴾ أي الذين نزلت عليهم التوراة، ثم التفت إلى خطاب الحاضرين في زمن التنزيل فقال ﴿ ثم توليتم ﴾ وقال هنا ﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ﴾ تماديا في سياق الالتفات وتذكيرا بوحدة الأمة واعتبارها كالشخص الواحد يصيب الخلف أثر ما كان عليه السلف من خير وشر ما استنوا بسنتهم. وجروا على طريقتهم، كما تؤثر أعمال الشخص السابقة في قواه النفسية، وطبع ملكاته بعد انحلال مادة تلك الأعضاء التي ابتدأت العمل وحلول مواد أخرى في محلها تتمرن على مثل ذلك العمل، فما يفعله الشخص في صغره، يبقى أثره في قواه في كبره، فكذلك الأمم.
ثم أكد الله تعالى ذلك الوعيد الشديد وبين سببه بقوله ﴿ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ أي جعلوا حظوظهم من الحياة الدنيا بدلا من الآخرة بما فرطوا في جنب الله وأهملوا من شريعته حتى لم يتبعوا منها إلا ما يوافق أهواءهم ولا يعارض شهواتهم كالحمية التي حملت كل حليف على الانتصار لمحالفه المشرك، ومظاهرته إياه على قومه الذين تجمعه بهم رابطة الدين والنسب ﴿ فلا يخفف عنهم العذاب ﴾ لأن علته ذاتية فيهم وهي ظلمة أرواحهم وفساد أخلاقهم ﴿ ولا هم ينصرون ﴾ بشفاعة شافع أو ولاية ولي من دون الله ﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ ﴾ وأنى يأذن بالشفاعة لمن سجلت عليهم الشقاء أعمالهم بإحاطة الخطايا بهم من كل جانب، حتى أخذت عليهم طريق الرحمة، وقطعت عليهم باختيارهم سبيل الرضوان الإلهي ؟ فمن الجهل إهمالهم الأمر والنهي، ونقضهم ميثاق الله تعالى في أهم ما واثقهم به، واعتمادهم مع هذا كله على الشفعاء { ٢١ : ٢٨ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ).
عهد في سيرة البشر أن الأمة توعظ وتنذر، فتتعظ وتتدبر، فإذا طال عليها الأمد بعد النذير تقسو القلوب، ويذهب أثر الموعظة من الصدور، وتفسق عن أمر ربها، وتنسى ما لم تعمل به مما أنذرت به، أو تحرفه عن موضعه بضروب التأويل، وزخرف القال والقيل، ولقد يكون للمتأخر منها بعض العذر لجهله بما فعل المتقدم وأخذه ما يؤثر عنه بالتسليم لكمال الثقة وحسن الظن.
بين الله تعالى هذه السنة الاجتماعية في سورة الحديد بقوله ﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ﴾ ولهذا كان تعالى يرسل الرسل بعضهم في إثر بعض حتى لا يطول أمد الإنذار على الناس فيفسقوا ويضلوا. ولا يعرف التاريخ شعبا جاءت فيه الرسل تترى كشعب إسرائيل، لذلك كانوا بمعزل عن صحة العذر بطول الأمد على الإنذار. وفي ناحية ما يرجى قبوله من التعلل والاعتذار، لهذا قال تعالى بعد كل ما تقدم ﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ﴾ فلم يمر زمن بين موسى وعيسى آخر أنبيائهم إلا وكان فيه نبي مرسل أو أنبياء متعددون يأمرون وينهون كأنه يقول اعلموا يا بني إسرائيل أنه إن كان لطول الأمد على النبوة وبعد العهد بالرسل يد في تغيير الأوضاع ونسيان الشرائع، وكان في ذلك وجه لاعتذار بعض المتأخرين، فإن ذلك لا يتناولكم، فإن الرسل قد جاءتكم تترى ثم كان من أمركم معهم ما كان.
ذكر رسل بني إسرائيل بالإجمال لبيان ما ذكر، ثم خص بالذكر المسيح عليه السلام فقال ﴿ وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ﴾ فأما البينات فهي ما يتبين به الحق من الحجج القيمة والآيات الباهرة. وقال الأستاذ الإمام : المراد بها ما دعا إليه من أحكام التوراة. وأما روح القدس فهو روح الوحي الذي يؤيد الله تعالى به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم ؛ وهو هو المراد بقوله تعالى ﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ﴾ الآية.
ويطلق عليه روح القدس لأن التعليم الذي يكون به مقدس أو لأنه يقدس النفوس كما يطلق عليه " الروح الأمين " لأن النبي الموحى إليه يكون على بينة من ربه فيه يأمن معها التلبيس فيما يلقى إليه، قال تعالى في القرآن ﴿ نزل ٢٦ : ١٩٣، ١٩٤ به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين ﴾.
( ثم قال الأستاذ ) : ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بروح القدس الملك المسمى بجبريل الذي ينزل على الأنبياء، ومنه يستمدون الشرائع عن الله تعالى وهو على حد قولهم " حاتم الجود " وذكر بعضهم وجها آخر وهو أن المراد بها روح عيسى نفسه، ووصفها بالقداسة والطهارة بمعنى إعاذته من الشيطان أن يكون له حظ فيه، أو لأنه أنزل عليه الإنجيل بالتعاليم التي تقدس النفوس، بل قال بعضهم : إن روح القدس هو الإنجيل، والمراد من الكل واحد، وهو أن الله تعالى أرسل إليهم عيسى بعد ظهور رسل كثيرين فيهم بعد موسى وأعطاه ما لم يعط كل رسول من أولئك الرسل من الوحي أو من قوة الروح، وزكاء النفس ومكارم الأخلاق، ونسخ بعض الأحكام، وقد كان حظه مع ذلك منهم كحظ سابقيه الذين لم يؤتوا من المواهب مثل ما أوتي.
ماذا كان أولئك الرسل من بني إسرائيل ؟ كان حظهم منهم ما أفاده الاستفهام التوبيخي في قوله ﴿ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ﴾ فاتبعتم الهوى وأطعتم الشهوات، وعصيتم الرسل واحتميتم عليهم أن أنذروكم ودعوكم إلى أحكام كتابكم ﴿ ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ﴾ كان المعهود في التخاطب وكلام الناس أن تذكر هذه المساوئ ثم يوبخون عليها، ولكن طواها في الخطاب وأدمجها في الاستفهام لتفاجئ النفوس بقوة التشنيع والتقبيح، وتبرز لها في ثوب الإنكار والتوبيخ، وفي ذلك الإيماء إلى أن هذه المعاملة السوءى مما لا يخفى خبرها، ولا تغيب عن الإنكار صورها، فلا ينبغي الإلماع إليها، إلا في سياق تقريع مجترحيها، وهذا من إيجاز القرآن، الذي لا يعرج إليه فكر الإنسان، وانظر كيف أورد خبر القتل بصيغة المضارع التي تدل على الحال لاستحضار تلك الصورة الفظيعة وتمثيلها للسامع حتى يمثلها في الخيال، وإن مرت عليها القرون والأحوال لأنها أفاعيل لا تخلق جدتها، ودماء لا تطير رغوتها، وإن مثل هذا التعبير ليمثل تلك الصور المشوهة أن الألفاظ إذا قرعت الذهن بمفهومها يتناول الخيال ذلك المفهوم ويصوره بالصورة اللائقة به، فيكون له من التأثير ما يناسبه.
قتلوا من الأنبياء المرسلين زكريا ويحيى عليهما السلام، ويروى أنهم قتلوا في يوم واحد مائة وخمسين نبيا، فإن صح هذا فالمراد بأولئك الأنبياء من كانت نبوتهم محصورة في الدعوة إلى إقامة التوراة، ودليلها محصورا في الإنباء ببعض المغيبات وكان هذا الفريق منتشرا في أسباط بني إسرائيل وكثيرا بكثرتهم.
وفي هذه الآية حجتان للنبي صلى الله عليه وسلم – حجة على بني إسرائيل وحجة على الذين يعجبون لعدم إيمانهم به وإجابتهم دعوته، وبيان أن المجاحدة والمعاندة من شأنهم ومما عرف من شنشنتهم،
الغلف بضم وسكون وبضمتين جمع أغلف، وهو ما يحيط به غلاف يمنع أن يصيبه شيء. والمراد أننا لا نعقل قولك ولا ينفذ إلى قلوبنا مفهوم دعوتك فهو بمعنى قوله تعالى ﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ﴾.
وقد رد الله تعالى عليهم بما يشعر بكذبهم وعنادهم فقال ﴿ بل لعنهم الله بكفرهم ﴾ أي أن قلوبهم ليست غلفا لا تفهم الحق بطبعها، وإنما أبعدهم الله تعالى من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرفوه اتباعا لأهوائهم، فهم قد أنسوا بالكفر وانطبعوا عليه، فكان ذلك سببا في حرمانهم من قبول الرحمة الكبرى بإجابة دعوة خاتم النبيين. هذا هو معنى اللعن وقد ذكرت معه علته ليعلم أنه جرى على سنة الله تعالى في الأسباب والمسببات وأن الله لم يظلمهم بهذا، وإنما ظلموا أنفسهم بالكفر الذي يستتبع الكفر، والعصيان الذي يجر إلى التمادي في العصيان، كما في السنة في أخلاق الإنسان. ولما ذكر اللعن معللا بالكفر الذي هو نتيجة تأثير أعمالهم السابقة في أنفسهم، وكان مما يخطر بالبال أن أولئك القوم لم يكونوا كافرين، بل مؤمنين بالله وكتابه ورسله إليهم، استدرك فقال ﴿ فقليلا ما يؤمنون ﴾ وإنما القلة في الإيمان باعتبار ما يؤمن به من أصول الدين وأحكام الشريعة، وبالنسبة إلى اليقين في الإيمان، وتحكيمه في الفكر والوجدان.
ولقد كان القوم يؤمنون بالشريعة في الجملة وكما تعطيه ظواهر الألفاظ، ولكنهم لم يلبسوها مفصلة تفصيلا، ولم يفقهوا حكمها وأسرارها، فلم يكن لها سلطان على قلوبهم، ولم تكن هي المحركة لإرادتهم في أعمالهم، وإنما كان يحركها الهوى والشهوة، ويصرفها عامل اللذة، فالإيمان إنما كان عندهم قولا باللسان، ورسما يلوح في الخيال، تكذبه الأعمال، وتطمسه السجايا الراسخة والخلال، وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله تعالى. ومن العجب أن نرى آيات القرآن تبطله بالحجج القيمة، والأساليب المؤثرة، وأهل القرآن عن ذلك غافلون، فقليلا ما يعتبرون ويتذكرون.
ومن مباحث اللفظ في الآية : أن كثيرا من المفسرين يزعمون أن " ما " زائدة وما هي بزائدة وفاقا لابن جرير الطبري، وجل القرآن أن يكون فيه كلم زائدة وإنما تأتي " ما " هذه لإفادة العموم تارة ولتفخيم الشيء تارة، ويقول ابن جرير إنما يؤتى بها في مثل هذا المقام كمبتدأ كلام جديد يفيد العموم كأنه قال : فإيمانا قليلا ذلك الذي يؤمنون به : وأما التي لتفخيم الشيء فكقوله تعالى ﴿ ٣ : ١٥٩ فبما رحمة من الله لنت لهم ﴾ أي فبسبب رحمة عظيمة الشأن خصك الله بها لنت لهم على ما لقيت منهم، وقد بين تعالى هذه الرحمة بقوله في وصفه صلى الله عليه وسلم ﴿ ٩ : ١٢٨ بالمؤمنين رؤوف رحيم ﴾ وقوله ﴿ ٢١ : ١٠٧ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾.
هذا ما اختاره الأستاذ الإمام في تفسير قوله تعالى ﴿ فقليلا ما يؤمنون ﴾ وهناك وجه آخر أورده ابن جرير في تفسيره، وهو أنه لا يؤمن بالنبي وما جاء به إلا قليل منهم. والاستدراك على هذا الوجه أظهر، فإنه لما بين أن كفرهم المستقر، وعصيانه المستمر، كانا سببا في لعنهم وإبعادهم، كان للوهم أن يذهب إلى أنهم قوم قد سجل عليهم الشقاء وعمهم حتى لا مطمع في إيمان أحد منهم، فجاء قوله تعالى ﴿ فقليلا ما يؤمنون ﴾ يبين أن هذا الوهم لا يصح أن ينطلق على إطلاقه، وأن تأثير ما ذكر في مجموع الشعب لم يستغرق أفراده استغراقا، وإنما غمر الأكثرين، ويرجى أن ينجو منه النفر القليل، وكذلك كان. أقول : وفيه من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحق ما لا يعهد في كلام الناس.
قال الأستاذ الإمام : إن قوله تعالى ﴿ ولما جاءهم كتاب ﴾ الخ متصل بقوله قبله ﴿ فقليلا ما يؤمنون ﴾ والمعنى أن إيمانهم كان قليلا حال كونهم كانوا ينتظرون نبيا وكتابا مصدقا لما معهم وكانوا يستفتحون به على المشركين فكيف لا يكون قليلا، أو أقل بعد ما جاء ما كانوا ينتظرون وعرفوا أنه الحق ثم كفروا ؟ فالجملة حالية : ويصح أيضا هذا الاتصال الذي ذكره على الوجه الثاني في تفسير ﴿ فقليلا ما يؤمنون ﴾ والكتاب هنا القرآن نكره للتفخيم وقوله ﴿ مصدق لما معهم ﴾ معناه أنه موافق له في التوحيد وأصول الدين ومقاصده، والاستفتاح في قوله ﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ﴾ معناه طلب الفتح وهو الفصل في الشيء والحكم ويستعمل بمعنى النصر لأنه فصل بين المتحاربين. وكانت اليهود تستفتح على مشركي العرب بالنبي المنتظر يقولون إنه سيظهر فينصر كتابه التوحيد الذي نحن عليه ويخذل الوثنية التي تنتحلونها ويبطلها، فيكون مؤيدا لدين موسى.
( أقول ) روى محمد بن إسحاق عن أشياخ من الأنصار أن هذا نزل فيهم وفي يهود المدينة، قالوا : كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية ونحن أهل الشرك وهم أهل كتاب وهم يقولون إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه نقتلكم معه قتل عاد وإرم الخ وروى الضحاك عن ابن عباس في تفسير ( يستفتحون ) : يستنصرون يقولون نحن نعين محمدا عليهم الخ وتتمته في تفسير العماد ابن كثير. وشذ بعضهم كالبغوي في تفسيره فقال إنهم كانوا يقولون إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة والإنجيل – فكانوا ينصرون وفيه روايات ضعيفة عن ابن عباس لم يعرج ابن كثير على شيء منها، ولعله لأنها على ضعف روايتها ومخالفتها للروايات المعقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات " بحقه " وهذا غير مشروع ولا حق لأحد على الله فيدعي به كما قال الإمام أبو حنيفة وغيره. وكذلك فعل ابن جرير لم يذكر شيئا من روايات الدعاء بحقه والاستنصار بشخصه، بل ذكر عدة روايات في أنهم كانوا يدعون الله بأن يبعثه ليقتل المشركين، وفي بعضها أنهم كانوا يرجون أن يكون منهم. والكلام هنا في مجيء الكتاب لا في مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأتي ذكر مجيئه قريبا، على أنهما متلازمتان ﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾ أعاد فلما جاءهم وهي عين الأولى لطول الفصل ووصل به الجواب وهو " كفروا به " ذلك أنه راعهم كونه بعث في العرب فحسدوه فحملهم الحسد على الكفر به جحودا وبغيا، فسجلت عليهم اللعنة التي أصابتهم بكفرهم الأول بأن الكفر صار وصفا لازما لهم ولذلك قال ﴿ فلعنة الله على الكافرين ﴾ ولم يقل عليهم لأن المظهر أبلغ وأعم وأشمل.
ومن مباحث اللفظ أيضا : وضع المضارع ( تقتلون ) موضع الماضي ( قتلتم ) لما سبق بيانه في مثل هذا التعبير من إرادة استحضار صورة هذا الجرم الفظيع مبالغة في التقريع، وإغراقا في التشنيع، ولما كانت هذه الصيغة تدل على الحال فتوهم أن الذين في زمن التنزيل كانوا لا يزالون يقترفون هذه الجريمة على أنه لم يكن في ذلك العهد أنبياء إلا من يبكتهم ويحتج عليهم – وصلها بقوله ( من قبل ) دفعا لذلك الوهم. والفاء في قوله ( فلم ) واقعة في جواب شرط دل عليه ما بعده.
وقد سبق القول غير مرة بأن خطاب الخلف بإسناد ما كان من سلفهم إليهم مقصود لبيان وحدة الأمة وتكافلها وكونها في الأخلاق والسجايا المشتركة بين أفرادها كالشخص الواحد، وبيان أن ما تبلى به الأمم من الحسنات والسيئات إنما هو أثر الأخلاق الغلبة عليها والأعمال الفاشية فيها منبعثة عن تلك الأخلاق فما جرى من بني إسرائيل من المنكرات لم يكن من قذفات المصادفة، وإنما كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع الآخرون فيها الأولين، إما بالعمل وإما بالإقرار وترك الإنكار. ولو أنكر المجموع ما كان من بعض الأفراد لما تفاقم الأمر، ولما تمادى واستمر، فالحجة تقوم على الحاضرين بأن الغابرين قتلوا الأنبياء فأقرهم من كان معهم، ولم يعدوا ذلك خروجا من الدين ولا رفضا للشريعة، وتبعهم من بعدهم على ذلك، وفاعل الكفر ومجيزه واحد، وقد سبق تقرير هذا غير مرة.
وقد فهم مما تقدم معنى قوله تعالى ﴿ بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ﴾ فهو تعليل لكفرهم لا لشرائهم، أي كفروا به لمحض البغي الذي أثاره الحسد كراهة أن ينزل الله الوحي من فضله بمقتضى مشيئته، وأي بغي أقبح من بغي من يريد أن يحجر على فضل الله ويفيد رحمته فلا يرضى منه أن يجعل الوحي في آل إسماعيل كما جعله في آل أخيه إسحاق ؟ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ينزل ) بالتخفيف من الإنزال والباقون بالتشديد من التنزيل. وأما قوله ﴿ فباءوا بغضب على غضب ﴾ فهو الغضب الذي استوجبوه حديثا بالكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق ذلك الغضب الذي لحقهم من قبل بإعنات موسى عليه السلام والكفر به، وقد ذكر في قوله :﴿ ١١٣ وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ﴾ ثم توعدهم بعد الغضب المزدوج فقال ﴿ وللكافرين عذاب مهين ﴾ أي مقرون بالإهانة والإذلال، وبذلك صار بمعنى الآية السابقة، فكأن الجزاء واحد تكرر بتكرر الذنب. وقال ﴿ وللكافرين ﴾ ولم يقل ( ولهم ) لما في المظهر من بيان التعليل بالوصف الذي سجله عليهم كما تقدم آنفا. وهذا العذاب مطلق يشمل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وقد تقدم أن ذنوب الأمم تتبعها عقوبتها في الدنيا لأنها أثر طبيعي لها، وإنما جعلها الله كذلك لتكون عبرة يتأدب المتأخرون بما أصاب منها المتقدمين. وكذلك الحال في عقوبة الآخرة بالنسبة إلى الأفراد، فإن عذاب كل شخص إنما يكون بحسب تأثير الجهل في عقله وفساد الأخلاق وسوء الأعمال في نفسه.
اعتذر بعض اليهود في عصر التنزيل عن عدم الإيمان به بأن قلوبهم غلف لم تفهم الدعوة ولم تعقل الخطاب، فرد الله تعالى عليهم ببيان السبب الحقيقي في ترك الإيمان، وما استحقوه عليه من الغضب والهوان.
ومن مباحث اللفظ أيضا : وضع المضارع ( تقتلون ) موضع الماضي ( قتلتم ) لما سبق بيانه في مثل هذا التعبير من إرادة استحضار صورة هذا الجرم الفظيع مبالغة في التقريع، وإغراقا في التشنيع، ولما كانت هذه الصيغة تدل على الحال فتوهم أن الذين في زمن التنزيل كانوا لا يزالون يقترفون هذه الجريمة على أنه لم يكن في ذلك العهد أنبياء إلا من يبكتهم ويحتج عليهم – وصلها بقوله ( من قبل ) دفعا لذلك الوهم. والفاء في قوله ( فلم ) واقعة في جواب شرط دل عليه ما بعده.
وقد سبق القول غير مرة بأن خطاب الخلف بإسناد ما كان من سلفهم إليهم مقصود لبيان وحدة الأمة وتكافلها وكونها في الأخلاق والسجايا المشتركة بين أفرادها كالشخص الواحد، وبيان أن ما تبلى به الأمم من الحسنات والسيئات إنما هو أثر الأخلاق الغلبة عليها والأعمال الفاشية فيها منبعثة عن تلك الأخلاق فما جرى من بني إسرائيل من المنكرات لم يكن من قذفات المصادفة، وإنما كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع الآخرون فيها الأولين، إما بالعمل وإما بالإقرار وترك الإنكار. ولو أنكر المجموع ما كان من بعض الأفراد لما تفاقم الأمر، ولما تمادى واستمر، فالحجة تقوم على الحاضرين بأن الغابرين قتلوا الأنبياء فأقرهم من كان معهم، ولم يعدوا ذلك خروجا من الدين ولا رفضا للشريعة، وتبعهم من بعدهم على ذلك، وفاعل الكفر ومجيزه واحد، وقد سبق تقرير هذا غير مرة.
ومن مباحث اللفظ أيضا : وضع المضارع ( تقتلون ) موضع الماضي ( قتلتم ) لما سبق بيانه في مثل هذا التعبير من إرادة استحضار صورة هذا الجرم الفظيع مبالغة في التقريع، وإغراقا في التشنيع، ولما كانت هذه الصيغة تدل على الحال فتوهم أن الذين في زمن التنزيل كانوا لا يزالون يقترفون هذه الجريمة على أنه لم يكن في ذلك العهد أنبياء إلا من يبكتهم ويحتج عليهم – وصلها بقوله ( من قبل ) دفعا لذلك الوهم. والفاء في قوله ( فلم ) واقعة في جواب شرط دل عليه ما بعده.
وقد سبق القول غير مرة بأن خطاب الخلف بإسناد ما كان من سلفهم إليهم مقصود لبيان وحدة الأمة وتكافلها وكونها في الأخلاق والسجايا المشتركة بين أفرادها كالشخص الواحد، وبيان أن ما تبلى به الأمم من الحسنات والسيئات إنما هو أثر الأخلاق الغلبة عليها والأعمال الفاشية فيها منبعثة عن تلك الأخلاق فما جرى من بني إسرائيل من المنكرات لم يكن من قذفات المصادفة، وإنما كان عن أخلاق راسخة في الشعب تبع الآخرون فيها الأولين، إما بالعمل وإما بالإقرار وترك الإنكار. ولو أنكر المجموع ما كان من بعض الأفراد لما تفاقم الأمر، ولما تمادى واستمر، فالحجة تقوم على الحاضرين بأن الغابرين قتلوا الأنبياء فأقرهم من كان معهم، ولم يعدوا ذلك خروجا من الدين ولا رفضا للشريعة، وتبعهم من بعدهم على ذلك، وفاعل الكفر ومجيزه واحد، وقد سبق تقرير هذا غير مرة.
سبق التذكير باتخاذ العجل في قوله تعالى ﴿ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ﴾ ثم أعاده هنا بعبارة وأسلوب آخرين في سياق آخر. أما اختلاف العبارة والأسلوب فظاهر وأما السياق فقد كان أولا في تعداد النعم على بني إسرائيل وبيان ما قابلوها به من الكفران وهو هنا في ذكر الآيات ورد شبهاتهم المانعة بزعمهم من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهناك يقول إن النعم التي أسبغها الله عليكم لم يكن لها من شكر عندكم إلا اتخاذ عجل تعبدونه من دونه. وهاهنا يقول إن الآيات البينات على النبوة والوحدانية، لم تزدكم إلا إيغالا في الشرك وإنهما كان في الوثنية، فكيف تعتذرون عن الإيمان بمحمد بأنكم لا تؤمنون إلا بما أنزل إليكم وهذا شأنكم فيه ومجموع الآيتين ينبئ بفساد قلوب القوم وفساد عقولهم حتى لا مطمع في هداية أكثرهم من جهة الوجدان، ولا من ناحية العقل والجنان. وهذه البينات التي ذكرها هاهنا قد كانت في مصر قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة وأما النعم التي ذكرها هناك فقد كانت في أرض الميعاد كما تقدم. ووجه الاتصال بين هذه الآية وما قبلها قد علم مما قلناه في السياق وفيه المقابلة بين معاملتهم لموسى عليه السلام ومعاملتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قالوا : قلوبنا غلف وادعوا أنهم مأمورون بأن لا يؤمنوا إلا بما أنزل عليهم خاصة. وقد علم من هذه الحجج كلها بطلان شبههم وكذبهم في دعواهم وأنه لا عذر لهم في ترك الإيمان.
قال ﴿ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده ﴾ أي من بعد هذا المجيء لا من بعد موسى والمراد أنه لم يكن لهم عذر في ذلك الاتخاذ فإنه بعد بلوغ الدعوة. وقيام الحجة، ولذلك قال ﴿ وأنتم ظالمون ﴾ وأي ظلم أعظم من الشرك بالله تعالى ؟ ولا تغفل عن الإيجاز في قوله
( من بعده ) وحذف مفعول ( اتخذتم ) أي اتخذتموه إلها.
وفي اختلاف النظم والأسلوب حجة على الذين توهموا أن إعجاز القرآن في البلاغة إنما هو في السبق إلى العبارة التي يتأدى بها المعنى على أكمل الوجوه الممكنة في نظم الكلمات العربية. رأى هؤلاء أن المعنى يفيد علما بشيء ما له كلمات في اللغة تؤديه بوجه من النظم وأن الكلمات والوجوه محدودة فمن سبق إلى أتمها أداء وأبلغها تأثيرا كان كالسابق إلى انتقاء أكرم جوهرة من طائفة من الجواهر أمامه أو إلى أنفس عقد وأحسنه نظما من عقود عرضت عليه. مثال ذلك قوله تعالى :﴿ ٤٠ : ٢٨ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ﴾ قال علماء هذا الشأن إنه يتألف من هذه الكلمات عشرة ضروب من النظم بالتقديم والتأخير، ما من ضرب منها إلا وهو منتقد بالخطل أو إيهام خلاف المراد أو الخطأ في الإعراب إلا نظم الآية فهو الذي يؤدي المعنى على أكمل الوجوه ولا يتأتى نظم آخر يؤدي مؤداه.
وزعم بعض الناس أن هذا الإعجاز ليس إلهيا.
لو أخذ ما قالوه مسلما على إطلاقه لكان لنا أن نقول إنه ليس في قدرة أحد من البشر أن يأتي بكلام طويل يتجلى له في كل جملة منه جميع الكلمات التي تدخل في تأدية المعنى المراد له وجميع ضروب النظم ووجوه الأساليب الممكنة في ترتيب تلك الكلمات وتأليفها فيختار الأحسن الأبلغ منها. وإذا لم يكن هذا في قدرة البشر كما هو ظاهر فلا بد أن يكون من جاء به مؤيدا بعناية من الله تعالى. على أننا لا نسلم بما قالوه على إطلاقه فإنه لا يتجه إلا في ألفاظ معينة كألفاظ آية ﴿ وقال رجل مؤمن من آل فرعون ﴾ الخ وإذا نظرنا إلى المعاني لا سيما الكلية نراها تتجلى في صور كثيرة من النظم الذي تختلف ألفاظه. وأمامنا الآن معنى الآية التي نفسرها وهو أن الله أخذ العهد على بني إسرائيل بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأن يعملوا بشريعته ووصاياه وكان أخذ هذا العهد في موقف رهبة وخشوع يعين على أخذه بالجد والعزيمة إذ كان الجبل مرفوعا فوقهم بصفة لم يعهدوها حتى ظنوا أنه يريد أن يقع بهم ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوا هذا الميثاق وتركوا العمل به وعبدوا العجل الذي صاغوه من حليهم بأيديهم عن حب متمكن من النفس، وغالب على العقل والحس، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في كتابه غير مرة ولكن بعبارات مختلفة كالآية التي تقدمت وذكر هناك أنهم تولوا عن الميثاق بعد الأمر حفظه والعمل به رجاء التقوى، وكآية الأعراف ﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ﴾ وتقدمت الإشارة إليها هناك وكلاهما غاية في البلاغة.
وذكره هنا بنظم آخر تنتهي إليه البلاغة في سياق آخر فقال ﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا ﴾ ثم التفت عن خطاب الحاضرين إلى الحكاية عن الغابرين فقال ﴿ قالوا سمعنا وعصينا ﴾ أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه ولكنهم لم يعملوا به بل خالفوه تعنتا وتأولا ولبس المراد أنهم نطقوا بهاتين الكلمتين ( سمعنا وعصينا ) بل المراد أنهم بمثابة من قال ذلك، ومثل هذا التجوز معروف في عهد العرب وفي هذا العهد – يعبرون عن حال الإنسان وغيره بقول يحكيه عن نفسه حتى حكى مثل ذلك عن الحيوانات والطيور وعن الجمادات أيضا وهو أسلوب أظن أنه يوجد في لغة أو في اللغات الراقية فقط. ثم ذكر أقبح أمثلة هذا العصيان بعبارة مدهشة في بلاغتها فقال ﴿ وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ﴾ هذه الاستعارة من فرائد الاستعارات يتمثل بها عند ذكر بلاغة القرآن. وإشراب الشيء الشيء مخالطته إياه وامتزاجه به، يقال بياض مشرب بحمرة، أو هو من الشرب كأن الشيء المحبوب شراب يساغ فهو يسري في قلب المحب ويمازجه كما يسري الشراب العذب البارد في لهاته. وقد قدر الأكثرون هنا مضافا محذوفا، فقالوا المراد " حب العجل " وذهب بعض الجامدين على الظواهر إلى أن المراد بالشرب هنا حقيقته. وزعموا أن موسى لما سحق العجل وذراه في اليم طفقوا يشربون المسحوق مع الماء. وغفل صاحب هذا الزعم عن قوله تعالى ﴿ في قلوبهم ﴾ والشراب الحقيقي لا يكون في القلب. والشرب غير الإشراب. ولبعض المفسرين مزاعم وقصص في العجل لا يدل عليها وحي منزل، ولا تاريخ صحيح ينقل، والباء في قوله ( بكفرهم ) للسببية أي سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فقد رسخ الكفر في قلوبهم بطول الزمن وورثه الأبناء عن الآباء.
وأما السياق الذي وردت فيه هذه الآية بهذا النظم والأسلوب المخالفين لأسلوب تلك الآية مع الاتحاد في المعنى فهو إقامة الحجة على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورد زعمهم أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها كما قلنا في التي قبلها، ولذلك ختم الآية بقوله تعالى مخاطبا للنبي عليه الصلاة والسلام ﴿ قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ﴾ أي إن صح زعمكم أنكم مؤمنون بشريعة – والإيمان الحقيقي العمل بما له من السلطان على الإرادة – فبئسما يأمركم به ذلك الإيمان من الأعمال التي منها عبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق. لكن هذا الزعم مشكوك فيه بل يصح القطع بعدمه، بدليل الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا له. ولا ينسى القارئ ما تقدم من ربط الإيمان بالعمل الصالح في تفسيره قوله تعالى ﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ﴾ الآية.
( قال الأستاذ الإمام ) فسر مفسرنا ( الجلال ) الخالصة بالخاصة وقالوا إنه استعمال لم يعهد في الكلام الفصيح، والتخصيص مفهوم من قوله ﴿ من دون الناس ﴾ يقول إن صحت دعواكم وصدق قولكم إنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وأنكم شعب الله المختار فلن تمسكم الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم، الذي لا منازع لكم فيه ولا مزاحم، وإن لم تتمنوا الموت فما أنتم بصادقين، إذ لا يعقل أن يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء عليها.
والتمني هو ارتياح النفس وتشوفها إلى الشيء توده وتحب المصير إليه. وروي عن ابن عباس تفسير التمني بالسؤال والطلب، وهو غير معروف عن غيره من العرب. ولعله فسره باللازم، فإنه من تمنى شيئا طلبه بالقول أو الفعل أو بهما. وقد روي عن كثير من الصحابة عليهم رضوان الله تمني الموت عند القتال وبعد القتال يعبرون بألسنتهم عما في نفوسهم، وما هو إلا صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الآخرة.
( أقول ) تفسير التمني بلازمه القولي كما نقل عن ابن عباس أو العملي كالتعرض للقتل في سبيل الإيمان كما نقل عن غيره يدفع إيراد من يقول : إذا كان المراد بالتمني تمنى النفس فلا يظهر صدق قوله تعالى في الآية التي بعد هذه الآية ﴿ ولن يتمنوه ﴾ وقد ظهر صدقها على الوجه الأول فلم يتمن أحد من المخاطبين الموت، وقد ورد أنهم لو تمنوا الموت لماتوا رواه البخاري : وما قاله الأستاذ الإمام في تفسير التمني بحقيقته يدفع كل إيراد. فقد قال : إن الكلام حجة على مدعى الإيمان واستحقاق ما أعده الله لأهله في الآخرة تقنعهم في أنفسهم بأنهم إما صادقون في دعواهم وذلك إذا كانوا يتمنون في أنفسهم الموت والوصول إلى الدار الآخرة ويبذلون أرواحهم في سبيل الله بارتياح إذا كان حفظ الحق يقتضي بذلها، وإما كاذبون فيها، وذلك إذا كانوا شديدي الحرص على هذه الحياة. وليس المراد به الحجة الإلزامية أمام الناس. ولذلك كانت العبرة في الآية عامة فهي واردة في سياق الاحتجاج على اليهود ويجب على المسلمين أن يتخذوها ميزانا يزنون به دعواهم اليقين في الإيمان والقيام بحقوقه لأن الله أنزلها لذلك.
﴿ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ﴾ كذلك كانوا وكذلك هم الآن. والظاهر من سيرتهم ونظام معيشتهم أنهم كذلك يكونون إلى ما شاء الله وإن كان الظاهر أن الكلام خاص بمن كانوا في عصر التنزيل يحاجهم النبي صلى الله عليه وسلم ويشاغبونه ويجاحدونه، معتزين بشعبهم مغترين بكتابهم، بل ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد علماؤهم فقط. ونكر الحياة للتحقير، كأنه يقول : إنهم شديد الحرص على الحياة وإن كانت في بؤس وشقاء. ثم خص طائفة من الناس بالذكر عرفوا بشدة الحرص على الحياة وتمنى طول البقاء في الدنيا أنهم لا يؤمنون بحياة بعدها فقال ﴿ ومن الذين أشركوا ﴾ أي أنهم أحرص الناس من جميع الناس حتى من الذين أشركوا، ثم بين مثالا من هذا الحرص مستأنفا فقال ﴿ يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ﴾ أي يتمنى لو يعمره الله ويبقيه ألف سنة، أو أكثر، فإن لفظ الألف عند العرب منتهى أسماء العدد فيعبر به عن المبالغة في الكثرة لأنه يعرف من نفسه أنه مخالف لكتابه ويتوقع سخط الله وعقابه فيرى أن الدنيا على ما فيها من المنغصات خير له من الآخرة وما يتوقعه فيها. قال تعالى ﴿ وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ﴾ أي وما تعميره الطويل بمزحزحه أي منحيه ومبعده عن العذاب المعد له ولأمثاله فإنه ميت مهما طال عمره وكل ماله حد فهو منته إليه ﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ لا تخفى عليه خافية من أمرهم ولو عرفوه حق معرفته لعلموا أن طول العمر لا يخرجهم من قبضته، ولا ينجيهم من عقوبته، فإن المرجع إليه، والأمر كله بيديه.
ومن مباحث اللفظ أن الضمير في قوله ( وما هو ) مبهم يفسره ما بعده كما اختاره الأستاذ الإمام وأكثر المفسرين على أن " ما " حجازية والضمير العائد على ( أحدهم ) اسمها وبمزحزحه خبرها، والباء زائدة في الإعراب و ( أن يعمر ) فاعل مزحزحه.
الكلام متصل بما قبله من ذكر تعلات اليهود واعتذارهم عن الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام وبما جاء به من البينات والهدى – زعموا أنهم مؤمنون بكتاب لا حاجة لهم بهداية في غيره. فاحتج عليهم بما ينقض دعواهم، وزعموا أنهم ناجحون في الآخرة على كل حال لأنهم شعب الله وأبناؤه فأبطل زعمهم، ثم ذكر لهم تعلة أخرى أغرب مما سبقها، وفندها كما فند ما قبلها، وهي أن جبريل الذي ينزل بالوحي على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عدوهم فلا يؤمنون بوحي يجئ هو به. وقد جاء في أسباب النزول روايات عنهم في ذلك. منها أن عبد الله بن صوريا من علمائهم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي ؟ فقال : هو جبريل، فزعم أنه عدو اليهود، وذكر من عداوته أنه أنذرهم خراب بيت المقدس، فكان. ومنها أن عمر بن عبد الخطاب رضي الله عنه دخل مدارسهم فذكر جبريل، فقالوا : ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وميكائيل صاحب الخصب والسلم : الخ، وهذا القول هراء، وخطله بين، وإنما عنى القرآن بذكره ورده أنه مؤذن بتعنتهم وعنادهم، وشاهد على فساد تصورهم وعدم تدبرهم، ليعلم الذين كانوا ينتظرون ما يقول أهل الكتاب فيه أنه لا قيمة لأقوالهم، ولا اعتداد بمرائهم وجدالهم.
قال تعالى ﴿ قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ﴾ أي قل لهم أيها الرسول حكاية عن الله تعالى : من كان عدوا لجبريل فإن شأن جبريل كذا – فهو إذا عدو لوحي الله الذي يشمل التوراة وغيرها ولهداية الله تعالى لخلقه وبشراه للمؤمنين، على ما يأتي في بيان ذلك. قال شيخنا في تقييد تنزيله بإذن الله : وإذا كان يناحى روحك ويخاطب قلبك بإذن الله، لا افتياتا من نفسه، فعداوته لا يصح أن تصد عن الإيمان بك، وليس للعاقل أن يتخذها تعلة وينتحلها عذرا، فإن القرآن من عند الله لا من عنده. فقوله ﴿ بإذن الله ﴾ حجة أولى عليهم، ثم قال ﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ أي حال كونه موافقا للكتب التي تقدمته في الأصول التي تدعو إليها من التوحيد واتباع الحق والعمل الصالح ومطابقا لما فيها من البشارات بالنبي الذي يجئ من أبناء إسماعيل، كأنه يقول : فآمنوا به لهذه المطابقة والموافقة، لا لأن جبريل واسطة في تبليغه وتنزيله. وهذه حجة ثانية ثم عزرهما بثالثة وهي قوله ﴿ وهدى ﴾ أي نزله هاديا من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان، فألقت أهلها في حضيض الهوان. والعاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه، وتنقذه من ضلال هو فيه، لأن الواسطة في مجيئها كان عدوا له من قبل، فإن هذا الرفض من عمل الغبي الجاهل الذي لا يعرف الخير بذاته وإنما يعرفه بمن كان سببا في حصوله. ثم أيد الحجج الثلاث برابعة فقال ﴿ وبشرى للمؤمنين ﴾ أي إذا كنتم تعادون جبريل لأنه أنذر بخراب بيت المقدس فهو إنما أنذر المفسدين. وقد أنزل هذا القرآن عليّ بشرى للمؤمنين فما لكم أن تتركوا هذه البشرى إن كنتم من أهل الإيمان، لأن الذي نزل بها قد نزل بإنذار أهل الفساد والطغيان.
ومن مباحث اللفظ في الآية : أن جبريل اسم أعجمي مركب من " جبر " ومعناه بالعبرانية أو السريانية القوة ومن " إيل " ومعناه الإله أي قوة الله وقيل معناه عبد الله. وفيه ١٣ لغة منها ثمان لغات قرئ بهن أربع في المشهورات : جبرئيل كسلسبيل قرأ بها حمزة والكسائي وجبريل بفتح الراء وحذف الهمزة قرأ بها ابن كثبر والحسن وابن محصين وجبرئل كجحمرش قرأ بها عاصم برواية أبي بكر، وجبريل كقنديل قرأ بها الباقون. وأربع في الشواذ جبرإل وجبرائيل وجبرئل وجبرين.
ومنها أن قوله ﴿ نزله على قلبك ﴾ ورد على طريق الالتفات عن التكلم إلى الخطاب إذ كان مقتضى السياق أن يقول ( نزله على قلبي ) وقد قالوا في نكتته إنها حكاية ما خاطبه الله تعالى به. ولا أرى صاحب الذوق السليم إلا مستنكرا صيغة التكلم في هذا المقام ؛ والعلة في ذلك لا تبعد عن الأفهام، ومنها أن الضمير المنصوب البارز في ( نزله ) للقرآن وهو لم يذكر فيما قبلها وإنما عينته قرينة الحال، وذلك يدل على فخامة شأنه، كأنه لشهرته قد استغنى عن ذكره ( قاله البيضاوي ).
أقام الحجج على حماقتهم وسخفهم في دعوى عداوة جبريل وبيان أنها لا يصح أن تكون مانعة من الإيمان بكتاب أنزله الله بتلك الصفات التي طويت فيها الحجج.
( ميكال ) بوزن ميعاد قراءة أبي عمرو ويعقوب وعاصم برواية حفص، وقرأ نافع ميكائل وحمزة والكسائي وابن عامر ميكائيل. وفي الشواذ ميكئل وميكئيل وميكاييل.
( قال الأستاذ الإمام ) هذا وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاءوا بها وهم لم يدعوا عداوة هؤلاء كلهم ولكنهم كذلك في نفس الأمر، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في الواقع. وهي أنهم أعداء الحق وأعداء كل من يمثله وينقله ويدعو إليه، فالتصريح بعداوة جبريل كالتصريح بعداوة ميكال الذي يزعمون أنهم يحبونه وأنهم كانوا يؤمنون بالنبي لو كان هو الذي ينزل بالوحي عليه. ومعاداة القرآن كمعاداة سائر الكتب الإلهية، لأن الغرض من الجميع واحد. ومعاداة محمد صلى الله عليه وسلم كمعاداة كل من ذكر. وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي انفرد بها.
وفي قوله تعالى ( للكافرين ) وضع للمظهر في موضع المضمر لبيان أن سبب عداوته تعالى لهم هو الكفر، فإن الله لا يعادي قوما لذواتهم ولا لأنسابهم، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه معاقبة العدو للعدو.
( أقول ) وقد تقدم غير مرة أن عذاب الله وانتقامه من الكفرة الفجرة لا يشبه انتقام ملوك الدنيا وزعمائها، وإنما قضت سنته تعالى بأن يكون لكل عمل يعمله الإنسان في ظاهره أو في نفسه وضميره أثرا في نفس العامل يزكيها ويدسيها وسعادة الإنسان في الآخرة أو شقاؤه تابع لآثار اعتقاداته وأعماله في نفسه. ولذلك قال تعالى ﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ﴾.
قال هذا شيخنا : وعلو الله تعالى على خلقه حقيقة أثبتها لنفسه في كتابه، لا حاجة إلى تأويلها بعلو مرتبة الربوبية على مرتبة المخلوقين هربا من استلزامها الحصر والتحيز في جهة واحدة، فإن التنزيه القطعي يبطل اللزوم. ومسألة الجهات نسبية لا حقيقية، وإذ كان الرب تعالى بائنا من خلقه وهو من ورائه محيط فهم أينما كانوا لا يتوجهون إليه إلا أنه فوقهم وإذا كان الملائكة ﴿ يخافون ربهم من فوقهم ﴾ فماذا يقال فيمن دونهم ؟ وتوجه البشر إلى ربهم في جهة العلو وقبل السماء فطري معروف في جميع أهل الملل، فهو فوق الخلق في جملته وفوق العباد أينما كانوا من أرض أو سماء، وهنالك مقام الإطلاق الذي لا يقيد بقيد ولا يحصر في حيز، وإنما الحيز والحصر من الأمور النسبية والاعتبارية في داخل دائرة الخلق، وصح في الحديث أن الملائكة إذا سمعوا كلام الله في السموات عراهم ما عراهم مما أشير إليه في قوله تعالى ﴿ حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير ﴾ وشيخنا على دعوته إلى مذهب السلف كان لا يزال متأثرا بمذهب الأشعرية.
وأما كون آيات القرآن بينات فهي أنها بإعجازها البشر وبقرن المسائل الاعتقادية فيها ببراهينها، والأحكام الأدبية والعملية بوجوه منافعها، لا تحتاج إلى دليل آخر يدل على أنها هداية من الله تعالى وأنها جديرة بالإتباع، بل هي دليل على نفسها عند صاحب الفطرة السليمة كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى شيء آخر يظهره ﴿ وما يكفر بها إلا الفاسقون ﴾ الذين خرجوا من نور الفطرة وانغمسوا في ظلمة التقليد فتركوا طلب الحق بذاته لاعتقادهم أن فطرتهم ناقصة لا استعداد فيها لإدراكه بذاته على شدة ظهوره، وإنما يطلبونه من كلام مقلديهم – وكذا الذين ظهر لهم الحق فاستحبوا العمى على الهدى حسدا لمن ظهر الحق على يديه وعنادا له.
قوله تعالى ﴿ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدقا لما معهم ﴾ تقدم معناه في تفسير الآية ٤١ والآية ٨٩ وقوله ﴿ نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ﴾ بيان لحال جديدة من أحوال أهل الكتاب يصح أن تكون علة لجميع ما صدر عنهم من الشناعات في معاداة النبي عليه السلام ومجاحدته، وهي أن فريقا منهم قد نبذوا كتاب الله الذي يفاخرون به ويحتجون بأنهم اكتفوا بالهداية به، وأنه لا حاجة لهم بسواه – نبذوه أن جاءهم رسول مصدق له بحاله وصفاته لأن البشارات التي فيه بالنبي الذي يجئ من آل إسماعيل لا تنطبق إلا على هذا الرسول ومصدق له بمقاله باعترافه بنبوة موسى عليه السلام وصدقه فيما جاء به من الهدى والشريعة، وتوبيخه اليهود على تحريف بعضها ونسيان بعض وترك العمل ما بقي لهم منها.
( قال الأستاذ الإمام ) ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله، وإنما المراد أنهم طرحوا جزءا منه وهو ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويبين صفاته ويأمرهم بالإيمان به واتباعه، أي فهو تشبيه لتركهم إياه، إنكاره بمن يلقى الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره.
وترك الجزء منه كتركه كله لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحي من النفس ويجرئ على ترك الباقي ﴿ ٥ : ٣٢ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾ ( قال ) ولا فرق في هذا الحكم بين اليهود والنصارى فكل منهما مبشر بالنبي عليه الصلاة والسلام في كتابه، وكل منهما قد نبذ الكتاب فلم يعمل به ولم يضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجحود من الفريق الجاحد لأن دعوته قد قبلها الآخرون واهتدى بها من لا يحصى من الأمتين ومن سائر الأمم، وإنما يضر الجاحدين لأنهم تركوا كتابهم الذي يزعمون أنه المنجي والمخلص لهم وحرموا من هداية خاتم النبيين، التي هي أكمل هداية أنعم الله بها على العالمين.
قال تعالى بعد ما ذكر نبذهم الكتاب ﴿ كأنهم لا يعلمون ﴾ أي نبذوه نبذ من لا يعلم أنه كتاب الله، يريد أنهم بالغوا في تركه وإهماله، ومن ترك شيئا من أمر الله وهو يعلم أنه أمره ولكن طاف به طائف من الشيطان فغلب على أمره فإنه لا يلبث أن يعود، ولكن هذا الفريق النابذ لكتاب الله تعالى من حيث هو مبشر بالنبي وآمر باتباعه، يتمادى بهم الزمان ولا يتوبون ولا يرجعون، وما أحسن التعبير عن ذلك بنفي الحال والاستقبال دون نفي الماضي.
وهاروت وماروت اسمان أعجميان، ولو كانا مشتقين من الهرت والمرت كما زعم بعضهم لما منعا من الصرف. و " من " في قوله تعالى ﴿ وما يعلمان من أحد ﴾ لاستغراق النفي وتأكده، وقد شدد الأستاذ الإمام كعادته الإنكار على من قال إنها زائدة وقال إنما الزائدة ما يذكر للتحلية ولا يكون له معنى ما وفاقا لكثير من المفسرين. والمثوبة الثواب و( لمثوبة ) خبر ( لو ) قال الأستاذ : أي لكانت مثوبة من الله خيرا. وقد قدروا لها فعلا فقالوا : الأصل لأثيبوا مثوبة، فحذف الفعل وركب الباقي جملة اسمية ليدل على ثبات المثوبة، ونكرت لبيان أنها مهما قلت فهي خير لهم، وأصلها الثوب بمعنى الرجوع، كأن المحسن يثوب إلى من أحسن إليه بعد الإعراض.
ثم ذكر تعالى أن أولئك الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم مجاحدة للنبي صلى الله عليه وسلم وحسدا له قد تبدلوا الكفر بالإيمان واشتروا الضلالة بالهدى ﴿ واتبعوا ما تتلوا الشياطين ﴾ من الإنس في قصصها وأساطيرها، أو من الجن في وسوستها، أو منهما جميعا، على حد قوله تعالى ﴿ ٦ : ١١٦ شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) { على ملك سلميان ﴾ أي ما كانت تتلو على عهده وفي أيام ملكه، إذ زعموا أن ملكه قام على أساس السحر والطلسمات، وأنه ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام مرضاة لنسائه الوثنيات ﴿ وما كفر سليمان ﴾ وما سحر ﴿ ولكن ﴾ أولئك ﴿ الشياطين ﴾ الذين يسندون إليه ما انتحلوه من السحر، وما تلبسوا من الكفر، هم الذين ﴿ كفروا – يعلمون الناس السحر ﴾ ليفتنوا به العامة ويضلونهم عن طلب الأشياء من أسبابها الظاهرة ومناهجها المشروعة.
هذه الأوهام والأكاذيب على نبي الله سليمان عليه السلام مما افتجره بعض الدجالين من بني إسرائيل ووسوسوا به إلى بعض المسلمين فصدقوهم في بعض ما زعموه من حكايات السحر، وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر، وإنك لترى دجاجلة المسلمين إلى اليوم يتلون أقساما وعزائم، ويخطون خطوطا وطلاسم ويسمون ذلك خاتم سليمان وعهوده، ويزعمون أنها تقي حاملها من اعتداء الجن ومس العفاريت، ولقد رأى كاتب هذا التفسير شيئا من ذلك، وكان في أيام حداثته يصدق به ويعتقد فائدته.
وقد زعم اليهود أن سليمان سحر ودفن السحر تحت كرسيه، وأنه أضاع خاتمه الذي كان به ملكه، فوقع في يد آخر وجلس مجلسه للحكم الخ ما خلطوا فيه التاريخ بالدجل. وروي عنهم أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه ثم استخرجها الناس وتناقلوها. وفي رواية أخرى أنه إنما دفن تحت كرسيه كتبا أخرى في العلوم فلما استخرجت أشاع الشياطين أنها كتب سحر، وأنشأ الدجالون بعد ذلك ينتحلون ما شاءوا وينسبونه إلى تلك الكتب. ولا شك أن ما قالوه على سليمان وملكه من خبر السحر والكفر مكذوب افتراه أهل الأهواء وقد قصه الله تعالى علينا لنعتبر بما افتراه هؤلاء الناس على الأنبياء، وبترجيح فريق من خلفهم الاشتغال بذلك على الاهتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى إنهم نبذوا كتابهم الذي بشر به وراء ظهورهم.
ومن البديهي أن ذكر القصة في القرآن لا يقتضي أن يكون كل ما يحكى فيها عن الناس صحيحا فذكر السحر في هذه الآيات لا يستلزم إثبات ما يعتقد الناس منه كما أن نسبة الكفر إلى سليمان التي علمت من النفي لا تستلزم أن تكون صحيحة لأنها ذكرت في القرآن ولو لم يكن ذكرها في سياق النفي.
( قال الأستاذ الإمام ما مثاله ) بينا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين، وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والاعتبار، فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية، ولا بدّ أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان الحسن واستهجان القبيح. وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكي عنهم وإن لم تكن صحيحة في نفسها كقوله ﴿ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ﴾ وكقوله ﴿ بلغ مطلع الشمس ﴾ وهذا الأسلوب مألوف فإننا نرى كثيرا من كتاب العربية وكتاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشر في خطبهم ومقالاتهم لا سيما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريين القدماء ولا يعتقد أحد منهم شيئا من تلك الخرافات الوثنية. ويقول أهل السواحل غربت الشمس أو سقط قرص الشمس في البحر أو في الماء، ولا يعتقدون ذلك وإنما يعبرون به عن المرئي.
جاء ذكر السحر في مواضع متعددة في القرآن وأكثره في قصة موسى وفرعون وذكر هنا في الكلام اليهود. وإذا أردنا فهمه من عرف اللغة وجدنا أن السحر عند العرب كل ما لطف مأخذه ودق وخفى، وقالوا سحره وسحّره بمعنى خدعه وعلله، وقالوا عين ساحرة وعيون سواحر، وفي الحديث الصحيح " إن من البيان لسحرا " والسحر بالفتح وبالتحريك الرئة وهي أصل هذه المادة والرئة في الباطن فما لطف مأخذه ودق صنعه حتى لا يهتدي إليه غير أهله فهو باطن خفى ومنه الخداع وهو أن يظهر لك شيئا غير الواقع في نفس الأمر فالواقع باطن خفى، وتأثير العيون في عشاق الحسان، والكلام البليغ في عشاق البيان، مما يخفى مسلكه ويدق سببه، حتى يعسر على أكثر الناس الوقوف على العلة في تأثيره.
وقد وصف الله السحر في القرآن بأنه تخييل يخدع الأعين فيرميها ما ليس بكائن كائنا فقال ﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ والكلام في حبال السحرة وعصيهم وفي رواية أخرى ﴿ فسحروا أعين الناس واسترهبوهم ﴾ وفي هذه الآية التي نفسرها أن السحر كان يؤخذ بالتعليم والتاريخ يشهد بهذا، وقد كان المصريون يطلقون لقب الساحر على العالم كما يؤخذ من قوله تعالى ﴿ وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك ﴾ ومجموع هذه النصوص يدل على أن السحر إما حيلة وشعوذة، وإما صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس ويجهلها الأكثرون فيسمون العمل بها سحرا لخفاء سببه ولطف مأخذه، ويمكن أن يعد منه تأثير النفس الإنسانية في نفس أخرى لمثل هذه العلة. وقد قال المؤرخون إن سحرة فرعون قد استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصور الحيات والثعابين وتخييل أنها تسعى.
وقد اعتاد الذين اتخذوا التأثيرات النفسية صناعة ووسيلة للمعاش أن يستعينوا بكلام منهم وأسماء غريبة اشتهر عند الناس أنها من أسماء الشياطين وملوك الجان وأنهم يحضرون إذا دعوا بها ويكونون مسخرين للداعي. ولمثل هذا الكلام تأثير في إثارة الوهم عرف بالتجربة، وسببه اعتقادا لواهم أن الشياطين يستجيبون لقرائه ويطيعون أمره، ومنه من يعتقد أن فيه خاصية التأثير وليس فيه خاصية وإنما تلك العقيدة الفاسدة تفعل في النفس الواهمة ما يغني منتحل السحر عن توجيه همته وتأثير إرادته. وهذا هو السبب في اعتقاد لدهماء أن السحر عمل يستعان عليه بالشياطين وأرواح الكواكب.
وقد اختلف المتكلمون والمفسرون والفقهاء في حقيقة السحر وفي أحكامه وعده بعضهم من خوارق العادات، وفرقوا بينه وبين المعجزة، ولم يذكروا في فروقهم أن السحر يتلقى بالتعليم ويتكرر بالعمل فهو أمر عادي قطعا بخلاف المعجزة.
( قال الأستاذ الإمام ) : في قوله تعالى ﴿ يعلمون الناس السحر ﴾ وجهان ( أحدهما ) أنه متصل بقوله ﴿ ولكن الشياطين كفروا ﴾ أي إن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر ( والثاني ) وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وإن الكلام في الشياطين قد انتهى عند القول بكفرهم. وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم. أي إن فريق من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وهاهنا يقول القائل : بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكفر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه ؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني ( يعلمون الناس السحر ) الخ، ونفي الكفر عن سليمان. وإلصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض فعلم أيضا أنهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية أيضا. وإنما كان القصد إلى وصف اليهود بتعليم السحر لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها ويضربون به الناس خداعا وتمويها وتلبيسا.
ثم قال ﴿ وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ﴾ فأجمل بهذه العبارة الوجيزة خبر قصة كانوا يتحدثون بها كما أجمل في ذكر تعليم السحر فلم يذكر ما هو ؟. أشعوذة وتخييل ؛ أم خواص طبيعية، وتأثيرات نفسية ؟ وهذا ضرب من الإعجاز في الإيجاز انفرد به القرآن – يذكر الأمر المشهور بين الناس في وقت من الأوقات لأجل الاعتبار به فينظمه في أسلوب يمكن لكل أحد أن يقبله فيه مهما يكن اعتقاده لذلك الشيء في تفصيله، ألا ترى كيف ذكر السحر هنا وفي مواضع أخرى بأساليب لا يستطيع أن ينكرها من يدعي أن السحر حيلة وشعوذة أو غير ذلك مما ذكرناه ولا يستطيع أن يردها من يدعي أنه من خوارق العادات ؟
والحكمة في ذلك أن الله عز وجل قد وكل معرفة هذه الحقائق الكونية إلى بحث الإنسان واشتغاله بالعلم لأنه من الأمور الكسبية، ولو بين مسائلها بالنص القاطع لجاءت مخالفة لعلم الناس واختبارهم في كل جيل لم يرتق العلم فيه إلى أعلى درجة، ولكانت تلك المخالفة من أسباب الشك أو التكذيب فإننا نرى من الناس من يطعن في كتب الوحي لتفسير بعض تلك الأمور المجملة بما يتراءى لهم وإن تكن نصا ولا ظاهرا فيه، ويزعمون أن كتاب الدين جاء مخالفا للعلم وإن كان ذلك الذي يطلقون عليه اسم العلم ظنيا أو فرضيا.
في ( الملكين ) قراءتان فتح اللام وكسرها، فالأولى قراءة الجمهور والثانية قراءة ابن عباس والحسن وأبي الأسود والضحاك. وحمل بعضهم قراءة الفتح على قراءة الكسر ويؤيده ما قيل إن المراد بهما داود وسليمان عليهما السلام. وقيل بل هما رجلان صاحبا وقار وسمت فشبها بالملائكة، وكان يؤمهما الناس بالحوائج الأهلية ويجلونهما أشد الإجلال فشبها بالملوك، وتلك عادة الناس فيمن ينفرد بالصفات المحمودة يقولون : هذا ملك وليس بإنسان كما يقولون فيمن كان سيدا عزيزا يظهر الغنى عن الناس من حيث يحتاجون إليه : هذا سلطان زمانه. جلت حكمة الله في خلقه فقد قدّ هؤلاء الآدميين من أديم واحد، كان الناس على عهد هاروت وماروت – اللذين كان يتحدث بخبرهما ولا يحدد تاريخهما – على مثالهم اليوم لا يقصدون للفصل في شئونهم الأهلية من الجهة الروحانية إلا إلى أهل السمت والوقار اللابسين لباس أهل التقوى والصلاح ؛ هذا ما نشاهدهم عليه في زماننا وهذا ما حكى الله تعالى عنهم في الزمن القديم، وقال الأستاذ الإمام : لعل الله تعالى سماهما ملكين ( بفتح اللام ) حكاية لاعتقاد الناس فيهما وأجاز أيضا كون إطلاق لفظ الملكين عليهما مجازا كما قال بعض المفسرين. قال تعالى في اليهود ﴿ يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل ﴾ والظاهر من العطف أن ما أنزل عليهما هو غير السحر ضم إليه لأنه من جنسه في كون تعلميه سيئة مذمومة أو هو لتغاير الاعتبار أو النوع. وليس معنى الإنزال عليهما أنه وحي من الله كوحيه للأنبياء فيشكل عده من الشر والباطل الذي يذم تعلمه، فإن كلمة أنزل تستعمل في مواضع لا صلة بينها وبين وحي الأنبياء. وقالوا : أنزلت حاجتي على كريم، وأنزل لي هذه الأبيات : ويقال : قد أنزل الصبر على قلب فلان : وقال تعالى ﴿ ٥٧ : ٢٥ وأنزلنا الحديد ﴾ وقال ﴿ ٩ : ٢٦ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ﴾ ولعل التعبير ما أوتياه من العلم بالإنزال لأنه لم يكن يعرف له مأخذ غيرهما يراد أنهما ألهماه إلهاما واهتديا إليه من غير أستاذ ولا معلم. ويصح أن يسمى مثل هذا وحيا لخفاء منبعه وليس الوحي وإلهام الخواطر خاصا في عرف اللغة ولا عرف القرآن بالأنبياء ولا بما يكون موضوعه خيرا أو حقا فقد قال تعالى ﴿ ١٦ : ٦٨ وأوحى ربك إلى النحل ﴾ قال ﴿ ٢٨ : ٧ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ﴾ وقال ﴿ شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ وقال ال
وهاروت وماروت اسمان أعجميان، ولو كانا مشتقين من الهرت والمرت كما زعم بعضهم لما منعا من الصرف. و " من " في قوله تعالى ﴿ وما يعلمان من أحد ﴾ لاستغراق النفي وتأكده، وقد شدد الأستاذ الإمام كعادته الإنكار على من قال إنها زائدة وقال إنما الزائدة ما يذكر للتحلية ولا يكون له معنى ما وفاقا لكثير من المفسرين. والمثوبة الثواب و( لمثوبة ) خبر ( لو ) قال الأستاذ : أي لكانت مثوبة من الله خيرا. وقد قدروا لها فعلا فقالوا : الأصل لأثيبوا مثوبة، فحذف الفعل وركب الباقي جملة اسمية ليدل على ثبات المثوبة، ونكرت لبيان أنها مهما قلت فهي خير لهم، وأصلها الثوب بمعنى الرجوع، كأن المحسن يثوب إلى من أحسن إليه بعد الإعراض.
أقول : هذا الخطاب للمؤمنين، في أمر له علاقة بما كان بينهم وبين اليهود فهو متعلق بماضي السياق الخاص ببني إسرائيل، وبدء انتقال منه إلى سياق مشترك بين المؤمنين واليهود والنصارى جميعا في أمر الدين. و " راعنا " كلمة كانت تدور على ألسنة الصحابة في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى المتبادر منها لغة هو : راعنا سمعك وهو كأرعنا سمعك أي اسمع لنا ما نريد أن نسأل عنه ونراجعك القول فيه لنفهمه عنك، أو راقبنا وانتظر ما يكون من شأننا في حفظ ما تلقيه علينا وفهمه. قال في مجاز الأساس :" وراعيت الأمر – نظرت إلام بصير. وأنا أراعي فلانا – أنظر ماذا يفعل، وأرعيته سمعي وأرعني سمعك وراعني سمعك ا ه ولكن الله تعالى نهى المؤمنين عن قول هذه الكلمة والمشهور في كتب التفسير : أن سبب ذلك هو أن اليهود سمعوها فافترصوها وصاروا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم لاوين ألسنتهم بها لتوافق كلمة شتم بلسانهم العبراني قيل : كانوا ينطقون بها " راعينا " وقيل : كانوا يردون بتحريفها نسبته إلى الرعونة وفي سورة النساء ﴿ ٤ : ٦٤ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا – ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ﴾ الآية.
( الأستاذ الإمام ) إن هذا النهي له صلة وارتباط بشأن اليهود لا محالة لأن الكلام لا يزال في شؤونهم مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولكن هذا لا يستلزم أن يكون سبب النهي هو كون الكلمة تستعمل الشتم في العبرانية ولا أقول بهذا إلا بنقل صحيح عمن بعرف هذه اللغة، وللمفسرين وجوه أخرى في تعليل النهي فعن مجاهد وغيره أن معنى الكلمة " خلاف " والمراد لا نخالفوه كما يفعل أهل الكتاب، ولكن اعترض على هذا الوجه بأن ليس له شاهد من اللغة. والمعروف في اللغة أن " راعنا " من المراعاة. وهي تقتضي المشاركة في الرعاية أي أرعنا نرعك، وفي خطاب النبي بذلك من سوء الأدب ما هو ظاهر، فالنهي عنه تأديب كقوله تعالى ﴿ ٤٩ : ٢ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كهجر بعضكم لبعض ﴾ كأنه يقول لا تكونوا كهؤلاء الغلاظ القلوب الذين قصصنا عليكم خبرهم أو الذين عرفتم سوء أدبهم مع الأنبياء، بل اجمعوا بين الطاعة والأدب.
( قال ) وهاهنا وجه آخر وهو أنه يقال في اللغة : راعى الحمار الحمر إذا رعى معها، فيجوز أن اليهود كانوا يحرفون الكلمة بصرفها إلى هذا المعنى فنهى الله المسلمين عن هذه الكلمة وشنع على اليهود بإظهار سوء قصدهم فيها. وقد رضوا بصرف اللفظ إلى هذا المعنى وإن كان يتضمن أنهم حمر لأن السباب يسب نفسه كما يسب غيره فهو على حد قول القائل :
اقتلوني ومالكا *** واقتلوا مالكا معي
قال تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ﴾ نهاهم تعالى عن كلمة كانوا يقولونها وأمرهم بكلمة خير منها تفيد ما كانوا يريدونه منها. فكلمة " انظرنا " تفيد معنى كلمة " راعنا " فإن فيها معنى الانظار والإمهال ويؤيد هذا المعنى قراءة " انظرنا " من الإنظار وفيها معنى المراقبة وهو ما يستفاد من النظر بالعين. تقول : نظرت الشيء ونظرت إليه، إذا وجهت إليه بصرك ورأيته وتقول : نظرته بمعنى انتظرته ومنه ﴿ ٣٦ : ٤٩ ما ينظرون إلا صيحة واحدة ﴾ أذن الله تعالى لهم بهذه الكلمة " انظرنا " وأمرهم بالسماع للنبي ليعوا عنه ما يقولون من الدين وهو أمر يتضمن الطاعة والاستجابة. ثم ختم الآية بقوله ﴿ وللكافرين عذاب أليم ﴾ لبيان أن ما صدر عن اليهود من سوء الأدب في خطاب الرسول هو أثر من آثار الكفر الذي يعذبون عليه العذاب الموجع أشد الايجاع، وللتنبيه على أن التقصير في الأدب معه صلى الله عليه سلم ذنب مجاور للكفر يوشك أن يجر إليه فيجب الاحتراس منه بترك الألفاظ الموهمة للمساواة، بله الألفاظ المنافية للآداب.
أقول : لا شك أن من يعامل أستاذه ومرشده معاملة المساواة في القول والعمل يقل احترامه له وتزول هيبته من نفسه حتى تقل الاستفادة منه أو تعدم. وإذا لم تزل الاستفادة منه من حيث كونه معلما فإنها تقل تزول لا محالة من حيث كونه مربيا لأن المدار في التربية على التأسي والقدوة، ومن أراه مثلي لا أرضاه إماما وقدوة لي. فإن رضيته بالمواضعة والتقليد وكذبتني المعاملة فأي قيمة لهذا الرضى والعبرة بما في الواقع ونفس الأمر، وهو أن من اعتقد أن امرءا فوقه علما وكمالا وأنه في حاجة للاستفادة من علمه وإرشاده ومن أخلاقه وآدابه، فإنه لا يستطيع أن يساوي نفسه به في المعاملة القولية ولا الفعلية، إلا ما يكون من فلتات اللسان ومن اللمم، وعن مثل هذا نهى الصحابة رضي الله عنهم لئلا يجرهم الأنس به صلى الله عليه وسلم وكرم أخلاقه إلى اعتداء حدود الأدب الواجب معه الذي لا تكمل التربية إلا بكماله، وهو تعالى يقول ﴿ ٣٣ : ٢١ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ الآية.
( الأستاذ الإمام ) إنما كان عدم الإصغاء لما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام وخطابه خطاب الأكفاء والنظراء مجاورا للكفر، لأنه يتكلم عن الله عز وجل لسعادة من يسمع ويعقل ويأخذ ما يؤمر به بالأدب ويسأل عما لا يفهمه بالأدب، ومن فاتته هذه السعادة فهو الشقي الذي لا يعدل بشقائه شقاء. ومعنى هذه المجاورة أن سوء الأدب بنحو ما حكى عن اليهود في سورة النساء هو من الكفر الصريح ولذلك قال بعده ﴿ ٤ : ٤٦ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ فالألفاظ التي تحاكي الألفاظ التي توعدوا عليها بهذا الوعيد على أنها كفر إذا صدرت من المؤمن غير محرفة ولا مقصودة بها ما كانوا يقصدون تسمى مجاورة لألفاظ الكفر لأنها موهمة وخارجة عن حدود الأدب اللائق بالمؤمنين.
( قال ) إن لمن جاء بعد الرسول حظا من هذا التأديب، وليس هو خاصا بمن كان في عصره من المؤمنين. فهذا كتاب الله الذي كان يتلوه عليهم، وكان يجب الاستماع له والإنصات لأجل تدبره. هو الذي يتلى علينا بعينه لم يذهب منه شيء وهو كلام الله الذي به كان الرسول رسولا تجب طاعته والاهتداء بهديه، فما هذا الأدب الذي يقابله به الأكثرون ؟ إنهم يلغطون في مجلس القرآن، فلا يستمعون ولا ينصتون، ومن أنصت واستمع فإنما ينصت طربا بالصوت واستلذاذا بتوقيع نغمات القارئ، وإنهم ليقولون في استحسان ذلك واستجادته ما يقولونه في مجالس الغناء، ويهتزون للتلاوة ويصوتون بأصوات مخصوصة، كما يفعلون عند سماع الغناء بلا فرق، ولا يلتفتون إلى شيء من معانيه إلا ما يرونه مدعاة لسرورهم في مثل قصة يوسف عليه السلام مع الغفلة عما فيها من العبرة وإعلاء شأن الفضيلة ولا سيما العفة والأمانة. أليس هذا أقرب إلى الاستهانة بالقرآن منه بالأدب اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة وأمثالها، وتتوعد على تركه بجعله مجاورا للكفر الذي يسوق صاحبه إلى العذاب الأليم ﴿ ٢٣ : ٦٨، ٦٩ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ؟ ﴾.
( أقول ) الود محبة الشيء وتمني وقوعه، يطلق على كل منهما قصدا، وعلى الآخرين تبعا. ويكون مفعول الأول مفردا والثاني جملة، ونفيه بمعنى الكراهة فالمعنى ما يحب الذين كفروا من اليهود والنصارى ولا من المشركين أن ينزل عليكم أدنى خير من ربكم. أما أهل الكتاب ولا سيما اليهود فلحسدهم للعرب أن يكون فيهم الكتاب والنبوة وهو ما كانوا يحتكرونه لأنفسهم، وأما المشركون فلأن في التنزيل المرة بعد المرة من قوة الإسلام ورسوخه وانتشاره ما خيب آمالهم في تربصهم الدوائر بالنبي صلى الله عليه وسلم وانتهاء أمره.
ثم إن الله تعالى رد عليهم بما بين جهلهم وجهل جميع الحاسدين فقال ﴿ والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾ أي أن الحاسد لغباوته وفساد طويته يكون ساخطا على الله تعالى ومعترضا عليه أن أنعم على المحسود بما أنعم، ولا يضر الله تعالى سخط الساخطين، ولا يحول مجاري نعمه حسد الحاسدين فالله يختص برحمته من يشاء من عباه، والله ذو الفضل العظيم – أسند كلا من هذين الأمرين إلى اسم الذات الأعظم لبيان أنهما حقه لذاته فليس لأحد من عبيده أدنى تأثيره في منحهما ولا في منعهما.
قال أئمة اللغة : إن أصل النسخ النقل سواء كان نقل الشيء بذاته، كما يقال : نسخت الشمس الظل : أي نقلته من مكان إلى مكان، أو نقل صورته، كما يقال : نسخت الكتاب : إذا نقلت عنه سورة مثل الأولى، وورد : نسخت الريح الأثر : أي أزالته. وأصل النسيان الترك أو هو غايته اللازمة له، ومنه قوله تعالى ﴿ أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ أي تركتها بترك العمل بها فجزاؤك أن تترك في العذاب فاحفظ المعنى اللغوي.
( الأستاذ الإمام ) للمفسرين في تفسير هذه الآية طريقان. أحدهما : أنها على حد قوله تعالى ﴿ ١٦ : ١٠١ و إذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ﴾ فالنسخ هنا بمعنى التبديل أي إذا جعلنا آية بدلا من آية فإننا نجعل هذا البدل خيرا من المبدل منه أو مثله على الأقل، فالآية عند هؤلاء في نسخ التلاوة، وقالوا إن المراد بالنسيان هو أن يأمر الله تعالى بعدم تلاوة الآية فتنسى بالمرة.
( قال ) وهذا بمعنى التبديل، فما هي الفائدة في عطفه عليه بأو ؟ وهل هو إلا تكرار يجل كلام الله عنه ؟
وثانيهما : أن المراد نسخ حكم الآية وهو عام يشمل نسخ الحكم وحده ونسخه مع التلاوة، وهذا هو القول المختار للجمهور، وقالوا في توجيهه : إنه لا معنى لنسخ الآية في ذاتها ولا حاجة إليه وإنما الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، فإذا شرع حكم في وقت لشدة الحاجة إليه ثم زالت الحاجة في وقت آخر فمن الحكمة أن ينسخ الحكم ويبدل بما يوافق الوقت الآخر فيكون خيرا من الأول أو مثله في فائدته من حيث قيام المصلحة به. وقالوا إن المراد بالإنساء إزالة الآية من ذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في هذا أيكون بعد التبليغ أم قبله ؟ فقيل بعده كما ورد في أصحاب بئر معونة١ وقيل قبله حتى أن السيوطي روى في أسباب النزول أن الآية كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلا فينساها نهارا فحزن لذلك فنزلت الآية. قال الأستاذ الإمام : ولا شك عندي في أن هذه الرواية مكذوبة وأن مثل هذا النسيان محال على الأنبياء عليهم السلام لأنهم معصومون في التبليغ والآيات الكريمة ناطقة بذلك كقوله تعالى ﴿ إن علينا جمعه وقرآنه ﴾ وقوله ﴿ أنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ وقد قال المحدثون والأصوليون : أن من علامة وضع الحديث مخالفته للدليل القاطع عقليا كان أو نقليا كأصول الاعتقاد وهذه المسألة منها فإن هذا النسيان ينافي العصمة المجمع عليها.
وقالوا في تفسير قوله تعالى بعد ما ذكر ﴿ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ إنه ورد مورد الاستدلال على القدرة على النسخ بالمعنى الذي قالوه أي أنه لا يستنكر على الله كما زعم اليهود لأنه مما تناله قدرته ثم استدل على ذلك بقوله ﴿ ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ﴾ الآية.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( أو ننسأها ) أي نؤخرها، ولا يظهر هذا المعنى في مقام نسخ الأحكام كما يظهر في نسخ الآيات والمعجزات المقترحة على الأنبياء فإن الآية التي تقترح على نبي لأنها كانت لنبي قلبه قد تنسخ بآية جديدة خير منها أو مثلها، وقد تؤخر بالآية الجديدة، ثم تعطى في وقت آخر بعد الاقتراح، ولكن تأخير آيات الأحكام ليس له معنى ظاهر.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( أو ننسأها ) أي نؤخرها، ولا يظهر هذا المعنى في مقام نسخ الأحكام كما يظهر في نسخ الآيات والمعجزات المقترحة على الأنبياء فإن الآية التي تقترح على نبي لأنها كانت لنبي قلبه قد تنسخ بآية جديدة خير منها أو مثلها، وقد تؤخر بالآية الجديدة، ثم تعطى في وقت آخر بعد الاقتراح، ولكن تأخير آيات الأحكام ليس له معنى ظاهر.
( قال ) واستشهدوا لأم الاستفهامية بقول الشاعر :
فو الله لا أدري أهند تقولت | أم القوم، أم كل إلي حبيب ؟ |
( الأستاذ الإمام ) هذا تقرير ما جرى عليه المفسرون في الآيات. وإذا وازنا بين سياق آية ﴿ ما ننسخ ﴾ وآية ﴿ وإذا بدلنا آية مكان آية ﴾ نجد أن الأولى ختمت بقوله تعالى ﴿ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ والثانية بقوله ﴿ والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ﴾ ونحن نعلم شدة العناية في أسلوب القرآن بمراعاة هذه المناسبات. فذكر العلم والتنزيل ودعوى الافتراء في الآية الثانية يقتضي أن يراد بالآيات فيها آيات الأحكام.
وأما ذكر القدرة والتقرير بها في الآية الأولى فلا يناسب موضع الأحكام ونسخها وإنما يناسب هذا ذكر العلم والحكمة فلو قال ﴿ ألم تعلم أن الله عليم حكيم ﴾ لكان لنا أن نقول إنه أراد نسخ آيات الأحكام لما اقتضته الحكمة من انتهاء الزمن أو الحال التي كانت فيها تلك الأحكام موافقة للمصلحة. وقد تحير العلماء في فهم الإنساء على الوجه الذي ذكروه حتى قال بعضه إن معنى ( ننسها ) نتركها على ما هي عليه من غير نسخ وأنت ترى أن هذا وإن صح لغة لا يلتئم مع تفسيرهم إذ لا معنى للإتيان بخير منها مع تركها على حالها غير منسوخة ( قال ) والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى آخره أن الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم أي ﴿ ما ننسخ من آية ﴾ نقيمها دليلا على نبوة نبي من الأنبياء أن نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها فإننا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك. ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه. والآية في أصل اللغة هي الدليل والحجة والعلامة على صحة الشيء وسميت جمل القرآن آيات أنها بإعجازها حجج على صدق النبي ودلائل على أنه مؤيد فيها بالوحي من الله عز وجل، من قبيل تسمية الخاص باسم العام.
ولقد كان من يهود من يشكك في رسالته عليه السلام بزعمهم أن النبوة محتكرة لشعب إسرائيل، ولقد تقدمت الآيات في تفنيد زعمهم هذا وقالوا ﴿ لولا أوتي مثلما أوتي موسى ﴾ أي من الآيات، فرد الله تعالى عليهم في مواضع منها قوله عز وجل بعد حكاية قولهم هذا ﴿ أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ﴾ الخ ومنها هذه الآيات والخطاب فيها للمؤمنين الذين كان اليهود يريدون تشكيكهم كأنه يقول إن قدرة الله تعالى ليست محدودة ولا مقيدة بنوع مخصوص من الآيات أو بآحاد منها لا نتناول غيرها، وليست الحجة محصورة في الآيات السابقة لا تتعداها، بل الله قادر على أن يأتي بخير من الآيات التي أعطاها موسى وبمثلها، فإنه لا يعجز قدرته شيء، ولا يخرج عن ملكه شيء، كما أن رحمته ليست محصورة في شعب واحد فيخصه بالنبوة، ويحصر فيه هداية الرسالة، كلا إن رحمته وسعت كل شيء، كما أن قدرته تصرف بكل شيء من ملك السموات والأرض الذي لا يشاركه فيه مشارك، ولا ينازعه فيه منازع، فيكون وليا ونصيرا لمن كفر بنعمه وانحرف عن سننه.
أنظر كيف أسفرت البلاغة عن وجهها في هذا المقام فظهر أن ذكر القدرة وسعة الملك إنما يناسب الآيات بمعنى الدلائل دون معنى الأحكام الشرعية والأقوال الدالة عليها من حيث هي دالة عليها لا من حيث هي دالة على النبوة – ويزيد هذا سفورا ووضوحا قوله عقبه ﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ؟ ﴾ فقد كان بنو إسرائيل لم يكتفوا بما أعطي موسى من الآيات وتجرءوا على طلب غيرها وقالوا ﴿ يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ وكذلك كان فرعون وقومه كلما رأوا آية طلبوا غيرها حتى رأوا تسع آيات بينات ولم يؤمنوا وقوله تعالى ﴿ كما سئل موسى ﴾ يشمل كل ذلك.
قد أرشدنا الله تعالى بهذا أن التفتن في طلب الآيات وعدم الإذعان لما يجئ به النبي منها والاكتفاء بعد العجز عن معاوضته هو دأب المطبوعين على الكفر الجامدين على المعاندة والمجاحدة، فإنه قال بعد إنكار هذا الطلب ﴿ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ﴾ ويوضح هذا قوله تعالى في آية أخرى ﴿ ١٧ : ٥٩ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب به الأولون ﴾ والمراد الآيات المقترحة، بدليل السياق، وهو اتفاق بين المفسرين. ولو كان الموضوع موضوع طلب استبدال أحكام بأحكام تنسخها لما كان للتوعد بالكفر وجه وجيه. وقوله تعالى ﴿ فقد ضل سواء السبيل ﴾ معناه أنه أخطأ وسط الجادة ومال إلى أحد الجانبين ومتى انحرف السائر في سيره عن الوسط يخرج عن المنهج ويبعد عنه كلما أوغل في السير فيهلك دون الوصول إلى المقصد : والمراد بسواء السبيل الحق والخير اللذان تكمل الفطرة بالاستقامة على السير في طريقهما، ومن مال عن الحق وقع في الباطل لا محالة ﴿ ١٠ : ٢٢ فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ ﴾.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( أو ننسأها ) أي نؤخرها، ولا يظهر هذا المعنى في مقام نسخ الأحكام كما يظهر في نسخ الآيات والمعجزات المقترحة على الأنبياء فإن الآية التي تقترح على نبي لأنها كانت لنبي قلبه قد تنسخ بآية جديدة خير منها أو مثلها، وقد تؤخر بالآية الجديدة، ثم تعطى في وقت آخر بعد الاقتراح، ولكن تأخير آيات الأحكام ليس له معنى ظاهر.
بين الله تعالى في الآية الأولى من هاتين الآيتين أن أهل الكتاب المتعصبين لدينهم من حيث هو جنسية لهم تقوم بها منافع جنسهم لم يكتفوا بكفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والكيد له ونقض ما عاهدهم عليه حسدا له ولقومه على نعمة النبوة هم يزيدون على ذلك ما قصه تعالى بقوله ﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ﴾ فهو بيان لما يضمرونه وما تكنه صدورهم للمسلمين من الحسد على نعمة الإسلام التي عرفوا أنها الحق وأن وراءها السعادة في الدارين، ولكنهم شق عليهم أن يتبعوهم فتمنوا أن يحرموا هذه النعمة ويرجعوا كفارا كما كانوا، وذلك شأن الحاسد يتمنى أن يسلب محسوده النعمة ولو لم تكن ضارة به، فكيف إذا كان يعلم أن تلك النعمة إذا تمت وثبتت يكون من أثرها سيادة المحسود عليه، وإدخاله تحت سلطانه، كما كان يتوقع علماء يهود في عصر التنزيل، وقد جاء هذا التنبيه تتمة لقوله تعالى قبل آيات ﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين وأن ينزل عليكم من خير من ربكم ﴾ وقد بين الله لنا ما كان من محاولة أهل الكتاب وتحيلهم على تشكيك المسلمين في دينهم كقول بعضهم لبعض بأن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره لعل ضعفاء الإيمان يرجعون عن الإسلام اقتداء بهم، كما سيأتي في سورة آل عمران، وفي هذه الآية وما بعدها إشارة إلى أن لذلك بعض الأثر في نفوس بعض المسلمين.
وفائدة هذا التنبيه أو التنبيهات أن يعلم المسلمون أن ما يبدون من أهل الكتاب أحيانا من إلقاء الشبه على الإسلام وتشكيك المسلمين فيه إنما هو مكر السوء يبعث عليه الحسد لا النصح الذي يبعث عليه الاعتقاد. وقال ﴿ حسدا من عند أنفسهم ﴾ ليبين أن حسدهم لم يكن عن شبهة دينية أو غيرة على حق يعتقدونه، وإنما هو خبث النفوس وفساد الأخلاق والجمود على الباطل وإن ظهر لصاحبه الحق، ولذلك قفاه بقوله ﴿ من بعد ما تبين لهم الحق ﴾ أي بالآيات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وبانطباق ما يحفظون من بشارات كتبهم بنبي آخر الزمان عليه.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بأن يقابلوا هذا الحسد وما ينبعث عنه بما يليق بهم من محاسن الأخلاق فقال ﴿ فاعفوا واصفحوا ﴾ ولم يقل فاعفوا واصفحوا عنهم لإرادة العموم، أي عاملوا جميع الناس بالصفح والعفو، فإن هذا هو واللائق بشأن المؤمنين المتقين ﴿ ٢٥ : ٦٣ الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ﴾.
أقول : العفو ترك العقاب على الذنب { ٩ : ٦٦ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ) والصفح الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، فيشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب.
( قال الأستاذ الإمام ) وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة. لأن الصفح إنما يطلب من القادر على خلافه كأنه يقول : لا يغرنكم أيها المؤمنون كثرة أهل الكتاب مع باطلهم فإنكم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، فعاملوهم معاملة القوي العادل، للقوي الجاهل ( قال ) وفي إنزال المؤمنين على ضعفهم منزل الأقوياء، ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء، إيذان بأن أهل الحق هم المؤيدون بالعناية الإلهية، وأن العزة لهم ما ثبتوا على حقهم، ومهما يتصارع الحق والباطل فإن الحق هو الذي يصرع الباطل، كما قلنا غير مرة، وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه. ثم قال تعالى ﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ فوعدهم بأن سيمدهم بمعونته، ويؤيدهم بنصره، ثم أحالهم بقوله ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ على قدرته النافذة التي لا يشذ عنها شيء في العالمين، تأييدا للوعد وكشفا لشبهة من عساه يقول : أنى لهذه الشرذمة القليلة العدد، الضعيفة القوي، أن تنتحل لنفسها وصف الملوك العالين، وتقف مع الأمم القوية موقف العافين قادرين ؟ فجاء الجواب يقول لمثل هذا المشتبه : إن الذي أوقفها هذا الموقف، ومنحها هذا الوصف، هو القادر على أن يهبها من القوة ما تتضاءل دونه جميع القوى، وهو ما يؤيد به سبحانه من يقوم بالحق ويثب عليه ﴿ ٣٢ : ٤٠ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾ وقد فعل.
( أقول ) جعل شيخنا الأمر في الغاية التي قيد بها العفو والصفح واحد الأمور، إذ فسره بالنصر وأكثر المفسرين جعلوه واحد الأوامر وهو الأمر بقتالهم : يعبر بعضهم بآية السيف ويعنون آية التوبة التي فيها حكم الجزية وقال بعضهم : المراد هنا الأمر بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير، وقالوا : إنه توقيت لا يصح أن يسمى منسوخا أي في عرف الأصوليين، وإن روي عن ابن عباس وغيره. ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عاهد جميع اليهود المجاورين له في المدينة عهدا أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم فغدروا ونقضوا العهد بموالاة المشركين عليه مرارا وكان يعفو عنهم ويصفح حتى أذن الله له بقتالهم وإجلائهم.
وقد تقدم أن إقامة الصلاة ليست عبارة عن أدائها مطلقا، وإنما هي عبارة عن القيام بحقوقها الروحية في صورتها العملية وذلك بالتوجه إلى الله تعالى ومناجاته والانقطاع إليه عما عداه، وإشعار القلب عظمته وكبريائه، فبهذا الشعور ينمو الإيمان وتقوى الثقة بالله، وتتنزه النفس أن تأتي الفواحش والمنكرات، وتستنير البصيرة فتكون أقوى نفاذا في الحق وأشد بعدا عن الأهواء، فنفوس المصلين جديرة بالنصر لما تعطيها الصلاة من القوة المعنوية ومن الثقة بقدرة الله تعالى، فإذا كان قوله تعالى بعد الوعد بالنصر ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ دليلا أيد به الوعد فقوله ﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ هداية إلى طريق الاقتناع التام بهذا الدليل حتى يكون وجدانا للنفس لا تزلزله الشبهات، ولا تؤثر فيه المشاغبات والمجادلات.
وقد مضت سنة القرآن بقرن الزكاة بالصلاة لأن الصلاة لإصلاح نفوس الأفراد، والزكاة لإصلاح شئون الاجتماع، ثم إن فيها من معنى العبادة ما في الصلاة فإن المال – كما يقولون – شقيق الروح، فمن جاد به ابتغاء مرضاة الله تعالى كان بذله مزيدا في إيمانه، فهي إصلاح روحي أيضا.
وبعد أن أمر بالصلاة والزكاة في سياق كشف شبهة من يشتبه من ضعفاء الإيمان في نصر الله المؤمنين، وجعل السلطان لهم على الكافرين، وبيان أن إقامة هذين الركنين من وسائل النصر والسلطان في الدنيا بين لهم أنها من أسباب السعادة في الآخر، فقال ﴿ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ﴾ ولكن البيان جاء في صورة عامة، وهذا من الأساليب التي لا تكاد تجد لها في غير القرآن نظيرا – ينتقل من بيان حكم إلى آخر، فيكون الثاني قائما بنفسه وشاملا للأول بعمومه وتكون صلة العموم والخصوص هي الرابط في النظم. وقوله تعالى ﴿ تجدوه ﴾ هو كقوله ﴿ فمن يعلم مثقال ذرة خيرا يره ﴾ وقالوا : إن المراد أنه يرى ويجد جزاءه، ولكن لما كان مبينا على أثر العمل في نفس العامل وارتقائها به كان الجزاء بمثابة العمل نفسه. ووصل الوعد بالجزاء على العمل بما يبعث المؤمن على الإحسان فيه ويدل على تحققه، فقال ﴿ إن الله بما تعملون بصير ﴾ فلا يخفى عليه منه شيء فتخافوا أن ينقصكم من أجوركم شيئا.
﴿ ( ١١١ ) وقالوا لن يدخل الجنة إلا ما كان هودا أو نصارى. تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( ١١٢ ) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ١١٣ ) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب. كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾.
هذا بيان لحالين آخرين من أحوال أهل الكتاب في غرورهم بدينهم ما كان المسلمون قبل نزول الآيات يعرفونها.
أما الأولى فما بينه تعالى بقوله ﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ﴾ وهو عطف على قوله ﴿ ود كثير من أهل الكتاب ﴾ أي قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى كذلك في أنفسهم، وهو اختصار بديع غير مخل. وهذه عقيدة الفريقين إلى اليوم ولا ينافي انسحاب حكمها على الآخرين، أن نفرا من الأولين قالوا ذلك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كما يروى. وقد بين لنا تعالى أن هذا القول لا حجة له في كتبهم المنزلة فقال ﴿ تلك أمانيهم. قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ والأماني جمع أمنية، وهي ما يتمناه المرء ولا يدركه. وهذا القول ناطق بأمنية واحدة ولكنها تتضمن أماني متعددة هي لوازم لها، كنجاتهم من العذاب وكوقوع أعدائهم فيه وحرمانهم من النعيم، ولهذا ذكر الأماني بالجمع ولم يقل تلك أمنيتهم. وقد انفرد بهذا الوجه الأستاذ الإمام، وهناك وجوه أخرى وهي أن الإشارة بتلك أمانيهم لقوله ﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ الآية وقوله ﴿ ود كثير ﴾ وقوله ﴿ وقالوا لن يدخل الجنة ﴾ وقيل : إن في الكلام مضافا محذوفا فأي أمثال تلك الأمنية أمانيهم، ثم طالبهم تعالى بالبرهان على دعواهم فقرر لنا قاعدة لا توجد في غير القرآن من الكتب السماوية، وهي أنه لا يقبل من أحد قول لا دليل عليه، ولا يحكم لأحد بدعوى ينتحلها بغير برهان يؤيدها، ذلك أن الأمم التي خوطبت بالكتب السالفة لم تكن مستعدة لاستقلال الفكر ومعرفة الأمور بأدلتها وبراهينها ولذلك اكتفى منهم بتقليد الأنبياء فيما يبلغونه وإن لم يعرفوا برهانه، فهم مكلفون أن يفعلوا ما يؤمرون، سواء عرفوا لماذا أمروا أم لم يعرفوا، ولكن القرآن يخاطب من أنزل عليه بمثل قوله ﴿ ١٢ : ١٠٧ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾ وقد فسروا البصيرة بالحجة الواضحة، ويستدل على قدرة الله وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيته بالآيات الكونية ؛ وهي كثيرة جدا في القرآن، وبالأدلة النظرية والعقلية كقوله ﴿ ٢١ : ١٠٨ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ وغير ذلك، ويستدل على أحكام بما يترتب عليها من نفي المضرات والإفضاء إلى المنافع.
علم القرآن أهله أن يطالبوا الناس بالحجة، لأنه أقامهم على سواء المحجة وجدير بصاحب اليقين أن يطالب خصمه به ويدعوه إليه. وعلى هذا درج سلف هذه الأمة الصالح قالوا بالدليل وطالبوا بالدليل ونهو عن الأخذ بشيء من غير دليل، ثم جاء الخلف الطالح فحكم بالتقليد، وأمر بالتقليد، ونهى عن الاستدلال على غير صحة التقليد، حتى كأن الإسلام خرج عن حده، أو انقلب إلى ضده. وصار الذين يعلمون أن الإسلام امتاز عن سائر الأديان بإبطال التقليد. وبالمطالبة بالبرهان والدليل، وعلم الناس استقلال الفكر، مع المشاورة في الأمر، يطالبون المسلمين بالرجوع إلى الدليل، ويعيبون عليهم الأخذ بقال وقيل. ويا ليته كان الأخذ بقال الله، وقيل فيما يروى عن رسول الله، ولكنه الأخذ بقال فلان وقيل عن علان ﴿ ٥٣ : ٢٣ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ﴾.
﴿ ( ١١١ ) وقالوا لن يدخل الجنة إلا ما كان هودا أو نصارى. تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( ١١٢ ) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ١١٣ ) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب. كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾.
هذا بيان لحالين آخرين من أحوال أهل الكتاب في غرورهم بدينهم ما كان المسلمون قبل نزول الآيات يعرفونها.
قال تعالى ردا عليهم ﴿ بلى ﴾ وهي كلمة تذكر في الجواب لإثبات نفي سابق فهي مبطلة لقولهم ﴿ لن يدخل الجنة ﴾ الخ، أي بلى إنه يدخلها من لم يكن هودا ولا نصارى، لأن رحمة الله ليست خاصة بشعب دون شعب ؛ وإنما هي مبذولة لكل من يطلبها ويعلم لها عملها، وهو ما بينه سبحانه وتعالى بقوله ﴿ من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ﴾ إسلام الوجه لله هو التوجه إليه وحده وتخصيص بالعبادة دون سواه، كما أشار إلى ذلك في قوله ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ وغيرها من الآيات. وقد عبر هنا عن إسلام القلب وصحة القصد إلى الشيء بإسلام الوجه كما عبر عنه بتوجيه الوجه في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ﴿ ٦ : ٧٩ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ﴾ لأن قاصد الشيء يقبل عليه بوجهه لا يوليه دبره فلما كان توجيه الوجه إلى شيء له جهة تابعا لقصده واشتغال القلب به عبر عنه به وجعل التوجه بالوجه إلى جهة مخصوصة ( وهي القبلة ) بأمر الله مذكرا بإقبال القلب على الله الذي لا تحدده الجهات، فالإنسان يتضرع ويسجد لله تعالى بوجهه وعلى الوجه يظهر أثر الخشوع وظاهر أن المراد من إسلام الوجه لله توحيده بالعبادة والإخلاص له في العمل، بأن لا يجعل العبد بينه وبينه وسطاء يقربونه إليه زلفى، فإنه أقرب إليه من حبل الوريد. ومن هنا يفهم معنى الإسلام الذي يكون به المرء مسلما.
ذكر التوحيد والإيمان الخالص ولم يحمل على الوعد بالأجر عند الله تعالى واستحقاق الكرامة في دار المقامة إلا بعد أن قيده بإحسان العمل فقال ﴿ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ﴾ وتلك سنة القرآن تقرن الإيمان بعمل الصالحات كقوله ﴿ ٤ : ١٢٣، ١٢٤ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب : من يعمل سوءا يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ﴾ وهذا في معنى الآيات التي نفسرها. نفى أماني المسلمين كما نفى أماني أهل الكتاب، وجعل أمر سعادة الآخرة منوطا بالإيمان والعمل الصالح معا. وكقوله ﴿ ٢١ : ٩٤ فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه ﴾ الآية.
ثم بعد أن أثبت للمسلم وجهه إلى الله والمحسن في عمله الأجر عند الله نفى عنه الخوف الذي يرهق الكافرين والمسيئين في هذه الدنيا وفي تلك الدار الآخرة والحزن الذي يصيبهم فقال ﴿ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ ولا شك أن المخاوف والأحزان تساور الذين لبسوا إيمانهم بظلم الوثنية، وأساءوا أعمالهم بالإعراض عن الهداية الدينية.
ترى أصحاب النزغات الوثنية في خوف دائم مما لا يخيف، لأنهم يعتقدون بثبوت السلطة الغيبية القاهرة لكل ما يظهر لهم منه عمل لا يهتدون إلى سببه ولا يعرفون تأويله، يستخذون للدجالين والمشعوذين، ويرتعدون من حوادث الطبيعة الغريبة، إذا لاح لهم نجم مذنب تخيلوا أنه منذر يهددهم بالهلاك، وإذا أصابتهم مصيبة بما كسبت أيديهم من الفساد توهموا أنها من تصرف بعض العباد، وتراهم في جزع وهلع من حدوث الحوادث، ونزول الكوارث، لا يصبرون في البأساء والضراء، ولا ينفقون في الرخاء والسراء ﴿ ٧٠ : ١٩ – ٢٣ إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين الذي هم على صلاتهم دائمون ﴾ هذه حال من فقد التوحيد الخالص وحرم من العمل الصالح في هذه الحياة الدنيا ﴿ ٤١ : ١٦ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ﴾ وإنما كان صاحب النزغات الوثنية في خوف مما يستقبله، وحزن مما ينزل به، لأن ما اخترعه له وهمه من السلطة الغيبية لغير الله التي يحكمها في نفسه، ويجعلها حجابا بينه وبين ربه، لا يمكنه أن يعتمد في الشدائد عليها، ولا يجد عندها غناء إذا هو لجأ إليها، وما هو من سلطتها على يقين، وإنما هو من الظانين أو الواهمين.
وأما ذو التوحيد الخالص فهو يعلم أنه لا فاعل إلا الله تعالى وأنه من رحمته قد هدى الإنسان إلى السنن الحكيمة التي يجري عليها في أفعاله، فإذا أصابه ما يكره بحث في سببه واجتهد في تلافيه من السنة التي سنها الله تعالى لذلك، فإن كان أمرا لا مرد له سلم أمره فيه إلى الفاعل الحكيم، فلا يحار ولا يضطرب لأن سنده قوي عزيز، والقوة التي يلجأ إليها كبيرة لا يعجزها شيء، فإذا نزل به سبب الحزن أو عرض له مقتضى الخوف لا يكون أثرها إلا كما يطيف الخاطر بالبال، ولا يلبث أن يعرض له الزوال ﴿ ١٣ : ٢٨ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ فكأنه تعالى يقول لأهل الكتاب : لا تغرنكم الأماني ولا يخدعنكم الانتساب الباطل إلى الأنبياء، فهذه هي طريق الجنة، أسلموا وجوهكم لله تسلموا واعملوا الصالحات تؤجروا، وقد أفرد الضمير في قوله ﴿ فله أجره ﴾ مراعاة للفظ ( من ) وجمعه في قول ﴿ ولا خوف عليهم ﴾ الخ مراعاة لمعناها.
﴿ ( ١١١ ) وقالوا لن يدخل الجنة إلا ما كان هودا أو نصارى. تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( ١١٢ ) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ١١٣ ) وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب. كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾.
هذا بيان لحالين آخرين من أحوال أهل الكتاب في غرورهم بدينهم ما كان المسلمون قبل نزول الآيات يعرفونها.
بعد أن ذكر تزكية كل فريق من أهل الكتاب نفسه وحكمه بحرمان غيره من رحمة الله كيفما كانت حاله ذكر طعن كل فريق منهما بالآخر خاصة فقال ﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ﴾ من الدين حقيقي يعتد به، فالشيء في اللغة هو الموجود المتحقق، والاعتقادات الخيالية التي لا تنطبق على موجود في الخارج لا تسمى شيئا، فكفروا بعيسى وهم يتلون التوراة التي تبشر به وتذكر من العلامات ما ينطبق عليه، ولا تزال اليهود إلى اليوم تدعى أن المسيح المبشر به في التوراة لما يأت وتنتظر ظهوره وإعادته الملك إلى شعب إسرائيل ﴿ وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ﴾ من الدين حقيقي يعتد به لإنكارهم المسيح المتمم لشريعتهم يقول كل فريق منهم ما يقول ﴿ وهم يتلون الكتاب ﴾ أي يتلو كل منهم كتابه فكتاب الأولين ( التوراة ) يبشر برسول منهم ظهر ولم يؤمنوا به فهم مخالفون لكتابهم، وكتاب الآخرين ( الإنجيل ) يقول بلسان المسيح : إنه جاء متمما لناموس موسى، لا ناقضا له، وهم قد نقضوه، فدينهم واحد، ترك بعضهم أوله وبعضهم آخره فلم يؤمن به كله أحد منهم، والكتاب الذي يقرؤون حجة عليهم.
ثم قال تعالى ﴿ كذلك ﴾ أي نحو ذلك السخف والجزاف ﴿ قال الذين لا يعلمون ﴾ من مشركي العرب وغيرهم من أهل الملل ﴿ مثل قولهم ﴾ تعصب كل لملته التي جعلها جنسية وزعم أنها هي المنجية لكل من وسم بها ورضي باسمها ولقبها، والحق وراء جميع المزاعم لا يتقيد بأسماء ولا ألقاب، وإنما هو إيمان خالص وعمل صالح، ولو اهتدى الناس إلى هذا لما تفرقوا في الدين واختلفوا في أصوله ولكنهم تعصبوا وتحزبوا لأهوائهم، فتفرقوا واختلفوا في آرائهم ﴿ فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ فإنه هو العليم بما عليه كل فريق من حق وباطل. ولم يبين لنا تعالى هنا بماذا يحكم. وقال بعض المفسرين إنه يكذبهم جميعا ثم يلقيهم في النار، ولكن الذي يدل عليه القرآن أنه يحق الحق ويجعل أهله في النعيم، ويبطل الباطل ويلقي بأهله في الجحيم.
هذا هو معنى الآية. ويروى في سبب نزولها أن يهود المدينة تماروا مع وفد نصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال كل فريق منهم ما قال في إنكار حقيقة دين الآخر. قال الأستاذ الإمام : إن فهم الآية لا يتوقف على هذه الرواية، فالآية تحكي لنا اعتقاد كل طائفة بالأخرى سواء قال ذلك من ذكر أو لم يقله. على أن ما يروى في أسباب النزول من مثل ذلك هو من تاريخ الآيات وما فيها من الوقائع، وما روي في أسباب النزول عندنا غير كاف في ذلك، فلا بد لنا من البحث والاطلاع على تاريخ الملل والأمم التي تكلم عنها القرآن لأجل أن نفهمه تمام الفهم ونعرف ما يحكيه عنهم من العقائد والشئون والأعمال، هل كان عاما فيهم أو كان في طائفة منهم وأسند إلى الأمة لما نبهنا عليه مرارا من إرادة تكافلها ومؤاخذة الجميع بما يصدر عن بعض الأفراد لأنهم كلفوا إزالة المنكر والتناهي عنه ؟
والعبرة في الآية أن أهل الكتاب في تضليل بعضهم بعضا واعتقاد كل واحد في الآخر أنه ليس على شيء حقيق من أمر الدين مع أن كتاب اليهود أصل لكتاب النصارى، وكتاب النصارى متمم لكتاب اليهود، قد صاروا إلى حال من التهافت واتباع الأهواء لا يعتد معها بقول أحد منهم في نفسه ولا في غيره، فطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن الإيمان به لا ينهض حجة على كونهم علموا أنه مخالف للحق، بل لا يصلح شبهة على ذلك لأنهم أهل أهواء، وتعصب للمذاهب المبتدعة والآراء، فإذا كانت اليهود كفرت بعيسى وأنكرته وهو منهم وهم ينتظرونه لإعادة مجدهم وتجديد عزمهم، وإذا كانت النصارى قد رفضت التوراة وكفرت أهلها وهي حجتهم على دينهم، فكيف يعتد بكفر هؤلاء وهؤلاء بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو من شعب غير شعبهم، وقد جاء بشريعة ناسخة لشرائعهم، وهم لا يفهمون من الدين إلا أنه جنسية دنيوية لهم ؟
وفي الآية إرشاد إلى بطلان التقليد مؤيد لما في الآية التي تطالب المدعي بالبرهان، وإلى النعي على المقلدين المتعصبين لآرائهم، المتبعين لأهوائهم، وإلى التحري في الحكم على الشيء يعتقد الحاكم بطلانه لأنه مخالف لما يعتقده، فلا ينبغي للعاقل أن يحكم على شيء إلا بعد البحث والتحري ومعرفة مكان الخطأ والتزييل بينه وبين ما عساه يكون معه صوابا. ألم تر أن سياق الآيات ناطق بإنكار حكم كل من الفريقين على الآخر من غير بينة ولا برهان، ولا فصل ولا فرقان، مع أن كل واحد منهم على شيء من الباطل لأن أصل دينه حق ثم طرأت عليه نزعات الوثنية والبدع وعرض له التحريف والتأويل، فتجر يده من كل حق لم يكن إلا تعصبا للتقاليد من غير بينة ولا تمحيص، وأنى للمقلدين بذلك ؟ وانظر كيف ألحق التقليد أهل الكتاب الذين كانوا على علم بالدين الإلهي بالمشركين الذين لا يعلمون منه شيئا ؟ هذا ما فعله التقليد بهم وبمن بعدهم لأنه عدو للعلم في كل زمان وكل مكان.
الكلام في أهل الكتاب عامة ومن على شاكلتهم، فقوله تعالى ﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ﴾ الآية فيه وجوه ( أحدها ) أنه يشير إلى حادثة وقعت بعد المسيح بسبعين سنة وهي دخول تيطس الروماني بيت المقدس وتخريبها حتى صارت المدينة تلا من التراب، وهدمه هيكل سليمان عليه السلام حتى لم يبق منه إلا بعض الجدر المدعثرة، وإحراقه ما كان عند اليهود من نسخ التوراة، وكان المسيح عليه السلام قد أوعد اليهود بذلك وقال بعض المفسرين إن أتباع المسيح هم الذين هيجوا الرومانيين وأغروهم بهذا العمل.
قال الأستاذ الإمام : ولا أدري هل يصح هذا الخبر أم لا فإن قائليه لم يأتوا عليه بأدلة ولا بنقول تاريخية، ولكنني أعلم أن المسيحيين على قلتهم وتشتتهم واستخفائهم من اضطهاد اليهود كانوا قد وصلوا إلى ( رومية ) وكانوا يودون الإيقاع باليهود الذين اضطروهم إلى الخروج من بلادهم انتقاما منهم وتحقيقا لوعيد المسيح، وأن الرومانيين – وإن كانوا وثنيين يرون أن اليهود ليسوا على شيء – لم تكن حروبهم دينية وإنما كانوا يحاربون اليهود وغيرهم لشغبهم وفتنهم أو للطمع في بلادهم وذلك لا يقضي بهدم المعبد وإحراق كتب الدين. فهذه قرائن ترجح أنه كان للمسيحيين يد في إغارة تيطس، ولكن لا يجزم به إلا إذا وجد نقل تاريخي صحيح يؤيد الخبر.
ومن الغريب : أن ابن جرير الطبري قال في تفسيره : إن الآية في اتحاد المسيحيين مع بختنصر البابلي على تخريب بيت المقدس مع أن حادثة بختنصر كانت قبل وجود المسيح والمسيحية بست مئة وثلاث وثلاثين سنة. ولو لم يكن مؤرخا من أكبر المؤرخين لالتلمس له العذر بحمل قوله على حادثة أدرينال الروماني الذي جاء بعد المسيح بمئة وثلاثين سنة، وبنى مدينة على أطلال أورشليم وزينها وجعل فيها الحمامات، وبني هيكلا للمشتري على أطلال هيكل سليمان، وحرم على اليهود دخول هذه المدينة وجعل جزاء من يدخلها القتل، فلذلك كان اليهود يسمونه بختنصر الثاني لشدة ما قاسوا من ظلمه واضطهاده. ولكن هذا لا يصح أن يكون عذرا للمؤرخ.
( الثاني ) ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى ﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ﴾ نزل في منع مشركي العرب النبي وأصحابه من دخول مكة في قصة عمرة الحديبية، وقالوا إن حادثة الرومانيين كانت قد طال عليها الأمد فلا مناسبة لإرادتها بالآية. واعترض هذا القول بأن مشركي العرب ما سعوا في خراب الكعبة، بل كانوا عمروها في الجاهلية وكانوا يعظمونها ويرونها مناط عزهم ومحل شرفهم وفخرهم. وقال ( الأستاذ الإمام ) يصح أن تكون الآية في الأمرين على التوزيع، فالذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم مشركو مكة والذين سعوا في خرابها هم مشركو الرومانيين. ويكون قرن ما عمل المشركون من منع البيت الحرام أن يذكر فيه اسم الله بزيارة النبي وأصحابه بما عمل من قبلهم من مشركي الرومانيين من التخريب من قبيل الإشارة إلى تساوي الفعلين في القبح.
( الثالث ) أن الكلام في أهل الكتاب وأن الآية ليست منبئة بأمر وقع، ولكن بأمر سيقع، وهو ما كان بعد ذلك من إغارة الصليبيين على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين وصدهم إياهم عن المسجد الأقصى وتخريبهم كثيرا من المساجد.
( الرابع ) وهو مبنى أيضا على أن الآية منبئة عن أمر سيقع أن المراد بها حادثة القرامطة الذين هدموا الكعبة ومنعوا المسلمين منها وهدموا كثيرا من المساجد. كأنه بعد أن ذكر حال أهل الكتاب في طعن اليهود منهم بالنصارى وقولهم فيهم إنهم ليسوا على شيء من الدين وطعن النصارى في اليهود كذلك وبعد قوله في المشركين الذين لا يعلمون الكتاب أنهم قالوا مثل قولهم لم يبق إلا ما سيقع للمسلمين وفي المسلمين فأنبأ الله تعالى بهذه الحادثة من الاخبار بالغيب فوقعت وكانت حادثتهم من أكبر الأحداث في المسلمين فإنهم استولوا على جزء كبير من ممالك الإسلام وهدموا المساجد وعاثوا في الأرض فسادا ولم يكن في أيام الحروب الصليبية على طولها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة مثلما كان على عهد القرامطة فالآيات على هذا مبينة لأحوال جميع الملل.
( قال شيخنا ) سواء كانت الآية في حادثة واقعة أو منظرة أم كانت وعيدا للذين لا يحترمون المعابد على الإطلاق، هي على كل حال ناطقة بوجوب احترام كل معبد يذكر فيه اسم الله تعالى بالصلاة والتسبيح وبتحريم السعي في خراب المعابد، وبالحكم على الذين يصدون الناس عنها ويسعون في خرابها – أي هدمها أو تعطيل شعائرها ومنع عبادة الله فيها – بكونهم أظلم الناس كما يستفاد من استفهام الإنكار لأن المنع من ذكر الله تعالى وإبطال شعائر المعابد التي تذكر به وتشعر القلوب عظمته انتهاك لحرمة الدين يفضي إلى نسيان الرقيب المهيمن عليهم فيمسون كالهمل وتفشو فيهم المنكرات والفواحش، وانتهاك الحرمات، وهضم الحقوق، وسفك الدماء. وعبادة الله تعالى بذكره والصلاة له تنهى بطبيعتها عن الفحشاء والمنكر، ولا ينافي ذلك ما عساه يطرأ على العبادة أو يوجد في المساجد من الأشياء المبتدعة التي لم يأمر بها الكتاب. فمن علم بهذه البدع فعليه أن ينكرها ويسعى في إزالتها ولا يجوز له السعي في إزالة المعابد من الأرض لما في ذلك من الفساد الذي أشرنا إليه. وهذا هو السر في حكم الشريعة الإسلامية باحترام كنائس أهل الكتاب وبيعهم وصوامعهم وعبادهم واحترام معابد الذين لهم شبهة كتاب أيضا كالمجوس والصابئين، بل الأستاذ الأمام يعد الصابئين من أهل الكتاب. وأما الوثنيون الخلص الذين اتخذوا من دون الله أولياء ويبنون المساجد لذكر غيره والتقرب إلى سواه فهؤلاء لم يتعرض لذكرهم ولم يتوعد من يمنعهم من سخفهم.
( أقول ) لكن ذكر بعض الفقهاء أنه يجب هدم ما بني من المساجد والقباب على قبور كثير من الأئمة آل البيت وأئمة الفقه وغيرهم من الصالحين، وارتكبوا فيها المحظورات الكثيرة التي يعد بعضها من الشرك الصريح وبعضها من البدع والمعاصي، ولا سيما المعاصي التي تفعل تدنيا وتقربا وتوسلا إلى الله تعالى كما ترى في كتاب الزواجر للفقيه ابن حجر من فقهاء الشافعية وغيره من كتبهم وفي كثير من كتب الحنابلة و يحتجون بهدم النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار، وإنما يعني شيخنا بتعطيل المساجد هنا إبطال التدين والعبادة مطلقا كما يعلم مما يأتي لا إبطال البدع التي شوهت الإسلام.
ثم قال تعالى في شأن المعتدين على المساجد ﴿ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ﴾ أي فكيف يدخلونها مفسدين ومخربين ؟ ولا ينبغي للعاقل أن يقدم على أمر إلا بعد النظر فيه والعلم بدرجة نفعه أو ضره. وما كانت عبادة الله تعالى إلا نافعة وما كان تركها إلا ضارا. وما عساه يوجد في عبادات الأمم من الخرافات الضارة فإنما المكروه منه ما فيه يبعد عن عبادة الله تعالى ويوقع إشراك غيره فيها. على أن العبادة الممزوجة بنزغات الوثنية، أهون من التعطيل القاضي بالجحود المطلق، لذلك توعد الله تعالى أولئك المعتدين الظالمين بقوله ﴿ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ فأما خزي الدنيا فهو ما يعقبه بالظلم من فساد العمران، المفضي إلى الذل والهوان، وناهيك بظلم يحل القيود، ويهدم الحدود، ويغري الناس بالفواحش والمنكرات، ويسهل عليهم سبل السرور والموبقات، وهو ظلم إبطال العبادة من المساجد، والسعي في خراب المعابد، إذا وقع هذا الظلم كان الحاكم الظالم مخذولا في حكمه، والفاتح الظالم غير أمين في فتحه، وإذا أردت تطبيق ذلك على من نسب إليهم هذا الظلم فانظر ماذا حل بالرومانيين، وماذا كانت عاقبة العرب المشركين، وبماذا انتهى عدوان الصليبيين، وكيف انقرض حزب القرامطة المجرمين، وأما عذاب الآخرة فالله أعلم به ونحن بوعده ووعيده من المؤمنين.
هذه الآية متصلة بما قبلها وهو قوله تعالى ﴿ ومن أظلم ممن منع مساجد الله ﴾ الخ وأكثر المفسرين على خلاف ما قال الجلال في تفسير المشرق والمغرب : قالوا إن المراد بهما الجهتان المعلومتان لكل أحد، ولذلك خصصها بالذكر، فهو كقوله تعالى ﴿ ٥٥ : ١٧ رب المشرقين ورب المغربين ﴾ وهو يستلزم ما قاله الجلال فإن المراد على كل حال : أية جهة استقبلت وتوجهت إليها في صلاتك فأنت متوجه إلى الله تعالى لأن كل الجهات له ﴿ إن الله واسع ﴾ لا يتحدد ولا يحصر فيصح أن يتوجه إليه في كل مكان ﴿ عليم ﴾ بالمتوجه إليه أينما كان، أي فاعبد الله حيثما كنت، وتوجه إليه أينما حللت، ولا تتقيد بالأمكنة فإن معبودك غير مقيد. أقول : بل هو فوق كل شيء بائنا منه.
وأزيد على ذلك أن بعض رواة المأثور قالوا إن هذه الآية نزلت قبل الأمر بالتوجه إلى قبلة معينة. وقال آخرون إنها نزلت في تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، ولكن هذا فيه آيات مفصلة ستأتي في أول الجزء الثاني من هذه السورة وقال بعضهم إنها نزلت في صلاة التطوع في السفر لا يشترط فيها استقبال القبلة. وقال آخرون إنهما فيمن يجتهدون في القبلة فيخطئون فإن صلاتهم صحيحة لأن إيجاب استقبال جهة معينة إنما هو للمعنى الاجتماعي في الصلاة ووحدة الأمة فيها. والتعليل يصح في كل قول من هذه الأقوال، فإنه أينما توجه المصلي في صلاته الصحيحة فهو متوجه إلى الله تعالى لا يقصد بصلاته غيره وهو تعالى مقبل عليه راض عنه. ومن العلوم أن أهل الكتاب يلتزمون في صلاتهم جهة معينة كالتزام النصارى جهة المشرق وأن استقبال المسلمين الكعبة يقتضي أن يصلي أهل كل قطر إلى جهة من الجهات الأربع فهم يصلون إلى جميع الجهات، ولا ينافي ذلك توجههم إلى الله تعالى والوجه هنا قيل إنه بمعنى الجهة وهو صحيح لغة، والمعنى : فهناك القبلة التي يرضاها لكم. وقيل إنه على حد ﴿ ٥٨ : ٧ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ﴾.
ووجه المناسبة والاتصال بين هذه الآية وما قبلها ظاهر على هذا التفسير فإن فيها إبطال ما كان عليه أهل الملل السابقة من اعتقاد أن العبادة لله تعالى لا يصح أن تكون إلا في الهيكل والمعبد المخصوص، وفي إبطال هذا إزالة ما عساه يتوهم من وعيد من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه من أنه وعيد إبطال العبادة في المواضع المخصوصة، لأنه إبطال لها بالمرة، إذ لا تصح إلا في تلك المواضع، فهذه الآية تنفي ذلك التوهم من حيث تثبت لنا قاعدة من أهم قواعد الاعتقاد وهي أن الله تعالى لا تحدده الجهات، ولا تحصره الأمكنة، ولا يتقرب إليه بالبقاع والمعاهد، ولا تنحصر عبادته في الهياكل والمساجد، وإنما ذلك الوعيد لانتهاك حرمات الله وإبطال نوع من أنواع عبادته، وهو العبادة الاجتماعية التي يجتمع لها الناس في أشرف المعاهد على خير الأعمال التي تطهر نفوسهم وتهذب أخلاقهم.
وهذا الضرب من البيان مما امتاز به القرآن على سائر الكلام، فإنك لترى فيه فنونا من الاستدراك والاحتراس قد جاءت في خلال القصص وسياق الأحكام تقرأ الآية في حكم من الأحكام، أو عظة من المواعظ، أو واقعة تاريخية فيها عبرة من العبر، فتراها مستقلة بالبيان، ولكنها باتصالها بما قبلها قد أزالت وهما أو تممت حكما، وكان ينبغي لأهل العربية أن يقتبسوا هذه الضروب من البيان، ويتوسعوا بها في أساليب الكلام، فإن القرآن قد أطلق لهم اللغة من عقالها، وعلمهم من الأساليب الرفيعة ما كانت تستحليه أذواقهم، وتنفعل له قلوبهم، وتهتز له نفوسهم، وتتحرك به أريحيتهم، ولكنهم لم يوفقوا لاقتباس هذه الأساليب الجديدة، على أن ملكتهم في حسن البيان، قد ارتفعت بعد نزول القرآن.
( قال الأستاذ الإمام ) وسنعطي هذا الموضوع حقه من البيان في موضع تكون مناسبة أقوى من هذه المناسبة.
وقد غلب في الملكية ما لا يعقل فقال ( له ما في السموات ) الخ لأن المراد بتسخيرها له التسخير الطبيعي الذي لا يشترط فيه الاختيار، لا التسخير الشرعي المعبر عنه بالتكليف الذي يفعله الكاسب باختياره، ويستوي في التسخير الطبيعي العاقل وغيره، ولكنه في غير العاقل أظهر. ولما ذكر القنوت له تعالى جمعه بضمير العاقل فغلب فيه العقلاء لأن من شأن القنوت أن يكون من العاقل الذي يشعر بموجبه ويفعله باختياره، وإن كان لغير العاقل قنوت يليق به. وجملة القول : أن الآية ناطقة بأن ما في السموات والأرض ملك لله تعالى ومسخر لإرادته ومشيئته لا فرق بين العاقل وغيره. فقد حكم على الجميع بالملكية وبالقنوت الذي يراد به التسخير وقبول تعلق الإرادة والقدرة، ولكنه عند ذكر الملك عبر عنه بالكلمة التي تستعمل غالبا في غير العاقل وهي كلمة ( ما ) لأن المعهود في ذوق اللغة عرف أهلها أن الملك يتعلق بما لا يعقل، وعند ذكر القنوت عبر عنه بضمير العقلاء لأنه من أعمالهم، ومما يعهد منهم ويسند إليهم لغة وعرفا. وهذا كما ترى من أدق التعبير وألطفه، وأعلى البيان وأشرفه.
وكان الأصمعي ينكر فعيلا بمعنى مفعل لأن القياس بناؤه من الثلاثي ويقول إن بديعا صفة مشبهة بمعنى لا نظير له، وبديع السموات معناه البديعة سمواته وفي هذا ترك للقياس الذي قضى في الصفة المشبهة التي تضاف إلى الفاعل أن تكون متضمنة ضميرا يعود على الموصوف، والحق أن تحكيم القياس فيما ثبت من كلام العرب تحكيم جائر، فما كان للدخيل في القوم أن يعمد إلى طائفة من كلامهم فيضع لها قانونا يبطل به كلاما آخر ثبت عنهم ويعده خارجا عن لغتهم بعد ثبوت نطقهم به. فإذا كان كل واحد من الوجهين صحيح المعنى حكمنا بصحة كل منهما، والأول أظهر، وشواهده المسموعة أكثر.
وأما قوله ﴿ وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ فمعناه أنه إذا أراد إيجاد أمر وإحداثه فإنما يأمره أن يكون موجودا فيكون موجودا، فكن ويكون من كان التامة. وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا ضرب من التمثيل أي أن تعلق إرادته تعالى بإيجاد الشيء يعقبه وجوده، كأمر يصدر فيعقبه الامتثال، فليس بعد الإرادة إلا حصول المراد. وقال بعضهم بل هو قول حقيقي. قال الأستاذ الإمام وقد وقع هذا الخلاف من أهل السنة وغيرهم، وعجيب وقوعه منهم، فإن عندهم مذهبين من المتشابهات التي يستحيل حملها على ظاهرها وهما مذهب السلف في التفويض، ومذهب الخلف في التأويل، وظاهر أن هذا من المتشابه، والقاعدة في تأويل مثله معروفة ومتفق عليها وهي إرجاع النقلي إلى العقلي لأنه الأصل، وهاهنا يقولون : إن الأمر بمعنى تعلق الإرادة وأن معنى ( يكون ) يوجد.
وأقول : إن الأمر بكلمة كن هنا هو الأصل فيما يسمونه أمر التكوين، ويقابله أمر التكليف، فالأول متعلق صفة الإرادة، والثاني متعلق صفة الكلام، وأمر التكليف يخاطب به العاقل فيسمى المكلف، ولا يخاطب به غيره فضلا عن المعدوم، وأمر التكوين يتوجه إلى المعدوم كما يتوجه إلى الموجود، إذ المراد به جعله موجودا، وإنما يوجه إليه لأنه معلوم فالله تعالى يعلم الشيء قبل وجوده وأنه سيوجد في وقت كذا. فتتعلق إرادته بوجوده على حسب ما في علمه فيوجد. وشيخ الإسلام ابن تيمية يسميه الأمر القدري الكوني، ويسمي مقابله الأمر الشرعي.
قرأ الجمهور ( يكون ) في كل موضع بضم النون على تقدير فهو يكون كما أراد وقرأه ابن عامر بفتحها في كل موضع إلا في آل عمران والأنعام بناء على أن جواب الأمر بالفاء يكون منصوبا.
ذلك شأنه تعالى في الإيجاد والتكوين وهو أغمض أسرار الألوهية فمن عرف حقيقته فقد عرف حقيقة المبدع الأول وذلك ما لا مطمع فيه. وقد عبر عن هذا السر بهذا التعبير الذي يقر به من الفهم، بما لا يتشعب فيه الوهم، ولا يوجد في الكلام تعبير آخر أليق به من هذا التعبير : يقول للشيء " كن " فيكون، فالتوالد محال في جانبه تعالى لأن ما يعهد في حدوث بعض الأشياء وتولدها من بعض فهو لا يعدو طريقين – الاستعداد القهري الذي لا مجال للاختيار فيه كحدوث الحرارة من النور وتولد العفونة من الماء يتحد بغيره، والسعي الاختياري كتولد الناس بالازدواج الذي يساقون إليه مع اختياره والقصد إليه. وإذا كان كل واحد من الأمرين محالا على الله تعالى وكان تعالى هو المبدع لجميع الكائنات وهي بأسرها ملكه ومسخرة لإرادته فلا معنى لإضافة الولد إليه ﴿ ٣٧ : ١٨٠ – ١٨٢ سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين ﴾.
قلنا إن السياق قد انتقل من الكلام في بني إسرائيل تجاه القرآن ودعوة الإسلام ورسوله إلى الكلام في شؤون المؤمنين معهم ومع النصارى والوثنيين. وشيخنا لا يزال يجعل السياق واحدا غير ملتفت في التناسب بين الآيات على هذا التفصيل لذلك المجمل، وقد قال هنا ما مثاله :
الكلام لا يزال في القرآن، وما كان من أمر الناس في الإيمان به وعدم الإيمان ذكر في الآيات المتقدمة آنفا من شأن أهل الكتاب ما تبين به أن عدم إيمانهم بالنبي وما جاء به غير قادح فيه، ولا ينهض شبهة عليه، وأن مطاعنهم فيه متهافتة منقوضة بطعنهم في أنفسهم، وتخبطهم في أمر كتبهم.
ثم انتقل إلى ذكر شبهة مشركي العرب وبين أنهم جروا فيها على الأصل المعهود من أمثالهم المشركين الذين سبقوهم بالضلال فقال ﴿ وقال الذين لا يعلمون ﴾ أي الجاهلون بالكتاب والشرائع من مشركي العرب. وقال الجلال إن المراد بالذين لا يعلمون كفار مكة خاصة ولا دليل على التخصيص ويرجح العموم كون الآية مدنية.
﴿ لولا يكلمنا الله ﴾ كما كلم هذا الرسول مع أنه بشر مثلنا ﴿ أو تأتينا آية ﴾ من الآيات التي اقترحناها، يعنون ما حكاه الله تعالى عنهم بمثل قوله ﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ﴾ الآيات.
﴿ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ﴾ أي مثل هذا القول قال الكفار الذين أرسل الله إليهم الرسل من قبلهم في معناه وهو أنهم أنكروا على الرسل الاختصاص بالوحي من دونهم واقترحوا عليهم الآيات تعنتا وعنادا ﴿ تشابهت قلوبهم ﴾ لأن الطغيان قد ساوى بينهم حتى كأنهم تواصوا بما يقولون كما قال في سورة الطور ﴿ أتواصوا به ؟ بل هم قوم طاغون ﴾ ويشبه هذا ما ورد من أن الكفر ملة واحدة وذلك أن الحق واحد ومخالفته هي الباطل أو الضلال وهو واحد وإن تعددت طرقه واختلفت وجوهه. وآثار الشيء الواحد الكلي تتشابه فيمن تصدر عنهم وإن اختلفت الجزئيات. والتشابه هنا إنما هو في مكابرة الحق واستبعاد كون واحد من البشر رسولا يوحى إليه واقتراح الآيات تعنتا وعنادا.
ومثال الأخلاف في الجزئيات طلب قوم موسى رؤية الله جهرة، وطلب قوم محمد أن يرقى في السماء أمامهم فيأتيهم بكتاب يقرأونه. والطلب الذي مصدره العناد والتعنت لا تفيد إجابته لأن صاحبه لا يقصد به معرفة الحق ولذلك قال تعالى١ ﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ﴾. والدليل المعقول على هذا أنه ما من نبي إلا وقد جاء بآية أو آيات كونية أو عقلية وكانوا مع ذلك يصفونهم بالسحر ثم يقترحون عليهم الآيات. ولذلك قال تعالى بعد حكاية شبهة هؤلاء الجاهلين ﴿ قد بينا الآيات لقوم يوقنون ﴾ أي أننا لم ندعك يا محمد بغير آية بل بينا الآيات على يديك بيانا لا يدع للريب طريقا إلى نفس من يعقلها. وقد قال ﴿ بينا الآيات ﴾ ولم يقل أعطيناك الآيات للتفرقة والفصل بين آيات القرآن التي هي من علم الله وكلامه يظهر بها الحق بطريق معقول بين لا يشتبه فيه الفهم، ولا يحار فيه الذهن، وبين الآيات الكونية التي هي من صنعه يستخذى لها العقل ويخضع لها لشعوره بأنها من قوة فوق قوته. وللناس فيما يرونه فوق ما يعقلون طريقان معهودان : منهم من يسنده إلى القوة الغيبية العليا سواء كان له سبب خفي في الواقع أم لا ومنهم من يسنده إلى الأسباب الخفية التي يسمونها السحر، وإن كان فوق قدرة البشر، ولذلك ضلت الأمم في آيات الأنبياء السابقين وليس لأحد أن يضل في آيات القرآن لأنها بينة معقولة ولذلك قال ﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه ﴾.
نعم إن الآيات العلمية لا يعقلها إلا أهل الاستعداد للعلم واليقين. ولذلك قال ( لقوم يوقنون ) قال الأستاذ الإمام : الذين يوقنون هم الذين خلصت نفوسهم من كل رأي وتقليد وتوجهوا إلى طلب الحق في الأمور الاعتقادية، وأخذوا على أنفسهم العهد أن يطلبوه بدليله وبرهانه، فهم إذا قام عندهم البرهان اعتقدوا وأيقنوا إيقانا، وإنما يتوقع اليقين من مثلهم لا من قوم يعتقدون الشيء أولا بلا دليل ولا برهان، ثم يلتمسون له الدليل لأن مقلّديهم قالوا بوجوب معرفة الدليل فإذا أصابوه موافقا لما اعتقدوا رضوا به وإن كان ظنيا، وإذا نهض لهم مخالفا لتقاليدهم رفضوه وتعللوا بالتعلات المنتحلة، وهؤلاء هم الجماهير من الناس الذين وصفوا في الأثر بأنهم أتباع كل ناعق : والعبرة في خطاب الشرع بأهل اليقين الذين صفت نفوسهم، ومحصت أفكارهم، فسلموا من علة العناد والمكابرة المانعين لشعاع الحق أن ينفذ إلى العقول، ولحرارته أن تخترق الصدور إلى القلوب، هؤلاء هم أنصار الحق لأنهم بيقينهم لا يستطيعون المروق منه، ولا السكوت عن الانتصار له، ألم تر أن كبار الصحابة كانوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يظهر لهم دليله لأنهم طبعوا على معرفة الحق بالدليل. هؤلاء هم الناس الذين تنزل الشرائع لأجلهم، ولولا استعدادهم لها لما شرعت أو لما نجحت٢ وأما سائر الناس فتبع لهم وعيال عليهم.
٢ راجع مقالة "الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد" في مجلد المنار الرابع..
قلنا إن السياق قد انتقل من الكلام في بني إسرائيل تجاه القرآن ودعوة الإسلام ورسوله إلى الكلام في شؤون المؤمنين معهم ومع النصارى والوثنيين. وشيخنا لا يزال يجعل السياق واحدا غير ملتفت في التناسب بين الآيات على هذا التفصيل لذلك المجمل، وقد قال هنا ما مثاله :
الكلام لا يزال في القرآن، وما كان من أمر الناس في الإيمان به وعدم الإيمان ذكر في الآيات المتقدمة آنفا من شأن أهل الكتاب ما تبين به أن عدم إيمانهم بالنبي وما جاء به غير قادح فيه، ولا ينهض شبهة عليه، وأن مطاعنهم فيه متهافتة منقوضة بطعنهم في أنفسهم، وتخبطهم في أمر كتبهم.
ثم قال تعالى ﴿ إنا أرسلناك بالحق ﴾ أي بالشيء الثابت المتحقق الذي لا يضل من يأخذ به ولا تعبث به رياح الأباطيل والأوهام، بل يكون الآخذ به سعيدا بالطمأنينة واليقين. قال الأستاذ الإمام : إن الحق في هذا المقام يشمل العلوم الاعتقادية وغيرها، فهو يقول : إن أرسلناك بالعقائد الحق المطابقة للواقع، والشرائع الصحيحة الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخر ﴿ بشيرا ﴾ لمن يتبع الحق بالسعادتين ﴿ ونذيرا ﴾ لمن لا يأخذ به بشقاء الدنيا وخزي الآخرة ﴿ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾ أي فلا يضرك تكذيب المكذبين الذين يساقون بجحودهم إلى الجحيم لأنك لم تبعث ملزما لهم ولا جبارا عليهم فيعد عدم إيمانهم تقصيرا منك تسأل عنه، بل بعثت معلما وهاديا بالبيان والدعوة، وحسن الأسوة، لا هاديا بالفعل ولا ملزما بالقوة، ﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يضيق صدره كما تدل على ذلك آيات أخرى.
وفي الآية من العبرة أن الأنبياء بعثوا معلمين لا مسيطرين، ولا متصرفين في الأنفس ولا مكرهين، فإذا جاهدوا فإنما يجاهدون دفاعا عن الحق لا إكراها عليه. وفيها أن الله تعالى لا يطالب الناس بأن يأخذوا عنهم إلا العلم الذي يهديهم إلى معرفة حقوق الله وحقوق العباد. وفي قراءة نافع ويعقوب ﴿ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾ بالنهي، أي لا تسأل عما سيلاقون من الانتقام فإنه عظيم، فمثل هذا النهي مستعمل في التهويل لا في حقيقته وهو استعمال معروف بين الناس حتى اليوم.
وزعم بعض المفسرين أن النهي على حقيقته وأنه خاص بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن أبويه ورووا في ذلك أنه سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما فزارهما ودعا لهما وتمنى لو يعرف حالهما في الآخرة وقال " ليت شعري ما فعل أبواي " فنزلت الآية في ذلك. والحديث قال الحافظ العراقي إنه لم يقف عليه، وقال السيوطي لم يرد في ذلك إلا أثر معضل ضعيف الإسناد. قال الأستاذ الإمام وقد فشا هذا القول ولولا ذلك لم نذكره، وإنما نريد بذكره التنبيه على أن الباطل صار يفشو في المسلمين بضعف العلم والصحيح يهجر وينسى. ولا شك أن مقام النبي عليه الصلاة والسلام في معرفة أسرار الدين، وحكم الله في الأولين والآخرين، ينافي صدور مثل هذا السؤال عنه ؛ كما أن أسلوب القرآن يأبى أن يكون هو المراد منه.
قلنا إن السياق قد انتقل من الكلام في بني إسرائيل تجاه القرآن ودعوة الإسلام ورسوله إلى الكلام في شؤون المؤمنين معهم ومع النصارى والوثنيين. وشيخنا لا يزال يجعل السياق واحدا غير ملتفت في التناسب بين الآيات على هذا التفصيل لذلك المجمل، وقد قال هنا ما مثاله :
الكلام لا يزال في القرآن، وما كان من أمر الناس في الإيمان به وعدم الإيمان ذكر في الآيات المتقدمة آنفا من شأن أهل الكتاب ما تبين به أن عدم إيمانهم بالنبي وما جاء به غير قادح فيه، ولا ينهض شبهة عليه، وأن مطاعنهم فيه متهافتة منقوضة بطعنهم في أنفسهم، وتخبطهم في أمر كتبهم.
ثم قال عز وجل ﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ﴾ فعاد إلى ذكر أهل الكتاب على ما عهدنا في أساليب القرآن من ضروب الانتقال بالمناسبات الدقيقة. وقد قال الأستاذ الإمام غير مرة إن القرآن لم يأت على طريقة المنشئين والمؤلفين الذين يخصون كل طائفة من الكلام بموضوع معين ويسمونها فصلا أو بابا، ولكن للقرآن أغراضا يبرزها بصورة مختلفة، فكلما لاحت المناسبة لذكر شيء منها أو الاحتجاج عليه أو الدفاع عنه، جاء به يجذب إليه الأذهان، ويسارق به خطرات القلوب، مع مراعاة التناسق، وحفظ الأسلوب البليغ، لهذا يتكرر فيه المعنى الواحد بعبارات متعددة، ويتجلى الروح الواحد في أشكال متنوعة فلم يذكر هاهنا المشركين إلا لما بينهم وبين أهل الكتاب من التناسب والتقارب في المجاحدة والمعاندة، فكان ذكرهم من متممات الحجة على أهل الكتاب من حيث أدى غرضا مقصودا في ذاته. ولما كان ذكرهم في عرض الكلام كالجملة الاعتراضية كان الرجوع إلى سرد شؤون أهل الكتاب مع النبي عليه السلام رجوعا إلى أصل الموضوع.
وقال في معنى الآية : من شأن الإنسان أن يتألم من القبيح أشد التألم إذا وقع ممن لا يتوقع منه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرجو أن يبادر أهل الكتاب إلى الإيمان به وأن لا يرى منهم المكابرة والمجاحدة والعناد، ولهذا كبر عليه أن رأى من إعراض اليهود والنصارى عن إجابة دعوته، وإسرافهم في مجاحدته أشد مما رأى من مشركي العرب الذين جاء لمحو دينهم من الأرض، مع موافقته لأهل الكتاب في أصل دينهم ومقصدهم من توحيد الله والإخلاص له وتقويم عوج الفطرة الإنسانية الذي طرأ عليها بسبب التقاليد، وترقية المعارف الدينية إلى أعلى ما استعد له الإنسان من الارتقاء العقلي والأدبي، ولذلك كان يخاطبهم بمثل قوله تعالى ﴿ ٣ : ٢٣ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾ الآية وغيرها من الآيات. ولقد كان من الصعب لولا إعلام الله تعالى أن تعرف درجة فتك التقليد بعقول أهل الكتاب وإفساد الأهواء لقلوبهم، لذلك سلى الله تعالى نبيه عما كان يجده من عنادهم وإيذائهم بآيات كثيرة عرفه فيها حقيقة حالهم، منها هذه الآية الناطقة بأن كلا من اليهود والنصارى على اتحادهم في أصل الدين قد تعصب لتقاليده واتخذ الدين جنسية لا يرضيه من أحد شيء إلا الدخول فيها وقبول لقبها فقوله تعالى ﴿ حتى تتبع ملتهم ﴾ مراد به ما هم عليه من التقاليد والأهواء التي غيروا بها وجه الدين الواحد حتى صار بعضهم يحكم بكفر بعض كما تقدم في الآيات السابقة.
ثم أمره تعالى في مقابلة ذلك بقوله ﴿ قل إن هدى الله هو الهدى ﴾ أي اجهر بقول الحق وهو أن الهدى الصحيح هو هدى الله الذي أنزله على أنبيائه دون ما أضافه إليه اليهود والنصارى بآرائهم وأهوائهم ففرقوا دينهم وكانوا شيعا كل شيعة تكفر الأخرى وتقول إنها ليست على شيء، أي فإن أردت استرضاءهم فلن يرضوا عنك إلا أن تتبع أهواءهم، ﴿ ولئن اتبعت أهواءهم ﴾ التي أضافوها على كتبهم، وجعلوها أصولا وفروعا لدينهم، ﴿ بعد الذي جاءك من العلم ﴾ اليقين ؛ بالوحي الإلهي المبين، الذي بين ما كان منهم من تحويل القول عن معناه بالتأويل، وتحريفهم الكلم عن مواضعه، ونسيانهم حظا مما ذكروا به ﴿ ما لك من الله ولي ولا نصير ﴾ أي فإنك لن تنجح ولن تصل إلى حقك بمجاراتهم على باطلهم، لأن الله لا ينصرك على ذلك إذ لا يرضيه أن يكون اتباع الهوى ؛ طريقا إلى الهدى، والضال لا يرضيه إلا موافقته على ضلاله، ومجاراته على فساده، وإذا لم يكن الله هو الذي يتولى شئونك وينصرك بمعونته فمن ذا الذي ينصرك و يتولاك من بعده ؟.
( أقول ) ومفهوم هذا المصرح به في آيات أخرى أن ثباته على هدى الله المؤيد بالعلم هو الذي يكون سببا لتوليه تعالى له ونصره إياه عليهم. ومن المعلوم أن شرطَ " إنْ " لا يقتضي الوقوع، فهو لا يدل على أن اتباع أهوائهم متوقع منه صلى الله عليه وسلم وإنما هو فرض لبيان مضمونه الذي ذكرنا، وفيه أن من سنن الله تأييد متبعي الهدى على علم صحيح وأنهم هم الغالبون المنصورون، وهو ما يعبر عنه علماء الاجتماع ببقاء الأمثل في كل تنازع بينه وبين ما دونه.
( الأستاذ الإمام ) من تدبر هذا الإنذار الشديد الموجه من الله تعالى إلى نبي الرحمة، المؤيد منه بالكرامة والعصمة، علم أن المراد به الوعيد والتشديد على الأمة، على حد " إياك أعني واسمعي يا جاره " فإن الله تعالى يخاطب الناس كافة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم كما جرى عرف التخاطب مع الرؤساء والزعماء فقد يقال للملك : إذا فعلت هذا كانت عاقبته كذا، والمراد إذا فعلته دولتك أو أمتك. وقد تقدم غير مرة إسناد عمل بعض الأفراد إلى الأمة كلها ولكن قوله ﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ﴾ وهو يعلم جل شأنه أنه لا يتبع أهواءهم في حال من الأحوال، وقد عصمه من الزيغ والضلال، إنما جاء على هذا الأسلوب ليرشد من يأتي بعده ممن يتبع سنته ويأخذ بهديه. فهو يرشدنا بهذا التهديد العظيم إلى الصدع بالحق والانتصار له، وعدم المبالاة بمن يخالفه، مهما قوي حزبهم، واشتد أمرهم، وإنه لتهديد ترتعد منه فرائص الذين يخشون ربهم، ولا سيما إذا أنسوا من أنفسهم ضعفا في الحق كأن تركوا الجهر به أو الدفاع عنه خوفا من إنكار العامة عليهم، ولغط الناس بهم، فمن عرف الحق وعرف أن الله تعالى ولي أهله وناصرهم، لا يخاف في تأييده لومة لائم، ولا يغترن أحد بمن يسميهم الناس علماء وعارفين في سكوتهم عن الحق، ومجاراتهم لأهل الباطل فإنهم ليسوا على شيء من العلم الحقيقي ؟ وإن هي إلا كلمات يتلقفونها، أو عادات يتقلدونها، لا حجة للأحياء فيها، سوى قولهم إن الميتين درجوا عليها ( قال ) " وليس هذا هو العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو شيء كان يلقب بالعلم عند الضالين من أهل الكتاب والمشركين كذلك، وقد نفى عنه كونه علما على الحقيقة بمثل قوله ﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ وبقوله ﴿ لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ﴾ فمن أخذ بقول القائلين، واتبع ما وجد عليه السابقين، بدون بينة يعرف بها وجه الحق من ذلك- وكتاب الله بين يديه لا ينظر فيه ولا يرجح إليه فقد اتبع الهوى بعد الذي جاء من العلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وباء بالخزي في الدنيا وبالنكال في الآخرة، ولم يكن ولن يكون له من الله ولي ولا نصير. اللهم أعنا على الجهر بالحق بعد ما عرفناه، واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا.
الصلة بين قوله تعالى ﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾ الآية وبين ما قبلها واضحة جلية وهي أن هذه جاءت في موضع الاستدراك على ما سبقها من إيئاس النبي والمؤمنين من أهل الكتاب. فقد علمنا أن آية ﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى ﴾ قد سلت ما كان يخالج النفوس من الرجاء بإيمان أهل الكتاب كلهم، وهذه الآية تنطق بأن منهم من يرجى إيمانه وهم الذين وصفهم بما هو علة الرجاء ومناط الأمل وهو تلاوة كتابهم حق تلاوته، وعدم الجمود على الظواهر والتقاليد، والاكتفاء بالأماني والظنون، كأنه يقول إن كانت نفسك تحدثك بأن أهل الكتاب أقرب إلى الإيمان بما جئت به لأنه يشبه ما عندهم ويصدق أنبياءهم وأصول شرائعهم من حيث يقتلع جذور دين الوثنيين ويمحوه محوا فيكون الوثنيون أجدر من أهل الكتاب بمعاندتك ومجاحدتك – فاعلم أن هؤلاء قد ألحقوا بدينهم من التقاليد والمخترعات، وألصقوا به من البدع والعادات، ما غرهم في دينهم بغير فهم ؛ وجعلهم يتعصبون له بغير عقل، فكانوا بذلك أبعد عن حقيقة الإيمان من أولئك الذين يعبدون الأوثان، وذلك أنهم اتخذوا الدين جنسية فليس لهم منه إلا الجمود على عادات صارت مميزة للمنتسبين إليه، ولكن لا يزال فيهم نفر يرجى منهم تدبر الشيء والتمييز بين الحق والباطل وهم ﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾ وهم ﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ أي يفهمون أسراره ويفقهون حكمة تشريعه، وفائدة نوط التكليف به، لا يتقيدون في ذلك بآراء من سبقهم فيه، ولا بتحريفهم كلمه عن مواضعه ﴿ أولئك ﴾ هم الذين يقدرون ما جئت به من الترقي في الدين، وإقامة قواعده على الأساس المتين ؛ و ﴿ يؤمنون به ﴾ بعد العلم بأنه الحق الذي يزيل ما بينهم من الخلاف ويهديهم إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة ﴿ ومن يكفر به ﴾ من الرؤساء المعاندين والمقلدين الجاهلين وهم إلا الأكثرون، ﴿ فأولئك هم الخاسرون ﴾ لهذه السعادة، المحرمون مما يكون للمؤمنين من المجد والسيادة، سواء كان كفرهم بتحريفه ليوافق مذاهبهم التقليدية، أم بإهماله اكتفاء بقول علمائهم، ويجوز أن يكون الضمير في قوله ( به ) للهدى الذي ذكر في الآيات السابقة.
( الأستاذ الإمام ) عبر عن التدبر والفهم بالتلاوة حق التلاوة ليرشدنا إلى أن ذلك هو المقصود من التلاوة التي يشترك فيها أهل الأهواء والبدع مع أهل العلم والفهم. والتعبير يشعر بأن أولئك الذين حكم بنفي رضاهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نفيا مؤكدا لا حظ لهم من الكتاب إلا مجرد التلاوة وتحريك اللسان بالألفاظ، لا يعقلون عقائده، ولا يتدبرون حكمه ومواعظه، ولا يفقهون أحكامه وشرائعه، لأنهم استغنوا عنه بتقليد بعض الرؤساء والاكتفاء بما يقولون، فلا عجب إذا أعرضوا عما جاء به النبي ولا ضرر في إعراضهم. وأما الآخرون فإنهم لتدبرهم وفهمهم أسرار الدين، وعلمهم بوجوب مطابقتها لمصالح المكلفين، يعقلون إن ما جاء به هو الحق الذي يتفق مع مصلحة البشر في ترقية أرواحهم، وفي نظام معايشهم، فيؤمنون به وإنما ينتفع بإيمان أمثالهم.
وجملة القول أن هذا التعبير أفاد حكما جديدا وإرشادا عظيما وهو أن الذي يتلوا الكتاب لمجرد التلاوة مثله كمثل الحمار يحمل أسفارا فلاحظ له من الإيمان بالكتاب لأنه لا يفهم أسراره ولا يعرف هداية لله فيه. وقراءة الألفاظ لا تفيد الهداية وإن كان القارئ، يفهم مدلولاتها كما يقول المفسر والمعلم لها١ لأن هذا الفهم من قبيل التصور، إلا خيال يلوح ويتراءى، ثم يغيب ويتناءى، وإنما الفهم فهم التصديق والإذعان ممن يتدبر الكتاب مستهديا مسترشدا ملاحظا أنه خاطب به من الله تعالى ليأخذا به فيهتدي ويرشد، والمقلدون محرومون من هذا فلا يخطر لهم ببال أنهم مطالبون بالاهتداء بكتاب الله تعالى وإنما الهداية عندهم محصورة في كلام رؤسائهم الدينيين، ولا سيما إذا كانوا ميتين.
وإذا كنا نعتبر بما قص الله تعالى علينا من خبر أهل الكتاب، كما قال ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ فإننا نعرف حكم أهل القرآن عنده تعالى مما ذكره عن أهل التوراة والإنجيل كما نعرفه من مثل قوله عز وجل ﴿ ٤٧ : ٢٣ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ﴾ وقوله ﴿ ٣٨ : ٢٨ كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ﴾ فكل هذه الآيات والعبر لم تحل دون اتباع هذه الأمة سنن من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع كما أنبئت للتحذير، والقرآن حجة عليها كما ورد في الحديث " والقرآن حجة لك أو عليك " ٢ ولا شك أن من يتلو ألفاظ القرآن وهو معرض عن هدايته غير معتبر بوعده ووعيده فهو كالمستهزئ بربه.
سأل سائل من المقلدين حاضري الدرس بأن العلماء قالوا : إن القرآن يتعبد بتلاوته. فقال الأستاذ الإمام : نعم ولكنهم لم يقولوا إنه أنزل لذلك وكيف يقولون ذلك والله الذي أنزله يقول إنه أنزله ﴿ ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ﴾. فالقرآن وكذلك السنة يصرحان في مواضع كثيرة بخلاف هذا القول إذا أخذ على إطلاقه وجعل معناه أو من معناه أن الله تعالى يطالب عباده بقراءة القرآن بدون تدبر ولا تذكر. وقد جاء من الأحاديث ما يصف حال قوم يأتون بعد " يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم " وقد سماهم شرار الخلق، فهؤلاء الأشرار قد اتخذوا القرآن من الأغاني والمطربات ؛ وإذا طالبت أحدهم بالفهم والتدبر أخذته العزة بالإثم واحتج عليك بكلمة قالها فلان أو حلم رآه فلان، وهكذا انقلب على المسلمين وضع الدين، ثم هم يتعجبون مع ذلك كيف حرموا من وعد الله في قوله ﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ ﴿ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ﴾ وضرب الأستاذ مثلا رجلا يرسل كتابا إلى آخر فيقرأه المرسل إليه هذرمة أو يترنم به ولا يلتفت إلى معناه ولا يكلف نفسه إجابة ما طلب فيه ثم يسأل الرسول أو غيره : ماذا قال صاحب الكتاب فيه وماذا يريد منه ؟ أيرضى المرسل من المرسل إليه بهذا أم يراه استهزاء به ؟ فالمثل ظاهر وإن كان الحق لا يقاس على الخلق، فإن الكتاب لا يرسل لأجل ورقه، ولا لأجل نقوشه ولا لأجل أن تكيف الأصوات حروفه وكلمه ولكن ليعلم مراد المرسل منه ويعمل به٣.
( الأستاذ الإمام ) إن الاستهداء بالقرآن، واجب على كل مكلف في كل زمان ومكان، فعلى كل قارئ أن يتلو القرآن بالتدبر وأن يطالب نفسه بفهمه والعمل به، ولا شك أن كل من له معرفة ولو قليلة باللغة العربية فإنه يفهم من القرآن ما يهتدي به، ومن كان أميا أو أعجميا فإنه ينبغي له أن يسأل القارئين أن يقرأوا له القرآن ويفهموه معناه، وقد تقدم التنبيه على هذا في مقدمة تفسير سورة الفاتحة. بل قال الأستاذ في هذا المقام : إنني أعتقد أنه يجب على كل مسلم أن يقرأ القرآن أو يسمعه كله ولو مرة واحدة في عمره، ومن فوائد ذلك أن يأمن من إنكار شيء منه إذا عرض عليه أو سمعه مع التشكيك فيه.
٢ جملة من حديث رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي مالك الأشعري مرفوعا..
٣ سبق الإمام الغزالي إلى مثل هذا المثل فذكره في الإحياء غيره مرة وهذه عبارة له فيه قال "مثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرره مثل من يكرر كتاب الملك في كل يوم مرات وقد كتب إليه في عمارة مملكته وهو مشغول بتخريبها ومقتصر على دراسة كتابه فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء والمقت" ا هـ من الباب الثالث من كتاب آداب تلاوة القرآن. ونقول: إن الأحاديث التي وردت في الترغيب بالتلاوة من غير ذكر التدبر تحمل على اعتبار التدبر المعلوم من الآيات والأحاديث الأخرى. على أن حفظ ألفاظ القرآن مقصوده لينقل بالتواتر ولا ينافي هذا كونه حجة على القارئ الذي لا يهتدي ولا يعتبر به كما في الحديث الصحيح.
وقد تقدم في تفسير الآيات الأولى ما يغني عن الإطالة هنا وليس في هذه زيادة في المعنى إلا أن التعبير قد اختلف تفننا، ففي الآية الأولى تقدم ذكر الشفاعة منفية القبول، وتأخر ذكر العدل غير مأخوذ، وفي هذه الآية نفي قبول العدل أولا ثم نفي نفع الشفاعة ثانيا. وكأنه يشير بهذا التفنن إلى أنه لا فرق بين الفداء والشفاعة في الجواز والمنع فمن منع العوض في الآخر لزمه منع الشفاعة فإن جوزها جوزه.
أقول : بعد أن أقام الله الحجة على أهل الكتاب وبين شؤونهم في الكفر بالنبي الذي كانوا ينتظرونه لبشارة رسلهم به وشؤونهم في التلاعب بدينهم وشؤونهم مع المؤمنين – بين في هذه الآيات وما بعدها ما يستند إليه الإسلام ونبي الإسلام من أضل ونسب يجله أهل الكتاب والعرب جميعا وهو ملة إبراهيم ونسبه، فهو في هذا السياق يبين لأهل الكتاب ولا سيما اليهود المحتكرين للوحي في قومهم والمفضلين لأنفسهم على العرب بنسبهم أن هذا لو كان حجة لما قامت هذه الحجة على محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، إذ الملة في الأصل واحدة والنسب واحد ولكنهم كفروا النعمتين بما تقدم ذكره من أعمالهم فجاء النبي الموعود به لإصلاح حالهم وحال غيرهم وسيأتي قوله تعالى في هذا السياق ﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾ وجرى شيخنا في الدرس على طيته في التناسب بين هذا السياق وما قبله فقال ما مثاله :
كان الكلام في أول السورة إلى هذه الآية بأسلوب واحد في سياق واحد : ذكر حقية الكتاب وكونه من نصوع البرهان بحيث يدفع ريب المرتابين أن يدنو منه أو يتسامى إليه، ثم ذكر أصناف الناس في أمر الإيمان به وعدم الإيمان به وأطال الحجاج والمناظرة في خطاب أهل الكتاب خاصة لما تقدم من أنهم كانوا موضع الرجاء في المبادرة إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به لأنه وافقهم في أصل الدين وصدق أنبياءهم، وكتبهم وذكرهم بما نسوا، وعلمهم ما جهلوا، وأصلح لهم ما حرفوا وزادهم معرفة بأسرار الدين وحكمته، كما أنهم كانوا في موضع الشبهة عند المشركين والمنافقين بما كفروا، وفي موضع الحجة عليهم بما آمنوا، قال تعالى في الاحتجاج على المشركين ﴿ ٢٦ : ١٩٧ أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ﴾ وقد جاءت محاجة أهل الكتاب على طريقة الإطناب لما كانوا عليه من جمود القرائح والبعد عن البلاغة كما حكى عنهم أنهم قالوا " قلوبنا غلف " ومن فساد الأذهان بالتعود على التأويل والتحريف، فكان يبدأن لهم المعنى ويعاد، ويساق إليهم القول بطرق بينة، ويؤكد بضروب من التأكيد، تبعد به عن قبول التأويل والتحويل، وكان مما حجوا به التذكير بحال سلفهم الأنبياء وبحالهم معهم من عصيانهم وإيذائهم بل قتلهم في عهدهم، والغرور بانتظار شفاعتهم والاستغناء بها من بعدهم.
ثم إن الكلام في هذه الآية " وإذ ابتلى إبراهيم ربه " وما بعدها موجه إلى مشركي العرب، ووجه الاتصال بينها وبين ما قبلها أن ذلك كان يتضمن الاحتجاج على أهل الكتاب بسلفهم الصالح، وهذا يتضمن الاحتجاج على مشركي قريش وأمثالهم بسلفهم الصالح، فإنهم ينتسبون إلى إسماعيل وإبراهيم ويفتخرون بأنهما بنيا لهم الكعبة معبدهم الأكبر، وكانوا في عهد التنزيل قد اختلطوا بالأمم المجاورة التي تعرف لهم هذا النسب.
وإنك لترى الكلام هنا جاريا على طريقة الإيجاز والإشارة لما كان عليه العرب من حدة الفكر وصفاء الأذهان، ودقة الفهم ورقة الوجدان، على أن هذه الآيات تصلح حجة على الفريقين لأن أهل الكتاب كافة يجلون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويعتقدون نبوته، والإسرائيليون منهم ينتسبون إليه، ولكن الخطاب في قصته موجه إلى العرب أولا وبالذات، فتلك حجج القرآن على أهل الكتاب الذي جاء لإصلاح دينهم وترقيتهم فيه ودين الله واحد في جوهره، وهذه حججه على أهل الشرك والوثنية الخاصة التي جاء لمحوها من الأرض وإثبات نقيضها وهو التوحيد والتنزيه وإثبات البعث والنشور، وقد أقام الحجج على هذين الأصلين من الطرق العقلية والكونية في مواضع كثيرة ولا سيما في السور المكية.
قال تبارك اسمه ﴿ وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ﴾ أقول أشهر الأقوال وأظهرها في متعلق " إذ " هنا قولان :
( ١ ) أنه مقدر معلوم من السياق ومن أمثاله وهو " اذكر " وإذا جعل الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي " واذكر " لأهل الكتاب ولقومك وغيرهم ﴿ إذ ابتلى إبراهيم ربه ﴾ الخ وإذا جعل الخطاب للمكلفين ﴿ واذكروا ﴾ وتقدم نظيره في خطاب بني إسرائيل
( ٢ ) أنه متعلق بقوله ﴿ قال إني جاعلك للناس إماما ﴾ والكلمات جمع كلمة وتطلق على اللفظ المفرد وعلى الجمل المفيدة من الكلام. والمراد منها هنا مضمونها من أمر ونهي، روى عكرمة عن ابن عباس قال : لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم ابتلاه الله بثلاثين خصلة من خصال الإسلام...
واستنبطها ابن عباس بالعدد من أربع سور ليس فيها خطاب له عليه الصلاة والسلام. وقال شيخنا في الدرس : جعل التكليف بالكلمات لأنها تدل عليها وتعرف بها عادة ولم يذكر الكلمات ما هي ولا الإتمام كيف كان، لأن العرب تفهم المراد بهذا الإبهام والإجمال وأن المقام مقام إثبات أن الله تعالى عامل إبراهيم معاملة المبتلى أي المختبر له لتظهر حقيقة حاله ويترتب عليها ما هو أثر لها، فظهر بهذا الابتلاء والاختبار فضله بإتمامه ما كلفه الله تعالى إياه وإتيانه به على وجه الكمال. هذا هو المبادر ولكن المفسرين لم يألوا في تفسير الكلمات والخبط في تعيينها فقال بعضهم : إنها مناسك الحج، وقال آخرون : إنها خصال الإيمان واستخرجوها من آيات من القرآن، وذهب بعضهم إلى أن الإشارة بالكلمات إلى الكوكب والقمر والشمس التي رآها واستدل بأفولها على وحدانية الله تعالى، وكأن قائل هذا يعتقد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يظن أن هذه الكواكب أربابا وحاش لله ما كان منه إلا أن قال ( هذا ربي ) تمهيدا للحجة والبرهان ولذلك قال تعالى بعد حكاية ذلك عنه ﴿ ٦ : ٨٢ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ﴾ وذهب قوم إلى أن المراد بها جعل الله إياه إماما وتكليفه بإقامة البيت وتطهيره وأن بقية الآية مفسر للإبهام فيها. وادعى بعضهم أن المراد أمره في المنام بذبح ولده وإنما هذا الأمر كلمة واحدة فكيف جعلوها عشرا ؟ وزعم آخرون أن الكلمات هي الخصال العشر التي تسمى خصال الفطرة، وهي قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وتقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط والاستحداد وقيل غير ذلك.
قال الأستاذ الإمام عند إيراد قول المفسر ( الجلال ) في تفسير الكلمات إنها الخصال العشر : إن هذا من الجراءة الغريبة على القرآن ولا شك عندي في أن هذا مما أدخله اليهود على المسلمين ليتخذوا دينهم هزؤا، وأي سخافة أشد من سخافة من يقول : إن الله تعالى ابتلى نبيا من أجل الأنبياء بمثل هذه الأمور وأثنى عليه بإتمامها وجعل ذلك كالتمهيد لجعله إماما للناس وأصلا لشجرة النبوة – وإن هذه الخصال لو كلف بها صبي مميز لسهل عليه إتمامها ولم يعد ذلك منه أمرا عظيما - ؟ والحق أن مثل هذا يؤخذ كما أخبر الله تعالى به ولا ينبغي تعيين المراد به إلا بنص عن المعصوم.
هذا ملخص ما قاله شيخنا في الدرس وهو صفوة الحقيقة، ولكن كتب إليه رجل من المشتغلين بالعلم في سورية كتابا عقب قراءته ذلك في المنار يقول فيه : إن تفسير الكلام بخصال الفطرة مروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما فكيف يخالفه فيه ؟ وشدد النكير في ذلك وأطنب في مدح ابن عباس. وقد أرسل إلي الأستاذ كتابه عند وصوله وكتب عليه : الشيخ رشيد يجيب هذا الحيوان. فكتبت إليه وكان صديقا لي كتابا لطيفا كان مما قلته فيه على ما أتذكر : إننا لم نر أحدا من المفسرين ولا من أئمة العلماء التزم موافقة ابن عباس في كل ما يروى عنه وإن صح سنده عنده، فكيف إذا لم يصح ؟ وقد قال الشيخ محمد عبده إنه يجل ابن عباس عن هذه الرواية ولا يصدقها، ولما كانت مثل هذه الشبهة أو الطعن في أي عالم بأنه خالف فلانا الصحابي أو الإمام فلانا مما يروج في سوق العوام نذكر هنا ما قاله شيخ المفسرين ابن جرير الطبري بعد ذكر رواياته المختلفة في تفسير ( الكلمات ) عن ابن عباس وغيره من مفسري السلف ونقله عنه ابن كثير مقرا به، قال هذا : قال أبو جعفر ابن جرير ما حاصله : إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر وجائز أن يكون بعض ذلك ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع ( قال ) ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ا ه المراد منه، وهو عين ما ذهب إليه شيخنا وهذه الحجة يدلي بها ابن جرير في مواضع كثيرة من تفسيره وهي الحق.
ذكر أن إبراهيم أتم الكلمات وأنه تعالى ﴿ قال ﴾ له ﴿ إني جاعلك للناس إماما ﴾ وقد فصلت الجملة عما قبلها لأنها جواب عن سؤال مقدر تدل عليه القرينة. قال شيخنا : ولم يقل : فقال إني جاعلك، للإشعار بأن هذه الإمامة بمحض فضل الله تعالى واصطفائه لا بسبب إتمام الكلمات، فإن الإمامة هنا عبارة عن الرسالة وهي لا تنال بكسب الكاسب. وليس في الكلام دليل على أن الابتلاء كان قبل النبوة. وأما فائدة الابتلاء فهي تعريف إبراهيم عليه السلام بنفسه وأنه جدير بما اختصه الله به، وتقوية له على القيام بما يوجه إليه وقد تحققت إمامته للناس بدعوته إياهم إلى التوحيد لخالص – وكانت الوثنية قد عمتهم وأحاطت بهم – فقام على عهده بالحنيفية وهي الإيمان بتوحيد الله والبراءة من الشرك وإثبات الرسالة، وتسلسل ذلك في ذريته خاصة فلم ينقطع منها دين التوحيد، ولذلك وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم.
وماذا قال إبراهيم لما بشره الله تعالى بجعله إماما للناس ﴿ قال ومن ذريتي ﴾ أي قال : واجعل من ذريتي أئمة للناس، وهو إيجاز في الحكاية عنه لا يعهد مثله إلا في القرآن. وقد جرى إبراهيم صلى الله عليه وسلم على سنة الفطرة في دعائه هذا فإن الإنسان لما يعلم من أن بقاء ولده بقاء له يحب أن تكون ذريته على أحسن حال يكون هو عليها، ليكون له حظ من البقاء جسدا وروحا، ومن دعاء إبراهيم الذي حكاه الله عنه في السورة المسماة باسمه ﴿ ١٤ : ٤٠ رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ﴾ وقد راعى الأدب في طلبه، فلم يطلب الإمامة لجميع ذريته بل لبعضها، لأنه الممكن وفي هذا مراعاة لسنن الفطرة أيضا. وذلك من شروط الدعاء وآدابه فمن خالف في دعائه سنن الله في خليقته أو في شريعته فهو غير جدير بالإجابة، بل هو سيء الأدب مع الله تعالى، لأنه يدعوه لأن يبطل لأجله سنته التي لا تتبدل ولا تتحول أو ينسخ شريعته بعد ختم النبوة وإتمام الدين.
وبماذا أجاب الله إبراهيم حين دعاه هذا الدعاء ؟ ﴿ قال لا ينال عهدي الظالمين ﴾ أي إنني أعطيك ما طلبت وسأجعل من ذريتك أئمة للناس ولكن عهدي بالإمامة لا ينال الظالمين. لأنهم ليسوا بأهل لأن يقتدي بهم، ففي العبارة من الإيجاز ما يناسب ما قبلها وإنما اكتفى في الجواب بذكر المانع من منصب الإمامة مطلقا وهو الظلم لتنفير ذرية إبراهيم من الظلم وتبغيضه إليهم ليتحاموه وينشئوا أولادهم على كراهته، ويربوهم على التباعد عنه لكيلا يقعوا فيه فيحرموا من هذا المنصب العظيم الذي هو أعلى المناصب وأشرفها، ولتنفير سائر الناس من الظالمين وترغيبهم عن الاقتداء بهم، فإن الناس قد اعتادوا الاقتداء بالرؤساء والملوك الظالمين لأنفسهم ولغيرهم بالخروج عن الشريعة إلا ما يوافق أهواءهم، ويحرفون أو يؤولون الأحكام لتطابق شهواتهم، وقد درجوا على ذلك في كل عصر ما عدا عصر النبوة وما قاربه، كعصر خلافة النب
قوله تعالى ﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ﴾ معطوف على ما قبله والمعنى واذكر أيها الرسول – أو أيها الناس – إذ جعلنا البيت الحرام مثابة للناس وأمنا أي ذا أمن، بأن خلقنا بما لنا من القدرة في قلوب الناس من الميل إلى حجه والرحلة إليه المرة بعد المرة من كل فج وصوب ما كان به مثابة لهم، ومن احترامه وتعظيمه وعدم سفك دم فيه ما كان به أمنا، ولفظ " البيت " من الأعلام الغالبة على بيت الله الحرام بمكة كالنجم على الثريا، كان كل عربي يفهم هذا من إطلاق الكلمة.
يذكر الله تعالى العرب بهذه النعمة أو النعم العظيمة وهي جعل البيت الحرام مرجعا للناس يقصدونه ثم يثوبون إليه، ومأمنا لهم في تلك البلاد بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب، وبدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للبيت وأهله المؤمنين، وفي هذا التذكير ما فيه من الفائدة في تقرير دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبيان بنائها على أصول ملة إبراهيم، الذي تحترمه قريش وغيرها من العرب وقد اختار المثابة على نحو القصد والمزار، لأن لفظ المثابة يتضمن هذا وزيادة فإنه لا يقال : ثاب المرء إلى الشيء إلا إذا كان قصده أولا ثم رجع إليه. ولما كان البيت معبدا وشعارا عاما كان الناس الذين يدينون بزيارته والقصد إليه للعبادة يشتاقون الرجوع إليه، فمن سهل عليه أن يثوب إليه فعل، ومن لم يتكلم من الرجوع إليه بجثمانه، رجع إليه بقلبه ووجدانه، وكونه مثابة للناس أمر معروف في الجاهلة والإسلام، وهو يصدق برجوع بعض زائريه إليه، وحنين غيرهم وتمنيهم له عند عجزهم عنه. وكذلك جعله أمنا معروف عندهم فقد كان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يزعجه، على ما هو معروف عندهم من حب الانتقام والتفاخر بأخذ الثأر.
( الأستاذ الإمام ) قد يقال : ما وجه المنة على العرب عامة بكون البيت أمنا للناس والفائدة فيه إنما هي للجناة والضعفاء الذين لا يقدرون على المدافعة عن أنفسهم ؟ والجواب عن هذا : أنه ما من قوى إلا ويوشك أن يضطر في يوم من الأيام إلى مفزع يلجأ إليه لدفع عدو أقوى منه أو لهدنة يصطلح في غضونها مع خصم يرى سلمه خيرا من حربه، وولاءه أولى من عدائه، فبلاد كلها أخطار ومخاوف لا راحة فيها لأحد. وقد بين الله المنة على العرب إذ جعل لهم مكانا آمنا بقوله في سورة العنكبوت ﴿ ٢٩ : ٦٧ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ؟ ﴾.
قال تعالى ﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ قرأ نافع وابن عامر " واتخذوا " بفتح الخاء على أنه فعل ماض معطوف على " جعلنا " والباقون بكسرها على أنه أمر أي وقلنا اتخذوا أو قائلين اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فحذف القول للإيجاز، وفائدته أن يستحضر ذهن التالي أو السامع المأمورين حاضرين والأمر يوجه إليهم، فهو تصوير للماضي بصورة الحاضر ليقع في نفوس المخاطبين بالقرآن أن الأمر يتناولهم، وأنه موجه إليهم كما وجه إلى سلفهم في عهد أبيهم إبراهيم ؛ وهم ولده إسماعيل وآل بيته ومن أجاب دعوتهما إلى حج البيت، لأنه حكاية تاريخية سيقت للفكاهة والتسلية بل شريعة ودين. وهذا القول أحسن من قول بعضهم إن " اتخذوا " أمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأن ذلك القول يقتصر على معنى صيغة الأمر وما قلنا يتضمن مع ذلك معنى القراءة بصيغة الماضي الدالة على أن إبراهيم ومن معه قد اتخذوا مقامه مصلى، ولأنه أبلغ لما فيه من تحريك شعور الخلف بشرف عمل السلف وبعثهم على الافتداء بهم.
و " مقام " اسم مكان من القيام، وقد اختلف المفسرون في مقام إبراهيم، فقال بعضهم إنه الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء الكعبة. قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم ورواه البخاري، وعليه مفسرنا ( الجلال ) وقال آخرون : إنه الحرم كله وهو مروي عن النخعي ومجاهد. وروى عن ابن عباس وعطاء أنه مواقف الحج كلها، وقال الشعبي : إنه عرفة ومزدلفة والجمار. واختلفوا أيضا في تفسير المصلى فقال من فسر المقام بالحجر إنه مكان الصلاة أي صلاتنا المخصوصة وعليه الجلال واستدلوا له بحديث جابر عند مسلم قال " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ الآية " وذهب الآخرون إلى أن المراد بالمصلى موضع الصلاة بمعناها اللغوي العام وهو الدعاء والتوجه إلى الله تعالى وعبادته مطلقا. والأستاذ الإمام يرجح قول هؤلاء وذكر من دليله أن الحجر لا يسع الصلاة المخصوصة ولذلك قال جابر " إن النبي صلى خلفه " فكيف يتخذ منه محل للصلاة ؟ وأجاب عن حديث مسلم وحديث أبي نعيم مرفوعا " هذا مقام إبراهيم " بأنه ليس فيهما ما يدل على أن الحجر هو المراد بمقام إبراهيم في الآية دون غيره وإنما صلاته تدل على أن الصلاة هناك مشروعة. على أن في سند حديث أبي نعيم مقالا، والخطاب في الأصل للمؤمنين في زمن إبراهيم عليه السلام ولم تكن صلاتنا هذه صلاتهم، فحمل المقام على جميع شعائر الحج التي قام فيها إبراهيم والصلاة على معناها اللغوي الذي يشمل صلاة إبراهيم ومن كان معه على عبادته كما يشمل صلاتنا ومناسكنا أظهر، كما قال الأستاذ الإمام. والصلاة عند العرب وغيرهم من الأمم تشمل الدعاء والثناء على الله والتوسل إليه بكل قول وعمل يدل على التوجه إليه سبحانه، ويقول المحققون من الفقهاء : حيثما صليت من المسجد فثم مقام إبراهيم. والناس يتحرون صلاة ركعتي الطواف خلف البناء المرتفع الذي وضع فيه الحجر الذي فيه أثر قدم إبراهيم صلى الله عليه وسلم إن أمكن، والمروي أنه كان ملاصقا للكعبة فأخره إلى ذلك المكان عمر رضي الله عنه كما رواه عبد الرزاق بسند قوي عندهم في تفسير ابن مردويه عن مجاهد بسند ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخره. وسيأتي في تفسير آل عمران من أول الجزء الرابع مزيد كلام في هذا المقام.
قال تعالى ﴿ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي ﴾ الخ عهد إليه بالشيء وصاه به، والمراد أن الله كلفهما أن يطهرا ذلك المكان الذي نسبه إليه وسماه بيته لأنه جعله معبدا فيه العبادة الصحيحة. ولم يذكر ما يجب أن يطهراه منه ليشمل جميع الرجس الحسي والمعنوي كالشرك وأصنامه واللغو والرفث والتنازع.
وتخصيص الله تعالى ذلك البيت بالنسبة إلى ذاته المنزهة عن صفات الأجسام ليس لخصوصية في موقعه ولا في أحجاره، وإنما كان بيتا لله لأن الله تعالى سماه بيته وأمر بأن يتوجه إليه المصلون، وبأن يعبد فيه عبادة خاصة. والحكمة في ذلك أن البشر يعجزون عن التوجه إلى موجود غيبي مطلق لا يتقيد بمكان ولا ينحصر في جهة وهم في حاجة إلى التوجه إلى خالقهم وشكره والتوسل إليه والثناء عليه واستمداد رحمته ومعونته لما في ذلك من الفائدة لهم، لأنه يعلي مداركهم عن التقيد في دائرة الأسباب المعروفة على ضيقها وعن الاستخذاء لما لا يعرفون له سببا، ويرفع نفوسهم عن الرضى بالحياة الحيوانية. فله الحمد والمنة أن عين لهم مكانا نسبه إليه فسماه بيته رمزا إلى أن ذاته المقدسة تحضره، فإذا كان الحضور الحقيقي محالا عليها، فإنها تحضره رحمته الإلهية، ولذلك كان التوجه إليه بمنزلة التوجه إلى تلك الذات العلية، لو وجد العبد إلى ذلك سبيلا. ولو كلف الله عباده بعبادته مطلقا- وقد علمهم بنظر العقل وإرشاد الشرع أنه ليس كمثله شيء لوقعوا في الحيرة والاضطراب لا يدرون كيف يتوجهون إلى ذات غيبية مطلقة. ولو اختار بعضهم لنفسه عبادة تليق بهذا التنزيه الذي أرشد إليه الكتاب وصدقه العقل لما اهتدى إليه الآخرون وبذلك يفقد المؤمنون الجامعة التي تجمعهم على أفضل الأعمال التي تؤلف بين قلوبهم، لذلك قلنا : إن الله رحمهم إذ جعل لنفسه بيتا يقصدونه ويثوبون إليه عند الإمكان، ويتوجهون إليه في صلاتهم وإن بعد المكان، ولا يخشى على المؤمن توهم الحلول في ذات الله بنسبة البيت إليه بعد ما نفى سبحانه كل إيهام بقوله ﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ﴾.
أقول : ولا يرد على هذا كون السماء قبلة الدعاء لا شعارها بعلوه تعالى على جميع خلقه للفرق الظاهر بين الصلاة والدعاء.
وقوله تعالى ﴿ للطائفين والعاكفين والركع السجود ﴾ يؤيد ما رجحه الأستاذ الإمام من جعل المصلي بالمعنى العام أي المعبد، فإنه بعد أمر الناس باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، بين لنا أن إبراهيم وإسماعيل طهراه بأمره لأداء أنواع من العبادات فيه كالطواف وفي معناه السعي بين الصفا والمروة والعكوف في المسجد والركوع والسجود وهما من أعمال الصلاة. والركع السجود جمع الراكع والساجد والآية تدل على أن إبراهيم كان مأمورا هو ومن آمن به بهذه العبادات، ولكن لا دليل فيها على أنهم كانوا يؤدونها على الوجه المشروع عندنا.
﴿ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ﴾ فسر الجلال الرزق من الثمرات بنقل جبريل الطائف من حوران في بلاد الشام أو من فلسطين إلى مكانه الآن في أرض الحجاز مع أن الكلام في البيت وبلده مكة لا في الطائف. ورزق أهل هذا البلد الأمين من الثمرات ظاهر معروف بالمشاهدة والاختبار المصدقين لما جاء به الكتاب في سورة القصص بقوله ﴿ ٢٨ : ٥٧ أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ﴾ فالثمرات تجبى وتجمع من حيث تكون وتساق إلى مكة، ولا فرق في ذلك بين كونها من الطائف أو من الشام أو مصر أو الروم مثلا، وكونها تجمع من أقطار متفرقة أظهر في صدق الآية وأدل على التسخير. وحديث نقل الطائف لا يصح ولكنهم ألصقوه بكتاب الله وجعلوه تفسيرا له وهو بريء منه وغير محتاج في صدقه إليه.
وقد خص إبراهيم بدعائه كما هو اللائق به. ولكن الله واسع الرحمة وقد جعل رزق الدنيا عاما للمؤمن والكافر ﴿ ١٧ : ٢٠ كلاّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ﴾ ولكن تمتيع الكافر محدود بهذا العمر القصير ؛ ومصيره في الآخرة إلى شر مصير، وذلك جواب الله تعالى لإبراهيم قال ﴿ ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ﴾ أي وأرزق من كفر أيضا فأمتعه بهذا الرزق قليلا وهو مدة وجوده في الدنيا ثم أسوقه إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا يقصده هو ولا يعلم أن كفره ينتهي به إليه. وذلك أن لجميع أعمال البشر الاختيارية غايات وآثار اضطرارية تفضي وتنتهي إليها بطبيعتها بحسب نظام الأسباب والمسببات، كما يفضي الإسراف في الشهوات أو التعب أو الراحة إلى بعض الأمراض في الدنيا. فالكفار والفساق مختارون في كفرهم وفسقهم، فعقابهم عليها إنما هو عقاب على أعمال اختيارية، وهو أن كفرهم بآيات الله سيسوقهم إلى عذاب الله بما أقام الله تعالى عليه الإنسان من السنن الحكيمة، وأساسها أن علم الإنسان وأعماله النفسية والبدنية لها الأثر الذي يفضي به إلى سعادته أو شقائه اضطرارا، ولما كانت هذه السنة بقضاء الله وتقديره صح أن يقال : إن الله قد اضطر الكافر إلى العذاب وألجأه إليه إذ جعل الأرواح المدنسة بالعقائد الفاسدة والأخلاق المذمومة محل سخطه وموضع انتقامه في الآخرة، كما جعل أصحاب الأجساد القذرة عرضة للأمراض في الدنيا.
ولما كانت هذه العقائد والمعارف والأخلاق والأعمال كسبية وكان الإنسان متمكنا من اختيار الحق على الباطل والطيب على الخبيث، وقد هداه الله إلى ذلك بما أعطاه من العقل، وما نزله من الوحي – صح أن يقال : إنه ظلم نفسه وعرضها للعذاب والشقاء بأعماله التي مبدؤها كسبي، وأثرها ضروري.
وفي قوله تعالى ﴿ ومن كفر ﴾ الخ إيجاز بالعطف على محذوف علم منه أنه تعالى استجاب دعاء إبراهيم في المؤمنين، فجعل لهم هذا الخير في الدنيا وأعد لهم ما هو أفضل منه في الآخرة. وهو إيجاز لم يكن يعهد في غير القرآن جار على الأصل الذي تقدم بيانه في خطاب القرآن للعرب خاصة دون ما كان يخاطب به بني إسرائيل وإن كان كل ما في القرآن عبرة عامة لجميع المعتبرين، كما تكرر عن الأستاذ الإمام.
ذكر الله تعالى العرب أولا بنعمته عليهم بهذا البيت : أن جعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لبلد البيت واستجابة الله تعالى دعاءه إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من البلاد البعيدة فيتمتع أهله بها، وهي نعم يعرفونها لا ينكرها أحد، وانتقل منها إلى التذكير بالنعم المعنوية فذكر عهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود لينبههم بإضافة البيت إلى نفسه أنه لا يليق أن يعبد فيه غيره، وبتطهيره لأجل الطواف والاعتكاف والصلاة أنه يجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة وعن سائر الأعمال الذميمة كطواف العريان وكانوا يفعلونه.
ثم ذكرهم بعد هذا بأن إبراهيم هو الذي بنى هذا البيت بمساعدة ابنه إسماعيل وذكر لهم من دعائهما هنالك ما يرشدهم إلى العبادة الصحيحة والدين الحق ويجذبهم إلى الاقتداء بذلك السلف الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، فإن قريشا كانت تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل بحق وتدعى أنها على ملة إبراهيم، ولذلك كانت ترى أنها أهدى من الفرس والروم. وسائر العرب تبع لقريش.
قوله تعالى ﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ﴾ ظاهر في أنهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا وتفننوا في رواياتهم عن قدم البيت وعن حج آدم ومن بعده من الأنبياء إليه وعن ارتفاعه إلى السماء في وقت الطوفان ثم نزوله مرة أخرى، وهذه الروايات يناقض، أو يعارض بعضها بعضا، فهي فاسدة في تناقضها وتعارضها، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها، وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن، ولم يستح بعض الناس من إدخالها في تفسير القرآن وإلصاقها به وهو بريء منها. ومن ذلك زعمهم أن الكعبة نزلت من السماء في زمن آدم ووصفهم حج آدم إليها وتعارفه بحواء في عرفة بعد أن كانت قد ضلت عنه بعد هبوطهما من الجنة، وحاولوا تأكيد ذلك بتزوير قبر لها في جدة. وزعمهم أنها هبطت مرة أخرى إلى الأرض بعد ارتفاعها بسبب الطوفان وحليت بالحجر الأسود، وأن هذا الحجر كان ياقوتة بيضاء – وقيل زمردة – من يواقيت الجنة أو زمردها وأنها كانت مودعة في باطن جبل أبي قبيس فتمخض الجبل فولدها وأن الحجر إنما اسود لملامسة النساء الحيض له، وقيل لاستلام المذنبين إياه، وكل هذه الروايات خرافات إسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوهوا عليهم دينهم وينفروا أهل الكتاب منه.
( الأستاذ الإمام ) لو كان أولئك القصاصون يعرفون الماس لقالوا إن الحجر الأسود منه لأنه أبهج الجواهر منظرا وأكثرها بهاء، وقد أراد هؤلاء أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه ولكنها إذا راقت للبله من العامة فإنها لا تروق لأهل العقل والعلم الذين يعلمون أن الشريف هذا الضرب من الشرف المعنوي هو ما شرفه الله تعالى، فشرف هذا البيت إنما هو بتسمية الله تعالى إياه بيته، وجعله موضعا لضروب من عبادته لا تكون في غيره كما تقدم، لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع، ولا بكونه من السماء، ولا بأنه من عالم الضياء، وكذلك شرف الأنبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم ولا في ملابسهم، وإنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم، وتخصيصهم بالنبوة التي هي أمر معنوي. وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة وأكثر نعمة منهم.
وقد أفصح عن هذا المعنى الذي قرره الأستاذ الإمام أمير المؤمنين ومشيد دعائم الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذ قال عند استلام الحجر الأسود " أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك : ثم دنا فقبله " رواه أبو بكر بن أبي شيبة والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من عدة طرق. وروى ابن أبي شيبة والدارقطني في العلل عن عيسى بن طلحة عن رجل رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الحجر فقال " إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ثم قبله، ثم حج أبو بكر فوقف عند الحجر ثم قال : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك " وحديث عمر يؤيد الرواية المرفوعة، وإنما قدمناه لأنه أصح سندا. وما روي من مراجعة عليّ لعمر في ذلك غير صحيح، فلا يعول عليه. والحديث يرشدنا إلى أن الحجر لا مزية له في ذاته فهو كسائر الحجارة، وإنما استلامه أمر تعبدي في معنى استقبال الكعبة وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدده مكان ولا تحصره جهة من الجهات، على أنه قد غرز طبائع البشر تكريم البيوت والمعاهد، والآثار والمشاهد، التي تنسب للأحباء، أو تضاف إلى العظماء.
أمر على الديار ديار ليلى | أقبل ذا الجدار وذا الجدارا |
وما حب الديار شغفن قلبي | ولكن حب من سكن الديارا |
وقد جهل القصاص تلك الأحاديث والآثار، وهذه المعاني والأسرار، وجعلوا مزية البيت الحرام ومشاعره وحجره المكرم محصورة في مخالفتها لسائر الحجارة وكون أصلها من جواهر الجنة التي هي من عالم الغيب، ولو كان ذلك صحيحا لبقيت حجارتها كما كانت عندما نزلت من الجنة بزعمهم وقد راجت بضاعتهم المزجاة عند أهل العلم والعقل عند من لا يعرف من الدين إلا هذه الرسوم الظاهرة، ومنها كسوة الكعبة الحريرية المزركشة فإنها عند عامتنا في هذه الأزمنة من أعظم شعائر الدين ؛ وإن حرم حضور احتفالها أو رؤيتها بعض علماء الأزهر المتأخرين ( كالباجورى ) وليس هذا التحريم لذاتها فإنها مشروعة بل لما في الاحتفال بها من البدع وما عليه العوام من اعتقاد البركة فيها وفي جملها الذي يقبل مقوده الأمراء والوزراء ورؤساء العلماء الرسميين المدهنين لهم، وهكذا كل واحد يفهم الدين، ويأخذ من كتب الأولين والآخرين، ما يناسب استعداد عقله، ويحسن في نظر جيرانه وأهله، حتى يخرج المسلمون من هذه الفوضى في الدين والعلم، ويدير شئونهم الاجتماعية أهل الحكمة والفهم، فيضعون لهم نظاما يتبع في تعميم التربية والتعليم ﴿ ٣ : ١٠١ ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم ﴾.
ومن مباحث اللفظ في الجملة : أن القواعد جمع قاعدة وهي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من الساقات، ورفعها إعلاء البناء عليها أو إعلاؤها نفسها على الخلاف و " من البيت " قال الجلال إنه متعلق بيرفع، وهذا إنما يصح إذا أريد بالبيت العرصة أو البقعة التي وقع فيها البناء، والأكثرون على أن " من " للبيان وعليه يكون البيت بمعنى نفس البناء والجدران، وهناك قول ثالث وهو أن " من " للتبعيض بناء على أن البيت مجموع العرصة والبناء، قال الأستاذ الإمام : وفي الكلام نكتة لطيفة وهي أن ذكر القواعد أولا ينبه الذهن ويحركه إلى طلب معرفة القواعد ما هي ؟ وقواعد أي شيء هي ؟ فإذا جاء البيان بعد ذلك كان أحسن وقعا في النفس، وأشد تمكنا في الذهن، وأما النكتة في تأخير ذكر إسماعيل عن ذكر المفعول، مع أن الظاهر أن يقال : وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت : فهي الإلماع إلى كون المأمور من الله ببناء البيت هو إبراهيم، وإنما كان إسماعيل مساعدا له وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة.
وقوله تعالى ﴿ ربنا تقبل منا ﴾ الخ حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عند البناء وهو أنهما كانا يقولان ذلك، حذف القول للإيجاز الذي عهد من القرآن في خطاب العرب كما تقدم، وجملة القول بيان لحالهما وقتئذ. وتقبل الله العمل : قبله ورضي به ﴿ إنك أنت السميع ﴾ لأقوالنا ﴿ العليم ﴾ بأعمالنا وبنيتنا فيها.
ذكر الله تعالى العرب أولا بنعمته عليهم بهذا البيت : أن جعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لبلد البيت واستجابة الله تعالى دعاءه إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من البلاد البعيدة فيتمتع أهله بها، وهي نعم يعرفونها لا ينكرها أحد، وانتقل منها إلى التذكير بالنعم المعنوية فذكر عهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود لينبههم بإضافة البيت إلى نفسه أنه لا يليق أن يعبد فيه غيره، وبتطهيره لأجل الطواف والاعتكاف والصلاة أنه يجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة وعن سائر الأعمال الذميمة كطواف العريان وكانوا يفعلونه.
ثم ذكرهم بعد هذا بأن إبراهيم هو الذي بنى هذا البيت بمساعدة ابنه إسماعيل وذكر لهم من دعائهما هنالك ما يرشدهم إلى العبادة الصحيحة والدين الحق ويجذبهم إلى الاقتداء بذلك السلف الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، فإن قريشا كانت تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل بحق وتدعى أنها على ملة إبراهيم، ولذلك كانت ترى أنها أهدى من الفرس والروم. وسائر العرب تبع لقريش.
﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ﴾ المسلم والمسلّم والمستسلم واحد وهو المنقاد الخاضع والمراد بالكلمة ما يشمل التوحيد والإخلاص لله تعالى في الاعتقاد والعمل جميعا ومعنى الأول – أي الإخلاص في الاعتقاد – أن لا يتوجه المسلم بقلبه إلا إلى الله ولا يستعين بأحد فيما وراء الأسباب الظاهرة إلا بالله، ومعنى الثاني أن يقصد بعمله مرضاة الله تعالى لا اتباع الهوى وإرضاء الشهوة، وإنما يرضيه تعالى منا أن تزكى نفوسنا بمكارم الأخلاق، وترقى عقولنا بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبرهان، فبذلك نكون محل عنايته تعالى ومستودع معرفته وموضع كرامته، ومن يقصد بأعماله إرضاء شهوته واتباع هواه لا يزيد نفسه إلا خبثا، وبذلك يكون بعيدا عن الإسلام ويصدق عليه وقوله ﴿ ٢٥ : ٤٣ أرأيت من اتخذا إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ؟ ﴾
وقد يقال : إن الإنسان يندفع لمعظم الأعمال بسائق طلب المنفعة واللذة وهو سائق فطري، فكيف ينافيه الإسلام وهو دين الفطرة. ومثاله طلب الغذاء لقوام الجسم يسوق إليه التلذذ بالطعام، ومثل ذلك طلب اللذات العقلية والأدبية فكيف يمكن أن يكون ما يطلب للذة خالصا لله وحده ؟
والجواب : أن الإسلام قد حل هذه المسألة حلا لا يجده الإنسان في ديانة أخرى، ذلك أنه لم يحرم علينا إلا ما هو ضار بنا، ولم يوجب علينا إلا ما هو نافع لنا، وقد أباح لنا ما لا ضرر في فعله ولا في تركه من ضروب الزينة واللذة إذا قصد بها مجرد اللذة. وأما إذا قصد بها مع اللذة غرض صحيح وفعلت بنية صالحة فهي في حكم الطاعات التي يثاب عليها، ومن نية المرء الصالحة في الزينة والطيب أن يسر إخوانه بلقائه، وأن يظهر نعم الله عليه، وأن يتقرب إلى امرأته ويدخل السرور عليها، وإنما الهوى المذموم في الإسلام هو الهوى الباطل كأن يتزين الرجل ويتطيب للمفاخرة والمباهاة أو ليستميل إليه النساء الأجنبيات عنه، وبذلك تكون الزينة مذمومة شرعا " وإنما الأعمال بالنيات ".
دعا هذا النبيان العظيمان لأنفسهما بحقيقة الإسلام ثم دعوا بذلك لذريتهما فقالا ﴿ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ أي واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك كإسلامنا ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة. قال الأستاذ الإمام : أضافا الذرية إلى ضمير الإثنين للدلالة على أن المراد الذرية التي تنسب إليهما معا وهي ما يكون من ولد إسماعيل، اللفظ ظاهر في هذا المعنى ويرجحه الحال والمحل الذي كان فيه، وعزم إبراهيم على أن يدع إسماعيل في بلاد العرب داعيا إلى توحيد الله، وإسلام القلب إليه، ويرجع هو إلى بلاد الشام، وكذلك الدعاة لهذه الذرية بأن يبعث الله فيهم رسولا منهم كما سيأتي. وقد استجاب الله تعالى دعاء إبراهيم وولده عليهما السلام، وجعل في ذريتهما أمة الإسلام، وبعث فيها منها خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، وإلى هذا الدعاء الإشارة بقوله في سورة الحج ﴿ ٢٢ : ٧٨ ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ ١ وعلم مما تقدم أن المراد بالإسلام معناه الذي شرحناه فيمن قام به هذا المعنى فهو المسلم في عرف القرآن وليس المراد به اسم في حكم الجامد يطلق على أمة مخصوصة حتى يكون كل من يولد فيها أو يقبل لقبها مسلما ذلك الإسلام الذي نطق به القرآن، ويكون من الذين تنالهم دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد جرى إبراهيم وولده على سنة الفطرة في هذا الدعاء أيضا فخصاه ببعض الذرية لأنه قد يكون منها من لا يتناول الإسلام.
﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ أي علمنا إياها علما يكون كالرؤية البصرية في الجلاء والوضوح، والمناسك جمع منسك بفتح السين في الأفصح من النسك ( بضمتين ) ومعناه غاية العبادة، وغلب استعمال النسك في عبادة الحج خاصة ؛ والمناسك في معامله أو أعماله ﴿ وتب علينا ﴾ أي وفقنا للتوبة لنتوب ونرجع إليك من كل حال أو عمل يشغلنا عنك. ويدل عليه قوله تعالى ﴿ ٩ : ١٨ ثم تاب عليهم ليتوبوا ﴾ أو المعنى اقبل توبتنا، ومنه الحديث " ويتوب الله على من تاب " وتاب – بالمثناة – كثاب ( بالمثلثة ) ومعناه رجع. ويقال : تاب العبد إلى ربه أي رجع إليه لأن اقتراف الذنب إعراض عن الله أي عن طريق دينه وموجبات رضوانه، ويقال : تاب الله على العبد : لأن التوبة من الله تتضمن معنى الرحمة والعطف كأن الرحمة الإلهية تنحرف عن المذنب باقترافه أسباب العقوبة فإذا تاب عادت إليه، وعطف ربه عليه.
والتوبة تختلف باختلاف درجات الناس. فعبدك يتوب إليك من ترك ما أمرته بفعله، أو فعل ما أمرته بتركه ؛ وصديقك يتوب إليك ويعتذر إذا هو قصر في عمل لك فيه فائدة عما في إمكانه واستطاعته، وولدك يتوب إذا قصر في أدب من الآداب التي ترشده إليها ليكون في نفسه عزيزا كريما. وكذلك تختلف توبات التائبين إلى الله تعالى باختلاف درجاتهم في معرفته، وفهم أسرار شريعته، فعامة المؤمنين لا يعرفون من موجبات سخط الله تعالى وأسباب عقوبته إلا المعاصي التي شددت الشريعة في النهي عنها، وإذ تابوا من عمل سيئ فإنما يتوبون منها. وخواص المؤمنين يعرفون أن لكل عمل سيئ لوثة في النفس تبعد بها عن الكمال، ولكل عمل صالح أثرا فيها يقربها من الله وصفاته، فالتقصير في الصالحات يعد عند هؤلاء من الذنوب التي تهبط بالنفس وتبعدها عن الله تعالى، فهي إذا قصرت فيها تتوب، وإذا شمرت لا تأمن النقائص والعيوب، ويختلف اتهام هؤلاء الأبرار لأنفسهم باختلاف معرفتهم بصفات النفس وما يعرض لها من الآفات في سيرها، ومعرفتهم بكمال الله جل جلاله ومعنى القرب منه واستحقاق رضوانه، ولذلك قال بعض العارفين : حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومن هنا نفهم معنى التوبة التي طلبها إبراهيم وإسماعيل، عليهما وعلى آلهما الصلاة والتسليم، ﴿ إنك أنت التواب الرحيم ﴾ أي إنك أنت وحدك الكثير التوب على عبادك وإن كثر تحولهم عن سبيلك بتوفيقهم للتوبة إليك وقبول توبتهم منهم الرحيم بالتائبين.
ذكر الله تعالى العرب أولا بنعمته عليهم بهذا البيت : أن جعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لبلد البيت واستجابة الله تعالى دعاءه إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من البلاد البعيدة فيتمتع أهله بها، وهي نعم يعرفونها لا ينكرها أحد، وانتقل منها إلى التذكير بالنعم المعنوية فذكر عهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود لينبههم بإضافة البيت إلى نفسه أنه لا يليق أن يعبد فيه غيره، وبتطهيره لأجل الطواف والاعتكاف والصلاة أنه يجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة وعن سائر الأعمال الذميمة كطواف العريان وكانوا يفعلونه.
ثم ذكرهم بعد هذا بأن إبراهيم هو الذي بنى هذا البيت بمساعدة ابنه إسماعيل وذكر لهم من دعائهما هنالك ما يرشدهم إلى العبادة الصحيحة والدين الحق ويجذبهم إلى الاقتداء بذلك السلف الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، فإن قريشا كانت تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل بحق وتدعى أنها على ملة إبراهيم، ولذلك كانت ترى أنها أهدى من الفرس والروم. وسائر العرب تبع لقريش.
﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ﴾ أي من أنفسهم ويتضمن هذا الدعاء لهم بالارتقاء الذي يؤهلهم ويعدهم لظهور النبي منهم. وقد أجاب الله تعالى هذه الدعوة بخاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث أحمد " أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى " الخ، ثم وصف هذا الرسول بقول ﴿ يتلو عليهم آياتك ﴾ الدالة على وحدانيتك وتنزيهك وعظمة شأنك، والدالة على صدق رسلك إلى خلفك. فالمراد بالآيات الآيات الكونية والعقلية، أو المراد آيات الوحي التي تنزلها عليه فتكون دليلا على صدقه، ومشتملة على تفصيل آيات الله في خلقه، كبراهين التوحيد والتنزيه، ودلائل النبوة والبعث، وتلاوتها. ذكرها المرة بعد المرة لترسخ في النفس، وتؤثر في القلب.
﴿ ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴾ قال الأستاذ الإمام : فسروا الكتاب بالقرآن والحكمة بالسنة، والثاني غير مسلم على عمومه، أما الأول فله وجه، وعليه يكون المراد بالآيات فيما سبق دلائل العقائد وبراهينها كما تقدم فيما سبق دون الوحي وإلا كان مكررا. وفيه وجه ثان وهو أن المراد بالكتاب مصدر كتب يقال : كتب كتابا وكتابة. وإنما الدعاء لأمة أمية لا بد في إصلاحها وتهذيبها من تعليمها الكتابة. وقد كانت الأمم المجاورة لها من أهل الكتاب، فلا يتيسر لها اللحاق بها أو سبقها، حتى تكون من الكاتبين مثلها. وأما الحكمة فهي في كل شيء : معرفةُ سره وفائدته. والمراد بها : أسرار الأحكام الدينية والشرائع ومقاصدها. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بسيرته في المسلمين، وما فيها من الفقه في الدين، فإن أرادوا من السنة هذا المعنى في تفسير الحكمة فهو مسلم، وهو الذي كان يفهم من اسمها في الصدر الأول وإن أرادوا بالسنة ما يفسرها به أهل الأصول والمحدثون فلا تصح على إطلاقها فالحكمة مأخوذة من الحكمة – بالتحريك – وهي ما أحاط بحنكى الفرس من اللجام وفيها العذاران، وفي ذلك معنى ما يضبط به الشيء، ومن ذلك إحكام الأمر وإتقانه. وما كل من يروي الأحاديث يحقق له هذا المعنى، ولكن الذي يتفقه في الدين ويفهم أسراره ومقاصده يصح أن يقال : إنه قد أوتي الحكمة التي قال الله فيها ﴿ ٢ : ٢٦٩ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾ ولن يكون أحد داخلا في دعوة إبراهيم حتى يقبل تعليم الحكمة من هذا النبي الكريم.
علم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن تعليم الكتاب والحكمة لا يكفي في إصلاح الأم وإسعادها، بل لا بد أن يقرن التعليم بالتربية على الفضائل والحمل على الأعمال الصالحة بحسن الأسوة والسياسة فقالا ﴿ ويزكيهم ﴾ أي يطهر نفوسهم من الأخلاق الذميمة، وينزع منها تلك العادات الرديئة، ويعودها الأعمال الحسنة التي تطبع في النفوس ملكات الخير، ويبغض إليها الأعمال القبيحة التي تغريها بالشر.
ثم ختما الدعاء بهذا الثناء ﴿ إنك أنت العزيز الحكيم ﴾.
العزيز هو القوي الغالب على أمره فلا ينال بضيم، ولا يغلب على أمر، والحكيم هو الذي يضع الأشياء أحسن موضع، ويتقن العمل ويحسن الصنع. والسر في ذكر هذين الوصفين هنا إزالة ما ربما يعلق بالذهن، أو يسبق إلى الوهم، من أن هذه الأمور التي دُعي بها للعرب منافية لطبائعهم، بعيدة من أحوالهم ومعايشهم، فإنهم جمدوا على بداوتهم، وألفوا غلظتهم وخشونتهم، فهم أعداء العلم والحكمة، خصماء التهذيب والتربية، لا يخضعون لنظام، ولا يؤخذون بالأحكام، ولا استعداد فيهم للمدنية والحضارة، التي هي أثر تعليم الكتاب والحكمة، وتزكية أفراد الأمة، فكان يتوقع أن يقول قائل : من يدر أن يغير طباع هذه الأمة المعروفة بالخشونة والقسوة، فيجعلها من أهل العلم والمدنية والحكمة ؟ لولا أن علم أم المدعو والمسئول هو العزيز الذي لا مرد لأمره، والحكيم الذي لا معقب لحكمه.
الكلام في هذه الآيات متصل بما سبقه من ابتداء قوله ﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ﴾ فقد ذكر أنه تعالى ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن، وأنه جعله إماما للناس وجعل من ذريته أئمة، وأنه عهد إليه ببناء بيته وتطهيره لعبادته ففعل، وكان يومئذ يدعو بما علم منه ما هي ملته، وإن هي إلا توحيد الله وإسلام القلب إليه والإخلاص له بالأعمال، وتعظيم البيت بتطهيره وإقامة المناسك فيه عن بصيرة بأسرارها تجعل المعنى المتصور، كالمحسوس المبصر. ثم قال بعد هذا ﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ أي امتهنها واستخف بها. كأنه تعالى يقول : هذه هي ملة أبيكم إبراهيم الذي تنتسبون إليه وتفخرون به، فكيف ترغبون عنها، وتنتحلون لأنفسكم أولياء لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا لا بالذات ولا بالوساطة.
قال ﴿ ولقد اصطفيناه في الدنيا ﴾ بهذه الملة فجعلناه إماما للناس وجعلنا في ذريته الكتاب والنبوة ﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ لجوار الله بعمله بهذه الملة ودعوته إليها وإرشاده الناس بها. فملة جعلت لإبراهيم هذه المكانة عند الله تعالى في الدنيا والآخرة لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه، وجنى على إدراك عقله فاستحب العمى على الهدى، وإن خسر الآخرة والأولى.
ومن مباحث اللفظ في الآية : قول الجلال في تفسير ( سفه نفسه ) أي جهل أنها مخلوقة لله : قال الأستاذ الإمام : ولم يقل بهذا أحد من المفسرين الذين يعتد بهم والسياق لا يقتضيه، وسفه يستعمل لازما ومتعديا ومعنى المتعدي استخف وامتهن وأخره الجلال وهو الراجح. وفي الكشاف أن ( نفسه ) تمييز لفاعل ( سفه ) ولا يمنع من ذلك الإضافة إلى الضمير لأنه تعريف لفظي، والمعنى أنه لا يرغب عن ذلك إلا من سفهت نفسه أي حمقت. وقدم هذا القول كأنه رجحه على ما قبله ا ه.
وأقول : سفه بالضم – كضخم – سفاهة صار سفيها ؛ وسفه بالكسر – كتعب – سفها هو الذي قيل : إنه يستعمل لازما ومتعديا، وقيل بل هو لازم دائما وأن أصل سفه نفسه بالرفع، فنصب على التمييز كسفه نفسا، فأضيفت النفس إلى ضميره كما تقدم ومثله غبن رأيه. وسيأتي توضيح معناه في تفسير ( سيقول السفهاء ).
وفي هذه الآية انتقال إلى إشراك أهل الكتاب وغيرهم من العالمين مع العرب في التذكير والإرشاد إلى الإسلام ولذلك ذكرت وصية يعقوب، واختلف الأسلوب، فقد كان جاريا على طريقة الإيجاز، فانتقل إلى طريقة الإطناب والإلحاح، لما تقدم الإلماع إليه من مراعاة الأولى في خطاب العرب والثانية في خطاب أهل الكتاب، الذين لا يكتفون بالإشارة والعبارة المختصرة لجمود أذهانهم واعتيادهم على التأويل والتحريف. وفصل بين العاطف والمعطوف بالمفعول ولم يقل : ووصى بها إبراهيم ويعقوب بنيهما، لئلا يتوهم أن الوصية كانت منهما في وقت واحد أو أنها خاصة بأبنائهما معا وهم أولاد يعقوب على نحو ما تقدم في تفسير ﴿ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾.
أقول : هذا إضراب عما قبله وانتقال إلى استفهام إنكاري وجه إلى اليهود عن وصية جدهم يعقوب لآبائهم الأسباط، ويجوز أن يكون معناه أكنتم غائبين أم كنتم شهداء إذ احتضر يعقوب فسأل بنيه عما يعبدون من بعده سؤال تقرير ليشهدوه على أنفسهم بالتوحيد الخالص والسؤال بما أعم من السؤال بمن لأن هذا خاص بمن يعقل وما نزل منزلته بسبب يجيز ذلك، والسؤال بكلمة " ما " يعم العاقل وغيره، وتتعين " ما " في السؤال عن العاقل إذا أريد وصفه نحو ﴿ قال فرعون وما رب العالمين ؟ ﴾ وهذا الاصطلاح للنحاة لا يدل على جواز وصف الله تعالى بلفظ " العاقل " شرعا لأن أسماءه وصفاته تعالى توقيفية ﴿ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل واسحق ﴾ عرفوا الإله بالإضافة إلى آبائهم لأنهم هم الذين انفردوا بعبادة رب العالمين خالق السموات والأرض وحده، ودعوا الأمم إلى ذلك في وقت فشت فيه عبادة آلهة كثيرين من الكواكب والأصنام والحيوانات وغيرها، ولذلك قال سحرة موسى عندما آمنوا ﴿ آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون ﴾ وإسماعيل عم يعقوب ذكر مع آبائه للتغليب أو لتشبيه العم بالأب، كما في حديث " عم الرجل صنو أبيه " رواه الشيخان. والجمع بين الحقيقة والمجاز جائز يكثر في القرآن وفاقا للشافعي وابن جرير الطبري وخلافا لجمهور الأصوليين ﴿ إلها واحدا ﴾ أي نعبده حال كونه إلها واحدا، أو نخص بالعبادة إلها واحدا لا نشرك معه أحدا بدعاء ولا توجه في قضاء حاجة ولا غير ذلك من العبادات ﴿ ونحن له مسلمون ﴾ أي والحال أننا نحن منقادون مذعنون مستسلمون له وحده دون غيره كما يدل عليه تقديم الظرف " له " وقال الأستاذ الإمام في الآية ما معناه :
خلاصة هذه الوصية عقيدة الوحدانية في العبادة وإسلام القلب لله تعالى والإخلاص له. وتكرار لفظ ( الإسلام ) في هذه الآيات يراد به تقرير حقيقة الدين. ذلك أن العرب كانت تدعي أن لها دينا خاصا بها وأنه الحق، وإن اختلفت فيه القبائل والشعوب، ومنهم من كان ينتمي إلى إبراهيم على وثنيتهم، وكذلك اليهود والنصارى كل يدعي دينا خاصا به وأنه الحق، فبينت هذه الآيات أن هذه الدعاوى من التعصب للتقاليد وأن دين الله تعالى واحد في حقيقته، وروحه التوحيد والاستسلام لله تعالى والخضوع والإذعان لهداية الأنبياء. وبهذا كان يوصي النبيون أبناءهم وأممهم. فتبين أن دين الله تعالى واحد في كل أمة على لسان كل نبي، ولذلك قال في آية أخرى ﴿ ٤٣ : ١٣ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ﴾ فالتفرق في الدين ما جاء إلا من الجهل والتعصب للأهواء، والمحافظة على الحظوظ والمنافع المتبادلة بين المرءوسين والرؤساء، فالقرآن يطالب الجميع بالاتفاق في الدين والاجتماع على أصليه : العقلي وهو التوحيد والبراءة من الشرك بأنواعه، والقلبي وهو الإسلام والإخلاص لله في جميع الأعمال.
وعلم من هذا أن لفظ الإسلام والمسلمين في كلام إبراهيم وإسماعيل ويعقوب يراد به معناه الذي تقدم، فمن لم يكن متحققا بهذا المعنى فليس بمسلم أي ليس على دين الله القيم الذي كان عليه جميع أنبياء الله. وأما لفظ الإسلام في عرفنا اليوم فهو لقب يطلق على طوائف من الناس لهم مميزات دينية وعادية تميزهم عن سائر طوائف الناس الذين يلقبون بألقاب دينية أخرى. ولا يشترط في إطلاق هذا اللقب العرفي عند أهله أن يكون المسلم خاضعا مسلما لدين الله مخلصا له أعماله، بل يطلقونه أيضا على من ابتدع فيه ما ليس منه، أو ما ينافيه، ومن فسق عنه واتخذ إلهه هواه. ومعنى الإسلام الذي دعا إليه القرآن تقوم به الحجة على المشركين، ويتعرف به اليهود والنصارى لأنه روح كل دين، وهو الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى اللقب لا معنى لها. قال الأستاذ الإمام بعد تقريره هذا المعنى : وبه يظهر خطأ من خصص الرغبة عن ملة إبراهيم بالميل إلى اليهودية أو النصرانية.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن " أم " تستعمل في الاستفهام إذا كان مبنيا على كلام سابق كما هنا لما فيها من الاشعار بالانتقال ففيها معنى الإضراب.
( الأستاذ الإمام ) جاءت هذه الآية الكريمة بعد الكلام عن وصية إبراهيم لبنيه وإسماعيل وإسحاق ويعقوب لبنيهم استدراكا على ما عساه يقع في أذهان ذراري هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام من أن هذا السلف الذي له عند الله هذه المكانة يشفع لهم فينجون ويسعدون يوم القيامة بمجرد الانتساب إليهم. فبين الله في هذه الآية أن سنته في عباده أن لا يجزى أحد إلا بكسبه وعمله ولا يسأل إلا عن كسبه وعمله. وقد بين في سورة النجم أن هذه القضية من أصول الدين العامة التي جاء بها الأنبياء من قبل ﴿ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى * أن لا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾ الخ. وبين في آيات متعددة في سور متفرقة، أن المرسلين لم يرسلوا إلا مبشرين ومنذرين، فمن آمن بهم وعمل بما يرشدون إليه كان ناجيا، وإن بعد عنهم في النسب، ومن أعرض عن هديهم كان هالكا وإن أدلى إليهم بأقرب سبب ﴿ قال ١١ : ٤٥ يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ﴾ وإذا لم تنتفع بهم ذرياتهم الذين لم يقتدوا بهم فكيف ينتفع بهم أولئك البعداء الذين ليس بينهم وبينهم صلة إلا الأقوال الكاذبة التي يعبر عنها أهل هذا العصر ( بالمحسوبية ) ويقولون في مخاطبة أصحاب القبور عند الاستغاثة بهم " المحسوب كالمنسوب " وما أحسن قول الإمام الغزالي : إذا كان الجائع يشبع إذا أكل والده دونه، والظمآن يروى بشرب والده وإن لم يشرب فالعاصي ينجو بصلاح والده. والآيات التي تؤيد هذه الآية كثيرة جدا فهي أصل من أصول الدين الإلهي لا يفيد معها تأويل المغرورين، ولا غرور الجاهلين.
بين في الآيات السابقة حقيقة ملة إبراهيم في سياق دعوة العرب إلى الإسلام ثم أشرك معهم أهل الكتاب لأنهم أقرب إلى الإيمان بإبراهيم وأجدر بإجلاله واتباعه، وانتقل الكلام بهذه المناسبة على بيان وحدة الدين الإلهي واتفاق النبيين في جوهره، وبيان جهل أهل الكتاب بهذه الوحدة، وقصر نظرهم على ما يمتاز به كل دين من الفروع والجزئيات، أو التقاليد التي أضافوها على التوراة والإنجيل فبعد بها كل فريق من الآخر أشد البعد، وصار الدين الواحد كفرا وإيمانا، كل فريق من أهله يحتكر الإيمان لنفسه ويرمي الآخر بالكفر والإلحاد. وإن كان نبيهم واحدا وكتابهم واحدا.
فقوله تعالى ﴿ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ﴾ بيان لعقيدة الفريقين في التفرق في الدين والضمير في ( وقالوا ) لأهل الكتاب و " أو " للتوزيع أو التنويع، أي إن اليهود يدعون إلى اليهودية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها والنصارى يدعون إلى النصرانية التي هم عليها ويحصرون الهداية فيها – وهذا الأسلوب معهود في اللغة – ولو صدق أي واحد منهما لما كان إبراهيم مهتديا لأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وكيف وهم متفقون على كونه إمام الهدى والمهتدين لذلك قال تعالى ملقنا لنبيه البرهان الأقوى في محاجتهم ﴿ قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾ أي بل نتبع أو اتبعوا ملة إبراهيم الذي لا نزاع في هداه ولا في هديه، فهي الملة الحنيفية القائمة على الجادة بلا انحراف ولا زيغ. العريقة في التوحيد والإخلاص بلا وثنية ولا شرك.
والحنيف في اللغة : المائل. وإنما أطلق على إبراهيم. لأن الناس في عصره كانوا على طريقة واحدة وهي الكفر، فخالفهم كلهم وتنكب طريقتهم ولا يسمى المائل حنيفا إلا إذا كان الميل عن الجادة المعبدة. وفي الأساس : من مال عن كل دين أعوج. ويطلق على المستقيم، وبه فسر الكلمة بعضهم وأورد له شاهدا من اللغة وهو أقرب. ومن التأويلات البعيدة. ما روي من تفسير الحنيف بالحاج ووجه القول به أنه مما حفظ من دين إبراهيم.
الأستاذ الإمام : قال بعض المشغلين بالعربية من الإفرنج إن الحنيفية هي ما كان عليه العرب من الشرك واحتجوا على ذلك بقول بعض النصارى في زمن الجاهلية " إن فعلت هذا أكون حنيفيا " وإنها لفلسفة جاءت من الجهل باللغة وقد ناظرت بعض الإفرنج في هذا فلم يجد ما يحتج به إلا عبارة ذلك النصراني وهو الآن يجمع كل ما نقل عن العرب من هذه المادة لينظر كيف كانوا يستعملونها، ولا دليل في كلمة النصراني العربي على أن الكلمة تدل لغة على الشرك، وإنما مراده بكلمته البراءة من دين العرب مطلقا. ذلك أن بعض العرب كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء وينتسبون إلى إبراهيم ويزعمون أنهم على دينه، وكان الناس يسمونهم الحنفاء أيضا، والسبب في التسمية والدعوى أن سلفهم كانوا على ملة إبراهيم حقيقة ثم طرأت عليهم الوثنية فأخذتهم عن عقيدتهم وأنستهم أحكام ملتهم وأعمالها – نسوا بعضها بالمرة وخرجوا ببعض آخر عن أصله ووصفه كالحج، ونفي الشرك عن إبراهيم في آخر الآية احتراس من وهم الواهمين، وتكذيب لدعوى المدعين.
أقول : لا بدع أن ينسى الأميون ما كانوا عليه فإن أهل الكتاب خرجوا بدينهم عن وضعه فنسوا بعضا وحرفوا بعضا وزادوا فيه ونقصوا منه.
فاليهود أضافوا التلمود إلى ما عندهم من التوراة وسموا مجموع ذلك مع تفاسيره وآراء أحبارهم فيه باليهودية. وأما النصارى فقد ظهر دينهم بشكل لو رآه الحواريون الذين أخذوا الدين عن المسيح مباشرة لما عرفوا أي دين هو. وهؤلاء المسلمون على حفظ كتابهم في الصدور والسطور يعملون باسم الدين أعمالا يظنها الجاهلون بدينهم أعظم أركان الدين، وما هي من الدين وإنما هي بدع المضلين، فالإفرنج يكتبون في رحلاتهم أن رقص المولوية، من أعظم العبادات الإسلامية، وأن ما يكون في جامع القلعة في ليالي المولد والمعراج ونصف شعبان من الرقص والعزف بالطبول والدفوف وغيرها من أهم الشعائر الإسلامية، وسماها بعضهم ( الصلاة الكبرى ) ولولا أن القرآن محفوظ وسنة الرسول وسيرة السلف الصالح مدونتان في الكتب لنسينا الأصل واكتفينا بهذه البدع فإن مئات الألوف التي تحج مشاهد أهل البيت والجيلاني بالعراق والبدوي وأمثاله بمصر كل عام، لا يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويحج البيت منهم إلا أقلهم، ولَهُمْ في عبادتهم الباطلة أخشَعُ منهم في عبادتهم المشروعة، ولكن الله أراد بقاء هذا الدين وحفظه وسيرجع إلى كتابه الراجعون، ويهتدي به المهتدون ولو كره المقلدون، وعند ذلك تنقشع ظلمات هذه البدع التي هم فيها يتخطبون.
وقد توهم بعض العلماء أن هذا الجواب " بل ملة إبراهيم " الخ جاء على طريقة الإقناع وليس حجة حقيقية، ووجهوه بقولهم : إن أهل الكتاب يعاندون الحق ويكابرون في معجزة النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله نبيه بأن يلزمهم بالدلائل الإقناعية التي لا يقدرون على مكابرتها والمراء فيها. والحق أن هذا الجواب حجة حقيقية، وقد أشرنا إلى وجهها الوجيه أول الكلام في تفسير الآية. وقد تجرأ كثير من العلماء على مثل هذا الكلام في كثير من الآيات التي احتج بها القرآن حتى في إثبات الوحدانية والسبب في ذلك : افتتانهم بالطريقة النظرية التي أخذوها عن كتب اليونان، ولقد اهتدى بحجج القرآن الألوف وألوف الألوف وقلما اهتدى بتلك الأدلة النظرية المحضة أحد من الناس وإنما تفيد في دفع شبهاتهم التي يوردونها على العقائد، ولا فائدة فيها سوى المراء والجدل. وقد محيت في عصرنا تلك الشبهات، ورغب الناس عن هاتيك النظريات، وقام بناء العلم على أسس الوقائع والحوادث والمجربات.
وقال الجلال : إن الآية نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران فهم القائلون ما ذكر. والتحقيق أن الآية في بيان طبيعة أهل الملتين كما تقدم، وقول يهود المدينة ونصارى نجران ما ذكر – إن صح – لا يقتضي التخصيص فإنهم ما قالوا إلا ما هو لسان حال ملتهم. وغيرهم يقول مثل قولهم، أو يصدق القائلين باعتقاده وسيرته.
والأسباط أولاد يعقوب والفرق أو الشعوب الإثنى عشر المتشعبة منهم. قال تعالى ﴿ ٧ : ١٥٩ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ﴾ وقد ورد أن أولاد يعقوب كانوا أنبياء ولم يرد أنهم كانوا مرسلين فإن صح هذا كما يفهم من إطلاق الأستاذ الإمام في الدرس فالمراد بالأسباط الإطلاق الأول وإلا كان في الكلام تقدير مضاف أي أنبياء الأسباط، كأنه قال : وسائر أنبياء بني إسرائيل وهو المختار، ولم يصح في نبوة غير يوسف من أبناء يعقوب شيء.
﴿ وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ﴾ قال الأستاذ الإمام وهاهنا نكتة دقيقة في اختلاف التعبير عن الوحي الذي منحه الله الأنبياء إذ عبر بأنزل تارة وبأوتي تارة أخرى، وهي أن التعبير بأنزل ذكر هنا في جانب الأنبياء الذين ليس لهم كتب تؤثر، ولا صحف تنقل، وذلك أن إنزال الوحي على نبي لا يستلزم إعطاءه كتابا يؤثر عنه، وهذا ظاهر إذا كان النبي غير مرسل فإن الوحي إليه يكون خاصا به، ويكون إرشاده للناس أن يعملوا بشرع رسول آخر إن كان بعث فيهم رسول وإلا كان قدوة في الخير ومعدا للنفوس لبعثة نبي مرسل، وأما النبي المرسل فقد يؤمر بالتبليغ الشفاهي ولا يعطى كتابا باقيا وقد يكتب ما يوحى إليه في عصره فيضيع من بعده، فهؤلاء الرسل الكرام الذين عبر عنهم بقوله ﴿ وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ﴾ لا يؤثر عن أحد منهم كتاب مسند صحيح ولا غير صحيح، وإننا نؤمن بأنهم كانوا أنبياء. وأن ما نزل عليهم هو دين الله الحق، وأنه موافق في جوهره وأصوله لما أنزل على من بعدهم.
وما ذكر الله من ملة إبراهيم بالنص هو روح ذلك الوحي كله. وقد جاء في سورة النجم وسورة الأعلى ذكر صحف لإبراهيم. وقال الجلال هنا : إنها عشر. فنؤمن أنه كان له صحف ولا نزيد على ما ورد شيئا، وأما إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط فلم يثبت أن لهم صحفا ولا كتبا، فنؤمن بما أنزل إليهم بالإجمال ونعتقد أنه عين ملة إبراهيم وجاء التعبير عن وحي الذين كان لهم كتب تؤثر بقوله ﴿ وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ﴾ فهو يشير بالإيتاء إلى أن ما أوحي إليهم له وجود يمكن الرجوع إليه والنظر فيه فإن أقوامهم يأثرون عنهم كتبا.
وأقول الآن : إن المراد الإيمان بما أنزل الله تعالى وما أعطاه لأولئك النبيين والمرسلين إجمالا، وأنه كان وحيا من الله فلا نكذب أحدا منهم بما ادعاه ودعا إليه في عصره، بصرف النظر عما طرأ عليه من ضياع بعضه وتحريف بعض. فإن ذلك لا يضرنا، لأن الإيمان التفصيلي والعمل مقصور على ما أنزل إلينا، فقد روى البخاري من حديث أبي هريرة " أن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا ﴿ آمنا بالله ﴾ الآية. وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن معقل بن يسار مرفوعا " آمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وليسعكم القرآن ".
وأما ما ذكر شيخنا من نكتة اختلاف التعبير فيشكل بقوله في أول الآية ﴿ وما أنزل إلينا ﴾ أي معشر المسلمين وهو القرآن وقوله بعد ﴿ وما أوتي النبيون ﴾ ولم يعلم أنه كان لغير داود منهم كتاب منزل. على أن عدم العلم بكتب أنزلت على إبراهيم وإسماعيل وإسحق لا يدل على عدم تلك الكتب. ولعل نكتة اختلاف التعبير أن يشمل ما أوتي موسى وعيسى تلك الآيات التي أيدها بها كما قال ﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ﴾ وقال ﴿ وآتينا عيسى ابن مريم البينات ﴾ ثم قال ﴿ وما أوتي النبيون من ربهم ﴾ ليدل على أن ذلك لم يكن خاصا بموسى وعيسى والله أعلم.
وقال بعد ما ذكر الفريقين ﴿ لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ أي سواء منهم من له كتاب يؤثر ومن ليس له ذلك، نؤمن بالجميع إجمالا ونأخذ التفصيل عن خاتمهم الذي بين لنا أصل ملتهم التي كانوا عليها وزادنا من الحكم والأحكام ما يناسب هذا الزمان وما بعده من الأزمان، والعمدة في الدين على إسلام القلب لله تعالى ﴿ ونحن له مسلمون ﴾ أي مذعنون منقادون كما يقتضي الإيمان الصحيح ولستم كذلك أهل الكتاب وإنما أنتم متبعون لأهوائكم وتقاليدكم لا تحولون عنها.
على أن المساواة في الإيمان بين شخصين بحيث يكون إيمان أحدهما كإيمان الآخر في صفته وقوته وانطباقه على المؤمن به وما يكون في نفس كل منهما من متعلق الإيمان يكاد يكون محالا فكيف يتساوى إيمان أمم وشعوب كثيرة مع الخلاف العظيم في طرق التعليم والتربية والفهم والإدراك. ولو كانت القراءة : فإن آمنوا بما آمنتم به، كما روى عن ابن عباس في الشواذ، لكان الأولى أن يقدر المثل. فكيف نقول وقد ورد لفظ مثل متواترا : إنه زائد ؟.
﴿ وإن تولوا ﴾ أي أعرضوا عما تدعوهم إليه من الرجوع إلى أصل دين الأنبياء ولبابه بإيمان كإيمانكم.
﴿ فإنما هم في شقاق ﴾ أي إن أمرهم محصور في العداوة والمشاقة أي الإيذاء والإيقاع في المشقة أو شق العصا بتحري الخلاف والتعصب لما يفضلهم ويبينهم منكم.
﴿ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ﴾ أي يكفيك إيذاءهم ومكرهم السيئ ويؤيد دعوتك، وينصر أمتك، فهذا الوعد بالكفاية عام للمؤمنين وإن كان الخطاب خاصا. فإن أهل الكتاب وغيرهم ما شاقوا النبي لذاته وما كان لهم حظ في مقاومة شخصه، فالإيذاء كان متوجها إليه من حيث هو نبي يدعو إلى دين غير ما كانوا عليه. وقد أنجز الله وعده للنبي والمؤمنين عند ما كانوا على ذلك الإيمان وكان الناس يقاومونهم لأجله، فلما انحرفوا من بعدهم عنه خرجوا عن الوعد، ولو عادوا لعاد الله عليهم بالكفاية والنصر ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾.
﴿ عابدون ﴾ فلا نتخذ أحبارنا وعلماؤنا أربابا يزيدون في ديننا وينقصون، ويحلون لنا بآرائهم ويحرمون، ويمحون من نفوسنا صبغة الله الموجبة للتوحيد، ويثبتون مكانها صبغة البشر القاضية بالشرك والتنديد.
قال الأستاذ الإمام : الآية تشير إلى أنه لا حاجة في الإسلام إلى تمييز المسلم من غيره بأعمال صناعية كالمعمودية عند النصارى مثلا، وإنما المدار فيه على ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص وحب الخير والاعتدال والقصد في الأمور ﴿ ٣٠ : ٣٠ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾.
هذا ضرب آخر من محاجة أهل الكتاب جار على نسق سابقه مؤتلف معه متصل به غير منقطع ولا نازل في واقعة خاصة للرد على كلمات قالها اليهود كما ذهب إليه ( الجلال ) وغيره، إذ قالوا : إن اليهود قالوا يجب أن يكون جميع الناس تابعين لنا في الدين لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع. نعم لا ننكر صدور هذا القول من اليهود فإنهم كانوا يقولون مثله دائما وإنما نقول إن الآيات متناسقة مع ما قبلها متممة له مزيلة لشبهات كانت فاشية في القوم في كل مكان، لا خاصة برد قول لأحد يهود الحجاز.
الآيات السابقة بينت أن الملة الصحيحة هي ملة إبراهيم وهي لم تكن يهودية ولا نصرانية، وإنما هي صبغة الله التي لا صنع لأحد فيها، بل هي بريئة من اصطلاحات الناس وتقاليد الرؤساء، فهي الجديرة بالإتباع، ولكن التقاليد والأوضاع قد طمستها بعد ما جرى الأنبياء عليها، وحلت تلك التقاليد محلها حتى ذابت هي فيها وخفيت فلم تعد تعرف، ولذلك جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيانها، ودعوة الناس إلى الرجوع إليها، فبين تعالى بتلك المحاجة الحق الذي يجب التعويل عليه، ثم أخذ في هذه الآيات يزيل الموانع ويبطل الشبهات المعترضة في طريق ذلك الحق.
فأمر نبيه بما ترى من الحجة في قوله :﴿ قل أتحاجوننا في الله ﴾ بدعواكم الاختصاص بالقرب منه وزعمكم أنكم أبناء الله وأحباؤه، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، ومن أين جاءكم هذا القرب والاختصاص بالله دوننا ﴿ وهو ربنا وربكم ﴾ ورب العالمين، فنسبة الجميع إليه واحدة : هو الخالق وهم المخلوقون، وهو الرب وهم المربوبون، وإنما يتفاضلون بالأعمال البدنية والنفسية ﴿ ولنا أعمالنا ﴾ التي تختص آثارها بنا إن خيرا فخير وإن شرا فشر ﴿ ولكم أعمالكم ﴾ كذلك، وروح الأعمال كلها الإخلاص فهو وحده الذي يجعلها مقربة لصاحبها من الله تعالى ووسيلة لمرضاته ﴿ ونحن له مخلصون ﴾ من دونكم، فإنكم اتكلتم على أنسابكم وأحسابكم، واغتررتم بما كان من صلاح آبائكم وأجدادكم، واتخذتم لكم وسطاء وشفعاء منهم تعتمدون على جاههم، مع انحرافكم عن صراطهم، وما هو إلا بالتقرب على الله تعالى بإحسان الأعمال، مع الإخلاص المبني على صدق الإيمان، وهو ما ندعوكم إليه الآن، فكيف تزعمون أن الإدلاء إلى ذلك السلف الصالح بالنسب، والتوسل إليهم بالقول هو الذي ينفع عند الله تعالى، وأن الاستقامة على صراطهم المستقيم والتوسل إلى الله تعالى بما كانوا يتوسلون إليه به من صالح الأعمال والإخلاص في القلب لا ينفع ولا يفيد، وما كان سلفكم مرضيا عند الله تعالى إلا به ؟ هل كان إبراهيم مقربا من الله تعالى بأبيه آزر المشرك، أم كان قربه وفضله بإخلاصه وإسلام قلبه إلى ربه ؟ فكما جعل الله النبوة في إبراهيم وجعله إماما للناس في الإسلام والإخلاص جعلها كذلك في محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا صح لكم إنكار نبوة محمد لأنه لم يكن في سلفه العرب أنبياء فأنكروا نبوة إبراهيم، فإن العلة واحدة، فكيف لا يتحد المعلول ؟
وحاصل معنى الآية : إبطال معنى شبهة أهل الكتاب أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنه لا ينجو من كان على غير طريقتهم وإن أحسن في عمله وأخلص في قصده، وأنهم هم الناجون الفائزون وإن أساءوا عملا ونية، لأن أنبياءهم هم الذين ينجونهم ويخلصونهم بجاههم، فالفوز عندهم بعمل سلفهم، لا بصلاح أنفسهم ولا أعمالهم. وهذا الاعتقاد هدم لدين الله الذي بعث به جميع أنبيائه ودرج عليه من اتبع سبيلهم، فإن روح الدين الإلهي وملاكه هو التوحيد والإخلاص المعبر عنه بالإسلام وكل عمل أمر بها الدين فإنما الغرض منه إصلاح القلب والعقل بسلامة الاعتقاد وحسن القصد، فإذا زال هذا المعنى وحفظت جميع الأعمال الصورية فإنها لا تفيد شيئا، بل إنها تضر بدونه، لأنها تشغل الإنسان بما لا يفيد، وتصده عن المفيد. ولا شك أن أهل الكتاب كانوا قد أزهقوا هذا الروح الإلهي من دينهم فسواء كان ما حفظوه من التقاليد والأعمال مأثورا عن أنبيائهم أم غير مأثور، إنهم ليسوا على دين الله، ومن كان على بصيرة منهم عرف أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو إحياء لروح الدين الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين. وتكميل لشرائعه وآدابه بما يصلح لجميع البشر في كل زمان ومكان.
ثم إن من تأمل هذا وتأمل حال المسلمين يظهر له أنهم قد اتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، وسيرجع من يريد الله بهم الخير إلى دين الله تعالى بالرجوع إلى كتابه الذي حرم عليهم تقليد آراء الناس فجازوه بأن حرموا العمل به، كما رجع الألوف وألوف الألوف من أهل الكتاب إلى ذلك في القرون الأولى من ظهور الإسلام وسيرجع غيرهم من سائر البشر إليهم فيعم العالمين ﴿ ولتعلمن نبأه بعد حين ﴾.
هذا ضرب آخر من محاجة أهل الكتاب جار على نسق سابقه مؤتلف معه متصل به غير منقطع ولا نازل في واقعة خاصة للرد على كلمات قالها اليهود كما ذهب إليه ( الجلال ) وغيره، إذ قالوا : إن اليهود قالوا يجب أن يكون جميع الناس تابعين لنا في الدين لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع. نعم لا ننكر صدور هذا القول من اليهود فإنهم كانوا يقولون مثله دائما وإنما نقول إن الآيات متناسقة مع ما قبلها متممة له مزيلة لشبهات كانت فاشية في القوم في كل مكان، لا خاصة برد قول لأحد يهود الحجاز.
الآيات السابقة بينت أن الملة الصحيحة هي ملة إبراهيم وهي لم تكن يهودية ولا نصرانية، وإنما هي صبغة الله التي لا صنع لأحد فيها، بل هي بريئة من اصطلاحات الناس وتقاليد الرؤساء، فهي الجديرة بالإتباع، ولكن التقاليد والأوضاع قد طمستها بعد ما جرى الأنبياء عليها، وحلت تلك التقاليد محلها حتى ذابت هي فيها وخفيت فلم تعد تعرف، ولذلك جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيانها، ودعوة الناس إلى الرجوع إليها، فبين تعالى بتلك المحاجة الحق الذي يجب التعويل عليه، ثم أخذ في هذه الآيات يزيل الموانع ويبطل الشبهات المعترضة في طريق ذلك الحق.
﴿ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ؟ ﴾ قال الأستاذ الإمام : إن " أم " هنا معادلة لما قبلها خلافا للجلال ومن على رأيه القائلين : إنها بمعنى بل – كأنه قال : أتقولون إن هذا الامتياز لكم علينا والاختصاص بالقرب من الله دوننا هو من الله والحال أنه ربنا وربكم الخ ؟. أم تقولون : إن امتياز اليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا عليها ؟ إن كنتم تقولون هذا فإن الله يكذبكم فيه ؛ وأنتم تعلمون أيضا أن اسمي اليهودية والنصرانية حدثا بعد هؤلاء، بل حدث اسم اليهودية بعد موسى واسم النصرانية بعد عيسى كما حدث لليهود تقاليد كثيرة صار مجموعها مميزا لهم. وأما النصارى فجميع تقاليدهم الخاصة بهم المميزة للنصرانية حادثة، فإن عيسى عليه السلام كان عدو التقاليد، ولهذا كان النصارى على كثرة ما أحدثوا أقرب إلى الإسلام، لأنهم لم ينسوا جميعا كيف زلزل روح الله تقاليد اليهود الظاهرة ما كان منها في التوراة وما لم يكن. ولكن الذين ادعوا اتباعه زادوا عليهم من بعده في ابتداع التقاليد والرسوم.
وزعم بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في الرد على اليهود، إذ كانوا يقولون : إن إبراهيم كان يهوديا ؛ وعلى النصارى إذ كانوا يقولون : إنه كان نصرانيا. قال الأستاذ الإمام : وهذا غير صحيح. كلا إن الآية نزلت في إقامة الحجة عليهم بأنهم يعتقدون أن إبراهيم كان على الحق وأن ملته هي الملة الإلهية المرضية عند الله تعالى وإذا كان الأمر كذلك وكانت هذه التقاليد التي تقلدوها غير معروفة على عهد إبراهيم فما بالهم صاروا ينوطون النجاة بها ويزعمون أن ما عداها كفر وضلال ؟ فهو لا يثبت لهم القول بأن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا وإنما يقول إنهم لا يقدرون على القول بذلك لأن البداهة قاضية بكذبهم فيه، ولذلك قال لنبيه ﴿ قل أأنتم أعلم أم الله ﴾ أي إذا كان الله قد ارتضى للناس ملة إبراهيم باعترافكم وتصديق كتبكم وذلك قبل وجود اليهودية والنصرانية فلماذا لا ترضون أنتم تلك الملة لأنفسكم ؟ أأنتم أعلم بالمرضىّ عند الله أم الله أعلم بما يرضيه ومالا يرضيه ؟ لا شك أن الله يعلم وأنتم لا تعلمون وقد صرح ابن جرير الطبري بن قراءة ( أم يقولون ) بالتحتية شاذة وعلى القول بأنها سبعية يكون في الكلام التفات ( وأقول ) قراءة التاء هي لابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وهي للخطاب، وقراءة الياء للباقين فلا عبرة بعدّ ابن جرير إياها شاذة.
﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ؟ ﴾ في هذا الاستفهام وجهان أحدهما أنه متمم لما قبله من إقامة الحجة بملة إبراهيم، يقول إن عندكم شهادة من الله بأن إبراهيم كان على حق وكان مرضيا عند الله تعالى فإذا كتمتم ذلك لأجل الطعن بالإسلام فقد كتمتم شهادة الله و كنتم أظلم الظالمين، وإذا اعترفتم به فإما أن تقولوا إنكم أنتم أعلم من الله بما يرضيه. وإما أن تقوم عليكم الحجة وتحق عليكم الكلمة إن لم تؤمنوا بما تدعون إليه من ملة إبراهيم، وأحد الأمرين ثابت، لا يقبل مراوغة مباهت.
والوجه الثاني – وهو أظهر – أن الشهادة المكتومة هي شهادة الكتاب المبشرة بأن الله يبعث فيهم نبيا من بني إخوتهم وهم العرب أبناء إسماعيل، وكانوا ولا يزالون يكتمونها بالإنكار على غير المطلع على التوراة وبالتحريف على المطلع. فهو يبين هنا – بعد إقامة الحجة بإبراهيم على أن زعمهم حصر الوحي في بني إسرائيل باطل – أن هناك شهادة صريحة بأن الله سيبعث فيهم نبيا من العرب، فكان هذا دليلا ثالثا وراء الدليل العقلي المشار إليه بقوله ﴿ وهو ربنا وربكم ﴾ والدليل الإلزامي المشار إليه بقوله ﴿ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل ﴾ الخ، فكأنه يقول : إن هؤلاء إلا مجادلون في الحق بعد ما تبين، مباهتون للنبي مع العلم بأنه نبي، إذ ما كان لهم أن يشتبهوا في أمره بعد شهادة كتابهم له، فإذا ظلمهم أنفسهم قد انتهى بهم إلى آخر حدود الظلم، وهو كتمان شهادة الله تعالى تعصبا لجنسيتهم الدينية التي ارتبط بها الرؤساء بالمرؤوسين بروابط المنافع الدنيوية من مال وجاه فكيف ينتظر منهم أن يصغوا إلى بيان، أو يخضعوا لبرهان ؟ والاستفهام هنا يتضمن التوبيخ والتقريع، والمؤكدين بالوعيد في قوله ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ وإنما الجزاء على الأعمال.
هذا ضرب آخر من محاجة أهل الكتاب جار على نسق سابقه مؤتلف معه متصل به غير منقطع ولا نازل في واقعة خاصة للرد على كلمات قالها اليهود كما ذهب إليه ( الجلال ) وغيره، إذ قالوا : إن اليهود قالوا يجب أن يكون جميع الناس تابعين لنا في الدين لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع. نعم لا ننكر صدور هذا القول من اليهود فإنهم كانوا يقولون مثله دائما وإنما نقول إن الآيات متناسقة مع ما قبلها متممة له مزيلة لشبهات كانت فاشية في القوم في كل مكان، لا خاصة برد قول لأحد يهود الحجاز.
الآيات السابقة بينت أن الملة الصحيحة هي ملة إبراهيم وهي لم تكن يهودية ولا نصرانية، وإنما هي صبغة الله التي لا صنع لأحد فيها، بل هي بريئة من اصطلاحات الناس وتقاليد الرؤساء، فهي الجديرة بالإتباع، ولكن التقاليد والأوضاع قد طمستها بعد ما جرى الأنبياء عليها، وحلت تلك التقاليد محلها حتى ذابت هي فيها وخفيت فلم تعد تعرف، ولذلك جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيانها، ودعوة الناس إلى الرجوع إليها، فبين تعالى بتلك المحاجة الحق الذي يجب التعويل عليه، ثم أخذ في هذه الآيات يزيل الموانع ويبطل الشبهات المعترضة في طريق ذلك الحق.
ثم ختم المحاجة بتأكيد أمر العمل وعدم فائدة النسب فقال :﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون ﴾ وإنما تسئلون عن أعمالكم وتجازون عليها، فلا ينفعكم ولا يضركم سواها، وهذه قاعدة يثبتها كل دين قويم، وكل عقل سليم، ولكن قاعدة الوثنية القاضية باعتماد الناس في طلب سعادة الآخرة وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين تغلب مع الجهل كل دين وكل عقل، ومنبع الجهل التقليد المانع من النظر في الأدلة العقلية والدينية جميعا ؛ اللهم إلا مكابرة الحس والعقل، وتأويل نصوص الشرع، تطبيقا لهما على ما يقول المقلّدون المتبعون ( بفتح اللام والباء ) وقد أول المؤولون نصوص أديانهم تقريرا لاتباع رؤسائهم والاعتماد على جاههم في الآخرة لذلك جاء القرآن يبالغ في تقرير قاعدة ارتباط السعادة بالعمل والكسب وتبيينها ونفي الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يتأس بهم في العمل الصالح، ولذلك أعاد هذه الآية بنصها في مقام محاجة أهل الكتاب المفتخرين بسلفهم من الأنبياء العظام، المعتمدين على شفاعتهم وجاههم وإن قصروا عن غيرهم في الأعمال. وفائدة الإعادة تأكيد تقرير قاعدة بناء السعادة على العمل دون الآباء والشفعاء، بحيث لا يطمع في تأويل القول طامع، والإشعار بمعنى يعطيه السياق هنا وهو أن أعمال هؤلاء المجادلين المشاغبين من أهل الكتاب مخالفة لأعمال سلفهم من الأنبياء فهم في الحقيقة على غير دينهم.
وقد سبق القول بأن الآية أفادت في وضعها الأول أن إبراهيم وبنيه وحفدته قد مضوا إلى ربهم بسلامة قلوبهم وإخلاصهم في أعمالهم، وانقطعت النسبة بينهم وبين من جاء بعدهم، فتنكب طريقهم وانحرف عن صراطهم، وإن أدلى إليهم بالنسب فكل واحد من السلف والخلف مجزي بعمله لا ينفع أحدا منهم عمل غيره من حيث هو عمل ذلك الغير ولا شخصه بالأولى. وذلك أنها جاءت عقب بيان ملة إبراهيم وإيصاء بعضهم بعضا بها وبيان دروجهم عليها، ثم جاء بعد ذلك الاحتجاج على القوم بمن يعتقدون فيهم الخير والكمال وكونهم لم يكونوا على هذه اليهودية ولا هذه النصرانية اللتين حدثتا بعدهم، فجاءت قاعدة الأعمال في هذا الموضع تبين أن المتخالفين في الأعمال والمقاصد لا يكونون متحدين في الدين ولا متساوين في الجزاء، فأفادت هنا ما لم تقده هناك. وللمسلمين أن يحاسبوا أنفسهم. ويحكموا قاعدة العمل والجزاء بينهم وبين سلفهم، ولا يغتروا بالتسمية إن كانوا يعقلون.
وأزيد على ما تقدم أن انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا إنما يكون بمقتضى سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات، ومن المعلوم شرعا وعقلا : أن الميت ينقطع عمله بخروجه من عالم الأسباب إلى البرزخ من عالم الغيب، وأما الآخرة فلا كسب فيها، وأمرها إلى الله وحده ظاهرا وباطنا، كما قال تعالى ﴿ ٨٢ : ١٩ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ﴾.
كان أنبياء بني إسرائيل يصلون إلى بيت المقدس وكانت صخرة المسجد الأقصى المعروفة هي قبلتهم، وقد صلى النبي والمسلمون إليها زمنا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتشوف لاستقبال الكعبة، ويتمنى لو حول الله القبلة إليها، بل كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة في مكة فيصلي في جهة الجنوب مستقبلا للشمال فلما هاجر منها إلى المدينة تعذر هذا الجمع فتوجه إلى الله تعالى بجعل الكعبة هي القبلة فأمره الله بذلك كما يأتي تفصيله في الآيات الآتية، وقد ابتدأ الكلام في هذه المسألة ببيان ما يقع من اعتراض اليهود وغيرهم على التحويل، وإخبار الله نبيه والمؤمنين به قبل وقوعه، وتلقينهم الحجة البالغة عليه، والحكمة السديدة فيه، ويتضمن هذا بيان سر من أسرار الدين وقاعدة عظيمة من قواعد الإيمان كان أهل الكتاب في غفلة عنها وجهل بها، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في كونها محاجة لأهل الكتاب في أمر الدين لإمالتهم عن التقليد الأعمى فيه، والجمود على ظواهره من غير تفقه فيه ولا نفوذ إلى أسراره وحكمه التي لم تشرع الأحكام إلا لأجلها.
قال عز وجل :
﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ السفه والسفاهة الاضطراب في الرأي والفكر أو الأخلاق يقال : سفه حلمه ورأيه ونفسه، ومنه : زمام سفيه، أي مضطرب لمرح الناقة ومنازعتها إياه. واضطراب الحلم - العقل – والرأي جهل وطيش، واضطراب الأخلاق فساد فيها لعدم رسوخ ملكة الفضيلة. قال البيضاوي في تفسير السفهاء وأحسن ما شاء : هم الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر، يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين. وفائدة تقديم الإخبار توطين النفس وإعداد الجواب اه.
وولاه عن الشيء صرفه عنه والاستفهام الإنكار والتعجب. والمعنى : سيقول سفهاء الأحلام السخفاء : أي شيء جرى لهؤلاء المسلمين فحولهم وصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وهي قبلة النبيين من قبلهم ؟ وهاك تفصيل الجواب : ليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الأبنية. وكذلك يقال في الكعبة والبيت الحرام كما تقدم في تفسير ١٢٧ ﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ﴾ وإنما يجعل الله للناس قبلة لتكون جامعة لهم في عبادتهم إلى آخر ما تقدم شرحه في تفسير ١١٥ ﴿ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ وفي الكلام على الكعبة والحج ولكن سفهاء الأحلام من أهل الجمود والمقلدين لهم يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هي الصخرة المعنية أو البناء المعين، ولذلك كانت الحجة التي لقنها الله لنبيه في الرد على السفهاء الجاهلين لهذه الحكمة ﴿ قل لله المشرق والمغرب ﴾ أي إن الجهات كلها لله تعالى لا فضل لجهة منها بذاتها على جهة، وإن شاء الله أن يخصص منها ما شاء فيجعله قبلة لمن يشاء، وهو الذي ﴿ يهدي من يشاء إلى صراط المستقيم ﴾ وهو صراط الاعتدال في الأفكار والأخلاق والأعمال كما يبين في الآية الآتية. فعلم أن نسبة الجهات كلها إلى الله تعالى واحدة وإن العبرة في التوجيه إليه سبحانه بالقلوب، واتباع وحيه في توجه الوجوه.
كان أنبياء بني إسرائيل يصلون إلى بيت المقدس وكانت صخرة المسجد الأقصى المعروفة هي قبلتهم، وقد صلى النبي والمسلمون إليها زمنا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتشوف لاستقبال الكعبة، ويتمنى لو حول الله القبلة إليها، بل كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة في مكة فيصلي في جهة الجنوب مستقبلا للشمال فلما هاجر منها إلى المدينة تعذر هذا الجمع فتوجه إلى الله تعالى بجعل الكعبة هي القبلة فأمره الله بذلك كما يأتي تفصيله في الآيات الآتية، وقد ابتدأ الكلام في هذه المسألة ببيان ما يقع من اعتراض اليهود وغيرهم على التحويل، وإخبار الله نبيه والمؤمنين به قبل وقوعه، وتلقينهم الحجة البالغة عليه، والحكمة السديدة فيه، ويتضمن هذا بيان سر من أسرار الدين وقاعدة عظيمة من قواعد الإيمان كان أهل الكتاب في غفلة عنها وجهل بها، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في كونها محاجة لأهل الكتاب في أمر الدين لإمالتهم عن التقليد الأعمى فيه، والجمود على ظواهره من غير تفقه فيه ولا نفوذ إلى أسراره وحكمه التي لم تشرع الأحكام إلا لأجلها.
قال تعالى :﴿ وكذلك جعلنكم أمة وسطا ﴾ وهو تصريح بما فهم من قوله ﴿ والله يهدي من يشاء ﴾ الخ أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمة وسطا قالوا إن الوسط هو العدل والخيار وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر أي المتوسط بينهما. قال الأستاذ الإمام بعد إيراد هذا : ولكن يقال لم اختير لفظ الوسط على لفظ الخيار مع إن هذا هو المقصود والأول إنما يدل عليه بالالتزام ؟ والجواب من وجهين أحدهما : أن وجه الاختيار هو التمهيد للتعليل الآتي فإن الشاهد على الشيء لابد أن يكون عارفا به، ومن كان متوسطا بين شيئين فإنه يرى أحدهما من جانب وثانيهما من الجانب الآخر، وأما من كان في أحد الطرفين فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر ولا حال الوسط أيضا، وثانيهما : أن في لفظ الوسط بالسببية فكأنه دليل على نفسه، أي أن المسلمين خيار وعدول لأنهم وسط، وليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرطين، فهم كذلك في العقائد والأخلاق والأعمال.
ذلك أن الناس كانوا قبل ظهور الإسلام على قسمين قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة فلا هم له إلا الحظوظ الجسدية كاليهود والمشركين، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة، وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية، كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات.
وأما الأمة الإسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين حق الروح وحق الجسد، فهي روحانية جسمانية، وإن شئت قلت أنه أعطاها جميع حقوق الإنسانية، فإن الإنسان جسم وروح، حيوان وملك. فكأنه قال جعلناكم أمة وسطا تعرفون الحقين، وتبلغون الكمالين ﴿ لتكونوا شهداء ﴾ بالحق ﴿ على الناس ﴾ الجسمانيين بما فرطوا في جنب الدين، والروحانيين إذا أفرطوا وكانوا من الغالين، تشهدون على المفرطين بالتعطيل القائلين :﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ﴾ ( الجاثية : ٢٤ ) بأنهم أخلدوا إلى البهيمة، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحانية، وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين القائلين : إن هذا الوجود حبس للأرواح وعقوبة لها، فعلينا أن نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات الجسمانية وتعذيب الجسد وهضم حقوق النفس، وحرمانها من جميع ما أعده الله لها في هذه الحياة تشهدون عليهم بأنهم خرجوا عن جادة الاعتدال، وجنوا على أرواحهم بجنايتهم على أجسادهم وقواها الحيوية، تشهدون على هؤلاء وهؤلاء، وتسبقون الأمم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الأمور كلها، ذلك بأن ما هديتم إليه هو الكمال الإنساني الذي ليس بعده كمال، لأن صاحبه يعطي كل ذي حق حقه. يؤدي حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه، وحقوق ذوي القربى وحقوق سائر الناس.
﴿ ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ أي إن الرسول عليه الصلاة والسلام هو المثل الأكمل لمرتبة الوسط، وإنما تكون هذه لأمة وسطا باتباعها له في سيرته وشريعته، وهو القاضي بين الناس فيمن اتبع سنته ومن ابتدع لنفسه تقاليد أخرى أو حذا حذو المبتدعين، فكما تشهد هذه الأمة على الناس بسيرتهم وارتقائهم الجسدي والروحي بأنهم قد ضلوا عن القصد، يشهد لها الرسول بما وافقت فيه سنته وما كان لها من الأسوة الحسنة فيه، بأنها استقامت على صراط الهداية المستقيم، فكأنه قال : إنما يتحقق لكم وصف الوسط إذا حافظتم على العمل بهدي الرسول واستقمتم على سنته، وأما إذا انحرفتم عن هذه الجادة فالرسول بنفسه ودينه وسيرته حجة عليكم بأنكم لستم من أمته التي وصفها الله في كتابه بهذه الآية وبقوله ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ ( آل عمران : ١١٠ ) الخ. بل تخرجون بالابتداع من الوسط وتكونون في أحد الطرفين كما قال الشاعر وقد استشهد به الزمخشري في التفسير الآية :
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت*** بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
" الأستاذ الأمام " : يقال إن هذا خبر عظيم بمنحة جليلة، ومنة بنعمة كبيرة، فلم جيء به معترضا في أطوار الكلام عن القبلة، ولم يجئ ابتداء أو في سياق تعداد الآلاء والنعم ؟ والجواب أن الله تعالى علم أن الفتنة بمسألة القبلة ستكون عظيمة، وأن سيقول أهل الكتاب إن محمدا ليس على بينة من ربه لأنه غير قبلته، ولو كان الله هو الذي أمره بالصلاة إلى بيت المقدس لما نهاه عنه ثانيا وصرفه عن قبلة الأنبياء. ويقول المنافقون إنه صلى أولا إلى بيت المقدس استمالة لأهل الكتاب ودهانا لهم، ثم غلب عليه حب وطنه وتعظيمه فعاد إلى استقبال الكعبة، فهو مضطرب في دينه. وأمثال هذه الشبهات على كونها تدل على عدم الاعتدال في أفكار قائليها تؤثر في نفوس المسلمين. فالمطمئن الراسخ في الإيمان يحزن لشكوك الناس وتشكيكهم في الدين، والضعيف غير المتمكن ربما يضطر ويتنازل. لذلك بدأ الله بإخبار المسلمين بما سيكون بعد تحويل القبلة من إثارة رياح الشبه والتشكيك، ولقنهم الحجة، وبين لهم ما فيها من الحكمة، وبين لهم منزلتهم من سائر الأمم وهي أنهم أمة وسط لا تغلو في شيء، ولا تقف عند الظواهر، وأنهم شهداء على الناس وحجة باعتدالهم في الأمور كلها، وفهمهم لحقائق الدين وأسراره، ومن أهمها أن القبلة التي يتوجه إليها لا شأن لها في ذاتها، وإنما العبرة فيها باجتماع أهل الملة على جهة واحدة وصفة واحدة عند التوجه إلى الله تعالى.
ولما كانت نسبة الجهات إليه سبحانه وتعالى واحدة إذ لا تحصره ولا تحدده جهة كان التزام الجهة المعينة منها لغير مجرد الإتباع لأمر الرسول عن الله تعالى ميلا مع الهوى أو تخصيصا بغير مخصص، وكلاهما مما لا يرضاه لنفسه العاقل المعتدل في أمره. نعم إن له أن يسأل عن حكمة التحول والانتقال لاسيما بعد ما ثبت بالواقع أن الرسول الذي أمر به لم يأمر إلا بما ظهرت فائدته ومنفعته للممتثلين له من إصلاح النفوس وحملها على الخير وتوجيهها إلى البر مما دل عليه أنه مؤيد من الله تعالى. وجملة القول أن إعلام الله رسوله والمؤمنين بما سيكون من الكافرين والمنافقين، وتلقينه إياهم الحجة، وإنزالهم منزلة الشهداء والمحكمين، ثم تبيينه لهم حكمة التأويل، كان مؤيدا ومسددا لهم ونورا يسعى بين أيديهم في ظلمة تلك الفتنة المدلهمة، ولعمري أن هذه هي البلاغة التي لا غاية ورائها إعلام بما سيكون من اضطراب السفهاء في أقوالهم أشير إليه بالاستفهام مجملا، ولم يذكر معه وجه الشبهة حتى لا تسبق إلى النفوس، والغرض إقامة الموانع من تأثير عند ورودها من أربابها واختصار للبرهان ببيان أن المشرق والمغرب كسائر الجهات لله تعالى، أي يخصص منها ما شاء فيجعله قبلة لمن شاء وبيان لمكانة الأمة المحمدية التي أعطيت كل أصل ديني بدليله وحكمته، وكفلت العدل والاعتدال في الأمر كله، أي فلا يليق بها أن تبالي بانتقاد السفهاء المذبذبين بين الإفراط والتفريط.
﴿ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ﴾ أي وما جعلنا القبلة فيما مضى هي الجهة التي كنت عليها إلى اليوم ثم أمرناك بالتحول عنها إلى الكعبة إلا ليتبين لك وللمؤمنين الثابت على إيمانه ممن لا ثبات له، فتعلموا المتبع للرسول من المنقلب على عقبيه، برجوعه إلى الكفر الذي كان عليه، أو إلا ليكون علمنا الغيبي بحقيقة أمرهما ومآلهما علم الشهادة بوقوع متعلقه، وهو الذي يترتب عليه الجزاء. أي أن الله تعالى يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين، وريب المرتابين، وعاقبة المنافقين، ليرتب عليه الجزاء. وإنما يثبت من فقه في الشيء فعرف سره وحكمته، وأما المقلد الآخذ بالظواهر من غير فقه ولا عرفان والمنافق غير المطمئن بالإيمان، فلا يثبتان في مهاب عواصف الشكوك والشبهات وقال مفسرنا الجلال : وما صيرنا القبلة لك الآن الجهة التي كنت عليها أولا وهي الكعبة الخ وهو مبني على قول الأقلين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أولا إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، فيكون النسخ قد حصل مرتين، والأكثرون على أن المراد بالقبلة التي كان عليها بيت المقدس.
قال بعض المحققين إن هذه الجملة من قبيل ﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ﴾ ( الإسراء : ٦٠ ) فالرؤيا لم تكن بنفسها فتنة وإنما افتتن الناس إذ أخبروا بها ولم يفقهوا المراد منها. كذلك القبلة ليس في جعل جهة كذا قبلة فتنة واختبارا للناس، وإنما الفتنة فيما ترتب على ذلك من حيث كونه صرفا عن قبلة إلى غيرها، فالسفهاء والجهال الذين لا يفقهون ينكرون هذا التحويل ويرونه أمرا إدا١، والذين هداهم الله إلى فقه ذلك يرونه أمرا حكيما جدا، ولذلك قال تعالى :﴿ وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ﴾ فمنحهم الاعتدال في الفكر والإدراك وفي الميل والرغبة. قاله الأستاذ الإمام. ثم قال ما مثاله موضحا : قوله تعالى :﴿ لنعلم ﴾ معهود في القران الكريم كثيرا، ومثله ﴿ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ﴾ " الجن : ٢٧ " وقوله ﴿ ليعلم الله من يخافه ﴾ " المائدة : ٩٤ " والعقل والنقل متفقان على أن علمه تعالى قديم لا يتجدد، وللمفسرين في هذه الألفاظ أقوال ذكر الأستاذ الإمام أظهرها فقال ما مثاله : جرت عادة العرب في لغتها أن تنسب إلى الرئيس والكبير ما يحدث بأمره وتدبيره، يقولون فتح الأمير البلد وقاتل الجيش. وكثيرا ما يقولون هذا والأمير ليس واحدا من العاملين، فهو أسلوب معهود إذا أريد إسناد الفعل على الجمهور أسندوه على المقدم فيهم. ولما كان الله تعالى ولي الذين آمنوا وخاطبهم خطاب السيد صح بحسب هذا الأسلوب العربي أن يذكر الفعل بصيغة الجمع التي تشمل المتكلم وغيره وإن كان غيره هو المقصود بالفعل، فمعنى ﴿ إلا لنعلم ﴾ إلا ليعلم عبادي المؤمنون بإعلامي إياهم.
وقد علم المؤمنون في هذه الفتنة من هو الثابت على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن هو المنافق الذي قلبته ريح الشبهة على عقبيه، وكان المنافقون مع المؤمنين بحيث لا يمتاز أحدهم من الآخر لقيامهم جميعا بأداء الأعمال الظاهرة المطلوبة. وهكذا كان سبحانه تعالى يمحص ما في القلوب بما يبتلي به الناس من الفتن ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون ؟ ﴾ ( العنكبوت : ٢ ) ﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾ ( العنكبوت : ٣ ) وعلى هذا الأسلوب جاء ما روي في الحديث القدسي ( يا عبدي مرضت فلم تعدني، وجعت فلم تطعمني، وعطشت فلم تسقني ) ٢ خرجوه على أن المراد مرض عبادي الفقراء الذين هم عيال الله٣ فلم تعدهم الخ. نعم إن الرواية غير صحيحة، ولكن لم يفهم أحد منها أنها على ظاهرها لقطع العقل بأن هذا محال، ولقوله تعالى :﴿ ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعموني ﴾ ( الذاريات : ٥٧ ) وقالت العرب :" إني جائع في بطن غيري وعريان في ظهر غيري " : ويدخل في هذا الأسلوب أيضا مثل قوله تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ﴾ ( البقرة : ١٣٤ ) أي يعطي عباده المحتاجين، والله يكافئه عنهم إذا كانوا عاجزين.
وثم وجه آخر في تفسير ﴿ لنعلم ﴾ وهو أن المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع. ذلك أن الل
٢ أخرجه أحمد في المسند ٢/٤٠٤، بلفظ: (مرضت فلم يعدني ابن ادم)
.
٣ أخد الأستاذ هذا المعنى من الحديث النبوي: (الناس كلهم عيال). أخرجه مسلم في الحديث ١٢، ومن حديث: (أما العيال فإلى الله ورسوله) أخرجه أحمد في المسند ٢/٣٠٧.
.
قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتشوف لتحويل القبلة من بيت المقدس ويرجوه بل قال ( الجلال ) إنه كان ينتظره، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم والتوجه إليها أدعى إلى إيمان العرب أي وعلى العرب المعول في ظهور هذا الدين العام، لأنهم كانوا أكمل استعدادا له من جميع الأنام.
قال ( الأستاذ الإمام ) : ولا بعد في تشوفه على قبلة إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته، وتجديد دعوته، ولا يعد هذا من الرغبة عن أمر الله تعالى إلى هوى نفسه. كلا إن هوى الأنبياء لا يعدو أمر الله تعالى وموافقة رضوانه. ولو كان لأحد منهم هوى ورغبة في أمر الله تعالى به ورضيه، بل المقام أدق، والسر أخفى، إن روح النبي منطوية على الدين في جملته من قبل أن ينزل عليه الوحي بتفصيل مسائله، فهي تشعر بصفائها وإشراقها بحاجة الأمة التي بعث فيها شعورا إجماليا كليا لا يكاد يتجلى في جزئيات المسائل وآحاد الأحكام إلا عند شدة الحاجة إليها، والاستعداد لتشريعها، عند ذلك يتوجه قلب النبي إلى ربه طالبا بلسان استعداده بيان ما يشعر به مجملا، وإيضاح ما يلوح له مبهما، فينزل الروح الأمين على قلبه، ويخطبه بلسان قومه عن ربه. وهكذا الوحي إمداد، في موطن استعداد، لا كسب فيه للعباد. وإذا كان حكم شرع لسبب مؤقت، وزمن في علم الله معين، فإن روح النبي تشعر بذلك في الجملة. فإذا تم الميقات، وأزف وقت الرقي إلى ما هو آت، وجدت من الشعور بالحاجة إلى النسخ ما يوجهها إلى الشارع العليم، والديان الحكيم، كما كان يتقلب وجه نبينا في السماء تشوفا إلى تحويل القبلة فذلك قوله تعالى :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ أي أننا نرى تقلب وجهك أيها الرسول وتردده المرة بعد المرة في السماء، مصدر الوحي وقبلة الدعاء، انتظارا لما ترجوه من نزول الأمر بتحويل القبلة.
فسر بعضهم تقلب الوجه بالدعاء، وحقيقة الدعاء هي شعور القلب بالحاجة إلى عناية الله تعالى فيما يطلب، وصدق التوجيه إليه فيما يرغب، ولا يتوقف على تحريك اللسان بالألفاظ، فإن الله ينظر إلى القلوب وما أسرت فإن وافقتها الألسنة فهي تبع لها، وإلا كان الدعاء لغوا يبغضه الله تعالى، فالدعاء الديني لا يتحقق إلا بإحساس الداعي بالحاجة إلى عناية الله تعالى، وعن هذا الإحساس يعبر اللسان بالضراعة والابتهال، فهذا التفسير ليس بأجنبي من سابقه. فتقلب الوجه في السماء عبارة عن التوجه إلى الله تعالى انتظارا لما كانت تشعر به روح النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه من نزول الوحي بتحويل القبلة. ولا تدل الآية على أنه كان يدعو بلسانه طالبا هذا التحويل ولا تنفي ذلك.
وقال بعض المحققين : من كمال أدبه صلى الله عليه وسلم أنه انتظر ولم يسأل. وهذا التوجه هو الذي يحبه الله تعالى ويهدي قلب صاحبه إلى ما يرجوه ويطلبه لذلك قال عز وجل :﴿ فلنولينك قبلة ترضاها ﴾ أي فلنجعلنك متوليا قبلة تحبها وترضاها، وقرن الوعد بالأمر فقال ﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ تولية الوجه المكان أو الشيء هي جعله قبالته وأمامه، والتوالي عند جعله وراءه. والشطر في الأصل القسم المنفصل من الشيء تقول جعله شطرين ومنه شطر البيت من الشعر وهو المصرع منه، وكذا المتصل كشطري الناقة وأشطرها وهي أخلافها : شطران أماميان وشطران خلفيان. ويطلق على النحو والجهة وهو المراد هنا، فالواجب استقبال جهة الكعبة في حال البعد وعدم رؤيتها، ولا يجب استقبال عينها إلا على من يراها بعينه، أو يلمسها بيده أو بدنه. فإن صح إطلاق الشطر على عين الشيء في اللغة فلا يصح أن يراد هنا لما فيه من الحرج الشديد لاسيما على الأمة الأمية.
ثم أمر بذلك المؤمنين عامة فقال ﴿ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ أي وفي أي مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم في صلاتكم، وهذا يقتضي أن يصلي المسلمون في بقاع الأرض إلى جميع الجهات لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ويقتضي أن يعرفوا موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا ولذلك وضعوا علم سمت القبلة وتقويم البلدان ( الجغرافية الفلكية والأرضية ).
وقد عهد من أسلوب القرآن أن يكون الأمر يؤمر به النبي ولا يذكر أنه خاص به أمرا له وللمؤمنين به، فإذا أريد التخصيص جيء بما يدل عليه كقوله تعالى :﴿ ومن الليل فتجهد به نافلة لك ﴾ ( الإسراء : ٧٩ ) وقوله :﴿ خالصة لك من دون المؤمنين ﴾ ( الأحزاب : ٥٠ ). وإنما أمر الله المؤمنين في هذه الآية بما أمر به النبي فيها نصا صريحا للتأكيد الذي اقتضته الحال في حادثة القبلة، فإنها كانت حادثة كبيرة استتبعت فتنة عظيمة، فأراد الله أن يعلم المؤمنين بعنايته بها ويقررها في أنفسهم، فأكد الأمر بها وشرفهم بالخطاب مع خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام لتشتد قلوبهم وتطمئن نفوسهم، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون والكافرون بالحزم والثبات على الإتباع ولئلا يتوهم من سابق الكلام أنه خاص به عليه الصلاة والسلام.
بعد هذا عاد إلى بيان حال السفهاء مثيري الفتنة في مسألة تحويل القبلة فقال ﴿ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ﴾ أي أن تولي المسجد الحرام هو الحق المنزل من الله على نبيه. وجمهور المفسرين على أن أكثر أولئك الفاتنين كانوا من أهل الكتاب المقيمين في الحجاز، ولولا ذلك لم تكن الفتنة عظيمة لأن كلام المشركين في مسائل الوحي والتشريع قلما يلتفت إليه. وأما أهل الكتاب فقد كانوا معروفين بين العرب بالعلم، ومن كان كذلك فإن عامة الناس تتقبل كلامه ولو نطق بالمحال، لأن الثقة بمظهره، تصد عن تمحيص خبره، فهو في حاله الظاهرة شبهة إذا أنكر، وحجة إذا اعترف، ولأن الجماهير من الناس قد اعتادوا تقليد مثله من غير بحث ولا دليل.
وقد جرى أصحاب المظاهر العلمية والدينية على الانتفاع بغرور الناس بهم، فصار الغرض لهم من أقوالهم التأثير في نفوس الناس، فهم يقولون ما لا يعتقدون لأجل ذلك، ويسندون ما يقولون إلى كتبهم كذبا صريحا أو تأويلا بعيدا، كما كان أحبار اليهود يطعنون في النبي عليه الصلاة والسلام وما جاء به، ويذكرون للناس أقوالهم على أنها كتبهم وما هي من كتبهم، إن يريدون إلا خداعا، وقد كذب الله هؤلاء الخادعين، وبين أنهم يقولون غير ما يعتقدون، كأنه يقول : إن هؤلاء قد قام عندهم الدليل على ما سبقت به بشارة أنبيائهم من صحة نبوة الرسول ويعلمون أن أمر القبلة كغيرها من أمور الدين ما جاء به الوحي عن الله تعالى وأنه الحق لا محيص عنه، لا مكان معين بذاته لذاته، ﴿ وما الله بغفل عما تعلمون ﴾ فهو المطلع على الظواهر والضمائر، الحسيب على ما في السرائر، الرقيب على الأعمال، فيخبر نبيه بما شاء أن يخبره وإليه المرجع والمصير وعليه الحساب والجزاء.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ﴿ تعلمون ﴾ بالتاء للخطاب.
سبق القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على هداية أهل الكتاب راجيا بإيمانهم ما لا يرجوه من إيمان المشركين، فبمقدار حرصه ورجائه كان يحزنه عروض الشبه لهم في الدين، ويتمنى لو أعطي من الآيات والدليل ما يمحو كل شبهة لهم، فلما كانت فتنة تحويل القبلة بمخادعتهم الناس أخبره الله تعالى بأنهم غير مشتبهين في الحق فتزال شبهتهم، وإنما هم قوم معاندون جاحدون على علم، ثم أعلمه بأن الآيات لا تؤثر في المعاند ولا ترجع الجاحد عن غيه.
وقد أجمع المسلمين على فرضية استقبال القبلة في الصلاة ولكن اختلفوا هل هي شرط لصحتها أم لا. وفي بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه إلى غير القبلة بالاجتهاد ثم ظهر لهم خطؤهم ولم يعيدوا. وإنما يدل هذا إن صح على أن خطأ الاجتهاد فيها مغفور. والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشرة شهرا وأن النسخ بنزول هذه الآيات كان في رجب من السنة الثانية. وحديث البراء في صحيح البخاري وغيره أنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشرة أو سبعة عشرة شهرا بالشك١. ورواية ستة عشرة عند مسلم وغيره بدون شك، فهي الصواب.
.
﴿ وما بعضهم بتابع قبلة بعض ﴾ لأن كلا منهم قد جمد بالتقليد على ما هو عليه، والمقلد لا ينظر في آية ولا دليل، ولا في فائدة ما هو فيه والمقارنة بينه وبين غيره، فهو أعمى لا يبصر، أصم لا يسمع، أغلف القلب لا يعقل ﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم إنك لمن الظالمين ﴾ أي ولئن فرض أن تتبع ما يهوونه من الصلاة إلى قبلتهم أو غير ذلك اجتهادا منك تقصد به استمالتهم إلى دينك، من بعد ما جاءك الحق اليقين بالنص المانع من الاجتهاد، والعلم الذي لا مجال معه للظن إنك إذا تفعل هذا فرضا ( وما أنت بفاعله ) تكون من جماعة الظالمين ( وحاشاك ). والكلام من باب " إياك أعني واسمعي يا جارة "، وبيانه أنا قد أقمنا لك مسالة القبلة على قاعدة العلم الذي عرفت به أن نسبة الجهات إلى الله تعالى واحدة، وأن جمود أهل الكتاب على ما هم فيه إنما جاءهم من التقليد وحرمان أنفسهم من النظر، وأن طعنهم فيك وفيما جئت به من أمر كتبهم يأتي من مولد إسماعيل فبعد هذا العلم كله لا ينبغي لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في أهواء القوم استمالة لهم، إذا لا محل لهذه الاستمالة، والحق قوي بذاته، وغني بمن ثبت عليه، ومن عدل عنه مجاراة لأهل الأهواء لما يرجو من فائدتهم أو اتقاء مضرتهم فهو ظالم لنفسه، وظالم لمن يسلك بهم هذه السبيل الجائر.
الأستاذ الإمام : هذا الخطاب بهذا الوعيد لأعلى الناس مقاما عند الله تعالى هو أشد وعيد لغيره ممن يتبع الهوى ويحاول استرضاء الناس بمجاراتهم على ما هم عليه من الباطل، فإنه أفرده بالخطاب مع أن المراد به أمته، إذ يستحيل أن يتبع هو أهواءهم أو أن يجاريهم على شيء نهاه الله تعالى عنه، ليتنبه الغافل ويعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح هو من الظلم العظيم الذي يقطع طريق الحق، ويردي الناس في مهاوي الباطل، كأنه يقول إن هذا ذنب عظيم لا يتسامح فيه مع أحد حتى لو فرض وقوعه مع أكرم الناس على الله تعالى لسجل عليه الظلم، وجعله من أهله الذين صار وصفا لازما ﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾ فكيف حال من ليس له ما يقارب مكانته عند ربه عز وجل ؟
نقرأ هذا التشديد والوعيد، ونسمعه من القارئين، ولا نزدجر عن اتباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالاتهم، حتى أنك ترى الذين يشكون من هذه البدع والأهواء ويعترفون ببعدها عن الدين يجارون أهلها عليها، ويمازجونهم فيها، وإذا قيل لهم في ذلك، قالوا : ماذا نعمل ؟ ما في اليد حيلة. العامة عمى. آخر زمان. وأمثال هذه الكلمات هي جيوش الباطل تؤيده وتمكنه في الأرض، حتى يحل بأهله البلاء ويكونوا من الهالكين.
وأعجب من هذا الذي ذكره الإمام أنك ترى هؤلاء المعترفين بهذه البدع والأهواء ينكرون على منكرها، ويسفهون رأيه ويعدونه عابثا أو مجنونا، إذ يحاول ما لا فائدة فيه عندهم، فهم يعرفون المنكر وينكرون المعروف، ويدعون مع ذلك أنهم على شيء من العلم والدين. وأعجب من هذا الأعجب أن منهم من يرى أن إزالة هذه المنكرات والبدع، ومقاومة هذه الأهواء والفتن، جناية على الدين، ويحتج على هذا بأن العامة تحسبها من الدين، فإذا أنكرها العلماء عليهم تزول ثقتهم بالدين كله لا بها خاصة ! ! وبأنها لا تخلو من خير يقارنها كالذكر الذي يكون في المواسم والاحتفالات التي تسمى بالموالد وكلها بدع ومنكرات، حتى أن الذكر الذي يكون فيها ليس من المعروف في الشرع ! ! والسبب الصحيح في هذا كله هو محاولة إرضاء الناس بمجاراتهم على أهوائهم وتأويلها لهم، ولولا ذلك لما سكت العالمون بكونها بدعا ومنكرات عليها، أنهم إنما سكتوا بالثمن ﴿ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ﴾ ( التوبة : ٩ ) وهم مع ذلك يظهرون التعجب من جحود أهل الكتاب للنبي والقرآن، وما كانوا أشد منهم جحودا، ولا أقوى جمودا.
هذا إيماء إلى اتباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه. ولو شرح شارح اتباعهم لأهواء السلاطين والأمراء والوجهاء والأغنياء، وكيف يفتنون ويؤلفون الكتب لهم، ويخدعون الأحكام والحيل الشرعية لأجلهم، وكيف حرموا على الأمة العمل بالكتاب والسنة وألزموها كتبهم لظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم، فسلط الله عليهم من لم يكن له عليهم سبيل، ولبان له وجه التشديد في الآية بتوجيه الوعيد فيها إلى النبي المعصوم المشهود له بالخلق العظيم، فلا يكبرن عليك أن تحكم على من يسمون أنفسهم أو يسميهم الحكام كبار العلماء بأنهم من الظالمين، إذا اتبعوا أهواء العامة أو شهوات الأمراء والسلاطين.
﴿ وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ﴾ أنه الحق الذي لا مرية فيه، فماذا يرجى منهم بعد هذا ؟ وذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في ( يعرفونه ) لما ذكر من أمر القبلة، واستبعدوا عوده إلى الرسول مع تقدم ذكره في الآيات، ومع ما يعهد من الاكتفاء بالقرائن في مثل هذا التعبير. وقد أسند هذا الكتمان إلى فريق منهم إذ لم يكونوا كلهم كذلك، فإن منهم من اعترف بالحق وآمن واهتدى به، ومنهم من كان يجحده عن جهل ولو علم به لجاز أن يقبله، وهذا من دقة حكم القرآن على الأمم بالعدل.
احتج تعالى على أهل الكتاب بقوله :﴿ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق ﴾ ( البقرة ١٤٤ ) وقوله :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ﴾ أي وإذا كان الأمر كذلك فكل ما يأتي به عن الله حق فما بالهم يشاغبون في مسألة القبلة من الأحكام الفرعية خاصة ؟ فالكلام من قبيل إقامة الدليل بعد إيراد الدعوى وليس اعتراضيا كما توهم بعضهم، ثم جاء بحجة أخرى على أهل الكتاب وغيرهم ترغم أنوف المعارضين، وختم بعدها الأمر بتولية الوجوه نحو المسجد الحرام وتأكيده فقال :﴿ ولكل وجهة هو موليها ﴾ وقرأ ابن عامر ( مولاها ) أي لكل أمة من الأمم وجهة توليها في صلاتها فلم تكن جهة من الجهات قبلة في كل ملة بحيث تعد ركنا ثابتا في الدين المطلق كتوحد الله تعالى والإيمان بالبعث والجزاء. فإبراهيم وإسماعيل كان يوليان الكعبة، وكان بنو إسرائيل يستقبلون صخرة بيت المقدس، وترك النصارى ذلك إلى استقبال المشرق، وكان الأنبياء المتقدمون يستقبلون جهات أخرى، فإذا كان الأمر كذلك ولم تكن جهة معينة ركنا ثابتا في الأديان، فأي شبهة من العقل أو من تقاليد الملل على فتنة المشاغبين في أمر القبلة ؟ وأي وجه لما أظهروه من الشبهة والحيرة، وزجوا أنفسهم فيه من الغمة، حتى جعلوه مسوغا للطعن في النبوة والتشريع ؟ وسيأتي إيضاح لهذه الحجة في تفسير قوله تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ ( البقرة : ١٧٧ ) الخ.
وإذا لم تكن مسألة القبلة المعينة من أصول الدين ولا من مخه وجوهره الذي لا يتغير، بل كانت ولا تزال من الفروع التي تختلف باختلاف حال الأمم فالواجب فيها الإتباع المحض، والتسليم لأمر الوحي، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس كما هو الشأن في أمثالها من الفروع المأخوذة بالتسليم كعدد الركعات وكون الركوع مرة والسجود مرتين في كل ركعة فكيف وقد ظهرت ؟ ﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ أي ابتدروا كل نوع من أنواع الخير بالعمل وليحرص كل منكم على سبق غيره إليه باتباع الإمام المرشد لا باتباع الهوى. وهذا الأمر عام موجه إلى أمة الدعوة لا خاص بالمؤمنين المستجيبين لله والرسول.
﴿ أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا ﴾ ذكر الجزاء يوم البعث بعد الأمر باستباق الخيرات ليفيد أن الجزاء إنما يكون على فعل الخيرات أو تركها، لا على الكون في بلد كذا أوجهة كذا، أي ففي أي جهة وأي مكان تقيمون فالله تعالى يأتي بكم ويجمعكم ليوم الحساب، إذ البلاد والجهات لا شأن لها في أمر الدين لذاتها وإنما الشأن لعمل البر واستباق الخيرات.
﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ فلا يعجزه الإتيان بالناس مهما بعدت بينهم المسافات، وتناءت بهم الديار والجهات، فالتصريح بالقدرة تذكير بالدليل على الدعوى، والأمر بالخيرات هنا بعد بيان اختلاف الملل في القبلة إجمال يفصله ذكر أنواع البر في آية ﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم ﴾ ( البقرة : ١٧٧ ) المشار إليها آنفا وستأتي، كأنه يقول للفاتنين والمفتونين في مسألة القبلة إن مخ الدين وجوهره هو في المسارعة إلى الخيرات فهل رأيتم محمدا وأتباعه قصروا عن غيرهم في ذلك أم هم السابقون إلى كل مكرمة، المسارعون إلى كل مبرة، المتصفون بكل فضيلة ؟ ففي الكلام مع بيان روح الدين ومقصده تعريض بأهل الكتاب الذين تركوا فضائل الدين وقصروا في عمل الخير والبر، واكتفوا من علم الدين بالجدال والمراء، واستنباط الشبه للطعن في العاملين، إذا لم يكونوا من المجادلين المشاغبين، ثم ترك المسلمون فضائل سلفهم، واتبعوا سننهم في بدعهم وجدالهم، حتى صاروا حجة على دينهم.
قال الأستاذ الإمام أعاد الأمر في صورة أخرى ليبين أنه شريعة عامة في كل زمان ومكان لا يختص ببلاد دون أخرى ولا بحضر دون سفر. وقد كان الأمر بالتحويل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فأعلمه بصيغة الأمر أنه ليس خاصا بتلك الصلاة ولا بذلك المكان بل عليه أن يفعل ذلك من حيث خرج وأين توجه. ومن مزايا هذه القبلة أن أصحابها يصلون إلى جميع الجهات بتوليهم إياها من أقطار الأرض المختلفة وقد وثق الأمر وأكده بقوله :﴿ وإنه للحق من ربك ﴾ أي وإن توليك إياه لهو الحق المحكم بوحي ربك فلا ينسخ ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ أي إنكم أيها المخاطبون باتباع النبي في كل ما يجيء به من أمر الدين تحت نظر الحق دائما فهو لا يغفل عن أعمالكم ﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾ ( النور : ٦٢ ). وفي الكلام التفات عن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطاب جميع المكلفين، بما فيه من التعريض والتهديد للمنافقين.
وقرأ أبو عمرو ( يعملون ) بالياء وهو يعود إلى أولئك المجادلين في القبلة. يقول لنبيه لا يحزنك أمرهم، فإن الله تعالى هو الذي يتولى جزاءهم، وما هو بغافل عن فسادهم وفتنتهم.
ووجه انتفاء حجتهم على الطعن في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة هو أن أهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم أن النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يكون على قبلته وهي الكعبة. فجعل بيت المقدس قبلة دائمة له حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به، فلما كان التحويل عرفوا أن الحق من ربهم، وأن المشركين كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم جاء لإحياء ملته لا ينبغي له أن يستقبل غير بيت ربه الذي بناه وكان يصلي هو وإسماعيل إليه، فدحضت حجة الفريقين وكبت المنافقون من ورائهم ﴿ إلا الذين ظلموا منهم ﴾ أي لكن الذين ظلموا منهم يظلون يلغطون بالاحتجاج جهلا أو عنادا للإضلال كقول اليهود رجع إلى قبلة قومه لإرضائهم وسيرجع إلى دينهم. وقول المشركين رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا وقول المنافقين أنه مضطرب متردد لا يثبت على قبلة. وأمثال هذه الآراء، التي يزينها الهوى والأعداء، فهم لا يهتدون بكتاب ولا يعتبرون ببرهان، ولا ينظرون إلى حكم الأمور وأسرارها، بل يجادلون في الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير، وهم الذين أثاروا الفتنة وحركوا رياح الشبه في مسألة القبلة. ولا قيمة لما يقول هؤلاء الظالمون فإنهم هم السفهاء كما وصفوا في الآية الأولى :﴿ فلا تخشوهم ﴾ إذا لا مرجع لكلامهم من الحق، ولا تمكن له في النفس، لأنه لا يستند إلى برهان عقلي ولا إلى هدى سماوي :﴿ واخشوني ﴾ أنا فلا تعصوني بمخالفة ما جاءكم به رسولي عني فإنني القدير على جزائكم بما وعدتكم وأوعدتكم وقد وعدت الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات بأن أمكن لهم دينهم الذي ارتضيت لهم، وأبدلتهم من بعد خوفهم أمنا، وإنني لا أخلف الميعاد.
والآية ترشدنا إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه وأن المبطل لا ينبغي أن يخشى، فإن الحق يعلو ولا يعلى، وما آفة الحق إلا ترك أهله له، وخوفهم من أهل الباطل فيه. وذكر الأستاذ الإمام هنا من له شبهة حق كصاحب النية السليمة يشبه عليه الأمر فيترك الحق لأنه عمي عليه، ولو ظهر له لأخذ به، وهو أيضا لا يخشى جانبه خلافا لما فهم بعض الطلاب من كلام الأستاذ، وإنما استثناه من مشاركة الظالمين في عدم المبالاة به، فأولئك لا يخشون ولا يبالون بهم، وهذا لا يخشى على الحق ولكنه يبالي به، ويعتني بأمره، بتوضيح السبيل، وتفصيل الدليل، لما يرجى من قرب رجوعه إليه إذا عرفه.
وقوله :﴿ إلا الذين ظلموا ﴾ يعم اليهود ومشركي العرب والمنافقين خلافا لمن قالوا إنهم المشركون خاصة، مع أنهم فسروا السفهاء بما يعم الفريقين أو الثلاثة، وما هؤلاء الذين ظلموا إلا أولئك السفهاء الذين اعترضوا.
ثم ذكر العلة أو الحكمة الثانية فقال :﴿ ولأتم نعمتي عليكم ﴾ باستقلال قبلتكم في بيت ربكم الذي بناه جدكم، وجعل الأمم فيها تبعا لكم. وبيانه أن هذا النبي عربي من ولد إبراهيم وبلسان العرب نزل عليه الكتاب وهم قومه الذين بعث فيهم أولا وظهرت دعوته فيهم وامتدت منهم وبهم إلى سائر الأمم، وكانوا إذا آمنوا يحبون أن تكون وجهتهم في عبادتهم بيتهم الحرام، وأن يحيوا سنة إبراهيم بتطهيره من عبادة الأصنام، لأنه معبدهم، وأشرف أثر عندهم، ينسب إلى أبيهم إبراهيم الذي بناه ورفع قواعده لعبادة الله تعالى، وهو شرفهم ومجدهم، وموطن عزهم وفخرهم، فأتم الله عليهم النعمة بإعطائهم ما يحبون، وتوجيه جميع شعوب الإسلام إلى بلادهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما لا يحصى من النعم. نعم إن كل أمر من الله تعالى فامتثاله نعمة. ولكنه إذا كان فيه حكمة ظاهرة وشرف الأمة يتعلق بتاريخها الماضي، وبمجدها الآتي، وكان أثره حميدا نافعا فيها، تكون النعمة به أتم والمنة أكمل، ولذلك عبر بالإتمام.
وذكر الأستاذ الإمام من الحكمة في جعل القبلة في أول الأمر بيت المقدس أن الكعبة كانت في أول الإسلام مشغولة بالأصنام والأوثان، وكان سلطان أهل الشرك متمكنا فيها والأمل في انكشافه عنها بعيدا فصرفه الله أولا عن استقبال بيت مدنس بعبادة الشرك وقد كان الله أمر إبراهيم بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود إلى بيت المقدس قبلة اليهود الذين هم أقرب من المشركين إلى ما جاء به من التوحيد والتنزيه. ولما قرب زمن تطهير البيت الحرام من الأصنام والأوثان وعبادتها وإزالة سلطة الوثنيين عنه، جعله الله تعالى قبلة للموحدين ليوجه النفوس إليه فيكون ذلك مقدمة لتطهيره وإتمام النعمة بالاستيلاء عليه، والسير فيه على ملة إبراهيم من التوحيد والعبادة الصحيحة لله تعالى وحده.
أقول : ويؤيد ما قرره الأستاذ الإمام في تفسير الإتمام وكون تحويل القبلة مقدمة له تعالى بعد ذكر فتح مكة في سورة الفتح :﴿ ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ﴾ ( الفتح : ٢ ) فكان في الآية بشارة بفتح مكة ونصر الله التوحيد على الشرك وما يتلو ذلك من نشر الإسلام، وانتشار نوره في الأنام، ولذلك قال في سورة الفتح بعد ما ذكر :﴿ وينصرك الله نصرا عزيزا ﴾ ( الفتح : ٣ ).
ثم ذكر سبحانه وتعالى الحكمة الثالثة لتحويل القبلة فقال :﴿ ولعلكم تهتدون ﴾ أي وليعدكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق والرسوخ فيه، فإن المعارضات والمحاجات تظهر ضعف الباطل وزهوقه، وتبين قوة الحق وثبوته فالحجة تتبخر اتضاحا، والشبهة تتضاءل افتضاحا، وقد خلت سنة الكون بأن الفتن تنير الطريق لأهل الحق، وترخي سدول ظلمته على أهل الباطل، وتمحص المؤمنين، وتمحق الكافرين.
كل إنسان يرى نفسه على الحق في الجملة ولكن التمكن في المعرفة والثبات على الحق لا يعرف في الغالب إلا إذا وجد للمحق خصم ينازعه ويعارضه في الحق، هنالك تتوجه قواه إلى تأييد حقه وتمكينه، ويحس بحاجته إلى المناضلة دونه والثبات عليه، وكثيرا ما يظهر الباطل الحق بعد خفائه، فإن المعارضة في الحق تحمل صاحبه على تنقيحه وتحريره مما عساه يلتصق به أو يجاوره من غواشي الباطل، وتجعل علمه به مفصلا بعد أن كان مجملا، ومبرهنا عليه بعد أن كان مسلما، فهي مدرجة الكمال لأهل اليقين، ومزلة الريب للمقلدين، قال بعض الصوفية : جزى الله أعداءنا عنا خيرا إذ لولاهم ما وصلنا إلى شيء من مقامات القرب : وقال الشاعر :
عداتي لهم فضل علي ومنة | فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا |
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها | وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا |
ثم وصف هذا الرسول بالأوصاف التي كان بها نعمة تامة، ورحمة شاملة، فقال :﴿ يتلوا عليكم آياتنا ﴾ الدالة على أن ما جاء به من التوحيد والهداية هو الحق من عند الله وهذه الآيات أعم من أن تكون آيات القرآن أو غيرها من الدلائل والبراهين على أصول الدين، وقد تقدم تفسير الآيات في دعوة إبراهيم بأن الآيات يصح أن يراد بها الآيات الكونية والعقلية وأن يراد بها آيات الوحي، والتعميم أولى، وإنما خصها بعض المفسرين بآيات القرآن بقرينة ﴿ يتلو ﴾ على أن التلاوة أعم، فكل برهان يقيمه فقد تلا عليهم عبارته، وذكر لهم فيه آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، ووجه المنة أنه يقودها إلى الحق بالدليل والبرهان، دون التقليد والتسليم بغير فهم ولا إذعان، والطريقة الأولى يكون بها العقل مستقلا، والدين مؤيدا له وهاديا، لا مرغما ولا معطلا.
هذا ملخص ما قرره شيخنا والمختار عندنا أن المراد بالآيات آيات القرآن باعتبار ما اشتملت عليه من الآيات العقلية والعلمية على أصول العقائد والقواعد. فهي في نفسها آية على النبوة والرسالة بأنواع إعجازها التي تقدم بيانها وتشتمل على آيات كثيرة على التوحيد والبعث وأصول الإسلام كلها.
الآيات تتعلق بإثبات العقائد وأصول الدين وهي المقصد الأول، ويليها تهذيب الأخلاق ولذلك قال :﴿ ويزكيكم ﴾ أي يطهر نفوسكم من الأخلاق السافلة، والرذائل الممقوتة، ويخلقها بالأخلاق الحميدة بما لكم فيه من حسن الأسوة، لا بالقهر والسطوة، وخص المفسر ( الجلال ) التزكية بالتطهير من الشرك. قال الأستاذ الإمام : وهذا لا يصح فإن الإسلام كما جاء بالتوحيد الماحي للشرك، جاء بالتهذيب المطهر من سفساف الأخلاق وقبائح العادات والمعاصي التي كانت فاشية في العرب، فقد كانوا يئدون بناتهم يدفنونهن حيات ويقتلون أولادهم للتخلص من النفقة عليهم وذلك نهاية القسوة والشح، وكانوا يسفكون الدماء فيما بينهم لأهون سبب يثير حميتهم الجاهلية، لما اعتادوه من البغي في الثارات ومن شن الغارات ونهب بعضهم بعضا، وكان عندكم من التسفل أن أحدهم يتزوج زوجة أبيه أو يعضلها حتى تفتدي منه، إلى غير ذلك. وقد زكاهم النبي صلى الله عيه وسلم من ذلك كله باقتدائهم بأخلاقه العظيمة في عبادته الكاملة وآدابه العالية، وجمعهم بعد تلك الفرقة، وألف بينهم على يديه حتى صاروا كرجل واحد، وجعلت شريعته ذمتهم واحدة يسعى بها أدناهم، فإذا أعطى مولى أو رقيق لهم أمانا لأي إنسان محارب كان ذلك كتأمين أمير المؤمنين له، فأي تزكية أعلى من هذه التزكية ؟
وأقول إنهم بزكاة أنفسهم هذه فتحوا العالم وكانوا أئمة أمة المدينة التي تحتقر جنسهم كله فإن الأعاجم إنما عرفوا فضل الإسلام بعدلهم وفضلهم في فتوحهم وما فهموا القرآن إلا بعد إسلامهم وتعليمهم العربية، والرسول الذي زكى هذه الأمة التي زكت أمما كثيرة حقيق بأن تكون نفسه أزكى الأنفس وأكملها. ولكننا علمنا أن بعض دعاة النصرانية يستدل بأية ﴿ لأهب لك غلاما زكيا ﴾ ( مريم : ١٩ ) على تفضيل عيسى على محمد ( عليهما السلام ) ووصف الغلام بالزكي لا يدل على أنه أفضل من سائر الغلمان، فضلا عمن زكى الأنام. وقد قال تعالى في قصة موسى ( عليه السلام ) مع العبد الذي علمه من لدنه علما ﴿ أقتلت نفسا زكية بغير نفس ﴾ ( الكهف : ٧٤ ) الآية فهل يزعمون أن هذا الغلام أفضل من موسى وإبراهيم عليهما السلام لأنهما لم يوصفا بوصفه ؟
وبعد ذكر التربية العملية بالأسوة الحسنة ذكر أمر التعليم فقال :﴿ ويعلمكم الكتاب والحكمة ﴾ أي الكتاب الإلهي أو الكتابة التي تخرجون بها من ظلمة الأمية والجهل إلى نور العلم والحضارة. ويجوز الجمع بين المعنيين على القول الصحيح باستعمال المشترك في معنييه أو فيما يقتضيه المقام من معانيه. وأما الحكمة فهي العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها الباعث على العمل. وفسرها بعضهم بالسنة.
أقول : وهو غلط فإنها أطلقت على بعض نصوص الكتاب كالعقائد والفضائل والأحكام الإيجابية والسلبية بدليل قوله تعالى بعد الوصايا المقرونة بعلل الأمر والنهي من سورة الإسراء ٣٩ :﴿ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ﴾ وفي سورة لقمان أن الله أتاه الحكمة وذكر منها وصاياه لابنه المعللة بأسباب النهي ( راجع٣١ : ١٢ ١٩ ) فحكمة القرآن أعلى الحكم، وتليها حكمة الرسول صلى الله عيه وسلم، وقال صلى الله عيه وسلم ( لا حسد إلا في اثنين : رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) ١ رواه الشيخان من حديث ابن مسعود، وفي بعض رواياته ﴿ فهو يعمل بها ويعلمها الناس ﴾ وفي لفظ من حديث ابن عمر " القرآن " بدل الحكمة.
وقد تقدم ما قاله الأستاذ الإمام في هذه الكلمات في دعاء إبراهيم صلى الله عيه وسلم وجاء هنا بتفصيل في معنى الحكمة لم يذكر هناك فقال ما مثاله : دعاء القرآن إلى التوحيد وأمهات الفضائل وبين أصول الأحكام، ولكنه لم يفصل سيرة الملوك والرؤساء مع السوقة والمرؤوسين، ولم يفصل سيرة الرجل مع أهل بيته في الجزئيات وهو ما يسمونه نظام البيوت العائلات ولم يفصل طرق الأحكام القضائية والمدنية والحربية، وذلك أن هذه الأمور ينبغي أن تؤخذ بالأسوة والعمل بعد معرفة القواعد العامة التي جاءت في الكتاب، ولذلك كانت السنة هي المبينة لذلك بالتفصيل بسيرة النبي صلى الله عيه وسلم في بيوته ومع أصحابه في السلم والحرب والسفر والإقامة، وفي حال الضعف والقوة والقلة والكثرة، فالسنة العملية المتواترة هي المبينة للقرآن بتفصيل مجمله وبيان مبهمه، وإظهار ما في أحكامه من الأسرار والمنافع، ولهذا أطلق عليها لفظ الحكمة فإنها كانت كحكمة ( بالتحريك ) لتأديب الفرس، ولولا هذه التربية بالعمل لما كان الإرشاد القولي كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء والجهل والأمية إلى الائتلاف والاتحاد والتآخي والعلم وسياسة الأمم، فالسنة هي التي علمتهم كيف يهتدون بالقرآن، ومرنتهم على العدل والاعتدال في جميع الأحوال.
كلنا يعرف الحلال والحرام والفضيلة والرذيلة، وقلما ترى أحدا عاملا بعلمه، وإنما السبب في ذلك أن الأكثرين يعرفون الحكم دون حكمته، ودون الأسوة الحسنة في العمل به، فهم لا يفقهون لم كان هذا حراما، ولا تنفذ أفهامهم في أعماق الحكم فتصل إلى فقهه وسره، فتعلم علما تفصيليا ما وراء المحرم من الضرر لمرتكبه وللناس، وما وراء الواجبات والمندوبات من المنافع العامة والخاصة. ولو علموا ذلك وفقهوه بالتربية عليه وملاحظة آثاره والاقتداء بالمعلمين والمربين في العمل به كما أخد الصحابة عن الرسول صلى الله عيه وسلم لخرجوا من ظلمة الإجمال والإبهام في المعرفة إلى نور التجلي والتفصيل، حتى تكون الجزئيات مشرقة واضحة، ولكان هذا العلم معينا لهم على إحلال الحلال بالعمل، وتحريم الحرام بالترك، فقد وقف النبي صلى الله عيه وسلم أصحابه " رض " على فقه الدين ونفذ بهم إلى سره، فكانوا حكماء علماء، عدولا نجباء، حتى إن كان أحدهم ليحكم المملكة العظيمة فيقيم فيها العدل ويحسن السياسة وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه، ولكنه فقهه. وهذا المعنى فقه الدين ومعرفة أسرار الأحكام غير التزكية، بيد أنه يتصل بها ويعين عليه، حتى يطابق العلم والعمل، فهذه الآية نبأ عن استجابة دعوة إبراهيم عليه السلام :﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ﴾ ( البقرة : ١٢٩ ) الآية.
وقد تقدم هناك ذكر تعليم الكتاب والحكمة على التزكية، وقدم هنا التزكية على تعليم الكتاب والحكمة، والنكتة في ذلك أن إبراهيم عليه السلام لاحظ في دعوته الطريق الطبيعي وهي أن التعليم يكون أولا ثم تكون التزكية ثمرة له ونتيجة، وههنا ذكر الترتيب بحسب الوجود والوقوع، وذلك أن أول شيء فعله النبي صلى الله عيه وسلم هو أن دعا الناس إلى الإيمان بما تلا عليهم من آيات الله تعالى ودلائل توحيده، وإلى الاعتقاد بإعادة الناس ليوم لا ريب فيه يحاسب فيه كل نفس ويجزيها بعملها وصفاتها. فأجاب الناس دعوته بالتدريج، وكل من آمن له كان يقتدي به في أخلاقه وأعماله، ولم تكن هنالك أحكام ولا شرائع، ثم شرعت الأحكام بالتدريج، فالتزكية بالتأسي به عيه الصلاة والسلام كانت متأخرة عن إقامة الآيات والدلائل على أصول الإيمان، ومقدمة على تلقي الشرائع والتفقه في الأحكام.
ثم قال تعالى :﴿ ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾ أي ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما لم يسبق لكم به علم من شؤون العالم ونظام البيوت والمعاشرة الزوجية وسياسة الحروب والأمم. وقال البيضاوي وغيره : ما لم تكونوا تعلمونه بالنظر والفكر، إذ لا سبيل لمعرفته سوى الوحي، وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر اه، يعني كأخبار عالم الغيب وسيرة الأنبياء، وأحوال الأمم التي كانت مجهولة عندكم، وكثيرا منها كان مجهولا عند أهل الكتاب أيضا، فإنه صلى الله عيه وسلم صحح أغلاطهم، وبين سقاطهم. وخص هذا بالذكر وإن كان مما اشتمل عليه الكتاب اهتماما به، وتنويها بشأنه، ولكن تكرار الفعل وعطفه يقتضي أن يكون هذا غير ما قبله.
قال الأستاذ الإمام : ويصح أن يراد ما لم تكونوا تعلمون من شؤون أنفسكم، والسنن الإلهية الحاكمة فيكم، وقد بلغوا بتعليمه وإرشاده صلى الله عيه وسلم مبلغا فاقوا فيه سائر الأمم، أي فالتعليم ليس محصورا في الكتاب بل هناك زيادة أعد الله تعالى نبيه لتبينها. والمقابلة بين هذا التعليم وتعليم الكتاب مبنية على أن المراد بالكتاب القرآن وبالآيات الدلائل. وقد تقدم فيه وجه أخر وهو أنه مصدر كتب أي ويعلمكم الكتابة بعد أن كنتم أميين.
ثم بعد أن علمهم ما يحفظ النعم أرشدهم إلى ما يوجب المزيد بمقتضى الجود والكرم فقال :﴿ واشكروا لي ﴾ هذه النعم بالعمل بها وتوجيهها إلى ما وجدت لأجله ﴿ ولا تكفرون ﴾ أي لا تكفروا نعمي بإهمالها أو صرفها إلى غير ما وجدت لأجله بحسب الشرع والسنن الإلهية. وهذا تحذير لهذه الأمة مما وقعت فيه الأمم السالفة إذ كفرت بنعم الله تعالى فحولت الدين عن قطبه الذي عليه وهو الإخلاص وإسلام الوجه لله وحده والعمل الصالح والمصلح للأفراد والاجتماع، وعطلت ما أعطاها الله من مواهب المشاعر والعقل والملك فلم تستعملها فيما خلقت له، وهكذا انحرفوا بكل شيء عن أصله، فسلبهم الله ما كان وهبهم تأديبا لهم ولغيرهم، ثم رحمهم بأن أرسل إليهم خاتم النبيين بهداية عامة تعرفهم وجه تلك العقوبات الإلهية وتحذرهم العود إلى أسبابها، وقد امتثل المسلمون هذا الأوامر زمنا فسعدوا، ثم تركوها بالتدريج فحل بهم ما نرى كما قال :﴿ وإذا تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ﴾ ( إبراهيم : ٧ ) فإذا عادوا عاد الله عليهم بما كان أعطى سلفهم وإلا كانوا من الهالكين.
.
ذهب الذين ينظرون من القران في جمله وآياته مفككة منفصلا بعضها عن بعض التماسا لسبب النزول في كل أية أو جملة أو كلمة، ولا ينظرون إليه في سياق جملة وكمال نظمه إلى أن الأمر بالاستعانة في قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ﴾ هو الاستعانة على أمر الآخرة والاستعداد لها، وإن المراد بالصبر فيه الصبر عن المعاصي وحظوظ النفس، واعتمده البيضاوي وغيره، أو على الطاعات وبهذا صرح الجلال، وقد أورد قوله الأستاذ الإمام وسأل الله تعالى الصبر على احتمال مثل هذا الكلام، والتحقيق أنه عام في كل عمل نفسي أو بدني أوترك يشق على النفس، كما يدل عليه حذف متعلقه، والمعنى استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه وعلى سائر ما يشق عليكم من مصائب الحياة بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكارم وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عز وجل وتصغر بمناجاته فيها كل المشاق وأعمها المصائب المذكورة في الآيات بعده ولاسيما الأعمال العامة النفع كالجهاد المشار إليه في الآية التالية. وقد بين شيخنا أهم مواضعه التي يدل عليها السياق مع بيان التناسب بين الآيات ووجه الاتصال بما مثاله موضحا : ذكر الله تعالى افتتان الناس بتحويل القبلة، وتقدم شرح ما دلت عليه الآيات من عظم أمر تلك الفتنة، وإزالة شبه الفاتنين والمفتونين، وإقامة الحجج على المشاغبين، وحكم التحويل وفوائده للمؤمنين، ومنها إتمام النعمة، والبشارة بالاستيلاء على مكة، وكون ذلك طريقا للهداية، لما في الفتن من التمحيص الذي يتميز به المؤمن الصادق من المسلم المنافق، فهي تظهر الثابت على الحق المطمئن به وتفضح المنافق المرائي فيه، بما تظهر من زلزاله واضطرابه فيما لديه، أو انقلابه ناكصا على عقبيه، ثم شبه هذا النعمة التامة بالنعمة الكبرى وهي إرسال الرسول فيهم، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وفي ذلك من التثبيت في مقاومة الفتنة، وتأكيد أمر القبلة، ما يليق بتلك الحالة وقفى ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم للإيذان بأن تحويل القبلة الذي صوره السفهاء من الناس بصورة النقمة، هو في نفسه أجل منة وأكبر نعمة.
لا جرم أن تلك النعم يجب ذكرها وشكرها للمنعم جل شأنه كانت تقرن بضروب من البلاء، وأنواع من المصائب، أكبرها ما يلاقيه أهل الحق من مقاومة الباطل وأحزابه، وأصغرها ما لا يسلم منه أحد في ماله وأهله وأحبابه، أليس من النسب القريب بين الكلام، ومن كمال الإرشاد في هذا المقام، أن يرد بعد الأمر بالشكر، أمر آخر بالصبر، وأن يعد الله المؤمنين بالجزاء على هذا كما وعدهم بالجزاء على ذلك ؟ بلى إن هذه الآيات متصلة بما قبلها، متممة للإرشاد فيها، وقد هدى سبحانه بلطف إلى علاج الداء قبل بيانه، فأمر بالاستعانة على ما يلاقيه المؤمنون بالصبر والصلاة، ووعد على ذلك بمعونته الإلهية، ثم أشعرهم بما يلاقونه في سبيل الحق والدعوة إلى الدين والمدافعة عنه وعن أنفسهم. فهو سبحانه وتعالى يأمرهم بالصبر على ذلك كله، لا أن الآية في الانقطاع إلى العبادة والصبر على الطاعة مطلقا بحيث يكون القاعد عن الجهاد بنفسه وماله، أو السعي لعياله اعتكافا في المسجد أو انزواء في خلوة عاملا بها.
كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد، وكانت الأمم مناوئة لهم، فالمشركون أخرجوهم من ديارهم وما فتئوا يغيرون عليهم، ويصدون الناس عنهم، ثم كانوا يلاقون في مهاجرهم ما يلاقون من عداوة أهل الكتاب ومكرهم، ومن مراوغة المنافقين وكيدهم، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا في مقاومة ذلك كله وفي سائر ما يعرض لهم من المصائب بالصبر والصلاة. أما الصبر فقد ذكر في القرآن سبعين مرة ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار. وهذا يدل على عظم أمره، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونا بالتواصي بالحق١، إذا لا بد للداعي إلى الحق منه، والمراد بالصبر في هذه الآيات كلها ملكه الثبات والاحتمال التي تهون على صاحبها كل ما يلاقيه في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة. فضيلة هي أم الفضائل التي تربي ملكات الخير في النفس، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليها. وإنما يظهر الصبر في ثبات الإنسان على عمل اختياري يقصد به إثبات حق أو إزالة باطل أو الدعوة إلى عقيدة، أو تأييد فضيلة، أو إيجاد وسيلة إلى عمل عظيم، لأن أمثال هذه الكليات التي تتعلق بالمصالح العامة هي التي تقابل بالمقاومة والمحادة التي يعوز فيها الصبر، ويعز معها الثبات على احتمال المكاره، ومصارعة الشدائد، فالثابت على العمل في مثل هذه الحال هو الصابر وإن كان في أول الأمر متكلفا، ومتى رسخت الملكة يسمى صحابها صبورا وصبارا.
وليس كل محتمل للمكروه من الصابرين الذين أخبر الله في هذه الآية أنه معهم وبشرهم في الآية الآتية، وأثنى عليهم في آيات كثيرة، بل لابد من العمل للحق والثبات فيه كما قدمنا لأن الفضائل لا تتحقق بما يصدر عنها من الأعمال الاختيارية التي هي مناط الجزاء، بل الصبر نفسه ملكة اكتسابية ولذلك أمر الله تعالى به، وإنما يكون الامتثال بتعويد النفس احتمال المكاره والشدائد في سبيل الحق. وعلى ذلك جرى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه عليهم الرضوان، حتى فازوا بعاقبة الصبر المحمودة ونصرهم الله تعالى مع قلتهم وضعفهم على جميع الأمم مع قوتها وكثرتها، وإنما كان ذلك بالصبر، لأن الله تعالى جعله سببا للنجاة من الخسر، كما جاء في سورة العصر.
المحتمل للمكروه مع السآمة والضجر لا يعد صابرا، وهذا هو شأن منتحلي العلم ومدعي الصلاح في هذا الزمان، تراهم أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يهوون، على أن عنوان صلاحهم واستمساكهم بعروة الدين هو جرس الذكر وحركات الأعضاء في الصلاة، وما كان للمصلي ولا للذاكر أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله تعالى وهو جل ثناؤه يبرئ المصلين من الجزع الذي هو ضد الصبر بقوله :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسه الشر جزوعا* وإذا مسه الخير منوعا* إلا المصلين ﴾ ( المعراج : ١٩-٢٢ ) الخ، وقد جعل ذكره مع الثبات في البأساء في القرآن إذا قال :﴿ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ ( الأنفال : ٤٥ ) وقد قرن في الآية التي نفسرها الصلاة بالصبر وجعل الأمرين معا ذريعة الاستعانة على ما يلاقي المؤمنون في طريق الحق من الشدائد.
ولو كان هؤلاء الأدعياء مصلين لكانوا من الصابرين، وإنما تلك حركات تعودوها فهم يكررونها ساهين عنها، أو يقصدون بها قلوب الناس يبغون عندها المكانة الرفيعة بالدين، لما ترتب على ذلك من المنافع والفوائد الدنيوية التي لا يعقلون سواها. فيجب على كل مؤمن أن يعود نفسه احتمال المكاره، ويحاول تحصيل ملكة الصبر عندما تعرض له أسبابه، فمن لم يستعن على علمه بالصبر، لا يتم له أمر، ولا يثبت على عمل ولاسيما الأعمال العظيمة فيعوزهم الصبر فيقفون عند الخطوة الثانية. ومن يزعم أنه عاجز عن تحصيل هذه الملكة فهو خائن لنفسه جاهل بما أودع الله فيه من الاستعداد، فهو باحتقاره لنفسه محتقر نعمة الله تعالى عليه، وهو بهذا الإحساس بالعجز قد سجل على نفسه الحرمان من جميع الفضائل.
وجه الحاجة إلى الاستعانة بالصبر على الحق والقيام بأعبائه ظاهر جلي. وأما الحاجة إلى الاستعانة بالصلاة فوجهها محجوب لا يكاد ينكشف إلا للمصلين الذين هم في صلاتهم خاشعون. تلك الصلاة التي أكثر من ذكرها الكتاب العزيز ووصف ذويها بفضلى الصفات وهي التوجه لله تعالى ومناجاته وحضور القلب معه سبحانه واستغراقه في الشعور بهيبته وكمال سلطانه. تلك الصلاة التي قال فيها جل ذكره :﴿ وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ﴾ ( البقرة : ٤٥ ) وقال فيها :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾ ( النحل : ٩٠ ) وليست هي الصورة المعهودة من القيام والركوع والسجود والتلاوة باللسان خاصة، التي يسهل على كل صبي مميز أن يتعودها، والتي نشاهد من المعتادين لها الإصرار على الفواحش والمنكرات، واجتراح الآثام والسيئات، وأي قيمة لتلك الحركات الخفيفة في نفسها حتى يصفها رب العزة والجلال بالكبر إلا على الخاشعين ؟ إنما جعلت تلك الحركات والأقوال صورة للصلاة لتكون وسيلة لتذكر الغافلين، وتنبيه الذاهلين، ودفعا يدفع المصلي إلى ذلك التوجه المقصود الذي يملأ القلب بعظمة الله وسلطانه حتى يستسهل في سبيله كل صعب، ويستخف بكل كرب، ويسهل عليه عند احتمال كل بلاء، ومقاومة كل عناد، فإنه لا يتصور شيئا يعترض في سبيله إلا ويرى سيده ومولاه أكبر منه، فهو لا يزال يقول : الله أكبر. حتى لا يبقى في نفسه شيء كبير، إلا ما كان مرضيا لله العلي الكبير، الذي يلجأ إليه في الحوادث، ويفزع إليه عند الكوارث.
ثم قال :﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ ولم يقل معكم ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم، وقالوا إن المعية هنا معية المعونة، فالصابرون موعودون من الله تعالى بالمعونة والظفر، ومن كان الله معينه وناصره فلا يغلبه شيء. وقال الأستاذ الإمام : إن من سنة الله تعالى أن الأعمال العظيمة لا تتم ولا ينجح صاحبها إلا بالثبات والاستمرار، وهذا إنما يكون بالصبر، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه بما جعل هذا الصبر سببا للظفر، لأنه يولد الثبات والاستمرار الذي هو شرط النجاح، ومن لم يصبر فليس الله معه، لأنه تنكب سنته، ولن يثبت فيبلغ غايته.
علم الله تعالى ما سيلاقيه المؤمنون في الدعوة إلى دينه وتقريره وإقامته من المقاومات وتثبيط الهمم، وما يقوله لهم الناس في ذلك وما يقول الضعفاء في أنفسهم : كيف تبذل هذه النفوس وتستهدف للقتل بمخالفة الأمم كلها : وما الغاية من قتل الإنسان نفسه لأجل تعزيز رجل في دعوته ؟ وغير ذلك مما كانوا يسمعون من المنافقين والكافرين، وربما أثر في نفوس بعض الضعفاء فاستبطئوا النصر، فعلمهم الله سبحانه وتعالى ما يستعينون به على مجاهدة الخواطر والهواجس، ومقاومة الشبهات والوسواس، فأمر أولا بالاستعانة بالصبر والصلاة.
ثم لابد أن تكون هذه الحياة خاصة غير التي يعتقدها جميع المليين في جميع الموتى من بقاء أرواحهم بعد مفارقة أشباحهم، ولذلك ذهب بعض الناس إلى أن حياة الشهداء تتعلق بهذه الأجساد وإن فنيت أو احترقت أو أكلتها السباع أو الحيتان وقالوا إنها حياة لا نعرفها، ونحن نقول مثلهم إننا لا نعرفها ونزيد أننا لا نثبت ما لا نعرف. وقال بعضهم إنها حياة يجعل الله بها الروح في جسم آخر يتمتع به ويرزق. ورووا في هذا روايات منها الحديث الذي أشار إليه المفسر ( الجلال ) وهو " أن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة " ١ وقيل إنها حياة الذكر الحسن والثناء بعد الموت. وقيل إن المراد بالموت والحياة الضلال والهدى. وروي هذا عن الأصم أي لا تقولوا أن باذل روحه في سبيل الله ضال بل هو مهتد. وقيل إنها حياة روحانية محضة. وقيل إن المراد أنهم سيحيون في الآخرة وأن الموت ليس عدما محضا كما زعم بعض المشركين. فالآية عند هؤلاء على حد ﴿ أن الأبرار لفي نعيم*وأن الفجار لفي جحيم ﴾ ( الانفطار : ١٣، ١٤ ) أي أن مصيرهم إلى ذلك.
قال الأستاذ الإمام بعد ذكر الخلاف : وقال بعض العلماء الباحثين في الروح عن الروح إنما تقوم بجسم لطيف " أثيري " في صورة هذا الجسم المركب الذي يكون عليه الإنسان في الدنيا وبواسطة ذلك الجسم الأثيري تجول في هذا الجسم المادي، فإذا مات المرء وخرجت روحه فإنما تخرج بالجسم الأثيري وتبقى معه وهو جسم لا يتغير ولا يتبدل ولا يتحلل. وأما هذا الجسم المحسوس فإنه يتحلل ويتبدل في كل بضع سنين. قال ويقرب هذا القول من مذهب المالكية فقد روي عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال : إن الروح صور كالجسد. أي لها صورة وما الصورة إلا عرض، وجوهر هذا العرض هو الذي سماه العلماء بالأثير.
وإذا كان من خواص الأثير النفوذ في الأجسام اللطيفة والكثيفة كما يقولون حتى إنه هو الذي ينقل النور من الشمس إلى طبقة الهواء فلا مانع أن تتعلق به الروح المطلقة في الآخرة ثم هو يحل بها جسما آخر تنعم به وترزق سواء كان جسم طير أو غيره. وقد قال تعالى في آية أخرى :﴿ أحياء عند ربهم يرزقون ﴾ ( آل عمران : ١٦٩ ) وهذا القول يقرب معنى الآية من العلم. والمعتمد عند الأستاذ الإمام في هذه الحياة هو أنها حياة غيبية تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس، بها يرزقون وينعمون، ولكننا لا نعرف حقيقتها ولا حقيقة الرزق الذي يكون بها، ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب الذي نؤمن به ونفوض الأمر فيه إلى الله تعالى.
فالبشارة في الآية عامة ولم يذكر المبشر به إيذانا بذلك وهو إيجار لا يعهد مثله في غير القرآن الحكيم، فأنت ترى أنه لو أريد ذكر ما يبشرون به لخرج الكلام إلى تطويل لا حاجة إليه كبيان عاقبة من يقع في كل نوع من أنواع المخاوف فيصابرها وينجح في أعقابها وهي كثيرة، وهكذا الخوف المشار إليه في الآية وأعداء الإسلام على ما كانوا عليه من الكثرة والقوة ظاهر لا يخفى، على أن بعضهم فسره بالخوف من الله تعالى وهو باطل لأن هذا من أعظم ثمرات الإيمان، لا من مصائب الامتحان، فهو نعمة تعين على الصبر لا مصيبة يطلب الصبر عليها أو فيها لأجل تهوين خطبها. وأما الجوع فقد قالوا إنه ما يكون من الجدب والقحط.
قال الأستاذ الإمام : وليس هذا هو المراد في الآية المسوقة لبيان ما يلاقي المؤمنون في سبيل الإيمان ولا وقع للصحابة في ذلك العهد وإنما هو أحدهم يؤمن فيفصل من أهله وعشيرته ويخرج في الغالب صفر اليدين، ولذلك كان الفقر عاما في المسلمين من أول عهدهم إلى ما بعد فتح مكة، ومن هذا التفسير يفهم المراد من نقص الأموال وهي الأنعام التي كانت معظم ما يتموله العرب. وأما الثمرات فهي على أصلها، وكان معظمها ثمرات النخل. وقيل هي الولد ثمر القلب كما يقولون في المجاز المشهور. وقد بلغ من الجوع المسلمين أن كانوا يتبلغون بتمرات يسيرة ولاسيما في غزوتي الأحزاب وتبوك. وأما نقص الأنفس فهو ما كان من القتل والموتان من اجتواء المدينة، فقد كانت عند هجرتهم إليها بلد وباء وحمى ثم حسن مناخها.
.
علم مما تقدم أن مسألة القبلة جاءت في معرض الكلام عن معاندة المشركين وأهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان التحويل شبهة من شبهاتهم وتقدم أن من لوازم حكم تحويل القبلة إلى البيت الحرام، توجيه قلوب المؤمنين إلى الاستياء عليه كما يوجهون إليه وجوههم لأجل تطهيره من الشرك والآثام، كما عهد الله إلى أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإلا كانوا راضين باستقبال الأصنام، وأن في طي ﴿ ولأتم نعمتي عليكم ﴾ بشارة هذا الاستياء، مفيدة الأمل والرجاء، وقد علم الله المؤمنون بعد هذه البشارة ما يستعينون به على الوصول إليها هي وسائر مقاصد الدين من الصبر والصلاة وأشعرهم بما لا يلاقون في سبيل الحق من المصائب والشدائد، فكان من المناسب بعد هذا أن يذكر شيئا يؤكد تلك الإشارة ويقوي ذلك الأمل فذكر شعيرة من شعائر الحج هي السعي بين الصفا والمروة. فكان ذكرها تصريحا ضمنيا بأن سيأخذون مكة ويقيمون مناسك إبراهيم فيها، وتتم بذلك لهم النعمة والهداية، وهو قوله عز وجل :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطرف بهما ﴾ فهذه الآية ليست منقطعة عن السياق السابق لإفادة حكم جديد لا علاقة له بما قبله كما توهم بل هي من تتمة الموضوع ومرتبطة به أشد الارتباط، من حيث هي تأكيد للبشارة، ومن حيث الحكم الذي فيها من مناسك الحج التي كان عليها إبراهيم الذي أحيا النبي صلى الله عليه وسلم ملته وجعلت الصلاة إلى قبلته. كأنه قال : لا تلوينكم قوة المشركين في مكة، وكثرة الأصنام على الكعبة، والصفا والمروة، عن القصد إلى تطهير البيت الحرام، وإحياء تلك الشعائر العظيمة، كما لا يلوينكم عن استقبال البيت تقول أهل الكتاب والمشركين، ولا زلزال مرضى القلوب من المنافقين، بل ثقوا بوعد الله، واستعينوا بالصبر والصلاة.
الصفا والمروة جبلان أو علما جبلين بمكة والمسافة بينها ٧٦٠ ذراعا ونصف، والصفا اتجاه بيت الحرام. وقد علتهما المباني وصار ما بينها سوقا. والشعيرة والشعار والشعارة تطلق على المكان أو الشيء الذي يشعر بأمر له شأن. وأطلق على معالم الحج ومواضع النسك وتسمى مشاعر ﴿ جمع مشعر ﴾ وعلى العمل الاجتماعي المخصوص الذي هو عبادة ونسك، ففي أية أخرى ﴿ لا تحلوا شعائر الله ﴾ ( المائدة : ٢ ) وهي مناسك الحج ومعالمه ومنه إشعار الهدي وهو جرح ما يهدي إلى الحرم من الإبل في صفحة سنامه ليعلم أنه نسك. ويشعر البقر أيضا دون غنم ومن شواهده في اللغة شعار الحرب وهو ما يتعارف به الجيش. قال شيخنا ورمى رجل جمرة فأصابت جبهة عمر رضي الله عنه فقال رجل : شعرت جبهة أمير المؤمنين يريد جرحت. سمي الجرح بذلك لأنه علامة. وقال عند ذلك الرجل لهبي : سيقتل أمير المؤمنين. وكان ما قال.
فأما كون المواضع كالصفا والمروة من علامات دين الله أو أعلام دينه فظاهر وأما كون المناسك والأعمال شعائر وعلامات فوجهه أن القيام بها علامة على الخضوع لله تعالى وعبادته إيمانا وتسليما. فالشعائر إذن لا تطلق على الأعمال المشروعة التي فيها تعبد لله تعالى، ولذلك غلب استعمال الشعائر في أعمال الحج لأنها تعبدية، قال في الصحاح : الشعائر أعمال الحج وكل ما جعل علما لطاعة الله عز وجل. وقال الزجاج في قوله تعال :﴿ لا تحلوا شعائر الله ﴾ أي جميع متعبداته التي أشعرها الله أي جعلها إعلاما لنا : إلخ فهو يريد أن الشعائر من أشعره بالشيء أعلمه به. وقد صرح بذلك ولكنه لا يدل بهذا على معنى التعبد إذ قد أعلمنا الله تعالى بالأحكام التي لا تعبد فيها أيضا والشعائر لم تطلق في القرآن إلا على مناسك الحج الاجتماعية، وألحق بها بعضهم ما في معناها من عبادات الإسلام الاجتماعية، كالآذان وصلاة الجمعة والعيدين.
الأستاذ الإمام : في الأحكام التي شرعها الله تعالى نوع يسمى بالشعائر ومنها ما لا يسمى بذلك كأحكام المعاملات كافة لأنها شرعت لمصالح البشر فلها علل وأسباب يسهل على كل إنسان أن يفهمها، فهذا أحد أقسام الشرائع والقسم الثاني هو ما تعبدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص، وكالتوجه فيها إلى مكان مخصوص سماه الله بيته مع أنه خلقه كسائر العالم. فهذا شيء شرعه الله وتعبدنا به لعلمه بأن فيه مصلحة لنا ولكننا نحن لا نفهم سر ذلك تمام الفهم من كل وجه.
أقول : وهذا النوع يوقف فيه عند نص ما شرعه الله تعالى، لا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يقاس عليه، ولا يأخذ فيه برأي أحد ولا باجتهاده، إذا لو أبيح للناس الزيادة في شعائر الدين باجتهادهم في لفظ أو قياس لأمكن أن تصير شعائر الإسلام أضعاف ما كانت عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يفرق أكثر الناس بين الأصل المشترع، والدخيل المبتدع، فيكون المسلمون كالنصارى. فكل من ابتدع شعيرة أو عبادة في الإسلام فهو ممن يصدق عليهم قوله تعالى :﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ ( الشورى : ٢١ ) وإنما الاجتهاد في مثل تحري القبلة من العمل التعبدي وفي القضاء. وليراجع القارئ تفسير قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ﴾ ( المائدة : ١٠٤ ) وقوله :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ ( التوبة : ٣١ ) ومن العبث أن يعمل الإنسان ما لا يعرف له فائدة لقول من هو مثله وهو مستعد لأن يفهم كل ما يفهمه ؟
ولا يأتي هذا العبث في امتثال أمر الله تعالى لأنا نعتقد أنه برحمته وحكمته لا يشرع لنا إلا ما فيه خيرنا ومصلحتنا، وأنه بعلمه المحيط بكل شيء يعلم عن ذلك ما لا نعلم. والتجربة تؤيد هذا الاعتقاد فإن الطائعين القائمين بحقوق الدين تصلح أحوالهم في الدنيا، ويرجى لهم في الآخرة ما يرجى، وإن لم يفهموا فهما كاملا فائدة كل جزئية من جزئيات العمل، فمثلهم كما قال الغزالي مثل من وثق بالطبيب وجرب دواءه فوجده نافعا ولكنه لا يعرف أية فائدة لكل جزء من أجزائه ونسبته إلى الأجزاء الأخرى، وحسبه أن يعلم أن هذا الدواء المركب نافع يشفي بإذن الله من المرض، السعي بين الصفا والمروة من هذا النوع التعبدي، فهو مطلوب بقوله تعالى :﴿ فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ حج البيت قصده للنسك والإتيان بالمناسك المعروفة هنالك وسيأتي تفصيلها في هذا الجزء.
والاعتمار مناسك العمرة وهي دون مناسك الحج فليس في العمرة وقوف بعرفة ولا مبيت بمزدلفة ولا رمي جمار في منى. والجناح بالضم الميل إلى الإثم كجنوح السفينة إلى وحل ترتطم فيه، والإثم نفسه. وأصله من جناح الطائر. ويطوف بتشديد الواو من التطوف وهو تكرار الطواف أو تكلفه. والمعنى فليس عليه شيء من جنس الجناح وهو الميل والانحراف عن جادة النسك في التطوف بهما. وهذا التطوف هو الذي عرف في الاصطلاح بالسعي بين الصفا والمروة وفسرته السنة بالعمل، وهو من مناسك الحج بالإجماع والعمل المتواتر، وإذا كان مشروعا فسواء كان ركنا كما يقول مالك والشافعي وغيرهما أو واجبا كما يقول الحنفية، أو مندوبا كما روي عن أحمد وقالوا في حكمة التعبير عنه بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح : إنه للإشارة إلى تخطئة المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا والمروة من الشعائر، وأن السعي بينها من مناسك إبراهيم، فهو لا ينافي الطلب جزما. وكذلك قوله تعالى :﴿ ومن تطوع خيرا ﴾ في هذا التطوف وغيره أو كرر الحج أو العمرة فزاد على الفريضة١ أي تحمله طوعا كما قال الراغب فإن التطوع في اللغة الإتيان بما في الطوع أو بالطاعة أو تكلفها أو الإكثار منها. وأطلق على التبرع بالخير لأنه طوع لا كره ولا إكراه فيه، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي ( إلا أن تطوع ) ٢ أي تزيد على الفريضة ﴿ فإن الله شاكر عليم ﴾ أي فإن الله يثيبه لأنه شاكر يجزي على الإحسان، عليم بمن يستحق الجزاء.
وروى البخاري عن ابن عباس ما يدل على أن للسعي بين الصفا والمروة أصلا من ذكر نشأة الدين الأولى بمكة في عهد إبراهيم وإسماعيل كغيره من شعائر الله، وخلاصته أنه لما كان بين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وامرأته ( سارة ) ما كان ( من حملها إياه على طرد سريته هاجر مع طفلها إسماعيل وهو مذكور في الفصل ٢١ من سفر التكوين ) خرج بهما إلى برية فاران ( أي مكة ) فوضعهما في مكان زمزم تحت دوحة ولو يكن هنالك سكان ولا ماء ووضع عندها جرابا فيه تمر وفي سفر التكوين أنه زودها بخبز وسقاء فيه ماء ثم رجع فقالت له : إلى من تتركنا ؟ قال ﴿ إلى الله { قالت رضيت بالله. وهنالك دعا إبراهيم بما حكاه الله عنه في سورته :{ ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ﴾ ( إبراهيم : ٣٨ ) إلى قوله :﴿ يشكرون ﴾ ( إبراهيم : ٣٨ ) ولما نفد الماء عطشت وجف لبنها وعطش ولدها فجعل يتلوى وينشغ ( يشهق ) للموت فكانت تذهب فتصعد الصفا تنظر هل ترى أحدا فلم تحس أحدا ثم تذهب فتصعد المروة فلم تر أحدا، ثم ترجع إلى ولدها فتراه ينشغ فعلت ذلك سبعة أشواط، وبعد الأخيرة وجدت عنده صوتا فقالت أغث إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك جبريل عند زمزم فغمز بعقبة الأرض فانبثق الماء فجعلت تشرب ويدر لبنها على صبيها. ومر ناس من جرهم بالوادي فإذا هم بطير عائفة أي تحوم على الماء فاهتدوا إليه وأقاموا عنده ونشأ إسماعيل معهم. قال ابن عباس لما ذكر سعيها بين الصفا والمروة : قال النبي صلى الله عليه وسلم ( فذلك سعي الناس بينهما ).
الأستاذ الإمام : وصف الباري تعالى بالشاكر لا يظهر على حقيقته فلا بد من حمله على المجاز. فالشكر في اللغة مقابلة النعمة والإحسان، بالثناء والعرفان، وشكر الناس الله في اصطلاح الشرع عبارة عن صرف نعمه فيما خلقت لأجله، وكلاهما لا يظهر بالنسبة إلى الله تعالى إذ لا يمكن أن يكون لأحد عنده يد أو يناله من أحد نعمة يشكرها له بهذا المعنى. فالمعنى إذا أن الله تعالى قادر على إثابة المحسنين، وأنه لا يضيع أجر العاملين، فبهذا المعنى سميت مقابلة العامل بالجزاء الذي يستحقه شكرا، وسمى الله تعالى نفسه شاكرا. وأزيد على قول الأستاذ أن الله تعالى وعد الشاكرين لنعمه بالمزيد منها، فسمي هذا شكرا من باب المشاكلة.
والنكتة في اختيار هذا التعبير تعليمنا الأدب فقد علمنا سبحانه وتعالى بهذا أدبا من أكمل الآداب بما سمى إحسانه وإنعامه على العاملين شكرا لهم مع أن عملهم لا ينفعه ولا يدفع عنه ضرا فيكون إنعاما عليه ويدا عنده، وإنما منفعته لهم فهو في الحقيقة من نعمه عليهم إذ هداهم إليه، وأقدرهم عليه، فهل يليق بمن يفهم هذا الخطاب الأعلى، أن يرى نعم الله عليه لا تعد ولا تحصى، وهولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما سيقت لأجله ؟ ثم هل يليق به أن يرى بعض الناس يسدي إليه معروفا ثم لا يشكره له ولا يكافئه عليه، وإن كان هو فوق صاحب المعروف رتبة وأعلى منه طبقة ؟ كيف وقد سمى الله تعالى جده وجل ثناؤه إنعامه على من يحسنون إلى أنفسهم وإلى الناس شكرا، والله الخالق وهم المخلوقون، وهو الغني الحميد وهم الفقراء المعوزون ؟ شكر النعمة والمكافأة على المعروف من أركان العمران وترك الشكر والمكافأة مفسدة لا تضاهيها مفسدة
٢ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٤، والصوم باب ١، والحيل باب ٣، والشهادات باب ٢٦، ومسلم في الإيمان حديث ٨، وأبوداود في الصلاة باب ١، والترمذي في زكاة باب ٢، والنسائي في الصلاة باب ٣، والصيام باب ١، والإيمان باب ٢٣، ومالك في السفر حديث ٩٤.
.
كان علماء أهل الكتاب يكتمون بعض ما في كتبهم بعدم ذكر نصوصه للناس عند الحاجة إليه أو السؤال عنه كالبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم وصفاته١ وكحكم رجم الزاني الذي ورد ذكره في سورة المائدة، ويكتمون بعضه بتحريف الكلم عن مواضعه بالترجمة أو النطق أو حمله على غير معانيه بالتأويل إتباعا لأهوائهم ( كما فعلوا بلفظ الفارقليط ) ففضحهم الله تعالى بهذه الآيات التي سجلت عليهم وعلى أمثالهم اللعنة العامة الدائمة، قال ﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتب ﴾ قال شيخنا : هذه الآية عود إلى أصل السياق وهو معاداة النبي ومعاندته من الكفار عامة ومن اليهود خاصة، والكلام في القبلة إنما كان معرض جحودهم وعدائهم أيضا، وجاء فيه أنهم يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون، ولم يذكر هناك وعيد هؤلاء الكاتمين لأن ذكر الكتمان ورد مورد الاحتجاج عليهم، وتسلية للنبي والمؤمنين على إيذائهم، ثم عاد هنا فذكره، وهو عبارة عن إنكارهم أخبار أنبيائهم عنه وبشارتهم به صلى الله عليه وسلم، وجعلهم ذلك حجة سلبية على إنكار نبوته، إذا كانوا يقولون : إن الأنبياء يبشر بعضهم ببعض ولم يبشروا بأن سيبعث نبي من العرب أبناء إسماعيل، ولم يجئ بيان في كتبهم عن دينه وكتابه. فالله تعالى يقول : إنهم يكتمون ما أنزل الله في شأن محمد صلى الله عليه وسلم من بعد ما بينه لهم في الكتاب، وهو اسم جنس يشمل جميع كتب الأنبياء عندهم.
وقد اختلف الناس في صفة هذا الكتمان فقال بعضهم إنهم كانوا يحرفون أوصافه والبشارات فيه من كتبهم، وهو غير معقول إذا لا يمكن أن يتواطأ أهل الكتاب على ذلك في جميع الأقطار، ولو فعله الذين كانوا في بلاد العرب لظهر اختلاف كتبهم مع كتب إخوانهم في الشام وأوربة مثلا٢، ويذهب آخرون إلى أن الإنكار كان بالتحريف والتأويل وحمل الأوصاف التي وردت فيه والدلائل التي تثبت نبوته على غيره حتى إذا سئلوا : هل لهذا النبي ذكر في كتبهم ؟ قالوا : لا على أن في كتبهم أوصاف لا تنطبق إلا على نبي العرب وأظهرها ما في التوراة وكتاب أشيعا فإنه لا يقبل التأويل إلا بغاية التحمل والتعسف. وكذلك فعلوا بالدلائل على نبوة المسيح فإنهم أنكروا انطباقها عليه وزعموا أنها لغيره، ولا يزالون ينتظرون ذلك الغير.
وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنهم لم يقتصروا على كتمان الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالتأويل بل كتموا ما في الكتاب من الهدى والإرشاد بضروب التأويل أيضا حتى أفسدوا الدين وانحرفوا بالناس عن صراطه. وذكر جزائهم فقال ﴿ أولئك ﴾ أي الذين كتموا البينات والهدى فحرموا النور السابق والنور اللاحق. أو الذين شأنهم هذا الكتمان في الحل والاستقبال ﴿ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ﴾ أما لعن الله لهم فهو حرمانهم من رحمته الخاصة بالمؤمنين في الدنيا والآخرة.
.
٢ هذا ما استدل به بعض مفسرينا وفيه نظر أعجب كيف غاب عن أستاذنا وهو مطلع على ما لم يطلعوا عليه من تاريخ كتب القوم وما فيها من الاختلافات بين النسخ القديمة والجديدة في اللغات المختلفة وأقدم نسخ العهد القديم العبرانية مأخوذ عن النسخة المسورية (بضم السين) التي جمعها لجنة من اليهود في طبرية وفي سورة أو سوار في وادي الفرات من القرن السادس إلى القرن الثاني عشر للمسيح وقد أضافوا فيها إلى النصوص تفسيرا يسمى المسورة أي التقليد وحواشي تفسيرية أدخل بعضها في الأصل ـ وكذا ما بين النسخة السبعينية من التوراة وغيرها ـ ويرجع هذا البحث في تفسير سورة الأعراف وبينا موضعه قريبا في الصفحة السابقة (المؤلف).
.
﴿ فأولئك أتوب عليهم ﴾ أي أرجع وأعود عليهم بالرحمة والرأفة، بعد الحرمان المعبر عنه باللعنة. قال الأستاذ : وهذا من ألطف أنواع التأديب فإنه لم يذكر أنه يقبل توبتهم كما هو الواقع بل أسند إلى ذاته العلية فعل التوبة الذي أسنده إليهم، وزاد على ذلك من تأنيسهم وترغيبهم أن قال :
﴿ وأنا التواب الرحيم ﴾ يصف نفسه سبحانه بكثرة الرجوع والتوبة، للإيذان بالتكرار، كلما أذنب العبد وتاب، حتى لا ييئس من رحمة ربه إذا هو عاد إلى ذنبه. فأي ترغيب في ذلك أبلغ من هذا وأشد تأثيرا منه لمن يشعر ويعقل ؟
ثم إن العبرة في الآية هي أن حكمها عام وإن كان سببها خاصا، فكل من يكتم آيات الله وهدايته عن الناس فهو مستحق لهذه اللعنة. ولما كان هذا الوعيد وأشباهه حجة على الذين لبسوا الدين من المسلمين وانتحلوا الرئاسة لأنفسهم بعلمه، حاولوا التفصي منه فقال بعضهم : إن الكتمان لا يتحقق إلا إذا سئل العالم عن حكم الله تعالى فكتمه، وأخذوا من هذا التأويل قاعدة هي أن العلماء لا يجب عليهم نشر ما أنزل الله تعالى ودعوة الناس إليه وبيانه لهم، وإنما يجب على العالم أن يجيب إذا سئل عما يعلمه، وزاد بعضهم إذا لم يكن هناك عالم غيره وإلا كان له أن يحيل على غيره. وهذه القاعدة مسلمة عند أكثر المنتسبين إلى العلم اليوم وقبل اليوم بقرون، وقد ردها أهل العلم الصحيح فقالوا : إن القرآن الكريم لم يكتف بالوعيد على الكتمان، بل أمر ببيان هداه للناس، وبالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوعد من يترك هذه الفضيلة وذكر لهم العبر فيما حكاه عن الذين قصروا فيها من قبل كقوله تعالى :﴿ وإذ أخد الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ﴾ ( آل عمران : ١٨٧ ) الخ وقوله :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ﴾ إلى قوله في المتفرقين عن الحق ﴿ وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ ( آل عمران : ١٠٤، ١٠٥ ) وقوله :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى وابن مريم ﴾ إلى قوله في عصيانهم الذي هو سبب لعنتهم ﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ﴾ ( المائدة : ٧٨، ٧٩ ) الخ. فأخبر تعالى أنه لعن الأمة كلها لتركهم التناهي عن المنكر. نعم إن هذا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولكن لا يكفي في كل قطر واحد كما قال بعض الفقهاء، بل لا بد أن تقوم به أمة من الناس كما قال الله تعالى لتكون لهم قوة ولنهيهم وأمرهم تأثير. وسيأتي تفصيل هذا في تفسير ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ﴾ ( آل عمران : ١٠٤ ) الخ. أقول : ما ورد من تدافع علماء السلف في الفتوى فإنما هو في الوقائع العملية الاجتهادية التي تعرض للناس، لا في الدعوة إلى مقاصد الدين الثابتة بالنصوص وسياجها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وذهب بعض المؤولين مذهبا آخر هو أن هذا الوعيد مخصوص بالكافرين فترك المؤمن فريضة من الفرائض كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستحق به وعيد الكافرين فيلحقه بالكفار. وهذا كلام قد ألفته الأسماع، وأخذ بالتسليم واستعمل في الإفحام والإقناع، فإن الذي يسمعه على علاته يرى نفسه ملزما برمي تاركي الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر بالكفر، وذلك مخالف للقواعد التي وضعوها للعقائد فلا يستطيع أن يقول ذلك. ولكنه إذا عرض على الله في الآخرة وعلى كتابه في الدنيا يظهر أنه لا قيمة له، وإذا بحثت فيه يظهر لك أن الذي يرى حرمات لله تنتهك أما عينيه، ودين الله يداس جهارا بين يديه، ويرى البدع تمحو السنن، والضلال يغشى الهدى، ولا ينبض له عرق ولا ينفعل له وجدان، ولا يندفع لنصرته بيد ولا بلسان، هو هذا الذي إذا قيل له إن فلانا يريد أن يصادرك في شيء من رزقك ( كالجارية مثلا ) أو يحاول أن يتقدم عليك عند الأمر والحكام، تجيش في صدره المراجل، ويضطرب باله ويتألم قلبه، وربما تجافى جنبه مضجعه، وهجر الرقاد عينيه، ثم إنه يجد ويجتهد ويعمل الفكر في استنباط الحيل وإحكام التدبير لمدافعة ذلك الخصم أو الإيقاع به، فهل يكون لدين الله تعالى في نفسه مثل هذا قيمته ؟ وهل يصدق أن الإيمان قد تمكن من قلبه، والبرهان عليه قد حكم عقله، والإذعان إليه قد ثلج صدره ؟.
يسهل على من نظر في بعض كتب العقائد التي بنيت على أساس الجدل أن يجادل نفسه ويغشها بما يسليها به من الأماني التي يسميها الإيمان، ولكنه لو حاسبها فناقشها الحساب ورجع إلى عقله ووجدانه لعلم أنه اتخذ إلهه هواه، وأنه يعبد شهواته من دون الله، وأن صفات المؤمنين التي سردها الكتاب سردا، وأحصاها عدا، وأظهرها بدل المال والنفس في سبيل الله ونشر الدعوة وتأييد الحق كلها بريئة منه، وأن صفات المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كلهم راسخة فيه. فليحاسب امرؤ نفسه قبل أن يحاسب، وليتب إلى الله حلول الأجل لعله يتوب عليه وهو التواب الرحيم.
قال الأستاذ الأمام : وهو احتجاج ضعيف، فإن أهل مذاهبهم إذا كانوا لا يلعنون الأشخاص الذين يعرفونهم منهم، فهم إذا شرحت لهم أحوالهم في كفرهم وإصرارهم على غيهم، وإعراضهم عن سعادتهم، وحال الداعي إلى الحق معهم، وذكر لهم كيف يشاقونه ويعادونه، فهم يلعنونهم أو يرونهم محلا للعنة ومستحقين لأشد العقوبة، فإن المراد أن هؤلاء الكافرين المصرين على كفرهم إلى الموت هم أهل للعنة وموضوع لها من الله ومن عالم الملائكة الروحانيين، ومن الناس أجمعين، فإن الكافر من الناس إذا ذكر له الكفر وأهله وعنادهم واستكبارهم عن الحق لعنهم، ولكنه قد يخطئ في حمل صفات الكفر على أصحابها.
والنكتة في ذكر لعنة الملائكة والناس مع أن لعنة الله وحده كافية في خزيهم ونكالهم، هي بيان أن جميع من يعلم حالهم من العوالم العلوية والسفلية يراهم محلا للعنة الله ومقته، فلا يرجى أن يرأف بهم رائف، ولا أن يشفع لهم شافع، لأن اللعنة صبت عليهم باستحقاق عند جميع من يعقل ويعلم. ومن حرمه سوء سعيه من رحمة الرؤوف الرحيم فماذا يرجو من سواه ؟
.
نطقت الآيات السابقة بأن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ملعونون لا ترجى لهم رحمة الله تعالى إلا أن يتوبوا فأن هم ماتوا على كتمانهم وما يستلزمه كفرهم من الأعمال كانوا خالدين في اللعنة لا يخفف عنهم من عذابها شيء، إذ لا يقبل منهم افتداء، ولا تنفعهم شفاعة الشفعاء، ﴿ ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ﴾ ( غافر : ١٨ ) لأن اللعنة تعمهم في الآخرة من جميع الملائكة والناس بحيث يظهر للعوالم أنهم لا يستحقون الرحمة حتى أن المرؤوسين يتبرؤون من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم في الضلال ويتخذون كلامهم دينا دون كتاب الله كما سيأتي، فناسب بعد هذا أن يبين الله تعالى أن شارع الدين ومحق الحق هو واحد لا يعبد غيره، ولا تكتم هدايته، ولا يجعل كلام البشر معيارا على كلامه، وهو مفيض الرحمة والإحسان، إذ الرحمة من صفاته الكاملة اللازمة، ليتذكر أولئك الضالون الكاتمون لبينات الله، المؤثرون عليها آراء رؤسائهم وأئمتهم ثقة بهم، واعتمادا على شفاعتهم، أنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا، ويعلمون وجه خطأهم في كتمان الحق ومعاداة أهله عنادا من الرؤساء، وتقليدا من المرؤوسين. فقال :
﴿ وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ﴾ أي وإلهكم الحق الحقيق بالعبادة إله واحد لا إله مستحق لها إلا هو، فلا تشركوا به أحدا. والشرك به نوعان أحدهما : يتعلق بالألوهية والعبادة وهو أن يعتقد المرء أن في الخلق من يشاركه تعالى أو يعينه في أفعاله، أو يحمله على بعضها ويصده عن بعض بشفاعته عنده، لأجل قربه منه، كما يكون في بطانة الملوك المستبدين، وحواشيهم وحجابهم وأعوانهم، فهو يتوجه إلى هذا المؤثر عند الله بزعمه عندما يتوجه إليه تعالى في الدعاء فيدعوه معه، وقد يدعوه من دونه عند شدة الحاجة لكشف ضر أو جلب نفع أعيته أسبابهما، وهذا مخ العبادة وثانيهما : يتعلق بالربوبية وهو إسناد الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله بحجة أن من يؤخذ عنهم الدين من غير بيان الوحي أعلم بمراد الله فيترك الأخذ من الكتاب لرأيهم وقولهم، وهو المرد بقوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ ( التوبة : ٣١ ) كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وظاهر أن الواجب على العلماء بالدين أن يبينوا للناس ما أنزل الله ولا يكتموه لا أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه كما زاد أهل الكتب المنزلة كلهم عبادات وأحكاما كثيرة زائدة على الوحي أو مخالفة له يتأولونه لأجلها دون عكس، وإذا كان الله تعالى واحدا لا إله إلا هو فلا ينبغي أن يشرك معه غيره فهو كذلك ﴿ الرحمان الرحيم ﴾ أي الكامل الرحمة فلا ينبغي أن يعرض العبد عن أسباب رحمته اعتمادا على رحمة سواه ممن يظن أنهم مقربون عنده، فحسب المؤمن من رحمة الله التي وسعت كل شيء أن يستغني بالتصدي لها عن رجاء سواها وإلا كان من الخائبين.
قال الأستاذ الإمام : نبههم سبحانه وتعالى إلى أن المنافع التي يرقبونها من شركائهم إنما هي بيده الكريمة وحده، كأنه يقول إذا أنتم تركتم ما أنتم فيه لأجله تعالى فهو بتفرده بالألوهية يكفيكم كل ضرر تخافونه، ويعطيكم برحمته الواسعة كل ما ترجونه، فإن بيده ملكوت كل شيء، وكل ما تعتمدون عليه من دونه فليس محلا للاعتماد بل اعتمادكم عليه من قبيل الشرك فيجب أن تطرحوه جانبا، وتعتقدوا أن الإله الذي بيده أزمة المنافع والقادر على دفع المضار وإيقاعها هو واحد لا سلطان لأحد على إرادته، ولا مبدل لكلمته، ولا أوسع من رحمته، وإنما أكد أمر الوحدة هذا التأكيد تحذيرا من طرق الشرك الخفية على أنها أساس الدين وأصله. وقد فصلنا معاني التوحيد والشرك واسمي الرحمن والرحيم في تفسير الفاتحة.
أرأيت هذا الاتصال المحكم بين الآية وما قبلها ؟ إن بعض المفسرين قد قطع عراه وفصمها، وجعل الآية جوابا لقوم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك، قاله الجلال، قال الأستاذ الإمام : إن سبب النزول إنما يحتاج إليه في آيات الأحكام لأن معرفة الوقائع والحوادث التي نزل فيها الحكم تعين على فهمه وفقه حكمته وسره، ومثلها ما فيه إشارة إلى بعض الوقائع كغزوة بدر والنصر فيها ومصيبة المؤمنين في أحد، وأما الآيات المقررة للتوحيد وهو المقصود الأول من الدين فلا حاجة إلى التماس أسباب لنزولها بل هي لا تتوقف على انتظار السؤال، وإنما كان يبين عند كل مناسبة. وما عساه يكون قد قارن نزولها من حادثة أو سؤال مثل هذا الذي ذكر آنفا فهو إن صح رواية لا يزيدنا بيانا في فهم الآية، ولا يصح أن يجعل سببا لنزولها لاسيما بعد الذي علم من اتصالها بما قبلها كما يليق ببلاغة القرآن.
ومثل هذا السبب يجعل القرآن مبددا متفرقا لا ترتبط أجزاؤه، ولا تتصل أنحاؤه، ومثله ما قالوه في سبب الآية التي بعد هذه الآية، فإنما جاءت على سنة القرآن من وصل الدليل بالدعوى، ولكنهم رووا في سببها روايات منها أن الآية ﴿ وإلهكم إله واحد ﴾ نزلت بالمدينة ثم سمع بها مشركو مكة فقالوا ما قالوا وعجبوا كيف يسع الخلق إله واحد وطلبوا الدليل على ذلك، كأنهم لم يكونوا قد سمعوا عليه دليلا، وكأن هذه الدعوى لم تكن طرأت على أذهانهم ولا طرقت أبواب مسامعهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أقام فيهم يدعوهم إلى هذا التوحيد عشر سنين ونيفا، وسبق لهم التعجب منه ﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا ؟ إن هذا لشيء عجاب ﴾ ( ص : ٥ ) ومعظم ما نزل بمكة آيات وبراهين عليه، فكيف نسلم أن ما نراه في التنزيل المدني من آيتين متصلتين إحداهما في التوحيد والأخرى في دليله قد كان الفصل بينهما أن نزل الدليل بعد المدلول بزمن طويل وسبب متأخر ؟.
قال الأستاذ الإمام بعد بيان اتصال الآية بما قبلها وتقرير معناها : ومن هنا يظهر أنها لا يصح أن تكون جوابا للذين قالوا : انسب لنا ربك، أو : صف لنا ربك. لأن هذا السؤال إنما يصدر عمن لا يعرف شيئا من صفات هذا الرب العظيم أو ممن يبغي أن يعرف مقدرا علم المسؤول بهذه الصفات ويجب أن يكون جوابه بذكر جميع ما يجب اعتقاده من التنزيه والصفات الثبوتية، ولم يذكر في الآية إلا الوحدة والرحمة، وترك العلم والحكمة والإرادة والقدرة، وهي صفات لا تعقل الألوهية إلا بها، وسببه أن أولئك الكفار لم يكونوا يكتمون ولا يشركون مع الله أحدا فيها وإنما أشركوا في الألوهية بعبادة غير الله تعالى بالدعاء والنذور والقرابين ويستلزم هذا عدم اكتفائهم برحمته. وقال شيخنا في تعليله : إن الاكتفاء بذكر الوحدة والرحمة على الوجه الذي قررناه في تفسير الآية ظاهرة لا تطلب البلاغة غيره، لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته. وذكر الرحمة بعدها يرغبهم في التوبة ويحول دون يأسهم من فضل الله بعد إيئاسهم ممن اتخذوهم شفعاء ووسطاء عنده، فيطابق ذلك قوله تعالى في الآية التي ذكر فيها الكتمان ﴿ إلا الذين تابوا ﴾ الخ.
( الأول والثاني ) منها : خلق السموات والأرض ففيه آيات بينات كثيرة الأنواع يدهش المتأملين بعض ظواهرها فكيف حال من اطلع على ما اكتشف العلماء عن عجائبها، الدال على أن ما لم يعرفوه أعظم مما عرفوه منها.
تتألف هذه الأجرام السماوية من طوائف يبعد بعضها عن بعض بما يقدر بالملايين وألوف الملايين من سني سرعة النور، ولكل طائفة منها نظام كامل محكم ولا يبطل نظام بعضها نظام الآخر، لأن للمجموع نظام عام واحدا يدل على أنه صادر عن إله واحد لا شريك له في خلقه وتقديره، وحكمته وتدبيره، وأقرب تلك الطوائف إلينا ما يسمونه النظام الشمسي نسبة إلى شمسنا هذه التي تفضي أنوارها على أرضنا فتكون سببا للحياة النباتية والحيوانية فيها. والكواكب التابعة لهذه الشمس مختلفة في المقادير والأبعاد وقد استقر كل منها في مداره وحفظت النسبة بينه وبين الآخر بسنة إلهية منتظمة حكمية يعبرون عنها بالجاذبية العامة. ولولا هذا النظام لانفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم بذلك، فهذا النظام آية على الرحمة الإلهية، كما أنه آية على الوحدانية.
هذه هي السموات نشير إلى آياتها عن بعد ﴿ وفي الأرض آيات للموقنين ﴾ ( الذاريات : ٥١ ) في جرمها ومادتها وشكلها وعوالمها المختلفة من جماد ونبات وحيوان، فلكل منها نظام عجيب وسنن إلهية مطردة في تكوينها، وتوالد ما يتوالد من أحيائها، وغير ذلك حتى لو دققت النظر في أنواع الجمادات من الصخور المختلفة الأنواع، والجواهر المتعددة الخواص والألوان، لشاهدت من النظام فيها ومن أنواع المنافع في اختلافها وتنوعها ما تعلم به علم اليقين، أنها ترجع في ذلك إلى إبداع إله حكيم، رؤوف رحيم، لا شريك له في الخلق والتدبير. وأقول هنا إن الأستاذ الإمام ( كان ) يرى أن في الجماد حياة خاصة به دون الحياة النباتية. ولا أدري أقاله في تفسير هذه الآية أم لا ولكنني سمعته منه غير مرة، فهذان جنسان من آياته تعالى يشتملان أنواعا وأفرادا منها يتعذر إحصاؤها.
الجنس الثالث قوله :﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ وهو أن يجيء أحدهما فيذهب الأخر، ويطول هذا فيقصر ذلك، وكل ذلك بحسبان، مطرد في جميع الأقطار والبلدان ومثله اختلاف الفصول، باختلاف مواقع العرض والطول، وقد ذكر هذه الآية بعد خلق السموات والأرض لأن هذا الاختلاف هو أثر مقابلة الأرض للشمس وحركتها بإزائها، وتفصيل ذلك مشروح في محله من العلم الخاص بهذه المسائل. وفي المشاهد من اختلاف الليل والنهار والفصول وما للناس في ذلك من المنافع والمصالح آيات بينات على وحدة مبدع هذا النظام المطرد ورحمته بعباده يسهل على كل أحد أن يفهمها وإن لم يعرف أسباب ذلك الاختلاف وتقديره.
وفي القرآن بيان لذلك في مواضع كثيرة كقوله تعالى :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم لتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ﴾ ( الإسراء : ١٢ ) فهذه الآية تهدي إلى ما في اختلاف الليل والنهار من المنافع العامة وفي معناها آيات أخرى. قال تعالى :﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ﴾ ( الفرقان : ٦٢ ) وهذه هداية إلى المنافع الدينية. وهناك آيات تشير إلى أسباب هذا الاختلاف كقوله تعالى :﴿ يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ﴾ ( الزمر : ٥ ) وقوله :﴿ يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ﴾ ( الأعراف : ٥٤ ) وهاتان الآيتان تدلان على استدارة الأرض ودورانها حول الشمس كما بيناه في مواضع من المنار بالتفصيل وفي التفسير بالإجمال.
وصفوة القول في هذا المقام أن اختلاف الليل والنهار أثر من أثار النظام الشمسي وقلنا إن ذلك النظام يدل على وحدة واهبه ومقداره ونقول إن آثاره تدل على ذلك أيضا، وأما دلالتها على رحمته تعالى فظاهرة مما تقدم الاستشهاد به من الآيات آنفا.
الجنس الرابع قوله :﴿ والفلك التي تجري في البحر ﴾ الفلك ( بالضم ) اسم للسفينة ولجمعها كان الظاهر أن تأتي هذه الآية في آخر الآيات ليكون ما للإنسان فيه صنع على حدة وما ليس له فيه صنع على حدة. والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار هي أن المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، والمسافرون في البحر أحوج إلى معرفة الأوقات، وتحديد الجهات، لأن خطر الجهل عليهم أشد، وفائدة المعرفة لهم أعظم، ولذلك كان من ضروريات رباني السفن معرفة علم النجوم ( الهيأة الفلكية ) وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم قال تعالى :﴿ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ﴾ ( الأنعام : ٩٧ ) فهذا وجه الترتيب بين ذكر الفلك وما قبله.
وأما كون الفلك آية فلا يظهر بادي الرأي كما يظهر كونها رحمة من قوله ﴿ بما ينفع الناس ﴾ أي في أسفارهم وتجارتهم وما يعرف في هذا العصر بالمشاهدة والاختبار أكثر مما كان يعرف في العصور السالفة إذ كانت الفلك كلها شراعية فلم يكن البخار يسير أمثال هذه البواخر والبوارج العظيمة التي تحكي مدنا كبيرة فيها جميع المرافق التي يتمتع بها المترفون والملوك في البر من الأرائك والسرر والحمامات وغير ذلك١، أو قلاعا وحصونا فيها أقتل آلات الحرب. وكل ذلك من رحمة الإله الذي خلق هذه الأشياء وهدى إليها الإنسان، فلا بد لفهم كونها آية على وحدانيته من فهم طبيعة الماء وطبيعة قانون الثقل في الأجسام وطبيعة الهواء والريح وزد على ذلك معرفة طبيعة البخار والكهرباء التي هي العمدة في سير الفلك الكبرى في زماننا فكل ذلك يجري على سنن إلهية مطردة منتظمة تدل على أنها صادرة عن قوة واحدة هي مصدر الإبداع والنظام وهي قوة الإله الواحد الحكيم، الرحمن الرحيم.
الجنس الخامس قوله :﴿ وما أنزل الله من السماء من ماء ﴾ المراد بالسماء هنا جهة العلو أو السحاب لا ما قاله المخذولون الذين تجرؤوا على الكذب على الله ورسوله فزعموا أن بين السماء والأرض بحرا قالوا إنه موج مكفوف وإن المطر ينزل منه على قدر الحاجة في تفصيل اخترعوه ما أنزل الله به من سلطان، وتبعهم فيه أسرى النقل ولو خالف الحس والبرهان، ونزول المطر من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى نقل، ولا نظر عقل، وقد شرح كيفية تكوينه ونزوله العلماء الذين تكلموا في الكائنات، ووصفوا بالتدقيق الآيات المشاهدات، ولم يخرج شرحهم الطويل عن الكلمة الوجيزة في بعض الآيات التي ذكر فيها المطر وهي قوله :﴿ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ﴾ ( الروم : ٤٨ ) فحرارة الهواء هي التي تبخر المياه والرطوبات وتثير الرياح في الجو حتى تتكاثف ببرودتها وتكون كسفا من السحاب يتحلل منه الماء ويخرج من خلاله وينزل بثقله إلى الأرض وكثيرا ما شهدنا في جبال سورية كما يشاهد الناس في غيرها أن ينعقد السحاب في أثناء الجبل وينزل منه المطر والشمس طالعة فوقه حيث لا مطر، وقد يخترق الناس منطقة المطر إلى ما فوقها.
وقد وصف الله تعالى هذا الجنس من آياته بأعظم آثاره فقال :﴿ فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة ﴾ أي أوجد بسببه الحياة في الأرض الميتة بخلوها من صفات الأحياء كالنمو والتغذي والنتاج، وبث وفرق في أرجائها من جميع أنواع الأحياء التي تدب عليها وهي لا تعد ولا تحصى، فبالماء حدثت حياة الأرض بالنبات وبه استعدت لظهور أنواع الحيوان فيها. وهل المراد الإحياء الأول وما تلاه من توالد الحيوانات المعبر عنها بكل دابة أو هو ما يشاهده من آحاد الإحياء التي تتولد دائما في جميع بقاع الأرض ؟ الظاهر أن المراد أولا وبالذات الإحياء الأول المشار إليه بقوله تعالى في آية أخرى ﴿ أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾ ( الأنبياء : ٣٠ ) فهو يذكر جعل كل شيء حيا بالماء، في إثر ذكر رتقا أي مادة واحدة متصلا بعض أجزائها ببعض على كونه ذرات غازية كالدخان كما قال في آية التكوين ﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أوكرها ﴾ ( فصلت : ١١ ) ولما كان ذلك الفتق في الأجرام انفصل جرم الأرض عن جرم الشمس وصارت الأرض قطعة مستقلة مائرة ملتهبة وكانت مادة الماء وهي ما يسميه علماء التحليل والتركيب ( علم الكيمياء ) بالأكسجين والهيدروجين تتبخر من الأرض بما فيها من الحرارة فتلاقي في الجو برودة تجعلها ماء فينزل على الأرض كما وصفنا آنفا فيبرد من حرارتها، وما زال كذلك حتى صارت الأرض كلها ماء وتكونت بعد ذلك اليابسة فيه وخرج النبات والحيوان وكل شيء حي من الماء، فهذا هو الإحياء الأول.
وأما الإحياء المستمر المشاهد في كل بقاع الأرض دائما فهو المشار إليه بمثل قوله تعالى :﴿ وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ﴾ ( الحج : ٥ ) وذلك أننا نرى كل أرض لا ينزل فيها المطر ولا تجري فيها المياه من الأراضي الممطرة لا في ظاهرها ولا في باطنها خالية من النبات والحيوان إلا أن يدخلها من أرض مجاورة لها ثم تعود منها. فحياة الأحياء في الأرض إنما هي بالماء سواء في ذلك الإحياء الأول عند تكوين العوالم الحية وإيجاد أصول الأنواع، والإحياء المتجدد في أشخاص هذه الأنواع وجزئياتها التي تتولد وتنموا كل يوم.
وهذه المياه التي يتغذى بها النبات والحيوان على سطح هذه اليابسة كلها من المطر، ولا يستثنى من ذلك أرض مصر فيقال إن حياتها بماء النيل دون المطر فإن مياه الأنهار والعيون التي تنبع من الأرض كلها من المطر فهو يتخلل الأرض فيجتمع فيندفع. وقد امتن الله تعالى بذلك علينا وأرشدنا إلى آيته فيه بقوله :﴿ أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ﴾ ( الزمر : ٢١ ) فالبحيرات التي هي ينابيع النيل من ماء المطر والزيادة التي تكون فيه أيام الفيضان هي من المطر الذي يمد هذه الينابيع ويمد النهر نفسه في مجراه من بلاد السودان، وكثرة الفيضان وقلته تابعة لكثرة المطر السنوي وقلته هناك.
هذا هو الماء في كونه مطرا وفي كونه سببا للحياة وهو آية في كيفية وجوده وتكونه فإنه يجري في ذلك على سنة إلهية حكيمة تدل على الوحدة والرحمة، ثم إنه آية في تأثيره في العوالم الحية أيضا، فإن هذا النبات يسقى بماء واحد هو مصدر حياته، ثم هو مختلف في ألوانه وطعومه وروائحه، فتجد في الأرض الواحدة نبتة الحنطل مع نبتة البطيخ، متشابهتين في الصورة متضادتين في الطعم، وتجد النخلة وتمرها ما تذوق حلاوة ولذة، وتجد في جانبها شجرة الليمون الحامض والنارنج وثمرها ما تعرف حموضة وملوحة، وتجد بالقرب منها شجرة الورد لها من الرائحة ما ليس للنخلة وما يخالف في أريجه زهر النارنج، بل يوجد في الشجر ما له زهر ذكي الرائحة، فإذا قطعت الغصن الذي فيه هذا الزهر تنبعث منه رائحة خبيثة فتل
.
هذه الآيات مبينة لحال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامتها الآية السابقة على توحيد الله تعالى ورحمته، ولذلك جعلوا له أندادا يلتمسون منهم الخير والرحمة، ويدفعون ببركتهم البلاء والنقمة، ويأخذون عنهم الدين والشرعة. قال المفسرون : إن الند هو المماثل، وزاد بعض اللغويين فيه قيدا فقال : إنه المماثل الذي يعارض مثله ويقاومه. ويفهم من هذا أن متخذي الأنداد يزعمون أنهم مماثلون لله تعالى في قدرته وعلمه وسلطانه يعارضونه في الخلق ويقاومونه في التدبير، وهذا غير صحيح لأن القرآن قص علينا خبر متخذي الأنداد في آيات كثيرة صريحة في أنهم لا يعتقدون شيئا من هذا الذي يفهم أو يتوهم من عبارة المفسرين، بل يعتقدون غالبا أن الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، وأن الأنداد وسطا بينه وبين عباده يقربونهم إليه ويشفعون لهم عنده، ويقضون حاجاتهم بخوارق العادات أو يقضيها هو لأجلهم. ويحتجون لهذه العقيدة بأن المذنبين المقصرين لا يستطيعون الوصول إلى الله تعالى بأنفسهم، فلا بد لهم من واسطة بينهم وبينه تعالى، كما هو المعهود من الرعايا الضعفاء، مع الملوك والأمراء.
والوثنيون يقيسون الله تعالى على من يعظمونه من الرؤساء وعظماء الخلق، ولاسيما المستبدين منهم، الذين استعبدوا الناس استبعادا بل تعبدوهم فعبدوهم. فالآيات الناطقة بأنهم إذا سئلوا : من خلق كذا وكذا ؟ يقولون : الله ـ كثيرة وقال فيهم مع ذلك ﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ ( يونس : ١٨ ) وقال أيضا ﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ( الزمر : ٣ ) أي يقولون ما نعبدهم الخ.
والأنداد عند جمهور المفسرين أعم من الأصنام والأوثان، فيشمل الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس خضوعا دينيا، ويدل عليه الآيات الآتية ﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ﴾ الخ فالمراد إذا من الند من يطلب منه ما لا يطلب إلا من الله عز وجل، أو يؤخذ عنه ما لا يؤخذ إلا عن الله تعالى، وبيان الأول على ما قررناه مرارا أن الأسباب مسببات لا تعدوها بحكمة الله في نظام الخلق، وأن لله تعالى أفعالا خاصة به، فطلب المسببات من أسبابها ليس من اتخاذ الأنداد في شيء، وإن هناك أمورا تخفى علينا أسبابها، ويعمى علينا طريق طلابها، فيجب علينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ فيها إلى ذي القوة الغيبية ونطلبها من مسبب الأسباب لعله بعنايته ورحمته يهدينا إلى طريقها أو يبدلنا خيرا منها، ويجب مع هذا بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب حتى لا يبقى في الإمكان شيء مع اعتقادنا بأن الأسباب كلها من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا، إذ هو الذي جعلها طرقا للمقاصد، وهدانا إليها بما وهبنا من العقل والمشاعر.
لا يسمح الدين للناس بأن يتركوا الحرث والزرع ويدعوا الله تعالى أن يخرج لهم الحب من الأرض بغير عمل منهم أخذا بظاهر قوله ﴿ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ﴾ ( الواقعة : ٦٤ ) وإنما يهديهم إلى القيام بجميع الأعمال الممكنة لإنجاح الزراعة من الحرث والتسميد والبذور والسقي وغير ذلك، وأن يتكلوا على الله تعالى بعد ذلك فيما ليس بأيديهم ولم يهدهم لسببه بكسبهم كإنزال الأمطار، وإفاضة الأنهار، ودفع الحوائج، فإن استطاعوا شيئا من ذلك فعليهم أن يطلبوا بعملهم لا بألسنتهم وقلوبهم، مع شكر الله تعالى على هدايتهم إليه، وإقدارهم عليه.
كذلك يحظر الدين عليهم أن ينفروا إلى الحرب والمدافعة عن الملة والبلاد عزلا، أو حاملي سلاح دون سلاح العدو المعتدي عليهم اتكالا على الله تعالى واعتمادا على أن النصر بيده، بل يأمرهم بأن يعدوا للأعداء ما استطاعوا من قوة ويتكلوا بعد ذلك في الهجوم والإقدام، على عناية الله تعالى بتثبيت القلوب والأقدام، وغير ذلك من ضروب التوفيق والإلهام، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله. ومن التجأ إلى ما ليس بسبب من دون الله فهو مشرك بالله.
وهذا الذي يلجأ إليه من إنسان مكرم ـ كالأنبياء والصالحين، أو ملك من الملائكة المقربين، أو ما دون ذلك من مظاهر الخليقة، أو صنم أو تمثال جعل تذكار لشيء من هذه ـ يسمى ندا لله وشريكا له ووليا من دونه، وقد نطق القرآن بجميع هذه الأسماء التي سماها المشركون ولم ينزل الله بها من سلطان.
قال الأستاذ الإمام : قسم المفسرون الأنداد إلى قسمين : قسم يعمل بالاستقلال أي يقضي حاجة من يلجأ إليه بنفسه، وقسم يشفع عند الله تعالى ويتوسط لصاحب الحاجة فتقضى، وإنما كان الشفيع ندا لأنه يستنزل من يشفع عنده عن رأيه ويحول من إرادته، وتحويل الإرادة لا بد أن يكون مسبوقا بتغيير العلم بالمصلحة والحكمة إذ الإرادة تابعة دائما، وهذا هو المعروف من معنى الشفاعة عند السلاطين والحكام وهو محال على الله تعالى. وأقل تغيير في علم المشفوع عنده هو أن يعلم أن الشفيع يهمه أمر من يشفع له ويتمنى لو تقضى حاجته ( وسترى بيان هذا ودليله في تفسير آية الكرسي ).
ولا يرغب عن الأسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب أو طالبا ما هو أعجل منه، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى له أو لأحد أقاربه أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية الخارجة عن الأسباب طلبا للتعجيل بالشفاء، ومثله سائر أصحاب الحاجات الذين يلجؤون إلى من اتخذوهم أولياء ليكفوهم عناء اتخاذ الأسباب ( وذكر منه طلاب خدمة الحكومة ).
وأما القسم الآخر من الأنداد فهو من يتبع في الدين من غير أن يكون مبينا للناس ما جاء عن الله تعالى ورسوله، فيعمل بقوله وإن لم يعرف دليله ويتخذ رأيه دينا واجب الإتباع وإن ظهر أنه مخالف لما جاء عن الله ورسوله، اعتمادا على أنه أعلم بالوحي ممن قلدوه دينهم وأوسع منهم فهما فيما نزل الله، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ ( التوبة : ٣١ ) كما ورد في التفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
قد عظمت فتنة متخذي الأنداد بهم حتى كان حبهم إياهم من نوع حبهم لله عز وجل ولذلك قال :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ﴾ أي يجعلون من بعض خلق الله نظراء فيما هو خاص به يحبونهم كحبه. ذلك أن الحب ضروب شتى تختلف باختلاف أسبابها وعللها، وكلها ترجع إلى الأنس بالمحبوب أو الركون والالتجاء إليه عند الحاجة، فقد يحب الإنسان شخصا لأنه يأنس به ويرتاح إلى لقائه لمشاكلة بينهما، ولا مشاكلة بين الله تعالى وبين الناس فيظهر فيهم هذا النوع من الحب. ومن أسباب الحب اعتقاد المحب أن في المحبوب قدرة فوق قدرته، ونفوذا يعلو نفوذه، مع ثقته بأنه يهتم لأمره ويعطف عليه، بحيث يمكنه اللجوء إليه عند الحاجة فيستعين به على ما لا سبيل له إليه بدونه. فهذا الاعتقاد يحدث انجذابا من المعتقد يصحبه شعور خفي بأن له قوة عالية مستمدة ممن يحب، ويعظم هذا النوع من الحب بمقدار ما يعتقد في المحبوب من الصفات والمزايا التي بها كان مصدر المنافع وركن اللاجئ، وكل ما للمخلوق من ذلك هو داخل في دائرة الأسباب والمسببات والأعمال الكسبية.
وأما قوة الخالق وقدرته وما يعتقده المؤمنون فيه من الرحمة الشاملة، والصفات الكاملة، والمشيئة النافذة، والتصرف المطلق في تسخير الأسباب والمسببات، والسلطان المطاع في الأرض والسموات، فذلك مما يجعل حبه تعالى أعلى من كل ما يحب للرجاء فيه وانتظار الاستفادة منه ولغير ذلك. وهذا الحب لا ينبغي أن يكون لغير الله تعالى إذ لا يلجأ إلى غيره في كل شيء كما يلجأ إليه. ولكن متخذي الأنداد قد أشركوا أندادهم معه في هذا الحب، فحبهم إياهم من نوع حبهم إياه جل ثناؤه : لا يخصونه بنوع من الحب إذا لا يرجون منه شيئا إلا وقد جعلوه لأندادهم مثله أو ضربا من التوسط الغيبي فيه، فهم كفار مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحد، ولذلك قال تعالى بعد بيان شركهم هذا ﴿ والذين آمنوا أشد حبا لله ﴾ من كل ما سواه، لأن حبهم له خاص به سبحانه لا يشركون فيه غيره، فحبهم ثابت كامل لأن متعلقه هو الكمال المطلق الذي يستمد منه كل كمال.
وأما متخذو الأنداد فإن حبهم متوزع متزعزع لا ثبات له ولا استقرار. للمؤمن محبوب واحد يعتقد أن منه كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، وله القدرة والسلطان، على جميع الأكوان، فما ناله من خير كسبي فهو بتوفيقه وهدايته وما جاءه بغير حساب فهو بتسخيره وعنايته، وما توجه إليه من أمر فتعذر عليه، فهو يكله إليه، ويعول فيه عليه. وللمشركين أنداد متعددون، وأرباب متفرقون، فإذا حزبه أمر، أو نزل به ضر، لجأ إلى بشر أو صخر، أو توسل بحيوان أو قبر، أو استشفع بزيد وعمرو، لا يدري أيهم يسمع ويسمع، ويشفع فيشفع، فهو دائما مبلبل البال، لا يستقر من القلق على حال.
هذا هو حب المشركين للقسم الأول من الأنداد، ومن الحب نوع سببه الإحسان السابق، كما أن سبب الأول الرجاء بالإحسان اللاحق، ومن الإحسان ما يتمتع به ساعة أو يوما أو أياما متاعا قليلا أو كثيرا، ومنه ما تكون به سعيدا في حياتك كلها كالتربية الصحيحة والتعليم النافع، والإرشاد إلى ما خفي من المنافع، وكل هذا مما يكون من الناس بكسبهم. وليس في طاقة البشر أن يحسن بعضهم إلى بعض بإحسان إذا قبله المحسن إليه وعمل به يكون سعيدا في الدنيا والآخرة بحيث تكون سعادته به غير متناهية، وهذا الإحسان الذي يعجز عنه البشر هو هداية الدين التي تعلم الناس العقائد الصحيحة التي ترتقي بها العقول وتخرج بها من ظلمات الوثنية، والتعاليم التي تتهذب بها النفوس وتتزكى من الصفات البهيمية وقوانين العبادة التي تغذي العقائد والأخلاق، حتى لا يعتريها كسوف ولا محاق.
فالدين وضع إلهي يحسن الله تعالى به إلى البشر على لسان واحد منهم لا كسب له فيه ولا صنع، ولا يصل إليه بتلق ولا تعلم ﴿ إن هو إلا وحي يوحى ﴾ ( النجم : ٤ ) فيجب أن يحب صاحب هذا الإحسان سبحانه وتعالى حبا لا يشرك به معه أحد، ولكن متخذي الأنداد بالمعنى الثاني في كلامنا قد أشركوا أندادهم مع الله تعالى في هذا الحب إذ جعلوا لهم شركة في هذا الإحسان بسوء التأويل كما تقدم، فكما يأخذون بآرائهم على أنها دين من غير أن يعلموا من أين أخذوها وإن لم يأمرهم بذلك بل وإن نهوهم عنه يتمسكون كذلك بتأويلهم لما أنزل الله كأن التأويل أنزل معه بدون استعمال العقل ودلالة اللغة وبقية نصوص الدين للعلم بصحته وانطباقه على الحق.
وأما المؤمنون حقا فإنهم يوحدون الله تعالى ويخصونه بهذا الحب كما يوحدونه بالتشريع بمعنى أنهم لا يأخذون الدين إلا عن الوحي، ولا يفهمون إلا بقرائن ما جاء به الوحي، وإنما الأئمة والعلماء ناقلون للنصوص ومبينون لها، بل قال الله تعالى للنبي نفسه ﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ﴾ ( النحل : ٤٤ ) فهؤلاء المؤمنون يسترشدون بنقلهم وبيانهم، ولكنهم لا يقلدون في عقائدهم ولا عبادتهم، ولا يأخذون بآرائهم في الدين الذي هو عبارة عن سير الأرواح من عالم إلى عالم، بل يجزون كل عقبة ويدرسون كل رئاسة في سبيل الله تعالى ومحبته وابتغاء رضوانه، فهم متعلقون بالله ومخلصون له ﴿ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما هم فيه يختلفون ﴾ ( الزمر : ٣ )
﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ﴾ ( التوبة : ٣١ ) ﴿ إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ﴾ ( يوسف : ٤٠ ) فالمؤمنون هم المخلصون لله في دينهم الذين لا يأخذون أحكامه إلا عن وحيه، وأما متخذو الأنداد ومحبوهم بهذا المعنى فهم الذين ورد في بعضهم ﴿ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ﴾ ( النور : ٤٨ ) فهم لا يقبلون حكم الله في كتابه ولكن إذا دعوا ليحكم بينهم بآراء رؤسائهم أقبلوا مذعنين.
بعد هذا ذكر الله وعيد متخذي الأنداد على سنة القرآن فقال ﴿ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ﴾.
قرأ ابن عامر ونافع ويعقوب ﴿ ولو ترى ﴾ بالتاء على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لرأيت أمرا عظيما وخطبا فضيعا وقرأها الباقون بالياء. وقرأ يعقوب ﴿ إن ﴾ في الموضعين بالكسر على الاستئناف أو على إضمار القول أي لو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك، وظلموا الناس بما غشوهم به من أقوالهم وأفعالهم فحملوهم على أن يتلوهم، ويتخذوا الأنداد مثلهم، حين يرون العذاب في الآخرة فتتقطع بهم الأسباب، ولا تغني عنهم الأنداد والأرباب، إن القوة لله جميعا يظهر تصرفها المطلق في كل موجود، ويتمثل لهم سلطانها تمثل المشهود، فلا تحجبهم عنها أسباب ظاهرة، ولا تخدعهم عنها قوى تتوهم كامنة، لعلموا أن هذه القوة التي تدير عالم الآخرة هي عين القوة التي كانت تدير عالم الدنيا، وأنها قوة واحد لا تأثير لغيرها فيها ولا في شيء من العالم بدونها، وأنهم كانوا ضالين في الملجأ إلى سواها، وإشراك غيرها معها، وأن هذا الضلال هبط بعقولهم وأرواحهم، وكان منشأ عقابهم وعذابهم، ولو رأوا مع هذا أن الله شديد العذاب لرأوا أمرا هائلا عظيما يندمون معه حيث لا ينفع الندم.
وأمثال هذا الوعيد على من يشوب إيمانه بأدنى شائبة من الشرك كثيرة في القرآن ثم هي تترك كلها ويترك معها ما يؤيده من السنة الصحيحة وسيرة السلف الصالحين، والأئمة المجتهدين، ويؤِخذ بالشرك الصريح عملا بأقوال أناس من الميتين منهم من لا يعرف مطلقا، وإنما سمي وليا عملا ببعض الرؤى والأحلام أو لاختراع بعض الطغام١، ومنهم من يعرف في الجملة ولكن لا يعرف له تاريخ يوثق به، ولا رواية يصح الاعتماد عليها. وإنما قدم الخلف الطالح كلام هؤلاء على كلام الله ورسوله وكلام أئمة السلف لأن العامة اعتقدت صلاحهم وولايتهم، والعامة قوة تخضع لها الخاصة في أكثر الأزمان.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن الرؤية فيها علمية على قول الجلال. وقال الأستاذ الإمام : إنها بصرية وإنما سلطت على المعقول لإنزاله منزلة المحسوس، كأنه قال : لو يتمثل لهم الأمر ويتشخص لرأوا أمرا هائلا عظميا لا يتصور نظيره وهو مجاز لا لطف منه ولا إبداع، ويجوز أن يراد بالعذاب مظاهره فتكون مسلطة على محسوس. وقراءة ﴿ ولو ترى ﴾ أي رأيت حال هؤلاء الظالمين ويومئذ لرأيت كذا وكذا وحذف جواب ﴿ لو ﴾ معهود في كلام العرب وفي كلام الناس اليوم وذلك عند قيام القرينة على مراد المتكلم ولو إجمالا. يقولون في شخص تغير حاله وانتقل إلى طور أعلى أو أدنى : لو رأيت فلانا اليوم ويسكتون والمراد معلوم والإجمال فيه مقصود، لتذهب النفس في تصويره كل مذهب، ويخترع له الخيال ما يمكن من الصور، و ( لو ) على كل حال هي التي لمجرد الشرط لا يراعى فيها امتناع لامتناع.
قال الأستاذ الإمام بعد تفسير اتخاذ الأنداد ومحبتهم على نحو ما تقدم وبيان أن المراد بالمحبة ما يجده المحب في نفسه من الأنس بالمحبوب والثقة به والاعتماد عليه واللجأ إليه على اختلاف أطوار الإنسان في وجدانه واعتقاده : إننا قد شرطنا في ابتداء قراءة التفسير أن نتكلم عن معنى القرآن من حيث هو دين جاء مكملا للأرواح وسائقا لها إلى سعادتها في طورها الدنيوي وطورها الأخروي. ولا يتم لنا هذا إلا بالاعتبار وهو أن ننظر في الحسن الذي يمدحه الله تعالى ويأمر به ونرجع إلى أنفسنا لنرى هل نحن متصفون به ؟ وننظر في القبيح الذي يذمه وينهي عنه كذلك، ثم نجتهد في تزكية أنفسنا من القبيح وتحليتها بالحسن. وههنا يجب علينا أن نبحث وننظر هل اتخذ المسلمون أندادا كما اتخذ الذين من قبلهم أندادا أم لا ؟ فإن هذا أهم ما يبحث فيه قارئ القرآن. ثم قال ما مثاله :
اشتبه على بعض الباحثين السبب في سقوط المسلمين في الجهل العميم إلا أفرادا في بعض شعوبهم لا يكاد يظهر لهم أثر وبحثوا في تاريخ الإسلام وما حدث فيه فكان له الأثر العظيم في الانقلاب، وكان من أهم المسائل التي عرضت لهم في ذلك مسألة التصوف، وظنوا أن التصوف من أعظم الأسباب لسقوط المسلمين في الجهل بدينهم وبعدهم عن التوحيد الذي هو أساس عقائدهم. وليس الأمر عندنا كما ظنوا، وليس من غرضنا هنا ذكر تاريخه وبيان أحكامه وطرقه، وإنما نذكر الغرض منه بالإجمال، وما كان له بعد ذلك من الآثار.
ظهر التصوف في القرون الأولى الإسلام فكان له شأن كبير وكان الغرض منه في أول الأمر تهذيب الأخلاق وترويض النفس بأعمال الدين. وجذبها إليه وجعله وجدانا لها، وتعريفها بأسراره وحكمه بالتدريج. ابتلي الصوفية في أول أمرهم بالفقهاء الذين جمدوا على ظواهر الأحكام المتعلقة بالجوارح والتعامل، فكان هؤلاء ينكرون عليهم معرفة أسرار الدين ويرمونهم بالكفر، وكانت الدولة والسلطة للفقهاء لحاجة الأمراء والسلاطين إليهم، فاضطر الصوفية إلى إخفاء أمرهم، ووضع الرموز والاصطلاحات الخاصة بهم، وعدم قبول أحد معهم إلا بشروط واختبار طويل، فقالوا لا بد فيمن يكون منا أن يكون أولا طالبا فمريدا فسالكا، وبعد السلوك إما أن يصل وإما أن يقطع، فكانوا يختبرون أخلاق الطالب وأطوارها زمنا طويلا ليعلموا أنه صحيح الإرادة صادق العزيمة لا يقصد مجرد الاطلاع على حالهم، والوقوف على أسرارهم، وب
.
هذه الآيات مبينة لحال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامتها الآية السابقة على توحيد الله تعالى ورحمته، ولذلك جعلوا له أندادا يلتمسون منهم الخير والرحمة، ويدفعون ببركتهم البلاء والنقمة، ويأخذون عنهم الدين والشرعة. قال المفسرون : إن الند هو المماثل، وزاد بعض اللغويين فيه قيدا فقال : إنه المماثل الذي يعارض مثله ويقاومه. ويفهم من هذا أن متخذي الأنداد يزعمون أنهم مماثلون لله تعالى في قدرته وعلمه وسلطانه يعارضونه في الخلق ويقاومونه في التدبير، وهذا غير صحيح لأن القرآن قص علينا خبر متخذي الأنداد في آيات كثيرة صريحة في أنهم لا يعتقدون شيئا من هذا الذي يفهم أو يتوهم من عبارة المفسرين، بل يعتقدون غالبا أن الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، وأن الأنداد وسطا بينه وبين عباده يقربونهم إليه ويشفعون لهم عنده، ويقضون حاجاتهم بخوارق العادات أو يقضيها هو لأجلهم. ويحتجون لهذه العقيدة بأن المذنبين المقصرين لا يستطيعون الوصول إلى الله تعالى بأنفسهم، فلا بد لهم من واسطة بينهم وبينه تعالى، كما هو المعهود من الرعايا الضعفاء، مع الملوك والأمراء.
والوثنيون يقيسون الله تعالى على من يعظمونه من الرؤساء وعظماء الخلق، ولاسيما المستبدين منهم، الذين استعبدوا الناس استبعادا بل تعبدوهم فعبدوهم. فالآيات الناطقة بأنهم إذا سئلوا : من خلق كذا وكذا ؟ يقولون : الله ـ كثيرة وقال فيهم مع ذلك ﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ ( يونس : ١٨ ) وقال أيضا ﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ( الزمر : ٣ ) أي يقولون ما نعبدهم الخ.
والأنداد عند جمهور المفسرين أعم من الأصنام والأوثان، فيشمل الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس خضوعا دينيا، ويدل عليه الآيات الآتية ﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ﴾ الخ فالمراد إذا من الند من يطلب منه ما لا يطلب إلا من الله عز وجل، أو يؤخذ عنه ما لا يؤخذ إلا عن الله تعالى، وبيان الأول على ما قررناه مرارا أن الأسباب مسببات لا تعدوها بحكمة الله في نظام الخلق، وأن لله تعالى أفعالا خاصة به، فطلب المسببات من أسبابها ليس من اتخاذ الأنداد في شيء، وإن هناك أمورا تخفى علينا أسبابها، ويعمى علينا طريق طلابها، فيجب علينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ فيها إلى ذي القوة الغيبية ونطلبها من مسبب الأسباب لعله بعنايته ورحمته يهدينا إلى طريقها أو يبدلنا خيرا منها، ويجب مع هذا بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب حتى لا يبقى في الإمكان شيء مع اعتقادنا بأن الأسباب كلها من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا، إذ هو الذي جعلها طرقا للمقاصد، وهدانا إليها بما وهبنا من العقل والمشاعر.
لا يسمح الدين للناس بأن يتركوا الحرث والزرع ويدعوا الله تعالى أن يخرج لهم الحب من الأرض بغير عمل منهم أخذا بظاهر قوله ﴿ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ﴾ ( الواقعة : ٦٤ ) وإنما يهديهم إلى القيام بجميع الأعمال الممكنة لإنجاح الزراعة من الحرث والتسميد والبذور والسقي وغير ذلك، وأن يتكلوا على الله تعالى بعد ذلك فيما ليس بأيديهم ولم يهدهم لسببه بكسبهم كإنزال الأمطار، وإفاضة الأنهار، ودفع الحوائج، فإن استطاعوا شيئا من ذلك فعليهم أن يطلبوا بعملهم لا بألسنتهم وقلوبهم، مع شكر الله تعالى على هدايتهم إليه، وإقدارهم عليه.
كذلك يحظر الدين عليهم أن ينفروا إلى الحرب والمدافعة عن الملة والبلاد عزلا، أو حاملي سلاح دون سلاح العدو المعتدي عليهم اتكالا على الله تعالى واعتمادا على أن النصر بيده، بل يأمرهم بأن يعدوا للأعداء ما استطاعوا من قوة ويتكلوا بعد ذلك في الهجوم والإقدام، على عناية الله تعالى بتثبيت القلوب والأقدام، وغير ذلك من ضروب التوفيق والإلهام، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله. ومن التجأ إلى ما ليس بسبب من دون الله فهو مشرك بالله.
وهذا الذي يلجأ إليه من إنسان مكرم ـ كالأنبياء والصالحين، أو ملك من الملائكة المقربين، أو ما دون ذلك من مظاهر الخليقة، أو صنم أو تمثال جعل تذكار لشيء من هذه ـ يسمى ندا لله وشريكا له ووليا من دونه، وقد نطق القرآن بجميع هذه الأسماء التي سماها المشركون ولم ينزل الله بها من سلطان.
قال الأستاذ الإمام : قسم المفسرون الأنداد إلى قسمين : قسم يعمل بالاستقلال أي يقضي حاجة من يلجأ إليه بنفسه، وقسم يشفع عند الله تعالى ويتوسط لصاحب الحاجة فتقضى، وإنما كان الشفيع ندا لأنه يستنزل من يشفع عنده عن رأيه ويحول من إرادته، وتحويل الإرادة لا بد أن يكون مسبوقا بتغيير العلم بالمصلحة والحكمة إذ الإرادة تابعة دائما، وهذا هو المعروف من معنى الشفاعة عند السلاطين والحكام وهو محال على الله تعالى. وأقل تغيير في علم المشفوع عنده هو أن يعلم أن الشفيع يهمه أمر من يشفع له ويتمنى لو تقضى حاجته ( وسترى بيان هذا ودليله في تفسير آية الكرسي ).
ولا يرغب عن الأسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب أو طالبا ما هو أعجل منه، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى له أو لأحد أقاربه أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية الخارجة عن الأسباب طلبا للتعجيل بالشفاء، ومثله سائر أصحاب الحاجات الذين يلجؤون إلى من اتخذوهم أولياء ليكفوهم عناء اتخاذ الأسباب ( وذكر منه طلاب خدمة الحكومة ).
وأما القسم الآخر من الأنداد فهو من يتبع في الدين من غير أن يكون مبينا للناس ما جاء عن الله تعالى ورسوله، فيعمل بقوله وإن لم يعرف دليله ويتخذ رأيه دينا واجب الإتباع وإن ظهر أنه مخالف لما جاء عن الله ورسوله، اعتمادا على أنه أعلم بالوحي ممن قلدوه دينهم وأوسع منهم فهما فيما نزل الله، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ ( التوبة : ٣١ ) كما ورد في التفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
كلا إن هؤلاء المتبوعين والتابعين بعضهم فتنة لبعض وسيتبرأ بعضهم من بعض كما أخبرنا تعالى في قوله :﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ﴾ التبرؤ المبالغة في البراءة وهي التفصي ممن يكره قربه وجواره تنزها عنه. و ﴿ إذا ﴾ ظرف متعلق ب ﴿ يرون العذاب ﴾ في الآية السابقة، والكلام متصل لاحقه بسباقه في موضوع اتخاذ الأنداد. وقد نطقت الآية السابقة أن عذاب الله تعالى سيحل بمتخذي الأنداد من دونه، وهو عام في التابع في الاتخاذ والمتبوع فيه، وفي الاتباع المذموم من التشريع بالرأي والهوى والتقليد فيه وغير ذلك من الضلال. وبين في هاتين الآيتين تفصيل حال التابعين والمتبوعين في ذلك، وأورده بصيغة الماضي تمثيلا لحال الفريقين في ذلك اليوم الذي ينكشف فيه الغطاء ويرى الناس فيه العذاب بأعينهم، ويعرفون أسبابه من تأثير العقائد الباطلة والأعمال السيئة في أنفسهم، كأن الأمر قد وقع، والبلاء قد نزل، ورأى الرؤساء المضلون الذين اتبعوا أن إغواءهم للناس الذين اتبعوا رأيهم، وقلدوهم دينهم، قد ضاعف عذابهم، وحملهم مثل أوزار الذين أضلوهم فوق أوزارهم، فتبرؤا منهم، وتنصلوا من ضلالتهم.
﴿ ورأوا العذاب ﴾ أي والحال أنهم قد رأوا العذاب الذي هو جزاؤهم ماثلا لهم يوم الحساب فأنى ينفعهم التبرؤ ﴿ وتقطعت بهم الأسباب ﴾ أي الروابط التي كانت بينهم وبين التابعين وإنما كان ينفعهم في الدنيا لو أنهم آثروا به الحق على الرياسة والجاه والمنافع التي يستفيدها الرئيس باستهواء المرؤوس وإخضاعه له وحمله على اتباعه، أما وقد صدر عن نفوس ترتعد من رؤية العذاب الذي أشرفت عليه بما جنت واقترفت، بعدما تقطعت الروابط والصلات بينها وبين المتبوعين واصطلمت١، فلا منفعة للمتبرئ تركت فيحمد تركها، ولا هداية للمتبرأ منه ترجى فيحمد أثرها، والأسباب جمع سبب وهو في أصل اللغة الحبل الذي يصعد به النخل وأمثاله من الشجر ثم غلب في كل ما يتوصل به إلى مقصد من المقاصد المعنوية.
لولا أن حيل بين المقلدين وهداية القرآن لكان لهم في هذه الآية أشد زلزال لجمودهم على أقوال الناس وآرائهم في الدين، سواء كانوا من الأحياء أم الميتين، وسواء كان التقليد في العقائد والعبادات أم في أحكام الحلال والحرام، إذ كان هذا مما يؤخذ عن الله ورسوله ليس لأحد فيه رأي ولا قول، إلا ما كان من الأحكام متعلقا بالقضاء وما يتنازع فيه الناس فلأولي الأمر فيه الاجتهاد بشرطه إقامة للعدل، وحفظا للمصالح العامة والخاصة. وإنما العلماء نقلة وأدلاء لا أنداد ولا أنبياء، فلا عصمة تحوط أحدهم فيعتمد على فهمه، وقصارى العدالة أن يوثق بنقله، ويستعان بعلمه، وما تنازعوا فيه يرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، فهناك القول الفصل والحكم العدل والله يحكم لا معقب لحكمه، ولا مرد لأمره.
في مثل هؤلاء المتبوعين والتابعين نزل قوله تعالى في سورة الأعراف :﴿ كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذ أداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار، قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون * وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون * ﴾ ( الأعراف : ٣٨، ٣٩ ) فكل يؤاخذ بعمله، فإذا حمل الأول الآخر على رأيه ودعاه إلى إتباعه فيه أو في رأي غيره الذي يقلده هو فهو من الأئمة المضلين، وعليه إثمه ومثل إثم من أضلهم من غير أن ينقص من إثمهم شيء، إذ حرم الله عليهم اتخاذ الأنداد من دون الله فاتخذوهم.
وأما من يبدي في الدين فهما، ويقرر بحسب ما ظهر له من الدليل حكما، يريد أن يفتح به للناس أبواب الفقه، ويسهل لهم طريق العلم، ثم هو يأمر الناس بأن يعرضوا قوله على كتاب الله وسنة رسوله، وينهاهم أن يأخذوا به إلا أن يقتنعوا بدليله، فهو من أئمة الهدى، وأعلام التقى، وليس يضره أن يقلد فيه بغير علمه، ويجعل ندا لله من بعد موته، فإنه إذا كان مخطئا وجاء ذلك المقلد له على غير بصيرة يوم القيامة ينسب ضلاله إليه، فإنه يتبرأ منه بحق ويقول ما أمرتك أن تأخذ بقولي على علاته ولا أعرفك. فالذين يتخذون أندادا يتبرؤون كلهم يوم القيامة ممن اتخذوهم، ولكنهم يكونون على قسمين : قسم عبدهم الناس كالمسيح وبعض أولي العلم والتقوى من هذه الأمة ومن الأمم قبلها أو قلدوهم في الدين من غير دليل شرعي كبعض الأئمة المهتدين من غير أن يأمرهم هؤلاء بعبادتهم أو تقليدهم، بل مع نهيهم إياهم عن عبادة غير الله تعالى وعن الاعتماد على غير وحيه في الدين فهذا القسم غير مراد هنا لأن الذين عبدوا أولئك الأخيار أو قلدوهم دينهم لم يتبعوهم في الحقيقة، إذ اتباعهم في اتباع طريقتهم في الدين وما كانوا يشركون بالله أحدا ولا شيئا، ولا يقلدون في دينه أحدا وإنما كانوا يأخذون دينه عن وحيه فقط وقسم أضلوا الناس بأحوالهم وأقوالهم فاتبعوهم على غير بصيرة ولا هدى فهؤلاء هم الذين يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضا، إذ تتقطع بهم أسباب الأهواء والمنافع الدنيوية التي تربط هنا بعضهم ببعض.
ليس هذا الذي يتوهمه الجاهلون من مراد المفسرين، فما بين الله تعالى ضروب الشرك وصفات الكافرين وأحوالهم إلا عبرة لمن يؤمن بكتابه حتى لا يقع فيما وقعوا فيه فيكون من الهالكين، ولكن رؤساء التقليد حالوا بين المسلمين وبين كتاب ربهم، بزعمهم أن المستعدين للاهتداء به قد انقرضوا ولا يمكن أن يخلفهم الزمان لما يشترط فيهم من الصفات والنعوت التي لا تتيسر لغيرهم، كمعرفة كذا وكذا من الفنون الصناعية والإحاطة بخلاف العلماء في الأحكام. والذي يعرفه كل واقف على تاريخ الصدر الأول من المسلمين هو أن أهل القرنين الأول والثاني لم يكونوا يقلدون أحدا، أي لم يكونوا يأخذون بآراء الناس وأقوال العلماء، بل كان العامي منهم على بينة من دينه يعرف من أين جاءت كل مسألة يعمل بها من مسائله، إذ كان علماء الصدر الأول رضي الله تعالى عنهم يلقنون الناس الدين ببيان كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكان الجاهل بالشيء يسأل عن حكم الله فيه فيجاب بأن الله تعالى قال كذا أوجرت سنة نبيه على كذا، فإن لم يكن عند المسؤولين فيه هدى من كتاب أو سنة ذكر ما جرى عليه الصالحون وما يراه أشبه بما جاء في الهدى من كتاب أو سنة ذكر ما جرى عليه الصالحون وما يراه أشبه بما جاء في هذا الهدي أو أحال على غيره.
ولما تصدى بعض العلماء في القرن الثاني والثالث لاستنباط الأحكام واستخراج الفروع من أصولها ـ ومنهم الأئمة الأربعة ـ كانوا يذكرون الحكم بدليله على هذا النمط. فهم متفقون مع الصحابة والتابعين ( عليهم الرضوان ) على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد في الدين ما لم يعرف دليله ويقتنع به. ثم جاء من العلماء المقلدين في القرون الوسطى من جعل قول المفتي للعامي بمنزلة الدليل مع قولهم بأنه لو بلغه الحديث فعمل به كان كذلك أو أولى. ثم خلف خلف أعرق منهم في التقليد فمنعوا كل الناس أخذ أي حكم من الكتاب أو السنة، وعدوا من يحاول فهمهما والعمل بهما زائغا. وهذا غاية الخذلان وعداوة الدين، وقد تبعهم الناس في ذلك فكانوا لهم أندادا من دون الله، وسيتبرأ بعضهم من بعض كما أخبر الله.
قال الأستاذ الإمام في الدرس : إنه نقل عن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم النهي عن الأخذ بقولهم من غير معرفة دليلهم، والأمر بترك أقوالهم لكتاب الله أو سنة رسوله إذا ظهرت مخالفة لهما أو لأحدهما اهـ. وقد سبق لنا في المنار إيراد كثير من هذه النصوص عنهم معزوة إلى كتبها ورواتها. ومن ذلك قول الفقيه الحنفي أبي الليث السمرقندي : حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة أنه قال : لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه. وروي عن عصام بن يوسف أنه قيل له : إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة. فقال إن أبا حنيفة قد أوتي ما لم نؤت فأدرك فهمه ما لم ندركه، ونحن لم نؤت من الفهم إلا ما أوتينا، ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم من أين قال. وروي عن عصام بن يوسف أنه قال : كنت في مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة : زفر بن الهزيل وأبو يوسف وعافية بن يزيد وآخر فكلهم أجمعوا على أنه : لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه. وفي روضة العلماء : قيل لأبي حنيفة إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه ؟ قال تركوا قولي لكتاب الله. فقيل إذا كان خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل إذا كان قول الصحابة يخالفه ؟ قال اتركوا قولي لقول الصحابة وبعد هذا كله جاء الكرخي يقول : إن الأصل قول أصحابهم فإن وافقته نصوص الكتاب والسنة فذاك وإلا وجب تأويلها، وجرى العمل على هذا، فهل العامل به مقلد لأبي حنيفة رضي الله عنه أم للكرخي ؟.
وروى حافظ المغرب ابن عبد البر عن عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثني أبو عبد الله محمد بن أبي القاضي المالكي حدثنا موسى بن إسحاق قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر قال أخبرنا ابن عيسى قال سمعت مالك بن أنس يقول : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ثم حذا المنتسبون إلى هذا الإمام الجليل حذو المنتسبين إلى أبي حنيفة فهل هم على مذهبه وطريقته القويمة ؟.
وأما الإمام الشافعي والإمام أحمد فالنصوص عنهما في هذا المعنى أكثر، وأتباعهما أشد عناية بالكتاب والسنة من غيرهم ولاسيما الحنابلة، وقد أوردنا طائفة من ذلك عن الشافعي وأصحابه في المحاورة الثانية عشرة من ( المحاورات بين المصلح والمقلد ) وطائفة أخرى عن الإمام أحمد وأتباعه ( في المحاورة الثالثة عشرة ) والغرض من هذا الاستشهاد على ما قاله الأستاذ الإمام من نهي الأئمة الأربعة عن التقليد.
قال الأستاذ : وهناك قول آخر للمتأخرين مبني على أن الأمة جاهلة لا تعرف من الدين شيئا لا من أصوله ولا من فروعه، ولا سبيل إلى تكفير هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام ولا إلى إلزامهم معرفة العقائد الدينية من دلائلها والأحكام الشرعية بأدلتها وعللها، فلا مندوحة إذن عن القول بجواز التقليد في الأصول ـ وهي ما يجب اعتقاده في الله وصفاته وفي الرسل وفي الإيمان بالغيب وهو ما فصله النص القطعي منه ـ والتقليد في الفروع العلمية بالأولى. وهذا القول مخالف لإجماع سلف الأمة، وما قاله إلا الذين يحبون إرضاء الناس بإقرارهم على ما هم عليه من الجهل، وإهمال ما وهبهم الله من العقل لينطبق عليهم قوله تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾ ( الأعراف : ١٧٩ ) والمراد أن قلوبهم أي عقولهم لا تفقه الدلائل على الحق، وأعينهم لا تنظر الآيات نظر استدلال، وأسماعهم لا تفهم النصوص فهم تدبر واعتبار، فهذه صفات المقلدين.
والقول الوسط بين القلوب هو أنه يجب النظر في إثبات العقائد بقدر الإمكان ولا يشترط فيه تأليف الأدلة على قوانين المنطق ولا التزام طريق المتهكمين في مثل بناء الدليل على فرض انتفاء المطلوب، ولا إيراد الشكوك والأجوبة عنها، بل أفضل الطرق فيه وأمثلها طريق القرآن الحكيم في عرض الكائنات على الأنظار وإرشادهم إلى وجه الدلائل فيها على وحدانية مبدعها وقدرتها وحكمته. هذا هو حكم الله الصريح في المسألة فإنه أمر بالعلم بالتوحيد فقال :﴿ فاعلم أنه لا إله إلا الله ﴾ ( محمد : ١٩ ) وقال :﴿ وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ ( النجم : ٢٨ ) وطالب بالبرهان وجعله آية الصدق ﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ ( البقرة : ١١١ ) وجعل سبيله الذي أمر باتباعه ونهى عن سواه الدعوة إلى الدين على بصيرة ﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة وأنا ومن تبعني ﴾ ( يوسف : ١٠٨ ) ـ ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ ( الأنعام : ١٥٣ ).
وأما فرض الأمة جاهلة وإقرارها على ذلك اكتفاء باسم الإسلام، وما يقلد به الجاهلون أمثالهم من الأحكام، فهو من القول على الله بغير علم ولا سلطان، وقد قرنه تعالى مع الشرك في التحريم بقوله :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ ( الأعراف : ٣٣ ).
وأما الأحكام ومسائل الحلال والحرام فمنها ما لا يسع أحدا التقليد فيه وهي ما علم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وما أجمع عليه من كيفيتها وفروضها فإن أدلتها وأعمالها متواترة. وتلقينها مع ما ورد في فوائدها من الآيات والهدي النبوي يجعل المسلم على بصيرة فيها وفقه يبعث على العمل ولا أسهل منه.
ومنها فروع دقيقة مستنبطة من أحاديث غير متواترة لم يطلع عليها جميع المسلمين، وقد مضت سنة السلف الصالح في مثلها بأن من بلغه حديث منها بطريق يعتقد به ثبوته عمل به، ولم يوجبوا على أحد ولو منقطعا لتحصيل العلم أن يبحث عن جميع ما روى من هذه الآحاد ويعمل بها، كيف والصحابة عليهم الرضوان لم يكتبوا الحديث ولم يتصدوا لجمعه وتلقينه للناس، بل منهم من نهى عن كتابه، ومن حدث فإنما كان يقول ما يعلم إذا عرض له سبب مع المخاطبين. فمثل هذه الفروع يعذر العامي بجهلها بالأولى، ويجب عليه التحري في قبول ما يبلغه منها، فلا يقبل رواية كل أحد ولا يسلم كل ما في الكتب لكثرة الموضوعات والضعاف فيها. ولا مشقة ولا حرج على المسلمين في التزام هذه الطريقة إلا إذا كانوا يريدون ترك دينهم برمته اكتفاء ببعض العادات والأعمال التي لا يكاد عليهم تمييز السنة فيها من البدعة تقليدا لآبائهم ومعاشريهم.
فتبين مما شرحناه أن لا عذر لأحد في التقليد المحض وأن حكم الآية يستغرق جمع المقلدين أندادا وسيتبرأ التابع من المتبوع إذ يرون العذاب، وتتقطع بهم الأسباب.
ومن مباحث اللفظ في الآيتين أن التشبه في قوله تعالى :﴿ كذلك يريهم الله أعمالهم ﴾ وهو تشبيه حالة بحالة ذكرت في الكلام السابق أي كذلك النحو الذي ذكر من إراءتهم العذاب سيريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، والذين تنطعوا في إعرابها من المفسرين صرفتهم قواعد النحو عن ملاحظة الأسلوب العربي في مثل هذا، على أن له نظائر في كلام العامة في كل زمان هي مما بقي لهم من الأساليب العربية الفصيحة لم تفسدها العجمة إذ لا تمجها أذواق الأعجمين.
ومنها قوله تعالى :﴿ وتقطعت بهم الأسباب ﴾ قال الأستاذ الإمام : جاءت فيه الباء لمعنى خاص لا يظهر فيما ذكروه هنا من معانيها، وإنما يفهمه العربي من الأسلوب، فإنك إذا قلت هنا كما قال الجلال تقطعت عنهم الأسباب لا يرى في نفسك الأثر الذي تراه عند تلاوة العبارة الأولى التي تمثل لك التابعين والمتبوعين كعقد انفرط بانقطاع سلكه فذهبت كل حبة منه في ناحية.
أقول وتوضحيه أن هؤلاء المقلدين قد كانوا مرتبطين في الدنيا ومتصلا بعضهم ببعض بأنواع من المنافع والمصالح يستمدها كل من التابع والمتبوع من الآخر، فشبهت هذه المنافع التي حملت الرؤساء على قود المرؤوسين، والتابعين على تقليد المتبوعين، بالأسباب وهي في أصل اللغة الحبال كأنه يقول إن كل واحد منهم كان مربوطا مع الآخرين بحبال كثيرة فلم يشعروا إلا وقد تقطعت هذه الحبال كلها فأصبح كل واحد منبوذا في ناحية لا يصله بالآخر شيء، وعلى هذا تكون الباء متعلقة بمحذوف حال من الفاعل.
قال الأستاذ الإمام : ومن هذه الأساليب الخاصة قوله تعالى :﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ ( النساء : ٧٩ ) و ﴿ سبحان الله ﴾ ( النمل : ٨ ) فإذا فسرت ذلك بالتحليل والإرجاع إلى القواعد العامة فقلت في الأول كفى الله شهيدا أو كفت شهادته، وفي الثاني تسبي
هذه الآيات مبينة لحال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامتها الآية السابقة على توحيد الله تعالى ورحمته، ولذلك جعلوا له أندادا يلتمسون منهم الخير والرحمة، ويدفعون ببركتهم البلاء والنقمة، ويأخذون عنهم الدين والشرعة. قال المفسرون : إن الند هو المماثل، وزاد بعض اللغويين فيه قيدا فقال : إنه المماثل الذي يعارض مثله ويقاومه. ويفهم من هذا أن متخذي الأنداد يزعمون أنهم مماثلون لله تعالى في قدرته وعلمه وسلطانه يعارضونه في الخلق ويقاومونه في التدبير، وهذا غير صحيح لأن القرآن قص علينا خبر متخذي الأنداد في آيات كثيرة صريحة في أنهم لا يعتقدون شيئا من هذا الذي يفهم أو يتوهم من عبارة المفسرين، بل يعتقدون غالبا أن الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، وأن الأنداد وسطا بينه وبين عباده يقربونهم إليه ويشفعون لهم عنده، ويقضون حاجاتهم بخوارق العادات أو يقضيها هو لأجلهم. ويحتجون لهذه العقيدة بأن المذنبين المقصرين لا يستطيعون الوصول إلى الله تعالى بأنفسهم، فلا بد لهم من واسطة بينهم وبينه تعالى، كما هو المعهود من الرعايا الضعفاء، مع الملوك والأمراء.
والوثنيون يقيسون الله تعالى على من يعظمونه من الرؤساء وعظماء الخلق، ولاسيما المستبدين منهم، الذين استعبدوا الناس استبعادا بل تعبدوهم فعبدوهم. فالآيات الناطقة بأنهم إذا سئلوا : من خلق كذا وكذا ؟ يقولون : الله ـ كثيرة وقال فيهم مع ذلك ﴿ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾ ( يونس : ١٨ ) وقال أيضا ﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ( الزمر : ٣ ) أي يقولون ما نعبدهم الخ.
والأنداد عند جمهور المفسرين أعم من الأصنام والأوثان، فيشمل الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس خضوعا دينيا، ويدل عليه الآيات الآتية ﴿ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ﴾ الخ فالمراد إذا من الند من يطلب منه ما لا يطلب إلا من الله عز وجل، أو يؤخذ عنه ما لا يؤخذ إلا عن الله تعالى، وبيان الأول على ما قررناه مرارا أن الأسباب مسببات لا تعدوها بحكمة الله في نظام الخلق، وأن لله تعالى أفعالا خاصة به، فطلب المسببات من أسبابها ليس من اتخاذ الأنداد في شيء، وإن هناك أمورا تخفى علينا أسبابها، ويعمى علينا طريق طلابها، فيجب علينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ فيها إلى ذي القوة الغيبية ونطلبها من مسبب الأسباب لعله بعنايته ورحمته يهدينا إلى طريقها أو يبدلنا خيرا منها، ويجب مع هذا بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب حتى لا يبقى في الإمكان شيء مع اعتقادنا بأن الأسباب كلها من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا، إذ هو الذي جعلها طرقا للمقاصد، وهدانا إليها بما وهبنا من العقل والمشاعر.
لا يسمح الدين للناس بأن يتركوا الحرث والزرع ويدعوا الله تعالى أن يخرج لهم الحب من الأرض بغير عمل منهم أخذا بظاهر قوله ﴿ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ﴾ ( الواقعة : ٦٤ ) وإنما يهديهم إلى القيام بجميع الأعمال الممكنة لإنجاح الزراعة من الحرث والتسميد والبذور والسقي وغير ذلك، وأن يتكلوا على الله تعالى بعد ذلك فيما ليس بأيديهم ولم يهدهم لسببه بكسبهم كإنزال الأمطار، وإفاضة الأنهار، ودفع الحوائج، فإن استطاعوا شيئا من ذلك فعليهم أن يطلبوا بعملهم لا بألسنتهم وقلوبهم، مع شكر الله تعالى على هدايتهم إليه، وإقدارهم عليه.
كذلك يحظر الدين عليهم أن ينفروا إلى الحرب والمدافعة عن الملة والبلاد عزلا، أو حاملي سلاح دون سلاح العدو المعتدي عليهم اتكالا على الله تعالى واعتمادا على أن النصر بيده، بل يأمرهم بأن يعدوا للأعداء ما استطاعوا من قوة ويتكلوا بعد ذلك في الهجوم والإقدام، على عناية الله تعالى بتثبيت القلوب والأقدام، وغير ذلك من ضروب التوفيق والإلهام، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله. ومن التجأ إلى ما ليس بسبب من دون الله فهو مشرك بالله.
وهذا الذي يلجأ إليه من إنسان مكرم ـ كالأنبياء والصالحين، أو ملك من الملائكة المقربين، أو ما دون ذلك من مظاهر الخليقة، أو صنم أو تمثال جعل تذكار لشيء من هذه ـ يسمى ندا لله وشريكا له ووليا من دونه، وقد نطق القرآن بجميع هذه الأسماء التي سماها المشركون ولم ينزل الله بها من سلطان.
قال الأستاذ الإمام : قسم المفسرون الأنداد إلى قسمين : قسم يعمل بالاستقلال أي يقضي حاجة من يلجأ إليه بنفسه، وقسم يشفع عند الله تعالى ويتوسط لصاحب الحاجة فتقضى، وإنما كان الشفيع ندا لأنه يستنزل من يشفع عنده عن رأيه ويحول من إرادته، وتحويل الإرادة لا بد أن يكون مسبوقا بتغيير العلم بالمصلحة والحكمة إذ الإرادة تابعة دائما، وهذا هو المعروف من معنى الشفاعة عند السلاطين والحكام وهو محال على الله تعالى. وأقل تغيير في علم المشفوع عنده هو أن يعلم أن الشفيع يهمه أمر من يشفع له ويتمنى لو تقضى حاجته ( وسترى بيان هذا ودليله في تفسير آية الكرسي ).
ولا يرغب عن الأسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب أو طالبا ما هو أعجل منه، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى له أو لأحد أقاربه أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية الخارجة عن الأسباب طلبا للتعجيل بالشفاء، ومثله سائر أصحاب الحاجات الذين يلجؤون إلى من اتخذوهم أولياء ليكفوهم عناء اتخاذ الأسباب ( وذكر منه طلاب خدمة الحكومة ).
وأما القسم الآخر من الأنداد فهو من يتبع في الدين من غير أن يكون مبينا للناس ما جاء عن الله تعالى ورسوله، فيعمل بقوله وإن لم يعرف دليله ويتخذ رأيه دينا واجب الإتباع وإن ظهر أنه مخالف لما جاء عن الله ورسوله، اعتمادا على أنه أعلم بالوحي ممن قلدوه دينهم وأوسع منهم فهما فيما نزل الله، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ ( التوبة : ٣١ ) كما ورد في التفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى :﴿ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا ﴾ أي نتمنى لو أن لنا رجعة إلى الدنيا لنتبرأ من إتباع هؤلاء المضلين ونتنصل من رياستهم، أو لنتبع سبيل الحق ونأخذ بالتوحيد الخالص ونهتدي بكتاب الله وسنة رسوله، ثم نعود إلى هنا " الآخرة " فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرؤوا منا إذ نسعد بعلمهم من حيث هم أشقياء بأعمالهم ﴿ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ﴾ أي أن الله تعالى يظهر لهم كيف أن أعمالهم قد كان لها أسوأ الأثر في نفوسهم إذ جعلتها مستذلة مستعبدة لغير الله تعالى فأورثها ذلك من الظلمة والصغار ما كان حسرة وشقاء عليها، فالأعمال هي التي كونت هذه الحسرات في النفس، ولكن لا يظهر ذلك إلا في الدار الآخرة التي تسعد فيها كل نفس بتزكيتها، وتشقى بتدسيتها ﴿ وما هم بخارجين من النار ﴾ إلى الدنيا صحيحي العقيدة ليصلحوا أعمالهم، فيشفوا غيظهم من رؤسائهم وأندادهم، ولا إلى الجنة لأن علة دخولهم في النار هي ذواتهم بما طبعتها عليه خرافات الشرك وحب الأنداد.
ليس هذا الذي يتوهمه الجاهلون من مراد المفسرين، فما بين الله تعالى ضروب الشرك وصفات الكافرين وأحوالهم إلا عبرة لمن يؤمن بكتابه حتى لا يقع فيما وقعوا فيه فيكون من الهالكين، ولكن رؤساء التقليد حالوا بين المسلمين وبين كتاب ربهم، بزعمهم أن المستعدين للاهتداء به قد انقرضوا ولا يمكن أن يخلفهم الزمان لما يشترط فيهم من الصفات والنعوت التي لا تتيسر لغيرهم، كمعرفة كذا وكذا من الفنون الصناعية والإحاطة بخلاف العلماء في الأحكام. والذي يعرفه كل واقف على تاريخ الصدر الأول من المسلمين هو أن أهل القرنين الأول والثاني لم يكونوا يقلدون أحدا، أي لم يكونوا يأخذون بآراء الناس وأقوال العلماء، بل كان العامي منهم على بينة من دينه يعرف من أين جاءت كل مسألة يعمل بها من مسائله، إذ كان علماء الصدر الأول رضي الله تعالى عنهم يلقنون الناس الدين ببيان كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكان الجاهل بالشيء يسأل عن حكم الله فيه فيجاب بأن الله تعالى قال كذا أوجرت سنة نبيه على كذا، فإن لم يكن عند المسؤولين فيه هدى من كتاب أو سنة ذكر ما جرى عليه الصالحون وما يراه أشبه بما جاء في الهدى من كتاب أو سنة ذكر ما جرى عليه الصالحون وما يراه أشبه بما جاء في هذا الهدي أو أحال على غيره.
ولما تصدى بعض العلماء في القرن الثاني والثالث لاستنباط الأحكام واستخراج الفروع من أصولها ـ ومنهم الأئمة الأربعة ـ كانوا يذكرون الحكم بدليله على هذا النمط. فهم متفقون مع الصحابة والتابعين ( عليهم الرضوان ) على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد في الدين ما لم يعرف دليله ويقتنع به. ثم جاء من العلماء المقلدين في القرون الوسطى من جعل قول المفتي للعامي بمنزلة الدليل مع قولهم بأنه لو بلغه الحديث فعمل به كان كذلك أو أولى. ثم خلف خلف أعرق منهم في التقليد فمنعوا كل الناس أخذ أي حكم من الكتاب أو السنة، وعدوا من يحاول فهمهما والعمل بهما زائغا. وهذا غاية الخذلان وعداوة الدين، وقد تبعهم الناس في ذلك فكانوا لهم أندادا من دون الله، وسيتبرأ بعضهم من بعض كما أخبر الله.
قال الأستاذ الإمام في الدرس : إنه نقل عن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم النهي عن الأخذ بقولهم من غير معرفة دليلهم، والأمر بترك أقوالهم لكتاب الله أو سنة رسوله إذا ظهرت مخالفة لهما أو لأحدهما اهـ. وقد سبق لنا في المنار إيراد كثير من هذه النصوص عنهم معزوة إلى كتبها ورواتها. ومن ذلك قول الفقيه الحنفي أبي الليث السمرقندي : حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة أنه قال : لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه. وروي عن عصام بن يوسف أنه قيل له : إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة. فقال إن أبا حنيفة قد أوتي ما لم نؤت فأدرك فهمه ما لم ندركه، ونحن لم نؤت من الفهم إلا ما أوتينا، ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم من أين قال. وروي عن عصام بن يوسف أنه قال : كنت في مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة : زفر بن الهزيل وأبو يوسف وعافية بن يزيد وآخر فكلهم أجمعوا على أنه : لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه. وفي روضة العلماء : قيل لأبي حنيفة إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه ؟ قال تركوا قولي لكتاب الله. فقيل إذا كان خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل إذا كان قول الصحابة يخالفه ؟ قال اتركوا قولي لقول الصحابة وبعد هذا كله جاء الكرخي يقول : إن الأصل قول أصحابهم فإن وافقته نصوص الكتاب والسنة فذاك وإلا وجب تأويلها، وجرى العمل على هذا، فهل العامل به مقلد لأبي حنيفة رضي الله عنه أم للكرخي ؟.
وروى حافظ المغرب ابن عبد البر عن عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثني أبو عبد الله محمد بن أبي القاضي المالكي حدثنا موسى بن إسحاق قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر قال أخبرنا ابن عيسى قال سمعت مالك بن أنس يقول : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ثم حذا المنتسبون إلى هذا الإمام الجليل حذو المنتسبين إلى أبي حنيفة فهل هم على مذهبه وطريقته القويمة ؟.
وأما الإمام الشافعي والإمام أحمد فالنصوص عنهما في هذا المعنى أكثر، وأتباعهما أشد عناية بالكتاب والسنة من غيرهم ولاسيما الحنابلة، وقد أوردنا طائفة من ذلك عن الشافعي وأصحابه في المحاورة الثانية عشرة من ( المحاورات بين المصلح والمقلد ) وطائفة أخرى عن الإمام أحمد وأتباعه ( في المحاورة الثالثة عشرة ) والغرض من هذا الاستشهاد على ما قاله الأستاذ الإمام من نهي الأئمة الأربعة عن التقليد.
قال الأستاذ : وهناك قول آخر للمتأخرين مبني على أن الأمة جاهلة لا تعرف من الدين شيئا لا من أصوله ولا من فروعه، ولا سبيل إلى تكفير هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام ولا إلى إلزامهم معرفة العقائد الدينية من دلائلها والأحكام الشرعية بأدلتها وعللها، فلا مندوحة إذن عن القول بجواز التقليد في الأصول ـ وهي ما يجب اعتقاده في الله وصفاته وفي الرسل وفي الإيمان بالغيب وهو ما فصله النص القطعي منه ـ والتقليد في الفروع العلمية بالأولى. وهذا القول مخالف لإجماع سلف الأمة، وما قاله إلا الذين يحبون إرضاء الناس بإقرارهم على ما هم عليه من الجهل، وإهمال ما وهبهم الله من العقل لينطبق عليهم قوله تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾ ( الأعراف : ١٧٩ ) والمراد أن قلوبهم أي عقولهم لا تفقه الدلائل على الحق، وأعينهم لا تنظر الآيات نظر استدلال، وأسماعهم لا تفهم النصوص فهم تدبر واعتبار، فهذه صفات المقلدين.
والقول الوسط بين القلوب هو أنه يجب النظر في إثبات العقائد بقدر الإمكان ولا يشترط فيه تأليف الأدلة على قوانين المنطق ولا التزام طريق المتهكمين في مثل بناء الدليل على فرض انتفاء المطلوب، ولا إيراد الشكوك والأجوبة عنها، بل أفضل الطرق فيه وأمثلها طريق القرآن الحكيم في عرض الكائنات على الأنظار وإرشادهم إلى وجه الدلائل فيها على وحدانية مبدعها وقدرتها وحكمته. هذا هو حكم الله الصريح في المسألة فإنه أمر بالعلم بالتوحيد فقال :﴿ فاعلم أنه لا إله إلا الله ﴾ ( محمد : ١٩ ) وقال :﴿ وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ ( النجم : ٢٨ ) وطالب بالبرهان وجعله آية الصدق ﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ ( البقرة : ١١١ ) وجعل سبيله الذي أمر باتباعه ونهى عن سواه الدعوة إلى الدين على بصيرة ﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة وأنا ومن تبعني ﴾ ( يوسف : ١٠٨ ) ـ ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ ( الأنعام : ١٥٣ ).
وأما فرض الأمة جاهلة وإقرارها على ذلك اكتفاء باسم الإسلام، وما يقلد به الجاهلون أمثالهم من الأحكام، فهو من القول على الله بغير علم ولا سلطان، وقد قرنه تعالى مع الشرك في التحريم بقوله :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ ( الأعراف : ٣٣ ).
وأما الأحكام ومسائل الحلال والحرام فمنها ما لا يسع أحدا التقليد فيه وهي ما علم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وما أجمع عليه من كيفيتها وفروضها فإن أدلتها وأعمالها متواترة. وتلقينها مع ما ورد في فوائدها من الآيات والهدي النبوي يجعل المسلم على بصيرة فيها وفقه يبعث على العمل ولا أسهل منه.
ومنها فروع دقيقة مستنبطة من أحاديث غير متواترة لم يطلع عليها جميع المسلمين، وقد مضت سنة السلف الصالح في مثلها بأن من بلغه حديث منها بطريق يعتقد به ثبوته عمل به، ولم يوجبوا على أحد ولو منقطعا لتحصيل العلم أن يبحث عن جميع ما روى من هذه الآحاد ويعمل بها، كيف والصحابة عليهم الرضوان لم يكتبوا الحديث ولم يتصدوا لجمعه وتلقينه للناس، بل منهم من نهى عن كتابه، ومن حدث فإنما كان يقول ما يعلم إذا عرض له سبب مع المخاطبين. فمثل هذه الفروع يعذر العامي بجهلها بالأولى، ويجب عليه التحري في قبول ما يبلغه منها، فلا يقبل رواية كل أحد ولا يسلم كل ما في الكتب لكثرة الموضوعات والضعاف فيها. ولا مشقة ولا حرج على المسلمين في التزام هذه الطريقة إلا إذا كانوا يريدون ترك دينهم برمته اكتفاء ببعض العادات والأعمال التي لا يكاد عليهم تمييز السنة فيها من البدعة تقليدا لآبائهم ومعاشريهم.
فتبين مما شرحناه أن لا عذر لأحد في التقليد المحض وأن حكم الآية يستغرق جمع المقلدين أندادا وسيتبرأ التابع من المتبوع إذ يرون العذاب، وتتقطع بهم الأسباب.
ومن مباحث اللفظ في الآيتين أن التشبه في قوله تعالى :﴿ كذلك يريهم الله أعمالهم ﴾ وهو تشبيه حالة بحالة ذكرت في الكلام السابق أي كذلك النحو الذي ذكر من إراءتهم العذاب سيريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، والذين تنطعوا في إعرابها من المفسرين صرفتهم قواعد النحو عن ملاحظة الأسلوب العربي في مثل هذا، على أن له نظائر في كلام العامة في كل زمان هي مما بقي لهم من الأساليب العربية الفصيحة لم تفسدها العجمة إذ لا تمجها أذواق الأعجمين.
ومنها قوله تعالى :﴿ وتقطعت بهم الأسباب ﴾ قال الأستاذ الإمام : جاءت فيه الباء لمعنى خاص لا يظهر فيما ذكروه هنا من معانيها، وإنما يفهمه العربي من الأسلوب، فإنك إذا قلت هنا كما قال الجلال تقطعت عنهم الأسباب لا يرى في نفسك الأثر الذي تراه عند تلاوة العبارة الأولى التي تمثل لك التابعين والمتبوعين كعقد انفرط بانقطاع سلكه فذهبت كل حبة منه في ناحية.
أقول وتوضحيه أن هؤلاء المقلدين قد كانوا مرتبطين في الدنيا ومتصلا بعضهم ببعض بأنواع من المنافع والمصالح يستمدها كل من التابع والمتبوع من الآخر، فشبهت هذه المنافع التي حملت الرؤساء على قود المرؤوسين، والتابعين على تقليد المتبوعين، بالأسباب وهي في أصل اللغة الحبال كأنه يقول إن كل واحد منهم كان مربوطا مع الآخرين بحبال كثيرة فلم يشعروا إلا وقد تقطعت هذه الحبال كلها فأصبح كل واحد منبوذا في ناحية لا يصله بالآخر شيء، وعلى هذا تكون الباء متعلقة بمحذوف حال من الفاعل.
قال الأستاذ الإمام : ومن هذه الأساليب الخاصة قوله تعالى :﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ ( النساء : ٧٩ ) و ﴿ سبحان الله ﴾ ( النمل : ٨ ) فإذا فسرت ذلك بالتحليل والإرجاع إلى القواعد العامة فقلت في الأول كفى الله شهيدا أو كفت شهادته، وفي الثاني تسبي
ذكر الجلال أن الآية الأولى نزلت فيمن حرم السوائب ونحوها ولكنه يذكر ذلك في أسباب النزول وقد كان في طوائف من العرب كمدلج وبني صعصعة وقال الأستاذ الإمام : لو صح أن الآية نزلت في ذلك لما كان مقتضيا فصل الآية مما قبلها وجعلها مستأنفا لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على أن الظاهر من السياق أن الكلام متصل بما قبله أتم الاتصال فإن الآيات الأولى بينت حال متخذي الأنداد وما سيلاقون من عذاب الله تعالى، وقد قلنا في تفسيرها إن الأنداد قسمان قسم يتخذ شرعا يؤخذ برأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا عن الله ورسوله، بل يجعل قوله وفعله حجة بذاته لا يسأل من أين أخذه وهل هو فيه على هدي من ربه أم لا، وقسم يعتمد عليه ويدعي في دفع المضار وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب، ثم أنهم ليعتمدون على إغاثة هؤلاء الأنداد للناس بعد موتهم وخروجهم من عالم الأسباب، ثم بينت أن الناس يتبع بعضهم بعضا في ذلك، وأن سيتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا عند رؤية العذاب وتقطع الأسباب بينهم، وقلنا في تفسيرها هي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرؤوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض. وفي هذه الآيات يبين تعالى أن تلك الأسباب محرمة لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان ونهى عنها، وبين سبب جمودهم على الباطل والضلال وهو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى، فالكلام متمم لما قبله قطعا.
قال تعالى :﴿ يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ﴾ الحلال هو غير الحرام الذي نص عليه في قوله تعالى :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به ﴾ ( الأنعام : ١٤٥ ) فما عدا هذا فكله مباح بشرط أن يكون طيبا أي غير خبيث. وفسر الجلال الطيب بالحلال على أنه تأكيد أو بالمستلذ، والأول لا محل له والتأسيس مقدم على التأكيد، والثاني لا يظهر تقييد الإباحة العامة لما في الأرض به، ورجح الأستاذ الإمام أن الطيب ما لا يتعلق به حق الغير وهو الظاهر، لأن المراد بحصر المحرم فيما ذكر المحرم لذاته لا يحل إلا للمضطر، وبقي المحرم لعارض فتعين بيانه وهو ما يتعلق به حق الغير ويؤخذ بغير وجه صحيح، كما يكون في أكل الرؤساء من المرؤوسين بلا مقابل إلا أنهم رؤساؤهم المسيطرون عليهم، وكذلك أكل المرؤوسين بجاه الرؤساء، فإن كلا منهما يمد الآخر ليستمد منه في غير الوجوه المشروعة التي يتساوى فيها جميع الناس، ويخرج بذلك الربا والرشوة والسحت والغصب والغش والسرقة فكل ذلك خبيث، وكذا ما عرض له الخبث بتغيره كالطعام المنتن.
وبهذا التفسير يتحرر ما أباحه الدين وتلتئم الآية مع ما قبلها.
وأتبع خطوات بضمتين جمع خطوة بالضم وهي ما بين القدمين وبفتحتين جمع خطوة وهي المرة من خطا يخطو في مشيه، والمعنى لا تتبعوا سيرته في الإغواء، ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء، وهو ما بينه في الآية التالية. وعلل النهي بكونه عدوا للناس بين العداوة. والعلم بعدوانه لنا لا يتوقف على معرفة ذاته، وإنما يعرف الشيطان بهذا الأثر الذي ينسبه إليه وهو وحي الشر، وخواطر الباطل والسوء في النفس، فهو منشأ هذا الوحي والخواطر الرديئة، قول تعالى :﴿ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ ( الأنعام : ١١٢ ) ولا أبين وأظهر من عداوة داعية الشر والضلال، فعلى الإنسان أن يلتفت إلى خواطره ويضع لها ميزانا، فإذا مالت نفسه إلى بذل المال لمصلحة عامة، أو عرض له سبب معاونة عامل على خير أو صدقة على بائس فقير، فعارضه خاطر التوفير والاقتصاد، فليعلم أنه من وحي الشيطان، ولا ينخدع لما يسوله له من إرجاء هذا العطاء ووضعه في موضع أنفع، أو بذله لفقير أحوج، وإذا هم بدفاع عن حق أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فخطر له ما يثبط عزمه أو يمسك لسانه، فليعلم أنه من وسواس الشيطان. وأظهر وحي الشياطين ما يجزئ على التحريم والتحليل لأجل المنافع التي تلبس على المتجرئ عليها بالمصلحة وسياسة الناس، كأنه قال لا تتبعوا وحي الباطل والشر وخواطرهما تلم بكم وتطوف بنفوسكم، فإنها من إغواء الشيطان عدوكم.
ذكر الجلال أن الآية الأولى نزلت فيمن حرم السوائب ونحوها ولكنه يذكر ذلك في أسباب النزول وقد كان في طوائف من العرب كمدلج وبني صعصعة وقال الأستاذ الإمام : لو صح أن الآية نزلت في ذلك لما كان مقتضيا فصل الآية مما قبلها وجعلها مستأنفا لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على أن الظاهر من السياق أن الكلام متصل بما قبله أتم الاتصال فإن الآيات الأولى بينت حال متخذي الأنداد وما سيلاقون من عذاب الله تعالى، وقد قلنا في تفسيرها إن الأنداد قسمان قسم يتخذ شرعا يؤخذ برأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا عن الله ورسوله، بل يجعل قوله وفعله حجة بذاته لا يسأل من أين أخذه وهل هو فيه على هدي من ربه أم لا، وقسم يعتمد عليه ويدعي في دفع المضار وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب، ثم أنهم ليعتمدون على إغاثة هؤلاء الأنداد للناس بعد موتهم وخروجهم من عالم الأسباب، ثم بينت أن الناس يتبع بعضهم بعضا في ذلك، وأن سيتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا عند رؤية العذاب وتقطع الأسباب بينهم، وقلنا في تفسيرها هي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرؤوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض. وفي هذه الآيات يبين تعالى أن تلك الأسباب محرمة لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان ونهى عنها، وبين سبب جمودهم على الباطل والضلال وهو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى، فالكلام متمم لما قبله قطعا.
ثم بين ذلك بما يفيد إثبات العداوة من تعليل النهي فقال :
﴿ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ﴾ دون غيرها من الحق والخير، فأما السوء فهو كل ما يسوء وقوعه أو عاقبته، فمن الشرور ما يقدم عليه المرء مندفعا بتزين الشيطان له، حتى إذ فعل الشر فاجأه السوء وعاجله الضرر، ومن الأعمال ما لا يظهر السوء في بدايته، ولكنه يتصل بنهايته، كمن يصده عن طلب العلم أن بعض المتعلمين أضاع وقته وبذل كثيرا من ماله ثم لم يستفد من التعلم شيئا، فهذا قياس شيطاني يصرف بعض الناس عن طلب العلم بأنفسهم، وبعض الآباء عن تعليم أولادهم، فتكون عاقبتهم السوءى ذات ناحيتين : سلبية وهي الحرمان من فوائد العلم، وإيجابية وهي مصائب الجهل، وكل منهما ديني ودنيوي، فلا بد من البصيرة والتأمل في تمييز بعض الخواطر من بعض، فإن الشيطانية منها ربما لا تظهر بادي الرأي.
وأما الفحشاء فكل ما يفحش قبحه في أعين الناس من المعاصي والآثام، ولا يختص بنحو الزنا كما قال بعضهم والفحشاء في الغالب أقبح وأشد من السوء وأسوء السوء مبدأ وعاقبة ترك الأسباب الطبيعية التي قضت حكمة الباري بربط المسببات بها اعتمادا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظن بل يتوهم أن لهم نصيبا من السلطة الغيبية والتصرف في الكون بدون اتخاذ الأسباب، ومثله اتخاذ رؤساء في الدين يؤخذ بقولهم ويعتمد على فعلهم، من غير أن يكون بيانا وتبليغا لما جاء عن الله ورسوله فإن في هذين النوعين من السوء إهمالا لنعمة العقل وكفرا بالمنعم بها، وإعراضا عن سنن الله تعالى وجهلا باطرادها، وصاحبها كمن يطلب من السراب الماء، أو ينعق بما لا يسمع غير الدعاء والنداء، وهذا شأن متخذي الأنداد ﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾ ( الرعد : ٣٣ ).
وأما الرؤساء الذين يحملون العامة على هذا التقليد في الأمرين فقد بين تعالى اتباعهم لوحي الشيطان بقوله ﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعملون ﴾ أي ويأمرون أن تقولوا على الله في دينه الذي دان به عباده ما لا تعلمون علم اليقين أن الله شرعه لهم من عقائد وأوراد وأعمال تعبدية، وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، وتحريم ما الأصل فيه الإباحة، ولا يثبت شيء من ذلك بالرأي والاجتهاد من قياس واستحسان، لأنهما ظن لا علم، فالقول على الله بغير علم اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهو شرك صريح، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان فإنه الأصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
أليس من القول على الله بغير علم زعم هؤلاء الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه لا يفعل سبحانه شيئا بدون وساطتهم، فحولوا بذلك قلوب عباده عنه وعن سنته في خلقه ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ؟ وقد يسمون هذا توسلا إليه أي يتقربون إليه بالشرك به، ودعاه غيره من دونه أو معه، وهو يقول ﴿ لا تدعوا مع الله أحدا ﴾ ( الجن : ١٨ ) ويقول ﴿ بل إياه تدعون ﴾ ( الأنعام : ٤١ ) أي دون غيره.
أليس من القول على الله تعالى بغير علم ما اختلقوا من الحيل لهدم وكن الزكاة وهو من أعظم أركان الإسلام.
أليس من القول على الله بغير علم ما زادوه في العبادة وأحكام الحلال والحرام، عما ورد في الكتاب والسنة المبينة له والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الله تعالى ( وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) ؟.
قال الأستاذ الإمام هنا : كل من يزيد في الدين عقيدة أو حكما من غير استناد إلى كتاب الله أو كلام المعصوم فهو من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون : ومثل لذلك بالزائرات للقبور وما يأتينه هناك من البدع والمنكرات باسم الدين، وبتشييع الجنائز بقراءة البردة ونحوها بالنغمة المعروفة، وبحل المباخر الفضية والأعلام أمامها، وبالاجتماع لقراءة الدلائل بالصياح الخاص، وقال إن كل هذا جاء من استحسان ما عند الطوائف الأخر، وليس في الإسلام صيحة غير صيحة الآذان، وقد قال تعالى في الصلاة ﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ﴾ ( الإسراء : ١١٠ ) وأما التلبية فلم يشرع فيها الصوت والصياح الشديد وإنما يكون العجيج من كثرة الناس واختلاف أصواتهم، وإن لم يرفعوا عقيرتهم جهد المستطاع كما يفعل مقلد التصوف.
قال : وإن كثيرا من البدع في العقائد والأحكام قد دخلت على المسلمين بتساهل رؤساء الدين وتوهمهم أنها تقوي أصل العقيدة وتخضع العامة لسلطان الدين أو لسلطانهم المستند إلى الدين ولقد دخلت كنيسة ( بيت لحم ) فسمعت هناك أصوات خيل إلي أنها طائفة من أهل الطريق يقرؤون البر مثلا ثم علمت إنهم قسيسون. فهذه البدع قد سرت إلينا منهم كما سرت إليهم من الوثنيين، استحسنا منهم ما استحسنوه من أولئك، توهما أنه يفيد الدين أبهة وفخامة، ويزيد الناس به استمساكا، فكان أن ترك الناس مهمات الدين اكتفاء بهذه البدع، فإن أكثر الصائحين في الأضرحة وقباب الأولياء وفي الطرق والأسواق بالأوراد والأحزاب لا يقيمون الصلاة، ومن عساه يصلي منهم فإنه لا يحرص على الجماعة بعض حرصه على الاجتماع للصياح بقراءة الحزب في ليلة الولي فلان. ولقد أنس الناس بهذه البدع، واستوحشوا من شعائر الدين والسنن، حتى ظهر فيهم تأويل قوله عز وجل.
ذكر الجلال أن الآية الأولى نزلت فيمن حرم السوائب ونحوها ولكنه يذكر ذلك في أسباب النزول وقد كان في طوائف من العرب كمدلج وبني صعصعة وقال الأستاذ الإمام : لو صح أن الآية نزلت في ذلك لما كان مقتضيا فصل الآية مما قبلها وجعلها مستأنفا لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على أن الظاهر من السياق أن الكلام متصل بما قبله أتم الاتصال فإن الآيات الأولى بينت حال متخذي الأنداد وما سيلاقون من عذاب الله تعالى، وقد قلنا في تفسيرها إن الأنداد قسمان قسم يتخذ شرعا يؤخذ برأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا عن الله ورسوله، بل يجعل قوله وفعله حجة بذاته لا يسأل من أين أخذه وهل هو فيه على هدي من ربه أم لا، وقسم يعتمد عليه ويدعي في دفع المضار وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب، ثم أنهم ليعتمدون على إغاثة هؤلاء الأنداد للناس بعد موتهم وخروجهم من عالم الأسباب، ثم بينت أن الناس يتبع بعضهم بعضا في ذلك، وأن سيتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا عند رؤية العذاب وتقطع الأسباب بينهم، وقلنا في تفسيرها هي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرؤوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض. وفي هذه الآيات يبين تعالى أن تلك الأسباب محرمة لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان ونهى عنها، وبين سبب جمودهم على الباطل والضلال وهو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى، فالكلام متمم لما قبله قطعا.
{ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا " أي وإذا قيل لمتبعي خطوات الشيطان، الذين يقولون على الله بغير علم ولا برهان، ( اتبعوا ما أنزل إليكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) قالوا : لا، نحن لا نعرف ما أنزل الله، بل نتبع ما ألفينا أي وجدنا عليه آباءنا، وهو ما تقلدناه من سادتنا وكبراءنا، وشيوخ علمائنا. لم يخاطب هؤلاء ببطلان ما هم عليه وتشنيعه خطابا لهم بل حكي عنهم حكاية بين فساد مذهبهم فيه، كأنه أنزلهم منزلة من لا يفهم الخطاب، ولا يعقل الحجج والدلائل كما بين ذلك بالتمثيل الآتي. ولو كان للمقلدين قلوب يفقهون بها لكانت هذه الحكاية كافية بأسلوبهم لتنفيرهم من التقلد، فإنهم في كل ملة وجيل يرغبون عن اتباع ما أنزل الله استئناسا بما ألفوه مما ألفوا آبائهم عليه، وحسبك بهذا شناعة، إذ العاقل لا يؤثر على ما أنزل الله تقليد أحد من الناس وإن كبر عقله وحسن سيره، إذ ما من عاقل إلا وهو عرضة للخطأ في فكره، وما من مهتد إلا ويحتمل أن يضل في بعض سيره، فلا ثقة في الدين إلا بما أنزل الله، ولا معصوم إلا من عصم الله.
فكيف يرغب العاقل عما أنزل الله إلى اتباع الآباء مع دعواه الإيمان بالتنزيل، على أنه لو لم يكن مؤمنا بالوحي لوجب أن ينفره عن التقليد قوله تعالى ﴿ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾ فإن هذا حجة عقلية لا تنقض.
أقول الهمزة للإنكار والتعجب وهي داخلة على فعل حذف للعلم به من القرينة ولو للغاية لا تحتاج إلى جواب وجزاء. والتقدير أيتبعون ما ألفوا عليه آبائهم في كل حال وفي كل شيء ولو كان آبائهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين إذ يسلكون طريق العقل بالاستدلال على أن ما هم عليه من العقائد والعبادات حق، ولا يهتدون في أحكامه وأعماله بوحي من الله جاءهم به رسول من عند الله ؟ أي حتى في تجردهم من دليلي العقل والنقل. هذا ما أفهمه. وقال البيضاوي :" أي لو كان آبائهم جهلة لا يفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر أو الاجتهاد، وأما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام فهو في الحقيقة ليس بتقليد بل اتباع لما أنزل الله " هو نقله عنه الألوسي بغير عزو ووصله بآية :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ ( النحل : ٣٤ ). وفيه أنه لم يفرق في التقليد بين القطعي المعلوم من الدين بالضرورة وهو لا يجوز التقليد فيه البتة بل لا محل له وبين الأمور الاجتهادية كأحكام القضاء وسياسة الأمة وهذا هو الذي يشترط فيه القدرة على النظر والاستدلال، ولم يفرق بين اتباع النبي المعصوم فيما يبلغه عن الله تعالى لمن قامت عنده الحجة على نبوته فهولا يكون إلا محقا وبين المجتهد الذي لا يمكن العلم بأنه محق إلا بالوقوف على دليله وفهمه، وقوله تعالى :﴿ فسألوا أهل الذكر ﴾ في طلب السؤال عن أمر قطعي معلوم بالضرورة وهو كون الرسل رجالا يوحى إليهم لا عن رأي اجتهادي.
وقال الجلال وغيره : لا يعقلون شيئا من أمر الدين. وتعقبه الأستاذ الإمام بقوله : عقل الشيء معرفته بدلائله، وفهمه بأسبابه ونتائجه، وأقرب الناس إلى معرفة الحق الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح ولو في غير الحق، لأن الباحث المستدل إذا أخطأ يوما في طريق الاستدلال أو في موضوع البحث فقد يصيب في يوم آخر، لأن عقله يتعود الفكر الصحيح، واستفادة المطالب من الدلائل، وأبعد الناس عن معرفة الحق المقلدون، الذين لا يبحثون ولا يستدلون، لأنهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم، وسجلوا على عقولهم الحرمان من الفهم، فهم لا يوصفون بإصابة لأن المصيب هو من يعرف أن هذا هو الحق، والمقلد إنما يعرف أن فلانا يقول إن هذا هو الحق، فهو عارف بالقول فقط، ولذلك ضرب لهم المثل في الآية الآتية بعد ما سجل عليهم الضلالة بعدم استعمال عقولهم.
فإن قيل : إن الآية إنما تمنع اتباع غير من يعقل الحق، ويهتدي إلى حسن العمل والصواب في الحكم، ولكنها لا تمنع من تقليد العاقل المهتدي. ( نقول ) ومن أين يعرف المقلد أن متبوعه يعقل ويهتدي إذا هو لم يقف على دليله ؟ فإن هو اتبعه في طريقة الاستدلال حتى وصل إلى ما وصل على بصيرة فإن الآية لا تنعي عليه هذا، إذ هو استفادة للعلم محمودة لا تقليد في المعلوم أو المظنون لغيره.
قال الأستاذ الإمام : رأيت لبعض السلف أنه قال لو أن شخصا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وسمع قوله واقتدى به من غير نظر في نبوته يؤدي إلى الوصول إلى اعتقاد صحتها بالدليل لعد مقلدا، ولم يكن على بصيرة كما أمر الله المؤمن أن يكون. ( وأقول ) إن هذا مأخوذ من قوله تعالى :﴿ قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾ ( يوسف : ١٠٨ ) وقد فسروا البصيرة بالحجة الواضحة ولا يشترط في صحة الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم النظر الاستدلالي المعروف عند المتكلمين بل يكفي فيها اطمئنان النفس لصدقه بمعرفة حاله وحسن ما دعا إليه ولكن مرتبة الدعوة إلى الله وإثبات دينه بالحجة لا يرتقي إليها كل مؤمن به صلى الله عليه وسلم.
هذا وإن في قوله تعالى :﴿ لا يعقلون شيئا ﴾ بحثا فقد يشكل هذا العموم فيه على بعض الأفهام، وقد بين له الأستاذ الإمام ثلاثة أوجه أحدها : أن معناه لا يستعملون عقولهم في شيء مما يجب العلم به بل يكتفون فيه كله بالتسليم من غير نظر ولا بحث وهو ما مر ثانيها : أنه جار على طريقة البلغاء في المبالغة بجعل الغالب أمرا كليا عاما. يقولون في الضال في عامة شؤونه : إنه لا يعقل شيئا ولا يهتدي إلى الصواب. ويقولون في البليد : إنه لا يفهم شيئا، وهذا لا ينافي أن يعقل الأول بعض الأشياء ويفهم الثاني بعض المسائل، وثالثها : إنه ليس الغرض من العبارة نفي العقل عن آبائهم بالفعل، وإنما المراد منها : أيتبعون آبائهم لذواتهم كيفما كان حالهم حتى لو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون ؟ كأنه يقول أن اتباع الشخص لذاته منكر لا ينبغي، وهذا قول مألوف، فمن يقول أنا أتبع فلانا في كل ما يعمل، يقال له أتتبعه ولو كان لا يعمل خيرا ؟ أي أن من شأن من يتبع آخر لذاته لا لكونه محسنا ومصيبا أن يتبعه في كل شيء وإن كان كل عمله باطلا، لأنه لا يفرق بين الحق والباطل والخير والشر إلا من ينظر ويميز، وهذا لا يتبع أحدا لذاته كيفما كان حاله.
بعد ما بين تعالى فساد ما عليه المقلدون من اتباع ما وجدوا عليه آبائهم من غير نظر ولا استدلال، ضرب لهم مثلا زيادة في تقبيح شأنهم، والزراية عليهم، بقوله ﴿ ومثل الذين كفروا ﴾ أن صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم ﴿ كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ﴾ أي كصفة الراعي للبهائم السالمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المراعي ودعوتها إلى الماء وزجرها عن الحمى فتجيب دعواته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار، شبه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل، ويزجرها فتنزجر، وهي لا تعقل مما يقول شيئا، ولا تفهم له معنى، وإنما تسمع أصواتا تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد، ولا تعقل سببا للإقبال ولا للإدبار ومعنى المثل هنا كما قال سيبويه أن صفة الكفار وشأنهم كشأن الناعق بالغنم. ولا يقتضي هذا أن يكون كل جزء من المشبه كمقابل من المشبه به، وهو ما سماه علماء البيان بعد سيبويه بالتمثيل، وفرقوا بينه وبين تشبيه متعدد بمتعدد. والكفر جحود الحق والإعراض عن النظر في الدليل عليه عند الدعوة إليه، وفرق بينه وبين الضلال، فإن الضال من أخطأ طريق الحق مع طلبه، أو جهله فلم يعرفه بنفسه ولا بدلالة غيره. وأما الكافر فهو يرى الحق ويعرض عنه، ويصرف نفسه عن دلائله وآياته فلا ينظر فيها، فهو كالحيوان يرضى بأن لا يكون له فهم ولا علم، بل يقوده غيره ويصرفه كيف شاء، فهو مع من قلدهم من الرؤساء كالغنم مع الراعي تقبل بدعائه وتنزجر بندائه، مسخرة لإرادته وقضائه، ولا تفهم لماذا دعا ولماذا زجر فدعوتها إلى الرعي وإلى الذبح سواء، وكذلك شأن كل من يسلم اعتقادا بلا دليل، ويقبل تكليفا بغير فقه ولا تعليل.
والآية صريحة في أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وأن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به. فمن ربي على التسليم بغير عقل، والعمل ولو صالحا بغير فقه، فهو غير مؤمن، لأنه ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وتتزكى نفسه بالعلم بالله والعرفان في دينه، فيعمل الخير لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته في دينه ودنياه، ويكون فوق هذا على بصيرة وعقل في اعتقاده، فلا يأخذه بالتسليم لأجل آبائه وأجداده، ولذلك وصف الله الكافرين بعد تقرير المثل بأنهم ﴿ صم ﴾ لا يسمعون الحق سماع تدبير وفهم، ﴿ بكم ﴾ لا ينطقون به عن اعتقاد وعلم، ﴿ عمي ﴾ " لا ينظرون في آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق حتى يتبين لهم أنه الحق، ﴿ فهم لا يعقلون ﴾ مبدأ ما هم فيه ولا غايته كما يطلب من الإنسان، وإنما ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان ولذلك اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون، فالعاقل لا يقلد عاقلا مثله، فأجدر به أن لا يقلد جاهلا ضالا هو دونه.
بين الله تعالى حال الذين يتخذون الأنداد من دونه وأشار إلى أن سبب ذلك حب الحطام، وارتباط مصالح المرؤوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه، وخاطب الناس كلهم بأن يأكلوا مما في الأرض إذ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها بشرط أن تكون حلالا طيبا. وبين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم ثم وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة لأنهم أحق بالفهم، وأجدر بالعلم، وأحرى بالاهتداء، فقال ﴿ يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ : الأمر هنا للوجوب لا للإباحة والطيبات ما طاب كسبه من الحلال، ويستلزم عدم تحريم شيء منها والامتناع عنها تدينا لتعذيب النفس، وهذا تنبيه بعد ما تقدم إلى عدم الالتفات إلى أولئك الحمقى الذين أبيحت لهم خيرات الأرض فطفقوا يحلون بعضها ويحرمون بعضا بوساوس شياطينهم وتقليد رؤسائهم، وأعطوا ميزانا يميزون به الخواطر الشيطانية الضارة من غيرها، فما أقاموا به ولا له وزنا، وبين لهم الحرام من الحلال، ولكنهم نفضوا أيديهم من عز الاستقلال بالاستدلال، وهون عليهم التقليد ذل القيود والأغلال، فهو يقول كلوا من هذه الطيبات ولا تضيقوا على أنفسكم مثلهم.
﴿ واشكروا لله ﴾ الذي خلقها لكم وسهل عليكم أسبابها، بأن تتبعوا سنته الحكيمة في طلب هذه الطيبات واستخراجها، وفي استعمالها فيما خلقت لأجله، وبالثناء عليه جل جلاله وعم نواله، واعتقاد أن هذه الطيبات من فضله وإحسانه، ليس لمن اتخذوا أندادا له تأثير فيها، ولذلك قال ﴿ إن كنتم إياه تعبدون ﴾ أي إن كنتم تخصونه بالعبادة، وتؤمنون بانفراده بالسلطة والتدبير، فاشكروا له خلق هذه النعم وإباحتها لكم، ولا تجعلوا له أندادا وتطلبون منهم الرزق أو ترجعون إليهم بالتحليل والتحريم، فإن ذلك له وحده، وإلا كنتم مشركين به، كافرين لنعمه، كالذين من قبلكم جهلوا معنى عبادة الله تعالى فاتخذوا بينهم وبينه وسطاء في طلب الرزق، ورؤساء يشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه، ويحلون لهم ويحرمون عليهم ما لم يشرعه لهم ومن الشكر له تعالى استعمال القوى التي غذيت بتلك الطيبات في نفع أنفسكم وأمتكم وجنسكم. وليس من الطيبات ما يأخذه شيوخ الطريق من مريديهم بل هو من الخبائث والسحت.
الأستاذ الإمام : لا يفهم هذه الآية حق فهمها إلا من كان عارفا بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله، فإن المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقا وأصنافا، منهم من حرم على نفسه أشياء معينة بأجناسها أو أصنافها كالبحيرة والسائبة عند العرب، وكبعض الحيوانات عند غيرهم، وكان المذهب الشائع في النصارى أن أقرب ما يتقرب به إلى الله تعالى تعذيب النفس واحتقارها وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة، واحتقار الجسد ولوازمه، واعتقاد أن لا حياة للروح إلا بذلك، وأن الله تعالى لا يرضى منا إلا إحياء الروح. وكان الحرمان من الطيبات على أنواع منها ما هو خاص بالقديسين، أو بالرهبان والقسيسين، ومنها ما هو عام كأنواع الصوم الكثيرة كصوم العذراء وصوم القديسين، وفي بعضها يحرمون اللحم والسمن دون السمك، وفي بعضها يحرمون السمك واللبن والبيض أيضا. وكل هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء وليس لها أثر ينقل عن التوراة أو عن المسيح عليه السلام، وبذلك كانوا أندادا، ونزل في شأنهم :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ ( التوبة : ٣١ ) وتقدم بيان ذلك وقد سرت إليهم هذه الأحكام بالوراثة عن آبائهم الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات ويرون أن التقرب إلى الله محصور في تعذيب النفس وترك حظوظ الجسد، إذ رأوا في دينهم وفي سيرة المسيح وحواريه من طلب المبالغة في الزهد ما يؤذيها.
وقد تفضل الله تعالى على هذه الأمة بجعلها أمة وسطا تعطي الجسد حقه والروح حقها كما تقدم في تفسير ﴿ وكذلك جعلناهم أمة وسطا ﴾ ( البقرة : ١٤٣ ) فأحل لنا الطيبات لتتسع دائرة نعمه الجسدية علينا، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقلية، فلم نكن جثمانيين محضا كالأنعام، ولا روحانيين خلصا كالملائكة.
وإنما جعلنا أناسي كملة، بهذه الشريعة المعتدلة، فله الحمد والشكر والثناء الحسن.
ظهر بهذا التقرير أن الآية متصلة بما قبلها ومتممة له. وقال بعض المفسرين وله وجه فيما قال : إن ما تقدم من أول السورة إلى ما قبل هذه الآية كله في القرآن والرسالة وأحوال المنكرين للداعي، وما جاء فيها من الأحكام فإنما جاء بطريق العرض والاستطراد، وهذه الآية ابتداء قسم جديد من الكلام، وهو سرد الأحكام، فإنه يذكر بعدها أحكام محرمات الطعام وأحكام الصوم والحج والقصاص والوصية والنكاح والطلاق والرجعة والعدة والإيلاء والرضاع وغير ذلك، وينتهي هذا القسم بما قبل قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ﴾ ( البقرة : ٢٤٣ ) الآية، ولا غرو فإن بين كل قسم وآخر في القرآن من التناسب مثل ما بين كل آية وأخرى في القسم الواحد :﴿ كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ﴾ ( هود : ١ ).
﴿ والدم ﴾ أي المسفوح كما في آية الأنعام، فإنه قذر لا طيب وضار كالميتة ﴿ ولحم الخنزير ﴾ فأنه قذر، لأن أشهى غذاء الخنزير إليه القاذورات والنجاسات، وهو ضار في جميع الأقاليم ولاسيما الحارة كما ثبت بالتجربة، وأكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتالة ويقال إن له تأثيرا سيئا في العفة والغيرة ﴿ وما أهل به لغير الله ﴾ وهو ما يذبح ويقدم للأصنام أو غيرها مما يعبد. والمنع من هذا ديني محض لحماية التوحيد، لأنه من أعمال الوثنية، فكل من أهل لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب إلى من أهل باسمه تقرب عبادة، وذلك من الإشراك والاعتماد على غير الله تعالى.
وقد ذكر الفقهاء أن كل ما ذكر عليه اسم غير اسم الله لو مع اسم الله فهو محرم، وعد منه الأستاذ الإمام ما يجري في الأرياف كثيرا من قولهم عند الذبح لاسيما ذبح المنذور بسم الله، الله أكبر، يا سيد. يدعون السيد البدوي أن يلتفت إليهم ويتقبل النذر ويقضي حاجة صاحبه ( قال ) وكيفما أولته فهو محرم. ومثل ذكر السيد ذكر الرسول أو المسيح إذ لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها، فهي تذبح وتؤِكل باسمه لا يشركه في ذلك سواه، ولا يتقرب بها إلى من عداه، ممن لم يخلق ولم ينعم ولم يبح ذلك لأنه غير واضع للدين.
﴿ فمن اضطر ﴾ إلى الأكل مما ذكر بأن لم يجد ما يسد به رمقه سواه ﴿ غير باغ ﴾ له أي طالب له، راغب فيه لذاته ﴿ ولا عاد ﴾ متجاوز قدر الضرورة ﴿ فلا إثم عليه ﴾ لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير، بل الضرر في ترك الأكل محقق، وهو في فعله مظنون، وربما كانت شدة الحاجة إلى الأكل مع الاكتفاء بسد الرمق مانعة من الضرر. وأما ما أهل به لغير الله فمن أكل منه مضطرا فهو لا يقصد إجازة عمل الوثنية ولا استحسانه. ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ إذ حرم على عباده الضار، وجعل الضرورات بقدرها، لينتفي الحرج والعسر عنهم، ووكل تحديدهم إلى اجتهادهم، فهو يغفر لهم خطأهم فيه لتعذر ضبطه.
وفسر الجلال كلمة ﴿ باغ ﴾ بالخارج على المسلمين، و ﴿ عاد ﴾ بالمعتدي عليهم بقطع الطريق ( قال ) ويلحق بهم كل عاص بسفره كالآبق والمكاس وعليه الشافعي. قال الأستاذ الإمام : ولا خلاف بين المسلمين في أن العاصي كغيره يحرم عليه إلقاء نفسه في التهلكة، ويجب عليه توقي الضرر، ويجب علينا دفعه عنه إن استطعنا، فكيف لا تتناوله إباحة الرخص. ثم إن المناسب للسياق أن تحدد الضرورة التي تجيز أكل المحرم وتفسير الباغي والعادي بما ذكرنا هو المحدد لها، وهو موافق للغة كقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف ﴿ ما نبغي ﴾ ( يوسف : ٦٥ ) وفي الحديث الصحيح ( يا باغي الخير هلم ) وفي التنزيل ﴿ ولا تعد عيناك عنهم ﴾ ( الكهف : ٢٨ ) أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم. فالكلام في تحديد الضرورة وتمام بيان حكم ما يحل من الأكل، لا السياسة وعقوبة الخارجين على الدولة والمؤذين للأمة، وإنما كان هذا التحديد لازما لئلا يتبع الناس أهوائهم في تفسير الاضطراب إذا هو وكل إليهم بلا حد ولا قيد، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة، فعلم من قوله ﴿ غير باغ ولا عاد ﴾ كيف تقدر الضرورة بقدرها، والأحكام عامة يخاطب بها كل مكلف لا يصح استثناء أحد إلا بنص صريح من الشارع. ويذكر بعض المفسرين في هذا المقام مسائل خلافية في الميتة كحل الانتفاع بجلدها وغير ذلك مما ليس بأكل، وقد قلنا إننا لا نعترض في بيان القرآن إلى المسائل الخلافية التي لا تدل عليها عبارته إذ يجب أن يبقى دائما فوق كل خلاف.
هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس، واقتصرت عليه في الطبعة الأولى وقرأه هو فيها. وأقول الآن إنه رحمه الله كانت خطته الغالبة في ترك المسائل الخلافية التي لا يدل عليها القرآن، وهذا غير الخلاف في مدلول عباراته كما هنا، وربما يكون ذكر الخلاف وسيلة إلى بيان كونه فوق كل خلاف.
وقد زاد المسفرون على هذه المحرمات تبعا لفقهائهم محرمات أخرى استدلوا عليها بأحاديث آحادية في دلالتها نظر وبعموم تجريم الخبائث وهي معارضة بما في هذه الآية وغيرها من الحصر. وقد حققت هذه المسألة في تفسير :﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم ﴾ ( الأنعام : ١٤٠ ) الخ وفندت ما قيل في تأويلها بما ظهر به أن القرآن فوق كل خلاف١.
ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر ( غفور ) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية. وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات. والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطراب دقيق جدا ومرجعه إلى اجتهاد المضطر ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق وأن يقف عنده، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في صف الباغي والعادي بغير اختياره، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يعتمد تجاوز الحدود والله أعلم.
هذه الآيات متصلة بما قبلها على كلا الوجهين السابقين : فإذا كان الكلام لا يزال في محاجة اليهود وأمثالهم فالأمر ظاهر، وإذا قلنا إن الكلام قد دخل في سرد الأحكام، وتكون مقررة لحكم منها وهو ظاهر أيضا، فقد تقدم أن قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض ﴾ ( البقرة : ١٦٨ ) تقرير لحكم في الأكل على خلاف ما عليه أهل الملل، وبينا ما كان عليه أهل الكتاب والمشركين في الأكل، ونقض القرآن لما وضعوه لأنفسهم من أوهاق١ الأحكام وإباحته الطيبات للناس بشرط أن يشكروه عليها، وعلى هذا تكون هذه الآيات جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرم الله ويشرعون لهم ما لم يشرعه، من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع ما لم يأذن به الله وإظهار خلافه، سواء كان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك، قال تعالى :﴿ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ﴾ ( الأنعام : ٩١ ) وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم ويكتم بعضه لمنفعته، لا لإظهار الحق وتأييده، وهذا هو ما عبر عنه بقوله :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا ﴾ أي الذين يخفون شيئا مما أنزل الله من كتابه فلا يبلغونه للناس مهما يكن موضوعه، أو يخفون معناه عنهم بتأويله أو تحريفه أو وضع غيره في موضعه برأيهم واجتهادهم، ويستبدلون بما يكتمونه ثمنا قليلا من متاع الدنيا الفاني كالرشوة والجعل على الفتاوى الباطلة أو قضاء الحاجات عند الله تعالى وغير ذلك من المنافع المؤقتة إذ اتخذوا الدين تجارة. والثمن القليل منه ما قاله المفسر من استفادة الرؤساء من المرؤوسين ومنه عكسه كما تقدم غير مرة.
قال شيخنا : هذا النوع من البيع والشراء في الدين علم في الرؤساء الضالين من جميع الأمم. ومنه ما كان رؤساء اليهود يلاحظونه زمن التنزيل وهو حفظ ما بيدهم الذي يتوهمون أنه يفوتهم بترك ما هم عليه من التقاليد واتباع ما أنزل الله بدلا منها، وهذا هو شأن الناس في كل دعوة إلى إصلاح جديد غير ما هم فيه، وإن كان يعدهم بخير منه في الدنيا والآخرة، وكان ما هم فيه هو الفقر والذل والخذلان حاضرة أو منتظرة.
ماذا كان شأن اليهود في شأن البعثة ؟ ذل واضطهاد من جميع الأمم ولاسيما النصارى، فقد كانوا يسومونهم سوء العذاب، ومنعوهم من دخول مدينتهم المقدسة وأكرهوهم في بعض البلاد على التنصر.
ماذا كان شأن النصارى في زمن البعثة ؟ فقر حاضر، وذل غالب، وحجر على العقول، ومنع للحرية في الرأي والعلم، وتحكم في الإرادة، وسيطرة على خطرات القلوب وأهواء النفوس كان هذا عاما في كل قطر وكل مملكة، وكان بين الطوائف بعضها مع بعض حروب تشب، وغازات تشن، ودماء تسفك، وحقوق تنتهك، وكانوا على هذا كله يتوهمون أن الإسلام سيخرجهم من سعادة إلى شقاء، ومن نعمة إلى بلاء، هب أن بعضهم كان له شيء من المال، وبقية من الجاه أليس هو من فخفخة الدنيا الزائلة، ألم يكن منغصا بالخوف عليه والمنازعة فيه ؟ هب أنه كان لبعض شعوبهم طائفة من القوة، ألم تكن تشبه الزوبعة وتعصف ولا تلبث أن تزول ؟ نعم إن ما كان يغر هؤلاء وهؤلاء لم يكن موضعا للغرور، لأنه متاع حقير، وثمن قليل، وهو غير قائم على أساس ثابت، ولذلك زال بظهور الإسلام وانتشاره، وتقوضت تلك السلطة، واندكت صروح تلك العظمة، وأجلي اليهود من جزيرة العرب، وزال ملك غيرهم من كل بلاد رفضوا فيها دعوة الإسلام. وهذا شأن الباطل لا يثبت أمام الحق، فإن أحكام الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها، وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها، وحكم الحق هو الثابت بذاته، فلا يغلب أنصاره ما داموا معتصمين به، مجتمعين عليه.
وقال المفسرون إن هذا الحكم يصدق على المسلمين كما يصدق على أهل الكتاب لأن الغرض تقرير الحكم وهو عام كما يدل لفظه، وكما يليق بعدل الله تعالى رب العالمين، وكما هو ظاهر معقول من اطراد سنة الله تعالى في تأييد أنصار الحق وخذل أهل الباطل فإنها واضحة جلية للمتأملين.
كل ثمن يؤخذ عوضا عن الحق فهو قليل : إن لم يكن قليلا في ذاته فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الثابتة بذاتها، والدائمة بدوام المحافظة على الحق. ولو دام الباطل إلى نهاية الأجل وما هو إلا قصير فماذا يفعل وقد فاتته بذلك سعادة الروح ونعيم الآخرة باختياره الباطل على الحق ﴿ وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ﴾ ( التوبة : ٣٨ ).
قد يعترض الناظر في التاريخ ما قرره الأستاذ الإمام في هذا المقام من ذهاب عز الذين قاوموا الإسلام وكتموا الحق من اليهود والنصارى، بأن عشية اليهود كانت بعد الإسلام خيرا منها قبله، لأنهم كانوا مضطهدين مقهورين بحكم النصارى الشديد وتعصبهم الفاحش، فساوى الإسلام بينهم وبين النصارى والمسلمين، وأعطاهم كمال الحرية في دينهم ودنياهم فحسنت حالهم في الشرق والغرب وكثر ما بأيدهم ولم يقل. وإن المسلمين لم يقووا على جميع نصارى أوروبا فبقي لكثير من الممالك سلطانها وما تتمتع به. وكذلك بعض الممالك الوثنية وهم أعرق في الباطل من النصارى.
والجواب عن ذلك أن يهود الحجاز هم الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويكتمون ما عرفوا من نعته ويظاهرون المشركين عليه، فهم الذين قاوموا الحق بالباطل، فلقوا جزاءهم الذي تم بجلائهم من جزيرة العرب أو الحجاز. وأما يهود سورية وغيرها ( كالأندلس ) فقد كانوا يساعدون الدعوة الإسلامية ودعاتها حتى من لم يؤمن منهم ليخلصوا من ظلم النصارى واستبدادهم فيهم، فنالوا من حسن الجزاء بمقدار قربهم من الحق، ولو آمنوا وقبلوا الحق كله وأيدوه لذاته ظاهرا وباطنا لأوتوا أجرهم مرتين، وجزاءهم ضعفين، وكانوا أئمة وارثين، وسادة عالين.
وأما الذين سلم لهم ملكهم ومتاعهم فلم يكن لهم ذلك بضعف حق الإسلام عن باطلهم، فإن الذين حاولوا فتح ما وراء الأندلس من أوروبا لم يكن غرضهم كلهم نشر دعوة الحق وإنما كان غرضهم عظمة الملك والغنائم وليس من الحق أن يعتدي قوم على قوم لأجل سلب ما في أيديهم، فإن المعتدي مبطل، والمدافع محق في الدفاع عن نفسه وبلاده، وإن كان مبطلا في عمله واعتقاده، فهو جدير بأن يكون له الظفر إذا أخذ له أهبته، وأعد له عدته. وقس على هذا سائر الممالك التي لم يقو المسلمين عليها بعد ترك الدعوة لأجل الهداية. والإسلام لا يبيح الحرب لذاتها وقد حرم الاعتداء، وإنما يوجب تعميم الدعوة على الحق والخير فمن عارضها وجب جهاده عند القدرة، حتى يقبلها أو يكون لأهلها السلطان الذي يتمكنون به من نشرها بدون معارض أي أنه يوجب الجهاد ما دام الناس يفتنون في الدين أي لا تكون لهم حرية فيه ولا في الدعوة إليه أو يعتدى عليهم وعلى بلادهم ﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ﴾ ( البقرة : ١٩٠ ) ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ ( البقرة : ١٩٣ ) وسيأتي تفسيرها قريبا.
﴿ أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ﴾ أي أولئك الكاتمون لكتاب الله والمتجرون به ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار وانتهاء مطامعهم بعذابها، وهذا أظهر من القول بأنهم لا يأكلون في دار الجزاء إلا النار أو طعام النار من الضريع والزقوم، وعبر عن المنافع في بالأكل لأنه أعمها. والمعنى لا تملأ بطونهم إلا النار، فإن الأكل لما كان لا يكون إلا في البطن كان لا بد من نكتة لذكر البطن إذا قيل أكل في بطنه، ورأيناهم يعبرون بذلك عن الامتلاء، يقولون أكل في بطنه يريدون ملأ بطنه، والأصل أن يأكل الإنسان دون امتلاء بطنه. والمراد أنه لا يشبع جشعهم، ولا يذهب بمطمعهم، إلا النار التي يصيرون إليها، على حد ما ورد في الحديث ( ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ) ٢ واستشهدوا للتعبير بأكل النار عن سبب عذابها بقول القائل في زوجه :
دمشق خذيها لا تفتك فليلة | تمر بعودي نعشها ليلة القدر |
أكلت دما إن لم أرعك بضرة | بعيدة مهوى القرط طيبة النشر |
٢ أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٠، ومسلم في الزكاة حديث ١١٦، ١١٩، والترمذي في المناقب باب ٣٢، ٦٤، والدارمي في الرقاق باب ٦٢، وأحمد في المسند ٥ / ١١٧، ١٣١، ١٣٢، ٢١٩..
﴿ والعذاب بالمغفرة ﴾ أي واشتروا العذاب بالمغفرة في الآخرة، وهذا أثر ما قبله فإن متبع الهدى هو الذي يستحق المغفرة لما يفرط منه وما يلم هو به من السوء، ومتبع الضلالة هو المستحق للعذاب ومن دعي إلى الحق يعرف هذا، فإذا هو اختار الضلالة بعد صحة الدعوة وقيام الحجة فقد اشترى العذاب بالمغفرة، وكان هو الجاني على نفسه، إذ استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، غرورا بالعاجل، واستهانة بالآجل.
﴿ فما أصبرهم على النار ﴾ أي أن صبرهم على عذاب النار الذي تعرضوا له مثار العجب، ذلك بأن عملهم الموصوف في الآيتين هو العمل الذي يسوقهم إلى عذاب النار. فتهوكهم فيه إنما هو تهوك١ من لا يبالي به، كأنه مما يطيقه ويمكنه الصبر عليه، فلا يترك ضلالته اتقاء له. وصيغة التعجب قالوا يراد بها تعجيب الناس من شأنهم إذ لا نتصور حقيقة التعجيب من الله تعالى إذ لا شيء غريب عنده عز وجل ولا مجهول سببه، وهو العالم بظواهر الأشياء وخوافيها، وحاضرها عنده كماضيها وآتيها ﴿ لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ﴾ ( سبأ : ٣ ) والصبر على النار غير واقع منهم فيتعجب منه حالا، ولا متوقع فيتعجب منه مآلا، فلا صبر هنالك يتعجب منه، وإنما حالهم في تهوكهم وانهماكهم في العبث بدين الله هو الذي جعل موضع التعجب للتنفير والتشنيع عليهم، ولكن صح في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى وطريقة السلف في مثله أن يقال عجب يليق به ليس كعجب البشر مما يكبرون أمره ويجهلون سببه، ويتأوله الأكثرون بالرضى من المتعجب منه.
وقال الأستاذ الإمام في العبارة ما معناه مبسوطا : إن الكلام في أكلهم النار والتعجب من صبرهم على النار هو تصوير لحالهم وتمثل لمآلهم. أما الثاني فظاهر وأما الأول فيتجلى لك إذا تمثلت حال قوم عندهم كتاب يؤمنون به أنه من الله، ويؤمنون بقاء الله، وقد كتموا ما أنزل الله فيه بالتحريف والتأويل كما فعل اليهود بكتمان وصف الرسول، وهم يقارعون بالدلائل العقلية، ويذكرون بآيات الله وأيامه، فيشعرون بجاذبين متعاكسين : جاذب الحق الذي عرفوه، وجاذب الباطل الذي ألفوه، وذلك يحدث لهم هزة وتأثيرا، وهذا يحدث لهم استكبارا ونفورا، وقد غلب عقولهم ما عرفوا، وغلب قلوبهم ما ألفوا، فثبتوا على ما حرفوا وانحرفوا، وصاروا إلى حرب عوان، بين العقل والوجدان، يتصورون الخطر الآجل، فينغص عليهم التلذذ بالعاجل، ويتذوقون حلاوة ما هم فيه، فيؤثرونه على ما سيصيرون إليه. أليس هذا الشعور بخذل الحق ونصر الباطل، واختيار ما يفنى على ما يبقى، نارا تشب في الضلوع ؟ أليس ما يأكلون من ثمن الحق ضريعا لا يسمن ولا يغني من جوع ؟ بل فإن عذاب الباطن أشد من عذاب الظاهر، كما يؤمئ إليه قول الشاعر :
دخول النار للمهجور خير | من الهجر الذي هو يتقيه |
لأن دخوله في النار أدنى | عذابا من دخول النار فيه |
.
هذا حكم آخر في الكتاب غير حكم كتمانه، فهو يفهمنا أن الاختلاف فيه بعد عن الحق ككتمانه، لأن الحق واحد وهو ما يدعو إليه الكتاب، والمختلفون لا يدعون إلى شيء واحد ولا يسلكون سبيلا واحدة ﴿ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ ( الأنعام : ١٥٣ ) وهذا دليل على أنه لا يجوز لأهل الكتاب الإلهي أن يقيموا على خلاف في الدين، ولا أن يكونوا شيعا كل يذهب إلى مذهب ﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾ ( الأنعام : ١٥٩ ) ولما كان اختلاف الفهم ضروريا لأنه من طباع البشر وجب عليهم أن يتحاكموا فيه إلى الكتاب والسنة حتى يزول ولا يجوز أن يقيموا عليه ﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾ ( النساء : ٥٩ ) فلا عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم بعد هذا البيان الذي جعل لكل مشكل مخرجا.
الشقاق أثر طبيعي للاختلاف، والاختلاف في الأمة أثر طبيعي للتقليد والانتصار للرؤساء الذي اتخذوا أندادا ولو بدون رضاهم ولا إذنهم إذ لولا التقليد لسهل على الأمة أن ترجع في كل عصر أقوال المجتهدين والمستنبطين إلى قول واحد بعرضه على كتاب الله وسنة رسوله. مثال ذلك أن الكتاب والسنة صريحان في أن النكاح لا يصح إلا إذ تولى العقد ولي المرأة برضاها أو غيره بإذنه وقد أجمع الصحابة على هذا العمل، ونقلا عن أعمالهم قولا، ولم ينقل أحد فيه خلافا صحيحا، فإذا وجد للحنيفة في مسألة قولان :( أحدهما ) مخالف للنصوص وهو أن للبالغة الراشدة أن تزوج نفسها. ( وثانيهما ) أنه ليس لها ذلك وهو الموافق للنصوص أفلم يكن من الواجب على المسلمين وقد اختلف علماؤهم في هذه المسألة أن يعرضوها على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسائر المجتهدين، ويردوا الراوية المخالفة ويعملوا بالموافقة ؟ بلى ولكن التقليد، هو الذي أوقعهم في الشقاق البعيد.
ويتوهم بعضهم أن ترك أقوال بعض الأئمة إهانة لهم، وهذا غير صحيح بل هو عين التعظيم لهم، والإتباع لسيرتهم الحسنة. ولو فرضنا أنه إهانة وكان يتوقف عليها اتباع هدي كتاب الله وسنة رسوله أفلا تكون واجبة ويكون تعظيم الكتاب والسنة مقدما عليه لأن إهانتهما كفر وترك للدين ؟ على أن ترك أقوال الأئمة واقع ما له من دافع، فإن أتباع كل إمام تاركون لأقوال غيره المخالفة لمذهبهم، بل ما من مذهب إلا وقد رجح بعض علمائه أقوالا مخالفة لنص الإمام ولاسيما الحنيفة.
هذا وإن الكتاب لا مثار فيه للخلاف والنزاع إذا صحت النية، فكل من يتعلم العربية تعلما صحيحا وينظر في سنة النبي وسيرته وما جرى عليه السلف من أصحابه والتابعين لهم يسهل عليه أن يفهمه، وما تختلف فيه الأفهام لا يقتضي الشقاق بل يسهل على جماعة المسلمين من أهل العلم والفهم أن ينظروا في الفهمين المختلفين وطرق الترجيح بينهما، وما عساه ينفرد به بعض الأفراد من فهم خاص بمعارفه يكون حجة عليه دون غيره، فهولا يقتضي شقاقا لأن الشقاق فيه معنى المشاركة. والله أعلم وأحكم.
وأزيد هذا إيضاحا بما حققته في هذه المسألة بعد الطبعة الأولى لهذا الجزء وهو أن ما كان قطعي الدلالة من النصوص فهو الشرع العام الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه عملا وقضاء، وأن ما كان ضني الدلالة فهو موكول إلى اجتهاد الأفراد في التعبدات والمحرمات، وإلى أولي الأمر في الأحكام القضائية. وسنعود إلى بيان هذا في تفسير ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر ﴾ ( البقرة : ٢١٩ ) من هذا الجزء.
ادعى الجلال أن هذه الآية نزلت للرد على النصارى الذين يولون وجوههم في صلاتهم قبل المشرق واليهود الذين يولونهم قبل بيت المقدس. وهذا ادعاء لم يثبت والصحيح قريب منه وهو أن أهل الكتاب أكبروا أمر تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة كما تقدم في آيات التحويل وحكمه وطال خوضهم فيها حتى شغلوا المسلمين بها، وغلا كل فريق في التمسك بما هو عليه وتنقيص مقابله كما هو شأن البشر في كل خلاف يثير الجدل والنزاع، فكان أهل الكتاب يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا تقبل عند الله تعالى، ولا يكون صاحبها على دين الأنبياء، والمسلمون يرون أن الصلاة إلى المسجد الحرام هو كل شيء لأنه قبلة إبراهيم وأول بيت وضع لعبادة الله تعالى وحده فأراد الله تعالى أن يبين للناس كافة أن مجرد تولية الوجه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين، ذلك أن استقبال الجهة المعينة إنما شرع لأجل تذكير المصلي بالإعراض عن كل ما سوى الله تعالى في صلاته والإقبال على مناجاته ودعائه وحده. وليكون شعارا لاجتماع الأمة. فتولية الوجه وسيلة للتذكير بتولية القلب، وليس ركنا من العبادة بنفسه، وأن يبين لهم أصول البر ومقاصد الدين فقال :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ قرأ حمزة وحفص بنصب البر والباقون برفعه وكلاهما ظاهر والبر بكسر الباء لغة التوسع في الخير مشتق من البر بالفتح وهو مقابل البحر في تصور سعته كما قال الراغب وشرعا ما يتقرب به إلى الله تعالى من الإيمان والأخلاق والأعمال الصالحة. وتوجيه الوجوه إلى المشرق أو المغرب ليس هو البر ولا منه بل ليس في نفسه عملا صالحا كما تقدم شرحه في آيات تحويل القبلة وأحلنا فيه على هذه الآية التي بين الله فيها مجامع البر.
﴿ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين ﴾ قرأ الجمهور لكن بالتشديد ونافع وابن عامر بالتخفيف أي ولكن جملة البر هو من آمن بالله الخ وفيه الإخبار عن المعنى بالذات وهو معهود في الكلام العربي الفصيح، والقرآن جار على الأساليب العربية الفصحى، لا على فلسفة النحاة وقوانينهم الصناعية، وبلاغة هذه الأساليب إنما هي في إيصال المعاني المقصودة إلى الذهن على أجلى وجه يريده المتكلم وأحسن تأثير يقصده، ومثل هذا التعبير لا يزال مألوفا عند أهل العربية على فساد ألسنتهم في اللغة، يقولون : ليس الكرم أن تدعوا الأغنياء والأصدقاء إلى طعامك ولكن الكرم من يعطي الفقراء العاجزين عن الكسب. فالكلام مفهوم دون أن نقول إن معناه : ولكن ذا الكرم من يعطي أو لكن الكرم عطاء من يعطي. وإنما نحن في حاجة إلى بيان النكتة في اختيار ذلك على قول : ولكن البر هو الإيمان بالله الخ وهذه نكتة مفهومة من العبارة، فإنها تمثل لك المعنى في نفس الموصوف به فتفيدك أن البر هو الإيمان وما يتبعه من أعمال باعتبار اتحادهما وتلبس المؤمن البار بهما معا، من حيث إن الإيمان باعث على الأعمال وهي منبعثة عنه وأثر له تستمد منه وتمده وتغذيه، أي أنها تمثل لك المعنى في الشخص، أو الشخص عاملا بالبر، وهذا أبلغ في النفس هنا من إسناد المعنى إلى المعنى ومن إسناد الذات كما هو مذوق ومفهوم.
ابتدأ بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر لأنه أساس كل بر، ومبدأ كل خير، ولا يكون الإيمان أصلا للبر إلا إذا كان متمكنا من النفس بالبرهان، بالخضوع والإذعان، فمن نشأ بين قوم وسمع منهم اسم الله في حلفهم واسم الآخرة في حوارهم وقبل منهم بالتسليم أن له إلها وأن هناك يوما آخر يسمى يوم القيامة وأن أهل دينه هم خير من أهل سائر الأديان، فإن ذلك لا يكون باعثا له على البر وإن زادت معارفه بهذه الألفاظ المسلمة، فحفظ الصفات العشرين التي حدد بعض المتكلمين بها ما يجب إثباته لله تعالى عقلا، وأضدادها التي تستحيل عليه عقلا، وإن حفظ العقيدة السنوسية المسماة بأم البراهين أيضا. ولقد كان أهل الكتاب الذين تبين لهم الآية خطأهم في فهم مقاصد الدين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولكنهم كانوا بمعزل عن الإذعان والقيام بحقوق هذا الإيمان من الأعمال والأوصاف المذكورة في الآية.
الإيمان المطلوب معرفة حقيقة تملك العقل والبرهان، والنفس والإذعان، حتى يكون الله ورسوله أحب إلى المؤمنين من كل شيء، ويؤثر أمرهما على كل شيء ﴿ قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ ( التوبة : ٢٣ ) وإيمان التقليد قد يفضل صاحبه حب كل واحد من هذه الأمور على حب الله ورسوله.
الإيمان المطلوب معرفة تطمئن بها القلوب، وتحيا بها النفوس، وتخنس معها الوساوس، وتبعد بها عن النفس الهواجس، فلا تبطل صاحبها النعمة، ولا تؤيسه النقمة ﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ ( الرعد : ٢٨ ) ﴿ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾ ( الحديد : ٢٣ ) وإيمان التقليد لا يفتأ صاحبه مضطرب القلب، ميت النفس، إذا مسه الخير فهو فرح فخور، وإذا مسه الشر فهو يؤوس كفور.
الإيمان المطلوب معرفة تتمثل للمؤمن إذا عرضت له دواعي الشر وأسباب المعاصي فتحول دونها، فإذا نسي فأصاب الذنب بادر إلى التوبة والإنابة. فالمؤمنون هم الذين وصفوا بقوله تعالى :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ ( آل عمران : ١٥٣ ) وهم ﴿ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ ( الأنفال : ٢ ) وإيمان التقليد يصر صاحبه على العصيان، ويقترف الفواحش عامدا عالما، لا يستحي من الله ولا يوجل قلبه إذا ذكره، ولا يخافه إذا عصاه.
الإيمان المطلوب هو الذي إذا علم صاحبه بأن الإيمان أصيب بمصيبة كانت مصيبته في دينه أشد من المصيبة في نفسه وماله وولده، وكان انبعاثه إلى تلافيها أعظم من انبعاثه إلى دفع الأذى عن حقيقته، وجلب الرزق إلى نفسه وأهله وعشيرته، وإيمان المقلد لا غيرة معه على الدين ولا على الإيمان ﴿ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون* وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ﴾ ( النور : ٤٨ – ٤٩ ) الآيات.
يذكر القرآن الإٌيمان بالله واليوم الآخر كثيرا وإنما المراد به ما له مثل هذه الأذكار التي شرحها في آيات كثيرة، من أجمعها هذه الآية التي نفسرها الآن، ولكن أهل التقليد الذين لا أثر للإيمان في قلوبهم ولا في أعمالهم إلا ما جرت به عادة قومهم من الإتيان ببعض الرسوم يؤولون كل هذه الآيات بجعلهم الإيمان قسمين : قسما كاملا، وهو الذي يصف القرآن أهله بما وصفهم به. وقسما ناقصا وهو إيمانهم الذي يجامع ما وصف الله تعالى به الكافرين والمنافقين، ويرون أن الإيمان الناقص كاف لنيل سعادة الآخرة ولاسيما إذا صحبه بعض الرسوم الدين و الله تعالى يرشدنا في مثل هذه الآية إلى أن الرسوم ليست من البر في شيء، وإنما البر هو الإيمان وما يظهر من آثاره في النفس والعمل كما ترى في الآية وأساس ذلك الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
فالإيمان بالله يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية وهي دعوى القداسة والوساطة عند الله، ودعوى التشريع والقول على الله بدون إذن الله، أو السلطة الدنيوية وهي سلطة الملك والاستبداد، فإن العبودية لغير الله تعالى تهبط بالبشر إلى دركة الحيوان المسخر أو الزرع المستنبت والإيمان باليوم الآخر وبالملائكة يعلم الإنسان أن له حياة في عالم غيبي أعلى من هذا العالم، فلا يرضى لنفسه أن يكون سعيه وعمله لأجل خدمة هذا الجسد خاصة، لأن ذلك يجعله لا يبالي إلا بالأمور البهيمية، ولا يرضى لنفسه بالأولى أن يكون عبدا ذليلا لبشر مثله للقب ديني أو دنيوي وقد أعزه الله بالإيمان، وإنما أئمة الدين عنده مبلغون لما شرع الله، وأئمة الدنيا منفذون لأحكام الله. وإنما الخضوع الديني لله ولشرعه لا لشخوصهم وألقابهم.
ثم إن الإيمان بالملائكة أصل الإيمان بالوحي، لأن ملك الوحي روح عاقل عالم يفيض العلم بإذن الله على روح النبي بما هو موضوع الدين، ولذلك قدم ذكر الملائكة على ذكر الكتاب والنبيين، فهم الذين يؤتون النبيين الكتاب ﴿ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ﴾ ( القدر : ٤ ) ﴿ نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين ﴾ ( الشعراء : ١٩٤ ) فيلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة وإنكار الأرواح، وذلك يستلزم إنكار اليوم الآخر، ومن أنكر اليوم الآخر يكون أكبر همه لذات الدنيا وشهواتها وحظوظها، وذلك أصل لشقاء الدنيا قبل شقاء الآخرة. والملائكة خلق روحاني عاقل قائم وهم من عالم الغيب فلا نبحث عن حقيقتهم كما تقدم غير مرة.
واختير لفظ الكتاب للإيماء إلى أن كلا من اليهود والنصارى لو صح إيمانهم بكتابهم وأذعنوا له لكان في ذلك هداية لهم، وإن جهلوا وحدة الدين فلم يعرفوا حقيقة جميع الكتب الإلهية، على أن المقصود لازمه وهو أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بكتابهم إذ لا يعلمون بما يرشد إليه، ولو كان إيمانهم صحيحا لقارنه الإذعان، الباعث على العمل بقدر الإمكان، فإن كثيرا من المؤمنين بالتسليم والتقليد كانوا كمن نزل فيهم ﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ﴾ ( الحجرات : ١٤، ١٥ ).
فهذا الإيمان الذي حصر الله الصدق في أصحابه كان قد فقد من أكثر أهل الكتاب كما هو حال مجموع المسلمين في هذا العصر، فإن الذي تصدق عليه هذه الأوصاف صار نادرا جدا. ولذلك حرم المسلمون ما وعد الله المؤمن من العزة والنصر، والاستخلاف في الأرض، ولن يعود لهم شيء من ذلك حتى يعودوا إلى التحقق بما ميز الله به المؤمنين من النعوت والأوصاف. فالإيمان بالكتاب يستلزم العمل به، فإن المؤمن الموقن بأن هذا الشيء قبيح ضار لا تتوجه إرادته إلى إتيانه، والمؤمن الموقن بأن هذا الشيء حسن نافع لا بد أن تتوجه إليه نفسه عند عدم المانع.
فما بال مدعي الإيمان بالكتاب قد أعرضوا عن امتثال أمره ونهيه حتى صاروا يعدون حفظه وقراءته من موانع الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، فكان من قوانينهم أن حافظ القرآن لا يطالب بتعلم فنون الحرب والجهاد لأنه حافظ، وصار حملة الكتاب لا يطالبون ببذل شيء من مالهم في سبيل الله، حتى إذا ما طولب أحدهم ببذل شيء لإعانة المنكوبين أو لبناء مسجد ونحو ذلك اعتذر بأنه من العلماء أو الحفاظ لكتاب ا
ذكر المفسر وغيره أن القصاص على القتل كان محتما عند اليهود وأن القرآن جاء وسطا يفرض القصاص إذا أصر عليه أولياء المقتول ويجيز الدية إذا عفوا. وقد أقرهم الأستاذ الإمام على قولهم إن القتل قصاصا كان حتما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج والعشرين من التثنية. وأنكر عليهم قولهم إن الدية كانت حتما عند النصارى فإنه ليس في كتبهم شيء يحتم عليهم ذلك إلا أن يقال إن ذلك مأخوذ من وصايا التساهل والعفو وجزاء الإساءة بالإحسان من الإنجيل، ولكن أخذ الدية ضرب من ضروب الجزاء ينافي هذه الوصايا.
وإذا نظرنا في أعمال الأولين والآخرين وشرائعهم في القتل نجد القرآن وسطا حقيقيا لا بين ما نقل عن اليهود والنصارى فقط بل بين مجموع آراء البشر من أهل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، فقد كانت العرب تتحكم في ذلك على قدرة القبائل وضعفها، فرب حر كان يقتل من قبيلة فلا ترضى قبيلته بأخذ القاتل به، بل تطلب به رئيسا، وأحيانا كانوا يطلبون بالواحد عشرة وبالأنثى ذكرا، وبالعبد حرا، فإن أجيبوا وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة، وهذا إفراط وظلم عظيم تقتضيه طبيعة البداوة الخشنة. وفرض التوراة قتل القاتل إصلاح في هذا الظلم، ولكن يوجد في الناس لاسيما أهل القوانين في زماننا هذا من ينكر المعاقبة بالقتل ويقولون إنه من القسوة وحب الانتقام في البشر. ويرون أن المجرم الذي يسفك الدم يجب أن تكون عقوبته تربية لا انتقاما، وذلك يكون بما دون القتل، ويشددون النكير على من يحكم بالقتل إذا لم تثبت الجريمة على القاتل بالإقرار، بأن تثبت بالقرائن أو بشهادة شهود يجوز عليهم الكذب، ويرون أن الحكومة إذا علمت الناس التراحم في العقوبات فذلك أحسن تربية لهم، ومنهم من يقول إن المجرمين لا يكونون إلا مرضى العقول فالواجب أن يوضعوا في مستشفيات الأمراض العقلية ويعالجون فيها إلى أن يبرؤوا.
وإذا دققنا النظر في أقوال هؤلاء نرى أنهم يريدون أن يشرعوا أحكاما خاصة بقوم تعلموا وتربوا على الطرق الحديثة وسيسوا بالنظام والحكم، حتى لا سبيل لأولياء المقتول أن يثأروا له من القاتل ولا أن يسفكوا لأجله دماء بريئة، وحتى يؤمن من استمرار العداوة والبغضاء بين بيوت القائلين، ووجدت عندهم جميع وسائل التربية والمعالجة، لا أحكاما عامة لجميع البشر، في البدو والحضر، ومع هذا نرى كثيرا من الناس حتى المنتسبين إلى الإسلام يغترون بآرائهم ويرونها شبهة على الإسلام١ وأما النافد البصيرة العارف بمصالح الأمم الذي يزن الأمور العامة بميزان المصلحة العامة لا بميزان الوجدان الشخصي بنفسه أو ببلده فإنه يرى أن القصاص بالعدل والمساواة هو الأصل الذي يربي الأمم والشعوب والقبائل كلها، وأن تركه بالمرة يغري الأشقياء بالجراءة على سفك الدماء، وأن الخوف من الحبس والأشغال الشاقة إذا أمكن أن يكون مانعا من الإقدام على الانتقام بالقتل في البلاد التي غلب على أهلها التراحم أو الترف والانغماس في النعيم كبعض بلاد أوربة فإنه لا يكون كذلك في كل البلاد وكل الشعوب، بل إن من الناس في هذه البلاد وفي غيرها من يحبب إليه الجرائم أو يسهلها عليه كون عقوبتها السجن الذي يراه خيرا من بيته، وأن في مصر من الأشقياء من يسمي السجن نزلا أو فندقا.
وسمعت أن غير واحد في سورية يقول : إذا فعل فلان كذا أقتله وأقيم في القلعة عشر سنين. وذلك أن القاتل هناك يحكم عليه غالبا بالسجن خمس عشرة سنة في قلعة طرابلس الشام، ويعفو السلطان في عيد جلوسه عمن تم له ثلثا المدة المحكومة بها عليه في السجن. واشتهر بعض المجرمين في مصر أنهم يسمون بعض السجون العصرية " لوكاندة كولس " بالإضافة إلى كولس باشا مدير السجون الذي أنشئت في عهده. ويقول بعضهم : أسرق كذا أو أضرب فلانا وأشتو في لوكاندة كولس فإن الشتاء فيها أرحم وأنعم من الشتاء في بيتنا أو في الشوارع. ولا يبعد على المجرم من هؤلاء أن يقتل لأن عقاب القتل في هذه السجون إن ثبت عليه أهون من عيشته الشقية، فما القول في أهل البوادي أصحاب الثارات التي لا تموت ؟ ـ فقتل القاتل هو الذي يربي الناس في كل زمان ومكان ويمنعهم من القتل ( قال شيخنا ) وقد بلغ في الاعتراف بذلك معدل القانون المصري حيث أجاز الحكم بالإعدام إذا وجدت القرائن القاطعة على ثبوت التهمة، بعد أن كان لا يجيزه إلا بالاعتراف أو شهادة شهود الرؤية.
وقد تقع في كل بلاد صور من جرائم القتل يكون فيها الحكم بقتل القاتل ضارا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل الإنسان أخاه أو أحد أقاربه لعارض دفعه إلى ذلك، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت، وإذا قتل يفقدون بقتله المعين والظهير، بل قد يكون في قتل القاتل أحيانا مفاسد ومضار وإن كان أجنبيا من المقتول، ويكون الخير لأولياء المقتول عدم قتله لدفع المفسدة، أو لأن الدية أنفع لهم، فأمثل هذه الصور توجب أن لا يكون الحكم بقتل القاتل حتما لازما في كل حال، بل يكون هو الأصل، ويكون تركه جائزا برضاء أولياء المقتول وعفوهم، فإذا ارتقت عاطفة الرحمة، في شعب أو قبيل أو بلد إلى أن صار أولياء القاتل منهم يستنكرون القتل ويرون العفو أفضل وأنفع فذلك إليهم، والشريعة لا تمنعهم منه بل ترغبهم فيه، وهذا الإصلاح الكامل في القصاص هو ما جاء به القرآن، وما كان ليرتقي إليه بنفسه علم الإنسان.
قال تعالى :
﴿ يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ القصاص في أصل اللغة يفيد المساواة، فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه في نظر الشريعة مساو للمقتول فيؤخذ به، فالغرض من الآية شرعية القصاص بالعدل والمساواة وإبطال ذلك الامتياز الذي للأقوياء على الضعفاء، ولذلك قال :﴿ الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾ أي أن هذا القصاص لا هوادة فيه ولا جور، فإذا قتل حر حرا يقتل هو به لا غيره من سادات القبيلة ولا أكثر من واحد، وإذا قتل عبد عبدا يقتل هو به لا سيده، ولا أحد الأحرار من قبيلته، وكذلك المرأة إذا قتلت تقتل هي ولا يقتل واحد فداء عنها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية في ذلك كله. فالقصاص على القاتل نفسه أيا كان لا على أحد من قبيلته. فما كانت عليه العرب في الثأر يبين هذا المعنى من الآية. ولكن مفهوم اللفظ بحد ذاته وسياق مقابلة الأصناف يفهم أنه لا يقتل فريق بفريق آخر، وهو غير مراد على إطلاقه، فقد جرى العمل من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن على قتل الرجل بالمرأة، واختلفوا في قتل الحر بالعبد ؛فذهب أبو حنيفة وابن أبي ليلى وداود إلى أنه يقتل به إذا لم يكن سيده. ويذهب الجمهور إلى أنه يقتل به مطلقا، والاختلاف في قتل الرجل بالمرأة أضعف ولهذه الخلافات زعم بعضهم أن في الآية نسخا.
وإنما منشأ الخلاف أدلة أخرى من السنة وغيرها والاعتبار بمفهوم المخالفة في الآية وعدمه، والقرآن فوق كل خلاف. فمنطوق الآية لا مجال للخلاف فيه، وهو أن الحر يقتل بالحر الخ وأما كون الحر يقتل بالعبد والرجل بالمرأة فهذا يؤخذ من لفظ القصاص ولا يعارضه مفهوم التفصيل، فإن بعض أهل الأصول لا يعتبر المفهوم المخالف للمنطوق وبعضهم يعتبره بشرط لا يتحقق هنا لما ذكروه في سبب النزول منطبقا على ما ذكرناه عن العرب.
قال البيضاوي في تفسير الآية : كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت وأمرهم أن يتبارؤوا ولا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى كما لا تدل على عكسه، فإن المفهوم يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم اه والبيضاوي من الشافعية القائلين بمفهوم المخالفة. وما ذكره في سبب النزول أخرجه ابن أبي حاتم.
ويدخل في عموم الآية الكافر وبه قال الكوفيون والثوري وقال الجمهور لا يقتل به المسلم لما ورد في ذلك من الحديث الصحيح المبين لإجمال الآية. واستثني من عمومها السيد يقتل عبده قالوا لا يقتل به ولكن يعزر ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن النخعي. قال الأستاذ الإمام : وللحاكم أن يقرر هذا التعزيز بشدة تمنع الاعتداء والاستهانة بالدم. ولا يخفى أن التعزير قد يكون بالقتل فإذا عهد في قوم من القسوة ما يقتلون به عبيدهم فللإمام أن يقتل السيد بعبده تعزيرا لا حدا إذا رأى المصلحة العامة في ذلك. واستثنوا أيضا الوالدين فقالوا لا يقتل الوالد بولده وعلله الأستاذ الإمام بأن الحدود توضع حيث تتحرك النفوس للجناية لتكون رادعة عن الاستمرار فيها، وقد مضت السنة الإلهية في الفطرة بأن قلوب الأصول من طينة الشفقة والحنو على الفروع حتى ليبذلون أموالهم وأرواحهم في سبيلهم وكثيرا ما يقسو الولد على والده وقلما يقسو والد على ولده إلا لسبب قوي كعقوق شديد أو فساد في أخلاق الولد جنى على أصل الفطرة كالإفراط في حب الذات ولكن هذه القسوة لا تفضي إلى القتل إلا لأمر يكاد يكون فوق الطبيعة كعارض جنون من الوالد أو إيذاء لا يطاق من الولد. ولما كان هذا شاذا نادرا جعل كالعدم فلم يلاحظ في وضع الحد، لأن الأحكام تناط بالمظنة لا بالشواذ التي يندر أن تقع، ومع هذا يعزر من يقتل ولده بما يراه الحاكم لائقا بحاله ومربيا لأمثاله.
وأقول : إن أعظم أسباب هذا الشذوذ في الوالدين طغيان الحكم الاستبدادي وجنون العشق، فكثيرا ما قتل الملوك أولادهم، وكانت سنة سلاطين آل عثمان أن تسلم القوابل أبناء أسرتهم كلهم للقتل عقب الولادة إلا من يسمى ولي العهد الوارث للسلطنة، ويلي ذلك قتل الوالدين حتى الأمهات بثوران جنون العشق٢.
وقد اضطرب العلماء في تعيين المخاطب بهذا القصاص إذ لا يصح أن يكون القاتل ولا المقتول ولا ولي الدم ولا عصبة القاتل ولا سائر الناس الأجانب. ولا يظهر أيضا أن المخاطب بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص ﴾ الحكام خاصة. قال الأستاذ الإمام بعدما أورد هذا المعنى عن بعضهم وهذه مشاغبة وتشكيك كمشاغبات الرازي وشكوكه والخطاب مفهوم بالبداهة، والآية جارية على أسلوب القرآن في مخاطبة جماعة المؤمنين في الشؤون العامة والمصالح لاعتبار الأمة متكافلة ومطالبة بتنفيذ الشريعة وحفظها بالخضوع لأحكامها كما تقدم بيانه في مخاطبة اليهود بإسناد ما كان من آبائهم إليهم إذ قلنا إن الأمة في هدى القرآن كالشخص الواحد يخاطب البعض منها بالكل والكل بالبعض، كما يقال للشخص جنيت وجنت يدك وأخطأت وأخطأ سمعك أو رأيك. ففي هذا الخطاب بالقصاص يدخل القاتل لأنه مأمور بالخضوع لحكم الله، ويدخل الحاكم لأنه مأمور بالتنفيذ، ويدخل سائر المسلمين لأنهم مأمورين بمساعدة الشرع وتأييده، ومراقبة من يختارونه للحكم به وتنفيذه اه وأزيد عليه إفادة الآية وأمثالها أن سلطة الحكم في الإسلام للأمة في جملتها، كل يقوم بقسطه من الاجتهاد في التشريع بالشورى والتنفيذ للأحكام والخضوع لها بشروطها.
بعد أن بين تعالى وجوب القصاص وهو أصل العدل، ذكر أمر العفو وهو مقتضى التراحم والفضل، فقال :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء ﴾ الخ. أي فمن عفا له أخوه في الدين من أولياء الدم عن شيء من حقهم في القصاص ولو واحد منهم إن تعددوا وجب اتباعه وسقط القصاص كما يأتي، وإنما يعفو من له حق طلب القصاص، وقد جعل الله هذا الحق لأولياء المقتول وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده ويهانون بفقده، ويحرمون من عونه ورفده، فمن أزهق روحه كان لهم أن يطلبوا إزهاق روحه، لما تستفزهم إليه نعرة القرابة وطبيعة المصلحة. فإذا لم يجب طلبهم، ولم يقتص الحاكم لهم، فإنهم ربما يحتالون للانتقام، ويفشو بينهم وبين القاتل وقومه التشاحن والخصام، وإذا جاء العفو من جانبهم أمن المحذور والفتنة، ولاسيما إذا كان من أسباب العفو استعطاف القاتل وقومه لهم، واستعتابهم إياهم، بإثارة عاطفة الأخوة الدينية، وأريحية المروءة والإنسانية، ففي مثل هذه الحالة يوجب الله تعالى حجب الدم، وليس للحكومة أن تمنع من العفو إذا رضوا به ولا أن تستقل بالعفو إذا طلبوا القصاص فتحفظ قلوبهم، وتخرج أضغانهم، وتحملهم على محاولة الانتقام بأيديهم إذا قدروا، فيزيد البلاء، ويكثر الاعتداء، أو يعيش الناس في تباغض وعداء، وفوضى تستباح فيها الدماء.
وعبارة الآية تشعر بأن الله تعالى يحب من عباده العفو، ولذلك فرض اتباع العفو وإن لم يكن تاما متفقا عليه من جميع أولياء الدم كالآباء والأبناء والإخوة، فإن عفا بعضهم يرجح جانبه على الآخرين كما يدل عليه تنكير شيء في قوله ﴿ فمن عفي له من أخيه شيء ﴾ فقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن ﴿ شيء ﴾ هنا نائب عن المصدر أي عفي له شيء من العفو بأن ناله بعضه ممن لهم المطالبة به، ويؤيد هذا ويؤكده التعبير عن العافي بلفظ الأخ الذي يحرك عاطفة الرحمة والحنان، وهو كما قال المفسرون يؤذن بأن القتل لا يقتضي الارتداد عن الإسلام وقطع أخوة الإيمان، إلا إذا استحله فاعله.
ومن مباحث اللفظ هنا أن بعض المفسرين أشكل عليهم استعمال عفي متعدية باللام وزعموا أنها بمعنى ترك قال البيضاوي تبعا للكشاف : وهو ضعيف إذا لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه، وعفا يعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب قال الله تعالى :﴿ عفا الله عنك ﴾ ( التوبة : ٤٣ ) وقال :﴿ عفا الله عنها ﴾ ( المائدة : ١٠١ ) فإذا عدي به إلى الذنب عدي إلى الجاني باللام وعليه ما في الآية كأنه قيل : فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني ولي الدم.
ولما كان العفو عن القصاص يتضمن الرضى بأخذ الدية قال الله تعالى :
﴿ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ﴾ أي من ناله شيء من هذا العفو فالواجب في شأنه أو قضيته تنفيذ العفو وثبوت الدية، وعبر عن الأول باتباع العفو بالمعروف، وهو واجب على الإمام الحاكم وعلى العافي وغيره من الأولياء، وإن لم يعفوا فعليهم أن لا يرهقوا القاتل من أمره عسرا، بل يطلبون منه الدية بالرفق والمعروف الذي لا يستنكره الناس، وعبر عن الثاني بالأداء إليه بإحسان، وهو واجب على القاتل بأن لا يمطل ولا ينقص ولا يسئ في صفة الأداء. ويجوز العفو عن الدية أيضا كما في قوله تعالى في سورة النساء ٩٢ :﴿ ودية مسلمة على أهله إلا أن يصدقوا ﴾ هذا هو الظاهر في الآية فلا حاجة إلى ذكر ما قالوه من احتمال غيره.
ويؤكد رغبة الشارع في العفو امتنانه علينا بإجازته ووعيده لمن اعتدى، أما الامتنان به فقوله :﴿ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ﴾ وأي تخفيف ورخصة أفضل من حجب الدم بتجويز العفو والاكتفاء عنه بقدر معلوم من المال ؟ فهذه رحمة منه سبحانه وتعالى بهذه الأمة إذ رغبها في التراحم والتعاطف والعفو والإحسان، وأما الوعيد على الاعتداء بعده فقوله :﴿ فمن اعتدى بعد ذلك ﴾ أي بعد العفو عن الدم والرضى بالدية بأن انتقم من القاتل ﴿ فله عذاب أليم ﴾ قيل معناه أنه يتحتم قتل الولي العافي أو غيره إذا قتل المقتول بعد العفو ولا يجوز العفو عنه، بل يقتله الحاكم وإن عفا ولي المقتول، وبه قال جماعة من المفسرين كعكرمة والسدي. وقال عمر بن عبد العزيز : أمره إلى الإمام يفعل فيه ما يراه. والجمهور على أن حكمه حكم القاتل ابتداء، وعليه مالك والشافعي، والمراد بالعذاب الأليم عذاب الآخرة. قال الأستاذ الإمام وهو الصحيح. وفي الحديث المرفوع عند أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم ما يؤيده.
ذكر المفسر وغيره أن القصاص على القتل كان محتما عند اليهود وأن القرآن جاء وسطا يفرض القصاص إذا أصر عليه أولياء المقتول ويجيز الدية إذا عفوا. وقد أقرهم الأستاذ الإمام على قولهم إن القتل قصاصا كان حتما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج والعشرين من التثنية. وأنكر عليهم قولهم إن الدية كانت حتما عند النصارى فإنه ليس في كتبهم شيء يحتم عليهم ذلك إلا أن يقال إن ذلك مأخوذ من وصايا التساهل والعفو وجزاء الإساءة بالإحسان من الإنجيل، ولكن أخذ الدية ضرب من ضروب الجزاء ينافي هذه الوصايا.
وإذا نظرنا في أعمال الأولين والآخرين وشرائعهم في القتل نجد القرآن وسطا حقيقيا لا بين ما نقل عن اليهود والنصارى فقط بل بين مجموع آراء البشر من أهل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، فقد كانت العرب تتحكم في ذلك على قدرة القبائل وضعفها، فرب حر كان يقتل من قبيلة فلا ترضى قبيلته بأخذ القاتل به، بل تطلب به رئيسا، وأحيانا كانوا يطلبون بالواحد عشرة وبالأنثى ذكرا، وبالعبد حرا، فإن أجيبوا وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة، وهذا إفراط وظلم عظيم تقتضيه طبيعة البداوة الخشنة. وفرض التوراة قتل القاتل إصلاح في هذا الظلم، ولكن يوجد في الناس لاسيما أهل القوانين في زماننا هذا من ينكر المعاقبة بالقتل ويقولون إنه من القسوة وحب الانتقام في البشر. ويرون أن المجرم الذي يسفك الدم يجب أن تكون عقوبته تربية لا انتقاما، وذلك يكون بما دون القتل، ويشددون النكير على من يحكم بالقتل إذا لم تثبت الجريمة على القاتل بالإقرار، بأن تثبت بالقرائن أو بشهادة شهود يجوز عليهم الكذب، ويرون أن الحكومة إذا علمت الناس التراحم في العقوبات فذلك أحسن تربية لهم، ومنهم من يقول إن المجرمين لا يكونون إلا مرضى العقول فالواجب أن يوضعوا في مستشفيات الأمراض العقلية ويعالجون فيها إلى أن يبرؤوا.
وإذا دققنا النظر في أقوال هؤلاء نرى أنهم يريدون أن يشرعوا أحكاما خاصة بقوم تعلموا وتربوا على الطرق الحديثة وسيسوا بالنظام والحكم، حتى لا سبيل لأولياء المقتول أن يثأروا له من القاتل ولا أن يسفكوا لأجله دماء بريئة، وحتى يؤمن من استمرار العداوة والبغضاء بين بيوت القائلين، ووجدت عندهم جميع وسائل التربية والمعالجة، لا أحكاما عامة لجميع البشر، في البدو والحضر، ومع هذا نرى كثيرا من الناس حتى المنتسبين إلى الإسلام يغترون بآرائهم ويرونها شبهة على الإسلام١ وأما النافد البصيرة العارف بمصالح الأمم الذي يزن الأمور العامة بميزان المصلحة العامة لا بميزان الوجدان الشخصي بنفسه أو ببلده فإنه يرى أن القصاص بالعدل والمساواة هو الأصل الذي يربي الأمم والشعوب والقبائل كلها، وأن تركه بالمرة يغري الأشقياء بالجراءة على سفك الدماء، وأن الخوف من الحبس والأشغال الشاقة إذا أمكن أن يكون مانعا من الإقدام على الانتقام بالقتل في البلاد التي غلب على أهلها التراحم أو الترف والانغماس في النعيم كبعض بلاد أوربة فإنه لا يكون كذلك في كل البلاد وكل الشعوب، بل إن من الناس في هذه البلاد وفي غيرها من يحبب إليه الجرائم أو يسهلها عليه كون عقوبتها السجن الذي يراه خيرا من بيته، وأن في مصر من الأشقياء من يسمي السجن نزلا أو فندقا.
وسمعت أن غير واحد في سورية يقول : إذا فعل فلان كذا أقتله وأقيم في القلعة عشر سنين. وذلك أن القاتل هناك يحكم عليه غالبا بالسجن خمس عشرة سنة في قلعة طرابلس الشام، ويعفو السلطان في عيد جلوسه عمن تم له ثلثا المدة المحكومة بها عليه في السجن. واشتهر بعض المجرمين في مصر أنهم يسمون بعض السجون العصرية " لوكاندة كولس " بالإضافة إلى كولس باشا مدير السجون الذي أنشئت في عهده. ويقول بعضهم : أسرق كذا أو أضرب فلانا وأشتو في لوكاندة كولس فإن الشتاء فيها أرحم وأنعم من الشتاء في بيتنا أو في الشوارع. ولا يبعد على المجرم من هؤلاء أن يقتل لأن عقاب القتل في هذه السجون إن ثبت عليه أهون من عيشته الشقية، فما القول في أهل البوادي أصحاب الثارات التي لا تموت ؟ ـ فقتل القاتل هو الذي يربي الناس في كل زمان ومكان ويمنعهم من القتل ( قال شيخنا ) وقد بلغ في الاعتراف بذلك معدل القانون المصري حيث أجاز الحكم بالإعدام إذا وجدت القرائن القاطعة على ثبوت التهمة، بعد أن كان لا يجيزه إلا بالاعتراف أو شهادة شهود الرؤية.
وقد تقع في كل بلاد صور من جرائم القتل يكون فيها الحكم بقتل القاتل ضارا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل الإنسان أخاه أو أحد أقاربه لعارض دفعه إلى ذلك، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت، وإذا قتل يفقدون بقتله المعين والظهير، بل قد يكون في قتل القاتل أحيانا مفاسد ومضار وإن كان أجنبيا من المقتول، ويكون الخير لأولياء المقتول عدم قتله لدفع المفسدة، أو لأن الدية أنفع لهم، فأمثل هذه الصور توجب أن لا يكون الحكم بقتل القاتل حتما لازما في كل حال، بل يكون هو الأصل، ويكون تركه جائزا برضاء أولياء المقتول وعفوهم، فإذا ارتقت عاطفة الرحمة، في شعب أو قبيل أو بلد إلى أن صار أولياء القاتل منهم يستنكرون القتل ويرون العفو أفضل وأنفع فذلك إليهم، والشريعة لا تمنعهم منه بل ترغبهم فيه، وهذا الإصلاح الكامل في القصاص هو ما جاء به القرآن، وما كان ليرتقي إليه بنفسه علم الإنسان.
ثم قال تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ وهو تعليل لشريعة القصاص وبيان لحكمته، وقدم عليه العفو والترغيب فيه والوعيد على الغدر بعده عناية به، وإيذانا بأن الترغيب في العفو لا يستلزم تصغير شأنه. وبيان الأسباب والحكم لوضع الأحكام العملية، كإقامة البراهين والدلائل للمطالب العقلية، بهذه يعرف الحق من الباطل، وبتلك يعرف العدل وما يتفق مع المصالح، وبذلك يكون الحكم أوقع في النفس وأبعث على المحافظة عليه، وأدعى إلى الرغبة في العمل به وقد بينت هذه الآية حكمة القصاص بأسلوب لا يسامى، وعبارة لا تحاكى، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن، التي تعجز في التحدي فرسان البيان، ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمنا لضده وهو الحياة في الإماتة التي هي القصاص، وعرف القصاص ونكر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما لا يقدر قدره، ولا يجهل سره.
ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز، وكانوا ينقلون كلمة في معناها عن بعض بلغاء العرب يعجبون من إيجازها في بلاغتها، ويحسبون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها، وهي قولهم : القتل أنفى للقتل. وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان، ويفصح به اللسان، لأنها قيلت قبلها كلمات أخرى في معناها لبلغائهم كقولهم : قتل البعض إحياء للجميع. وقولهم أكثروا القتل ليقل القتل.. وأجمعوا على أن كلمة : القتل أنفى للقتل. أبلغها، وأين هي من كلمة الله العليا، وحكمته المثلى ؟
قال الإمام الرازي : وبيان التفاوت من وجوه أحدها : أن قوله :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ أخصر من الكل، لأن قوله :( ولكم ) لا يدخل في هذا الباب إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك، وإذا تأملت علمت أن قوله :﴿ في القصاص حياة ﴾ أشد اختصارا من قولهم : القتل أنفى للقتل. أي لأن حروفه أقل. وثانيهما : أن قولهم : القتل أنفى للقتل. ظاهرة يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال. وقوله :﴿ في القصاص حياة ﴾ ليس كذلك لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص، ثم ما جعله سببا لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة، بل جعله سببا لنوع من أنواع الحياة وثالثها : أن قولهم فيه تكرير للفظ القتل وليس في الآية تكرير. ورابعها : أن قولهم لا يفيد إلا الردع عن القتل، والآية تفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهي أجمع للفوائد. وخامسها : أن نفي القتل في قولهم مطلوب تبعا من حيث إنه يتضمن حصول الحياة، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي فكان هذا أولى. وسادسها : أن القتل ظلما قتل مع أنه لا يكون نافيا للقتل بل سبب لزيادة القتل، وإنما النافي لوقوع القتل هو المخصوص وهو القصاص، فظاهر قولهم باطل، وأما الآية فهي صحيحة ظاهرا وتقديرا. فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب. اه باختصار وتصرف يسيرين.
وذكر السيد الألوسي هذه الوجوه باختصار أدق وزاد عليها نحوها فقال الأول : قلة الحروف فإن الملفوظ هنا ( أي في الآية ) عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة وهناك أربعة عشر حرفا. الثاني : الاطراد إذ في كل قصاص حياة وليس كل قتل أنفى للقتل، فإن القتل ظلما أدعى للقتل. الثالث : ما في التنوين ( حياة ) من النوعية أو التعظيم. الرابع : صنعة الطباق بين القصاص والحياة فإن القصاص تفويت الحياة فهو مقابلها. الخامس : النص على ما هو المطلوب بالذات أعني الحياة فإن نفي القتل إنما يطلب لها لا لذاته. السادس : الغرابة من حيث جعل الشيء حاصلا في ضده، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق، فكأن القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات. السابع : الخلو عن التكرار مع التقارب، فإنه لا يخلو عن استبشاع ولا يعد من رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا. الثامن : عذوبة اللفظ وسلاسته، حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة، إذ ليس في قولهم حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد، ولاشك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان، وأيضا الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام. التاسع : عدم الاحتياج إلى الحيثية ( أي التعليل ) وقولهم يحتاج إليها. العاشر : تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الكلام المشتملة على الضرب والجرح والقتل وغير ذلك، وقولهم لا يشمله. الحادي عشر : خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا. الثاني عشر : اشتماله على ما يصلح للقتال وهو الحياة بخلاف قولهم فإنه يشمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لمما يليق بهم. الثالث عشر : خلوه مما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال إلى غير ذلك. فسبحان من علت كلمته، وبهرت آيته، اه.
وأقول إن الآية على كونها أبلغ، وكلمتها أوجز، قد أفادت حكما لم تكن عليه العرب قبلها، ولم يطلبه أحد من عقلائهم وبلغائهم، وهو مساواة في العقوبة وبيان أن فيه الحياة الطيبة، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض، وأما أمرهم بالقتل ليقل القتل أو ينتفي فهو يصدق باعتداء قبيلة على قبيلة والإسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على أخذ الثأر فيكون المعنى : إن قتلنا لعدونا إحياء لنا، وتقليل أو نفي لقتله إيانا، وأين هذا الظلم من ذلك العدل ؟ فالآية الحكيمة قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات، وأن القصاص وسيلة من وسائلها، لأن من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها يرتدع عن القتل فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، فإن من الناس من يبذل المال الكثير لأجل الإيقاع بعدوه وفي الآية من براعة العبارة، وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة، ويوطن النفوس على قبول حكم المساواة إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم، هذا وإن دول الإفرنج تجري على سنة عرب الجاهلية في جعل القتل لأعدائها وخصومها أنفى لقتلهم إياها. وذلك شأنهم مع الضعفاء، كالشعوب التي ابتليت باستيلائهم عليها باسم الاستعمار أو غيره من الأسماء، فأين هي من عدل الإسلام، ومساواته بين جميع الأنام ؟
قال تعالى بعد هذا البيان، المتضمن للحكمة والبرهان ﴿ يا أولى الألباب ﴾ فخص بالنداء أصحاب العقول الكاملة، مع أن الخطاب عام للتنبيه على أن ذا اللب هو الذي يعرف قيمة الحياة والمحافظة عليها، ويعرف ما تقوم به المصلحة العامة وما يتوسل به إليها، وهو مرتبتان : القصاص وهو العدل، والعفو وهو الفضل. كأنه يقول : إن ذا اللب هو الذي يفقه سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من الحكمة والمصلحة، فعلى كل مكلف أن يستعمل عقله في فهم دقائق الأحكام، وما فيها من المنفعة للأنام، وهو يفيد أن من ينكر منفعة القصاص بعد هذا البيان، فهو بلا لب ولا جنان، ولا رحمة ولا حنان.
وقوله ﴿ لعلكم تتقون ﴾ جعله الجلال تعليلا لشرع القصاص وقدر له ( شرع ) أي لما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم، لعلكم تتقون الاعتداء، وتكفون عن سفك الدماء، وقال الأستاذ الإمام : إن هذا لا بأس به والشرعية مفهومة من الآية، وإيجاز القرآن يقتضي عدم التصريح بها لأجل التعليل كما صرح به في الآية التي قبلها ﴿ كتب عليكم ﴾ ويمكن أن يستغني عن تقرير ( شرع ) ويتعلق الرجاء بالظرف في قوله :﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ أي ثبتت لكم الحياة في القصاص لتعدكم وتهيئكم للتقوى والاحتراس من سفك الدماء، وسائر ضروب الاعتداء، إذ العاقل حريص على الحياة ولوع بالأخذ بوسائلها، والاحتراس من غوائلها.
وجه التناسب والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها هو أن القصاص في القتل ضرب من ضروب الموت يذكر بما يطلب ممن يحضره الموت وهو الوصية. والخطاب فيه موجه إلى الناس كلهم بأن يوصوا بشيء من الخير، ولاسيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وهو على نسق ما تقدم في الخطاب بالقصاص من اعتبار الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتم إلا بالتعاون والتكافل والائتمار والتناهي، فلو لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على الائتمار ـ
﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ أي فرض عليكم يا معشر المؤمنين إذا حضرت الواحد منكم أسباب الموت وعلامته ﴿ إن ترك خيرا ﴾ أي إن كان له مال كثير يتركه لورثته ﴿ الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ﴾ أي كتب عليكم في هذه الحالة أن توصوا للوالدين والأقربين بشيء من هذا الخير بالوجه المعروف الذي لا يستنكر لقلته بالنسبة إلى ذلك الخير ولا بكثرته الضارة بالورثة بأن لا يزيد الموصى به لهم ولغيرهم من الأجانب عن ثلث المتروك للوارثين.
والوصية الاسم من الإيصاء والتوصية، وتطلق على الموصى به من عين أو عمل، وهي مندوبة في حال الصحة وتتأكد في المرض، وظاهر الآية أنها تجب عند حضور أمارات الموت للوالدين والأقربين، وفيه الخلاف الآتي. يقال أوصى ووصى فلانا بكذا من العمل أو المال، ووصى بفلان، وأوصى له بكذا من مال أو منفعة. وأوصاه فيه أي في شأنه. وإيصاء الله بالشيء وفيه أمره. وفسروا الخير بالمال وقيده الأكثرون بالكثير أخذا من التنكير، ولم يقيده الجلال بذلك.
قال الأستاذ الإمام : لم يقتصر أحد من المفسرين على ذكر المال فقط إلا مفسرنا وقوله صادق فيما ذكروه وجها وذكروا معه قول من قيده بالكثير كالبيضاوي، وجزم المفسر بأن الآية منسوخة بآية المواريث وحديث الترمذي ( لا وصية لوارث ) ١ ورده بعضهم، فكلام الجلالين في المسألتين غير مسلم، وإنني أفضل ما ذهب إليه شيخنا وأشرح استدلاله عليه فأقول :
أما الأولى : فقد قالوا إن المال لا يسمى في العرف خيرا إلا إذا كان كثيرا كما لا يقال فلان ذو مال إلا إذا كان ماله كثيرا، وإن تناول اللفظ صاحب المال القليل، وأيدوا هذا بما رواه ابن أبي شيبة عن عائشة ( رض ) قال لها رجل أريد أن أوصي، قالت كم مالك ؟ قال ثلاثة آلاف. قالت كم عيالك ؟ قال أربعة، قالت " قال الله تعالى :﴿ إن ترك خيرا ﴾ وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل ". وروى البيهقي وغيره أن عليا دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم فقال ألا أوصي ؟ قال لا إنما قال الله تعالى :﴿ إن ترك خيرا ﴾ وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك فعبارتهما تدل على أنهم ما كانوا يفهمون من الخير إلا المال الكثير. واختلفوا في تقدير الكثير فروى عبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا. واختار الأستاذ الإمام عدم تقديره لاختلافه باختلاف العرف، فهو موكل عنده إلى اعتقاد الشخص وحاله. ولا يخفى أن العرف يختلف باختلاف الزمان والأشخاص والبيوت، فمن يترك سبعين دينارا في منزل قفر، وبلد قفر، وهو من الدهماء فقد ترك خيرا. ولكن الأمير أو الوزير، إذا تركا مثل ذلك في المصر الكبير، فهما لم يتركا إلا العدم والفقر، وما لا يفي بتجهيزهما إلى القبر.
وأما الثانية : فهي خلافية والجمهور على أن الآية منسوخة بآية المواريث أو بحديث :( لا وصية لوارث )، أو بهما جميعا على أن الحديث مبين للآية. قال البيضاوي وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه السلام ( إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ) وفيه نظر لأن آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقا، والحديث من الآحاد، وتلقي الأمة له بقبول لا يلحقه بالمتواتر اه أي والظني من الحديث لا ينسخ القطعي منه فكيف ينسخ القرآن، وكله قطعي ؟
وقد زاد الأستاذ الإمام عليه القول بأنه لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا، وبأن السياق ينافي النسخ، فإن الله تعالى إذا شرع للناس حكما وعلم أنه مؤقت وأنه سينسخه بعد زمن قريب فإنه لا يؤكده ويوثقه بمثل ما أكد به أمر الوصية هنا من كونه حقا على المتقين، ومن وعيد من بدله، وبإمكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا أن الوصية في آية المواريث مخصوصة بغير الوارث، بأن يخص القريب هنا بالممنوع من الإرث ولو بسبب اختلاف الدين، فإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فله أن يوصى لهما بما يؤلف به قلوبهما، وقد أوصى الله تعالى بحسن معاملة الوالدين وإن كانا كافرين ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا، وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ﴾ ( العنكبوت : ٨ )، وفي آية لقمان بعد الأمر بالشكر لله ولهما ﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ﴾ ( لقمان : ١٥ ). أفلا يحسن أن يختم هذه المصاحبة بالمعروف بالوصية لهما بشيء من ماله الكثير.
قال : وجوز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخص بها من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنيا والبعض الآخر فقيرا : مثال ذلك أن يطلق أبوه أمه وهو غني وهي لا عائل لها إلا ولدها ويرى أن ما يصيبها من التركة لا يكفيها. ومثله أن يكون بعض ولده أو إخوته إن لم يكن له ولد عاجزا عن الكسب فنحن نرى أن الحكيم الخبير اللطيف بعباده، الذي وضع الشريعة والأحكام لمصلحة خلقه، لا يحتم أن يساوي الغني الفقير، والقادر على الكسب من يعجز عنه، فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنهم سواسية في الحاجة، كما أنهم سواء في القرابة، فلا غرو أن يجعل أمر الوصية مقدما على أمر الإرث، أو يجعل نفاذ هذا مشروطا بنفاذ ذلك قبله، ويجعل الوالدين والأقربين في آية أخرى أولى بالوصية لهم من غيرهم، لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحيانا، فقد قال في آيات الإرث من سورة النساء ﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين ﴾ ( النساء : ١١ ) فأطلق أمر الوصية وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك.
أقول ورأيت الألوسي نقل عن بعض فقهاء الحنفية أن آية الإرث نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق، وأن الله تعالى رتب الميراث على وصية منكرة والوصية الأولى كانت معهودة، فلو كانت تلك الوصية باقية لوجب ترتيبه على المعهود، فلما لم يرتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة، لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ، كما أن التقييد بعد الإطلاق نسخ اه.
فأما دعواه الاتفاق في التقدم والتأخر فلا دليل عليها، وأما تأويله فظاهر البطلان، وقاعدة الإطلاق والتقييد إن سلمت لا تؤخذ على إطلاقها لأن شرع الوصية على الإطلاق لا ينافي شرع الوصية لصنف مخصوص، ونظير هذا الأمر بمواساة الفقر مطلقا، والأمر بمواساة الضعفاء والمرضى منهم، لا يتعارضان، ولا يصح أن يكون الثاني منهما مبطلا للأول، إلا إذا وجد في العبارة ما ينفي ذلك وما في الآيتين ليس من قبيل تعارض المطلق والمقيد، وإنما آية الوصية خاصة، وذكر الوصية منكرة في آية الإرث يفيد الإطلاق الذي يشمل ذلك الخاص وغيره، فإن سلمنا لذلك الحنفي أن آية الميراث متأخرة، فلا نسلم له أنه كان يجب أن تذكر فيها الوصية بالتعريف لتدل على الوصية المعهودة، إذ لو رتب الإرث على الوصية المعهودة لما جازت الوصية لغير الوالدين والأقربين.
ولو كان الأسلوب العربي يقتضي ما قاله لما قال علي وابن عباس وغيرهما من السلف بالوصية للوالدين والأقربين على ما تقدم، وقد نقل ذلك الأولوسي نفسه بعدما تقدم عنه، ولكنه سمى التخصيص نسخا، فنقل عن ابن عباس أنها خاصة بمن لا يرث من الوالدين والأقربين، كأن يكون الوالدين كافرين. قال وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه :" من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لم يرث فقد ختم عمله بمعصية " ثم ذكر أن الأكثرين قالوا بأن هذه الوصية مستحبة لا واجبة، وسمي هذا كغيره نسخا للوجوب. ولنا أن نقول إن أكثر علماء الأمة وأئمة السلف يقولون إن هذه الوصية المذكورة في الآية مشروعة ولكن منهم من يقول بعمومها ومنهم من يقول إنها خاصة بغير الوارث، فحكمها إذا لم يبطل، فما هذا الحرص على إثبات نسخها، مع تأكيد الله تعالى إياها والوعيد على تبديلها ؟ إن هذا إلا تأثير التقليد.
فقد علم مما تقدم أن آية المواريث لا تعارض آية الوصية فيقال بأنها ناسخة لها إذا علم أنها بعدها، وأما الحديث فقد أرادوا أن يجعلوا له حكم المتواتر أو يلصقوه به بتلقي الأمة له بالقبول ليصلح ناسخا، على أنه لم يصل إلى درجة ثقة الشيخين به فلم يروه أحد منهما مسندا، ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وأبي أمامة وابن عباس وفي إسناد الثاني إسماعيل بن عياش تكلموا فيه، وإنما حسنه الترمذي لأن إسماعيل يرويه عن الشاميين، وقد قوى بعض الأئمة روايته عنهم خاصة. وحديث ابن عباس معلول إذ هو رواية عطاء عنه وقد قيل إنه عطاء الخراساني، وهو لم يسمع من ابن عباس، وقيل عطاء بن أبي رباح، فإن أبا داود أخرجه في مراسيله عنه، وما أخرجه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح موقوف على ابن عباس، وما روي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه. فعلم أنه ليس لنا رواية للحديث صححت إلا رواية عمرو بن خارجة، والذي صححها هو الترمذي وهو من المتساهلين في الصحيح، وقد علمت أن البخاري ومسلم لم يرضياها، فهل يقال إن حديثا كهذا تلقته الأمة بالقبول ؟
وقد توسع الأستاذ الإمام هنا في الكلام على النسخ، وملخص ما قاله : إن النسخ في الشرائع جائز موافق للحكمة وواقع، فإن شرع موسى نسخ بعض الأحكام التي كان عليها إبراهيم، وشرع عيسى نسخ بعض أحكام التوراة، وشريعة الإسلام نسخت جميع الشرائع السابقة، لأن الأحكام العملية التي تقبل النسخ إنما تشرع لمصلحة البشر، والمصلحة تختلف باختلاف الزمان. فالحكيم العليم يشرع لكل زمن ما يناسبه، وكما تنسخ شريعة بأخرى يجوز أن تنسخ بعض أحكام شريعة بأحكام أخرى في تلك الشريعة، فالمسلمون كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس في صلاتهم فنسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين. ولكن هناك خلاف في نسخ أحكام القرآن ولو بالقرآن، فقد قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني المفسر الشهير ليس في القرآن آية منسوخة، وهو يخرج كل ما قالوا إنه منسوخ على وجه صحيح بضرب من التخصيص أو التأويل، وظاهر أن مسألة القبلة ليس فيها نسخ القرآن، وإنما هي نسخ لحكم لا ندري هل فعله النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاده أم بأمر من الله تعالى غير القرآن ؟٢ فإن الوحي غير محصور في القرآن.
ولكن الجمهور على أن القرآن ينسخ بالقرآن بناء على أنه لا مانع من نسخ حكم آية مع بقائها في الكتاب يعبد الله تعالى بتلاوتها وبتذكر نعمته بالانتقال من حكم كان موفقا للمصلحة ولحال المسلمين في أول الإسلام، إلى حكم يوافق المصلحة في كل زمان ومكان. فإنه لا ينسخ حكم إلا بأمثال منه كالتخفيف في تكليف المؤمنين قتال عشر أمثالهم بالاكتفاء بمقابلة الضعف بأن تقاتل المئة مئتين٣. واتفقوا على أنه لا يقال بالنسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين من آيات الأحكام العملية، وعلم تاريخهما، فعند ذلك يقال إن الثانية ناسخة للأولى. وأما آيات العقائد والفضائل والأخبار فلا نسخ فيها. ونسخ السنة بالسنة كنسخ الكتاب بالكتاب، بل هو أولى وأظهر وكذلك نسخ السنة بالكتاب كما في مسألة القبلة ولا خلاف فيهما. ومن قبيل هذا نسخ الحديث المتواتر لحديث الآحاد.
وأما الخلاف القوي فهو في نسخ القرآن بالحديث ولو متوترا، أو الحديث المتواتر بأخبار الآحاد، والذي عليه المحققون الأولون أن الظني " وهو خبر الآحاد " لا ينسخ ا
٢ يرجح الثاني في قوله تعالى: ﴿وما جعلنا القبلة التي كنت عليها﴾و المختار عند شيخنا أنها بيت المقدس كما تقدم فهي بجعل الله تعالى ولكنها ليس في القرآن (المؤلف)..
٣ المختار الذي قررناه في تفسير الآيتين (٦٥ و٦٦) من سورة الأنفال إن هذا ليس بنسخ أصولي، وإن الآيتين نزلتا في وقت واحد، وإنما الأولى عزيمة في حال القوة، والثانية رخصة في حال الضعف كما صرح فيها (ج ١٠ تفسير) (المؤلف)..
وجه التناسب والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها هو أن القصاص في القتل ضرب من ضروب الموت يذكر بما يطلب ممن يحضره الموت وهو الوصية. والخطاب فيه موجه إلى الناس كلهم بأن يوصوا بشيء من الخير، ولاسيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وهو على نسق ما تقدم في الخطاب بالقصاص من اعتبار الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتم إلا بالتعاون والتكافل والائتمار والتناهي، فلو لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على الائتمار ـ
و المتبادر أن معنى المكتوب المفروض، وبه قال بعضهم هنا، وقال آخرون إنه للندب، ويؤيد الفرضية قوله تعالى في وعيد المبدلين له :﴿ فمن بدله ﴾ أي بدل ما أوصى به الموصي ﴿ بعدما سمعه ﴾ من الموصي أو علم به علما صحيحا من كتابة الوصية، وهو مشروع كما سيأتي ومن الحكم بها. ﴿ فإنما إثمه على الذين يبدلونه ﴾ من ولي ووصي وشاهد وقد برئت منه ذمة الموصي وثبت أجره عند الله تعالى :﴿ إن الله سميع ﴾ لما يقوله المبدلون في ذلك ﴿ عليم ﴾ بأعمالهم فيه فيجازيهم عليها، وهو يتضمن تأكيد الوعيد، والضمير في المواضع الثلاثة راجع إلى الحق أو الإيصاء، أي أثره ومتعلقه.
وقد قال بوجوب الوصية بعض علماء السلف، واستدلوا عليه بالآية وبحديث ( ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته عند رأسه ) ١ رواه الجماعة كلهم من حديث ابن عمر. ومنهم عطاء والزهري وأبو مجلز وطلحة بن مصرف. وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم، وبه قال إسحاق وداود. واختاره أبو عوانة الأسفراييني وابن جرير وآخرون اه. من فتح الباري وقال الجمهور مندوبة وتقدم قولهم في الآية.
وجه التناسب والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها هو أن القصاص في القتل ضرب من ضروب الموت يذكر بما يطلب ممن يحضره الموت وهو الوصية. والخطاب فيه موجه إلى الناس كلهم بأن يوصوا بشيء من الخير، ولاسيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وهو على نسق ما تقدم في الخطاب بالقصاص من اعتبار الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتم إلا بالتعاون والتكافل والائتمار والتناهي، فلو لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على الائتمار ـ
ثم قال :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ﴾ الجنف بالتحريك الخطأ، والإثم يراد به تعمد الإجحاف والظلم، والموصي فاعل الإيصاء وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب ( موص ) بالتشديد من الوصية. والمعنى إن خرج الموصي في وصيته عن المعروف والعدل خطأ أو عمدا فتنازع الموصى لهم فيه أو تنازعوا مع الورثة فينبغي أن يتوسط بينهم من يعلم بذلك ويصلح بينهم، ولا إثم عليه في هذا الإصلاح إذا وجد فيه شيء من تبديل الجنف والحيف لأنه تبديل باطل إلى حق وإزالة مفسدة بمصلحة، فقلما يكون إصلاح إلا بترك بعض الخصوم شيئا مما يراه حقا له للآخر.
قال الأستاذ الإمام : الآية استثناء مما قبلها أي أن المبدل للوصية آثم إلا من رأى إجحافا أو جنفا في الوصية فبدل فيها لأجل الإصلاح وإزالة التخاصم والتنازع والتعدي بين الموصي لهم، فعبر بخاف بدلا عن رأي أو علم تبرئة للموصي من القطع بجنفه وإثمه واحتماء من تقييد التصدي للإصلاح وإن لم يكن موقنا بذلك. وللتعبير عن مثل هذا العلم بالخوف شواهد في كلام العرب. والمصلح مثاب مأجور، ونفي الإثم عن تبديل الوصية المحرم تبديلها يشعر بذلك، إذ لو لم يكن التبديل للإصلاح مطلوبا لم ينف الإثم عنه. وختم الكلام بقوله :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ للإشعار بما في هذه الأحكام من المصلحة والمنفعة وبأن من خالف لأجل المصلحة مع الإخلاص فهو مغفور له.
الكلام في سرد الأحكام فلا حاجة إلى التناسب بين كل حكم وما يليه، والصيام في اللغة الإمساك والكف عن الشيء، وفي الشرع الإمساك عن الأكل والشرب وغشيان النساء من الفجر إلى المغرب احتسابا لله، وإعدادا للنفس وتهيئة لها لتقوى الله بالمراقبة له، وتربية الإرادة على ترك كبح جماح الشهوات، ليقوى صاحبها على ترك المضار والمحرمات، وقد كتب على أهل الملل السابقة، فكان ركنا من كل دين لأنه من أقوى العبادات وأعظم ذرائع التهذيب، وفي إعلام الله تعالى لنا بأنه فرضه علينا كما فرضه على الذين من قبلنا إشعار بوحدة الدين في أصوله ومقصده، وتأكيد لأمر هذه الفريضة وترغيب فيها.
قال الأستاذ الإمام : أبهم الله هؤلاء الذين من قبلنا، والمعروف أن الصوم مشروع في جميع الملل حتى الوثنية فهو معروف عن قدماء المصريين في أيام وثنيتهم، وانتقل منهم إلى اليونان فكانوا يفرضونه لاسيما على النساء، وكذلك الرومانيون كانوا يعنون بالصيام، ولا يزال وثنيو الهند وغيرهم يصومون إلى الآن، وليس في أسفار التوراة التي بين أيدينا ما يدل على فرضية الصيام، وإنما فيها مدحه ومدح الصائمين، وثبت أن موسى عليه السلام صام أربعين يوما، وهو يدل على أن الصوم كان معروفا مشروعا ومعدودا من العبادات، واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعا تذكارا لخراب أرشليم وأخذها، ويصومون يوما من شهر آب. أقول وينقل أن التوراة فرضت عليهم صوم اليوم العاشر من الشهر السابع وأنهم يصومونه بليلته ولعلهم كانوا يسمونه عاشوراء، ولهم أيام أخرى يصومونها نهارا.
وأما النصارى فليس في أناجيلهم المعروفة نص في فريضة الصوم وإنما فيها ذكره ومدحه، واعتباره عبادة كالنهي عن الرياء وإظهار الكآبة فيه، بل تأمر الصائم بدهن الرأس وغسل الوجه حتى لا تظهر عليه أمارة الصيام فيكون مرائيا كالفريسيين، وأشهر صومهم وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى عليه السلام، والحواريون رضي الله عنهم، ثم وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام وفيها خلاف بين المذاهب والطوائف، ومنها صوم عن اللحم وصم عن السمك وصوم عن البيض واللبن، وكان الصوم المشروع عند الأولين منهم كصوم اليهود يأكلون في اليوم والليلة مرة واحدة، فغيروه وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار، ولا نطيل في تفصيل صيامهم، بل نكتفي بهذا في فهم قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ أي فرض عليكم كما فرض على المؤمنين من أهل الملل قبلكم، فهو تشبيه الفريضة بالفريضة ولا تدخل فيه صفته ولا عدة أيامه.
وفي قصتي زكريا ومريم عليهما السلام أنهم كانوا يصومون عن الكلام، أي مع الصيام عن شهوات الزوجية والشراب والطعام، قال البيضاوي : إن الصوم في اللغة الإمساك عما تنازع إليه النفس، لا مطلق الإمساك كما يقول الجمهور، وقال أبو عبيدة من رواة اللغة : كل ممسك عن الطعام أو كلام أو سير فهو صائم، ثم قال :
" خيل صيام وخيل غير صائمة " ١ أي قيام بلا اعتلاف اه.
﴿ لعلكم تتقون ﴾ هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالا لأمره واحتسابا للأجل عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :( الصيام نصف الصبر ) ٢ رواه ابن ماجه وصححه في الجامع الصغير. وهذا معنى دلالة ( لعل ) على الترجي فالرجاء إنما يكون فيما وقعت أسبابه، وموضعه هنا المخاطبون لا المتكلم، ومن لم يصم بالنية وقصد القرابة لا ترجى له هذه الملكة في التقوى. فليس الصيام في الإسلام لتعذيب النفس لذاته بل لتربيتها وتزكيتها.
قال شيخنا : إن الوثنين كانوا يصومون لتسكين غضب آلهتهم إذا عملوا ما يغضبهم، أو لإرضائها واستمالتها إلى مساعدتهم في بعض الشؤون والأغراض، وكانوا يعتقدون أن إرضاء الآلهة والتزلف إليها يكون بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد، وانتشر هذا الاعتقاد في أهل الكتاب، حتى جاء الإسلام يعلمنا أن الصوم ونحوه إنما فرض لأنه يعدنا للسعادة بالتقوى، وأن الله غني عنا وعن عملنا، وما كتب علينا الصيام إلا لمنفعتنا.
ثم قال ما معناه مبسوطا : قلنا إن معنى ﴿ لعل ﴾ الإعداد والتهيئة، وإعداد الصيام نفوس الصائمين لتقوى الله تعالى يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأنا، وأنصعها برهانا، وأظهرها أثرا، وأعلاها خطرا ( شرفا ) أنه أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه إلا الله تعالى، وسر بين العبد وربه لا يشرف عليه أحد غيره سبحانه، فإذا ترك الإنسان شهواته ولذاته التي تعرض له في عامة الأوقات لمجرد الامتثال لأمر ربه والخضوع لإرشاد دينه مدة شهر كامل في السنة، ملاحظا عند عروض كل رغيبة له من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، وغير ذلك كزينة زوجه أو جمالها الداعي إلى ملابستها إنه لولا اطلاع الله تعالى عليه ومراقبته له لما صبر عن تناولها وهو في أشد التوق لها، لا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه سبحانه أن يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معد للنفوس ومؤهل لها لضبط النفس ونزاهتها في الدنيا، ولسعادتها في الآخرة.
كما تؤهل هذه المراقبة النفوس المتحلية بها لسعادة الآخرة تؤهلها لسعادة الدنيا أيضا، انظر هل يقدم من تلابس هذه المراقبة قلبه على غش الناس ومخادعتهم ؟ هل يسهل عليه أن يراه الله آكلا لأموالهم بالباطل ؟ هل يحتال على الله تعالى في منع الزكاة وهدم هذا الركن الركين من أركان دينه ؟ هل يحتال على أكل الربا ؟ هل يقترف المنكرات جهرا ؟ هل يجترح السيئات ويسدل بينه وبين الله ستارا ؟ كلا ؟ إن صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى، وإذا نسي وألم بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة الصحيحة ﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾ ( الأعراف : ٢٠١ ) فالصيام أعظم مرب للإرادة، وكابح لجماح الأهواء، فأجدر بالصائم أن يكون حرا يعمل ما يعتقد أنه خير، لا عبدا للشهوات.
إنما روح الصوم وسره في هذا القصد والملاحظة التي تحدث هذه المراقبة وهذا هو معنى كون العمل لوجه الله تعالى. وقد لاحظه من أوجب من الأئمة تبييت النية في كل ليلة ويؤيد هذا ما ورد من الأحاديث المتفق علها كقوله صلى الله عليه وسلم ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ٣ رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن قالوا أي من الصغائر، وقد يكون الغفران للكبائر مع التوبة منها لأن الصائم احتسابا وإيمانا على ما بينا يكون من التائبين عما اقترفه فيما قبل الصوم، وقوله في الحديث القدسي :( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) ٤ وفي حديث آخر :( يدع طعامه وشرابه وشهواته من أجلي ) ٥ رواهما البخاري وغيره.
وقد شرح الأستاذ الإمام في هذا المقام حال أولئك الغافلين عن الله وعن أنفسهم الذين يفطرون في رمضان عمدا، وذكر بعض حيل الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله كالأدنياء الذين يأكلون ولو في بيوت الأخلية حيث تأكل الجرذ، والذين يغطسون في الجداول والأنهار ويشربون في أثناء ذلك. وما قذف بهؤلاء وأمثالهم ومن هم شر منهم كالمجاهرين بالفطر إلا تلقينهم العبادة جافة خالية من الروح الذي ذكرناه، والسر الذي أفشيناه، فحسبوها عقوبة كما كان يحسبها الوثنيون من قبل، وما كل إنسان يحتمل العقوبة راضيا مختارا. ثم قال ما مثاله : وههنا شيء ذكره بعضهم ويشمئز الإنسان من شرحه وبيانه وهو أن الصوم يكسر الشهوة بطبعه فتضعف النفوس ويعجز الإنسان عن الشهوات والمعاصي، وفيه من معنى العقوبة والإعنات ما كان يفهمه الكثير من جميع مطالب الدين وراثة عن آبائهم الأولين من أهل الديانات الأخرى، وإذا طبقنا هذا القول على ما نعهده وجودا ووقوعا لا نجده واقعا. لأن المعروف أن الإنسان إذا جاع يضري بالشهوات وتقوى نهمته ويشتد قرمه، وآثار هذا ظاهر في صوم أكثر المسلمين فإنهم في رمضان أكثر تمتعا بالشهوات منهم في عامة السنة، فما سبب هذا وما مثاره ؟ أليس هو الضراوة بالشهوات بلى، ولا ينافي ما ذكره الأستاذ الإمام تشبه النبي صلى اله عليه وسلم الصوم بالوجاء٦ في كسر سورة الشهوة، لأن المراد أن تأثيره في تربية النفس وتقوية الإيمان يجعل صاحبه مالكا لنفسه يصرفها حسب الشرع لا حسب الشهوة.
هذا ما كتبته ونشر في الطبعة الأولى ورآه شيخنا ثم بدا لي فيه، فالحديث رواه الشيخان عن ابن مسعود ولفظه ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) ٧ والوجاء بالكسر رض الانثيين وهو يضعف الشهوة الزوجية إن لم يذهب بها كالخصاء، والصيام يضعف هذه الشهوة إذا طال، واقتصر الصائم في الليل على قليل من الطعام، قال الحافظ في شرحه واستشكل بأن الصوم يزيد في تهييج الحرارة وذلك مما يثير الشهوة لكن ذلك إنما يقع في مبدأ الأمر فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك والله أعلم اه.
ومن وجوه إعداد الصوم للتقوى أن الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتا فيحمله التذكر على الرأفة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، وقد وصف الله تعالى نبيه بأنه رؤوف رحيم، ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه صلى الله عليه وسلم ولذلك أمرهم بالتأسي به ووصفهم بقوله :﴿ رحماء بينهم ﴾.
ومن فوائد عبادة الصيام الاجتماعية المساواة فيه بين الأغنياء والفقراء والملوك والسوقة، ومنها تعليم الأمة النظام في المعيشة فجميع المسلمين يفطرون في وقت واحد لا يتقدم أحد على آخر دقيقة واحدة وقلما يتأخر عنه دقيقة واحدة.
ومن فوائده الصحية أنه ينفي المواد الراسبة في البدن ولاسيما أبدان المترفين أولي النهم وقليلي العمل، ويجفف الرطوبات الضارة، ويطهر الأمعاء من فساد الذرب والسموم التي تحدثها البطنة، ويذيب الشحم أو يحول دون كثرته في الجوف وهي شديدة الخطر على القلب، فهو كتضمير الخيل الذي يزيدها قوة على الكر والفر. قال صلى الله عليه وسلم :( صوموا تصحوا ) رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة وأشار في الجامع الصغير إلى حسنه ويؤيده ( اغزوا تغتنموا وصوموا تصح
والبيت من البسيط، وهو للنابغة الذبياني في ملحق ديوانه ص ٢٤٠، ولسان العرب (علك)، (صوم)، وتهذيب اللغة ١/٣١٣، ١٢/٢٥٩، وجمهرة اللغة ص ٨٩٩، وكتاب العين /٢٠٢، ومقاييس اللغة ٣/٣٢٣، ومجمل اللغة ٣/٢٥١، والمخصص ١٣/٩٠، والمعاني الكبير ص ٩٥، والكامل ص ٩٩٢، وتاج العروس (علك)، (صوم) وبلا نسبة في المخصص ٦/١٨٤.
.
٢ أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٨٦، وابن ماجه في الصيام باب ٤٤، والدارمي في الوضوء باب ٢، وأحمد في المسند ٤/٢٦٠، ٥/٣٦٣، ٣٦٥، ٣٧٠، ٣٧٢..
٣ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٨، والصوم باب ٦، وليلة القدر باب١، ومسلم في المسافرين حديث ١٧٥، وأبو داود في رمضان باب ١، والترمذي في الصوم باب١..
٤ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الصوم باب٢، والتوحيد باب ٣٥، ٥٠، ومسلم في الصيام حديث ١٦١، ١٦٣، والنسائي في الصيام باب ٤٢، والدارمي في الصوم باب ٥٠ ومالك في الصيام حديث ٥٨، وأحمد في المسند ١/٤٤٦، ٢/٢٣٢، ٢٧٣، ٢٨١، ٣/٥، ٤٠..
٥ أخرجه البخاري في الصوم باب ٢، والتوحيد باب ٣٥، والنسائي في الصيام باب ٤٢، وابن ماجه في الصيام باب ١، ومالك في الصيام حديث ٥٨، وأحمد في المسند ٢/٢٦٦، ٣١٣، ٣٩٣، ٣٩٥، ٤٤٣، ٣٦٥، ٣٨٠، ٥١٦، ٣/٤٠..
٦ لفظ الحديث: (فإن الصوم له وجاء)أخرجه البخاري في الصوم باب ١٠، والنكاح باب ٢، ٣، ومسلم في النكاح حديث ١، والنسائي في الصيام باب ٤٣، وابن ماجه في النكاح باب١، والدارمي في النكاح باب ٢، وأحمد في المسند ١/٥٧، ٣٧٨، ٤٢٤، ٤٢٥، ٤٣٢، ٤٤٧..
٧ راجع الحاشية السابقة..
﴿ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾ أي من كان كذلك فأفطر فعليه صيام عدة من أيام أخر غير تلك الأيام المعدودات، أي فالواجب عليه القضاء إذا أفطر بعدد الأيام التي لم يصمها، وكل من المريض والمسافر عرضة لاحتمال المشقة بالصيام، وإطلاق كلمة ﴿ مرضا ﴾ يدل على أن الرخصة لا تتقيد بالمرض الشديد الذي يعسر معه الصوم، وروي هذا عن عطاء وابن سيرين وعليه البخاري لأن أمثال هذه الأحكام تقرن بمظنة المشقة تحقيقا للرخصة، فرب مرض لا يشق معه الصوم ولكنه يكون ضارا بالمريض وسببا في زيادة مرضه وطول مدته، وتحقيق المشقة عسر، وعرفان الضرر أعسر.
واستدل الجمهور على تقييده بالمرض الذي يعسر الصوم معه بقوله في الآية الأخرى :﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ ولا دليل فإنه تعليل لأصل الرخصة، وكمالها أن لا يكون فيها تضييق. وكذلك السفر يشمل إطلاقه وتنكيره الطويل والقصير وسفر المعصية فالعمدة فيه ما يسمى في العرف سفرا كسائر الألفاظ المطلقة في الشرع. والعرف يختلف باختلاف أسباب المعيشة ووسائل النقل فالذي يركب في هذا الزمن سيارة بخارية أو طيارة هوائية مسافة ثلاثة أميال أو فراسخ أو مسافة يوم أو يومين بتقدير سير الإثقال ليمكث مدة قصيرة ثم يعود إلى بلده وداره، لا يسمى في العرف مسافرا بل متنزها وقد جاء في السنة ما يؤيد هذا الإطلاق في السفر القصير فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس أنه قال : كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين٢. ويرجح كون الرواية ثلاثة أميال حديث أبي سعيد عند سعيد بن منصور قال : كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة والفرسخ ثلاثة أميال. بل روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يقصر في الميل الواحد، وما روي في قصره صلى الله عليه وسلم في مسافة أطول لا ينافي هذا فإن القصر فيها أولى، ولا خلاف بين المسلمين في أن السفر الذي يباح فيه القصر يباح فيه الفطر، وأما العاصي بالسفر فهو على دخوله في الإطلاق من جملة المكلفين المخاطبين بالشريعة كلها كغيرهم كما تقدم بيانه في تفسير ﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ﴾ ( البقرة : ١٧٣ ).
وزعم بعض المفسرين المقلدين أن قوله تعالى :﴿ أو على سفر ﴾ يومئ إلى أن من سافر في أثناء اليوم لا يجوز له أن يفطر فيه بل يفطر في اليوم الثاني لأن الكلمة تدل على التمكن من السفر بجعله كالمركوب، ولكن السنة جرت بخلاف ذلك، فقد روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين والناس مختلفون فصائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته ثم نظر إلى الناس فقال المفطرون للصوام أفطروا٣. وفي حديث أنس وأبي بصرة الأمر بذلك وتسميته سنة.
وفي لفظ آخر لابن عباس في البخاري وغيره : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام فلما بلغ الكديد ( بفتح فكسر ) أفطر فأفطر الناس٤ : قال أبو عبد الله ( البخاري ) والكديد ماء بين عسفان وقديد ( بالتصغير ) ( وفي رواية أخرى : حتى بلغ عسفان، والكديد تابعة لعسفان وهي أقرب إلى المدينة ) قال الحافظ في الفتح : واستدل به على أن للمرء أن يفطر ولو نوى الصيام من الليل وأصبح صائما فله أن يفطر في أثناء النهار وهو قول الجمهور وقطع به أكثر الشافعية الخ.
وذهبت الظاهرية أو بعضهم إلى وجوب الإفطار في المرض والسفر والآية لا تقتضيه وقد مضت السنة العلمية بخلافه. وذهب قوم إلى وجوب هذه العدة عليهما وإن صاما، ومقتضاها أن الله تعالى ضيق على المريض والمسافر وشدد عليهما ما لم يشدد على غيرهما وهو كما ترى. والصواب أن من صام فقد أدى فرضه ومن أفطر وجب عليه القضاء، وبذلك مضت السنة العملية فقد ورد في الصحيح أنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم المفطر ومنهم الصائم لا يعيب أحد على الآخر، وأنه كان يأمرهم بالإفطار عند توقع المشقة فيفطرون جميعا كما جاء في حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم وأبي داود قال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ) فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال ( إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطرنا٥ الحديث، ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ؟ وكان كثير الصيام فقال ( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر٦ ) وفي مسلم إنه أجابه بقوله ( هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه٧ ) فدلت هذه الرواية أنه سأل عن صيام رمضان لأن الرخصة إنما تطلق في مقابل الواجب.
وروى مسلم والنسائي والترمذي من طريق الدراوردي عن جعفر ( الصادق ) عن أبيه محمد ( الباقر ) بن علي ( زين العابدين ) عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم ( كراع بالضم والغميم بالفتح وهو واد أمام عسفان ) وصام الناس معه فقيل له أن الناس قد شق عليهم الصيام وأن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناسا صاموا فقال :( أولئك العصاة ) ٨ أي لأنهم أبوا الإقتداء به صلى الله عليه وسلم في قبول الرخصة والحال حال مشقة. وفي رواية أخرى تقدمت إنه أمرهم أن يفطروا للاستعانة على لقاء عدوهم فالعصيان ظاهر.
وروى أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي من حديث جابر قال : كان الرسول صلى الله عليه وسلم في السفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال :( ما هذا ؟ فقالوا صائم ) فقال :( ليس من البر الصوم في السفر ) ٩ وذكر الحافظ في شرحه من الفتح الخلاف في الأفضل من الصيام والفطر في السفر وقال : الحاصل على أن الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وإن لم يتحقق المشقة يخير بين الصوم والفطر، وقد اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة لا يجزئ الصوم في السفر على الفرض بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر لظاهر قوله تعالى :﴿ فعدة من أيام أخر ﴾ ولقوله صلى الله عليه وسلم :﴿ ليس من البر الصيام في السفر ﴾ ومقابلة البر الإثم وإذا كان آثما بصومه لم يجزئه وهذا قول بعض أهل الظاهر.
وحكي عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم واحتجوا بقوله تعالى :﴿ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾ قالوا ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدة وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة، ومقابل هذا القول قول من قال إن الصوم في السفر لا يجوز إلا لمن خاف على نفسه الهلاك أو المشقة الشديدة حكاه الطبري عن قوم، وذهب أكثر العلماء ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق، وقال كثير منهم الفطر أفضل عملا بالرخصة وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال آخرون هو مخير مطلقا، وقال آخرون أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى :﴿ يريد الله بكم اليسر ﴾ فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد فالصوم في حقه أفضل وهو قول عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر.
والذي يترجح قول الجمهور ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة كما تقدم نظيره في المسح على الخفين وسيأتي نظيره في تعجيل الإفطار. وقد روى أحمد من طريق أبي طعمه قال : قال رجل لابن عمر إني أقوى على الصوم في السفر. فقال له ابن عمر : من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة، وهذا محمول على من رغب عن الرخصة لقوله صلى الله عليه وسلم :( من رغب عن سنتي فليس مني ) ١٠، وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر فقد يكون الفطر أفضل له. وقد أشار إلى ذلك ابن عمر فروى الطبري من طريق مجاهد قال : إذا سافرت فلا تصم فإنك إن تصم قال أصحابك : أكفوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك. ومن طريق مجاهد أيضا عن جنادة بن أمية عن أبي ذر نحو ذلك.
ثم قال الحافظ : وأما الحديث المشهور :( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ) ١١ فقد أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر مرفوعا بسند ضعيف وأخرجه الطبري من طريق أبي سلمة مرفوعا أيضا وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف. وذكر أن ماعدا هذين في معناهما فهو موقوف ومنقطع الإسناد. ثم قال.
وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم ( ليس من البر الصيام في السفر ) ١٢ فسلك المجيزون فيه طرقا فقال بعضهم قد خرج على سبب فيقصر عليه وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته ولذا قال الطبري بعد أن ساق نحو حديث الباب من رواية كعب بن عاصم الأشعري ولفظه : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة وهو مضطجع كضجعة الوجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما لصاحبكم أي وجع به ؟ ) قالوا ليس به وجع ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ :( ليس البر أن تصوموا في السفر عليكم برخصة الله التي رخص لكم ) ١٣ فكان قوله صلى الله عليه وسلم ذلك لمن كان في مثل ذلك الحال.
وقال ابن دقيق العيد أخذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصة بمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى به من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله :﴿ ليس من البر الصوم في السفر ﴾ على مثل هذه الحالة، قال والمانعون في السفر يقولون إن اللفظ عام والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب. قال وينبغي أن يتنب
٢ أخرجه مسلم في المسافرين حديث ١٢، وأبو داود في السفر باب ٢٢، وأحمد في المسند ٣/١٢٩..
٣ أخرجه البخاري في المغازي باب٤٧..
٤ أخرجه البخاري في الغازي باب ٤٧..
٥ أخرجه مسلم في الصيام حديث ١٠٢..
٦ أخرجه البخاري في الصوم باب ٣٣، ومسلم في الصيام حديث ١٠٣، والترمذي في الصوم باب ١٩، ومالك في الصيام حديث ٢٤، والدرامي في الصوم باب ١٥، وأحمد في المسند ٦/٤٦، ١٣٩، ٢٠٢، ٢٠٧..
٧ أخرجه مسلم في الصيام حديث ١٠٢، والنسائي في الصيام باب ٥٧، وأحمد في المسند ١/٩٢..
٨ أخرجه مسلم في الصيام حديث ٩٠، والترمذي في الصوم باب ١٨، والنسائي في الصيام باب ٤٩..
٩ أخرجه البخاري في الصوم باب ٣٦، والمسلم في الصيام حديث ٩٢، ١٠٢، وأبو داود في الصوم باب ٣٤، والترمذي باب ١٨، ١٩، والنسائي في الصيام باب ٤٦، ٤٧، ٤٨، ٤٩، وابن ماجه في الصيام باب ١١، وأحمد في المسند٣/٢٩٩، ٣١٧، ٣١٩، ٣٢٥، ٣٩٩، ٥/٤٣٤..
١٠ أخرجه مسلم في النكاح حديث ٥، والنسائي في باب ٤، والدرامي في النكاح باب ٣، وأحمد في المسند ٢/١٥٨، ٣/٢٤١، ٢٥٩، ٢٥٨، ٥/٤٠٩..
١١ أخرجه ابن ماجه في الصيام باب ١١، والنسائي في الصيام باب ٥٣، بلفظ :"الصيام في السفر كالإفطار في الحضر"..
١٢ تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل..
١٣ تقدم الحديث مع تخريجه..
والحكمة في ذكر الأيام وتعيينها بعد ذلك أن ذلك الإبهام الذي يشعر بالقلة يخفف وقع التكليف بالصيام الشاق على النفوس وهو الأصل إذ ليس رمضان عاما في الأرض كما سيأتي بيانه قريبا. ثم إن هذا التعيين والبيان جاء بعد ذكر حكمة الصيام وفائدته وذكر الرخص لمن يشق عليه، وذكر خيرية الصيام في نفسه واستحباب التطوع فيه، وكل ذلك ممل يعد النفس لأن تتلقى بالقبول والرضى جعل تلك الأيام شهرا كاملا.
وانظر كيف ابتدأ هنا بذكر شهر رمضان وإنزاله القرآن فيه ووصف القرآن بما وصفه به حتى كأنه يحكي عنه لذاته بعد الانتهاء من حكم الصوم، ثم ثنى بالأمر بصومه فلم يفاجئ النفوس به مع ذلك التمهيد له حتى قدم العلة على المعلول، ولعل هذا من حكمة حذف خبر المبتدأ إذا قلنا إن كلمة ( شهر رمضان ) مبتدأ أو حذف المبتدأ إذا قلنا إنها خبر لمحذوف.
وقال الأستاذ الإمام : إن حذف الخبر جار على ما نعهده من إيجاز القرآن بحذف ما لا يقع الاشتباه بحذفه، وأن البيان بعد الإبهام جاء على أسلوبه في ذكر الأشياء ثم ذكر علتها وحكمتها، وهي هنا إنزال القرآن الذي هدانا الله تعالى به وجعله آيات بينات من الهدى أي من الكتب المنزلة، والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل، فوصفه بأنه هدى في نفسه لجميع الناس، وأنه من جنس الكتب الإلهية، ولكنه الجنس العالي على جميع الأجناس، فإنه آيات بينات من ذلك الهدى السماوي، وكتب الله كلها هدى ولكنها ليست في بيانه كالقرآن، واضرب لهم مثلا كتاب دانيال النبي فإن الله ما أنزله عليه إلا ليهتدي به من يقرأه عليهم ولكنه لم يكن آيات بينات، بل هو كالألغاز والرموز لا يفهم إلا بعناء، وكذلك التوراة التي سماها الله تعالى نورا وهدى فيها غوامض ومشكلات وقع الاشتباه فيها، فلم يكن ضياء الحق والهداية متبلجا وساطعا من سطورها سطوعه من القرآن. والذي نراه في هذه الأناجيل أن تلاميذ المسيح أنفسهم ما كانوا يفهمون كل ما يخاطبهم به من المواعظ والأحكام والبشائر وهي الإنجيل الحقيقي في اعتقادنا.
أقول : بل فيها أن المسيح قال لهم إنه لم يقل لهم كل شيء، وإن ثم أشياء كثيرة ينبغي أن تقال لهم أي لولا الموانع منها في عهده، وبشرهم بأنه سيأتي بعده الفارقليط روح الحق الذي يقول لهم كل شيء يعني محمدا خاتم النبيين عليهما الصلاة والسلام وسيرى القارئ تفصيل ذلك في سورة الأعراف ولكن لم ينقل إلينا أن الصحابة عمي عليهم شيء من آيات القرآن فلم يفهموها، ولا أن علماء السلف حاروا في شيء منها، فالقرآن يمتاز على سائر الكتب السماوية بأنه آيات بينات من الهدى الذي توصف به كلها، وبينات من الأمر الإلهي الفارق بين الحق والباطل، بيد أن المقلدين من المسلمين لم يرضوا كافة بأن يمتاز القرآن بالبيان الذي ليس بعده بيان والهدى لجميع الناس كما وصف لنفسه، فحاول بعضهم تغميضه وسلم لهم مقلدتهم أنه غامض لا يفهمه إلا أفراد من الناس أوتوا علما جما، وفاقوا سائر البشر بعقولهم وأفهامهم، كما فاقوهم بعلومهم، ثم زعموا أن هؤلاء الأفراد كانوا في بعض القرون الأولى وهم المجتهدون، وأنهم قد انقرضوا ولم يأت بعدهم ولن يأتي من يسهل عليه أن يفهم القرآن ولو أحكامه فقط.
وتجد هذا القول المناقض للقرآن والناقض له مسلما بين جماهير المسلمين المقلدين، حتى الذين يدعون أنهم علماء الدين، ومن نبذه اهتداء بالقرآن، ربما نبزوه بلقب الكفر والطغيان، فأي الفريقين أحق بصدق الإيمان، ؟ أما وسر الحق لولا أن المسلمين لبسوا على أنفسهم من القرآن ما يلبسون، وحكموا فيه آراء من يقلدون، لكان نور بيانه مشرقا عليهم وعلى سائر الناس، كالشمس ليس دونها سحاب، ولكنهم أبوا إلا أن يتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، ويضعوا كتبا في الدين يزعمون أن بيانها أجلى، والاهتداء بها أولى، لأنها بزعمهم أبين حكما، وأقرب إلى الأذهان فهما.
قلنا إن الله تعالى فرض علينا صيام هذا الشهر بخصوصه تذكيرا بنعمته علينا بإنزال القرآن فيه لنصومه شكرا له عليها، ومن الشكر أن تكون هدايتنا بالقرآن في مثل وقت نزوله أكمل، ومنها أن يكون الصيام موصلا إلى حقيقة التقوى، فإذا لم ننتفع بالصيام في أخلاقنا وأعمالنا، ولم نهتد بالقرآن في عامة أحوالنا، فأين الانتفاع بالنعمة وأين الشكر عليها ؟ كان جبريل يدرس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، ولذلك كان السلف يتدارسونه فيه ويقومون ليله به لزيادة الاهتداء والاعتبار، فماذا كان من اقتداء الخلف بهم ؟ كان أن بعض الوجهاء والأغنياء يستحضرون في رمضان من القراء من كان حسن الصوت يتغنى لهم بالقرآن في حجرات الخدم وهم في الغرفات مع أمثالهم وأقتالهم لاهون لاعبون، ومن عساه يصغي منهم أحيانا إلى القارئ فإنما يريد التلذذ بسماع صوته الحسن وتوقيعه الغنائي، فقد جعلوا القرآن إما مهجورا وإما لذة نفسية فصدق عليهم قوله :﴿ اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبا ﴾ ( المائدة : ٥٧ ).
وأما معنى إنزال القرآن في رمضان مع أن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجما متفرقا في مدة البعثة كلها فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر أي الشرف، والليلة المباركة كما في آيات أخرى، وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أن لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كله، ويطلق على بعضه. وقد ظن الذين تصدوا للتفسير منذ عصر الرواية أن الآية مشكلة، ورووا في حل الإشكال أن القرآن ينزل في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سموات ثم نزل على النبي منجما بالتدريج، وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي في رمضان منه شيء خلافا لظاهر الآيات. ولا تظهر المنة علينا ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم على قولهم هذا، لأن وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السموات أو اللوح المحفوظ من حيث إنه لم يكن هداية لنا، ولا تظهر لنا فائدة في هذا الإنزال ولا في الإخبار به.
وقد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السماوية أنزلت في رمضان، كما قالوا إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان، قال الأستاذ الإمام : ولم يصح من هذه الأقوال والروايات شيء وإنما هي حواش لتعظيم رمضان، ولا حاجة لنا بها إذ يكفينا أن الله تعالى أنزل فيه هدايتنا وجعله من شعائر ديننا ومواسم عبادتنا، ولم يقل تعالى إنه أنزل القرآن جملة واحدة في رمضان، ولا أنه أنزله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، بل قال بعد إنزاله :﴿ هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ﴾ ( البروج : ٢١، ٢٢ ) فهو محفوظ في لوح بعد نزوله قطعا وأما اللوح المحفوظ الذي ذكروا أنه فوق السموات السبع وأن مساحته كذا، وأنه كتب فيه كل ما علم الله تعالى فلا ذكر له في القرآن وهو من عالم الغيب فالإيمان به إيمان يجب أن يوقف فيه عند النصوص الثابتة بلا زيادة ولا نقص ولا تفصيل، وليس عندنا في هذا المقام نص يجب الإيمان به.
﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ أي فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن لم يكن مسافرا فليصمه وإنما يكون ذلك في أكثر البلاد التي تتألف السنة منها من اثني عشرا شهرا. وشهوده فيها يكون هلاله، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره له أن يصوم. وإذا لم يره أحد في الليلة الثلاثين من شعبان وجب صيام يومها وكان أول رمضان ما بعده. والأحاديث في هذا ثابتة في الصحاح والسنن، وجرى عليها العمل من الصدر الأول إلى اليوم. وقال بعض المفسرين : إن المراد بالشهر هنا الهلال، وكانت العرب تعبر عن الهلال بالشهر، ويرده أنهم لا يقولون : شهد الهلال، وإنما يقولون رآه، ومعنى شهد حضر، وقال بعضهم أن المعنى : فمن كان حاضرا منكم حلول الشهر فليصمه.
قال الأستاذ الإمام : وإنما عبر بهذه العبارة ولم يقل :( فصوموه ) لمثل الحكمة التي لم يحدد القرآن مواقيت الصلاة لأجلها، وذلك أن القرآن خطاب الله العام لجميع البشر، وهو يعلم أن من المواقع ما لا شهور فيها ولا أيام معتدلة، بل السنة كلها قد تكون فيها يوما وليلة تقريبا كالجهات القطبية، فالمدة التي يكون فيها القطب الشمالي في ليل وهي نصف السنة يكون القطب الجنوبي في نهار وبالعكس، ويقصر الليل والنهار ويطولان على نسبة القرب والبعد عن القطبين ويستويان في خط الاستواء وهو وسط الأرض.
أرأيت هل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين وما يقرب منهما أن يصلي في يومه ( وهو سنة أو مقدار عدة أشهر ) خمس صلوات إحداها حين يطلع الفجر والثانية بعد زوال الشمس الخ ويكلفه أن يصوم شهر رمضان بالتعيين ولا رمضان له ولا شهور ؟ كلا إن من الآيات الكُبَر على كون هذا القرآن من عند الله المحيط علمه بكل شيء لا من تأليف البشر، ما نراه فيه من الاكتفاء بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه، ولو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم لكان كل ما فيه مناسب لحال زمانه وبلاده وما يليها من البلاد التي يعرفها، ولم تكن العرب تعرف أن في الأرض بلادا نهارها كعدة أنهر أو أشهر من أنهرنا وأشهرنا ولياليها كذلك.
فمنزل القرآن وهو علام الغيوب وخالق الأرض والأفلاك خاطب الناس كافة بما يمكن أن يمتثلوه، فأطلق الأمر بالصلاة والرسول بين أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة التي هي القسم الأعظم من الأرض، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل البلاد التي أشرنا إليها يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم والقياس على ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الله المطلق وكذلك الصيام ما أوجب رمضان إلا على من شهد الشهر وحضره، والذين ليس لهم شهر مثله يسهل عليهم أن يقدروا له قدره. وقد ذكر الفقهاء مسألة التقدير بعد ما عرفوا بعض البلاد التي يطول ليلها ويقصر نهارها والبلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها، واختلفوا في التقدير على أي البلاد يكون ؟ فقيل على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم وكل منهما جائز فإنه اجتهادي لا نص فيه.
﴿ ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾ أعيد ذكر الرخصة لئلا يتوهم بعد تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ويندب التطوع به وبعد تحديده بشهر رمضان الذي له من الفضل والشرف ما له أن صوم هذا الشهر حتم لا تتناوله الرخصة أو تتناوله ولكن لا تحمد فيه، ولعمري إن تأكيد الصوم بمثل ما أكده الله تعالى به يقتضي تأكيد أمر الرخصة أيضا، ولولا ذلك ما أتاها متق الله في صيا
روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما في سبب نزول هذه الآية أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه ؟ فسكت عنه فأنزل الله الآية. وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال : سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم أين ربنا ؟ فنزلت. ورووا في سببه غير ذلك مما هو أضعف سندا، وأقل ناصرا وعددا، وقال الأستاذ الإمام عند ذكر السبب الأول : هذا السؤال ليس ببعيد من العرب أو الأعراب الذين اعتادوا أن يتخذوا وسائل بينهم وبين إلههم يقربونهم إلى الله خالق السموات والأرض، وهؤلاء الرسائل والوسائط إما أشخاص كالتماثيل والأصنام، ولم يهتدوا بأنفسهم إلى التجرد لمعرفة ذلك الإله الواحد العظيم بأنه لا يتقيد بشيء حتى هداهم إليه القرآن بآياته البينات، فكانوا أهل التوحيد الخالص. ولكن الآية جاءت بين آيات الصيام فهي ليست بأجنبية منها وإنما هي متصلة بما قبلها من الأحكام، وقد طالبنا في الآية السابقة بإكمال عدة الصيام وبتكبير الله تعالى، وذكر أن ذلك يعدنا لشكره تعالى، والتكبير والشكر يكونان بالقول نحو : الحمد لله والله أكبر كما يكونان بالعمل، وما كان بالقول يأتي فيه السؤال : هل يكون برفع الصوت والمناداة، أم بالمخافتة والمناجاة ؟ فجاءت هذه الآية جوابا عن هذا السؤال الذي يتوقع إن لم يقع، فهي في محلها سواء صح ما رووه في سببها أم لا.
( قال ) : ويروى في نزولها سبب آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع المسلمين يدعون الله تعالى بصوت رفيع في غزوة خبير فقال لهم ( أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ) وعلى كل حال تفيدنا الآية حكما شرعيا وهو أنه لا ينبغي رفع الصوت في عبادة من العبادات إلا بالمقدار الذي حدده الشرع في الصلاة الجهرية وهو أن يسمع من بالقرب منه، ومن بالغ في رفع صوته ربما بطلت صلاته، ومن تعمد المبالغة في الصياح في دعائه أو الصلاة على نبيه كان إلى عبادة الشيطان، أقرب منه إلى عبادة الرحمان.
( أقول ) أما الحديث فقد رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن من طرق إلى أبي عثمان النهدي عن أبي موسى قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( يأيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم ) ١ وفي رواية أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتهليل والتكبير إذا علوا عقبة أو ثنية. وليس في هذه الروايات ذكر الآية ولكن الحديث في المقام، فإنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير المأمور به في الآية السابقة فدلت الآية على ما صرح به الحديث من النهي فكان الحديث تفسيرا لها بل هو عمل بها. وذكره ابن العادل في تفسيره من أسباب نزولها.
قال الله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ﴾ هذا التفات عن خطاب المؤمنين كافة بأحكام الصيام، إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن يذكرهم ويعلمهم ما يراعونه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والإخلاص والتوجه إليه وحده بالدعاء، الذي يعدهم للهدى والرشاد، وجعلت بأسلوب الفتوى على تقدير السؤال لتنبيه الأذهان، والمراد أن يؤمنوا بأن الله تعالى قريب منهم ليس بينه وبينهم حجاب ولا ولي ولا شفيع يبلغه دعاءهم وعبادتهم، أو يشاركه في إجابتهم أو إثابتهم، ليتوجهوا إليه وحده حنفاء مخلصين له الدين.
وقال البيضاوي في وجه الاتصال : واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، ومجازٍ على أعمالهم، تأكيدا له وحثا عليه. اه.
ونحن نعلم أن الأحكام العملية إنما تشرع لتقوية الإيمان وإصلاح النفس، ولذلك كان من سنة القرآن الحكيم أن يبين مع كل حكم تشريعه وفائدته في تقوية الإيمان، ويمزج الكلام فيه بما يذكر بعظمة الله تعالى، ويعين على مراقبته والتوجه إليه ويثبت الإيمان به كهذه الآية. ويا ليت فقهاءنا اقتدوا بهدي القرآن فلم يجعلوا كتب الأحكام جافة مقصورة على ذكر الأعمال البدنية، كأن الدين دين مادي جسماني لا غرض للقلوب والأرواح فيه.
وأما معنى قرب الله تعالى فقد قالوا : إنه القرب بالعلم، بمعنى أن علمه محيط بكل شيء فهو يسمع أقوال العباد ويرى أعمالهم. وعبارة البيضاوي : وهو تمثيل لكمال علمه تعالى بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم. اه. وإنما جعلوا الكلام تمثيلا لأن القرب والبعد الحقيقي إنما يكونان باعتبار المكان وهو منزه عن الانحصار في المكان.
وقال الأستاذ الإمام : يصح أن يكون من قرب الوجود فإن الذي لا يتحيز ولا يتحدد تكون نسب الأمكنة وما فيها إليه واحدة، فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء إذ منه كل شيء إيجادا وإمدادا وإليه المصير اه وهذا الذي قاله من الحقائق العالية وعليه السادة الصوفية. فقد قال أحد العلماء في قوله تعالى :﴿ ونحن أقرب إليه منكم ﴾ ( الواقعة : ٨٥ ) أي إذا بلغت روحه الحلقوم : أنه القرب بالعلم، وكان أحد كبار الصوفية حاضرا فقال : لو كان هذا هو المراد لقال تعالى في تتمة الآية ولكن لا تعلمون، ولكنه لم ينف العلم عنهم وإنما قال ﴿ ولكن لا تبصرون ﴾ ( الواقعة : ٨٥ )، وليس من شأن العلم أن يبصر فينفى هنا إبصاره وإنما ذلك شأن الذات. اه بالمعنى. وهو مذكور بنصه في كتاب اليواقيت والجواهر للشعراني. وعلى كل حال لازم القرب مقصود وهو عدم الحاجة إلى رفع الصوت ولا إلى الواسطة بينه وبين عباده في الدعاء وطلب الحاجات كما كان عليه المشركون في التوسل بالشفعاء والوسطاء إلى الله تعالى كأنه قال : فأخبرني بأنني قريب منهم وأنني أقرب إليهم من حبل الوريد ( أي كما في سورة ق ) ٢.
هذا ما كتبته من التعليق على كلمة شيخنا في قرب الوجود وطبع أولا واطلع هو عليه، ثم استشكله بعض إخواننا السلفيين، بأنه مخالف لمذهب السلف فإنهم يتأولون أو يفسرون القرب بالعلم كالمتكلمين، ويقولون إن الله تعالى فوق عباده بائن من خلقه، مستو على عرشه، وعبارة الأستاذ على إجمالها أقرب إلى مذهب السلف من تأويل المتكلمين ومن وافقهم من السلفيين، فإن البائن من كل شيء الذي لا يتحيز ولا يتحدد هو الذي تكون نسبة جميع الأمكنة ومن فيها إليه واحدة وهي البينونة المطلقة التي يقتضيها العلو المطلق فوق كل شيء والإحاطة بكل شيء.
وقرب الصفات لا يعقل بدون قرب الذات، إذ لا انفصال بينهما ولا انفكاك، والتحقيق أن مذهب السلف إمرار النصوص في الصفات على ظاهرها من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، والله تعالى قد أسند القرب في هذه الآية وآيتي سورة الواقعة وسورة ق إلى ذاته فنأخذ هذا الإسناد على ظاهره مع إثبات تنزيهه عن مماثلة خلقه وإثبات صفات الكمال له التي يفهم بها المراد من هذا القرب في كل سياق بحسبه، والجامع فيه ما ذكره الأستاذ من الإيجاد للعباد والإمداد لهم في أثناء وجودهم ومصيرهم إليه بعد انتهاء آجالهم، فالقرب في سورة ق يناسب الإيجاد والإمداد بالعلم والحفظ على قولهم إن قوله :﴿ إذ يتلقى المتلقيان ﴾ ( ق : ١٧ ) متعلق بقوله ﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾ ( ق : ١٦ ) والقرب في سورة الواقعة يناسب المصير إليه تعالى كما يعلم مما بعده، وقربه في الآية التي نفسرها يناسب الإمداد بسمع الدعاء وإجابته وهي من متعلقات القدرة والرحمة، والغرض منه تقرير توحيد العبادة كما قررناه آنفا وقد بينه بيانا مستأنفا بقوله.
﴿ أجيب دعوة الداع ﴾ منهم بنفسي من غير واسطة ﴿ إذا دعان ﴾ وتوجه إلي وحدي في طلب حاجته. أي يجب أن يدعى وحده بدون واسطة لأنه هو الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه بدون واسطة، وهو الذي يجيب دعواته وحده بدون واسطة تعينه أو تساعده أو تنوب عنه في الإجابة وقضاء الحاجة أو تؤثر في إرادته.
وقد فسروا الدعوة بطلب الحاجات وقالوا إن ظاهر الآية أن الإجابة وصف لازم لله تعالى وأنه يجيب كل داع، وليس الأمر كذلك كما هو ثابت بالمشاهدة، وأجابوا بأن المراد أن من شأنه الإجابة فهو يجيب إن شاء كما قال في آية أخرى ﴿ فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ﴾ ( الأنعام : ٤١ ) فهو على حد قولك فلان يعطي الكثير فاطلب منه، أي أن من شأنه ذلك ولا يلزم منه أن يعطي كل طالب عين ما يطلبه. وأجاب بعضهم بأن الإجابة أعم من إعطاء السؤال، وقد ورد في الحديث الصحيح أن الإجابة تكون بإحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها. ولا حاجة إلى التأويل إذ لا محل للإشكال فإن الآية سيقت لبيان أن الله تعالى قريب من عباده المتوجهين إليه فلا حاجة بهم إلى الصياح بتكبيره ودعائه، ولا إلى أن يتخذوا وسطاء بينهم وبينه في التوجه إليه وسؤال رحمته وفضله، بل يجب أن يصمدوا إليه وحده فإن هو الذي يجيب دعاءهم وحده.
( أقول ) : وأما كيفية إجابته إياهم فليس من موضوع الآية، ولا شك أن العارف بالله تعالى والعالم بشرعه وبسننه في خلقه لا يقصد بدعائه ربه إلا هدايته إلى الطرق والأسباب التي جرت سننه تعالى بأن تحصل الرغائب بها، وتوفيقه ومعونته فيها، فهو إذا سأل الله تعالى أن يزيد في علمه أو في رزقه فلا يقصد أن يكون العلم وحيا يوحى ولا أن تمطر له السماء ذهبا وفضة، وكذلك إذا سأل الله شفاء مرضه أو مريضه الذي أعياه علاجه فإنه لا يريد بذلك أن يخرق الله العادات، أو يجعله مؤيدا بالمعجزات والآيات، وإنما يريد المؤمن العارف بالدعاء ما ذكرنا من توفيق الله إياه إلى العلاج، أو العمل الذي يكون سبب الشفاء، سواء كان ذلك بإرشاد مرشد أو بإلهام إلهي، فكم لله من عناية بالمتوجهين إليه الداعين له بعد ما اجتهدوا في الأخذ بالأسباب فلم يفلحوا. ومن عنايته الهداية إلى سبب جديد، وإلهام النفس العمل المفيد، وتقوية المزاج على المرض ولا دليل في الآية على أن كل دعاء يجاب بل هي نفسها دليل على أنه لا يجيب الدعاء إلا الله، فيجب أن لا يدعى سواه ﴿ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ﴾ ( الجن : ١٨ ). فعسى أن يهتدي بهذا الموسومون بسمة الإيمان، الذين يدعون عند الضيق غير الرحمن، ويتوجهون إلى القبور : يا فلان يا فلان ويتأول لهم هذا الشرك أدعياء العلم والعرفان، بأن الكرامات ثابتة عندهم للأموات كالأحياء، ولكن الله تعالى يقول لهم ﴿ بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ﴾ ( الأنعام : ٤١ ).
وانظر كيف لم يقل إنه يجيب دعوة الداعي حتى قيدها بقوله :﴿ إذا دعاني ﴾. قال الأستاذ الإمام ما مثاله : إن الداعي شخص يطلب شيئا وهو يصدق على أكثر الناس الذين يطلبون كل يوم أشياء كثيرة وليس كل واحد منهم متحققا بدعاء الله تعالى وحده كما يجب أن يدعى، فهو يقول أجيب دعوة الداعي إذا خصني بالدعاء والتجأ إلي التجاء حقيقيا بحيث ذهب عن نفسه إلي، وشعر قلبه بأنه لا ملجأ له إلا إلي، ومثل هذا لا يطمع في غير مطمع، ولا يطلب ما لا يصلح أن يطلب، وإنما يمثل أمر الله تعالى باتخاذ جميع الوسائل من طرقها الصحيحة المعروفة وهي لا تتحقق إلا بالعلم والعزيمة والعمل، فإن تم للعب
٢ لفظ الآية ١٦ في سورة ق :"ونحن أقرب إليه من حبل الوريد"..
بعد هذا عاد إلى سرد بقية أحكام الصيام فقال :﴿ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ﴾ روي في سبب نزول هذه الآية أن الصحابة كانوا إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويتغشون النساء إلى وقت النوم فإذا نام أحدهم ثم استيقظ من الليل صام في أول الليل، وروي أن أهل الكتاب كانوا يصومون كذلك وأن الصحابة فهموا من قوله تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ أن التشبيه يتناول كيفية الصوم فوقع لبعضهم أن وقع على امرأته في الليل بعد النوم فشكا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ولبعضهم أن نام قبل أن يفطر ثم استيقظ فواصل الصوم إلى اليوم الثاني وكان عاملا فأضواه الجوع حتى غشي عليه فذكر خبره للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت.
قال بعض المفسرين هذه الآية ناسخة لقوله :﴿ كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ وقال بعضهم لا نسخ هنا فإن التشبيه ليس من كل وجه وإنما هو في الفريضة لا في الكيفية، وهذه الآية متصلة بما قبلها متممة لأحكام الصوم مبينة لما امتاز به صومنا من الرخصة التي لم تكن لمن قبلنا، وهذا ما اختاره الأستاذ الإمام وقال : إذا صح ما ورد في سبب النزول فهو يدل على أنه عندما فرض الصيام كان كل إنسان يذهب في فهمه مذهبا كما يؤديه إليه اجتهاده ويراه أحوط وأقرب إلى التقوى. ولذلك قالوا فيما رووه من إتيان عمر أهله بعد النوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ﴿ لم تكن حقيقا بذلك يا عمر ﴾.
أقول : أما الرواية الأولى فعند أحمد وأبي داود والحاكم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال : كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال قيس بن صِرمة ( بكسر الصاد ) صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح مجهودا وكان عمر قد أصاب من النساء بعدما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله ﴿ أحل لكم ﴾ إلى قوله :﴿ ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾.
قال في لباب النقول : هذا الحديث مشهور عن ابن أبي ليلى لكنه لم يسمع من معاذ وله شواهد، وذكر حديث قيس بن صرمة عن البراء عند البخاري وأخرجه أبو داود أيضا في الصوم والترميذي في التفسير- وقول البراء عند البخاري لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله ﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾.
وأما حديث عمر فهو ما رواه عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عند أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم قال : كان النساء في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى فطر من الغد فرجع عمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده فأراد امرأته فقالت إني نمت قال ما نمت، ووقع عليها وصنع كعب مثل ذلك فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت اه.
فأنت ترى في هذه الروايات اضطرابا ففي بعضها أنهم كانوا يرون مقاربة النساء محرمة في ليالي رمضان كأنهره على الإطلاق وفي الأخرى أنهم كانوا يعدونها كالأكل والشراب لا تحرم إلا بعد النوم في الليل، وأقرب ما يمكن أن يخرج عليه الجمع بين الروايتين اختلاف اجتهاد الصحابة في ذلك بحمل رواية على طائفة وإلا تعارضتا وسقط الاحتجاج بهما. وهذا الجمع يوافق ما قال الأستاذ الإمام فتعين أن اجتهادهم لم يكن حكما قرآنيا فيقال إنه نسخ بالآية، وإنما هو اجتهاد أوقعهم فيه الإجمال فجاءت هذه الآية بالبيان قال : وقوله :( أحل لكم ) لا يقتضي أنه كان محرما بل يكفي فيه أن يتوهم أن من كمال الصيام أو من شروطه عدم الأكل بعد النوم وعدم مقاربة النساء بعده أو مطلقا. وهو كقوله تعالى :﴿ أحل لكم صيد البحر ﴾ ( المائدة : ٩٦ ) ولم يكن قد سبق نص في تحريمه.
وأقول : إن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك الاجتهاد كان جريا على سنته في إجازة عمل كل أحد باجتهاده فيما يحتمل الاجتهاد من النصوص من غير إلزام لأحد به إذ لم يكن يلزم الأمة كلها إلا العمل بالنص القطعي الدلالة كما يأتي بيانه في تحريم الخمر والميسر.
أما ليلة الصيام فهي الليلة التي يصبح منها المرء صائما، وأما الرفث إلى النساء فهو الإفضاء إليهن ومباشرتهن، وأصله الإفصاح بما ينبغي أن يكنى عنه مما يقع بين الرجل وامرأته. يقال رفث في كلامه إذا فحش وأفصح بذكر الوقاع وشؤونه أو حادث النساء في ذلك، وقال الأزهري الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة. وحقق الراغب أن الرفث كلام متضمن لما يستقبح من ذكر الوقاع ودواعيه، وجعل كناية عنه في الآية تنبيها على جواز دعائهن إلى ذلك ومكالمتهن فيه. وعدى بإلى لتضمينه معنى الإفضاء، وقد علمنا القرآن النزاهة في التعبير عن هذا الأمر عند الحاجة إلى الكلام فيه بما ذكر من الكنايات اللطيفة، كقوله :﴿ لامستم النساء ﴾ ( النساء : ٤ ) ﴿ أفضى بعضكم إلى بعض ﴾ ( النساء : ٢١ ) ﴿ دخلتم بهن ﴾ ( النساء : ٤ ) ﴿ فلما تغشاها حملت ﴾ ( الأعراف : ١٨٩ ) وقال بعض المفسرين قد ذكر هنا اللفظ الصريح والسبب في ذلك استهجان ما وقع منهم. وهذا غلط فإن الكلمة بمعنى ما لا يحسن التصريح به من شأن الرجل مع المرأة وليست هي من الألفاظ الصريحة في ذلك، فالمعنى أحل لكم ذلك الأمر الذي لا ينبغي التصريح به.
وإن قال الأستاذ الإمام : والصواب أنه جيء باللفظ على خلاف ما جرت عليه سنة الكتاب للإشارة إلى استهجانه في شهر الصوم وإن حل فهو من الحلال المكروه على الجملة وقوله :﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ قول مستأنف سيق لبيان سبب الحكم أي إذا كان بينكم وبينهن هذه الملابسة والمخالطة فإن اجتنابهن عسر عليكم فلهذا رخص لكم في مباشرتهن ليلة الصيام قاله صاحب الكشاف واختاره الأستاذ الإمام، فهو يرى أن لفظ لباس هنا مصدر لابسه بمعنى خالطه وعرف دخائله، لا بمعنى ما ورد من إطلاق اللباس والإزار على المرأة. وقال ابن عباس معناه هن سكن لكم وأنتم سكن لهن. وذهب كثير من المفسرين إلى أنه كناية عن المعانقة، واستشهدوا له بقول الذبياني :
إذا ما الضجيع ثنى عطفها | تثنت عليه فكانت لباسا١ |
ثم قال :﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾ أي تنتقصونها بعض ما أحل الله لها من اللذات توهما أن من قبلكم كان كذلك، فيكون بمعنى التخون أي النقص من الشيء أو معناه تخونون أنفسكم إذ تعتقدون شيئا ثم لا تلتزمون العمل به، فهو مبالغة من الخيانة، التي هي مخالفة مقتضى الأمانة، ولم يقل تختانون الله كما قال :﴿ لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ﴾ ( الأنفال : ٢٧ ) للإشعار بأن الله تعالى لم يحرم عليهم بعد النوم في الليل ما حرمه على الصائم في النهار، وإنما ذهب بهم اجتهادهم إلى ذلك فهم قد خانوا أنفسهم في اعتقادها فكانوا كمن يتغشى امرأته ظانا أنها أجنبية، فعصيانه بحسب اعتقاده لا بحسب الواقع.
فهم على أي حال كانوا عاصين بما فعلوا محتاجين إلى التوبة والعفو ولذلك قال :﴿ فتاب عليكم وعفا عنكم ﴾ فإن كان ذنبهم تحريم ما أباح الله لهم في ليالي الصوم أو التورع عنه ليوافق صيامهم صيام أهل الكتاب من كل وجه فتفسر التوبة بالرجوع عليهم ببيان الرخصة بعد ذكر فرض الصيام مجملا، والتشبيه فيه مبهما، ويكون العفو عن الخطأ في الاجتهاد الذي أدى إلى التضييق على النفس وإيقاعها في الحرج، وإن كان الذنب هو مخالفة الاعتقاد بأن كانوا فهموا من النبي صلى الله عليه وسلم أو من قوله تعالى :﴿ كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ تحريم ملامسة النساء ليلا مطلقا أو تحريمه كالأكل والشرب بعد النوم في الليل، فالتوبة على ظاهر معناها، أي أن الله قبل توبتكم، وعفا عن خيانتكم ﴿ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾ المباشرة هنا كناية عن المباضعة الزوجية وحقيقتها وكنايتها وهي من نزاهة القرآن، والمعنى : فالآن باشروهن إذ أحل لكم الرفث إليهن بالنص الصريح النافي لما فهمتم من الإجمال في كتابة الصيام عليكم، فالأمر بالمباشرة للإباحة الناسخة أو النافية لذلك الحظر فهي كالأمر بالشيء بعد النهي عنه، واطلبوا بمباشرتهن ما قدره لجنسكم في نظام الفطرة من جعل المباشرة سببا للنسل أو ما عسى أن يكون كتبه لكل منكم، بأن تكون مباشرتكم بقصد إحياء سنة الله تعالى في الخليقة.
زاد بعضهم : لا لمحض شهوة النفس واللذة التي يشارككم فيها البهائم وهو يشعر أن التمتع باللذة الزوجية مذموم إذا لم يكن لأجل النسل، وليس بصحيح على إطلاقه فإن الزوجين المحرومين من الأولاد أو اللذين رزقا بعض الأولاد ثم انقطع نتاجهما لا يذم ولا يكره لهما الاستمتاع بالمباشرة الزوجية بغير إفراط بل هو مطلوب لإحصان كل منهما للآخر وصده عن الحرام. ولما قال صلى الله عليه وسلم للفقراء ( وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال :( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ ) قالوا : نعم، قال :( فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) ٢ والحديث في صحيح مسلم.
وقيل إن العبارة تتضمن النهي عن المباشرة المحرمة فإنها لا يقصد بها الولد سواء كانت الزنا أو غيره، وليس ببعيد ﴿ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ﴾ أي ويباح لكم الأكل والشراب كالمباشرة عامة الليل حتى يتبين لكم بياض الفجر فمتى تبين وجب الصيام. وما أحسن التعبير عن أول طلوع الفجر بالخيطين، والخيط الأبيض هو أول ما يبدو من الفجر الصادق، فمتى أسفر لا يظهر وجه لتسميته خيطا، فما ذهب إليه بعض السلف كالأعمش من أن ابتداء الصوم من وقت الإسفار تنافيه عبارة القرآن.
هذا ما كتبته أولا وهو غير دقيق وسأفصل المسألة في الاستدراك والإيضاح الذي تراه بعد تمام تفسير الآية. والاقتصار على الأكل والشراب في بيان آخر الليل دون المباشرة وحكمها حكمهما يشعر بكراهتها في آخر وقت الإباحة الذي تتلوه صلاة الفجر المندوب التغليس بها.
﴿ ثم أتموا الصيام إلى الليل ﴾ فهم من غاية وقت الأكل والشراب في الجملة السابقة مبدأ الصيام، وذكر في هذه غايته وهي ابتداء الليل بغروب قرص الشمس وما يلزمه من ذهاب شعاعها عن جدران البيوت والمآذن، ولا يلزم أهل الأغوار والقيعان ذهاب شعاعها عن شناخيب الجبل العالية بعيدة كانت أو قريبة، وإنما العبرة بمغيب الشمس في أفقهم الذي يتلوه إقبال الليل. قال صلى الله عليه وسلم :( إذا أدبر النهار وأقبل الليل وغابت الشمس فقد أفطر الصائم ) ٣ متفق عليه. وزاد فيه البخاري ( من ههنا ) عند ذكر الليل والنهار والإشارة إلى المغرب والمشرق وللمباني العصرية الشامخة في بلاد أمريكا حكمها في ذلك. وأنت ترى أن هذا التحديد جاء بأسلوب الإطناب لأنه بيان للإجمال بعد وقوع الخطأ فيه، وإنما أخر البيا
إذا ما الضجيج ثنى جيدها | تداعت فكانت عليه لباسا |
.
٢ أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٥٢، وأحمد في المسند ٥/١٦٨، ١٦٩..
٣ أخرجه البخاري في الشهادات باب ١١، ومسلم في الصيام حديث ٥١، ٥٢..
الكلام كما تقدم في سرد الأحكام العملية. ولما فرغ من أحكام الصيام وفيها حكم أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت، مهَّدَ لحكم أكل مال غيره بذكر الحدود العامة والنهي عن قربها. ثم قال :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ الخطاب لعامة المكلفين، والمراد لا يأكل بعضكم مال بعض، واختار لفظ أموالكم وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه للإشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وللتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك، لأن استحلال التعدي وأخذ المال بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي، وبيان لحكمة الحكم، كأنه قال لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، لأن ذلك جناية على نفس الآكل، من حيث هو جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، لا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، فهو باستحلاله مال غيره يجرئ غيره على استحلال أكل ماله عند الاستطاعة، فما أبلغ هذا الإيجاز ! وما أجدر هذه الكلمة بوصف الإعجاز.
وفي الإضافة معنى آخر قاله بعضهم وهو التنبيه على أنه يجب على الإنسان أن ينفق مال نفسه في سبيل الحق، وأن لا يضيعه في سبل الباطل المحرمة، ونظر فيه آخر بما رضيه الأستاذ الإمام فقال : إنه صحيح في ذاته ولكن فهمه من الآية بعيد لقوله :﴿ بينكم ﴾ فهو صريح في أن المراد ما يقع به التعامل بين اثنين فأكثر.
والمراد بالأكل مطلق الأخذ. والتعبير عن الأخذ بالأكل معروف في اللغة تجوزوا فيه قبل نزول القرآن، ومنشؤه أن الأكل أعم الحاجات من المال وأكثرها، وإن كان بعض الناس يفضل غير الأكل من الأهواء ينفق فيه المال، فإن هذا لا ينفي أن الحاجة إلى الأكل وتقويم البنية أعظم وأعم. وأكثر ما يستعمل أكل المال في مقام أخذه بالباطل وقد يستعمل في غيره.
وأما الباطل فهو ما لم يكن في مقابلة شيء حقيقي، وهو من الباطل والبطلان، أي الضياع والخسار، فقد حرمت الشريعة أخذ المال بدون مقابلة حقيقية يعتد بها، ورضاء من يؤخذ منه، وكذلك إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع.
قال الأستاذ الإمام : ومن ذلك تحريم الصدقة على القادر على كسب يكفيه وإن تركه حتى نزل به الفقر اعتمادا على السؤال، ونقول إنها كما حرمت إعطاءه حرمت عليه الأخذ إذا هو أعطاه معط، فلا يحل لمسلم أن يقبل صدقة وهو غير مضطر إليها، ولا للمضطر إلا إذا كان عاجزا عن إزالة اضطراره بسعيه وكسبه.
أقول : وأبلغ من هذا وذاك ما ذكره الفقهاء من أنه لا يجب على العاري الذي لا يجد ما يستر عورته في الصلاة أن يستعير ثوبا يصلي فيه أو يقبله صدقة ممن يبذله له لما في ذلك من المنة التي لا يكلف الإسلام احتمالها، وله أن يصلي عاريا.
قال : ومنه تحريم الربا لأنه أكل لأموال الناس بدون مقابل من صاحب المال المعطي، ومثل لذلك بما يقع في الناس كثيرا من أكل الربا أضعافا مضاعفة، وفرق بينه وبين المسلم، وقال إن روح الشريعة تعلمنا بمثل هذه الآية أن يطلب من الإنسان أن يكسب المال من الطرق الصحيحة المشروعة التي لا تضر أحدا، وإنما أجمل وأوجز القرآن في الباطل لأنه من الأمور المعروفة للناس بوجوهه الكثيرة، وحسب المسلم أن يكف عن كل ما يعتقد أنه باطل، على أنه بين هذا الإجمال في أمور قد تخفى على الناس كالإدلاء إلى الحكام الآتي وكتحريم الربا أي ربا الفضل المنهي عنه في الحديث دون ربا النسيئة المحرم بنص القرآن فهو لا خفاء في بطلانه لأنه زيادة في المال لأجل التأخير في أجل الدين الذي استهلك لا لمنفعة جديدة.
ويدخل في هذا الباب التعدي على الناس بغصب المنفعة بأن يسخر بعضهم بعضا في عمل لا يعطيه عليه أجرا، أو ينقصه من الأجر المسمى أو أجر المثل، ويدخل فيه سائر ضروب التعدي والغش والاحتيال كما يقع من السماسرة فيما يذهبون فيه من مذاهب التلبيس والتدليس، إذ يزينون للناس السلع الرديئة، والبضائع المزجاة، ويسولون لهم فيورطونهم، وكل من باع أو اشترى مستعينا بإيهام الآخر ما لا حقيقة له ولا صحة بحيث لو عرف الخفايا وانقلب وهمه علما لما باع أو لما اشترى فهو آكل لماله بالباطل.
ومن هؤلاء الموهمين باعة التولات والتناجيس١ والتمائم، وكذا العزائم وختمات القرآن والعدد المعلوم من سورة ( يس ) أو بعض الأذكار، وقد بلغ من هزؤ هؤلاء بالدين أن كان بعض المشهورين منهم يبيع سورة ( يس ) لقضاء الحاجات أو لرحمة الأموات يقرؤِها مرات كثيرة، ويعقد لكل مرة عقدة في الخيط يحمله حتى إذا ما جاءه طالب ابتياع القراءة وأخذ منه الثمن بعد المساومة يحل له من تلك العقد، بقدر ما يطلب من العدد، ذكر هذه الواقعة الأستاذ الإمام في الدرس، وقد كنا نسمع عن رؤساء بعض النصارى نحو هذا في بيع العبادة التي يسمونها القداديس فنسخر منهم، حتى علمنا أننا قد اتبعنا سننهم شبرا بشبر حتى دخلنا في جحر الضب الذي دخلوه.
قال الأستاذ : إن كل أجر يؤخذ على عبادة فهو أكل لأموال الناس بالباطل وقد مضى الصدر الأول والثاني كلمة تشعر بذلك، ثم لا يعقل أن تحقق العبادة وتحصل بالأجرة، لأن تحققها إنما يكون بالنية وإرادة وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته بامتثال أمره، ومتى شاب هذه النية شائبة من حظ الدنيا خرج العمل عن كونه عبادة خالصة لله، والله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا من الحظوظ والشوائب.
( أقول ) : وقد ورد على لسان الشارع تسمية مثل هذا العمل شركا ففي حديث مسلم وغيره ( قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه إذا كان يوم القيامة أتى بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله للملائكة : اقبلوا هذا وألقوا هذا، فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا، فيقول نعم لكن كان لغيري، ولا أقبل اليوم إلا ما أبتغي به وجهي ) ٢ وفي رواية يقولون ( ما كتبنا إلا عمل ) الخ وفي حديث أحمد والترمذي وابن ماجه ( إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عنده فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ) ٣.
وإنما يظهر تأويل مثل هذا فيمن قصد العبادة والأجر معا بحيث لو لم يستأجر للقراءة ( مثلا ) لقرأ. وأما من لا يقصد إلا الأجرة فإذا لم يكن لا يقرأ تلك الختمة أو العدد من السورة أو الذكر فأمره أقبح، وذنبه أكبر، وعمله باطل لا يعتد به شرعا، فدافع الأجر عليه خاسر لماله، وآخذه منه خاسر لماله، ومثل قصد الأجرة المالية الرياء فإنه منفعة معنوية.
وقد فرق بعض الفقهاء بين قراءة القرآن وتعلمه، فأجاز أخذ الأجرة على تعليمه كتعليم العلم لأن الاشتغال بالتعليم يصد عن التفرغ للكسب من الوجوه الأخرى، فإذا لم نَجْزِ المعلم يتعسر علينا أن نجد من يتصدى لتعليم الأولاد، وليس زمننا كزمان السلف يتفرغ فيه الناس لنشر العلم وإفادته تعبدا لله وتقربا إليه.
( قال الأستاذ الإمام ) : من علم العلم والدين بالأجرة فهو كسائر الصناع. والإجراء لا ثواب له على أصل العمل بل على إتقانه والإخلاص فيه والنصح لمن يعلمهم. وأذكر أنني سمعته في وقت آخر يقول : ينبغي للمعلم الذي يعطى راتبا من الأوقاف الخيرية أن يأخذ إذا كان محتاجا لأجل سد الحاجة لا بقصد الأجرة على التعليم، وبذلك يكون عابدا لله تعالى بالتعليم نفسه، وعلامته أن يستعفف إذا هو استغنى، فلا يأخذ من الوقف شيئا وقالوا في المؤذن مثل ما قالوا في معلم القرآن ويأتي فيه من القصد والنية ما ذكر في المعلم. ولا خلاف في عدم جواز أخذ الأجرة على جواب السائل عن مسألة دينية تعرض له إذ الإجابة فريضة على العارفين وكتمان العلم محرم عليهم. ولبسط هذه الأحكام موضع آخر.
وجملة القول : إن أكل أموال الناس بالباطل يتحقق في كل أخذ للمال بغير رضى من المأخوذ منه لا شائبة للجهل أو الوهم أو الغش أو الضرر فيه، ومما تعرض فيه الشوائب كلها أو أكثرها قراءة القرآن بالأجرة لأجل الموتى أو دفع ضرر الجن أو غيره عن الأحياء، والذي يعطي الأجرة عليها يجهل ذلك، ويتوهم أنها تكون سببا لنفع الميت أو الحي أو رفع ضرر العذاب في الآخرة أو الجن في الدنيا ( مثلا ) والجاهل بالشرع في المسألة عرضة لقبول الإيهام والغش من الدجالين والمحتالين وليس كذلك إقراء القرآن في البيوت لأجل اتعاظ أهلها وتقوية شعور الإيمان بسماعه، بل هذا كتعليم العلم الذي بسطناه آنفا، وينبغي أن يكون إكرام القراء بغير صفة الأجرة.
ذكر الأكل مجملا عاما ثم بين نوعا منه خصه بالنهي عنه مع دخوله في العام لما يقع من الشبهة فيه لبعض الناس من أن الحاكم الذي هو نائب الشارع في بيان الحق، ومنفذ الشرع إذا حكم لإنسان ولو بغير حق فإنه يحل له ولا يكون من الباطل فقال تعالى ﴿ وتدلوا بها إلى الحكام ﴾ أي ولا تلقوا بها إلى الحكام رشوة لهم ﴿ لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ﴾ إبطالا لهذا الاعتقاد ليعلم أن الحق لا يتغير بحكم الحاكم بل هو ثابت في نفسه وليس على الحاكم إلا بيانه وإيصاله إلى مستحقه بالعدل، بل قال الأستاذ الإمام : إن الحاكم عبارة عن شخص العدل الناطق بما لكل أحد منه اه أي فإذا نطق بغير الحق خطأ أو اتباعا لهواه، فقد خرج عن حقيقته ومعناه، وتعريفه للمحكوم له غير ما يعرفه لا يغني عنه شيئا، وكذلك إلزام خصمه التنفيذ. نعم، إن كان المحكوم له بالباطل في الواقع يعتقد أنه صاحب الحق لشبهة عرضت له وحكم له الحاكم، يكون معذورا فيما يأكله بحكمه، ولا يعذر إذا كان عالما بأنه غير محق لأن حكم القاضي على الظاهر فقط.
قال الأستاذ الإمام : قد نفت الآية الاشتباه وبينت أن الاستعانة بالحكام على أكل المال بالباطل محرم لأن الحكم لا يغير الحق في نفسه ولا يحله للمحكوم له به، ومع هذا قد اختلف علماؤنا في حكم القاضي هل هو على الظاهر فقط أم ينفذ ظاهرا وباطنا ويكون الإثم على القاضي وحده إن تعمد الجور دون المحكوم له. فالجمهور على أن حكم القاضي ينفذ ظاهرا فقط، وأبو حنيفة على أن حكم القاضي بنحو الطلاق وعقد النكاح أو فسخه ينفذ ظاهرا وباطنا، إن كان الشهود زورا، وأن حكمه بالمال لا ينفذ إلا ظاهرا فلا يحل للمحكوم له تناوله إذا لم يكن له.
وأزيد المسألة وضوحا بالتمثيل فأقول : يعني أن القاضي إذا حكم بفسخ النكاح أو التفريق بين الزوجين بشهادة زور حرم عليهما أن يعيشا معا عيشة الأزواج، وإذا شهد شهود الزور بأن فلانا عقد على فلانة وحكم القاضي بصحة العقد حل للرجل المحكوم له أن يدخل بها بغير عقد اكتفاء بحكم القاضي الذي يعلم أنه بغير حق. وقد نقل النووي في شرح مسلم أن الشافعي حكى الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام، وقد علمت أن عليه الجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة فلم يخالفاه إلا لأنه ظهر لهما قوة دليل الجمهور، ومنه حديث أم سلمة عند الجماعة : مالك وأحمد والشيخين وأصحاب السنن وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ) ٤ وروي بلفظ آخر بمعناه.
والمنتصرون لأبي حنيفة يقصرون الأمر ع
٢ أخرجه مسلم في الزهد حديث ٤٦..
٣ أخرجه ابن ماجه في الزهد باب ٢١، وأحمد في المسند ٣/٤٦٦، ٤/٢١٥..
٤ أخرجه البخاري في الشهادات باب ٢٧، والأحكام باب ٢٠، والحيل باب ١٠، ومسلم في الأقضية حديث ٤، وأبو داود في الأقضية باب ٧، والترمذي في الأحكام باب ١١، والنسائي في القضاة باب ١٣، ٣٣، وابن ماجه في الأحكام باب ٥، ومالك في الأقضية حديث ١، وأحمد في المسند ٦/٢٠٣، ٢٩٠، ٣٠٨، ٣٢٠..
ذكر الله تعالى حكم الأموال عقب ذكر أحكام الصيام لما تقدم من المناسبة، والصيام عبادة موقوتة لا يتعدى فرضها شهر رمضان، والأموال وسيلة لعبادة الحج وهو يكون في الأشهر الحرم، ولعبادة القتال مدافعة عن الملة والأمة، وهي قد كانت ممنوعة في هذه الأشهر، فناسب أن يعقب بعد أحكام الصيام والأموال بذكر ما يشرع في الأشهر الحرم من الحج ومن القتال عند الاعتداء على المسلمين، ويبدأ ذلك بذكر حكمة اختلاف الأهلة.
قال ﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ أي مواقيت لهم في صيامهم وحجهم من العبادات، وفي نحو عدة النساء وآجال العقود من المعاملات، فإن التوقيت بها يسهل على العالم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر، فهي مواقيت لجمع الناس وأما السنة الشمسية فإن شهورها تعرف بالحساب فهي لا تصلح إلا للحاسبين، ولم يقدروا على ضبطها إلا بعد ارتقاء العلوم الرياضية بزمن طويل. وقد ورد في أسباب نزول الآية أن بعضهم سأل النبي عن الأهلة مطلقا وأن بعضهم سأل لم خلقت ؟ والروايتان عند ابن أبي حاتم. وأخرج أبو نعيم وابن عساكر من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنيمة قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يعود كما كان لا يكون على حال واحد ؟ فنزلت.
وقد اشتهر هذا السبب لأن علماء البلاغة يذكرونه في مطابقة الجواب للسؤال وعدمها، وزعموا أن مراد السائلين بيان السبب الطبيعي لهذا الاختلاف، وأن الجواب إنما جاء ببيان الحكمة دون بيان العلة لأنه موضوع الدين، جاريا على ما يسمى في البلاغة أسلوب الحكيم أو الأسلوب الحكيم.
قال الأستاذ الإمام : كأنه قال كان عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة في اختلاف الأهلة إن لم تكونوا تعرفونها، وإلا فعليكم الاكتفاء بها وعدم مطالبة الشارع بما ليس من الشرع. ففي الكلام تعريض بأن سؤالهم في غير محله، ولو توجه هذا السؤال ممن يتعلم علم الفلك إلى أستاذه فيه لما عد قبيحا ولا قيل إنه في غير محله، ولكنه موجه من أمي، إلى نبي لا إلى فلكي، فهو قبيح من هذا الوجه لا لذاته، وإلا لكان النظر في السموات والأرض لأجل الوقوف على أسرار الخليقة وأسباب ما فيها من الآيات والعبر مذموما، وكيف يذم وقد أرشدنا الله تعالى إليه، وحثنا في كتابه عليه :﴿ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من الفروج ﴾ ( ق : ٦ ) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأقول : إن الرواية عن ابن عباس ضعيفة، بل قالوا إن رواية الكلبي عن أبي صالح هي أوهى الطرق عنه. على أن السؤال غير صريح في طلب بيان العلة، وحمله على طلب الحكمة والفائدة ولو مع العلة غير بعيد، فالمختار أن الجواب مطابق للسؤال وقد بين الأستاذ الإمام بمناسبة القول المشهور في السؤال وأنه عن العلة ما بعث الأنبياء لبيانه فهم يسألون عنه وما ليس كذلك فقال ما مثاله :
العلوم التي نحتاج إليها في حياتنا على أقسام : منها ما لا نحتاج فيه إلى أستاذ كالمحسوسات والوجدانات فهذا هو ( القسم الأول ) ومنها ما لا نجد له أستاذا لأنه مما لا مطمع للبشر في الوصول إليه البتة وهو كيفية التكوين والإيجاد الأول المعبر عنه بسر القدر يمكن للنباتي أن يعرف ما يتكون منه النبات وكيف ينبت وينمو ويتغذى. وللطبيب أن يعرف كيفية تولد الحيوان والأطوار التي يتدرج فيها منذ يكون نطفة إلى أن يكون إنسانا مستقلا عاقلا، ولكن لا يعرف نباتي ولا طبيب كيف وجدت أنواع النبات وأنواع الحيوان أو مادتهما لأول مرة، ولا كيف وجد غيرهما من المخلوقات، ومن هنا تعلمون أن العلاقة بين الخالق والمخلوق من هذه الجهة جهة الإيجاد والخلق لا يمكن اكتناهها. وكذلك لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته. وهذا هو ( القسم الثاني ). ومنها ما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصناعية والهيئة الفلكية، ومنها أسباب أطوار الهلال، وتنقله من حال إلى حال، أي المعبر عنه بقوله تعالى :﴿ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ﴾ ( يس : ٣٩ ) وهذا هو ( القسم الثالث ).
( القسم الرابع ) ما يجب علينا للخالق العظيم الذي أودع في فطرنا الشعور بسلطانه وهدى عقولنا إلى الإيمان به بما نراه من آياته في الآفاق وفي أنفسنا. فإن هذا الشعور وهذه الهداية مبهمان لا سبيل لنا إلى تحديدهما من حيث ما يجب اعتقاده في الله تعالى وفي حكمة خلقنا ومراده منا وما يتبع ذلك من أمر مصيرنا ومن حيث ما يجب له من الشكر والعبادة. وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بطريق صناعي أو كسب بشري، فقد وقعت الأمم في الحيرة والخطأ في مسائله لجهلهم بالصلة والنسبة بين المخلوق والخالق، فمنهم من وصفه تعالى بما لا يصح أن يوصف به، ومنهم من توهم أن أعمالنا تفيده أو تؤلمه، وأنه ينعم علينا أو ينتقم منا بالمصائب لأجل ذلك. ومنهم من توهم أن الحياة الأخرى تكون بهذه الأجساد والجزاء فيها يكون بهذا المتاع، فاخترعوا الأدوية لحفظ أجسامهم ومتاعهم. وإذا كان الإنسان عاجزا عن تحديد ما يجب عليه ويحتاج إليه من الإيمان بالله وبالحياة الأخرى وما يجب عليه في الحياة الأولى شكرا لله واستعدادا لتلك الحياة لأن الحواس والعقل لا يدركان ذلك، فلا شك أنه محتاج إلى عقل آخر يدرك به ما يعوز أفراده من هذه الأمور، وهذا العقل هو النبي المرسل.
وبقي ( القسم الخامس ) وهو ما يستطيع العقل البشري إدراك الفائدة منه ولكنه عرضة للخطأ فيه دائما لما يعرض له من الأهواء والشهوات التي تلقي الغشاوة على الأبصار والبصائر، فتحول دون الوصول إلى الحقيقة، أو تشبه النافع بالضار، وتلبس الحق بالباطل، مثال ذلك السعاية والمحل يدرك العقل ما فيه من الضرر والقبح ولكنه إذا رأى لنفسه فائدة من السعاية بشخص زينها له هواه فيراها حسنة من حيث يخفى عليه ضررها لذاتها، وكذلك شرب الخمر والحشيش وقد يعرف الإنسان مضرتها في غيره ولكن الشهوة تحجبه عن إدراك ذلك في نفسه فيؤثر حكم لذته على حكم عقله الذي ينهاه عن كل ضار، فصار محتاجا إلى معلم آخر ينصر العقل على الهوى، ووازع يكبح من جماح الشهوة ليكون على هدى.
فما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه، لا يطالب الأنبياء ببيانه، ومطالبتهم به جهل بوظيفتهم وإهمال للمواهب والقوى التي وهبه الله إياها ليصل بها إلى ذلك، وكذلك لا يطالبون بما يستحيل على البشر الوصول إليه كقول بعض بني إسرائيل لموسى :﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ ( البقرة : ٥٥ ) وأما ما كان إدراكه ممكنا، وكسبه بالحس والعقل متعذرا أو تحديده متعسرا، فهو الذي نحتاج فيه إلى هاد الخير عن الله تعالى لنأخذه عنه بالإيمان والتسليم، ولذلك قلنا إن الرسول عقل للأمة وهداية وراء هداية الحواس والوجدان والعقل.
لو كان من وظيفة النبي أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال من الإنسان، ويلزم بأن يتلقى كل فرد من أفراده كل شيء بالتسليم، ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها في كل زمن كل ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم، وإن شئت فقل لوجب أن لا يكون الإنسان هذا النوع الذي نعرفه، نعم إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما يزيد منافعهم ومعارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، ولكن مع وصلها بالتنبيه على ما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة. وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) ١ ومن ههنا كان السؤال عن حقيقة الروح خطأ وقد أمر الله نبيه أن يجيب السائلين بقوله :﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾ ( الإسراء : ٨٥ ) أي أنها من المخلوقات التي لا يسأل النبي عنها كما كان السؤال عن علة اختلاف أطوار الأهلة خطأ لا يصح مجاراة السائل عليه بل عده القرآن من قبيل إتيان البيوت من ظهورها كما في تتمة الآية.
فإن قيل إن التاريخ من العلوم التي يسهل على البشر تدوينها والاستغناء بها عن الوحي فلماذا كثر سرد الأخبار التاريخية في القرآن وكانت في التوراة أكثر ؟ والجواب ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، وإنما هي الآيات والعبر تجلت في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم، لبيان سنن الله تعالى فيهم، إنذارا للكافرين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيتا لقلبه وقلوب المؤمنين به ( وسترى ذلك في محله إن شاء الله تعالى ) ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ ( يوسف : ١٢٠ ) ﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ﴾ ( هود : ١٢٠ ) وكل ما تراه في هذه التوراة التي عند القوم من القصص المسهبة والتاريخ المتصل من ذكر خلق آدم وما بعده فهي مما ألحق بالتوراة بعد موسى بقرون، بل كتب أكثر تواريخ العهد القديم بعد السبي ورجوع بني إسرائيل من بابل ومن أراد كمال البيان في وظائف الرسل فعليه برسالة التوحيد للأستاذ الإمام.
وإذا كان ما ورد في السؤال عن الأهلة لم يصح سندا كما تقدم فلا ينفي ذلك أن السؤال قد وقع بالفعل، ولا أن الرواية التي قالوها هي في نفسها صحيحة، فما كل ما لم يصح سنده باطل، ولا كل ما صح سنده واقع، فرب سند قالوا إنه صحيح لأنهم لا يعرفون جارحا في أحد من رجاله وهو غير صحيح لأن فيهم من خفي كذبه واستتر أمره. يدل على السؤال في الجملة قوله ﴿ يسألونك ﴾ ويستأنس لقول من قال إن السؤال كان على العلة والسبب قوله تعالى :﴿ وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ﴾ فإن فيه تعريضا بأن من يسأل النبي عما لم يبعث النبي لبيانه ولا يتوقف عرفاته على الوحي فهو في طلبه الشيء من غير مطلبه كمن يطلب دخول البيت في ظهره دون بابه. وبهذا التقرير يكون الاتصال والالتحام بين أجزاء الآية أحكم وأقوى. ولولا أن هذا مفيد لحكم من أحكام الحج الذي يعرف ميقاته بالأهلة لكان لا معنى له إلا تأديب السائلين بتمثيل ذلك السؤال بمثل لا يرتضيه عاقل، وهو إتيان البيوت من ظهورها، وإرشادهم إلى ما ينبغي أن ينبغي أن يستفيدوه وتحسينه لهم بجعله كإتيان البيوت من أبوابها.
روى البخاري وابن جرير عن البراء قال كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية٢. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال كانت قريش تدعى الحمس٣ وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذا خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا يا رسول الله إن قطبة ابن عامر رجل فاجر، وأنه خرج معك من الباب، فقال له ( ما حملك على ما فعلت ؟ ) قال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت. قال ( إني رجل أحمسي ) قال له فإن ديني دينك فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه وعبد بن حميد ما هو بمعناه. وذكر ابن جري
٢ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢، باب ٢٩..
٣ الحمس: من الحماسة، وهي الشدة والصلابة، دعوا بذلك لتشددهم في دينهم..
﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ١٩٣ ﴾
وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا. فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة. وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتل فيها محرما في الجاهلية. وأخرج الواحدي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صد عن البيت ثم صالحه المشركون فرضي على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء. فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾.
﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ يقول أيها المؤمنون الذين تخافون أن يمنعكم مشركو مكة عن زيارة بيت الله والاعتمار فيه نكثا منهم للعهد وفتنة لكم في الدين، وتكرهون أن تدفعوا عن أنفسكم بقتالهم في الإحرام والشهر الحرام، إنني أذنت لكم في القتال على أنه دفاع في سبيل الله للتمكن من عبادته في بيته وتربية لمن يفتنكم عن دينكم وينكث عهدكم، لا لحظوظ النفس وأهوائها، والضراوة بحب التسافك، فقاتلوا في هذه السبيل الشريفة من يقاتلكم ﴿ ولا تعتدوا ﴾ بالقتال فتبدأوهم ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل كالنساء والصبيان والشيوخ والمرضى أو من ألقى إليكم السلم وكف عن حربهم ولا يغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار، وقد قالوا إن الفعل المنفي يفيد العموم.
علل الإذن بأنه مدافعة في سبيل الله وسيأتي تفصيله في الآية التالية، وعلل النهي بقوله ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾ أي أن الاعتداء من السيئات المكروهة عند الله تعالى لذاتها فكيف إذا كان في حال الإحرام، وفي أرض الحرم والشهر الحرام ؟.
كان المشركون يبدؤون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ولو لم يبدؤوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذاؤهم ومنع الدعوة ـ كل ذلك كافيا في اعتبارهم معتدين. فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق ولذلك كان تقديم الدعوة شرطا لجواز القتال. وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ ( البقرة : ٩٩ ) وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويتعدى على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الروح ولا لأجل الطمع في الكسب.
ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المنتصرة من يظفرون به من المسلمين. وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم فقد مزقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعواته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون. وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك٢.
وجملة القول في القتال إنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الإسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتها يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر.
وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلام ـ حتى من المنتمين إليه ـ من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين أنه ليس دينا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وأن العقائد الإسلامية خطر على المدينة ـ فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين.
﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ١٩٣ ﴾
وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا. فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة. وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتل فيها محرما في الجاهلية. وأخرج الواحدي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صد عن البيت ثم صالحه المشركون فرضي على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء. فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾.
ثم قال ﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ أي إذا نشب القتال فاقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم، ولا يصدنكم عنهم أنكم في الأرض الحرام إلا ما يستثنى في الآية بشرطه ﴿ وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ﴾ أي من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة فقد كان المشركون أخرجوا النبي وأصحابه المهاجرين منها بما كانوا يفتنون في دينهم، ثم صدوهم عن دخولها لأجل العبادة، فرضي النبي والمؤمنين على شرط أن يسمحوا لهم في العام القابل بدخولها لأجل النسك والإقامة فيها ثلاثة أيام كما تقدم، فلم يكن من المشركين إلا أن نقضوا العهد. أليس من رحمة الله تعالى بعباده أن يقوي هؤلاء المؤمنين ويأذن لهم بأن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الخائنين ؟ وهل يصح أن يقال فيهم إنهم أقاموا دينهم بالسيف والقوة، دون الإرشاد والدعوة ؟ كلا لا يقول هذا إلا غر جاهل، أو عدو متجاهل.
ثم زاد التعليل بيانا فقال ﴿ والفتنة أشد من القتل ﴾ أي أن فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب، والإخراج من الوطن، والمصادرة في المال، أشد قبحا من القتل، إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره. والفتنة في الأصل مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزغل منهما. ويسمى الحجر الذي يختبرهما به أيضا فتانة ( كجبانة ) ثم استعملت للفتنة في كل اختيار شاق، وأشده الفتنة في الدين وعن الدين، ومنه قوله تعالى :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون ؟ ﴾ ( العنكبوت : ٢ ) وغير ذلك من الآيات.
وما تقرر في هذه الآيات على هذا الوجه مطابق لقوله تعالى في سورة الحج ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ﴾ ( الحج : ٣٩ ) ﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ ( الحج : ٤٠ ) الآيات. وهي أول ما نزل من القرآن في شرع القتال معللا بسببه مقيدا بشروطه العادلة.
وفسر بعضهم الفتنة هنا وفي الآية الآتية بالشرك وجرى عليه الجلال، ورده الأستاذ الإمام بأنه يخرج الآيات عن سياقها، وذكره البيضاوي هنا بصيغة التضعيف [ قيل ] ورد قولهم أيضا : إن هذه الآية ناسخة لما قبلها. وذلك أنه كبر على هؤلاء أن يكون الإذن بالقتال مشروطا باعتداء المشركين، ولأجل أمن المؤمنين في الدين وأرادوا أن يجعلوه مطلوبا لذاته، وقال إن هذه الآيات نزلت مرة واحدة في نسق واحد وقصة واحدة فلا معنى لكون بعضها ناسخا للآخر، وأما ما يؤخذ من العمومات فيها بحكم أن القرآن شرع ثابت عام فذلك شيء آخر.
ثم استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه : المسجدَ الحرامَ فقال :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ﴾ أي أن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته فلا أمان له حينئذ. ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرا عظيما يتحرج منه أكد الإذن فيه بشرطه ولم يكتف بما فهم من الغاية فقال ﴿ فإن قاتلوكم فاقتلوهم ﴾ ولا تستسلموا لهم، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم ﴿ كذلك جزاء الكافرين ﴾ أي أن من سنة الله تعالى أن يجازي الكافرين مثل هذا الجزاء فيعذبهم في مقابلة تعرضهم للعذاب بتعدي حدوده فيكونوا هم الظالمين لأنفسهم. وقرأ الحمزة والكسائي : ولا تقتلوهم.. حتى يقتلوكم. فإن قتلوكم فاقتلوهم. من قتل الثلاثي ويُخَرَّج على أن قتل بعض الأمة كقتل جميعها لتكافلها. والمراد حتى لا يقتلوا أحدا منكم فإن قتلوا أحدا فاقتلوهم وهو أسلوب عربي بليغ.
كان المشركون يبدؤون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ولو لم يبدؤوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذاؤهم ومنع الدعوة ـ كل ذلك كافيا في اعتبارهم معتدين. فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق ولذلك كان تقديم الدعوة شرطا لجواز القتال. وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ ( البقرة : ٩٩ ) وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويتعدى على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الروح ولا لأجل الطمع في الكسب.
ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المنتصرة من يظفرون به من المسلمين. وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم فقد مزقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعواته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون. وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك٢.
وجملة القول في القتال إنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الإسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتها يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر.
وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلام ـ حتى من المنتمين إليه ـ من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين أنه ليس دينا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وأن العقائد الإسلامية خطر على المدينة ـ فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين.
﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ١٩٣ ﴾
وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا. فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة. وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتل فيها محرما في الجاهلية. وأخرج الواحدي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صد عن البيت ثم صالحه المشركون فرضي على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء. فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾.
ثم قال :
﴿ فإن انتهوا ﴾ عن القتال فكفوا عنهم، أو عن الكفر فإن الله يقبل منهم، ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ يمحو عن العبد ما سلف، إذا هو تاب عما اقترف، ويرحمه فيما بقي، إذا هو أحسن واتقى، ﴿ إن رحمة الله قريب من المحسنين ﴾ ( الأعراف : ٥٦ ).
كان المشركون يبدؤون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ولو لم يبدؤوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذاؤهم ومنع الدعوة ـ كل ذلك كافيا في اعتبارهم معتدين. فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق ولذلك كان تقديم الدعوة شرطا لجواز القتال. وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ ( البقرة : ٩٩ ) وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويتعدى على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الروح ولا لأجل الطمع في الكسب.
ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المنتصرة من يظفرون به من المسلمين. وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم فقد مزقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعواته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون. وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك٢.
وجملة القول في القتال إنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الإسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتها يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر.
وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلام ـ حتى من المنتمين إليه ـ من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين أنه ليس دينا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وأن العقائد الإسلامية خطر على المدينة ـ فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين.
﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ١٩٠ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ١٩١ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ١٩٢ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ١٩٣ ﴾
وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا. فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة. وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتل فيها محرما في الجاهلية. وأخرج الواحدي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صد عن البيت ثم صالحه المشركون فرضي على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء. فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام، فأنزل الله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾.
﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ عطف على ( قاتلوا ) في الآية الأولى فتلك بينت بداية القتال وهذه بينت غايته، وهي : ألا يوجد شيء من الفتنة في الدين، ولهذا قال الأستاذ الإمام : أي حتى لا تكون لهم قوة يفتنونكم بها ويؤذونكم لأجل الدين ويمنعونكم من إظهاره أو الدعوة إليه ﴿ ويكون الدين لله ﴾ وفي سورة الأنفال :﴿ ويكون الدين كله لله ﴾ ( الأنفال : ٢٩ ) أي يكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يفتن لصده عنه ولا يؤذى فيه، ولا يحتاج فيه إلى الدهان والمداراة، أو الاستخفاء أو المحاباة، وقد كانت مكة إلى هذا العهد قرار الشرك، والكعبة مستودع الأصنام، فالمشرك فيها حر في ضلالته، والمؤمن مغلوب على هدايته، قال ﴿ فإن انتهوا ﴾ أي في هذه المرة كما كانوا عليه ﴿ فلا عدوان إلا على الظالمين ﴾ أي فلا عدوان عليهم لأن العدوان إنما يكون على الظالمين تأديبا لهم ليرجعوا عن ظلمهم، ففي الكلام إيجاز بالحذف، واستغناء عن المحذوف بالتعليل الدال عليه. ويجوز أن يكون المعنى فإن انتهوا عما كانوا عليه من القتال والفتنة فلا عدوان بعد ذلك إلا على من كان منهم ظالما بارتكابه ما يوجب القصاص. أي فلا يحاربون عامة وإنما يؤخذ المجرم بجريمته.
ثم زاد تعليل الإذن بالقتال بيانا ببيانه على قاعدة عادلة معقولة فقال تعالى :﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ١٩٤ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ١٩٥ ﴾.
كان المشركون يبدؤون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ولو لم يبدؤوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذاؤهم ومنع الدعوة ـ كل ذلك كافيا في اعتبارهم معتدين. فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق ولذلك كان تقديم الدعوة شرطا لجواز القتال. وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ ( البقرة : ٩٩ ) وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويتعدى على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الروح ولا لأجل الطمع في الكسب.
ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المنتصرة من يظفرون به من المسلمين. وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم فقد مزقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعواته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون. وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك٢.
وجملة القول في القتال إنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الإسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتها يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر.
وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلام ـ حتى من المنتمين إليه ـ من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين أنه ليس دينا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وأن العقائد الإسلامية خطر على المدينة ـ فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين.
لما خرج المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم للنسك عام الحديبية صدهم المشركون وقاتلوهم رميا بالسهام والحجارة، وكان ذلك في ذي القعدة من الأشهر الحرام سنة ست، ولو قابلهم المسلمون عامئذ بالمثل ولم يرض النبي بالصلح لاحتدم القتال، ولما خرجوا في العام الآخر لعمرة القضاء، وكرهوا قتال المشركين وإن اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام، بين لهم أن المحظور في الأشهر الحرم إنما هو الاعتداء بالقتال دون المدافعة، وأن ما عليه المشركون من الإصرار على الفتنة وإيذاء المؤمنين لأنهم مؤمنون هو أشد قبحا من القتل لإزالة الضرر العام وهو منعهم الحق وتأييدهم الشرك.
ثم بين قاعدة عظيمة معقولة وهي أن الحرمات أي ما يجب احترامه والمحافظة عليه يجب أن يجري فيه القصاص والمساواة فقال ﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ﴾ ذكر هذه القاعدة حجة لوجوب مقاصد المشركين على انتهاك الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل، ليكون شهر بشهر جزاء وفاقا. وفي الجملة : والحرمات قصاص. من الإيجاز ما ترى حسنه وإبداعه. ثم صرح بالأمر بالاعتداء على المعتدي مع مراعاة المماثلة وإن كان يفهم مما قبله لمكان كراهيتهم للقتال في الحرم والشهر الحرام فقال تعريفا على القاعدة وتأييدا للحكم ﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ وإنما يحقق هذا فيما تتأتى فيه المماثلة. وسمى الجزاء اعتداء للمشاركة، وقد استدل الإمام الشافعي بالآية على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به بأن يذبح إذا ذبح، ويخنق إذا خنق، ويغرق إذا أغرق، وهكذا. وقال مثل ذلك في الغصب والإتلاف. والقصد أن يكون الجزاء على قدر الاعتداء بلا حيف ولا ظلم، وأزيد على هذا ما هو أولى بالمقام وهو المماثلة في قتال الأعداء كقتال المجرمين بلا ضعف ولا تقصير، فالمقاتل بالمدافع والقذائف النارية والغازية السامة يجب أن يقاتل بها، وإلا فاتت الحكمة لشرعية القتال وهي منع الظلم والعدوان، والفتنة والاضطهاد، وتقرير الحرية والأمان، والعدل والإحسان. وهذه الشروط والآداب لا توجد إلا في الإسلام، ولذلك قال تعالى بعد شرح القصاص والمماثلة ﴿ واتقوا الله ﴾ فلا تعتدوا على أحد ولا تبتغوا ولا تظلموا في القصاص بأن تزيدوا في الإيذاء. وأكد الأمر بالتقوى بما بين من مزيتها وفائدتها فقال ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ بالمعونة والتأييد، فإن المتقي هو صاحب الحق وبقاؤه هو الأصلح، والعاقبة له في كل ما ينازعه به الباطل، لأن من أصول التقوى اتقاء جميع أسباب الفشل والخذلان.
كان المشركون يبدؤون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ولو لم يبدؤوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذاؤهم ومنع الدعوة ـ كل ذلك كافيا في اعتبارهم معتدين. فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق ولذلك كان تقديم الدعوة شرطا لجواز القتال. وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ ( البقرة : ٩٩ ) وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويتعدى على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الروح ولا لأجل الطمع في الكسب.
ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المنتصرة من يظفرون به من المسلمين. وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم فقد مزقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعواته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون. وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك٢.
وجملة القول في القتال إنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الإسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتها يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر.
وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلام ـ حتى من المنتمين إليه ـ من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين أنه ليس دينا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وأن العقائد الإسلامية خطر على المدينة ـ فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين.
وفسر الجلال ﴿ سبيل الله ﴾ " بطاعته : الجهاد وغيره " ﴿ والتهلكة ﴾ " بالإمساك عن النفقة وترك الجهاد ". قال : لأنه يقوي العدو عليكم. قال الأستاذ الإمام : أصاب مفسرنا وأجاد في تفسير هذه الآية، وقال بعضهم في تفسير النهي عن التهلكة أي لا تقاتلوا إلا حيث يغلب على ظنكم النصر وعدم الهزيمة. وهذا لا معنى له إذ لا يلتئم مع ما سبقه، وقال بعضهم إنه نهي عن الإسراف ولا يلتئم مع الأسلوب قبله وبعده، وإنما الذي يلتئم ويناسب هو ما قاله الجلال وآخرون، فالمعنى : إذا لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال واستعداد فقد أهلكتكم أنفسكم.
وفي أسباب النزول عن أبي أيوب الأنصاري قال : نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يرد علينا ما قلنا ﴿ وأنفقوا ﴾ الآية فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو١ : رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم وغيرهم. وروي أنه قاله. لما خاطر رجل من المسلمين في القسطنطينية فدخل في صف الروم فقال الناس ألقى بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب أيها الناس إنكم تؤولون هذه الآية وذكره.
أقول وبيانه أن المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين وهم كثيرون فلو انصرفوا عن الاستعداد للجهاد إلى تثمير الأموال لاغتالوهم. وإصلاح الأموال واستثمارها في هذا الزمان هو أساس القوة، فقوى الدول على قدر ثروتها، فالأمة التي تقصر في توفير الثورة هي التي تلقي بأيديها إلى التهلكة، والتي تقصر في الإنفاق في سبيل الله للاستعداد لقتال من يعتدي عليها تكون أدنى إلى التهلكة ولا ثروة مع الظلم، ولا عدل مع الحكم المطلق الاستبدادي.
ثم قال تعالى ﴿ وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ﴾ الأمر بالإحسان على عمومه أي أحسنوا كل أعمالكم وأتقنوها فلا تهملوا إتقان شيء منها، ويدخل فيه التطوع بالإنفاق.
كان المشركون يبدؤون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ولو لم يبدؤوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذاؤهم ومنع الدعوة ـ كل ذلك كافيا في اعتبارهم معتدين. فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق ولذلك كان تقديم الدعوة شرطا لجواز القتال. وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾ ( البقرة : ٩٩ ) وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويتعدى على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الروح ولا لأجل الطمع في الكسب.
ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المنتصرة من يظفرون به من المسلمين. وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم فقد مزقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعواته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون. وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك٢.
وجملة القول في القتال إنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الإسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتها يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر.
وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلام ـ حتى من المنتمين إليه ـ من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين أنه ليس دينا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وأن العقائد الإسلامية خطر على المدينة ـ فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين.
.
اتصال هذه الآيات بما قبلها جلي لاسيما لمن قرأ ما تقدم من التفسير، فإن آيات القتال السابقة نزلت في بيان أحكام الأشهر الحرم والإحرام والمسجد الحرام، فكان الغرض الأول من السياق بيان أحكام الحج بعد بيان أحكام الصيام لأن شهوره بعد شهره الذي هو رمضان. ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم العمرة وصده المشركون أول مرة بالحديبية وأراد القضاء في العام القابل وخاف أصحابه غدر المشركين بهم واضطرارهم إلى قتالهم إذا هم نقضوا العهد وبدؤوا بالقتال أنزل الله تعالى أحكام القتال بعد ذكر الحج في الجواب عن حكمة اختلاف الأهلة ثم عاد إلى إتمام أحكام الحج فقال.
﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ فالعطف والتعبير بالإتمام ظاهران في أن السياق في الكلام عن الحج، ولذلك لم يقل هنا كتب عليكم كما قال في الصيام. وقد كان الحج معروفا في الجاهلية لأنه فرض على عهد إبراهيم وإسماعيل فأقره الإسلام في الجملة، ولكنه أزال ما أحدثوا فيه من الشرك والمنكرات، وزاد ما زاد فيه من المناسك والعبادات، فالآية ليست في فرضيته وفرضية العمرة بل هي في واقعة تتعلق بهما وبقاصديهما وقد كانوا توجهوا إلى ذلك قبل نزولها بعام كما تقدم، فدل ذلك على أن المشروعية سابقة لنزول هذه الآيات.
والمراد بإتمام الحج والعمرة الإتيان بهما تامين ظاهرا بأداء المناسك على وجهها، وباطنا بالإخلاص لله تعالى وحده دون قصد الكسب والتجارة أو الرياء والسمعة فيهما، ولا ينافي الإخلاص البيع والشراء في أثناء الحج إذا لم تكن التجارة هي المقصود في الأصل. وسيأتي التفصيل في حكم التجارة في الحج في تفسير ﴿ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ﴾ ( البقرة : ١٩٨ ).
وأما الرياء وحب السمعة فإذا كان هو الباعث على الحج فالحج ذنب للمرائي لا طاعة، وإذا عرض الرياء في أثنائه فقيل إنه لا يقبل منه شيء لما ورد من أن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه، والأحاديث في ذلك كثيرة، وإذا كان هذا قد بدأ بالنسك لوجه الله فإنه لم يتمه لله كما أمر، وقيل بل يؤاخذ بقدر قصده الطاعة والإخلاص وقدر قصده الرياء، وكل شيء عنده تعالى بمقدار :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يراه ﴾ ( الزلزلة : ٧ ) وتجد القول في هذه المسألة مفصلا في كتاب الرياء من الجزء الثالث من ( الإحياء ) فراجعه.
وقد نبه الأستاذ الإمام في الدرس لحال عامة الحجاج في هذا الزمان فقال إن أكثرهم لا يخطر في بالهم مناسك الحج وأركانه وواجباته ولا يقصدونها للجهل بها، وإنما يقصدون زيارة ( أبو إبراهيم ) يعني النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لا يعرف معنى سوى هذه الزيارة، وهؤلاء هم الهائمون المغرمون بالحج. ومن الناس من يحج ليقال له الحاج فلان أو ليحتفل بقدومه، وهذا من أخس ضروب الرياء، وكثير منهم يقترض بالربا ويحج فيريد أن يعبد الله بأنكر المنكرات.
وقد استدل بالآية القائلون بوجوب العمرة كالحج وهو المروي عن علي وابن عمر وابن عباس وجماعة من كبار التابعين وعليه الشافعي وأحمد. وقيل إنها سنة ويروى عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وعليه مالك والحنفية، وعن أبي حنيفة قول بالوجوب. وقد تقدم أن الآية ليست في وجوب الحج والعمرة فلا تصلح حجة على القائلين بالسنية، لأن الأمر بإتمام الحج والعمرة خطاب لمن شرع فيهما، وهو يصدق وإن كانت العمرة سنة.
ويدل على فرضية الحج قوله تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾ ( آل عمران : ٩٧ ) والأحاديث الصحيحة الصريحة. وأما الأحاديث في العمرة فمتعارضة. والصواب أن الأحاديث الناطقة بأن العمرة غير واجبة وبأنها تطوع ضعيفة، وأقواها حديث الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني عن العمرة أواجبة هي ؟ فقال ﴿ لا وأن تعتمر خير لك ﴾ ١ وهو عند أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وصححه الترمذي وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وقد ضعفه الأكثرون وبالغ ابن حزم فقال إن هذا الحديث مكذوب وباطل. والصواب ما قاله النووي من اتفاق الحفاظ على تضعيفه.
وأقوى أحاديث القائلين بوجوب العمرة حديث أبي رزين العقيلي قال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن فقال ﴿ حج عن أبيك واعتمر ﴾ ٢ رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي بلا نكير بل قال الإمام أحمد لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أوجب من هذا ولا أصح منه. فهو حجة عند القائلين بأن الأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف، وقد يقال إن هذا السائل لم يقصد السؤال عن مشروعية أصل الحج والعمرة فإنه كان يعلم حكمهما وإنما سأل هل يصح أن يأتي بهما عن أبيه الذي يقعده عنهما العجز. ولا ينافي هذا كون العمرة سنة متبعة لا فرضا لازما، ويؤيد هذا عدم ذكرها في الآية الناطقة بالوجوب ولا في حديث أركان الإسلام فهي تطوع النسك وإن لم يصح الحديث الذي فيه لفظ التطوع. وقال بعضهم إن العمرة سنة فمتى شرع فيها كان إتمامها واجبا. وما تقدم في معنى الإتمام هو المتبادر والجامع بين الأقوال المختلفة وما رواه ابن أبي حاتم عن صفوان ابن أمية في سبب نزولها إن صح لا ينافيه، وهو أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم متضمخا بالزعفران عليه جبة فقال كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي ؟ فأنزل الله الآية فقال ( أين السائل عن العمرة ؟ ) قال ها أنا ذا فقال له ( ألق عنك ثيابك ثم اغتسل واستنشق ما استطعت ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك ).
وأركان الحج خمسة :
١ الإحرام من المقيات وهو في الأصل الوقت المضروب للشيء والمراد به هنا المكان الذي عينه الشارع لإحرام أهل كل قطر، وسيأتي تفسير الإحرام.
٢ الوقوف بعرفة.
٣ و ٤ الطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة.
٥ الحلق أو التقصير.
فمن أدى هذه الأعمال فقد أدى الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام. وله أعمال أخرى واجبة من قصر في شيء منها كان عليه فدية.
وأركان العمرة هي ما عدا الوقوف من أركان الحج. وفريضة الحج مجمع عليها معلومة من الدين بالضرورة من أنكرها كان مرتدا والراجح أنه فرض سنة تسع من الهجرة وعليه الجمهور وهذه الآية نزلت سنة ست ولكن فيها أن الحج فرض على كل مستطيع من المؤمنين رجالا ونساء.
هذا ما كتبته عقب حضور درس التفسير على شيخنا وطبع في المنار سنة ١٣٢٢ ثم على حدة سنة ١٣٢٥.
وأقول الآن إن الحج مما أقره الإسلام من ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفا، وآية آل عمران في التصريح بفرضيته نزلت قبل هذه الآيات فيما يظهر لأن سورة آل عمران نزلت عقب غزوة أحد سنة أربع، ولكن المسلمين لم يكن يمكنهم الحج قبل فتح مكة فالطائف وكان فتحها في سنة ثمان وفي سنة تسع خرجوا للحج أول مرة بإمارة أبي بكر ( رض ) وكانت تمهيدا لحجة النبي ( ص ) سنة عشر إذ أذن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا فيها بأن لا يطوف بالبيت بعد هذا العام مشرك. ونزلت الآية :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربون المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ ( التوبة : ٢٨ ) ولهذا قال الجمهور إن الحج فرض سنة تسع والصواب أنه فرض قبلها ونفذ فيها.
أمر بالإتمام ثم ذكر حكم ما عساه يحول دونه فقال :﴿ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ﴾ الحصر والإحصار في اللغة الحبس والتضييق، يقال عن السفر وأحصره عنه إذا حبسه ومنعه، وقال بعض أئمة اللغة إن الإحصار هو المنع بسبب الناس والحصر بسبب المرض وقال بعضهم بالعكس، وقوله تعالى الآتي بعد ﴿ فإذا أمنتم ﴾ يرجح أن المراد بالإحصار منع العدو أي إن منعتهم من إتمام النسك فعليكم ما تيسر لكم وسهل حصوله وثمنه من الهدي وهو ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النعم ليذبح ويفرق على فقرائه، وذهب الجمهور إلى أن المراد بما استيسر الشاة وهي أدناه وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير : جمل أو بقرة، والمتبادر من الآية أن على كل أحد ما استيسر له من بدنة أو بقرة، أو شاة قال ابن عباس وما عظم فهو أفضل. والجمهور على أن يذبحه حيث أحصر ولو في الحل ويتحلل لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل على الأرجح. وقالت الحنفية يبعث به إلى الحرم ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل.
ثم قال :﴿ ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ﴾ الدخول في الحج أو العمرة يكون بالإحرام وهو نية النسك عند الابتداء به بالتلبية ولبس غير المخيط من إزار ورداء مع كشف الرأس للرجل ولبس النعلين العربيين والخروج منهما ويعبر عنه بالإحلال والتحلل يكون بحلق الرأس أو تقصير شعره، فالنهي عن الحلق هنا عبارة عن النهي عن الإحلال قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي يحل ذبحه فيه وهو في حال الإحصار حيث يحصر الحاج وإلا فالكعبة لقوله تعالى :﴿ هديا بالغ الكعبة ﴾ ( المائدة : ٩٥ ) وقوله :﴿ ثم محلها إلى البيت العتيق ﴾ ( الحج : ٣٣ ) واستدل الحنفية بهذا على عدم جواز نحر الهدي في محل الإحصار، وحجة الجمهور فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية وأن الأصل في الهدي أن يبلغ الكعبة لأنه مهدي إليها، وحال الإحصار حال ضرورة ولاسيما إحصار السنة التي أنزلت فيها الآية، فقد كانت الكعبة في أيدي المشركين، فلا يعقل أن يأمر الله تعالى بإرسال الهدي إليها فيكون غنيمة لهم، على أن إبلاغه محله في حال الإحصار يكون متعذرا أو متعسرا فكيف يتوقف الإحلال عليه ؟ ثم إن اكتفاءهم بذبحه في أدنى مكان من أرض الحرم لا ينطبق على الآيتين الناطقتين ببلوغه الكعبة والبيت العتيق، وقولهم إنه عليه السلام ذبح عام الحديبية في أول الحرم غير مسلم فجمهور أهل النقل على خلافه. ثم إنهم احتاجوا في تصحيح قولهم إلى تقدير العلم أي حتى تعلموا أن الهدي بلغ محله ولا حاجة إلى تقدير على رأي الجمهور.
واستدل الجمهور بالاقتصار على الهدي في مقام البيان على أن القضاء غير واجب على المحصر، وقالت الحنفية يجب قضاء العمرة لأن النبي قضاها بأصحابه وسميت عمرة القضاء، وقال الشافعي سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش لا على أنه واجب عليهم قضاء تلك العمرة، والهدي جمع هدية كجدي وجدية والمحل بكسر الحاء اسم مكان من حل يحل حلا أي صار حلالا، ضد حرم يحرم إذا صار حراما.
ثم ذكر حكم من يؤذيه عدم الحلق فقال :﴿ فمن كان منكم مريضا ﴾ مرضا ينفعه فيه الحلق ويضره عدمه ﴿ أو به أذى من رأسه ﴾ كقمل أو جرح ﴿ ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ﴾ أي فعليه إن حلق فدية من هذه الأجناس الثلاثة على التخيير. أخرج البخاري من حديث كعب بن عجرة قال وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملا فقال :( يؤذيك هوامك ؟ ) قلت نعم. قال :( فاحلق رأسك ) قال فنزلت هذه الآية وذكرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك بما تيسر ) ٣ قال البخاري وعنه رضي ا
٢ أخرجه أبو داود في المناسك باب ٢٥، والترمذي في الحج باب ٨٧، والنسائي في المناسك باب ٢، ١٠، وابن ماجه في المناسك بابا ١٠، وأحمد في المسند ٤/١٠، ١١، ١٢..
٣ أخرجه البخاري في المحصر باب ٦، ومسلم في الحج حديث ٨٢..
قوله تعالى :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ معناه أن الوقت الذي يؤدى فيه الحج أشهر يعلمها الناس وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة أي أنه يؤدى في هذه الأشهر ولا يلزم أن يكون من أول يوم منها إلى آخر يوم بل معناه أنه يصح الإحرام به من غرة أولها وتنتهي أركانه وواجباته في أثناء آخرها، فالوقوف في التاسع من ذي الحجة وبقية المناسك في أيام العيد وهي يوم النحر الذي فسر به قوله تعالى :﴿ يوم الحج الأكبر ﴾ ( التوبة : ٣ ) وأيام التشريق وجوز بعض السلف تأخير طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة. وقد اختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم إنها الأشهر الثلاثة من أولها إلى آخرها ويروى عن ابن مسعود وابن عمر وعليه مالك، وقال بعضهم إنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، ويروى عن ابن عباس وعليه أبو حنيفة والشافعي وأحمد، ولا حجة في الآية لأحد على تحديده، والمتبادر منها ما ذكرناه. وقوله تعالى :﴿ معلومات ﴾ إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من أشهر الحج لأنه منقول بالتواتر العملي من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ( ص ) وهو يتضمن بطلان النسيء فيها لأنه جاهلي معروف.
وقد استدل بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج في غير هذه الأشهر لأنه شروع في العبادة في غير وقتها كمن يصلي قبل دخول الوقت، ويروى عن بعض علماء التابعين وعليه الشافعي والأوزاعي وأبو ثور من أئمة الفقه، وقال أبو حنيفة وأحمد إنه جائز مع الكراهة ومالك بلا كراهة.
وقد بحث بعض العلماء في لفظ الأشهر وكونها جمع قلة وهل ورد في بيانها نص أو إجماع ؟ وأقول : إنه بحث لا وجه له فالمراد قوله تعالى :﴿ معلومات ﴾ أنها هي أشهر الحج المعروفة للعرب قبل الإسلام، ولا خلاف في أنها الثلاثة التي ذكرناها ولذلك لم يؤثر عن الصحابة فيها إلا ما قيل في الثالث منها هل تكون أيامه كلها أيام حج أن تنتهي أركان الحج في العاشر منه ؟ والآية ظاهرة في أن الحج لا يكون إلا في هذه الأشهر، ولعل هذا هو سر جعلها خبرا عنه، ولما كان أعظم أركانه وهو الوقوف بعرفة يكون في التاسع من الثالث على أن الحج لا يتكرر فيها فمن أحرم بالحج بعد هذا اليوم فلا حج له. قال تعالى :
﴿ فمن فرض فيهن الحج ﴾ أي أوجبه وألزمه نفسه بالشروع فيه وقد مر بيان كيفيته ﴿ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ﴾ تقدم تفسير الرفث في آيات الصيام وأنه كناية عن الجماع. والفسوق الخروج عن حدود الشرع بأي فعل محظور وقيل إن المراد به الذبح للأصنام خاصة، وخصه بعضهم بالسباب، والتنابز بالألقاب. والجدال قيل هو بمعنى الجلاد من الجدل بمعنى القتل. وقيل هو المراء بالقول، وهو يكثر عادة بين الرفقة والخدم في السفر لأن مشقته تضيق الأخلاق. هذا هو المشهور.
وأقول : إنه يجوز حملها على جميع معانيها الحقيقية وغيرها على قول الشافعي وابن جرير المختار عندنا ويكون النفي المراد به النهي في بعضها للتحريم كالرفث بمعنى الجماع لا يفسد النسك، وفي بعضها الآخر للكراهية الشديدة كالرفث بمعنى الكلام الصريح في أمور الوقاع كما تقدم بيانه في تفسير آيات الصيام الخ.
وقال الأستاذ الإمام : إن تفسير الكلمات الثلاث ينبغي أن يكون متناسبا وبحسب حال القوم في زمن التشريع، فأما الرفث فهو كما قيل الجماع، وأما الفسوق فهو الخروج عما يجب على المحرم إلى الأشياء التي كانت مباحة في الحل كالصيد والطيب والزينة باللباس المخيط، والجدال هو ما كان يجري بين القبائل من التنازع والتفاخر في الموسم، فبهذا يكون التناسب بين الكلمات وإلا حملت كلها على مدلولها اللغوي فجعل الرفث قول الفحش، والفسوق التنابز بالألقاب على حد ﴿ ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق ﴾ ( الحجرات : ١١ ) والجدال المراء والخصام، فتكون هذه المناهي كلها آدابا لسانية.
والنكتة في منع هذه الأشياء [ على أنها آداب لسانية ] تعظيم شأن الحرم وتغليظ أمر الإثم فيه، إذ الأعمال تختلف باختلاف الزمان والمكان، فللملأ آداب غير آداب الخلوة مع أهل، ويقال في مجلس الإخوان، ما لا يقال في مجلس السلطان، ويجب أن يكون المرء في أوقات العبادة والخضوع مع الله تعالى على أكمل الآداب وأفضل الأحوال، وناهيك الحضور في البيت الذي نسبه الله سبحانه إليه، وقد بينا معنى هذه النسبة في تفسير ﴿ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ﴾ ( البقرة : ١٢٥ ) الآيات.
وأما السر فيها [ على أنها من محرمات الإحرام ] فهو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على بيت الله تعالى قاصد له، فيتجرد عن عاداته ونعمه، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره، بحيث يساوي الغني الفقير، ويماثل الصعلوك الأمير، فتكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات، وفي ذلك من تصفية النفس وتهذيبها وإشعارها من حقيقية العبودية لله والأخوة للناس ما لا يقدر قدره، وإن كان لا يخفى أمره، وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين ( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) ١ وذلك أن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها ويدخلها في حياة جديدة، لها فيها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
وأقول : إن من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار بذكر الحج ثلاث مرات المراد بأولها زمان الحج كقولهم البرد شهران، وبالثاني الحج نفسه المسمى بالنسك، وبالثالث ما يعم زمان أدائه ومكانه وهو أرض الحرم وما يتبعها كعرفات، كما تعم الظرفية في قوله تعالى :﴿ ومن يرد فيه بإلحاد يظلم نذقه من عذاب أليم ﴾ ( الحج : ٢٥ ) جميع أرض الحرم وإن كان الضمير فيه راجعا إلى المسجد الحرام، فقد كان عبد الله بن عمر يضرب خيامه خارج حدود الحرم فيطوف كل يوم في المسجد ويصلي ثم يجيء خيامه فيبيت فيها، وعلل ذلك بأنه يخاف أن يهين أحدا خدمه فيكون ملحدا في المسجد الحرام، فجميع أمكنة الحرم من شعائر الله ومشاعره وحرماته التي يجب احترامها، وأهمه اجتناب الرفث والفسوق والجدال بالباطل فيها. إلا أن الرفث بين الزوجين حلل بالتحلل من النسك لأنه في نفسه ليس قبيحا. ولو قال : فمن فرضه فيهن فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه، لم يؤد هذه المعاني كلها.
ومن القراءات فيها قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب رفث وفسوق بالرفع وجدال بالفتح والباقون بالفتح. وهو أبلغ لأنه نفي لجنس هذه الأشياء يشمل جميع أفرادها بالنص ويتضمن معنى النهي عنها بطريق الأولوية.
ثم قال تعالى بعد النهي عن هذه المحظورات :﴿ وما تفعلوا من خير يعلمه الله ﴾ وفيه التفات إلى الخطاب ويشعر العطف بمحذوف تقديره أن اتركوا هذه الأمور الممنوعة في الحج لتخلية نفوسكم وتصفيتها، وحلوها بعد ذلك بفعل الخير لتتم لكم تزكيتها، فإن النفوس بعد ذلك تكون أشد استعدادا للاتصاف بالخير، والله لا يضيع عليكم أقل شيء منه، لأنه عالم به وبأنكم وافقتم فيه سننه وشريعته
﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ﴾ قالوا إن هذا نزل في ردع أهل اليمن عن ترك التزود زعما أنه من مقتضى التوكل على الله فقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس أنه قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن متوكلون، ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت٢ فالمراد بالتقوى على هذا اتقاء السؤال وبذل ماء الوجه.
قال الأستاذ الإمام : وهو غير ظاهر من العبارة، بل المتبادر منها أن الزاد هو زاد الأعمال الصالحة وما تدخر من الخير والبر كما يرشد إليه التعليل في قوله :﴿ فإن خير الزاد التقوى ﴾ والمعنى من التقوى معروف وهو ما به يتقى سخط الله، وليس ذلك إلا البر والتنزه عن المنكر، ولا يعلل بأن التقوى خير زاد إلا وهو يريد التزود منها، أما المعنى الذي ذكروه فلا يصلح مرادا من الآية لأنه لولا ما أردوا من السبب لم يخطر ببال سامع اللفظ، والسبب ليس مذكورا في الآية ولا مشارا إليه فيها فلا يصلح قرينة تكون مفهومة بنفسها لأن السبب ليس من القرآن ولذلك أتمها بقوله ﴿ واتقون يا أولي الألباب ﴾ يعني ما كان له لب وعقل فليتقني فإنه يكون على نور من فائدة التقوى وأهلا للانتفاع بها [ أقول ] ويدخل في فعل الخير والطاعة الأخذ بالأسباب كالتزود، وتحامي وسائل الحاجة إلى السؤال المذموم والله أعلم.
٢ أخرجه البخاري في الحج باب ٦، وأبو داود في المناسك باب ٤..
قوله عز وجل :﴿ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ﴾ متصل بما قبله موقع الاستدراك والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من الأمر بالتزود من التقوى وعمل البر والخير وهو خير الزاد، ثم من مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى تعريضا بأن غير المتقي لا لب له ولا عقل، وهو أن أيام الحج لا يباح فيها غير أعمال البر والخير، فيحرم فيها ما كانت عليه العرب في الجاهلية من التجارة والكسب في الموسم، كما يحرم الرفث والفسوق والجدال الذي هو من لوازم التجارة غالبا، والترفه بزينة اللباس المخيط والحلق والإفضاء إلى النساء، فأزال هذا الوهم من الفهم وعلمنا أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور لأنه لا ينافي الإخلاص له في هذه العبادة، وإنما الذي ينافي الإخلاص هو أن يكون القصد إلى التجارة، بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر لأجل الحج. هذا ما عليه الجماهير.
وحمل أبو مسلم ذلك على ما بعد الحج ومنع الكسب في أيامه، ويرد عليه نزول الآية في سياق أحكام الحج، ونفي الجناح الذي لا معنى له في غير الحج. وما ورد في أسباب نزولها، أخرج البخاري عن ابن عباس قال كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت١، وقرأ ابن عباس الآية بزيادة : في موسم الحج، وأعتقد أنه قاله تفسيرا.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر : إنا نكري أي الرواحل للحجاج فهل لنا من حج ؟ فقال ابن عمر جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية وذكرها فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( أنتم حجاج ) وفي رواية أن ابن عمر قال لهم ألستم تلبون ؟ ألستم تطوفون بين الصفا والمروة ؟ ألستم ألستم ؟ ثم ذكر ما تقدم.
وقال الأستاذ الإمام : كان بعض المشركين وبعض المسلمين في أول الإسلام يتأثمون في أيام الحج من كل عمل حتى كانوا يقفلون حوانيتهم، فعلمهم الله تعالى أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص، وقال إن قوله تعالى :﴿ من ربكم ﴾ يشعر بأن ابتغاء الرزق مع ملاحظة أنه فضل من الله تعالى نوع من أنواع العبادة، ويروى أن سيدنا عمر قال في هذا المقام لسائل : وهل كنا نعيش إلا بالتجارة ؟
أقول لكن قال بعض العلماء إن نفي الجناح يقتضي أن هذه الإباحة رخصة وأن الأولى تركها في أيام الحج. وهذا لا ينافي ما قاله إذا أريد بأيام الحج الأيام التي تؤدي فيها المناسك بالفعل لا كل أيام شوال وذي القعدة وذي الحجة أو عشره الأول، وذلك أن لكل وقت عبادة لا تزاحمها فيها عبادة أخرى كالتلبية للحجاج والتكبير في أيام العيد والتشريق، والتلبية عند الإحرام في الصلاة، وهو ذكر الحج الخاص الذي يكرر في أثنائه إلى انتهاء الوقوف بعرفة أو إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يستحب التكبير، وللعلماء خلاف في التحديد.
والمراد من الآية أن الكسب مباح في أيام الحج إذا لم يكن هو المقصود بالذات وأنه من حسن النية وملاحظة أنه فضل من الرب تعالى يكون فيه نوع عبادة، وأن التفرغ للمناسك في أيام أدائها أفضل، والتنزه عن جميع حظوظ الدنيا في تلك البقاع الطاهرة أكمل.
ثم قال تعالى :
﴿ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ﴾ الإفاضة من المكان الدفع منه، مستعار من إفاضة الماء. وأصله أفضتم أنفسكم، ويقال أيضا أفاض في الكلام إذا انطلق فيه كما يفيض الماء ويتدفق، وعرفات معروفة وهي موقف الحاج في النسك يجتمع فيها كل عام ألوف كثيرة من الناس، وقد جاء هذا الاسم بصيغة الجمع وقيل إنه جمع وضع لمفرد كأذرعات وهو مرتجل، وذكروا وجوها للتسمية أحسنها أنه يتعرف فيه الناس إلى ربهم بالعبادة، أو أنه يشعر بتعارف الناس فيه، وعرفة اسم لليوم الذي يقف فيه الحجاج بعرفات، وهو تاسع ذي الحجة وأطلق أيضا على المكان في كلامهم ولعرفات أربعة حدود حد إلى جادة طريق لمشرق، والثاني إلى حافات الجبل الذي وراء أرضها، والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبل الكعبة، والرابع وداي عرنة ( بضم ففتح ) وليست عرنة ولا نمرة ( بفتح فكسر ) من عرفات.
والوقوف بعرفات أعظم أركان الحج وكلها موقف. والمشعر الحرام جبل المزدلفة يقف عليه الإمام ويسمى قزح ( بضم ففتح ) وسمي مشعرا لأنه معلم للعبادة، ووصف بالحرام لحرمته وقيل هو المزدلفة كلها من مأزمي عرفات إلى وادي محسر ( بكسر السين المهملة المشددة ) وليس هو من مزدلفة ولا من منى بل هو مسيل ماء بينهما في الأصل، وقد استوت أرضها الآن أو هو من منى.
والمعنى أنه يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام فيها بالدعاء والتكبير والتهليل والتلبية، وقيل بصلاة العشاءين جميعا، وليس هو المتبادر بل قالوه لينطبق على قولهم الأمر للوجوب مع قولهم إن الذكر هناك غير واجب. ( وأقول ) : الظاهر أنه واجب للآية وفعل النبي صلى الله عليه وسلم في بيان المناسك مع قوله :( خذوا عني مناسككم ) ٢ أو ( لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لا أحج بعد حجتي هذه ) ٣ هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث جابر ( رض ) وهو كقوله ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ٤ فكل ما التزمه صلى الله عليه وسلم في صلاته فهو واجب مبين لما أجمل في كتاب الله وأما المسنون من أعماله فما لم يلتزمه وما صحت فيه الرخصة عنه كقوله ( وقفت هنا وعرفة كلها موقف ومنى كلها منحر ) ٥ وفي حديثه عنده أيضا ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى مطلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء " أي ناقته المجدوعة وهذا اسمها وهو بالفتح والقصر ويمد " حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس ) ٦ الحديث وهو دليل على أن المشعر الحرام هو قزح وأن الذكر غير صلاة العشاءين جمعا. والبيت بمزدلفة " وتسمى جمعا " من جملة المناسك.
قال الأستاذ الإمام : أمر بالذكر عند المشعر الحرام للاهتمام به لأنهم ربما تركوه بعد المبيت ولم يذكر المبيت لأنه كان معروفا لا يخشى التهاون فيه والقرآن لم يبين كل المناسك بل المهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم الباقي بالعمل.
ثم قال ﴿ واذكروه كما هداكم ﴾ أي اذكروا ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إذ نجاكم من الشرك واتخاذ الوسطاء كما كنتم في الجاهلية تذكرونه مع ملاحظة غيره بينكم وبينه لا يفرغ قلبكم له. وكانوا يقولون في التلبية : لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فالكاف للتشبيه لا للتعليل كما قال ﴿ وإن كنتم من قبله لمن الضالين ﴾ أي وإنكم كنتم من قبله من زمرة الضالين عن الحق في عقائدكم وأعمالكم الراسخين في الضلال. قال الأستاذ الإمام أي من قبل الله الذي آمنتم به إيمانا صحيحا بهداية الإسلام دون الخيال الذي كنتم تدعونه إلها، وتجعلون له وسطاء شركاء يقربون إليه ويشفعون عنه فإن ذلك الخيال لا حقيقة له، وبهذا التقرير يستغنى عن تقدير المضاف ولا بأس بجعل ضمير ﴿ قبله ﴾ للهدي كما قال الجلال وغيره لسبق فعله، ويمكن أن يراد به القرآن كما قال بعضهم اكتاف بدلالة المقام كقوله تعالى :﴿ إنا أنزلناه ﴾ ( يوسف : ٢ ).
٢ أخرجه النسائي في المناسك باب ٢٢٠، واحمد المسند ٣/٣١٨، ٣٦٦..
٣ أخرجه مسلم في الحج حديث ٣١٠، وأبو داود في المناسك باب ٧٧، وأحمد في المسند ٣/٣٣٧، ٣٧٨..
٤ أخرجه البخاري في الأذان باب ١٨، والآداب باب ٢٧، والآحاد باب ١، الدارمي في الصلاة باب ٤٢، وأحمد في المسند ٥/٥٣..
٥ أخرجه مسلم في الحج حديث ١٤٩، وأبو داود في المناسك باب ٥٦، ٦٤، والترمذي في الحج باب ٥٤، والنسائي باب ٥٠، ومالك في الحج حديث ١٦٦، ١٦٧، وأحمد في المسند ١/٧٢، ٧٥، ٧٦، ٨١، ١٥٧، ٣/٣٢١، ٣٢٦، ٤/٨٢..
٦ أخرجه مسلم في الحج حديث ١٤٧، وابن ماجه في المناسك باب ٨٤، والدرامي في المناسك باب ٣٤..
والمتبادر أن المراد بالإضافة هنا الدفع من مزدلفة لأنه ذكر الدفع من عرفات في خطاب المؤمنين كافة، وهو لا يكون إلا بعد الوقوف فعلم أنهم سواء في الوقوف بعرفات وفي الإفاضة منها إلى مزدلفة، وبعد أن أمرهم بما يتوقع أن يغفلوا عنه فيها عند المشعر الحرام منها ذكر الإفاضة منها. وقوله ( ثم ) يفيد أن الإفاضة من مزدلفة يجب أن تكون مرتبة على الإفاضة من عرفات ومتأخرة عنها ففيه تأكيد إبطال تلك العادة وقوله ﴿ من حيث أفاض الناس ﴾ يشعر بأنه لا معنى للامتياز في الموقف ترفعا عن الناس إذ كانوا بعد ذلك يتساوون في الإفاضة، فإن غير قريش من العرب كانوا يفيضون من المزدلفة أيضا فالآية تتضمن ما كانت عليه قريش مع كون المراد بالإفاضة فيها من مزدلفة، ولعل هذا هو المراد من الأثر وأنه روي بالمعنى، والظاهر أن المراد بالناس الجنس وقيل إبراهيم وإسماعيل ومن كان على دينهما.
وقوله ﴿ واستغفروا الله ﴾ يراد به استغفار مما أحدثوا بعد إبراهيم من تغيير المناسك وإدخال الشرك وإعماله فيها، وإلا فهو استغفار من الضلال الذي ذكرهم به في الآية قبلها، ومن عامة الذنوب في الحج وغيره، وهذا هو الذي يوجه إلى من بعد أولئك الذين أسلموا في الصدر الأول بعد أن كانوا مشركين ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أي واسع المغفرة والرحمة لمن استغفره تائبا منيبا.
روى أحمد من حديث أبي نظرة قال حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أوساط أيام التشريق فقال ( يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى. أبلغت ؟ ) قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ أو أشد ذكرا ﴾ معناه ظاهر وهو بل اذكروه أشد من ذكركم آباءكم وفيه من الإيجاز ما ترى حسنه. قال الأستاذ الإمام : وقد تعسف في إعرابه الذين حكموا النحو الذي وضعوه في القرآن، ويعجبني قول بعض الأئمة وأظن أنه أبو بكر بن العربي : من العجيب أن النحويين إذا ظفر أحدهم ببيت شعر لأحد أجلاف الأعراب يطير فرحا به ويجعله قاعدة، ثم يشكل عليه إعراب آية من القرآن فلا يتخذها قاعدة، بل يتكلف في إرجاعها إلى كلام أولئك الأجلاف وتصحيحها به كأن كلامهم هو الأصل الثابت. ويعجبني أيضا ما قاله أبو البقاء وهو أن للقرآن إيجازا واختصارا في بعض المواضع المفهومة من المقام، وهو أن المعنى هنا أو كونوا أشد ذكرا، ومثل هذا شائع في اللغة. وقال الأستاذ هنا كلمته التي يكررها في مثل هذا المقام وهي أنه كان يجب أن يكون القرآن مبدأ إصلاح في اللغة العربية، وقد ذكرناها من قبل.
ثم بين تعالى أن الذين يذكرونه فيدعونه على قسمين ﴿ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ﴾ الخلاق النصيب والحظ. ذكر تعالى أن هذا الفريق يطلب حظ الدنيا مطلقا ولم يقل إنه يطلب حسنة فيها، لأن من كانت الدنيا كل همه لا يبالي أكانت شهواته وحظوظه حسنة أم سيئة، فهو يطلب الدنيا من كل باب، ويسلك إليها كل طريق، لا يميز بين نافع لغيره ولا ضار، فباستيلاء حب الدنيا عليه لم يكن للآخرة وما أعده الله فيها للمتقين من الرضوان موضع من نفسه يرجوه ويدعوا الله فيه، كما أنه لا يخالف ما توعد الله به المجرمين فيها فيلجأ إليه تعالى بأن يقيه شره. فحرمان هذا الفريق من خلاق الآخرة الباقية، لأنه يعمل للأولى كل ما يستطيع من أسباب الحلال والحرام، حتى أنه لا يسأل ربه إلا المزيد من حظوظها وشهواتها، وقد ينالها كثير من الناس بدون هم كبير في العمل لها، ولا يعمل للآخرة وقد اشترط لسعادتها خير العمل، فقال تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مححورا* ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ﴾ ( الإسراء : ١٩ ) الآيات. ويا لله ما أبلغ حذف مفعول ﴿ آتنا ﴾ في هذا المقام فهو من دقائق الإيجاز التي تحار فيها الأفهام، وتعجز عنها قرائح الأنام، فإنه بدلالته على العموم يشمل كل ما يعنى به أفراد هؤلاء الناس المتفاوتي الهمم المختلفي الأهواء، من الحظوظ والشهوات، حسنها وقبيحها، وخيرها وشرها، كبيرها وخسيسها، وما لا يليق ذكره منها.
وقد اختلف المفسرون في تعيين هذا الفريق فقيل هم الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة واستدلوا بما روي عن ابن عباس وأنس من دعاء المشركين في ذلك المقام بحظوظ الدنيا، وقيل هم المسلمون الذين لم تمس أسرار الدين وحكمه قلوبهم، ولم تشرق أنوار هدايته على أورواحهم، بل اكتفوا بالتقليد في رسومه الظاهرة، فكان همهم في الدنيا دون الآخرة، وذكروا هنا ما روي في المرفوع من أن الله تعالى يؤيد هذا الدين بمن لا خلاق لهم. واستدلوا على صحة رأيهم بالسياق ولا شك أن هذا القسم موجود في المسلمين كما وجد في كل أمة، ومن بلا الناس وفلاهم عرف ذلك.
.
وعلى هذا يتخرج تفسير الحسن لقوله تعالى :﴿ وقنا عذاب النار ﴾ بقوله أي احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إليها فطلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها المجربة في الكسب والنظام في المعيشة، وحسن معاشرة الناس بآداب الشريعة والعرف، وقصد الخير في الأعمال كلها، وتوقي الشرور كلها، وطلب الوقاية من النار يكون بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة، مع القيام بالفرائض المحتمة هذا هو الطلب بلسان القلب والعمل، واما الطلب بلسان المقال فهو يصدق بما يذكر القلب بأن هذه الأسباب من الله، فالسعي لها مع الإيمان هو عين الطلب من فيضه وإحسانه، مضت سنته بأن يعطي بها فضلا منه ورحمة، لا بخوارق العادات التي لا يعلم محلها وحكمتها غيره، وأنه لا يرجع إلى سواه في الهداية إلى ما خفي، والمعونة على ما عسر.
ولم يذكر في التقسيم من لا يطلب إلا حسنة الآخرة، لأن التقسيم لبيان ما عليه الناس في الواقع ونفس الأمر بحسب داعي الجلبة وتأثير التربية وهدي الدين، ولا يكاد يوجد في البشر من لا تتوجه نفسه إلى حسن الحال في الدنيا مهما يكن غاليا في العمل للآخرة، لأن الإحساس بالجوع والبرد والتعب يحمله كرها على التماس تخفيف ألم ذلك الإحساس، والشرع يكلفه ذلك بما يقدر عليه من أسبابه، وقد جعل عليه حقوقا لبدنه ولأهله وولده ولرحمه ولزائريه وإخوانه وأمته لا تصح عبوديته إلا بدعاء الله تعالى فيها.
وفي الآية إشعار بأن هذا الغلو مذموم خارج من سنن الفطرة وصراط الدين معا، وما نهى الله أهل الكتاب عن الغلو في الدين وذمهم على التشدد فيه إلا عبرة لنا، وقد نهانا عنه نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أنس عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له ( هل كنت تدعو الله بشيء ؟ ) قال نعم كنت أقول ؛ اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ودعا له فشفاه الله تعالى١.
وأبعد من هذا في الغلو أن بعض الصوفية سمع قارئا يتلو قوله تعالى :﴿ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ﴾ ( آل عمران : ١٥٣ ) فصاح أواه فأين من يريد الله ؟ وهو قول حسن الظاهر قبيح الباطن، فالآية خطاب لخيار الصحابة وهو وشيخه من الصوفية لم يبلغوا مد أحدهم ولا نصيفه، فإرادة الدنيا والآخرة، بالحق إرادة لمرضاة الله وعمل بسنته وشرعه والمراد بالدنيا فيها الغنيمة في الحرب، وبالآخرة الشهادة في سبيل الله، فهل يظن بجهله أن من شهد في القتال على الغنيمة أنهم لا يريدون الله ؟ وقد ورد في الصحيح أن الآية كانت أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فهل يدعي ذلك الصوفي وأمثاله من الغلاة أنهم أشد حبا منه لله وطلبا له عز وجل ؟
( أقول ) : كلا إنما هي فلسفة خيالية من خيالات وحدة الوجود البرهمية الهندية، قد شغل بها أفراد عن فطرة الله وشرعه معا فجعلوها أعلى مراتب العبودية، وتأولوا لها بعض آيات الكتاب العزيز كقوله تعالى :﴿ يردون وجهه ﴾ ( الأنعام : ٥٢ ) وما إرادة وجهه تعالى إلا الإخلاص له في كل عمل مشروع من مصالح الدين والدنيا وتحري هداية دينه فيه، لا ما تخيلوه من أن إرادة وجهه تعالى هو الوصول إلى ذاته بعد التجرد من كل نعمة في الدنيا والآخرة جميعا، فإن الاتصال بتلك الذات العلية القدسية التي لا تدركها العقول ولا تدنو من كنهها الأفكار ولا الأوهام، مما لم يتعلق به تكليف، ولم يرد به شرع، بل إدارك كنه الذوات هي معرفة كل شيء به ومعرفته في كل شيء وبكل شيء، ودعاؤه بكل اسم من أسمائه بما يناسب تعلقه بشؤون عباده، وبهذا فضل جمهور أهل السنة خيار البشر على الملائكة الذين يعبد كل منهم ربه عبادة خاصة، والمؤمن الكامل من يعرف حق ربه على عباده وما شرعه من حقوق بعضهم على بعض، والقيام في كل ذلك بذكره وشكره وحبه والتوكل عليه والإخلاص له، وأعلى مراتب معرفته في الآخرة هو مقام الرؤية بتجليه الأعلى في جنات عدن، والاشتغال بذكر الجزاء عن العمل الموصل إليه جهل لا علم ولا معرفة.
﴿ والله سريع الحساب ﴾ يوفي كل كاسب أجره عقب عمله بحسبه لأن سنته مضت بأن تكون الرغائب آثار الأعمال، فهو يوفي كل عامل عمله بلا إبطاء، وكما يكون الجزاء سريعا في الدنيا كذلك يكون في الآخرة، فإن أثر الأعمال الصالحة يظهر للمرء عقب الموت وهو أول قدم يضعها في باب عالم الآخرة. وهذا أحسن بيان لما قالوه في تفسير ﴿ سريع الحساب ﴾ من أنه إجابة الدعاء. والأكثرون على أن المراد حساب الآخرة، واختلفوا في كيفية ذلك على أقوال أقربها إلى التصور أن سرعة الحساب عبارة عن اطلاع كل عامل على علمه أو إعلامه بما له مما كسب، وما عليه مما اكتسب، وذلك يتم في لحظة، وقد ورد أن الله تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وورد في قدر فواق الناقة، وورد بمقدار لمحة البصر.
( أقول ) هذا ما كنت كتبته في تفسير الآية بالمعنى الذي قرره شيخنا ( رح ) من كون النصيب فيها شاملا لجزاء هذا الفريق في الدنيا والآخرة معا وطبع في حياته، ثم فكرت في التعبير عنه بمن التبعيضية ( مما كسبوا ) والحال أن جزاء الآخرة يضاعف، وأن الدنيا هي التي لا ينال الناس فيها كل ما يطلبون بكسبهم ولا دعائهم وفاقا لاستشهادي عليه آنفا بآيات سورة الإسراء ﴿ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴾ ( الإسراء : ١٨ ) فرجح عندي أن المراد هنا بالنصيب من الكسب ما يكون في الدنيا وأشار إلى جزاء الآخرة بسرعة الحساب الذي يكون الجزاء في أثره وهو ما حكيته عن الجمهور.
وإنما أمر سبحانه بالذكر في هذه الأيام ولم يأمر برمي الجمار لأنه من الأعمال التي كانوا يعرفونها ويعملون بها وقد أقرهم عليها وذكر المهم الذي هو روح الدين وهو ذكر الله تعالى عند كل عمل من تلك الأعمال، وتلك سنة القرآن يذكر إقامة الصلاة والخشوع فيها وذكر الله تعالى ودعاءه وتأثير ذلك في إصلاح النفوس، ولا يذكر صفة القيام والركوع والسجود، وكون الركوع يفعل مرة في كل ركعة، والسجود يفعل مرتين، وإنما يتكرر ذلك لبيان النبي صلى الله عليه وسلم له بالعمل. وبينت السنة أيضا أن ذكر الله تعالى في هذه الأيام هو التكبير أدبار الصوات وعند ذبح القرابين وعند رمي الجمار وغير ذلك من الأعمال، فقد روى الجماعة عن الفضل بن العباس قال كنت رديف رسول الله ( ص ) من جمع ( مزدلفة ) إلى منى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة٢، وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر أنه ( ص ) كان يرمي الجمرة يكبر مع كل حصاة٣. وورد في التكبير في أيام التشريق أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر في الصحيح أنه ( ص ) كان يكبر بمنى تلك الأيام وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا٤.
وأما الذكر في يوم عرفة ويوم النحر فهو التكبير لغير الحاج وله أعم، ففي حديث أحمد والشيخين أن محمد بن أبي بكر بن عوف قال سألت أنسا ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية كيف كنتم تصنعون مع النبي ( ص ) ؟ قال كان يلبي الملبي فلا ينكر عليه. ٥ وفي حديث أسامة عند النسائي أنه ( ص ) رفع يديه يوم عرفة يدعو. وفي روايات ضعيفة السند أن أكثر دعائه يوم عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وقد ذكرنا ذكره ( ص ) عند المشعر الحرام. وقد قالوا إن التلبية أفضل الذكر للحاج ويليها التكبير في يوم عرفة والأضحى وأيام التشريق، ولفظ التلبية المأثور : لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. هذا هو المرفوع وله أن يزيد من الذكر والثناء والدعاء ما شاء، والتكبير المرفوع صحيحا : الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا، ويزيدون.
وقد جعل الله تعالى التخيير في التعجيل والتأخير مشروطا بالتقوى فقال :﴿ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ﴾ أي من استعجل في تأدية الذكر عند هذه الأعمال التعبدية المعلومة وهي رمي الجمرات في يومين من تلك الأيام المعدودات فلا حرج عليه، ومن أتمها كذلك إذا اتقى كل منهما الله تعالى ووقف عند حدوده، فإن تحصيل ملكة التقوى هي الغرض من الحج ومن كل عبادة، والوسيلة الكبرى إليها كثرة ذكر الله تعالى بالقلب مع اللسان، حتى يغلب على مراقبته في جميع الأحوال، فيكون عبدا له لا للأهواء والشهوات، وإنما تلك الأعمال مذكرات للناسي.
والجمار ثلاث وهي كالجمرات جمع جمرة ومعناها هنا مجتمع الحصى من جمره بمعنى جمعه، ورميها من ذكريات النسك المأثور عن سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم كذبح القرابين هناك وعامة أعمال الحج ذكريات لنشأة الإسلام الأولى في عهد الخليل صلى الله عليه وسلم وكل جمرة ترمى بسبع حصيات صغيرة كل يوم من الأيام الثلاثة أو الاثنين وتمتاز جمرة العقبة منها بأنها ترمى قبل ذلك يوم النحر أيضا.
ثم أمر بالتقوى بعد الإعلام بمكانتها فقال ﴿ واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ﴾ أي اتقوه في حال أداء المناسك وفي جميع أحوالكم وكونوا على علم يقين بأنكم تجتمعون وتساقون إليه في يوم القيامة فيريكم جزاء أعمالكم والعاقبة للمتقين ﴿ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ﴾ ( مريم : ٦٣ ) فإن العلم بذلك هو الذي يؤثر في النفس فيبعثها على العمل، وأما من كان على ظن أو شك فإنه يعمل تارة ويترك أخرى لتنازع الشكوك قلبه.
ومن فوائد هذا الأسلوب أن تكرار الأمر بالذكر وبيان مكانة التقوى، ثم الأمر بها تصريحا في هذه الآيات التي فيها من الإيجاز، ما هو في أعلى درجات الإعجاز، حتى سكت عن بعض المناسك الواجبة للعلم بها كل ذلك يدلنا على أن المهم في العبادة ذكر الله تعالى الذي يصلح النفوس وينير الأرواح، حتى تتوجه إلى الخير، وتتقي الشرور والمعاصي فيكون صاحبها من المتقين. ثم يرتقي في فوائد الذكر وثمراته فيكون من الربانيين.
٢ أخرجه البخاري في الحج باب ٢٢، ٩٣، ومسلم في الحج حديث ٢٦٦، ٢٦٧، والترمذي في الحج باب ٧٨، والنسائي باب ٢٠٤، ٢٢٩، وابن ماجه في المناسك باب ٦٩، والدرامي في المناسك باب ٦٠، وأحمد في المسند ١/١١٤، ٢١٠، ٢٢٦..
٣ اخرجه البخاري في الحج باب ١٣٨، ١٤٠..
٤ أخرجه البخاري في العيدين باب ١٢..
٥ أخرجه البخاري في العيدين باب ١٢، والنسائي في المناسك باب ١٩٢..
أرشدتنا آيات المناسك السابقة إلى أن المراد منها ومن كل العبادات هو تقوى الله تعالى بإصلاح القلوب، وإنارة الأرواح بنور ذكر الله تعالى واستشعار عظمته وفضله وإلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها، بل هو مما يهدي إليه الدين، خلافا لأهل الملل السابقة الذين ذهبوا إلى أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أصل الدين وأساسه وإلى أن من يطلب الدنيا من كل وجه ويجعل لذاتها أكبر همه ليس له في الآخرة من خلاق، لأنه مخلد إلى حضيض البهيمة لم تستنر روحه بنور الإيمان، ولم يرتق عقله في معارج العرفان.
ولما كان محل التقوى ومنزلها القلوب دون الألسنة، وكان الشاهد والدليل على ما في القلوب الأعمال، دون مجرد الأقوال، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أعمالهم على حقائق أحوالهم ومكنونات قلوبهم قسمان، فكانت هذه متصلة بتلك في بيان مقصد القرآن العزيز وهو إصلاح القلوب، واختلاف أحوال الناس فيها، وما ينبغي أن يعلموه منها، ولذلك عطفها عليها فقال :﴿ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ﴾ يقال أعجبه الشيء إذا راقه واستحسنه ورآه عجبا أي طريفا غير مبتذل، والخطاب عام، وفي قوله ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ وجهان أحدهما : أن من الناس فريقا يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة لأنك تأخذ بالظواهر وهو منافق اللسان يظهر خلاف ما يضمر، ويقول ما لا يفعل، فهو يعتمد على خلابة لسانه، في غش معاشريه وأقرانه، يوهمهم أنه مؤمن صادق، نصير للحق والفضيلة، خاذل للباطل والرذيلة، متق لله في السر والعلن، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وبطن، لا يريد للناس إلا الخير، ولا يسعى إلا في سبيل النفع ﴿ ويشهد الله على ما في قلبه ﴾ أي يحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدّعي. وفي معنى الحلف أن يقول الإنسان : الله يعلم أو يشهد بأنني أحب كذا وأريد كذا. قال تعالى :﴿ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ﴾ ( يس : ١٦ ) وهو تأكيد معروف في كلام العرب :
أليس الله يعلم أن قلبي | يحبك أيها البرق اليماني |
هذا الفريق من الناس يوجد في كل أمة وتختلف الخلابة اللسانية في الأمم باختلاف الأعصار، ففي بعض الأزمنة لا يتيسر له أن يغش الأمة في مجموعها حتى ينكل بها تنكيلا١ وإن الجرائد في عصرنا هذا قد تكون طريقا للغش العام، كما تكون طريقا للنصح العام، وإنما يكون تلبيسها سهلا على من يعجب العامة قولهم في الأمم التي يغلب فيها الجهل لاسيما في طور الانتقال من حال إلى حال إذ تختلف ضروب الدعوة وطرق الإرشاد٢.
وفي الآية وجه آخر ذهب إليه بعض المفسرين وهو أن الظرف [ في الحياة الدنيا ] متعلق بالقول قبله، أي يعجبك قوله إذا تكلم في شؤون الحياة الدنيا وأحوالها، وطرق جمع المال وإحراز الجاه فيها، لأن حبها قد ملك عليه أمره، والميل إلى لذاتها وشهواتها قد استحوذ على قلبه، وصار هو المصرف لشعوره ولبه، فينطلق لسانه ومثله قلمه في كل ما يستهوي أصحاب الجاه والمال، ويستميل أهل السيادة والسلطان، ولكنه إذا تكلم في أمر الدين جاء بالخطل والحشو، ووقع في العسلطة٣ واللغو، فلا يحسن وقع قوله في السمع، ولا يكون له تأثير في النفس وذلك أن روح المتكلم تتجلى في قوله، وضميره المكنون يظهر في لحنه ﴿ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ﴾ ( محمد : ٣٠ ) وفي الحكم : كل كلام يبرز وعليه كسوة من القلب الذي عنه صدر، ولذا كان إرشاد المخلصين نافعا، وخداع المنافقين صادعا.
وعلى هذا الوجه في التفسير تكون جملة ﴿ ويشهد الله ﴾ وصفا مستقلا غير حال مما قلبه، أي أنه لا يحسن إلا الكلام في الدنيا ليعجب السامع ويخدعه، ولكنه يزعم أن قلبه مع الله، وأنه حسن السريرة، وأنك لترى هذا في سيرة المجرمين ظاهرا جليا كما وصف الله تعالى : يتركون الصلاة، ويمنعون الزكاة، ويشربون الخمور، ويتسابقون إلى الفجور، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ثم يفضلون أنفسهم في الدين على أهل النزاهة والتقوى، زاعمين أن هؤلاء المتقين قد عمرت ظواهرهم بالعمل والإرشاد، ولكن بواطنهم خربة بسوء الاعتقاد، ويقولون نعم إننا نحن نأكل الربا أو القمار ولكنا نحرمه، ونأتي في نادينا وخلوتنا المنكر ولكنا لا نستحسنه، وإن ما نبتزه من جيوب الأغنياء بخلابتنا ليس المقصود به ترفيه معيشتنا، وإنما هو أجر على السعي في إعلاء شأنهم، ومكافأة على خدمة أوطانهم فهم بهذه الدعاوى ألد الخصماء، ألا إنهم هم السفهاء، وإخلاص السريرة هما ينبوع الأعمال الصالحة، والأقوال النافعة :﴿ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ﴾ ( الأعراف : ٥٨ ).
٢ مثال ذلك حال أمتنا اليوم فإنك ترى من المفتونين بحب المال والجاه والانغماس في اللذات من يخادعها بوسواس السياسة وأرهام الوطنية لجل الوصول إلى شهواتهم، ونرى من المخلصين من يدعو إلى الاعتصام بعورة الدين لأجل جمع القوب، والتخلص من جيوش الفسق، كالخمر والقمار والزنا المبيدة للأموال المفسدة للخلاق، وينهى عن الاغتراتر بوساوس السياسة والاشتغال بها عم العلم وتوفير الثورة، وتجد المخادعين يناصبونهم حتى باسم الدين، والأعمال هي الشاهدة على حقائق الأحوال. (المؤالف)..
٣ العسلطة: الكلام بلا نظام، وكلام/ ومعسلط: مخلط..
وذكر الأزهري أن المراد بالحرث ههنا النساء كما في قوله :﴿ نسائكم حرث لكم ﴾ ( البقرة : ٢٢٣ ) وبالنسل الأولاد، وهل المراد نساء الناس وأولادهم، أم نساء المفسدين وأولادهم خاصة ؟ ولعل الأمر أعم فإن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقون من الفتن ويعملون من التفريق لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب ظاهرا وباطنا فقط فالمفسد الشرير يؤذي نفسه وأهله بضروب من الإيذاء قد يعميه الغرور عنها أو عن كونها من سعيه. وقال الأستاذ الإمام : إن إهلاك الحرث والنسل عبارة عن الإيذاء الشديد وقد صار التعبير به ذلك من قبيل المثل فالمعنى أنه يؤذي مسترسلا في إفساده ولو أدى إلى هلاك الحرث والنسل وكذلك شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خرب الملك بإرضائها.
والقول الآخر : أن المراد بتولى صار واليا له حكم ينفذ وعمل يستبد به، وإفساده حينئذ يكون بالظلم مخرب العمران وآفة البلاد والعباد، وإهلاكه الحرث والنسل يكون إما بسفك الدماء والمصادرة في الأموال، وإما بقطع آمال العاملين من ثمرات أعمالهم، وفوائد مكاسبهم، ومن انقطع أمله انقطع عمله إلا الضروري الذي به حفظ الذمام، ولا حرث ولا نسل إلا بالعمل. وقد شرحت لنا حوادث الزمان وسير الظالمين هذه الآية فقرأنا وشاهدنا أن البلاد التي يفشو فيها الظلم تهلك زراعتها، وتتبعها ماشيتها، وتقل ذريتها، وهذا هو الفساد والهلاك الصوريان. ويفشو فيها الجهل، وتفسد الأخلاق، وتسوء الأعمال حتى لا يثق الأخ بأخيه، ولا يثق الابن بأبيه١ فيكون بأس الأمة بينها شديدا ولكنها تذل وتخنع للمستبدين لها وهذا هو الفساد والهلاك المعنويان، وفي التاريخ الغابر والحاضر من الآيات والعبر، ما فيه ذكرى ومزدجر.
ولما كان هذا المفسد يشهد الله على هداية قلبه، وعند من يظن أنه يجهل حقيقة أمره، قال تعالى بعد بيان عمله في الإفساد ﴿ و الله لا يحب الفساد ﴾ أي إن إفساد هذا المنافق ظاهر في الوجود، والظاهر عنوان الباطن، فإفساده في عمله دليل عل فساد قلبه وكذبه في إشهاد الله عليه ﴿ والله لا يحب المفسدين ﴾ ( المائدة : ٦٣ ) لأنه لا يحب الفساد. وفي الآية دليل على أن تلك الصفات الظاهرة المحمودة لا تكون محمودة مرضية عند الله تعالى إلا إذا أصلح صاحبها عمله فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، وهي ترشدنا إلى التمييز بين الناس بأعمالهم وسيرتهم وعدم الاغترار بزخرف القول فإن الناس إذا انصرفوا من مجالس القول لم يكن لهم بد من سعي وعمل، والعمل إما خير وإصلاح، وإما شر وإفساد، وكل إناء ينضح بما فيه.
ولما كان الإفساد يصدر تارة عن الجهل وسوء الفهم، وأحيانا عن فساد الفطرة وسوء القصد، وكان من يعمل السوء بجهالة سريع التوبة، مبادرا إلى قبول النصيحة، وكأن شأن الآخر الإصرار على ذنبه، كالمستهزئ بربه.
قال شيخنا : هذا الوصف ظاهر جدا في تفسير التولي بالولاية والسلطة، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة، أو يحذر من مفسدة، لأنه يرى أن هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجعله أعلا الناس رأيا وأرجحهم عقلا، بل الحاكم المستبد الذي لا يخاف الله تعالى يرى نفسه فوق الحق كما أنه فوق أهله في السلطة، فيجب أن يكون أفن رأيه خيرا من جودة آرائهم، وإفساده نافذا مقبولا دون إصلاحهم، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له : اتق الله في كذا ؟ وأن الأمير منهم ليأتي أمرا فيظهر له ضرره في شخصه أو في ملكه ويود لو يهتدي السبيل إلى الخروج منه فيعرض له ناصح يشرع له السبيل فيأبى سلوكها، وهو يعلم أن فيها النجاة والفوز إلا أن يحتال الناصح في إشراعها فيجعله بصيغة لا تشعر بالإرشاد والتعليم، ولا بأن السيد المطاع في حاجة إليه١.
وقد عرضت نصيحة على بعضهم مع ذكر لفظ النصيحة بعد تمهيد له بالحديث ( الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) ٢ وبيان معناه، فعظم عليه أن يقول أحد أنني أنصح لك لأنك إمامي وكان ذلك آخر عهد الناصح به٣، فانظر كيف لم يرض حاكم مسلم بأن يبذل له ما يجب أن يبذل لله والرسول وللأئمة، وقد كان العلماء ينصحون للخلفاء وملوك المسلمين، فيأخذون بالنصح بحسب مكانهم من الدين، وأما الطغاة البغاء الذين ليس لهم من الإسلام إلا ما يخدعون به العامة من إتيان المساجد في الجمع والأعياد والمواسم المبتدعة، فأنهم يؤذون من يشير إشارة ما إلى أنهم في حاجة إلى تقوى الله في أنفسهم، أو في عيال الله الذين سلطوا عليهم، وإن لم يبق لهم من السلطان والحكم ما يمكنهم من كل ما يهوون من الإفساد والظلم، وإذا كان هذا شأن أكثر الملوك والأمراء الذين ينسبون إلى الدين ويدعون اتباعه فهل تجد دعوى فرعون الألوهية غريبا عجيبا ؟.
وحمل التولي على الوجه الآخر لا يتنافى مع أخذ العزة بالإثم من جزاء الأمر بالتقوى، فإن في طبع كل مفسد النفور ممن يأمر بالصلاح والاحتماء عليه، لأنه يرى أمره بالتقوى والخير تشهيرا به، وصرفا لعيون الناس إلى مفاسده التي يسترها بزخرف القول وخلابته، ولكن التعبير أظهر في إرادة الولاة والسلاطين. وقد يبلغ نفور المفسدين في الأرض من الحق والداعين إلى الخير إلى حد استثقالهم والحقد عليهم، والسعي في إيذائهم وإن لم يأمرهم بذلك، إذ يرون أن الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر على إطلاقهما كافيان في فضيحتهم، وذاهبان بخلابتهم، فلا يطيقون رؤية دعاة الخير ولا يرتاحون إلى ذكرهم، بل يتتبعون عوراتهم وعثراتهم ليوقعوا بهم وينفروا الناس عن دعواتهم، فإن لم يظفروا بزلة ظاهرة التمسوها بالتحريف والتأول، أو الاختراع والتقول، ولذلك تجد طعن المفسدين في الأئمة المصلحين، من قبيل طعن الكافرين في الأنبياء والمرسلين : إن فلانا مغرور، لا يعجبه أحد، خطأ جميع الناس، وصفهم بالضلال، سفه أحلامهم، شنع على أعمالهم، فرق بينهم، وما أشبه هذا.
هذه آثار المفسدين في الأرض عند العجز عن الإيقاع بالآمر بالتقوى، وإن قدروا حبسوا وضربوا، ونفوا وقتلوا، ولذلك قال عز وجل فيمن يأنف من الأمر بالتقوى ﴿ فحسبه جهنم ﴾ أي هي مصيره وكفاه عذابها جزاء على كبريائه وحميته الجاهلية، ثم وصف جهنم وهي دار العذاب في الآخرة بقوله :﴿ ولبئس المهاد ﴾ المهاد الفراش يأوي إليه المرء للراحة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، فالله تعالى يقسم تأكيدا للوعيد بأن الذي يرى عزته مانعة له عن الإذعان للأمر بتقوى الله سيكون مهاده ومأواه النار، وهي بئس المهاد وشره، لا راحة فيها، ولا اطمئنان لأهلها. وقال بعض المفسرين إنه عبر بالمهاد الذي هو مظنة الراحة للتهكم.
وأنت ترى من هذا التقرير ومن كون التقسيم حقيقيا في نفسه شارحا لما عليه البشر في حياتهم، متصلا بما قبله ملتئما معه في السياق أن الكلام عام، وما روي من أن له سببا خاصا لا ينافي عمومه. وقد اختلفوا في السبب للآيات فروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في رجلين من المنافقين قالا لما هلكت سرية المسلمين : يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم. وروى ابن جرير عن السدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر له الإسلام فأعجبه ذلك منه، ثم خرج فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر. فإن صحت الروايتان فالظاهر أن من جعلهما سببا حمل الآيات عليهما في الجملة، وإلا فأنت ترى أن الآيات ليست مطابقة للحادثين، اللتين إن صحتا كانتا في وقتين متباعدتين، فإن الأخنس من مشركي مكة.
٢ هذا ما وقع لي كتبته يومئذ مبهما وقد امتد ذلك الغضب تسع سنين ولكن كان له سبب غير النصيحة التي أثارته. (المؤالف)..
٣ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٢، ومسلم في الإيمان حديث ٩٥..
ذكر الله تعالى هذا الشراء في آيات أخرى تشرح هذه الآية وتفسرها وتبين أن المؤمنين باعوا وأن الله قد اشترى كقوله عز وجل :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ ( التوبة : ١١١ ) إلى قوله :﴿ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفرز العظيم ﴾ وقد وصف هؤلاء المؤمنين في الآية التي بعدها بما يجب على المؤمن أن يجعله معها ميزانا للإيمان وأهله، فنفس المؤمن لله لا للشهوة واللذة البهيمية والمكر الشيطاني، فمن آثر شهواته على مرضاة ربه، والتزام حدوده، والمحافظة على هدي دينه، فلا وزن له في سوق هذا البيع ولا قيمة. ولقد نعلم أنه ليكبر هذا القول على المفتونين بزينة الحياة الدنيا، ولذاتها وقصورها، وخمورها وحورها، وإن كانوا يزعمون أنهم من زعماء الدين، وخدمته المخلصين لأن الحق مر في مذاق المبطلين.
والآية لا تنافي ما دلت عليه آية الدعاء من أن الإسلام شرع لنا طلب الدنيا من الوجوه الحسنة كما شرع لنا طلب الآخرة، بل هي مؤيدة لها، فإن طلبها من الطرق الحسنة أي المشروعة النافعة لا ينافي مرضاة الله تعالى ببيع النفس له، ولذلك لم يحرم سبحانه علينا إلا ما هو ضار بفاعله أو غيره، فلنا أن نتمتع بها حلالا ونكون مثابين مرضيين عند الله تعالى. قال بعض الصحابة لما قال عليه الصلاة والسلام ( وفي بضع أحدكم صدقة ) يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال :( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ) ؟ قالوا نعم، قال :( فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) ١ رواه مسلم من حديث أبي ذر. ولكن الذي ينافي مرضاة الله تعالى وينافي سعادة الدنيا قبل الآخرة هو أن يسترسل المرء في سبيل حظوظه وشهواته خارج الحدود المشروعة فيفسد في الأرض، ولا يبالي أن يهلك بإفساده الحرث والنسل.
ثم إن هذا البيع لا يحقق إلا إذا كان المؤمن يجود بنفسه وبماله في سبيل الله إذا مست الحاجة لذلك فكيف إذا ألجأت إليه الضرورة كجهاد أعداء الملة والأمة عند الاعتداء عليهما أو الاستيلاء على شيء من دار الإسلام، وحينئذ يكون فرضا عينا على جميع الأفراد، فمن قدر على الجهاد بنفسه وجب عليه، ومن قدر عليه بماله وجب عليه، ومن قدر عليه بهما معا وجب عليه. وسبيل الله هي الطريق الموصلة إلى مرضاته، وهي التي يحفظ بها دينه ويصلح بها حال عباده. ومعنى هذا أنه لا يكتفي من المؤمن أن يكتسب بالحلال، ويتمتع بالحلال، وينفع نفسه ولا يضر غيره، وأن يصلي ويصوم، لأن كل هذا يعمله لنفسه خاصة، بل أن يكون وجوده أوسع، وعمله أشمل وأنفع، فيساعد على نفع الناس ودرء الضرر عنهم، بحفظ الشريعة، وتعزيز الأمة بالمال والأعمال، والدعوة إلى الخير، ومقاومة الشر، ولو أفضى ذلك إلى بذل روحه.
فإن قصر في واجب يتعلق بحفظ الملة وعزة الأمة من غير عذر شرعي فقد آثر نفسه على مرضاة الله تعالى، وخرج من زمرة كملة المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى، وكان أكبرهم إجراما ممن يقصر في واجب لا يضر تقصيره فيه إلا بنفسه، ذلك أن الحكمة في تربية النفس بالأعمال الحسنة والأخلاق الفاضلة، هي أن ترتقي ويتسع وجودها في الدنيا فيعظم خيرها وينتفع الناس بها، وتكون في الآخرة أهلا لجوار الله تعالى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم وجعلوا أكثر أعمالهم خدمة للناس وسعيا في خيرهم. فإن الله تعالى لم يشتر أنفس المؤمنين من الحظوظ والشهوات الشخصية الخسيسة لأجل نفعه سبحانه أو دفع الضر عنه جل شأنه، فهو غني عن العالمين، وإنما شرع هذا ليكون المؤمن باتساع وجوده وعموم نفعه سيد الناس.
فليعرض مدعو الإيمان أنفسهم على الآية وأمثالها، فمن ادعى أنه من الذين باعوا أنفسهم لله، وآثروا مرضاته على ما سواه، فليعرضه غيره من المنصفين عليها، ولاسيما إذا ادعى أنه واسع الوجود خادم للأمة والملة، ولا جرم أن كثيرا منهم لا يصدق عليهم شيء من ذلك، ولا قوله تعالى :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ ( الحجرات : ١٤ ) فإن معنى أسلمنا انقدنا لأحكام الدين الظاهرة وأخذنا بأعماله البدنية. وكثير ممن تعجبك أقوالهم من صنف المسلمين لا يصلون ولا يصومون، ولا يزكون ولا يحجون، ويقولون على الله الكذب وهو يعلمون، ويأتون كثيرا من الكبائر جهارا، ويصرون عليها إصرارا.
ذكر تعالى أن من الناس من يشري أي يبيع نفسه وهم المؤمنون الخلص كما في الآيات الأخرى، والأخبار بذلك أقوى في طلبه من الأمر به وأدل على تقريره، لأن الأمر به لا يدل على امتثال المأمورين والإخبار هو الذي يدل على الوقوع، فالقرآن يصور المؤمنين عاملين بمقتضى الإيمان.
ثم بين أن ما شرع هذا إلا رأفة بعباده :﴿ والله رءوف بالعباد ﴾ إذ يرفع همم بعضهم، ويعلي نفوسهم، حتى يبذلونها في سبيله لرفع الشر والفساد عن عباده، وتقرير الحق والعدل والخير فيهم، ولولا ذلك لغلب شر أولئك المفسدين في الأرض حتى لا يبقى فيها صلاح ﴿ ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ ( البقرة : ٢٥١ ) وإن هذا يؤيد ما قلناه في إزالة وهم من يتوهم أن بيع النفس يؤذن بترك الدنيا، وأن لا يمتع المؤمن نفسه بلذاتها، ولو كان كذلك وهو من تكليف ما لا يطاق لما قرنه الله تعالى باسمه الرؤوف الدال على سعة رحمته بعباده، فيا الله ما أعجب بلاغة كلام الله، وما أعظم خذلان المعرضين عن هداه.
ومن الدقة الغريبة في هذا التعبير الموجز بيان حقيقة عظيمة وهي أن وجود هذه الأمة في الناس رحمة عامة للعباد لا خاصة بهم، والأمر كذلك، بل كثيرا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم، إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم. وأن على من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده أن لا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة، بل عليه أن يكون حكيما يقدر الأمور بقدرها، إذ ليس المقصود بهذا الشراء إهانة النفس ولا إذلالها، وإنما المراد دفع الشر وتقرير الخير العام رأفة بالعباد، وإيثارا للمصلحة العامة. وإن أمة يتصف جميع أفرادها أو أكثرهم بهذا الوصف لجديرة بأن تسود العالمين، وكذلك ساد سلفنا الصالحون، وإن أمة تحرم من هذا الصنف لخليقة بأن تكون مستعبدة لجميع المتغلبين، وكذلك استعبد خلفنا الطالحون، فهل نحن معتبرون ؟
بعد ما بين عز وجل اختلاف الناس في الصلاح والفساد والإصلاح والإفساد أراد أن يهدينا إلى ما يجمع البشر كافة على الصلاح والسلام، والوفاق الذي قرره الإسلام، وهو ما يقتضيه الإيمان بالله واليوم الآخر، وجعل هذه الهداية بصيغة الأمر وشرف أهل الإيمان به فقال :﴿ يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ﴾ الخ السلم المسالمة والانقياد والتسليم، فيطلق على الصلح والسلام، وعلى دين الإسلام. قرأ ابن كثير ونافع والكسائي السلم بفتح السين والباقون بكسرها وهما لغتان. وقد فسره بعض المفسرين بالصلح وبعضهم بالإسلام وعليه الجلال، وقال في تفسير ﴿ كافة ﴾ حال من السلم أي في جميع شرائعه.
وأقول إن أساسها الاستسلام لأمر الله والإخلاص له، ومن أصولها الوفاق والمسالمة بين الناس وترك الحروب والقتال بين المهتدين به. واللفظ يشمل جميع معانيه التي يقتضيها المقام، والأمر بالدخول فيه يشعر بأنه حصن منيع للداخلين في كنفه، وهو للكاملين منهم أمر بالثبات والدوام كقوله تعالى :﴿ يأيها النبي اتق الله ﴾ ( الأحزاب : ١ ) ولمن دونهم أمر بالتمكن منه وتحري الكمال فيه، وعلى القول بأن الخطاب فيه لأهل الكتاب أو كل من يؤمن بالله فالدخول على حقيقته. يقول لهم إذا لم تدخلوا في دين الإسلام الذي أكمله لخلقه كافة ببعثة خاتم النبيين، فلا ينفعهم إيمانكم به مع بقائكم على تعاديكم وتفرقكم ودين الله جامع لا تفرق فيه. وهاك ما كتبته بعد حضور درس تفسير شيخنا للآية.
هذه كلمة عظيمة، وقاعدة لو بنى جميع علماء الدين مذاهبهم عليها لما تفاقم أمر الخلافة في الأمة، ذلك أنها تفيد وجوب أخذ الإسلام بجملته، بأن ننظر في جميع ما جاء به الشارع في كل مسألة من نص قولي وسنة متبعة ونفهم المراد من ذلك كله ونعمل به، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر، وإن أدت إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن، وحملها على النسخ أو المسخ بالتأويل، أو تحكيم الاحتمال بلا حجة ولا دليل، ولو أنك دعوت العلماء إلى العمل بالآية على هذا الوجه الذي عرفوه ولم ينكره على قائليه أحد منهم، وإن رجح بعضهم في تفسير غيره عليه لولوا منك فرارا، وأعرضوا عنك استكبارا، وقالوا مكر مكرا كبارا، إذ دعا إلى ترك المذاهب، وحاول إقامة المسلمين على منهج واحد.
ومن آيات العبرة في هذا المقام أننا نجد في كلام كثير من علمائنا هدى ونورا لو اتبعته الأمة في أزمنتهم لاستقامت على الطريقة، ووصلت إلى الحقيقة، بعد الخروج من مضيق الخلاف والشقاق، إلى بحبوحة الوحدة والاتفاق، والسبب في بقاء الغلب لسلطان الخلاف والنزاع، فشى الجهل وتعصب أهل الجاه من العلماء لمذاهبهم التي إليها ينتسبون، وبجاهها يعيشون ويكرمون، وتأييد الأمراء والسلاطين لهم استعانة بهم على إخضاع العامة، وقطع طريق الاستقلال العقلي والنفسي على الأمة، لأن هذا أعون لهم على الاستبداد، وأشد تمكنا لهم مما يهوون من الفساد والإفساد، إذ اتفاق كلمة علماء الأمة واجتماعها على أن الحق كذا بدليل كذا، ملزم للحاكم اتباعهم فيه، لأن الخواص إذا اتحدوا تبعهم العوام، وهذه هي الوسيلة الفردة لإبطال استبداد الحكام، وهذا التفسير مؤيد بالنعي على الذين جعلوا القرآن عضين، والإنكار على الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، أي يعملون ببعضه على أنه دين ويتركون بعضا بتأويل أو غير تأويل، كشأن من لم يصدق بأنه من الله، فوجوب أخذ القرآن والدين بجملته، وفهم هدايته من مجموع ما ثبت عمن جاء به، أمر مقرر في ذاته سواء فسرت به الآية أم لا. لأن الآيتين اللتين أشرنا إليهما آنفا في جعل القرآن عضين، وفي الإيمان ببعضه والكفر ببعض وما في معناهما من النصوص تثبته.
وذهب بعض المفسرين إلى أن ( كافة ) ترجع إلى الذين آمنوا، أي : ادخلوا في الإسلام جميعا لا يتخلف منكم أحد، وصاحب هذا القول يصرف نداء ﴿ الذين آمنوا ﴾ إلى أهل الكتاب أي آمنوا بالأنبياء السابقين والوحي، حتى لا يرد عليه أن الإيمان يستلزم الدخول في الإسلام فيكون أمر المؤمن بالإسلام من تحصيل الحاصل، ووجه اللزوم أن الإيمان هو التصديق الجازم مع إذعان النفس، فمن صدق بالشيء وأذعن له فقد دخل في أعماله وانقاد لأحكامه لا محالة.
وأما قول الجماهير إن العلم لا يوجب العمل فهو على إطلاقه خطأ، فالعلم التصديقي الإذعان المتعلق بالمنافع والمضار يوجب العمل به ما لم يعارضه في موضوعه علم أقوى منه، وأما العلم التصوري والعلم النظري المعارض بعلم ضروري أو نظري أقوى منه فلا يوجبان العمل، وقد صرح حجة الإسلام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة الشاطبي صاحب الموافقات بأن العمل الصحيح يستلزم العمل، والحق التفصيل الذي أشرنا إليه آنفا، وآيات الكتاب العزيز دالة عليه ومعززة له، ويدل لمن قال إن الآية نزلت في أهل الكتاب ما رواه ابن جرير عن عكرمة قال : قال عبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابنا كعب وسعيد بن عمر وقيس بن زيد كلهم من يهود : يا رسول الله يوم السبت نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، وأن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها الدليل. فنزلت فالخطاب على هذا لليهود خاصة، لا لأهل الكتاب عامة، ولكن الرواية غير صحيحة وهي تنم على نفسها فهي موضوعة للآية، وهناك رواية أخرى بمعناها.
والوجه الثاني في تفسير السلم وهو المسالمة والوفاق يتوقف على الوجه الأول أخذ الدين بجملته لأنه أمر برفع الشقاق والتنازع وبالاعتصام بحبل الوحدة، وشد أواخي الإخاء، ولا يرفع الشيء إلا برفع أسبابه، ولا يستقر إلا بتحقيق وسائله، وهو بمعنى قوله عز وجل :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾ ( آل عمران : ١٠٣ ) الآية. قوله تعالى :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا ﴾ ( الأنفال : ٤٦ ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض ) ١ رواه الجماعة كلهم. وقد خالفنا كل هذه النصوص فتفرقنا وتنازعنا وشاق بعضنا على بعض بشبهة الدين، إذ اتخذنا مذاهب متفرقة كل فريق يتعصب لمذهبه ويعادي سائر إخوانه المسلمين لأجله، زاعما أنه ينصر الدين، وهو يخذله بتفريق كلمة المسلمين، هذا سني يقاتل شيعيا، وهذا شيعي ينازل إباضيا، وهذا شافعي يغري التتار بالحنفية، وهذا حنفي يقيس الشافعية على الذمية، وهؤلاء مقلد الخلف، يحادون من اتبع طريقة السلف. ﴿ أفلم يدبروا القول أن جاءهم ما لم يأت آبائهم الأولين ﴾ ( المؤمنون : ٦٨ ) أم أمروا بهذا من الله ورسوله ومن الأئمة المجتهدين ؟ كلا بل كان التعادي والتنازع انحرافا عن الصراط المستقيم، واتباع لخطوات الشيطان الرجيم، فكما خالف المفرقون المتنازعون ربهم في ذلك الأمر، خالفوا ما أتبعه به من هذا النهي، إذ قال :﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ﴾ الخطوات جمع خطوة بالضم وبالفتح، وهما ما بين قدمي من يخطو بنقلهما في المشي، أي لا تسيروا سيره وتتبعوا سبله في التفرق في الدين أو الخلاف والتنازع مطلقا. وسبل الشيطان وخطواته هي كل أمر يخالف سبيل الحق والخير والمصلحة، وهي ما عبر عنه بالسبيل في قوله تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ ( الأنعام ١٥٣ ) فذَكَرَ تعالى أن له سبيلا واحدة سماها صراطا مستقيما لأنها أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام، وأن هناك سبلا متعددة يتفرق متبعوها عن ذلك الصراط وهي طرق الشيطان، وقد علم من جعل التفرق تابعا لاتباع سبل هي غير صراط الله أن الذين يتبعون سبيل الله لا يتفرقون :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾ ( الأنعام : ١٥٩ ) نعم قد يطرأ عليهم سبب الخلاف والتنازع ولكنهم متى شعروا بأن التنازع قد دب إليهم في أمر فزعوا إلى تحكيم الله ورسوله فيه برده إلى حكمهما، كما أمرهم بقوله :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ﴾ ( النساء : ٥٩ ) أي مآلا وعاقبة فالآيات يفسر بعضها بعضا إذا نحن أخذنا القرآن بجملته كما أمرنا.
وقال الأستاذ الإمام : هذه الآيات حجة لعلماء الأصول القائلين بأن الحق واحد لا يتعدد. ويا ليت أصحاب هذا الأصل فرضوا على أنفسهم الاجتماع لكل خلاف يعرض لهم والبحث عن وجه الحق فيه بلا تعصب ولا مراء، حتى إذا ما ظهر لهم أجمعوا عليه، وإذ هو لم يظهر لبعضهم ثابر من لم يظهر له على تطلابه بإخلاص لا يعادي فيه أحدا، ولا يجعله ذريعة لتفريق الكلمة.
طريق الحق هو الوحدة والإسلام، وطرق الشيطان هي مثارات التفرق والخصام، وهي معروفة في كل الأمم، ولكن الشيطان يزين طرقه ويسول للناس المنافع والمصالح في التفرق والخلاف، فقد كانت يهود أمة واحدة مجتمعة على كتاب واحد هو صراط الله فسول لهم الشيطان فتفرقوا وجعلوا لهم مذاهب وطرقا، وأضافوا إلى الكتاب ما أضافوا، وحرفوا من كلمه ما حرفوا، واتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله، حتى حل بهم الهلاك والدمار، ومزقوا كل ممزق. وكذلك فعل غيرهم، كأنهم رأوا دينهم ناقصا فكملوه، وقليلا فكثروه، وواحدا فعددوه، وسهلا فصعبوه، فثقل عليهم بذلك فوضعوه، فذهب الله بوحدتهم، حتى لم تغن عنهم كثرتهم، وسلط عليهم الأعداء، وأنزل بهم البلاء :﴿ سنة الله التي قد خلت في عباده ﴾ ( غافر : ٨٥ ) ٢.
هذا هو المتبادر من خطوات الشيطان في هذا المقام. ومن خطواته طرق الفواحش والمنكرات كلها ولذلك قال تعالى :﴿ ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفواحش والمنكر ﴾ ( النور : ٢١ ) وأما كون الشيطان عدوا مبينا فذاك أن جميع ما يدعو إليه ظاهر البطلان بين الضرر لمن تأمل وعقل، فمن لم يدرك ذلك في مبدأ الخطوات أدركه في غايتها، عند ما يذوق مرارة مغبتها، لاسيما بعد تذكير الله تعالى وهدايته عباده إلى ذلك، فلا عذر لمن بلغته هذه الهداية إذا بقي على ضلالته واستحب العمى على الهدى ولذلك قال عز شأنه ﴿ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ﴾.
٢ قد ذكرنا طريق الخروج من ظلمات الخلاف إلى نور الوحدة الإسلامية في مقالات المصلح والمقلد من المجلد الرابع من المنار وفيها رأي الغزالي في ذلك وقد طبعت في كتاب مستقل ثم زدناها بيانا وطبعت في كتاب سمي (الوحدة الإسلامية). (المؤالف)..
قال الأستاذ الإمام : إنه ذكر من صفاته تعالى ما هو دليل العقاب وهو ما لا مطمع في زواله، ولا هزء في الدين أكبر من ظن المغرور أنه ينال جنة عرضها السموات والأرض وفيها من النعيم والرضوان ما لم يخطر على قلب بشر، بغير الأعمال التي أرشدت إليها آيات الله تعالى، مبينة أن العقوبة على تركها من آثار صفاته القديمة التي لا يلحقها تغيير ولا تؤثر فيها الحوادث بتبديل ولا تحويل اه.
ونقول نحن على طريقته إن ظن المغرورين بأنه يكون لهم السلطان والخلافة في الأرض بمجرد دعوى الإيمان والإسلام، ولو مع بعض الأعمال البدنية من غير إقامة العدل في الناس والعمارة والإصلاح في الأرض، هو من الهزء بآيات الله في كتابه، وآياته في خلقه، فإنها متفقة على أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون لعمارتها وإقامة العدل فيها :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى ﴾ ( هود : ١١٧ ) أي الأمم ﴿ بظلم ﴾ منهم أي شرك وكفر، أو منه لهم ﴿ وأهلها مصلحون ﴾ أي والحال أنهم مصلحون في أعمالهم وسياستهم وإنما يهلكها إذا ظلموا وأفسدوا فيها.
والآيتان المفسرتان آنفا وما في معناها كقوله تعالى :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾ ( آل عمران : ١٠٣ ) إلى قوله :﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ ( آل عمران : ١٠٥ ) وقوله :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، لست منهم في شيء ﴾ ( الأنعام : ١٥٩ ) كلها هادمة للتقاليد التي فرقت الأمة وجعلتها شيعا، حتى صار بأسها بينها شديدا، فسفكت دماءها بأيديها، ومزقت دنياهم بتمزيق دينها، وكان من أمرها بعد ذلك ما ترى سوء عاقبته في كل شعب وكل قطر.
الاستفهام في الآية بمعنى النفي، وينظرون بمعنى ينتظرون، وهي كثيرة الاستعمال بهذا المعنى في الكتاب العزيز ولاسيما في أمور الآخرة كقوله تعالى :﴿ فهل ينظرون إلى الساعة أن تأتيهم بغتة ﴾ ( محمد : ١٧ ) ﴿ ما ينظرون إلا صيحة واحدة ﴾ ( يس : ٤٩ ) وإتيان الله تعالى فسره الجلال وآخرون بإتيان أمره أي عذابه كقوله في آية أخرى :﴿ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ﴾ ( النحل : ٣٣ ) أي فهو بمعنى ما جاء من التخويف بعذاب الآخرة في الآيات الكثيرة الموافقة لهذه الآيات في أسلوبها. وأقر الأستاذ الإمام الجلال على ذلك وبين في الدرس أن هذا الاستعمال من أساليب العرب المعروفة من حذف المضاف وإسناد الفعل إلى المضاف إليه مجازا وأوضحه أتم الإيضاح. فهو على حد ﴿ واسأل القرية ﴾ ( يوسف : ٨٢ ). ومن المفسرين من قال إن الإسناد الحقيقي وإنما حذف المفعول للعلم به من الوعيد السابق، أي هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من الساعة والعذاب ؟ وعده آخرون من المتشابهات فقالوا إن الله تعالى يأتي بذاته ولكن لا كإتيان البشر بل إتيانه من صفاته التي لا نبحث عن كيفيتها اتباعا للسلف. وأما تأويل الإتيان بما نقله البيقهي عن الأشعري فلا نذكره لأنه مما يزيد المعنى بعدا عن الفهم.
وقد يقال إنه ليس من مقتضى مذهب السلف أن يجعل كل ما يسند إلى الله تعالى من المتشابهات التي لا تفهم بحال، ولا تفسر ولو بإجمال، فحسبنا أن نقول على رأي من فسر إتيان أمره وما وعد به من العذاب، أو إتيانه بما وعد به إننا نفوض إليه تعالى كيفية ذلك، وبذلك نكون على طريقة السلف في التفويض، مع العلم بأن الله تعالى ينذر الذين زلوا عن صراطه وفرقوا دينه بأمر معروف في الجملة لا بشيء مجهول مطلق. ومما يدلنا على أن المراد بالآية ما ذكرنا قوله تعالى :﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ونُزِّلَ الملائكة تنزيلا ﴾ ( الفرقان : ٢٥ ) مع الآيات الكثيرة الناطقة بأن قيام الساعة وخراب العالم يكون ﴿ إذا السماء انشقت ﴾ وانتثرت كواكبها الخ وإنما يأتي بذلك الله تعالى بتغيير هذا النظام الذي وضعه لارتباط الكواكب وحفظ كل كوكب في فلكه، وسيأتي لمذهب السلف في الإتيان توجيه أقرب من هذا.
وأما ظلل الغمام فهي قطع السحاب الأول وهي ظلة بالضم كغرف جمع غرفة وهي ما أظلك، والثاني : جمع غمامة كسحاب وسحابة وزنا ومعنى، سمي بذلك لأنه يغم السماء أن يسترها، وخص بعضهم الغمام بالسحاب الأبيض، وزاد بعض آخر الرقيق، وفيه أن الأبيض الرقيق لا يمطر والعرب تسمي البرد حب الغمام. وذكر المفسرون أن إتيان أمر الله أو عذابه في الغمام عبارة عن مجيئه من حيث ترجى الرحمة بالمطر، وذلك أبلغ في تمثل هول العذاب وفضاعته لأن الخوف إذا جاء من موضع الأمن كان خطبه أعظم، والعذاب إذا فاجأ من حيث ترجى الرحمة كان وقعه آلم، كما وقع لعاد قوم هود :﴿ قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ﴾ ( الأحقاف : ٢٤ ) وهو مبني على أن الغمام مظنة المطر، والظاهر أن من قال إن الغمام هو السحاب الأبيض لا يعني به تلك السحائب البيض الرقاق المرتفعة التي تظهر في أيام الصيف وإنما به ذلك السحاب المسف لثقله بالمطر الذي هو أقرب إلى البياض منه إلى السواد.
وقال الأستاذ الإمام إن الحكمة في نزول العذاب في الغمام إنزاله فجأة من غير تمهيد ينذر به، ولا توطئة النفوس على احتماله، وذلك أبلغ في هوله [ ما من دهي بالأمر كالمعتد ] وهو ذلك الغمام الذي يحدث عن تخريب العالم فجأة فيأتيهم العذاب، قبل أن يتبدد الغمام الناشئ عن الخراب. وهذا القول يتفق مع الأول، وهو أقرب إلى معنى قوله تعالى في الساعة :﴿ لا تأتيكم إلا بغتة ﴾ ( الأعراف : ١٨٧ ).
ويجب أن تكون هذه الآيات عبرة للمؤمن ترغبه في المبادرة إلى التوبة، لئلا يفاجئه وعد الله تعالى وهو غافل، فإن لم يفاجئه قيام الساعة العامة التي بها يهلك هذا العالم كله، فاجأه قيام قيامته بموته بغتة، فإن لم يمت بغتة جاءه مرض الموت بغتة، حتى لا يقدر على العمل، وتدارك الزلل.
وإذا جرينا على هذه الطريقة التي أرشدتنا إليها الآية السابقة على الوجه الأول في تفسيرها فحملنا بعض الآيات على بعض واسخرجنا المعنى من مجموعها كان لنا أن نقول : إذا وقعت الواقعة، وقرعت القارعة، وكورت الشمس، وتناثرت الكواكب، وانشقت السماء شقا، ورجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت أولا كالعهن المنفوش ثم صارت هباء منبثا، فإن مادة هذا الكون تعود كما كانت قبل التكوين أي مادة سديمية وهي ما عبر عنه في بدء التكوين بالدخان، وفي الحكاية عن الخراب بالغمام. وإن كثيرا من علماء الهيئة الغربيين ليتوقعون خراب هذا العالم بقارعة تحدث من اصطدام بعض الكواكب ببعض بحيث تبطل الجذب العام، الذي به قام هذا النظام، وهو في معنى ما ورد من تشقق السماء بالغمام، وهذا المعنى لم يكن يخطر ببال أحد على عهد نزول القرآن.
وأما إتيان الملائكة هنا فهو بمعنى نزولهم في قوله :﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ﴾ ( الفرقان : ٢٥ ) أي وتأتيهم الملائكة الموكلة بكل ما قضاه الله يومئذ وقوله ﴿ وقضي الأمر ﴾ جملة حالية أي كيف ينتظرون غير ذلك وهو أمر قضاه الله وأبرمه فلا مفر منه ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه فهو الأول ومنه بدأت الأشياء، وهو الآخر وإليه ترجع وتصير، وهو بكل شيء محيط :﴿ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا، لا تنفذوا إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ ( الرحمان : ٢٣ – ٢٤ ).
وإذا كان كل ما سنه الله تعالى من النظام لخلقه حتما مقضيا لا يضل واضعه ولا ينسى، فعلى من زل عن صراطه واتبع خطوات الشيطان أن يبادر بالتوبة والرجوع إلى الحق قبل أن يحيق به زلله، ويبسله١ عمله، وقبل أن تقوم قيامته أو قيامة الناس أجمعين، فيجازى على زلله و﴿ كل امرئ بما كسب رهين ﴾ ( الطور : ٢١ ) وأجدر الناس بالمبادرة إلى هذه التوبة علماء الأمة الذين أبلسوها بخلافهم وتفرقهم، فعليهم أن يحكموا كتاب الله ورسوله فيما شجر بينهم من غير تعصب ويسلموا تسليما.
وذكر الأستاذ الإمام في تفسير الآية وجها آخر يعد بيانا للقول بأن الإتيان مسند إلى الله تعالى، على أنه هو الذي يأتي على ظاهر مذهب السلف لا عذابه ولا يومه الموعود، وهو من الآيات الكبرى، وأسرار المعارف العليا، فقال ما مثاله :
من الناس من يؤمن بالله تعالى وصحة دينه إيمانا موافقا لما جاء في كتابه ويكون في إيمانه على حق اليقين، والاطمئنان الذي لا زلزال فيه ولا اضطراب، وأهل هذا اليقين هم الذين يقال إن الله حاضر عندهم وأنه معهم أينما كانوا، لأن معرفته تثبت في عقولهم، والتوكل عليه قد لابس قلوبهم، وهم الذين قال قائلهم : لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا ومنهم من ليس له تلك المعرفة وهذا اليقين، فلا يقال إن الله عندهم لأن ما حضر في عقله هو غير ما وصف الله تعالى به نفسه، وشهدت به آياته في كتابه وآياته في خلقه، ثم هو ليس على يقين مما عنده، أولئك أصحاب الظنون وأرباب الشكوك، وحملة التقاليد الذين زلوا من بعد ما جاءتهم البينات، فاتخذوا بينهم وبين الله حجابا ووسطاء، وشبهوه بخلقه في كثير من الشؤون، فهم غائبون عن الله تعالى ومحجوبون عن ربهم، بحيث لا تطوف معرفته الحقيقية بعقولهم، ولا تلابس عظمته وكماله قلوبهم، فإذا كان يوم القيامة وكشف الحجاب عرفوا الله ربهم الحق، وتبين لهم ما كانوا عليه من الباطل، فذلك إتيان الله لهم، أي يأتيهم من معرفته ما كانوا غائبين عنه ومحرومين منه في الدنيا. والإتيان يكون في المعقولات، كما يكون في المحسوسات، فلا حاجة إلى التأويل.
إن هؤلاء الزالين عن صراط الله تعالى صنفان : صنف اعتقدوا الباطل حقا فلم يعرفوا حقيقة التوحيد ورجوع كل أمر إلى من أعطى كل شيء خلقه على سنن ثابتة، ولا غير التوحيد من أصول الإيمان. وصنف اتبعوا الظن، وهاموا في أودية الوهم، فلم يكونوا على بينة من هذا الأمر، فإذا ما تجلى الله تعالى في ذلك اليوم للأرواح، وزالت الحجب التي كانت دونها في سجن الأشباح، زال جهل الجاهلين، وانكشف ظن الظانين وبطل وهم الواهمين، وعرف الجميع رب العاليمن، بما جاءهم من الحق اليقين، فذلك مجيء الله تعالى وإتيانه في الدين. هذا ما تجلى به مسألة الإتيان على مذهب السلف.
وأما كون هذا الإتيان في ظلل من الغمام فهو من الأمور الأخروية الغيبية التي قلنا مرارا إننا لا نبحث عن حقيقتها. فكون معرفة الله تعالى واليقين به مما يحصل للجاهلين والغافلين بحصول ظلل من الغمام نفوض سره إلى الله تعالى، وما يدرينا أن في ذلك الغمام آيات بينات، وحججا باهرات، وإتيان الملائكة على هذا التأويل أظهر منه في التأويل الأول لأن المقام تمثيل ظهور سلطان الله تعالى وعظمته، واستغراق القلوب في الخضوع لجلاله عندما يغشاها نور معرفته، ولا ريب أن حضور الملك في جنده الأكبر، هو أبين لكمال العظمة وأظهر، ولذلك قال في سورة الفجر :﴿ وجاء ربك والملك صفا صفا ﴾ ( الفجر : ٢٢ ) وقال في سورة النبأ :﴿ يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ﴾ ( النبأ : ٣٨ ).
والمراد بهذا المعنى الذي قرره الأستاذ الإمام تقريب هذا المذهب من الأفهام، ولا يعني أن هذا بيان لكيفية الإتيان في الغمام. ويمكن أن يقال إن الغمام في الآية إشارة إلى الحجاب أو الرداء الذي ورد في حديث أبي موسى عند الشيخين وغيرهما ﴿ وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه ﴾ ٢ وبيانه أنه ورد في أحاديث أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( سألت جبريل عليه السلام هل ترى ربك ؟ فقال إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور ).
وقال الغزالي وغيره من أئمة الصوفية إن الحجب أي الموانع التي تمنع العبد من معرفة الحق كثيرة أكثفها نفسه وهذه الحجب تزال يوم القيامة عن المؤمنين إلا حجابا واحدا فيعرفون الحق معرفة كاملة تستغرق الروح وذلك ما عبر عنه بالرؤية وبمجيء الله وإتيانه. فالغمام في هذا المقام التمثيلي إشارة إلى الحجاب الذي لا يحصل كمال المعرفة الممكنة بدونه وبذلك تتفق الآيات مع الأحاديث :﴿ ولله المثل الأعلى ﴾ ( النحل : ٦٠ ) ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ( الشورى : ١١ ).
ولنا أن نقول على هذه الطريقة مع تفسيرنا الغمام بمادة التكوين الأولى كما مر أن الحجب التي تسغل الإنسان عن ربه في الدنيا حظوظ النفس وشهواتها وشواغل الحس بالمحسوسات والفكر بالمدركات كلها ترتفع فلا تعود حائلة دون كمال العلم بالله تعالى. ما خلا سر الإيجاد والتكوين الأول مم كان وبم كان وكيف كان ؟ فهذا لا يرفع في الدنيا للموقنين، ولا في الآخرة للمقربين٣.
هذا وأنت ترى أن الوجه
٢ قد بسطت مسألة الحجب هذه سر الوجود والتكوين في الكلام على الرؤية من تفسير سورة الأعراف. (المؤالف)..
٣ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٥، باب ١، ٢، والتوحيد باب ٢٤، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٦، والترمذي في الجنة باب ٣، والدرامي في الرقاق باب ١٠١، وأحمد في المسند ٤/٤١١، ٤١٦..
تقدم أن في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ﴾ وجهين أحدهما أن المراد بالذين آمنوا أهل الكتاب وثانيهما أن المخاطب بها المؤمنين من المسلمين. وقوله عز وجل ﴿ سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ﴾ ظاهرة على كلا الوجهين فهو على الأول بيان لحقيقة حالهم، وأن الآيات والنذر لا ترجعهم عن ضلالهم، فإذا استمروا على الجحود والخصام، وأعرضوا عن الدعوة إلى الدخول في السلام، فليس ذلك بدعا منهم، ولا دليلا على أن الإسلام غير بين لهم، فكم جاءهم أنبياؤهم بالآيات البينات، وكم بلاهم الله تعالى بالحسنات والسيئات، ولم يغن ذلك عنهم، ولا صدهم عن خلافهم وشقاقهم، بل بدل الذين كفروا منهم قولا غير الذي قيل لهم، وبدلوا نعمة الله كفرا.
﴿ ومن يبدل نعمة الله ﴾ عليه بالآيات الدالة على حق، والوحدة الداعية إلى الشكر ﴿ من بعد ما جاءته ﴾ بالبيان، وأبهرت بالبرهان، بجعلها مثارا للتفريق والاختلاف وجعل الأمة الواحدة شيعا وأحزابا ومذاهب وفرقا بسوء التأويل وعصبيات الرياسة والسياسة ﴿ فإن الله شديد العقاب ﴾ لمن تنكب سنته، وخالف شرعته، وهؤلاء المبدلون منهم، فالعقاب الشديد نازل لا محالة بهم، ولم يقل فإن الله يعاقبهم ليشعرنا بأن هذا من سننه العامة فحذرنا أن نكون من المخالفين المبدلين، توهما أن العقاب خاص ببعض الغابرين، كما يلغو كثير من الجاهلين، فأنت ترى أن هذه الجملة في معنى قوله ﴿ فإن زللتم من بعد ما جائتكم البنات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ﴾ ( البقرة : ٢٠٩ ) والتقييد بمجيء البينات والآيات دليل على أن من لم تبلغه الدعوة الصحيحة بالبينة والدليل لا يخاطب بهذا الوعيد، فحسبه حرمانه من هداية الأنبياء عليهم السلام، فكيف يطالب مع ذلك بما لا يعلم، ويجعل مع من عاند الحق من بعد ظهوره له في قرن.
وفي هذه من الهداية بيان أمر عظيم يغفل عنه العلماء والأذكياء، وهو أن الآيات والبينات إنما تفيد النفوس الخيرة المستعدة لقبول الحق المتوجهة إلى طلبه، وأما النفوس الخبيثة التي يفضحها الحق ويظهر باطلها الذي تحب ستره، والاسترسال فيما هي فيه من اللذة الحسية والجاه الباطل، فإن الآيات والبينات لا تزيدها إلا مماراة وجدلا في القول وجحودا وعنادا بالفعل، هذه سنة الله تعالى في البشر عامة، لا في بني إسرائيل خاصة كذلك كان وكذلك يكون وسيكون وسوف يكون إلى ما شاء الله.
وأما تفسير الآية على الوجه الآخر المختار في المخاطبين في السلم فهو أنها هادية إلى الاعتبار بسنة الله تعالى في الأمم الماضية على ما بينا آنفا، كأنه يقول يا أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم عليكم بالدخول في السلم والاتفاق، والاعتصام بالإسلام في جملته، لا تفرقوه ولا تتفرقوا فيه وتكونوا شيعا، كيلا يصيبكم ما أصاب أولئك الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جائتهم البينات من قبلكم، وهؤلاء بنو إسرائيل بين أيديكم، وحالهم لا تخفى عليكم، فسلوهم حالهم، واستنطقوا آثارهم، واقرؤوا تاريخهم، تروا أنهم أوتوا نحوا مما أوتيتم من البينات، وأمروا كما أمرتم بالاتحاد والاجتماع، فتفرقوا إلى مذاهب وشيع، وزلوا عن صراط الله فتفرقت بهم السبل فأخذهم الله بعزته ونفذ فيهم حكم سنته، وزال سلطانهم، ولفظتهم أوطانهم وضربت عليهم الذلة والمسكنة ومزقوا في الأرض كل ممزق.
والآية على كل الوجهين عبرة للمخاطبين بالقرآن من المؤمنين به لا حكاية تاريخية عن بني إسرائيل. ولكن هل يعتبر بها المنتسبون إلى القرآن ؟ وهل يفهمون منها أن ملكهم الذي يتقلص ظله عن رؤوسهم عاما بعد عام، وعزهم الذي تتخطفه منهم حوادث الأيام ما بدلهما الله تعالى إلا بعد ما بدلوا نعمته عليهم في قوله :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ﴾ ( البقرة : ١٠٣ ) ﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ ( الأنفال : ٥٣ ) كلا إنهم لم يفهموا هذا ولو تغنوا وترنموا بهذه الآيات في كل مأثم وكل موسم وإن رؤسائهم لا يمقتون أحدا مقتهم لمن يذكرهم به وإن أكثر عامتهم تبع لهؤلاء الرؤساء كما كان بنو إسرائيل على عهد نزول القرآن وإنا لنعلم أن الساكتين منهم على جميع ما مني به المسلمون من البدع والخرافات والفسوق والعصيان يتفقون مع المدافعين عن الفاسقين والمبتدعين، على إيذاء الواعظين الناصحين، باسم المدافعة عن الدين والسبب في هذا وامثاله لم يفرط فيه الكتاب المبين، بل هو ما هدانا الله تعالى إليه بقوله :﴿ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ﴾
بعد هذا كله يسأل سائل كيف يختلف الناس في دينهم ويتفرقون شيعا بعد مجيء البينات المانعة من ذلك ؟ فهذه الآية جواب لهذا السؤال، وحل لما فيه من الإشكال، ملخصه أن حب الدنيا والغرور بزينتها ؛ يصرفان جميع قوى النفس إلى التفاني في طلبها، وبذلك تنصرف عن النظر الصحيح في آيات الحق وبيناته : أما الرؤساء فإنهم ينصرفون إلى حب الامتياز والشهرة والاستعلاء على الأقران، ولا يكون ذلك إلا بالخلاف، وانتصار كل رئيس لمذهب والذب عنه بالجدل والتأويل، وأما المرؤوسون فإن كل فريق منهم ينتمي إلى رئيس يعتز به ويقلده دينه، ولا يستمع قولا لمخالفه. ويربط كلا منهما بالآخر الاشتراك في المصالح الدنيوية، فحب الدنيا هو علة العلل ورأس كل خطيئة. وقد تقدم شرح ارتباط الرؤساء بالمرؤوسين في تفسير :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ﴾ ( البقرة : ١٦٥ ) الآيات.
وما ذكرناه هنا قاض بأن يختص الذين كفروا بمن أوتوا كتابا وجاءتهم بينات تجمع كلماتهم وتحقق وحدتهم، ففصموا بالخلاف عروتها، ومزقوا بالتفرق نسيج وحدتها، وذلك كفر بهذه النعمة، وتبديل لها بالنقمة، ويدلك على أن الكلام لا يزال في مسألة الخلاف والوفاق في الدين الآية التالية لهذه فإنها مبينة لأصل الخلاف في الدين، منذ بعث الله النبيين.
جملة ﴿ زين للذين كفروا ﴾ الخ في معنى قوله تعالى :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ ( الكهف : ٧ ) ابتلاهم فغرت أقواما زينتها، وفتنتهم بهجتها، فانصرفت همتهم إلى الاستمتاع بلذاتها، وانحصرت أفكارهم في استنباط الوسائل لشهواتها، ومسابقة طلاب المال والجاه عند أربابها، ومزاحمة الطارقين لأبوابها، فلم يبق فيها سعة لطلب شيء آخر وإن لم يكن معرضا لهم فيما يرغبون، وحائلا بينهم وبين ما يشتهون، فما بالك بطلب الحق، والتطلع إلى حياة بعد هذه الحياة، والحق ينعى عليهم إسرافهم في أمرهم، ويطالبهم بحقوق عليهم لغيرهم، والتطلع إلى حياة أخرىيزعزع من سكونهم إلى لهوهم ويغض شيئا من تعاليهم في زهوهم، بل يكدر عليهم بعض صفوهم، ويقف بهم دون شأوهم، ومن لم يطلب الحق من طريقه بإخلاص وإنصاف لا يجده ولا يتفق مع أهله، وأنى للمفتونين بالزينة الإخلاص والإنصاف ؟
أقول : وثم أقوام آخرون نظروا إلى زينة الدنيا كما أمر الله، وهو من وجهين أحدهما ما فيها من الآيات الدالة على قدراته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته بعباده. وثانيهما كونها نعمة منه تعالى ينتفع بها، ويشكر الله تعالى عليها، ويتبع شرعه فيها بالقصد واجتناب السرف والخيلاء وتذكر بحسنة الدنيا وحسنة الآخرة وهو قريب. ولا تنس قوله تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله ﴾ ( العراف : ٣٣ ) الخ.
والمراد بالذين كفروا هنا من لا يؤمنون بالحقوق المشروعة لله وللناس إيمان إذعان وانقياد، بل يؤثرون الحياة الدنيا على ما عند الله تعالى من النعيم المقيم، لا المشركون أو الكافرون في عرف بعض الناس كالذين لا يسمونهم مسلمين، كما أن القرآن لا يعني بالمؤمنين الناجين طائفة يسمون أنفسهم أو يصفونها بالإيمان أو الإسلام، وإنما يعني بهم أولئك الموقنين بما عند الله، الذي يؤثرون الحق على كل ما يعارضه من شهواتهم ولذاتهم، وإذا عثر أحدهم فعمل السوء بجهالة يتوب من قريب. وانظر سائر ما عرف الله تعالى به المؤمنين والكافرين من النعوت والأوصاف يظهر لك هذا.
وأظهر أوصاف الكافر أن تكون زينة الدنيا أكبر همه يؤثرها على كل شيء، حتى أن أمر الدين لا يزحزحه عن شيء يقدر عليه من هذه الزينة ومتاعها بلا معارض من الدنيا، كحاكم يزع، أو إهانة تتوقع، لأنه لا يقين له في الآخرة. فإن كان منتسبا إلى دين فما دينه إلا تقاليد وعادات، وخواطر تتنازعها الشبهات، وتتجاذبها الشكوك والتأويلات، ومنهم من يسلم تقليدا بأن هناك آخرة فيها نعيم خاص بأهل ملته، وإن كانوا على ما وصف الله الكافرين، وضد ما نعت المؤمنين، كما كان اليهود في زمن التنزيل، وقد أطلق القرآن عليهم اسم الإيمان في مواضع منها الآية السابقة قريبا على قول بعض المفسرين وفي غيرها أيضا كقوله في أهل الكتاب عامة من آخر سورة الحديد :﴿ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتيكم كفلين من رحمته ﴾ ( الحديد : ٢٨ ) الخ. وأطلق عليهم اسم الكفر في مواضع كثيرة. وذلك أن للإيمان كما ذكرنا قبل إطلاقين فيطلق على المؤمن الموقن المذعن للعمل والاتباع. ويطلق على من يصدق تقليدا بأن للعالم إلها أرسل رسلا وينتسب إلى بعضهم وإن لم يكن على يقين في إيمانه، وبصيرة في دينه وحسن اتباع لنبيه، بل هو على اختلاف ذلك كما تقدم، وهؤلاء قد يكونون في عرف القرآن كافرين وذكر من علامتهم الافتتان بزينة الحياة الدنيا فهم يعدون الكياسة الانغماس في نعيمها ويرون الفضل في الاستنكثار من فضولها.
﴿ ويسخرون من الذين آمنوا ﴾ إيمانا حقيقيا يحمل على العمل يسخرون من فقرائهم لأنهم محرمون من زينتهم وإن كانوا راضين من الله مغبوطين بما منحهم من الإيمان والرجاء بالآخرة. ومن أغنيائهم لأنهم لا يتنوقون١ في النعيم بل يرون الكياسة في الاستعداد لما بعد الموت بترقية النفس بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبينات والتحلي بالفضائل وأحاسن الأخلاق ويعدون الفضل في القيام بحقوق الناس وخدمة الأمة، والإفاضة من فضل المال على العاجزين والبائسين. وكلما أنفقوا في سبيل الله درهما، عده أولئك المستهزئون مغرما.
قال تعالى ردا على هؤلاء الساخرين الذين يرون أنهم في زينتهم ولذاتهم، خير من أهل اليقين في نزاهتهم وتقاتهم ﴿ والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ﴾ فإذا استعلى بعضهم على بعض المؤمنين طائفة من الزمن في هذه الحياة القصيرة الفانية، بما يكون لهم من الأتباع والأنصار والمال والسلطان، فإن المؤمنين المتقين يكونون أعلى منهم مقاما يوم القيامة في تلك الحياة العلية الأبدية. ولم يقل : والذين آمنوا فوقهم، لأن هؤلاء المفتونين بزينة الحياة الدنيا يدعون الإيمان لأنهم ولدوا ونشؤوا بين القوم يدعون بأهل الإيمان وأهل الكتاب، فالله يرشدنا إلى أنه لا اعتداد بالإيمان في الآخرة إلا إذا صحبته التقوى، وكانت أثراً له في النفس والعمل الصالح ﴿ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ﴾ ( مريم : ٦٣ ) ﴿ أعدت للمتقين ﴾ ( آل عمران : ١٣٣ ) ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ﴾ ( المائدة : ٩٣ ) والآيات في هذا كثيرة جدا.
ولكن الذين يزعمون أن النجاة في الآخرة والدرجات العلى فيها تحصل بمجرد اللقب والجنسية، أو بعض التقاليد التي لا أثر لها في النفس، لا يلتفتون إلى مثلها، وإذا قيل لعظمائهم فيها، واحتج عليهم بها، طفقوا يحرفون ويؤولون، ويدعون أنها نزلت في الكافرين وهو مسلمون. أو يقولون هكذا قال شيوخنا إنما نحن مقلدون وهؤلاء الداعون إلى الكتاب ضالون مضلون، لأنهم يدعون لاجتهاد في الدين. وقد أقفل علماؤنا بابه منذ مئين من السنين.
ذكر تعالى ما يمتاز به المؤمن المتقي على الكافر بتبديل النعمة وتفريق الكلمة، وهو العلو في دار الكرامة، ثم أخبرنا أن رزق الدنيا ونعيمها ليس خاصا فيها بتقي ولا شقي بل هو مبذول لكل أحد وأنه قد يأتي من حيث لا يظن ولا يحتسب فقال :﴿ والله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ الحساب التقدير أي من غير تقدير له على حسب الإيمان والتقوى والكفر والفجور. وفيه وجه آخر وهو أنه كنية عن السعة وعدم التقتير والتضييق كقولهم : ينفق فلان بغير حساب. أي ينفق كثيرا. والمعنى أنه بذل العطاء في الدنيا لكل أحد بخلق الأرزاق وإقدار الناس على الكسب، وقيل إن المعنى بغير حساب عليه من أحد فهو الذي خلق ورزق وهو قدر فهدى من غير محاسبة أحد ولا مراجعته.
وقد بسط معنى هذا الكلام في آيات أخرى قال تعالى في سورة الإسراء :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا* ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا* انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾ ( الإسراء : ١٨- ٢١ ) فأنت ترى أنه لم يشترط السعي لرزق الدنيا لأنه قد يأتي بلا سعي كإرث وهبة ووصية وكنز، أو ارتفاع ما يملك من عقار وعروض بأسباب عامة. واشترط للآخرة السعي مع الإيمان كما خصنا هنا بالذين اتقوا من المؤمنين لأن الكلام فيهم. ثم ذكر أن عطاءه واسع مبذول لكل أحد ليس فيه حظر من الله تعالى فللمشمر تشميره، وعلى المقصر تقصيره، وفي الحساب هنا وجه آخر وهو الاحتساب والتقدير من جانب العبد فيكون بمعنى قوله تعالى في سورة الطلاق ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ ( الطلاق : ٢ ).
قال الأستاذ الإمام : إن الرزق بغير حساب ولا سعي في الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد فإنك ترى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار أغنياء موسورين متمتعين بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين، والمتقي يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا ومحلا لعناية الله تعالى به فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر. فهو يجد بالتقوى مخرجا من كل ضيق. ويجد من عناية الله رزقا غير محتسب. وأما الأمم فأمرها على غير هذا فإن الأمة التي ترونها فقيرة ذليلة معدمة مهينة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه بالجري على سننه الحكيمة وشريعته العادلة. ولم يكن من سنة الله تعالى أن يرزق الأمة العزة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر، ولا تعمل ولا تدبر، بل يعطيها بعملها، ويسلبها بزللها. وقد بين الأستاذ هذا المعنى غير مرة وتقدم في التفسير وهو مؤيد بآيات الكتاب المبينة لسنن الله العامة كقوله تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ ( الأنفال : ٢٥ ) فجعل وقوع الظلم سببا في وقوع البلاء على الأمة من ظلم منها ومن لم يظلم.
ومن الظلم ترك مقاومة الظلم حتى يفشو ويكون له السلطان الذي يذهب بكل سلطان. كقوله :{ ولا تنازعوا فت
( يقول المؤلف محمد رشيد رضا كتب تفسير هذه الآية الأستاذ الإمام باقتراح مني وأنا الذي وضعت الأرقام للسور والآيات في شواهد ما كتبه وهذا نصه ) :
تطلق الأمة في كتاب الله تعالى بمعنى الملة أي العقائد وأصول الشريعة كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء :﴿ إن هذه أمتكم واحدة وأنا ربكم فاعبدوني ﴾ ( الأنبياء : ٩٢-٩٣ ) بعدما ذكر من شأن جماعة الأنبياء صلوات الله عليهم، وكما قال في سورة المؤمنين :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعموا صالحا إني بما تعملون عليم* وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ﴾ ( المؤمنين : ٥١-٥٢ ) رجح كثير من المفسرين أن المراد من الأمة في الآيتين الملة أي العقائد وأوصول الشرائع، أي أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة ودين واحد قال :﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ ( آل عمران : ١٩ ) وقال كثير منهم إن الأمة في هذه الآية بمعنى الجماعة كما هي في قوله تعالى :﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ ( الإسراء : ١٨١ ) أي جماعة وكما في قوله :﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ ( آل عمران : ١٠٤ ) ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقا وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع يعتبرون بها واحدا، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة، وتكون بمعنى السنين كما في قوله تعالى :﴿ وادكر بعد أمة ﴾ ( يوسف : ٤٥ ) وبمعنى الإمام الذي يقتدى به كما في قوله :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله ﴾ ( النحل : ١٢٠ ) وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ ( آل عمران : ١١٠ ) وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة على ما ذكرنا وإنما خصصه العرف تخصيصا.
وقد حمل جمهور من المفسرين لفظ الأمة في هذه الآية على الملة ثم اختلفوا فيم كانت الملة فقال جمهورهم إنها ملة الهدي والدين القويم فيكون معنى الآية في رأيهم ﴿ كان الناس أمة ﴾ أي ملة ﴿ واحدة ﴾ قيمة الدين صحيحة العقائد جارية في أعمالها على أحكام الشرائع ﴿ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ﴾ ولما وجدوا أن المعنى لا يكون قويما لأنه لا معنى لإرسال الرسل إلى الأمم الصالحة المهتدية ليحكموا بينهم فيما يختلفون فيه، إذا لا يتأتى الاختلاف الذي يحتاج في رفعه إلى رسالة الرسل مع استقامة العمل والوقوف عند حدود الشرائع، قالوا لا بد من تقدير في العبارة فيكون الكلام كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، والقرينة على هذه القضية المقدرة قوله فيما بعد ﴿ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ﴾ وأنت ترى أن هذا بمنزلة أن تقول كان زيد عالما فبعث إليه من يعلمه ما كان نسيه من معلوماته، أو كان عاملا فأرسلت إليه من يعظه في العود على ما ترك من عمله، وتقول إن كلامي على تقدير كان عالما فنسي أو كان عاملا فترك العمل فبعثت إليه أو أرسلت إليه الخ. وهو مما لا يقبله ذوق عربي، فإذا كنت لا تراه لائقا بكلامك فكيف تجده لائقا بكلام الله أبلغ الكلام، وأولى قول يملك العقول والأفهام. ومما استدلوا به على صحة قولهم إن آدم عليه السلام كان نبيا وكان أولاده على ملته هادين مهتدين إلى أن وقع التحاسد بين ولديه وكان قتل أحدهما للآخر ما هو معروف، وإن الإنسان يولد على الفطرة السليمة الدين الحق، وإنما يعرض له ما ينحرف به عن الفطرة من تحكم الأهواء، وإغواء الشهوات، ورين الشبهات، ونحو ذلك، فلا ريب يكون للإنسان طور أول كان فيه خيرا عادلا واقفا عند الحق فيما يعتقد وما يعمل، ثم يعرض إليه ما يعرض من الميل إلى الشر والقبيح من الأعمال، ولكن هذه الأدلة لا تغير شيئا مما ذكرناه مختصا بتأليف الكلام، على أنه قد عرض على أولاد آدم من بعده أطوار كثيرة بلغ بهم الجهل في بعضها أن كانوا ملة واحدة في الكفر وفساد الأعمال، كما كانت الحال لعهد نوح وعهد إبراهيم من بعده، والآية لم تحدد زمن كان الناس أمة واحدة، وغاية ما في الأمر أن يكون النبيون المبعوثون مخصوصين بغير آدم أو نوح مثلا إذا حملت الأمة الواحدة على أمة الضلال، وملة الفساد والاعتلال.
ولذلك ذهبت طائفة أخرى وفي مقدمتهم ابن عباس وعطاء والحسن إلى أن الأمة الواحدة أمة الضلال، التي لا تهتدي بحق ولا تقف في أعمالها عند حد شريعة، واحتجوا على قولهم بهذا التعقب في الآية فإنه جعل بعثة الرسل تابعة لوحدة الأمة، ولا تكون كذلك حتى تكون الوحدة قاضية بالحاجة إلى إرسالهم ليحكموا بينهم في الاختلاف الذي يقع فيهم بسبب الفساد في العقائد، والذهاب مع الأهواء الضالة في الأعمال، واعتداء بعضهم على بعض لذلك، وانتهاكهم حرمة ما أمر الله برعاية حرمته، فيجب أن تكون وحدة الأمة واحدة في الباطل حتى يرد الحق عليه فيزهقه، وأما لو كانت الملة واحدة في الهدي واتباع الحق فلا معنى لجعل بعثة الرسل مرتبة عليها كما هو ظاهر. ودفعوا ما يقال : من أن آدم كان نبيا وكان من أولاده من بقي على شريعته فكيف يقال : إن الناس كانوا أمة واحدة على الباطل ( دفعوه ) بأن الحكم على الغالب فقد كان الناس لعهد نوح كفارا إلا القليل منهم، ومن المعروف أنه يقال دار كفر لمن كان أغلب سكانها كفارا وإن كان فيها مسلمون. وقد يجاب بما تقدم ذكره من تخصيص النبيين بما بعد آدم. ونوح من إبراهيم ومن بعده، ولكن المعنى كما تراه ليس ما تطمئن إليه النفس بعد النظر إلى آدم ورسالته، ومن بقي من أولاده على ملته.
وقال أبو مسلم والقاضي أبو بكر إن وحدة الأمة كانت فيما هو من مقتضى أصل الفطرة من الأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل، فكان الناس يهتدون بعقولهم، والنظر المحض في الآيات الدالة على وجود الصانع ووجوب شكره، ثم كانوا يميزون الحسن من القبيح، والباطل من الصحيح، بالنظر في المنافع والمضار، أو الاتفاق مع ما يليق بالله على حسب ما يرشد إليه العقل أو ما لا يليق، ولا ريب أن استسلام الناس إلى عقولهم بدون هداية إلهية مما يدعو إلى الاختلاف، بل كثيرا ما حالت الأوهام، دون الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام، فيكون الاختلاف مفهوما من معنى الوحدة على هذا التأويل وما سبقه ولهذا رتب عليها بعثة الأنبياء ليحكموا بما أنزل الله فيما اختلف فيه الناس. وقد أورد القاضي على نفسه مسألة آدم ورسالته وأجاب عنها بأنه الجائز أن يكون آدم وأولاده قد بدأ أمرهم على سنة الفطرة فكانوا من أهل النظر، ثم بعد أن كثر أولاده وظهر أن هداية العقل وحده لا تكفي في حفظ سلامة القلوب ولا صلاح الأعمال، أرسله الله إليهم بهداية إلهية من عنده، وأنه من المحتمل بل يكاد يكون من المحقق أنه طرأ على نسل آدم ما أنساهم شرعه فعادوا إلى استعمال عقولهم وحدها فعادت إليهم الوحدة فيما يؤدي إلى الاختلاف فبعث الله النبيين الخ.
وتوقف قوم في معنى الأمة وقالوا لا حاجة إلى البحث في أنها كانت أمة هداية أو أمة ضلال أو أمة عقل، وهو قول غاية في الغرابة لأنه ذهاب إلى ترك فهم الآية الكريمة ومعنى ترتيب بعثة الأنبياء على وحدة الأمة، اللهم إلا أن يكون القائل قد أراد ما سيأتي لنا ذكره إن شاء الله تعالى.
وأغرب من هذا القول قول بعض المفسرين ونقل عن مجاهد أن الناس هم آدم وحده وأنه كان أمة يقتدى به، ولا ندري ماذا يقول أصحاب هذا القول في تفسير بقية الآية ؟ نعود بالله من الخذلان.
ويزعم آخرون أن المراد من الآية أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه السلام ثم اختلفوا بغيا بينهم فأرسلت إليهم بكتب تهذبهم كما أرسل داود بزبوره وعيسى بإنجيله ليردوهم إلى الحق فيما اختلفوا فيه، وهو تخصيص للناس وللنبيين بما لا دليل عليه البتة كما لا يخفى.
قال ابن العادل نقلا عن القرطبي : ولفظة ﴿ كان ﴾ على هذه الأقوال على بابها من المضي ويحتمل أن تكون للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق لولا أن الله من عليهم بالرسل تفضلا منه فلا تختص بالمضي فقط بل يكون معناها كقوله :﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ ( النساء : ٩٦ ) اه.
وقد قارب الصواب في هذا الاحتمال الثاني وهو الذي كان يذهب الذهن إليه لأول الأمر لولا ما يشغل به من النظر في تلك الضروب من التأويل، فتفرق به السبل ويكاد يضل السبيل، ونحن ذاكرون لك إن شاء الله ما يجلي المعنى في الآية مقتفين أثر ابن العادل والقرطبي فيما قالاه في معنى كان وأنها للثبوت لا للمضي، غير أنا نقدم لك ما جاء في كتاب الله من وصف الأمة بالواحدة، والمعنى من ذلك الوصف في مواضعه المختلفة، ليكون في ذلك توضيح لما نقصد، وسند لنا فيما إليه نعمد، والله الموفق.
ورد وصف الأمة بالوحدة في قوله تعالى في سورة الأنبياء :﴿ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدوني وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ﴾ ( الأنبياء : ٩٢-٩٣ ) جاءت هذه الآية الكريمة [ إن هذه أمتكم ] الخ بعد ذكر جمع من الأنبياء صلوات الله عليهم وذكر ما كان من شأنهم مع قومهم والخطاب فيها للأنبياء كما يفسره قوله تعالى في سورة المؤمنين بعدما ذكر من أحوال الأنبياء والمرسلين وما كان من أقوامهم معهم ﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم* وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون* فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ ( المؤمنين : ٥١-٥٣ ) وقد جاء لفظ [ الأمة ] بالنصب في الآيتين على الحال والخبر قد تم في قوله :﴿ وإن هذه أمتكم ﴾ أي هذا الجمع من الأنبياء والمرسلين أمتكم أي جماعتكم حال أنها أمة واحدة، أي ليس جمعا تربطه الروابط البعيدة كما يقال أمة الهند على اختلاف مللها وتفرق كلمتها، بل هي أمة تربطها رابطة قريبة هي رابطة الاهتداء بنور الله والدعوة إلى توحيده، والقيام على شرعه وحمل الناس على اتباع أحكامه، فهي مجتمعة على أمر واحد لا تعدد فيه هو الحق والعدل، فهي جديرة بأن تكون أمة واحدة.
وإن شئت قلت كما قالوا إن الأمة بمعنى الملة في الآيتين، يراد بذلك أن الله يخبر المرسلين بأن هذا الذي سبق في الكلام من السير في الناس بهداية الله والمثابرة على ذلك وعدم المبالاة بما يكون منهم من تكذيب أو تثريب أو تعذيب، هذه هي ملتكم ودينكم وهو أمر واحد لا تعدد فيه، يأتي به السابق، ويتبعه عليه اللاحق، لا يختلف فيه نبي، عن نبي ولا يناكر فيه مرسل مرسلا.
هذا المعنى من الوحدة هو الذي جاء في قوله تعالى في سورة هود :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ ( هود : ١١٨ ) وفي قوله في سورة الشورى :﴿ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ﴾ ( الشورى : ٨ ) أي لو شاء ربك لخلق الناس على غريزة تميل إلى الحق، وفطرة يسطع فيها نور الهداية، إليه بدون حجاب من الهوى والشهوة أو ظلمة الفكر وستر ا
الآية متصلة بما قبلها فقد أمر الله تعالى بالوفاق والسلام، وبين سبب التنازع والخصام، وأرشد إلى ما فطر عليه البشر من حاجة بعضهم إلى التعاون مع بعض عند ما كثروا واجتمعوا وكثرت مطالبهم وتعددت رغائبهم، ومن إفضاء ذلك إلى التنازع والتعادي، ومن حاجتهم إلى نظام جامع وشرع يحدد الحقوق ويهدي القلوب، لا مجال فيه للنزاع والاختلاف، لوجوب أخذه بالتسليم لما معه أو لما فيه من البينات على أنه من عند الله، وذكر إحسان الله تعالى إليهم إذ بعث فيهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتاب ليحكم في الاختلاف. ثم ذكر اختلاف الذين أوتوا الكتاب في الكتاب نفسه وتحويلهم الدواء داء، واتخاذهم الرابطة الجامعة آلة مفرقة، ثم هداية الله تعالى أهل الإيمان الصحيح لما وقع الاختلاف فيه من الحق برجوعهم إلى الأصل وهو الكتاب، وتحكيمه في كل خلاف، وقبول حكمه في كل نزاع، والاعتماد في فهمه على ما يؤخذ من جملته، وما علم علما صحيحا من سنة من جاء به، ومن صدقوه واتبعوه قبل الخلاف.
بين الله تعالى هذه الأطوار في البشر فأنار لنا الطريق التي اهتدت فيها الأمم بعد ضلال. ثم ضلت بعد هداية، لنكون على بصيرة فيما نعمله للخروج من الخلاف بعد وقوعه، ولكن الذي يحاول الخروج من الخلاف يكون عرضة لبغي المختلفين وإيذائهم، وهكذا أهل الضلالة يبغون على أهل الهداية وإن كان هؤلاء يريدون خيرهم، سواء كان ما يحاولون هدايتهم فيه هو الضلال في طريق الفطرة والعقل، أم الضلال في تأويل الكتاب والتصرف في الشرع، ولذلك قفى على ذلك البيان كله بتمثيل حال الأولين الذين سلكوا سبيل الهداية في أنفسهم وتصدوا لهداية الناس وإرشادهم إلى السلم والوفاق فقال :
﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم ﴾ الخ الخطاب موجه إلى الذين هداهم الله تعالى إلى السلم والخروج من ظلمه الخلاف إلى نور الكتاب الذي أنزل لإزالته في زمن النزول وفي كل زمن يأتي بعده. وتوجيهه أولا وبالذات إلى أهل الصدر الأول من المسلمين الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس أكبر عبرة وموعضة لمن يأتي بعدهم ويحسبون أنهم بمجرد الانتماء إلى الإسلام يكونون أهلا لدخول الجنة، جاهلين سنة الله تعالى في أهل الهدى منذ خلقتهم، وهي تحمل الشدائد والمصائب والضرر والإيذاء في طريق الحق، وهداية الخلق. وعجيب من أمة ينطق كتابها بالآيات البينات على أن سنة الله في خلقه واحدة لا تحويل لها ولا تبديل، ويحثها دائما على الاعتبار بها والسير في الأرض لمعرفة آثارها في الأمم البائدة والأمم الحاضرة، ثم هم يحولون هذه السنة عنهم، ويفشو فيهم الإنكار على من يعظهم، بما حكى الله تعالى عن حال تلك الأمم التي كفرت بنعمة الله تعالى عليها بالسلم والهداية قائلين إنه يقيس المسلمين على الكافرين ! !
﴿ أم ﴾ ههنا هي الواقعة في طريق الاستفهام وهي تشعر بمحذوف دل عليه الكلام في وصف الذين خلوا من قبلنا وما نالوا من البأساء والضراء، كأنه يقول قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا. أفتصبرون مثلهم على المكاره، وتثبتون ثباتهم على الشدائد ؟ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله تعالى من غير أن تفتنوا في سبيل الحق فتصبروا على ألم الفتنة وتؤذوا في الله فتصبروا على الإيذاء كما هي سنة الله تعالى في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان ؟ قرر الأستاذ معنى الآية على هذا الوجه وقال إنه معنى ظاهر من الآية يسبق إلى ذهن كل قارئ، وإن لم يستطع كل أحد التعبير عنه وإذا جعلت ﴿ أم ﴾ بمعنى الإضراب والاستفهام معا كما قال المفسر ( الجلال ) بطل هذا المعنى الذي يملك النفس ويؤثر في الوجدان.
قيل إن الآية نزلت في غزوة أحد حين غلب المشركون المؤمنين وشجوا رأس النبي صلى الله عليه وسلم وكسروا رباعيته. وقيل إنها نزلت في غزوة الأحزاب إذ اجتمع المشركون مع أهل الكتاب وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين وقطع دابرهم، وأصاب المؤمنين يومئذ ما أصابهم من الجهد والشدة والجوع والحاجة وضروب الأذى، وإذ انتفض المنافقون على المؤمنين الصادقين، وقالوا كما قال الذين في قلوبهم مرض ﴿ ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ﴾ ( السجدة : ١٢ ) وإذ جاءهم الأعداء من فوقهم ومن أسفل منهم، وإذ رأى المؤمنون الصادقون الأحزاب متحزبة عليهم فقالوا على قلتهم وضعفهم وجوعهم وعريهم ﴿ هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله : وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ﴾ ( الأحزاب : ٢١ ).
أمثال هؤلاء يخاطبهم الله تعالى بقوله :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل كمثل الذين خلوا من قبلكم ﴾ أي وإلى الآن لم يصبكم ما أصاب الذين سبقوكم بالإيمان والهدى والدعوة إلى الحق من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فالمراد بالمثل الوصف العظيم والحالة التي لها شأن بحيث يضرب بها المثل. أي لم تكن لكم هذه الحال الشديدة إلى الآن. وهذا النفي المستغرق مما يوجه الأذهان إلى طلب العلم بما أصاب أولئك الأقوام، ولذلك وصله بالبيان فقال :﴿ مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ﴾ البأساء الشدة تصيب الإنسان في غير نفسه وبدنه كأخذ المال والإخراج من الديار وتهديد الأمن ومقاومة الدعوة، وفسره الجلال بالمرض وهو بعضه، وأما الزلزال فهو الاضطراب في الأمر يتكرر حتى يكاد يزل صاحبه عنه، وهذا الحرف فيه لفظ زل مكررا ومعناه زلق وانحرف، فزلزله بمعنى هزه ودعه ليزله عما هو عليه، أي أنهم وصلوا إلى درجة حدوث الاضطراب والإشراف على الزلل في مجموعتهم كما قال تعالى في المؤمنين يوم الأحزاب ﴿ وزلزلوا زلزالا شديدا ﴾ ( الأحزاب : ١١ ) والآية التي نفسرها تصرح بأن بعض السابقين كانوا أشد زلزالا من هذا الذي وقع للمسلمين في يوم الأحزاب.
ولعل الغاية التي وصلوا إليها ولم يصل إليها سلفنا هي قوله تعالى :﴿ حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ﴾ أي حتى وصلوا إلى غاية من الشدائد والأهوال لم يروا فيها منفذا لسبب الفرز لأن قوة أعداء الحق أحاطت بهم من كل جانب ودنت حتى أخذت بأكظامهم١، فاعتقدوا أن وقت العناية الإلهية والنصر الذي وعد الله به من ينصر الحق قد حان وقته أو أبطأ فاستعجلوه بقولهم : متى نصر الله ؟ فأجابهم تعالى :﴿ ألا إن نصر الله قريب ﴾ بأن نصرهم وكف عنهم شر أهل البغي وأيد دعوتهم وجعل كلمتهم العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى وكان الله قويا عزيزا ومثل هذه بل أشد قوله تعالى :﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ﴾ ( يوسف : ١١٠ ).
فالرسول هنا للجنس وقد ذكرت هذه الغاية في الشدة بصيغة المضارع تصويرا لها كأنها حاضرة، ليتمثل المخاطب هولها وشدتها فيخفف عنده ما يجده مما هو دونها. وما من شدة تصيب الأمم إلا وهي دون الشدة التي يستعجل بها رسل الله تعالى نصر الله استبطاء له وهو أعلم الناس بالله تعالى وأشدهم اتكالا عليه وتسليما له. ولعمري إن المسلمين لم يصلوا في تلك الشدة التي حملت عليها الآية إلى تلك النهاية التي قال فيها أولئك الرسل ما قالوا ولقد قتل بعض النبيين ضروبا من القتل حتى ورد أن منهم من نشر بالمنشار حيا وناهيك بأصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار ﴿ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ﴾ ( البروج : ٨ ).
وحاصل معنى الآية لوم المؤمنين على ذلك الحسبان وبيان أن ما كانوا فيه من الشدة والألم في وقعة الأحزاب أو وقعة أحد إن صح أن الآية نزلت في ذلك الوقت أو في عامة أحوالهم قبل فتح مكة إذ كانوا يألمون من منازعة المشركين واليهود والمنافقين ويقاسون من جحودهم وكيدهم ما يقاسون كل ذلك قليل في جنب ما قاسى غيرهم ممن سبقهم بالإيمان والهدى إذ كان استعداد البشر أضعف وقسوتهم أشد وعنادهم أقوى.
جاء في معنى هذه الآية آيات أقربها منها لفظا ومعنى قوله تعالى :﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾ ( آل عمران : ١٢ ) وهذه نزلت في غزوة أحد لا محالة وأما قوله تعالى :﴿ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله وليجة والله خبير بما تعلمون ﴾ ( التوبة : ١٦ ) فقد قيل إنه خطاب المؤمنين وقيل للمنافقين. ومن خطاب المؤمنين في مثل هذا المقام قوله في سورة ألم العنكبوت :﴿ آلم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾ ( العنكبوت : ١-٣ ) إلى قوله :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ﴾ ( العنكبوت : ١٠ ).
فهذه الآيات وأمثالها تؤيد الآية التي نفسرها في ابتلاء الله المؤمنين الصادقين الداعين إلى الحق، ولكنك تجد أكثر المسلمين الذين تتلى عليهم دائما في غفلة عنها، فمن لم يغفل عن تصور المعنى في ذهنه يغفل عن انطباقه على الواقع، ولذلك تجد الكثيرين منهم يذهبون إلى أن من يؤذى في سبيل الحق بالقول أو الفعل، كان وقوع الأذى عليه دليل على أنه مبطل لا يطلب الحق ! ! فما أجهلهم بكتاب الله ؟ وما أبعدعم عن العلم بسنن لله ؟ وما أغفلهم عن تأويلهما في خلق الله ؟
اتخذ المسلمون هذا القرآن مهجورا إلا ما يتغنون به من بعض سوره في المحافل الجامعة، ففقدوا روح الدين، وتبع الروح الجسمان إلا قليلا من الرسوم الماثلة، في جانب بروج البدع المشيدة، وإنما أبقى على تلك الرسوم تمسك العوام بها، فلولاهم لما بالى الأمراء والرؤساء الذين لا قوام لعظمتهم إلا خضوع العامة لهم، لذلك جعلوا الدين رابطة سياسية وآلة لإخضاع العامة، ولذلك يحاربون من يدعو الأمة إلى الكتاب العزيز، ويستعينون عليه بعلماء الرسوم الذين يستمدون سلطتهم ورزقهم وجاههم منهم، لئلا تتوجه نفوس الجمهور إلى الكتاب، فيعرو رياستهم الزلزال والاضطراب.
هذا هو الحجاب بين الأمة وبين الاعتبار بالقرآن والاهتداء بهديه.
المسلم العارف بتاريخ دينه يعرف قيمة أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلم العامي المقلد يعظمهم في خياله وشعوره، أشد مما يعظمهم العارف في فكره وقلبه، حتى أن الكثيرين أو الأكثرين من المسلمين يكادون يرفعونهم عن مرتبة البشر، ويكاد تعظيمهم إياهم يشبه العبادة، ولكن ما بال هؤلاء وأولئك لا يعتبرون بما خاطبهم الله تعالى به في مثل هذه الآية، ولا يتأملون كيف عاتبهم الله تعالى هذا العتاب الشديد على ظنهم وحسبانهم أنهم يدخلون الجنة وهم لم يقاسوا من البأساء والضراء واحتمال الشدائد في سبيله ما قاسى الذين سبقوهم بالإيمان، حتى استحقوا الجنة ؟
يقول الأستاذ الإمام : إن الآية عتاب لهم، وقال غيره من المفسرين إنها إنكار عليهم، هذا القول أشد من قوله. فكيف لا ينكر مسلم على نفسه مثل هذا وهو يعلم أنه دون الصحابة الكرام إيمانا وإسلاما دعوة إلى الحق وصبرا على المكاره في سبيله ؟ لماذا لا ينكر على نفسه وعلى من يراه من أمثاله الذين يقولون آمنا بالله، فإذا
قلنا في تفسير قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ ( البقرة : ١٧٢ ) الخ إن ما تقدم من أول السورة إلى تلك الآية كان في القرآن والرسالة وإن تلك الآية وما بعدها إلى قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ﴾ ( البقرة : ٢٤٣ ) في سرد الأحكام العملية. ثم أشرنا إلى هذا بعد ذلك وقلنا إنه لا حاجة إلى التناسب بين كل آية وما يتصل بها، ويظهر هذا أتم الظهور إذا كانت الأحكام المسرودة أجوبة لأسئلة وردت أو كان من شأنها أن ترد للحاجة إلى معرفة حكمها كهذه الآية. على أن ما تقدم من بيان التحام آيات القرآن والتئامها غريب، حتى في سرد الأحكام التي يظهر بادي الرأي أن لا تناسب بينها. فقوله تعالى :﴿ يسألونك ماذا ينفقون ﴾ الخ متصل بما قبله في المغزى ؛ فإن الآيات السابقة دلت على أن حب الناس لزينة الحياة الدنيا هو الذي أغراهم بالشقاق والخلاف، وأن أهل الحق والدين هم الذين يتحملون البأساء والضراء في سبيل الله وابتغاء مرضاته، ومنها ما يصيبهم في أنفسهم وأموالهم، وذلك مما رغب الإنسان في الإنفاق في سبيل الله، وبذل المال كبذل النفس كلاهما من آيات الإيمان، فكأن السامع لما تقدم تتوجه نفسه إلى البذل فيسأل عن طريقه فجاء بعده السؤال مقرونا بالجواب.
وقد ورد في أسباب النزول أن السؤال وقع بالفعل. أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم فنزلت الآية. وأخرج ابن المنذر عن أبي حيان أن عمرو بن الجموح سأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها ؟ فنزلت. قال بعض المفسرين إن هذه من رواية أبي صالح عن ابن عباس وقال غيره إنها من رواية الكلبي عنه وهي واحدة قالوا : إنها أوهى الروايات عنه. وعن عطاء عنه أنها نزلت في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي دينارا فقال :( أنفقه على نفسك ) قال إن لي دينارين قال ( أنفقهم على والديك ) قال إن لي خمسة قال ( أنفقها على قرابتك ) قال إن لي ستة قال ( أنفقها في سبيل الله تعالى ) ١. هكذا أورد الحديث بعض المفسرين وهو عند أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة بسياق آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( تصدقوا ) فقال رجل عندي دينار قال ( تصدق به على نفسك ) قال عندي دينار آخر قال ( تصدق به على زوجك ) قال عندي دينار آخر قال ( تصدق به على ولدك ) قال عندي دينار آخر قال ( تصدق به على خادمك ) قال عندي دينار آخر قال ( أنت أبصر به ) ٢. ورواه أبو داود ولكنه قدم الولد على الزوجة ورواه أيضا الشافعي وابن جبان والحاكم ولم يذكروا أن ذلك كان سبب نزول الآية.
وقد زعم كثير من المفسرين أن الجواب غير مطابق للسؤال لأنه بيان لمن ينفق عليه لا لما ينفق، وخرجوها على أسلوب الحكيم، كأنه قال إنه ينبغي السؤال عمن ينفق عليه لا عن جنس ما ينفق أو نوعه. وليس ما قالوا بصواب، فإن جعل السؤال بما خاصا بالسؤال عن الماهية والحقيقة من اصطلاح علماء المنطق لا من أساليب العربية. قال الأستاذ الإمام : ليس المراد السؤال عن الجنس ما ينفق أو نوعه، من ذهب أو فضة أو بر أو شعير وإنما السؤال عن كيفية الإنفاق وتوجهيه إلى الأحق به، وذلك مفهوم لكل عربي وليس أسلوب القرآن جاريا على مذهب أرسطو في منطقه وإنما هو بلسان عربي مبين.
وسبق القفال إلى بيان ذلك فقال إنه كان السؤال واردا بلفظ " ما " إلا أن المقصود السؤال عن الكيفية لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى، وإذا كان هذا معلوما لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو ؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مرادا تعين أن المطلوب بالسؤال مصرفه أي شيء هو ؟ حينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال، ونظيره قوله تعالى :﴿ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون* قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول ﴾ ( البقرة : ٦٩-٧٠ ) الخ إنما كان الجواب موافقا لذلك السؤال لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي نشأتها وصفتها كذا فقوله ﴿ ما هي ﴾ لا يمكن حمله على طلب الماهية فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها، فبهذا الطريق قلنا إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال، فكذا ههنا لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو، وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم ﴿ ماذا ينفقون ﴾ ليس هو طلب الماهية بل طلب المصرف فلهذا حسن هذا الجواب. اه.
وقيل إن السؤال كان عن الأمرين ما ينفق وأين ينفق كما في بعض الروايات فذكر في إيراده عنهم الأول وحذف الثاني للعلم به ودلالة الجواب عليه، فإنه ذكر فيه الأمرين وهو قوله تعالى :﴿ قل ما أنفقتم من خير ﴾ وهذا هو المنفق والخير هو المال وتقدم في تفسير ﴿ إن ترك خيرا الوصية للوالدين ﴾ ( البقرة : ١٨٠ ) أن الأكثرين قيدوه بالكثير، ولكن قوله هنا من خير يعم القليل والكثير لدخول ﴿ من ﴾ التبعيضية عليه وتنكيره. وقيل بعضهم إن التعبير عن المال بالخير يتضمن كونه حلالا فكأنه قال إن الإنفاق والتصدق يكون من فضل المال الكثير الحلال الطيب.
وأما بيان المصرف فهو قوله ﴿ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ قدم الوالدين لمكانتهما وفسروا الأقربين بالأولاد وأولادهم ولا شك أن أقرب الناس إلى المرء أولاده إن وجدوا، وإلا كان أقربهم إليه بعد والديه إخوته، وما اختير لفظ الأقربين هنا إلا لبيان أن العلة في التقديم القرابة فمن كان أقرب كان أحق بالتقديم. وكأن الذين حملوا لفظ الأقربين على الأولاد عند الحاجة أرادوا جعل الآية للنفقة الواجبة في الفقه، وهي تجب للوالدين والأولاد عند الحاجة بالإجماع، والنفقة في الآية أعم، وهؤلاء اليتامى والمساكين لا يجب على فرد معين من المكلفين الإنفاق على يتيم أو مسكين معين منهم من حيث إنه يتيم أو مسكين، ولكنهم أحق بالصدقة المفروضة والمندوبة بعد الأقربين، فالآية عامة في النفقة وأحق الناس بها. ومن أغرب ما قيل فيها زعم بعضهم أنها منسوخة بآية المواريث كأنها اشتبهت عليهم بآية الوصية للوالدين والأقربين على أن دعوى النسخ هناك لم تسلم لهم، فكيف بها هنا وقد ردها عليهم الجماهير.
ثم قال تعالى :﴿ وما تفعلوا من خير ﴾ كالإنفاق في موضعه بتقديم الأحق فالأحق به ممن ذكر وهو ما يوجد في كل زمان ومكان وممن لم يذكر في هذه الآية وذكر في غيرها كالرجال تعرض له الحاجة فتدفعه إلى السؤال لا من يتخذ السؤال حرفة وهو قادر على الكسب وكالمكاتب يساعد على أداء نجومه وكغير الإنفاق من أعمال الخير ﴿ فإن الله به عليم ﴾ لا يغيب عنه فينسى الجزاء والمثوبة عليه بل يجزي به مضاعفا.
٢ أخرجه النسائي في الزكاة باب ٥٤، وأحمد في المسند ٢/٢٥١، ٤٧١..
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والبيهقي في سننه من طريق زيد بن رومان عن عروة قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش ـ وهو ابن عمته ـ في ثمانية من المهاجرين في رجب مقفلة١ من بدر الأولى وكتب له كتابا يعلمه فيه أين يسير فقال ( أخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك فانظر فيه فما أمرتك به فامض له، ولا تستكره أحدا من أصحابك على الذهاب معك ) فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه أن امض حتى تنزل نخلة فاتنا من أخبار قريش بما اتصل إليك منهم، ولم يأمره بالقتال فقال لأصحابه ـ وكانوا ثمانية ـ حين قرأ الكتاب سمعا وطاعة من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فأنا ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحدا : فمضى القوم معه حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عليه يطلبانه، ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله وأشرف لهم عكاشة بن حصن وكان قد حلق رأسه.
فلما رأوه حليقا قالوا عمار ليس عليكم منهم بأس، وأتمر بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى، فقالوا لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام، ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة الحرم فليمتنعن منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل، وأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم ( والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ) فأوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا. فلما قال لهم رسول الله ما قال سقط في أيديهم ( أي ندموا ) وظنوا أن قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال واستحل الشهر الحرام، فنزل قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام ﴾ الآية فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العير وفدى الأسيرين.
وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أيحل القتال في الشهر الحرام ؟ فنزلت. هكذا أورد القصة بعض المفسرين وقوله في صدرها " في رجب الخ " يختلف مع قوله بعد " وكان آخر يوم من جمادى " وذكروا أن هذه القصة كانت قبل غزوة بدر بشهرين وبعد الهجرة بسبعة أشهر. وأخرجها السيوطي في أسباب النزول عمن ذكر ما عدا ابن إسحاق من حديث جندب بن عبد الله مختصرة وقال إنهم قتلوا ابن الحضرمي ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى وقال في آخرها : فقال بعضهم إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله ﴿ إن الذين آمنوا والذين هاجروا ﴾ الآية ومشى على ذلك في التفسير. قال الأستاذ الإمام إن كلامه يفيد أن الآيات نزلت متفرقة والصواب أن الآيات الثلاثة نزلت في قصة واحدة مرة واحدة.
﴿ كتب عليكم القتال ﴾ الخ قالوا إن هذه أول آية فرض فيها القتال وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة وقد كان القتال ممنوعا فأذن فيه بعد الهجرة بقوله تعالى في سورة الحج ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ﴾ ( الحج : ٣٩ ) الآيات ثم كتب في هذه السنة. ونقل عن ابن عمر وعطاء أن القتال كان واجبا في ذلك الوقت على الصحابة فقط وأن هذا هو المراد من الآية. وذهب السلف إلى أن القتال مندوب إليه واستدلوا بقوله تعالى في سورة النساء ﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ﴾ ( النساء : ٩٥ ) وهو مردود بأن القاعدين هنا هم أولو الضرر العاجزين عن القتال لما نطقت به الآية وأما القاعدين كراهة في القتال فحكمهم في سورة براءة، وقيل إن القتال يجب في العمر مرة واحدة.
وقد انعقد الإجماع بعد هذا الخلاف الذي كان في القرن الثاني على أن الجهاد من فروض الكفاية إلا أن يدخل العدو بلاد المسلمين فتحا فيكون فرض عين. أما قوله تعالى ﴿ وهو كره لكم ﴾ فقد عده بعضهم من المشكلات إذ كيف يكره المؤمنون ما يكلفهم الله تعالى إياه وفيه سعادتهم، وحمله جمهور المفسرين على الكره الطبيعي والمشقة وهذا لا ينافي الرضى به والرغبة في القيام بأعبائه من حيث إنه مما أمر الله وجعل فيه المصلحة لحفظ دينه كما قال في آيات الإذن به من سورة الحج ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد ﴾ ( الحج : ٤٠ ) الخ.
وقوله ﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ﴾ معناه أن من الأشياء المكروهة طبعا ما تأتونه وأنتم ترجون نفعه وخيره كشرب الدواء البشع المر، ومن الأشياء المستلذة طبعا ما يتوقع فاعلها الضر والأذى في نفسه أو من جهة منازعة الناس له فيه هذا تقرير ما قاله المفسرون ولكن الأستاذ الإمام قال إنه لا يظهر على هذا معنى وجيه لقوله عز وجل ﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ لأن هذا مما يعلمه الناس ويتوقعونه لا مما هداهم الكتاب إليه بعد أن كانوا غائبين عنه، والصواب أن ﴿ عسى ﴾ في مثل هذا المقام تفيد أن ما دخلت عليه من شأنه أن يقع، لا أنه مرجو من المتكلم ومتوقع، وأن الكره محمول على غير ما حملوه عليه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والعرب في قتال مستحر، ونزاع مستمر، وكان الغزو للسلب والنهب، من أعظم أسباب الكسب، وكان الصحابة قد ألفوا القتال واعتادوه ومرنوا عليه فلم يكن عندهم مكروها بالطبع، ولكنهم كانوا يرون أنفسهم فئة قليلة حملت هذا الدين واهتدت به ويخشون أن يقاوموا المشركين بالقوة فيهلكوا ويضيع الحق الذي هدوا إليه وكلفوا إقامته والدعوة إليه.
وثم وجه آخر وهو أن كرههم للقتال لم يكن خوفا على أنفسهم أي يبيدوا ولا على الحق الذي حملوه أن يضيع، وإنما هو حب السلام والرحمة بالناس التي أودعها القرآن في نفوسهم، وثبتها الإيمان في قلوبهم، واختيار مصابرة الكفار ومجادلتهم بالدليل والبرهان، دون مجادلتهم بالسيف والسنان، رجاء أن يدخلوا في السلم كافة ويتركوا خطوات الشيطان، وعلى هذا الوجه يظهر من معنى ﴿ عسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ﴾ ما لا يظهر في المعنى الذي قبله ويفيد قوله ﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ أن قياسكم جميع الكافرين على أنفسكم، وتوقعكم أن يزين لهم من الإيمان ما زين لكم، هو من الأقيسة الباطلة، فإن الاستعداد في الناس يتفاوت تفاوتا عظيما، فمنهم من ساءت خليقته، وأحاطت به خطيئته، حتى لم يبق لروح الحق منفذ إلى عقله، ولا لحب الخير طريق إلى قلبه، فلا تنفع فيه الدعوة، ولا ترجى له الهداية، ومثل هذا الفريق في الأمة كمثل الدم الفاسد في الجسم إذا لم يخرج منه فإنه يفسده.
ولم يأمر الله بقتالهم، إلا رحمة بمجموع الأمة أن يفسد بهم، فلا يقاسون على من سلمت فطرتهم وحسنت سريرتهم، وحتى كان وقوعهم في الباطل جهلا منهم بالحق وإصابتهم بعض الشر، لعدم التمييز بينه وبين الخير، وأنتم أيها المؤمنون لا تعلمون كنه استعداد الناس ولا ما يكون من أثره في مستقبلهم، وإنما الله هو الذي يعلم ذلك فامتثلوا أمره.
وأما معناه على الوجه الأول مما أورد الأستاذ الإمام فهو أن سنة الله تعالى قد مضت بأن ينصر الحق وحزبه على الباطل وأحزابه ما استمسك حزب الله بحقهم فأقاموه ودعوا إليه ودفعوا عنه، وأن القعود عن المدافعة ضعف في الحق يغري به أعداءه ويطعمهم بالتنكيل بحزبه، حتى يتألبوا عليهم ويوقعوا بهم، وأنه قد سبق في علم الله تعالى أن الله لا بد أن يظهر دينه وينصر أهله على قلتهم، ويخذل أهل الباطل على كثرتهم ﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ ( البقرة : ٢٤٩ ) وقد علم الله كل هذا وأنتم لا تعلمون ما خبأ لكم في غيبه، وستجدونه في امتثال أمره، والعمل بما يرشدكم إليه في كتابه.
ومن عجيب ما ترى العينان نقل المفسرين بعضهم عن بعض أن المراد بقوله تعالى ﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا ﴾ جميع التكاليف التي أمروا بها، وبقوله تعالى ﴿ وعسى أن تحبوا شيئا ﴾ جميع ما نهوا عنه. ولا يوجد مسلم على وجه الأرض يكره طبعه وتستثقل نفسه جميع ما أمر الله تعالى به، وتحب جميع ما نهاه عنه، ولكن التقليد يذهب المرء عن نفسه وما تحب وتكره، وعما يراه ويعرفه في الناس بالمشاهدة والاختبار. فليتأمل القارئ الفرق بين هذا القول الذي يعرف بطلانه من نفسه وبين ما قاله الأستاذ الإمام، يعرف قيمة استعمال العقل فيما خلق له من غير تقييد بالتقليد وكم ترك الأول للآخر.
فلما رأوه حليقا قالوا عمار ليس عليكم منهم بأس، وأتمر بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى، فقالوا لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام، ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة الحرم فليمتنعن منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل، وأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم ( والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ) فأوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا. فلما قال لهم رسول الله ما قال سقط في أيديهم ( أي ندموا ) وظنوا أن قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال واستحل الشهر الحرام، فنزل قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام ﴾ الآية فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العير وفدى الأسيرين.
وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أيحل القتال في الشهر الحرام ؟ فنزلت. هكذا أورد القصة بعض المفسرين وقوله في صدرها " في رجب الخ " يختلف مع قوله بعد " وكان آخر يوم من جمادى " وذكروا أن هذه القصة كانت قبل غزوة بدر بشهرين وبعد الهجرة بسبعة أشهر. وأخرجها السيوطي في أسباب النزول عمن ذكر ما عدا ابن إسحاق من حديث جندب بن عبد الله مختصرة وقال إنهم قتلوا ابن الحضرمي ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى وقال في آخرها : فقال بعضهم إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله ﴿ إن الذين آمنوا والذين هاجروا ﴾ الآية ومشى على ذلك في التفسير. قال الأستاذ الإمام إن كلامه يفيد أن الآيات نزلت متفرقة والصواب أن الآيات الثلاثة نزلت في قصة واحدة مرة واحدة.
بعد ما بين سبحانه أن القتال كتب على هذه الأمة فلا مفر منه، وإن كرهه المؤمنون خشية أن يضيع الحق بهلاك أهله، أو لما أودع القرآن قلوبهم من الرحمة، والرجاء بجذب الناس إلى الإيمان بجاذب الدليل والحجة، وهو الأرجح بين سبحانه مسألة لا بد في هذا المقام من بيانها للحاجة إلى العلم بها، على أنه وقع السؤال عنها، وهي مسألة القتال في الشهر الحرام فقد كانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقر الناس على غير القبيح مما كانوا عليه، وترك القتال أربعة أشهر من السنة حسن لأنه تقليل للشر، لذلك كان لما فعله عبد الله بن جحش وأصحابه وقع سيء عند المسلمين والمشركين جميعا، على أنهم لم يكونوا يعلمون عند أخذ العير وقتل من قتلوا أن ذلك اليوم غرة رجب.
قيل إن السائلين هم المؤمنون وقيل هم المشركون وقد تقدمت الرواية في ذلك، وسياق الآية رد على المشركين، وإرشاد للمؤمنين، وهي ﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ﴾ أي عن القتال فيه وقرئ ﴿ عن قتال فيه ﴾ بتكرير العامل وقدم ذكره للعناية به، ونكر القتال في السؤال والجواب لتنويعه كأنه قيل أيصح أن يقع فيه قتال ما ؟ ﴿ قل قتال فيه كبير ﴾ أي أن أي قتال فيه وإن كان صغيرا في نفسه أمر كبير مستنكر وقوعه فيه لعظم حرمته وقال بعضهم معناه ذنب كبير وهذا تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام، قال ابن جريج حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرام ولا في الأشهر الحرم إلا في سبيل الدفاع، وإن هذا حكم باق إلى يوم القيامة. وقال بعضهم إنه منسوخ بقوله تعالى في سورة التوبة ﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ ( التوبة : ٥ ) وأنكر بعضهم هذا لأنه نسخ للخاص بالعام وفيه خلاف. وقال آخرون إن الآية لا تدل وعبارة البيضاوي والأولى منع دلالة الآية على حرمة القتال في كل الشهر الحرام مطبقا لأن لفظ ﴿ قتال ﴾ فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم وهذا القول غير ظاهر فإن دلالة الآية على المنع المطلق لا يتوقف على كون لفظ القتال فيها عاما، وربما كانت دلالة النكرة فيها أدل على إطلاق الحكم في كل قتال في جنس الشهر الحرام كما بيناه في معنى تنكيرها وكونه للتنويع. ولهم في الآية كلام كثير، والظاهر المتبادر أن إثبات كون القتال في الشهر الحرام كبيرا تمهيد للحجة على أن ما فعله عبد الله بن جحش وما عساه يفعله المسلمون من القتال فيه مبني على قاعدة لا ينكرها عقل، وهي وجوب ارتكاب أخف الضررين إذا لم يكن بد من أحدهما.
ولاشك أن القتال في نفسه أمر كبير وجرم عظيم، وإنما يرتكب لإزالة ما هو أعظم منه وذلك قوله تعالى ﴿ وصد عن سبيل الله ﴾ أي وصد الناس ومنعهم عن الطريق الموصل إليه تعالى وهو الإسلام وهو الذي يفعله المشركون من اضطهاد المسلمين وفتنتهم عن دينهم إذ يقتلون من يسلم أو يؤذونه في نفسه وأهله وماله، ويمنعونه من الهجرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ﴿ وكفر به ﴾ أي بالله تعالى ﴿ والمسجد الحرام ﴾ أي صد عن المسجد الحرام وهو منع المؤمنين من الحج والاعتمار ﴿ وإخراج أهله منه ﴾ وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين وذلك كقوله في آيات الإذن بالقتال في سورة الحج ﴿ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ ( الحج : ٤٠ ) كل واحدة من هذه الجرائم التي عليها المشركون ﴿ أكبر عند الله ﴾ من القتال في الشهر الحرام فكيف بها وقد اجتمعت.
ثم صرح بالعلة العامة لمشروعية القتال وهي فتنة الناس عن دينهم فقال ﴿ والفتنة أكبر من القتل ﴾ وكان المشركون يفتنون المؤمنين عن دينهم بإلقاء الشبهات وبما علم من الإيذاء والتعذيب، كما فعلوا بعمار بن ياسر وعشيرته، وبلال وصهيب وخباب بن الأرث وغيرهم. كان عمار يعذب بالنار يكوى بها ليرجع عن الإسلام، وكان الني صلى الله عليه وآله وسلم يمر به فيرى أثر النار به كالبرص وعن أم هاني قالت إن عمار بن ياسر وأباه وأخاه عبد الله وسمية أمه كانوا يعذبون في الله فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة ) وفي رواية ( صبرا يا آل ياسر اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت ).
مات ياسر في العذاب وأعطيت سمية أم عمار لأبي جهل يعذبها وكانت مولاة لعمه أبي حذيفة بن المغيرة وهو الذي عهد إليه بتعذيبها فعذبها عذابا شديدا رجاء أن تفتن في دينها فلم تجبه لما يسأل، ثم طعنها في فرجها بحربة فماتت رضي الله عنها وكانت عجوزا كبيرة، وكان أبو جهل يقول لها مع ذلك : ما آمنت بمحمد إلا أنك عشقته لجماله : يؤذيها بالقول كما يؤذيها بالفعل. وكان يلبس عمار درعا من الحديد في اليوم الصائف يعذبه بحره. وكان أمية بن خلف يعذب بلالا يفتنه فكان يجيعه ويعطشه ليلة ويوما ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء، أي يضعه على الرمل المحمي بحرارة الشمس الذي ينضج اللحم، ويضع على ظهره صخرة عظيمة ويقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وتعبد اللات والعزى. فأبي ذلك وهانت عليه نفسه في الله عز وجل، وكانوا يعطونه للولدان فيربطونه بحبل ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول " أحد، أحد ". وحكى خباب رضي الله عنه عن نفسه قال لقد رأيتني يوما وقد أوقدت لي نار وضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك ( دهن ) ظهري.
فهذا نموذج من فتنة المشركين لضعفاء المسلمين وما امتنع منهم إلا من له عصبة من قومه عز عليهم إبساله فمنعوه حمية وأنفة للقرابة. على أن النبي صلى الله عليه وسلم على منعة قومه وعناية الله تعالى به لم يسلم من إيذائهم فقد وضعوا سلا الجزور ( كرش البعير المملوء فرثا ) على ظهره وهو يصلي وخاف أصحابه تنحيته عن ظهره، حتى نحته السيدة فاطمة رضي عليها السلام وتعرضوا له بضروب من الإيذاء كفاه الله شرها كما قال تعالى :﴿ إنا كفيناك المستهزئين ﴾ ( الحجر : ٩٥ ) وسيجيء ذكرهم وبيان إيذائهم في موضعه إن شاء الله تعالى.
هذا ما كان المشركون يعاملون به المؤمنين في حال ضعفهم، ولما هاجروا وكثروا صاروا يقصدونهم بالقتال في مهجرهم لأجل الدين، ولذلك قال تعالى :﴿ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ﴾ عاد إلى خطاب المؤمنين الذين كانوا يكرهون القتال لما تقدم، فأعلمهم أن أولئك المشركين لا هم لهم إلا منع الإسلام من الأرض، فترك قتالهم هو الذي يبيد الحق وأهله، وانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة، طمع في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام، أهون من الفتنة عن الإسلام، لو لم يحتف بها غيرها من الآثام، كيف وقد قارنها الصد عن سبيل الله والكفر به والصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه والاعتداء بالقتال والاستمرار عليه. وقوله ﴿ إن استطاعوا ﴾ يفيد الشك في استطاعتهم وعدم الثقة بها لأن من عرف الإسلام معرفة صحيحة وهو الحق الصريح لا يرجع عنه إلى الكفر وهو الباطل المفضوح، وهكذا كان وهكذا يكون فلا يزال الكفار يقاتلوننا ليردونا عن ديننا إن استطاعوا، ولم يستطيعوا.
ولما ذكر الردة التي يبغونها بقتالهم بين حكمها فقال :﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾ أي ومن يرجع منكم عن الإسلام إلى الكفر حتى يموت عليه فرضا، فأولئك المرتدون هم الذين بطلت وفسدت أعمالهم في الدارين حتى كأن واحدهم لم يعمل صالحا قط، لأن الرجوع عن الإيمان إلى الكفر يشبه الآفة تصيب المخ والقلب فيذهب بالحياة، فإن لم يمت المصاب بعقله وقلبه، فهو في حكم الميت لا ينتفع بشيء وكذلك الذي يقع في ظلمات الكفر بعد أن هدي إلى نور الإيمان، تفسد روحه ويظلم قلبه، فيذهب من نفسه أثر الأعمال الصالحة الماضية، ولا يعطى شيئا من أحكام المسلمين الظاهرة، فيخسر الدنيا والآخرة.
يقول بعض الفقهاء : إن المرتد تبطل أعماله حتى كأنه لم يعمل خيرا قط، وحتى أنه يجب عليه إعادة نحو الحج إذا رجع إلى الإسلام، وتطلق منه امرأته طلاقا بائنا فلا تعود إليه إذا هو عاد إلى الإسلام إلا بعقد جديد. ويقول غيرهم إن حبوط العمل مشروط بالموت على الكفر، فإذا ارتد المسلم مدة ثم عاد لا يجب عليه إعادة نحو الحج، وأما امرأته فإنها تكون موقوفة إلى انتهاء العدة، فإن عاد إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها كانت على عصمته، وإن عاد بعد انقضاء العدة فإنها لا ترجع إليه إلا بعقد جديد. وللردة أحكام أخرى عند الفقهاء تطلب من كتبهم.
ومعنى الآية ظاهر وهو أن المرتد لا ينتفع بأعمال الإسلام في دنياه ولا في أخراه، وذلك أن الرجوع عن الدين رجوع عن أصوله الأساسية الثلاثة وهي :
( ١ ) الإيمان بأن لهذا الكون العظيم المتقن في وحدة نظامه، وبديع إحكامه، ربا إلها أبدعه وأتقنه بقدراته وحكمته بغير مساعد ولا واسطة، فلا تأثير لغيره في شيء منه إلا ما هدى هو الناس إليه باطراد سننه في الأسباب والمسببات، فيجب عليهم أن يعبدوه وحده لا يشركوا به شيئا، لا في الدعاء ولا في غيره من معاني العبادة التي بيناها في سورة الفاتحة وغيرها. وهذا الأصل هو منتهى ما يصل إليه ارتقاء العقل البشري في الاعتقاد، وتطهير الأنفس من الخرافات والأوهام.
( ٢ ) الإيمان بعالم الغيب والحياة الآخرة ذلك أن العوالم الحية التي في هذا الكون لا تنعدم من الوجود ولا تنفذ من أقطار ملك الله بما نراه من فساد تركيبها وذهاب صورها، فإذا كان العدم المحض غير معقول، والتحول في الصور مألوف منظور، فلا غرو أن يكون للناس حياة أخرى في عالم آخر بعد خراب هذا العالم. وهذا الإيمان ركن من أركان الارتقاء البشري لأنه يبعث البشر إلى الاستعداد لذلك العالم الأوسع الأكمل، ويعرفهم بأن وجودهم أكمل وأبقى مما يتوهمون.
( ٣ ) العمل الصالح الذي ينفع صاحبه وينفع الناس.
فهذه الأصول الثلاثة التي جاء بها كل نبي مرسل لا يتركها إنسان بعد معرفتها والأخذ بها، إلا ويكون منكوسا لا حظ له من الكمال في دنياه ولا في آخرته، بل يكون من أصحاب النفوس الخبيثة والأرواح المظلمة، التي لا مقر لها في الآخرة إلا دار الخزي والهوان كما قال تعالى :﴿ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ وقد تقدم الكلام في مثل هذا.
كأنه تعالى يقول للمؤمنين الكارهين للقتال لا سيما في الشهر الحرام. إذا كان هؤلاء المشركون على ما ذكر من الكفر والطغيان، ومن إيذائكم وفتنتكم عن الإيمان، ومن منع إخوانكم عن الهجرة إليكم بعد طردكم من الأوطان، ومن القصد إلى قتالكم حتى يردونكم عن دينكم، لتخسروا دنياكم وآخرتكم، فلا ينبغي أن تحجموا عن قتالهم عند الإمكان، ولا أن تحفلوا بإنكارهم عليكم القتال في الشهر الحرام.
فلما رأوه حليقا قالوا عمار ليس عليكم منهم بأس، وأتمر بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى، فقالوا لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام، ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة الحرم فليمتنعن منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل، وأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم ( والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ) فأوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا. فلما قال لهم رسول الله ما قال سقط في أيديهم ( أي ندموا ) وظنوا أن قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال واستحل الشهر الحرام، فنزل قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام ﴾ الآية فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العير وفدى الأسيرين.
وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أيحل القتال في الشهر الحرام ؟ فنزلت. هكذا أورد القصة بعض المفسرين وقوله في صدرها " في رجب الخ " يختلف مع قوله بعد " وكان آخر يوم من جمادى " وذكروا أن هذه القصة كانت قبل غزوة بدر بشهرين وبعد الهجرة بسبعة أشهر. وأخرجها السيوطي في أسباب النزول عمن ذكر ما عدا ابن إسحاق من حديث جندب بن عبد الله مختصرة وقال إنهم قتلوا ابن الحضرمي ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى وقال في آخرها : فقال بعضهم إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله ﴿ إن الذين آمنوا والذين هاجروا ﴾ الآية ومشى على ذلك في التفسير. قال الأستاذ الإمام إن كلامه يفيد أن الآيات نزلت متفرقة والصواب أن الآيات الثلاثة نزلت في قصة واحدة مرة واحدة.
ولما ذكر حال المشركين وحكم المرتدين، ناسب أن يذكر جزاء المؤمنين المهاجرين والمجاهدين، لأن الذهن يتوجه إلى طلبه فقال :
﴿ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ﴾. المهاجرة مفارقة الأوطان والأهل وهي من الهجر ضد الوصل. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فرارا بنفسه وبقومه من أذى قريش وفتنتهم إلى المدينة التي عاهدوه من آمن من أهلها على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وجب على كل مسلم أن يتبعه في هجرته ليعتز الإسلام بأهله، ويقدر المؤمنون باجتماعهم على الدفاع عن أنفسهم. واستمر وجوب الهجرة على من قدر إلى فتح مكة، إذ خذل الله المشركين وجعل كلمتهم السفلى، وكلمة الله هي العليا.
وقد اختلف الفقهاء في حكم الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام في مثل عصرنا هذا ويؤخذ من علة وجوب الهجرة في عهد التشريع أنها تجب بمثل تلك العلة في كل زمان ومكان، فلا يجوز لمؤمن أن يقيم في بلاد يفتن فيها عن دينه، بأن يؤذى إذا صرح باعتقاده أو عمل بما يجب عليه، وإن كان حكام تلك البلاد من صنف المسلمين، ومن ذلك أن لا يقدر المسلمون على التصريح قولا وكتابة بكل ما يعتقدون، ولا يمكنوا من القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي في المنكر المجمع عليه منهما.
وأما المجاهدة فهي من الجهد وهو المشقة وليس خاصا بالقتال. والرجاء هو توقع المنفعة من أسبابها. فالمؤمنون الذين هاجروا مع الرسول أو هاجروا إليه للقيام بنصرة الحق، والذين بذلوا جهدهم في مقاواة الكفار ومقاومتهم، هم الذين يرجون رحمة الله تعالى وإحسانه رجاء حقيقيا، وهم أجدر بأن يعطوا ما يرجون، وأما طلب المنافع ودفع المضار من غير أسبابها العادية في العاديات والشرعية في الدينيات، فلا يسميان رجاء، بل تمنيا وغرورا :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها | إن السفينة لا تجري على اليبس١ |
قال السيوطي في أسباب النزول : روى أحمد من حديث أبي هريرة قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فأنزل الله ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر ﴾ ١ الآية فقال الناس : ما حرم علينا إنما قال إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم أصحابه في المغرب فخلط في قراءته فأنزل الله آية أغلظ منها ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ ( النساء : ٤٣ ) الآية ثم نزلت آية أغلط من ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله فهل أنتم منتهون ﴾ ( المائدة : ٩٠ ) قالوا انتهينا ربنا.
وقال الجلال في تفسير آية البقرة إنها لما نزلت شربها قوم وامتنع آخرون حتى نزلت آية المائدة وهو مخالف للإطلاق الذي نقلناه آنفا عن كتاب أسباب النزول له. وروى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وغيرهم عن عمر أنه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب بالمال والعقل. فنزلت هذه الآية فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في سورة النساء :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ ( النساء : ٤٢ ) فكان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة :﴿ أن لا يقربن الصلاة سكران ﴾ فدعي عمر فقرئت عليه، فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ ) ﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ قال عمر انتهينا انتهينا٢.
ولا يتوقف فهم معنى الآيات على شيء من هذه الروايات ويظهر من مجموعها أن القطع بتحريم الخمر والنهي عنها كان بعد تمهيد بالذم والنهي عن السكر في حال قرب الصلاة وأوقات الصلوات متقاربة فمن ينهى عن قرب الصلاة وهو سكران فلا بد أن يتجنب السكر في أكثر الأوقات لئلا تحضره الصلاة وهو سكران وهو الذي تدل عليه الجملة الحالية ( وأنتم سكارى ) التي قيد بها النهي كما سنبينه في تفسير الآية من سورة النساء، وفي هذا من الحكمة في التدريج بالتكليف ما لا يخفى.
قال الفقهاء والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بها كثيرا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق. والذي كان يتبادر لولا الروايات أن آية سورة النساء هي التي نزلت أولا فكانوا يمتنعون عن الشرب في أكثر الأوقات لئلا تفوتهم الصلاة، وأما آية المائدة فلا شك أنها آخر ما نزل لأنها أكدت النهي، وبينت علة التحريم بالتعيين، على أن السورة برمتها من آخر السور نزولا٣.
وقد ذهب بعض الأئمة إلى أن الخمر حرمت بهذه الآية وأن ما أتى بعدها فهو من قبيل التوكيد لأن لفظ الإثم يفيد المحرم قال تعالى :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ﴾ ( الأعراف : ٣٣ ). ولكن ذهب الجمهور إلى أن التحريم كان تدريجيا كما تقدم. ووجهه الأستاذ الإمام بأنه المنقول والمعهود في حكمة التشريع، وقال إن الإثم هو الضرر، فتحريم كل ضار لا يقتضي تحريم ما فيه جهة ومنفعة من جهة أخرى، لذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة فترك لها الخمر بعضهم وأصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنه يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها، فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها ولو فوجئوا بالتحريم ومع ولوع الكثيرين بها واعتقادهم منفعتها لخشي أن يخالفوا أو يستثقلوا التكليف، فكان من حكم الله أن رباهم على الاقتناع بأسرار التشريع وفوائده ليأخذوه بقوة وعقل.
لفظ الخمر منقول من مصدر خمر الشيء بمعنى ستره وغطاه، يقال خمرت الشيء إذا سترته وخمرت الجارية ألبستها الخمار وهو النصيف الذي تغطي به وجهها وتخمرت هي واختمرت. والوجه في النقل أن هذا الشراب يستر العقل ويغطيه، أو هو من خامره بمعنى خالطه، يقال خامره الداء أي خالطه وهو ما صرح به عمر في خطبة له على منبر النبي صلى الله عليه وسلم أو بمعنى التغيير، يقال خمر الشيء ( كعلم ) إذا تغير عما كان عليه، والعصير يتغير فيكون خمرا، أو بمعنى الإدراك من خمر العجين ونحوه فاختمر أي بلغ وقت إدراكه.
وقال ابن الأعرابي إنه يقال سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى اختمرت واختمارها تغير رائحتها. وجميع هذه المعاني ظاهرة في هذه الأشربة المسكرة كلها كما قال ابن عبد البر فيصح إطلاق اسم الخمر لغة على كل مسكر وهذا ما ذهب إليه أشهر علماء اللغة كالجوهري وأبو نصر القشيري وأبو حنيفة الدينوري والمجد صاحب القاموس. والظاهر أن هذا الإطلاق حقيقي ولا وجه للعدول عنه إلا أن يصح أن العرب كانت تسمي نوعا خاصا من المسكرات خمرا ولا تطلق اللفظ على مسكر سواه وهو ما زعمه بعض الناس، والحنفية على أن الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وقذف بالزبد زاد بعضهم ثم سكن وقيل إذا اشتد فقط. ويرده أن الصحابة وهم صميم العرب فهموا من تحريم كل مسكر ولم يفرقوا بين ما كان من العنب وما كان من غيره، بل قال أهل الأثر إن الخمر حرمت بالمدينة ولم يكن شرابهم يومئذ إلا نبيذ البسر والتمر، فهو الذي تناوله نص القرآن ابتداء.
وأخرج أبو داود : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة. والخمر ما خامر العقل : وكأن هذا كل ما كان يعرف ولا شك أن غيره مثله. والأحاديث الصحيحة في ذلك ومنها حديث الصحيحين وأبي داود والترمذي والنسائي ( كل مسكر خمر ) ٤ وروي بزيادة ( وكل خمر حرام ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء يجلدون كل من سكر ويعبرون عن ذلك بحد الخمر أو عقوبته، يقول المخصصون إن ما ورد في الحديث اصطلاح شرعي لا لغوي، ونقول إن ما ورد في الحديث اصطلاح شرعي لا لغوي، ونقول إن الذي أنزل عليه الذكر ليبين للناس ما نزل عليهم قد بين لهم أن الخمر التي نهى الله عنها في كتبه هي مسكر فلا فرق في حكمها بين مسكر وآخر، هذا البيان قطعي متواتر لأن العمل عليه وفي حديث أبي داود وغيره ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) ٥ ٦.
وأما المسير فهو القمار واشتقاقه من يسر إذا وجب، أو من اليسر بمعنى السهولة لأنه كسب بلا مشقة ولا كد أو من اليسار وهو الغني لأنه سببه للرابح أو من اليسر بمعنى التجزئة والاقتسام يقال يسروا الشيء إذا اقتسموه. قال الأزهري المسير الجزور ( الجمل ) كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسرا لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر الجازر أي لأنه يجزئ لحم الجزور ثم صار يقال للمتقامرين جازرون لأنهم سبب الجزر والتجزئة، هذا هو الأصل.
أما كيفيته عند العرب فهي أنه كان لهم عشرة قداح ( جمع قدح بالكسر ) وتسمى الأزلام والأقلام٧ وهي الفذ والتوأم والرقيب والحلس ( ككتف ) والمسبل والمعلى والنافس والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء أو ثمانية وعشرين جزءا، وليس للثلاثة الأخيرة شيء فللفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة وهو أعلاها، ولذلك يضرب به المثل لمن كان أكبر حظا أو نجاحا من غيره في كل شيء مفيد له فيقال : صاحب القدح المعلى. وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الربابة وهي الخريطة، ويضعونها على يد عدل يجلجلها ويدخل يده فيخرج منها واحدا باسم رجل، ثم واحدا باسم رجل الخ. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المرسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم ( بالتحريك ) وهو في الأصل ثمر العضاه لا ينتفع به، وقد نظم بعضهم هذه الأسماء فقال :
كل سهام الياسرين عشره *** فأودعوها صحفا منشره
ولها فروض ولها نصيب *** الفذ والتوأم والرقيب
والحلس يتولهن ثم النافس *** وبعده مسبلهن السادس
ثم المعلي كاسمه المعلى *** صاحبه في الياسرين الأعلى
والوغد والسفيح والمنيح *** غفل فما يرى ربيح
وقد اختلفوا هل الميسر ذلك النوع من القمار بعينه أم يطلق على كل مقامرة، ولكن لا خلاف بين الفقهاء في أن القمار محرم إلا ما أباح الشرع من الرهان في السباق والرماية ترغيبا فيهما للاستعداد للجهاد، وليس منها سباق الخيل المعروف في عصرنا فإنه شر القمار الذي ترجع جميع أنواعه إلى كونها من أكل أموال الناس بالباطل.
﴿ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ﴾ قرأ حمزة والكسائي :﴿ كثير ﴾ بالمثلثة من الكثرة وقرأ الباقون :﴿ كبير ﴾ من الكبر. والإثم كل ما فيه ضرر وتبعه من قول وعمل أي قل أيها الرسول إن في تعاطي الخمر والميسر إثم كثير المفاسد وذنب كبير الضرر وإنما كان إثم الخمر كبيرا لأن مضراتها والتبعات التي تعقبها كبيرة، والضرر يكون في البدن والنفس والعقل والمال، ويكون في التعامل وارتباط الناس بعضهم ببعض. ولا يوجد إثم من الآثام يدخل ضرره في كل شيء كالخمر من الأفعال والكذب من الأقوال، وأنواع هذا الضرر كثيرة فمن مضرات الخمر الصحية إفساد المعدة والإقهاء ( فقد شهوة الطعام ) وتغيير الخلق فالسكارى يسرع إليهم التشوه، فتجحظ أعينهم، وتمتقع سحنتهم، وتعظم بطونهم، بل قال أحد أطباء الألمان إن السكور ( كثير السكر ) ابن الأربعين يكون نسيج جسمه كنسيج جسم ابن الستين، ويكون كالهرم جسما وعقلا، ومنها مرض الكبد والكلي، وداء السل الذي فتك في البلاد الأوروبية فتكا ذريعا على عناية أهلها بقوانين الصحة، ولكن لا وقاية من شرور السكر إلا بتركه، وقد قيل إن نحو نصف الوفيات في بعض بلاد أوروبا بداء السل. ولم يكن هذا الداء معروفا أو منتشرا في مثل هذه البلاد ( مصر ) قبل شيوع السكر فيها، فهو من الأدواء التي حملها إليها الأوروبيون، وقد كثر كثرة فاحشة في مصر على أن جوها لا يساعد على انتشاره.
وأما ضرر الخمر في العقل فهو مسلم عند الناس وليس ضرره خاصا بما يكون من فساد التصور والإدراك عند السكر، بل السكر يضعف القوة العاقلة، وكثيرا ما ينتهون بالجنون، ولأحد أطباء ألمانية كلمة اشتهرت كالأمثال وهي " اقفلوا لي نصف الحانات، أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والبيمارستانات والملاجئ ( التكايا ) والسجون ".
وقد قال الأطباء إن المسكر لا يتحول إلى دم كما تتحول سائر الأغذية بعد الهضم، بل يبقى على حاله فيزاحم الدم في مجاريه، فتسرع حركة الدم، وتختل موازنة الجسم، وتتعطل وظائف الأعضاء أو تضعف، وتخرج عن وضعها الطبيعي المعتدل، فمن تأثيره في اللسان إضعاف حاسة الذوق، وفي الحلق الالتهاب، وفي المعدة ترشيح العصارة الفاعلة في الهضم
٢ أخرجه أبو داود في الأربة باب ١، والترمذي في تفسير سورة ٥، باب ٨، ٩، وأحمد في المسند ١/٥٣..
٣ المروي المشهور إن سورة البقرة أول سورة نزلت بعد الهجرة، ونزلت سورة النساء في السنة السابعة بعد صلح الحديبية وسورة المائدة في الثامن بعد فتح مكة..
٤ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الأدب باب ٨٠، والأحكام باب ٢٢، والمغازي باب ٦٠، ومسلم في الأشربة حديث ٧٣-٧٥، وأبو داود في الأشربة باب ٥، ٧، والترمذي في الأشربة باب ١، ٢، والنسائي في الأشربة باب ٥٣، وابن ماجه في الأشربة باب ٩، ١٣، ١٤، والدرامي في الأشربة باب ٨، ومالك في الضحايا حديث ٨، وأحمد في المسند ١/٢٧٤، ٢٨٩، ٣٥٠، ٢/١٦، ٢٩، ٣١، ٩١، ١٠٥، ١٥٨، ١٧١، ١٧٥، ٤٢٩، ٥٠١، ٣/٦٣، ٦٦، ١١٢، ١١٩، ٢٣٧، ٣٦١، ٤٢٢، ٤/٤١٠، ٤١٦، ٤١٧، ٥/٣٥٦، ٦/٣١٤، ٣٣٣..
٥ أخرجه أبو داود في الأشربة باب ٥، والترمذي في الأشربة باب ٣، والنسائي في الأشربة باب ٢٥، وابن ماجه في الأشربة باب ١٠، والدارمي في الأشربة باب ٨، وأحمد في المسند ٢/٩١، ١٦٧، ١٧٩، ٣، ٣٤٣..
٦ هذا ما كتبته في تفسير هذه الآية ثم إنني بسطت الكلام في الخمر لغة وشرعا نصا واجتهادا في التفسير آيات سورة المائدة (المؤلف)..
٧ جمع زلم وقلم، وهي قطع من الخشب والزلم والقلم القطع..
فالله تعالى يبين في مثل هذه الآيات أن الإسلام هاد ومرشد إلى توسيع دائرة الفكر واستعمال العقل في مصالح الدارين، وقدم الدنيا في الذكر، لأنها مقدمة في الوجود بالفعل، وكل ما أمرنا الله تعالى به وهدانا إليه فهو من ديننا، ولذلك قال علمائنا إن جميع الفنون والصناعات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم من الفروض الدينية إذا أهملت الأمة شيئا منها فلم يقم به من أفردها من يكفيها أمر الحاجة إليه، كانت كلها عاصية لله تعالى مخالفة لدينه، إلا من كان عاجزا عن دفع ضرر الحاجة وعن الأمر به للقادر عليه، فأولئك هم المعذورون بالتقصير.
على هذا قام صرح مجد الإسلام عدة قرون، كان المسلمون كلما عرض لهم شيء بسبب التوسع في العمران يتوقف عليه حفظه وتعميم دعوته النافعة قاموا به حق القيام، وعدوا القيام به من الدين بمثل هذه الآية وغيرها من الآيات، ومضوا على ذلك قرونا كانوا فيها أبسط الأمم وأعلاها حضارة وعمرانا، وبرا وإحسانا، إلى أن غلا أقوام في الدين واتبعوا سنن من قبلهم في إهمال مصالح الدنيا، زعما أن ذلك من الزهد المطلوب، أو التوكيل المحبوب، وما هو منها في شيء ! وكان من أثر ذلك أن أهملت الشريعة فلا توجد حكومة إسلامية على وجه الأرض تقيمها، لأنه لا يوجد من أهلها من يصلح لحكم الناس في هذه العصورالتي اتسعت فيها مصالح الأمم والحكومات، بالتوسع في العلوم والصناعات وارتباط العالم بعضه ببعض، ثم صار علماء المسلمين أنفسهم يعدون الاشتغال العلوم والفنون التي تتوقف عليها مصالح الدينا صادة عن الدين مبعدة عنه. وهذا هو دخول جحر الضب الذي دخله من قبلنا وهو كما ترى خروج عن هدى القرآن !
وقد يقال إذا كان المنقطع لعلوم الدين لا يأمن على عقيدته أن تذهب ودينه أن يفسد إذا هو تفكر في مصالح الدنيا وعرف العلوم التي لا تقوم هذه المصالح بدونها، فكيف يكون حال من يدرسون هذه العلوم الدنيوية من المسلمين وليسوا على شيء يعتد به من العلوم الدينية ؟ لا جرم أن القضاء على الإسلام، بأنه آفة العمران، وعدو العلم والنظام، وهو قضاء جائز يبطله القرآن، وتنقضه سيرة السلف الصالحين الذين سبقونا بالإيمان، ولكن أين من يتبعهما الآن ؟. وقد قام فريق من الذين لم ينظروا في كتاب الله مرة نظرة معتبر، ولم يتل منه آية تلاوة مفكر متدبر، يقسمون المسلمين إلى قسمين : قسم لا تجب المبالاة بدينه، ولا يهتم به في شكه أو يقينه، فله أن يتعلم ما يشاء صحت عقيدته أو فسدت، صلحت أعماله أو خسرت. وقسم آخر يجب أن يصان عقله عن كل فكر، ويحاط بجميع الوسائل التي تمنعه من النظر في ما عليه الناس من خير وشر، وما تعرض في الكون من نفع وضر، كي لا يفسد النظر عقيدته، ويظل الفكر السليم بصيرته.
وهذا القسم هو الذي تفوض إليه الرياسة الدينية، ويعهد إليه بقيادة الأمة في صلاح الأعمال، وانتظام الأحوال، وأعظم قسم في الأمة هو القسم الأول بحكم الضرورة، بل هو الأمة كلها بالتقريب، وقد صار بيده زمام جميع أمورها وقوة الحكم فيها، إذ لا يمكن أن يتيسر لهذا القسم الثاني وهو خلو من العلم بحالها، ودون كل واحد منها في العقل، وفوقه في الغباوة والجهل، أن يقود واحدا منها بله قيادتها كلها ؟ فهل يتفق مثل هذا للخلف، مع شيء من سنة السلف ؟ ألا عاقل يقول لهؤلاء المشعوذين كيف ساغ في عقولهم أن يسلم إلى الجاهل، قيادة العاقل ؟ وكيف يتيسر حفظ الدين، بالعول عن سنن المرسلين، ومخالفة سير السلف الصالحين ؟ ؟
ثم قال تعالى :﴿ ويسألونك عن اليتامى ﴾ الخ أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهما عن ابن عباس قال لما نزلت ﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ ( الأنعام : ١٥٢ ) و﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ﴾ ( النساء : ١٠ ) الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله :﴿ يسألونك عن اليتامى ﴾ الآية١. ذكره السيوطي في أسباب النزول.
نعم إن آيات الوصية في اليتامى كثيرة ومنها ما نزل في مكة لقوله تعالى :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ ( الإسراء : ٣٤ ) في سورة الإسراء وقوله تعالى :﴿ فأما اليتيم فلا تقهر ﴾ ( الضحى : ٩ ) في سورة الضحى وقوله عز وجل :﴿ فذلك الذي يدع اليتيم ﴾ ( الماعون : ٢ ) في سورة الماعون، جعل دع اليتيم وهو دفعه وجره بعنف أول آيات التكذيب بالدين.
وأجمع ما ورد في ذلك وآكده آيات سورة النساء وهي مدنية كسورة البقرة، ومنها قوله تعالى :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ﴾ ( النساء : ١٠ ) ولكن سورتها نزلت بعد سورة البقرة. وقد كان السابقون الأولون من المؤمنين يحفظون حدود الله تعالى ويأخذون القرآن بقوة لأنهم لبلاغتهم يفهمون الوعيد في مثل هذه الآية فتحدث لهم من الذكرى والعظة ما لا يجد مثله من لم يؤت بلاغتهم. وليس المراد ببلاغتهم أنهم قرؤوا علم المعاني والبيان فحفظوا في أذهانهم عللا كثيرة للتقديم والتأخير في المسند إليه ونحو ذلك، وإنما هي مقاصد الكلام ومغازيه تغوص في أعماق القلوب كما يغوص الماء في الإسفنج، فلا تدع فيها مكانا يتعاصى على تأثيرها كما قال الأستاذ الإمام.
هذا الاتعاظ والاعتبار بوصايا الكتاب العزيز في اليتامى قد ملك نفوس المؤمنين فتركهم في حيرة وحرج من أمر القيام عليهم واستغلال أموالهم، خوفا أن ينالهم شيء من الظلم المذكور في آية سورة النساء لأن الظلم كل ما نقص من الحق، وشاهده قوله تعالى :﴿ كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ﴾ ( الكهف : ٣٣ ) فإذا اختلط اثنان في النفقة وأكل أحدهما مما اشترى بمالهما أكثر من الآخر، تكون الزيادة من مال الآخر، فإن كان راشدا فرضاه ولو بالعرف أو القرينة إذن يبيح هذا التناول، وأما إذا كان الخليط يتيما فإن الزيادة تكون مظنة الظلم أو هي منه حتما، ولذلك تأثم الصحابة عليهم الرضوان من مخالطة اليتامى بعد نزول آية النساء، وإن كانت العادة جارية بتسامح الناس في مؤاكلة الخلطاء والشركاء من غير تدقيق فكان بعضهم يأبى القيام على اليتيم وبعضهم يعزل اليتيم عن عياله فلا يخالطونه في شيء حتى إنهم كانوا يطبخون له وحده.
ثم إنهم فطنوا إلى أن هذا على ما فيه من الحرج عليهم لا مصلحة فيه لليتيم بل هو مفسدة له في تربيته ومضيعة لماله، وفيه من القهر المنهي عنه ما لا يخفى، فإنه يكون في البيت كالكلب أو الداوجن في مأكله ومشربه. ومن هنا جاءت الحيرة واحتيج إلى السؤال عن طريق الجمع بين الأمرين، والتوحيد بين المصلحتين، بأن يعيش اليتيم في بيت كافله عزيزا كريما كأحد عياله، ويسلم الكافل من أكل شيء من ماله بغير حق، وكان من فضل الله تعالى ورحمته أن أنزل الوحي في إزالة الحيرة وكشف الغمة، فقال لنبيه ﴿ قل ﴾ لهؤلاء السائلين عن القيام على اليتامى وكفالتهم، وعن المصلحة في عزلهم أو مخالطتهم ﴿ إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ﴾ يعني أي إصلاح لهم خير من عدمه فلا تتركوا شيئا مما تعلمون أن فيه صلاحا لهم في أموالهم وأحوالهم من تربية وتهذيب، هذا ما أفاده تنكير ﴿ إصلاح ﴾ وإن تخالطونهم لرؤيتكم الخير لهم في المخالطة في المعيشة فهم إخوانكم في الدين، وإنما شأن الإخوان المخالطة في المعاشرة.
وقد أزالت الكلمة الأولى من هذا الجواب الوجيز شبهة المتأثمين من كفالتهم، وكشفت الكلمة الثانية شبهة القوام المتحرجين من مخالطتهم، ومن هذا الجواب عرفنا حقيقة السؤال، وهذا من ضروب الإيجاز التي لم تعرف إلا من القرآن.
أما معنى كون الإصلاح لهم خيرا فهو أن القيام عليهم لإصلاح نفوسهم بالتهذيب والتربية، وإصلاح أموالهم بالتثمير والتنمية، هو خير من إهمال شأنهم وتركهم لأنفسهم، تفسد أخلاقهم وتضيع حقوقهم خير لهم لما فيه من مصلاحتهم، وخير للقوام والكافلين لما فيه من درء مفسدة إهمالهم، ومن المصلحة العامة في صلاح حالهم، ولما في ذلك من حسن القدرة في الدنيا، وحسن المثوبة في الأخرى قال في التفسير الكبير قال القاضي : هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرها لكي ينشأ على علم وأدب وفضل، لأن هذا الصنع أعظم تأثيرا فيه من إصلاح حاله بالتجارة، ويدخل فيه أيضا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة، ويدخل فيه أيضا معنى قوله تعالى :﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ﴾ ( النساء : ٢ ).
وأما قوله :﴿ وإن تخالطونهم فإخوانكم ﴾ فمعناه أنه لا وجه للتأثم من مخالطتهم في المأكل والمشرب والمكسب، فهم إخوانكم في الدين، ومن شأن الإخوة أن يكونوا خلطاء وشركاء في الملك والمعاش، ولا ضرر على أحد منهم في ذلك، بل هو نافع لهم، لأن كل واحد منهم يسعى في مصلحة الجميع، والمخالطة مبنية بينهم على المسامحة لانتفاء مظنة الطمع وتحقق الإخلاص وحسن النية. كأنه يقول : وإن تخالطوهم فعليكم أن تعاملوهم معاملة الإخوة في ذلك فيكون اليتيم في البيت كالأخ الصغير تراعى مصلحته بقدر الإمكان، ويتحرى أن يكون في كفته الرجحان، وقيل إن المراد بالمخالطة المصاهرة وأخوة الإسلام علة لحلها، وقد أطال أبو مسلم في ترجيح هذا الوجه.
وهذا الذي هدانا إليه الكتاب العزيز في شأن اليتامى من معاملتهم كالإخوان مبني على ما أودع الفطرة السليمة من الحب والإخلاص للأقربين، وقد طرأ الفساد على هذه الرابطة النسبية في بلاد كثيرة بما أفسدت السياسة في الأمة، فصار الأخ يطمع في مال أخيه، ويحفر له من المهاوي ما لعله هو يقع فيه، وامثال هؤلاء الذين فسدت طباعهم واعتلت خلائقهم، ولا يوكل إليهم الرجوع إلى الفطرة وتحكيمها في معاملة اليتامى كالأخوة، لذلك لم يكتف القرآن بذلك حتى وضع للضمير والوجدان، قاعدة يرجع إليها في هذا الشأن، فقال :
﴿ والله يعلم المفسد من المصلح ﴾ أي أنه لم يكل أمر مخالطة اليتامى إلى حكم نزعة القرابة وعاطفة الأخوة من قلوبكم إلا وهو يعلم ما تضمر هذه القلوب من قصد الإصلاح لهم أو الإفساد، فعليكم أن تراقبوه في أعمالكم ونياتكم، وتعلموا أن سيحاسبكم على مثقال الذرة مما تعملون لهم. والمصلح هو من يأتي بالإصلاح عملا، والمفسد هو من يأتي بالإفساد فعلا، وحال كل منهم ظاهرة للعيان، وإنما أيقظ الله تعالى القلوب إلى ذكر عمله بذلك لتلاحظ اطلاعه على ا
الآيات في سرد الأحكام كما تقدم فلا حاجة لربط كل آية بما قبلها والربط ظاهر على القول بأن المراد بالمخالطة في الآية السابقة نكاح اليتامى. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن مقاتل قال نزلت هذه الآية في ابن أبي مرثد الغنوي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في " عناق " أن يتزوجها وهي مشركة وكانت ذات حظ من جمال فنزلت : يعني ﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ ذكر ذلك السيوطي في أسباب النزول، ثم قال قوله تعالى :﴿ ولأمة مؤمنة ﴾ الآية. أخرج الواحدي من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها ثم أنه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وقال : لأعتقنها ولأتزوجنها : ففعل فطعن عليه ناس وقالوا ينكح أمة فأنزل الله هذه الآية. وأخرجه ابن جرير عن السدي منقطعا.
وظاهره أن قوله تعالى :﴿ ولأمة مؤمنة ﴾ إلى ﴿ أعجبتكم ﴾ آية مستقلة نزلت في حادثة غير الحادثة التي نزل فيها قوله تعالى :﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ وهذا الظاهر من صنيعه خفي في نفسه بل هو باطل البتة. ولا شك أن الآية واحدة نزلت مرة واحدة عند حاجة الناس إلى بيان أحكامها، ولا مانع أن يكون ذلك بعد حدوث ما روى عن أبي مرثد وعن عبد الله بن رواحة.
وفي روح المعاني ما نصه : روى الواحدي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من غني يقال له مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها أسرى فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فلما أسلم أعرض عنها فأتته فقالت ويحك يا مرثد ألا تخلو ؟ فقال لها إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا، ولكن إن شئت تزوجتك فقالت نعم، فقال إذا رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنته في ذلك ثم تزوجتك، فقالت له أبي تتبرم ؟ ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها، فقال يا رسول الله أيحل لي أن أتزوجها ؟ وفي رواية إنها تعجبني فنزلت.
وتعقب ذلك السيوطي بأن هذا ليس سببا لنزول هذه الآية وإنما هو سبب في نزول آية النور ﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ﴾ ( النور : ٣ ) وروى السدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها ثم أنه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :( ما هي يا عبد الله ) ؟ قال هي يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، فقال :( يا عبد الله هي مؤمنة ) قال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أنسابهم، فأنزل الله ﴿ ولا تنكحوا ﴾ الآية.
انتهى سياق الألوسي وهو أحسن من سياق السيوطي الذي قدمناه لأنه مفصل وذاك مختصر اختصارا أوهم أن الذي نزل في عبد الله بن رواحة هو قوله تعالى :﴿ والأمة ﴾ الخ على أن السيوطي قال في مقدمة كتابه في أسباب النزول إن الصحابة يذكرون أن الآية نزلت في كذا ولا يريدون به إلا تفسيرها أي إن معناها يتناول ذلك، وإذا ذكروا أسبابا فقد يعنون أنها نزلت عقبها والألوسي يقول إن السيوطي تعقب الواحدي في السبب الأول وليس في كتابه هذا شيء من هذا التعقب، على أنه حوى كتاب الواحدي وزيادات. وأما آية :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ﴾ ( النور : ٣ ) فقد ذكر لها السيوطي سببين أحدهما أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح، رواه النسائي، والثاني أن رجلا يقال له مزيد أراد أن يتزوج امرأة بمكة صديقة له يقال لها عناق، رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( وفي حديثه عنهما مقال ) وقد روى الأول غير من ذكر وقوله هنا :" مزيد " مصحف والصواب مرثد. ونكاح البغايا كان فاشيا، والمشهورات منهن في الجاهلية كثيرات وقد نزلت الآية في الجميع.
وجملة القول أن ما روي في الآية التي نفسرها الآن متفق على أن المراد بالمشركات فيها غير الكتابيات من نساء العرب، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركين والمشركات عام يشمل أهل الكتاب لأن بعض ما هم عليه شرك، وقد قال تعالى بعد ذكر بعض عقائدهم ﴿ سبحانه عما يشركون ﴾ ( التوبة : ٣١ ) واستدلوا على شركهم أيضا بقوله تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ ( النساء : ٨٤ ) ولو لم يكونوا مشركين لجاز أن يغفر الله لهم. وذهب الأكثرون إلى أن المراد بالمشركات مشركات العرب اللاتي لا كتاب لهن لأن هذا هو عرف القرآن في لقب المشرك قال تعالى :﴿ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ﴾ ( البقرة : ١٠٥ ) الآية وقال تعالى :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ﴾ ( البينة : ١ ) والعطف يقتضي المغايرة.
وهذا القول هو الذي يتفق مع قوله تعالى في بيان من يحل من النساء ﴿ والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾ ( المائدة : ٥ ) وهي في سورة المائدة وقد نزلت بعد سورة البقرة ولذلك ذهب من قال بأن لفظ المشركات شامل للكتابيات إلى أن آية المائدة نسخت آية البقرة، وقال بعضهم ومنهم الجلال إنها خصصتها بغير الكتابيات والمقصود واحد. وزعم بعض المفسرين أن آية البقرة هي ناسخة لآية المائدة، وهذا لا وجه له مع الاتفاق على أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا. وذهب بعض آخر إلى التأويل بأن آية المائدة مقيدة بما إذا أسلمن، وهذا ليس بشيء إذ لا دليل على القيد المحذوف، ولأن المشركات إذا أسلمن يحل نكاحهن أيضا بالإجماع، وجرى عليه العمل في عصر التنزيل قبل نزول الآية فما فائدة ذكره ؟
وقد اختلف في المجوس فقيل يدخلون في المشركين لأنهم لا كتاب لهم وقيل بل كان لهم كتاب، وبعض الفقهاء يقول لهم شبهة كتاب، وقد يشعر بأنهم أهل كتاب قوله تعالى في سورة الحج :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ﴾ ( الحج : ١٧ ) فالعطف يقتضي المغايرة وقد فرق الفقهاء بين المشركين والمجوس في الجزية ولا حاجة للبحث في ذلك هنا.
أما ما استدل به الآخرون على شرك أهل الكتاب من قوله تعالى :﴿ سبحانه عما يشركون ﴾ ( التوبة : ٣١ ) وقوله :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ ( النساء : ٨٤ ) الآية فقد أجابوهم عن الأول بأن قوله :﴿ يشركون ﴾ لا يقتضي أن من حكى عنهم ذلك الفعل يشتق لهم منه وصف يكون عنوانا لهم فيدخلوا في صنف من يسميهم القرآن بالمشركين والذين أشركوا، فإن الأوصاف كثيرا ما يراد بها عند أهل التخاطب صنف مخصوص لا يدخل فيه كل من يلتبس بالفعل الذي اشتق منه الوصف. مثال ذلك لفظ ( العلماء ) يطلق الآن عند المسلمين على صنف من الناس لا يدخل فيه كل من يتعلم علما أو علوما، ولو تعلم ما يتعلمون وفاقهم فيه ما لم يكن على زيهم ومشاركا لهم في مجموعة المزايا التي كانوا بها صنفا مستقلا، ويطلق هذا اللفظ عند قوم آخرين على صنف آخر.
وأجابوا عن الثاني بأنه مسوق لبيان فظاعة الشرك والتغليظ فيه وكونه غاية البعد عن الله تعالى، بحيث قضى بأن لا تتعلق مشيئته بغفرانه، على أنه لو شاء أن يغفر كل ذنب سواه لفعل، إذ لا يدل على أن كل من ليس مشركا يغفر الله له، فيقال إن نفي الشرك عن أهل الكتاب يستلزم مغفرة الله تعالى لهم مع قيام الأدلة على أنه لا يغفر لمن تبلغه دعوة الحق الذي جاء به الإسلام فيجحدها عنادا واستكبارا.
﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ هذا معطوف على مفهوم ما قبله من الأمر بالإصلاح والنهي عن الإفساد، ومعناه لا تتزوجوا النساء المشركات ما دمن على شركهن ﴿ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ﴾ أي والله إن أمة أي مملوكة مؤمنة بالله ورسوله خير من مشركة حرة ولو أعجبتكم المشركة بجمالها وبغيره. وأصل الأمة أموة بالتحريك يقال أمت الجارية : صارت أمة، وأميتها بالتشديد جعلتها أمة وتأمت صارت أمة.
﴿ ولا تنكحوا المشركين ﴾ أي لا تزوجوهم المؤمنات ﴿ حتى يؤمنوا ﴾ فيصيروا أكفاء لهن ﴿ ولعبد مؤمن خير من مشرك ﴾ أي ولمملوك مؤمن خير من مشرك حر ﴿ ولو أعجبكم ﴾ المشرك بنسبه أو قومه أو ماله.
وجملة القول : إن هؤلاء الذين أشركوا وهم الذين بينكم وبينهم غاية الخلاف والتباين في الاعتقاد لا يجوز لكم أن تتصلوا بهم برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوج منهم، وأما الكتابيات فقد جاء في سورة المائدة أنهن حل لنا، وسكت هناك عن تزويج الكتابي بالمسلمة وقالوا ورضيه الأستاذ الإمام أنه على أصل المنع وأيدوه بالسنة والإجماع. ولكن قد يقال إن الأصل الإباحة في الجميع فجاء النص بتحريم المشركين والمشركات تغلظا لأمر الشرك ويحل الكتابيات تألفا لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا وسهولة شريعتنا، وهذا إنما يظهر بالتزوج منهم لأن الرجل هو صاحب الولاية والسلطة على المرأة، فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلا على أن ما هو عليه من الدين القويم، يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، والعدل بين المسلمين وغير المسلمين، وسعة الصدر في معاملة المخالفين، وأما تزويجهم بالمؤمنات فلا تظهر منه مثل هذه الفائدة لأن المرأة أسيرة الرجل لاسيما في ملل ليس للنساء فيها من الحقوق ما أعطاهن الإسلام وأهل الكتاب وسائر الملل كذلك فقد يصح أن يكون هذا هو المراد من النصين في السورتين.
وإذا قامت بعد ذلك أدلة من السنة أو الإجماع أو من التعليل الآتي لمنع مناكحة أهل الشرك على تحريم تزويج الكتابي بالمسلمة فلها حكمها لا عملا بالأصل أو نص الكتاب، بل عملا بهذه الأدلة، والتعبير بتنكحوا وتنكحوا ( بفتح التاء وضمها ) يشعر بأن الرجال هم الذين يزوجون أنفسهم ويزوجون النساء اللواتي يتولون أمرهن، وأن المرأة لا تزوج نفسها بالاستقلال بل لا بد من الولي، إذ الزواج تجديد قرابة ومودة ورحمة بين أسرتين وعشيرتين لا يتم وتحصل فائدته إلا بتولي أولياء المرأة له مع اشتراط رضاها وإذنها به صراحة في الثيب وسكوتا إقراريا في البكر التي يغلب عليها الحياء.
وقد فسر الجمهور الأمة والعبد في الآية بالرقيق أي أن الأمة المملوكة المؤمنة خير من الحرة المشركة ولو أعجبكم جمالها، وكذلك القن خير من الحر المشرك وإن كان معجبا، وتعلم منه خيرية الحر المؤمن والحرة المؤمنة بالأولى، وقال آخرون إن المراد أمة الله وعبد الله أي أن المؤمنة والمؤمن كل منهما عبد الله يطيعه ويخشاه ولذلك كان خيرا ممن يشرك به، فكان في التعبير بالأمة والعبد إشعار بعلة الخيرية. بيان ذلك أن ليس المراد بالزوجية قضاء الشهوة الحسية فقط وإنما المراد بها تعاقد الزوجين على المشاركة في شؤون الحياة والاتحاد في كل شيء
هذا هو السؤال الثالث من الأسئلة التي وردت معطوفة بالواو وهو يتصل بما قبله وما بعده في أن ذلك من الأحكام المتعلقة بالنساء، وأما الأسئلة التي وردت قبلها مفصولة فلم تكن في موضوع واحد فيعطف بعضها على بعض فجاءت على الأصل في سرد التعدد. وقد كانت هذه الأسئلة في المدينة حيث الاختلاط بين العرب واليهود، وهؤلاء يشددون في مسائل الحيض والدم كما هو مذكور في الفصل الخامس عشر من سفر اللاويين من الأسفار التي يسمون جملتها التوراة. ومنها أن كل من مس الحائض في أيام طمثها يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وكل من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء يكون نجسا إلى المساء، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام، وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا الخ. وللرجل الذي يسيل منه دم نحو هذه الأحكام عندهم.
وأما النصارى فقد نقل عنهم أنهم كانوا يتساهلون في أمر المحيض وكانوا مخالطين للعرب في مواطن كثيرة، وروي أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلوهن كفعل اليهود والمجوس، ومن شأن الناس التساهل في أمور الدين التي تتعلق بالحظوظ والشهوات فلا يقفون عند الحدود المشروعة فيها لمنفعتهم ومصالحتهم فكان اختلاف ما عرف المسلمون عن أهل الكتاب مما يحرك النفس للسؤال عن حكم المحيض في هذه الشريعة المصلحة، فسألوا كما في حديث أنس الآتي قريبا فأنزل الله تعالى على نبيه.
﴿ ويسألونك عن المحيض ﴾ أي عن حكمه والمحيض هو الحيض المعروف وهو الدم الذي يخرج من الرحم على وصف مخصوص في زمن معلوم، لوظيفة حيوية صحية تعد الرحم للحمل بعده إذا حصل التلقيح المقصود من الزوجية لبقاء النوع. فالمحيض كالحيض مصدر كالمجيء والمبيت ويطلق على زمان الحيض ومكانه، والمرأة حائض بدون تاء لأنه وصف خاص وجمعه بتشديد الياء ( كراكع وركع ) وورد حائضة وجمعه حائضات. ولا حاجة إلى تقدير محل المحيض فإنما يسأل الشارع عن الأحكام ﴿ قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ﴾ قدم العلة على الحكم ورتبه عليها ليؤخذ بالقبول من المتساهلين الذين يرون الحجر عليهم تحكما، ويعلم أنه حكم للمصلحة لا للتعبد كما عليه اليهود، والمراد من النهي عن القرب النهي عن لازمه الذي يقصد منه وهو الوقاع، والمعنى أنه يجب على الرجل ترك غشيان نسائهم زمن المحيض لأن غشيانهن سبب للأذى والضرر، وإذا سلم الرجل من هذا الأذى فلا تكاد تسلم منه المرأة لأن الغشيان يزعج أعضاء النسل فيها إلى ما ليست مستعدة له ولا قادرة عليه لاشتغالها بوظيفة طبيعية أخرى هي إفراز الدم المعروف.
وقد فسر الجلال الأذى بالقذر تبعا لغيره. على أن أخذه على ظاهره وهو الضرر مقرر في الطب فلا حاجة إلى العدول عنه. وقد جاء هذا الحكم وسطا بين إفراط الغلاة الذين يعدون المرأة الحائض وكل من يمسها أو يمس ثيابها أو فراشها من النجاسات، وتفريط المتساهلين الذين يستحلون ملابستها في الحيض على ما فيه من الأذى والدنس.
وقد أفادت عبارة الآية الكريمة تأكيد الحكم إذ أمرت باعتزال النساء في زمن المحيض، وهو كناية عن ترك غشيانهن فيه، ثم بينت مدة هذا الاعتزال بصيغة النهي. والحكمة في التأكيد هي مقاومة الرغبة الطبيعية في ملابسة النساء وإيقافها دون حد الإيذاء. وكان يظن بعض الناس أن الاعتزال وترك القرب حقيقة لا كناية، وإنه يجب الابتعاد عن النساء في المحيض وعدم القرب منهم بالمرة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم أن المحرم إنما هو الوقاع.
عن أنس بن مالك أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله عز وجل ﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ﴾ إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اصنعوا كل شيء إلا الجماع ) ١ رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن. وفي حديث حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال ( لك ما فوق الإزار ) ٢ أي ما فوق السرة رواه أبو داود، وقد حمل بعضهم النهي على ما يخاف على نفسه الوقاع، وكأن السائل كان كذلك، وقال بعضهم إن هذا الحديث مخصص للحديث الأول ولما في معناه فلا يجوز الاستمتاع إلا بما فوق السرة والركبة، وهو تخصيص بالمفهوم والخلاف فيه عند الأصوليين معلوم.
قرأ حمزة والكسائي وعاصم ( يطَّهَّرْن ) بتشديد الطاء وأصله يتطهَّرن والباقون بالتخفيف.
﴿ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ﴾ الطهر في قوله تعالى ﴿ حتى يطهرن ﴾ انقطاع دم الحيض وهو ما لا يكون بفعل النساء، وأما التطهر فهو من عملهن وهو يكون عقب الطهر، واختلفوا في المراد منه فقال بعض العلماء هو غسل أثر الدم وقال مجاهد وعكرمة إن انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن تتوضأ، والجمهور على أن المراد به الاغتسال بالماء إن وجد، ولا مانع منه وإلا فالتيمم. وقالت الحنفية إن طهرت لأقل من عشر فلا تحل إلا إذا اغتسلت وإن لعشر حلت ولو لم تغتسل وهو تفصيل غريب. والأمر بإتيانهن لرفع الحظر في النهي عن قربهن وبيان شرطه وقيده. والظاهر أن المراد بلفظ الأمر في قوله ﴿ فأتوهن من حيث أمركم الله ﴾ الأمر التكويني أي فأتوهن من المأتى الذي برأ الله تعالى الفطرة على الميل إليه ومضت سنته بحفظ النوع به وهو موضع النسل ويحتمل أن يكون المراد بالأمر ما قضت به شريعة الله تعالى من طلب التزوج وتحريم الرهبانية فليس للمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرب إلى الله تعالى لأنه سبحانه قد امتن علينا بأن خلق لنا من أنفسنا أزواجنا لنسكن إليها وأرشدنا إلى أن ندعوه بقوله ﴿ ربنا هب لنا من أزوجنا وذرياتنا قرة أعين ﴾ ( الفرقان : ٧٤ ) ولا يتقرب إليه تعالى بترك ما شرعه وامتن به على عباده وجعله من نعمه عليهم.
فإتيان النساء بالزواج الشرعي من الجهة التي ينبغي بها النسل من أعظم العبادات، وتركه مع القدرة عليه وعدم المانع مخالفة لسنة الله تعالى في خلقته، وسنته في شريعته، ولما قال عليه الصلاة والسلام ( في بضع أحدكم صدقة ) قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال ( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ) ٣ الحديث وكأن السائلين كانوا توهموا أن الإسلام يكون كالأديان الأخرى يجعل العبادة في تعذيب النفس ومخالفة الفطرة، كلا إنه دين الفطرة يحمل الناس على إقامتها مع القصد وعدم البغي فيها.
﴿ إن الله يحب التوابين ﴾ الذين إذا خالفوا سنة الفطرة بغلبة سلطان الشهوة فأتوا نسائهم في زمن المحيض أو في غير المأتى الذي أمر الله به يرجعون إليه تائبين ولا يصرون على فعلهم السيء ﴿ ويحب المتطهرين ﴾ من الأحداث والأقذار، من إتيان المنكر، بل هؤلاء أحب إليه من الذين يقعون في الدنس ثم يتوبون منه.
٢ أخرجه أبو داود في الطهارة باب ٨٢، وأحمد في المسند ١/١٤..
٣ أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٥٣، وأحمد في المسند ٥/١٦٧..
وقوله تعالى ﴿ أنى شئتم ﴾ معناه كيف شئتم ﴿ وأنى ﴾ تستعمل غالبا بمعنى " كيف " وتستعمل بمعنى " أين " قليلا، ولا يظهر هنا لأن الحرث له مكان واحد لا يتعداه، والأمر مقيد به، ولذلك أعاد ذكر الحرث مظهرا ولم يقل ﴿ فأتوهن أنى شئتم ﴾ فكأنه يقول : لا حرج عليكم في إتيان النساء بأي كيفية شئتم ما دمتم تقصدون بها الحرث في موضعه الطبيعي، لأن الشارع لا يقصد إلى إعناتكم ومنعكم من لذاتكم، ولكن يريد ليوقفكم عند حدود المصلحة والمنفعة كيلا تضعوا الأشياء في غير مواضعها فتفوت المنفعة وتحل محلها المفسدة. وهذا التفسير الذي ظهر به أن الآية متممة لمعنى ما قبلها يغنينا في فهمها عما روي في أسباب النزول.
وقد ذهب بعض المفسرين والمحدثين إلى أن ( أنى ) في الآية بمعنى المكان لا بمعنى الكيفية والصفة، وقالوا إنها نزلت في إباحة الإتيان في غير المزدرع والحرث، فمعناها في أي النافذتين شئتم. قال الأستاذ الإمام إن جنون المسلمين بالرواية هو الذي حمل بعضهم على تفسير الآية بهذا المعنى الذي تتبرأ منه عبارتها العالية ونزاهتها السامية، ولم يلتفتوا إلى ذوق التعبير ومراعاة الأديب في بيان هذه الأحكام كما رأوا في الآية الكريمة، فقد فاتهم فهم حكمها، كما فاتهم فهم حكمتها ونزاهتها وأدبها. وأقول إن ما اختاره الأستاذ الإمام في تفسير ﴿ أنى شئتم ﴾ هو المأثور عن أئمة السلف والخلف وهو ظاهر من لفظ الآية لا يشتبه فيه من له ذوق العربية والروايات متعارضة متناقضة وأصحها حديث جابر عند الشيخين وأهل السنن وغيرهم وهو أن سبب نزولها حظر اليهود إتيان الحرث بكيفية غير المعهودة عندهم وزعمهم أن الولد يجيء أحول إذا كان العلوق بالوقاع من الطرف الآخر١، وتكذبهم التجارب. وأما ما روى في إباحة الخروج عن سنة الفطرة فلا يصح منه شيء، ولئن صح سندا فهو لن يصح متنا، ولا يخرج عن هدي القرآن ومحجته البيضاء لرواية أفراد قيل إنه لا يعرف عنه ما يجرح روايتهم.
ويؤيد التفسير المختار قوله تعالى بعدما تقدم ﴿ وقدموا لأنفسكم واتقوا الله ﴾ الخ. فهذه أوامر تدل على أن هنا شيئا يرغب فيه وشيئا يرغب عنه ويحذر منه. أما ما يرغب فيه فهو ما يقدم للنفس وهو ما ينفعها في المستقبل ولا أنفع للإنسان في مستقبله من الولد الصالح، فهو ينفعه في دنياه كما هو ظاهر، وفي دينه من حيث إن الوالد سبب وجوده وصلاحه، وقد ورد في الحديث أن الولد الصالح من عمل المرء الذي ينفعه دعاؤه بعد موته، ولا يكون الولد صالحا إلا إذا أحسن والداه تربيته، فالأمر بالتقديم للنفس، يتضمن الأمر باختيار المرأة الودود الولود التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وعملها، كما يختار الزراعة في الأرض الصالحة، التي يرجى نماء النبات فيها وإيتاؤه الغلة الجيدة، ويتضمن الأمر بحسن تربية الولد وتهذيبه.
وأما ما يحذر منه ويتقى الله فيه فهو إخراج النساء عن كونهن حرثا بإضاعة مادة النسل في المحيض أو بوضعها في غير موضع الحرث، وكذلك اختيار المرأة الفاسدة التربية وإهمال تربية الولد. فإن الأمر بالتقوى ورد بعد نهي عن إتيان النساء في المحيض والأمر بإتيانهن من حيث أمر الله تعالى وهو موضع الحرث والأمر بالتقديم لأنفسنا فوجب تفسير التقوى بتجنب مخالفة هذا الهدى الإلهي.
وقوله تعالى ﴿ واعلموا أنكم ملاقوه ﴾ إنذار للذين يخالفون عن أمره بأنهم يلاقون جزاء مخالفتهم في الآخرة كما يلاقونها في الدنيا، بفقد منافع الطاعة والامتثال وتجرع مرارة عاقبة المخالفة والعصيان. ثم قرن إنذار العاصين بتبشير المطيعين فقال ﴿ وبشر المؤمنين ﴾ الذين يقفون عند الحدود ويتبعون هدى الله تعالى في أمر النساء والأولاد، وقد حذف ما به البشارة ليفيد أنه عام يشمل منافع الدنيا ونعيم الآخرة. ولا يعزب عن فكر العاقل أن من يختار لنفسه المرأة الصالحة ولا يخرج في شأن الزوجية عن سنة الفطرة والشريعة في ابتغاء الولد، ثم إنه يحسن تربية ما يرزقه الله من ولد، فإنه يكون في الدنيا قرير العين بحسن حاله وحال أهله وسعادة بيته. وأما الذين تطغى بهم شهواتهم فتخرجهم عن الحدود والسنن فإنهم لا يسلمون من المنغصات والشقاء في حياتهم الدنيا، وهو في الآخرة أشقى وأضل سبيلا، وإنما سعادة الدارين في تكميل النفس بالاعتقاد الصحيح، والأخلاق المعتدلة، وتلك هي الفطرة السليمة. والتعبير بالمؤمنين يشعر بأن العمل والامتثال والإذعان مما يتحقق به إيمان المؤمن وأن فائدة الإيمان بثمراته هذه، وإن شئت قلت بتمام أركانه وهي الاعتقاد والقول والفعل، كما ورد في الأحاديث الصحيحة المبينة للآيات الكريمة، والدامغة للذين يفصلون بين الاعتقاد والأعمال اللازمة له.
وإننا نعيد التنبيه للاقتداء بنزاهة القرآن في التعبير عن الأمور التي يستحيا من التصريح بها بالكنايات البعيدة التي يفهم منها المراد ولا تستحي من تلاوتها العذراء في خدرها، فإن الإتيان بمعنى المجيء هو كناية لطيفة كقوله ﴿ ولا تقربوهن ﴾ وتشبيه النساء بالحرث لا يخفى حسنه. فأين هذه النزاهة مما تراه لبعضهم في تفسيرها وتفسير أمثالها من الآيات المعجزة بنزاهتها كإعجازها ببلاغتها، ومما تراه في بعض كتب الدين الأخرى من العبارات المستهجنة التي قد يستغنى عنها في بيان المراد منها.
هذه الآيات في أحكام الإيمان وهي عامة وخاصة والثاني هو حلف الرجل أن لا يقرب امرأته وخص باسم الإيلاء في عرف الشرع كما سيأتي فبين الآيات وما قبلها وما بعدها تناسب بهذا الاعتبار.
﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ﴾ العرضة بالضم كالغرفة لها معان أظهرها هنا اثنان : أحدهما : أن يكون بمعنى المانع المعترض دون شيء أي لا تجعلوا الله تعالى مانعا بينكم وبين عمل الخير بأن تحلفوا به على تركه فتتركوه تعظيما لاسمه، ويؤيد هذا المعنى ما رواه ابن جرير في سبب نزول الآية وهو حلف أبي بكر رضي الله عنه على ترك الإنفاق على مسطح بعد أن خاض في قصة الإفك وفيه نزل :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن تؤتوا أولي القربى ﴾ ( النور : ٢٢ ) الآية. ويؤيده أيضا أحاديث في الصحيحين وغيرهما منها قوله صلى الله عليه وسلم ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) ١ وقوله عليه الصلاة والسلام ( والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ) ٢ وفي حديث عائشة عند ابن ماجة وابن جرير قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه ) ٣ وفي هذا المعنى أحاديث أخرى. ذلك أن الإنسان يسرع إلى لسانه الحلف أنه لا يفعل كذا وقد يكون خيرا وليفعلن كذا وقد يكون شرا، والله تعالى لا يرضى بأن يكون اسمه حجابا دون الخير أو محضاء للشر، فنهى عن ذلك وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بوجوب تحري الخير، والأحسن وإن حلف على غيره فليكفر عن يمينه بما هو منصوص في سورة المائدة.
والمعنى الثاني للعرضة ما يعرض لشيء أي ما ينصب ليعرض له الشيء كالهدف السهام، يقال فلان عرضة للناس إذا كانوا يقعون فيه ويعرضون له بالمكروه قال الشاعر :
وإن تتركوا رهط الفدوكس عصبة | يتامى أيامى عرضة للقبائل٤ |
طلقتهن وما الطلاق بسبة | إن النساء لعرضة التطليق٥ |
قليل الألايا حافظ ليمينه | وإن سبقت منه الألية برت٦ |
وقوله تعالى :﴿ أن تبروا وتصلحوا بين الناس ﴾ على الوجه الأول بيان للأيمان لأنها بمعنى المحلوف عليه أي لا تجعلوه مانعا لما حلفتم على تركه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس بل إذا حلف أحدكم على ترك البر أو التقوى أو الإصلاح فليكفر عن يمينه وليفعل البر والتقوى والإصلاح، فلا عذر لأحد في ترك ذلك، ولا تجعلوه تعالى معرضا لأيمانكم لأجل البر والتقوى والإصلاح فإن كثير الحلف لا يكون أهلا لذلك لما تقدم من كونه يكون مهينا، غير معظم لله تعالى، وعرضة للكذب والحنث، وغير موثوق بقوله، فأنى يرضاه الناس مصلحا بينهم ؟ والمصلح مرب ومؤدب وحاكم مطاع بالاختيار. ثم قال ﴿ والله سميع عليم ﴾ أي سميع لما تلفظون به من الحلف وغيره عليم بما يترتب على كثرة الحلف وبغيره من أعمالكم فعليكم أن تراقبوه وتتذكروا عند داعية كل قول وعمل أنه سميع لأقوالكم عليم بأفعالكم، لعلكم تقفون عند حدود هدايته لكم فتكونون من المفلحين، وإلا كنتم من الخاسرين. هذا الختم للآية يتضمن الوعيد على كثرة الحلف فإذا دخل ما يجري في الكلام من قصد وروية كقول الإنسان : أي والله، ولا والله، وعد هذا مما يؤاخذ عليه ويجري فيه الحكم السابق كان الحرج عظيما، وقد رفع الله هذا الحرج بقوله ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾.
٢ أخرجه البخاري في الإيمان باب ١، والكفارات باب ٩، ومسلم في الإيمان حديث ٧، وأبو داود في الإيمان باب ١٤، والنسائي في الإيمان باب ١٥، وابن ماجه في الكفارات باب ٧، وأحمد في المسند ٤/٣٩٨..
٣ أخرجه ابن ماجه في الكفارات باب ٨..
٤ البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في لسان العرب (عرض)، وتهذيب اللغة ١/٤٥٥، وتاج العروس (عرض)..
٥ يروي البيت:
طلقتهن وما الطلاق بسبة | إن النساء لعرضة التطليق |
٦ البيت من الطويل، وهو لكثير عزة في ديوانه ص ٣٢٠، وبلا نسبة في لسان العرب (ألا)، ومجمل اللغة ١/٢٠٣، وتاج العروس (ألا)..
هذه الآيات في أحكام الإيمان وهي عامة وخاصة والثاني هو حلف الرجل أن لا يقرب امرأته وخص باسم الإيلاء في عرف الشرع كما سيأتي فبين الآيات وما قبلها وما بعدها تناسب بهذا الاعتبار.
﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ فاللغو أن يقع الكلام حشوا غير مقصود به معناه، فهو يقول إن هذه الألفاظ التي تسبق إلى اللسان عادة ولا يقصد بها عقد اليمين لغو من القول لا تعد أيمانا حقيقية، فلا يؤاخذكم الله تعالى بها بفرض الكفارة عليها ولا بالعقاب ﴿ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾ بأن تقصدوا جعل اسمه الكريم عرضة للابتذال، أو مانعا لصالح الأعمال، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأقوالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فالقول الحشو الذي لا أثر له في القلب، ولا شأن له في العمل، مما يعفو عنه، ولا يعاقب عليه، ﴿ والله غفور حليم ﴾ يغفر لعبده ما يلم به مما لا يفسد أخلاقه وأعماله، ولا يتعجل بالعقوبة على هذا اللمم الذي يضعف العبد عن التوقي منه، ولذلك لم يكلف عباده ما يشق عليهم فيما لم تقصده قلوبهم ولم تتعمده نفوسهم، لأنه مما لا يدخل تحت سلطة الاختيار. وقد ذكر بعض الفقهاء للغو اليمين غير هذا المعنى المتبادر ووضعوا لذلك أحكاما ذكرها المفسرون ولا حاجة إليها، وما قلناه هو المتبادر المأثور عن جمهور السلف.
هذه الآيات في أحكام الإيمان وهي عامة وخاصة والثاني هو حلف الرجل أن لا يقرب امرأته وخص باسم الإيلاء في عرف الشرع كما سيأتي فبين الآيات وما قبلها وما بعدها تناسب بهذا الاعتبار.
بعد بيان هذه الأحكام في الأيمان العامة انتقل إلى حكم اليمين الخاصة فقال ﴿ للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر ﴾ الخ فالإيلاء من المرأة أن يحلف الرجل إنه لا يقربها، وهو مما يكون من الرجال عند المغاضبة والغيظ، وفيه امتهان للمرأة وهضم لحقها وإظهار لعدم المبالاة بها، فترك المقاربة الخاصة المعلومة ضرارا معصية، والحلف عليه حلف على ما لا يرضى الله تعالى به لما فيه من ترك التواد والتراحم بين الزوجين وما يترتب على ذلك من المفاسد في أنفسهما وفي عيالهما وأقاربهما. والظاهر أن حكم هذا الإيلاء " الحلف " يدخل في معنى الآية السابقة على الوجه الأول من الوجهين اللذين أوردناهما، وهو أنه يجب على المؤلي أن يحنث ويكفر عن يمينه، ولكنه إذا لم يفعل هذا الواجب لم يكن آثما في نفسه فقط فيقال حسبه ما يلقى من جزاء إثمه، بل يكون بإثمه هاضما لحق امرأته، ولا يبيح له العدل هذا الهضم والظلم، ولذلك أنزل الله فيه هذا الحكم، وهو التربص مدة أربعة أشهر، وقد قيل إن هذه المدة التي لا يشق على المرأة البعد فيها عن الرجل وهي كافية لتروي الرجل في أمره ورجوعه إلى رشده.
﴿ فإن فاءو ﴾ أي رجعوا إلى نسائهم بأن حنثوا في اليمين وقاربوهن في أثناء هذه المدة أو آخرها ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ يغفر لهم ما سلف برحمته الواسعة لأن الفيئة توبة في حقهم.
هذه الآيات في أحكام الإيمان وهي عامة وخاصة والثاني هو حلف الرجل أن لا يقرب امرأته وخص باسم الإيلاء في عرف الشرع كما سيأتي فبين الآيات وما قبلها وما بعدها تناسب بهذا الاعتبار.
﴿ وإن عزموا الطلاق ﴾ أي صمموا قصده وعزموا على أن لا يعودوا إلى ملامسة نسائهم ﴿ فإن الله سميع عليم ﴾ أي فليراقبوا الله تعالى عالمين أنه سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنيتهم فيه، فإن كانوا يريدون به إيذاء النساء ومضارتهن فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي بأن كان الباعث على الإيلاء تربية النساء لأجل إقامة حدود الله، وعلى الطلاق ترك غشيان امرأته فلا يجوز له أن يتربص أكثر من أربعة أشهر فإن تاب وعاد قبل انقضائها لم يكن عليه إثم، وإن أتمها تعين عليه أحد الأمرين الفيئة والرجوع إلى المعاشرة الزوجية أو الطلاق، وعليه أن يراقب الله تعالى فيما يختاره منهما. فإن لم يطلق هو بالقول كان مطلقا بالفعل، أي أنها تطلق منه بعد انتهاء المدة رغم أنفه منعا للضرر، وقيل ترفع أمرها إلى الحاكم فيطلق عليه، والمسألة خلافية في هذا ولكن لا خلاف في عدم جواز بقائها على عصمته وعدم إباحة مضارتها. وقد فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق إذ جزاء الفيئة المغفرة والرحمة، وهدى إلى مراقبته في العزم على الطلاق، وذكر المؤلي بسمعه تعالى لما يقول وعلمه بما يسره في نفسه ويقصده من عمله.
هذا حكم الإيلاء من المرأة إذا أطلقه الزوج فلم يذكر زمنا أو قال لا أقربك مدة كذا وذكر أكثر من أربعة أشهر، فإن ذكر مدة دون أربعة أشهر فلا يلزمه شيء إذا أتمها وفي الأربعة خلاف. وقد عدي الإيلاء هنا بمن لما فيه من معنى المفارقة والانفصال، وهو من البلاغة والإيجاز بمكان. ويقال في غيره آلى وآلي وائتلى أن يفعل كذا أي حلف، وصار الإيلاء حقيقة شرعية في الحلف المذكور.
لما ذكر في الآية السابقة أن المؤلين من نسائهم حالين الفيئة بالرجوع إلى معاشرتهن، وعزم الطلاق وإمضاءه، ناسب أن يذكر بعده شيئا من أحكام الطلاق معطوفا على ما قبله متمما له فقال ﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ الخ.
قال الأستاذ الإمام قدس الله روحه١ : المراد بالمطلقات الأزواج اللواتي تحقق فيهن معنى الزوجية وعهدن أن يكن مطلقات، وأن يتزوجن بعد الطلاق، وهن الحرائر ذوات الحيض بقرينة السياق، فلا يأتي هنا ما يقوله الأصوليون في كلمة المطلقات هل اللام فيها للاستغراق أم للجنس ؟ وهل هو عام مخصوص أم لا ؟ لأن وصل الآية بما قبلها يمنع كل ذلك كما يمنعه التربص بالزواج، ولولا ذلك لكان البحث في موضعه، وأما حكم من لسن كذلك في الطلاق كاليائسة والتي لم تبلغ سن الحيض فمذكور في سورة الطلاق، وهن كأنهن لا يدخلن في مفهوم المطلقات فإن اليائسة من شأنها أن لا تطلق لأن من أمضى زمن الزوجية مع امرأة حتى يئست من المحيض كان من مقتضى الطبع والفطرة ومن أدب الشرع والدين أن يحفظ عهدها ويرعى ودها بإبقائها على عصمة الزوجية، وإن كان بعض السفهاء لا يحترمون تلك العشرة الطويلة، ولا يراعون ذلك الميثاق الغليظ، فيقدموا على طلاق اليائسة، ثم إن اليائسة إذا طلقت فلا تكاد تتزوج، وما خرج عن مقتضى الشرع واستقامة الطبع فلا يعتد به، والتي لم تبلغ سن المحيض قلما تكون زوجا ومن عقد على مثلها كانت رغبتها فيها عظيمة فيندر أن يتحول فيطلق، وحاصل ما تقدم أن ما يتبادر في هذا المقام من لفظ المطلقات يفيد أنهن الزوجات المعهودات المستعدات للحمل والنسل الذي هو مقصد من الزوجية فينتظر أن يرغب الناس في التزوج بهن.
ومعنى التربص مدة ثلاثة قروء هو أن لا تتزوج المطلقة حتى يمر عليها ثلاثة قروء، وهي جمع قرء بضم القاف وفتحها ويطلق في اللغة على حيض المرأة وعلى طهرها ومنه والأصل فيه الانتقال من الطهر إلى الحيض كما نقل عن الشافعي في قول له ولذلك لا يقال للطاهر التي لم تر الدم ذات قرء أو قروء، ولا للحائض التي استمر لها الدم، فلما كان القرء وسطا بين الدم والطهر أو عبارة عن الصلة بين هاتين الحالتين عبر به قوم من الفقهاء عن أحدهما وقوم عن الآخر، ولكل منهم شواهد في اللغة أطال المفسرون في إيرادها والترجيح بينها، فالمالكية والشافعية وآل البيت على أن القرء هو الطهر، والحنفية والحنابلة في أصح الروايتين على أن القرء هو الحيض، وأدلة الأولين أقوى.
قال الأستاذ الإمام والخطب في الخلاف سهل لأن المقصود من هذا التربص العلم ببراءة الرحم من الزوج السابق وهو يحصل بثلاث حيض كما يحصل بثلاثة أطهار، ومن النادر أن يستمر الحيض إلى آخر الحمل فكل من القولين موافق لحكمة الشرع في المسألة. وأورد الحكم بلفظ الخبر دون الأمر وغيره من ضروب الإنشاء كقوله كتب على المطلقات كذا لتأكيده والاهتمام به، كأنه يقول إن هذا التربص واقع كذلك لا محالة، كما يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني في هذا النوع من الإسناد الخبري في مقام الأمر، فعندما يقال المطلقات يلتفت ذهن السامع ويكون متهيئا لسماع ما يقال عنهن، فإذا قيل ( يتربصن بأنفسهن ) الخ وفيه الإسناد والحكم يتقرر عنده أنه مأمور به أمرا مؤكدا كأنه قال إننا أمرناهن بذلك وفرضناه عليهن فامتثلن الأمر وجرين عليه بالاستمرار حتى صار شأنا من شؤونهن اللازمة لهم لا ينصرفن عنه، بل لا يخطر في البال مخالفتهن له. وليس في الأمر بصيغته ما يفيد هذا التأكيد والاهتمام، لأن المأمور بالشيء قد يمتثل وقد يخالف. وهذا الضرب من التعبير معهود في التنزيل في مقام التأكيد والاهتمام يقع في الكتاب مواقعه لا يعدوها، ولا يخفى ذلك على من طعم البلاغة وذاقها.
وفي التعبير بقوله :﴿ يتربصن بأنفسهن ﴾ من الإبداع في الإشارة، والنزاهة في العبادة، ما عهد في كل القرآن، ولم يبلغ مراعاة مثله إنسان، فالكلام في المطلقات رهن معرضات للزواج، وخلو من الأزواج، والأنسب فيه ترك التصريح بما يتشوفن إليه، والاكتفاء بالكناية عما يرغبن فيه، على إقرارهن عليه، وعدم إيئاسهن منه، مع اجتناب إخجالهن، وتوقي تنفيرهن أو التنفير منهن، وقد جمع هذه المعاني قوله تعالى :﴿ يتربصن بأنفسهن ﴾ على ما فيه من الإيجاز، الذي هو من مواقع الإعجاز، فأفاد أنه يجب عليهن أن يملكن رغبتهن، ويكففن جماع أنفسهن، إلى تمام المدة الممدودة، والعدة المعدودة، ولكن بطريق الرمز والتلويح، لا بطريق الإبانة والتصريح، فإن التربص في حقيقته وظاهر معناه التريث والانتظار، وهو يتعلق بشيء يتريث عنه، وينتظر زوال المدة المضروبة دونه، ولولا كلمة ( بأنفسهن ) لما أفادت الجملة تلك المعاني الدقيقة، والكنايات الرشيقة، وما كان ليخطر على بال إنسان يريد إفادة حكم العدة أن يزيد هذه الكلمة على قوله :﴿ يتربصن ثلاثة قروء ﴾ ولو لم تزد لكان الحكم عاريا عن تأديب النفس والحكم على شعورها ووجدانها، ولعل الإرشاد إلى ما تنطوي عليه نفوس النساء من تلك النزعة في ضمن الإخبار عنهن بأن من شأنهن امتلاكها والتربص بها اختيارا، هو أشد فعلا في أنفسهن وأقوى إلزاما لهن أن يكن كذلك طائعات مختارات، كما أن فيه إكراما لهن ولطفا بهن، إذ لم يؤمرن أمرا صريحا، وهذا من الدقائق التي نحمد الله تعالى أن هدانا إلى فهمها، فأنى لأمثالنا من البشر أن يأتوا بمثلها ؟ !
قال الأستاذ الإمام بعد بيان هذه النكتة التي شرحناها : وزعم بعض الناس أن معنى التربص بالأنفس هنا ضبطها ومنعها أن تقع في غمرة الشهوة المحرمة، وعللوا ذلك بأن النساء أشد شهوة من الرجال ومنهم من قدر هذه الشدة والزيادة بأضعاف كثيرة حدها وعدها عدا، وهذا من نبذ الأقوال وطرحها بغير بينة ولا علم، فإن الرجال كانوا وما زالوا هم الذين يطلبون النساء ويرغبون فيهن، ثم يظلمونهن حتى بالتحكم في طبائعهن والحكم على شعورهن، ويأخذ بعضهم ذلك من بعض بالتسليم والتقليد.
وأقول إن من دقق النظر في أقوال الرجال في النساء في كل عصر ولاسيما أقوال كتاب الصحف في زمننا، ووزنها بموازينها، رأى فيها من الأغلاط والأوهام، ما يبطله النظر والاختبار، وأظهر أوهامهم ما يكتبونه في حب المرأة وفي الموازنة بينها وبين الرجل فيما تقدم وفي غيره، وأن المقلدين للمخطئ في ذلك أضعاف المقلدين للمصيب.
ثم بين تعالى حكمة هذا التربص بالزوج في سياق حكم آخر فقال ﴿ ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ﴾ كما كن يفعلن أحيانا في الجاهلية إذ كانت المرأة تتزوج بعد فراق رجل بآخر ويظهر لها أنها حبلى من الأول فتلحق الولد بالثاني، فهذا محرم في الإسلام، لأنه شر ضروب الغش والزور والبهتان، ينفى عن قوم من هو منهم، ويلحق بآخرين من ليس منهم. وفي ذلك من المضار ما لا يجهل، وقد حرمه الله في الإسلام، وأمر بأن تعتد المرأة بعد فراق زوجها ليظهر أنها بريئة من الحمل، ونهى أن تكتم الحمل إذا عملت به.
واختار كثير من المفسرين أن ما خلق الله في أرحامهن يشمل الولد والحيض وهو المروي عن ابن عمر فقد تكتم المرأة حيضتها، لتطيل أجل عدتها، وذلك محرم أيضا، وقد فشا في مطلقات هذا الزمان اللواتي لا يطمعن في الزواج، لأن الحكام يفرضون لهن نفقة ما دمن في العدة فيرغبن في استدامة هذه النفقة ما دمن في العدة فيرغبن في استدامة هذه النفقة بكتمان الحيض، وادعاء عدم مرور القروء الثلاثة عليهن، وما يأخذنه بعد انقضاء العدة حرام، وما هن ممن يتفكر في ذلك إذ لا علم لهن بأحكام الحلال والحرام، ولا يبالين ما عساهن يعرفنه منها، لأنهن لم يتربين على آداب الدين وأعماله، بل لم يلقن عقائده ولم يذكرن بآياته، حتى صار أكثرهن أقرب إلى أهل الإباحة منهن إلى أهل الدين، وإنما يتجنب الحرام ويتحرى الوقوف عند حدود الحلال أهل الإيمان الصحيح، ولذلك قال تعالى عقب النهي ﴿ إن كن يؤمن بالله واليوم الأخر ﴾ وهذا وعيد شديد وتهديد عظيم، كأنه يقول إذا كن يعرفن من أنفسهن الإيمان بالله الذي أنزل الحلال والحرام لمصلحة أرحامهن، وباليوم الآخر الذي يكون فيه الجزاء بالقسطاس، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وإلا كن غير مؤمنات بما أنزل الله تعالى من هذه الأحكام التي هي خير لهن ولأزواجهن، وحافظة لحقوقهم وحقوقهن، إذ التصديق الجازم بأن الله تعالى أنزل هذا الحكم وجعل في اتباعه المثوبة والرضوان، وفي تركه الشقاء والخسران، يكون سببا طبيعيا لامتثاله، مع إعظامه وإجلاله، وعلى هذا الحد ما ورد في الحديث الصحيح ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ٢ الخ فمن لنا بمن يبلغ النساء المؤمنات هذا التشديد ؟ ومن لنا بمن يهتم بتلقين البنات عقائد الإيمان، وتربيتهن على الأعمال التي تمكن هذه العقائد في العقل والوجدان، وأي الرجل يفعل هذا والرجال أنفسهم لم يعد لهم هم في الدين إلا قليلا منهم ؟ وهؤلاء يرون النساء متاعا لا أناسي مثلهم، فيدعونهن وشأنهن، لا يتفكرون في أسباب ما يلقون من عواقب إهمالهن، ورزايا جهلهن.
﴿ وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ﴾ قال الأستاذ الإمام قدس الله روحه : هذا لطف كبير من الله سبحانه وتعالى وحرص من الشارع على بقاء العصمة الأولى، فإن المرأة إذا طلقت لأمر من الأمور سواء كان بالإيلاء أو غيره فقلما يرغب فيها الرجال، وأما بعلها المطلق فقد يندم على طلاقها، ويرى أن ما طلقها لأجله لا يقتضي مفارقتها دائما، فيرغب في مراجعتها ولاسيما إذا كانت العشرة السابقة بينهما على طريقتها الفطرية، فأفضى كل منهما إلى الآخر بسره حتى عرف عجره وبجره، وتمكنت الألفة بينهما على علاتهما، وإذا كانا قد رزقا الولد فإن الندم على الطلاق يسرع إليهما لأن الحرص الطبيعي على العناية بتربية الولد وكفالته بالاشتراك تغلب بعد زوال أثر المغاضبة العارضة على النفس، وقد يكون أقوى إذا كان الأولاد إناثا، لهذا حكم الله تعالى لطفا منه بعباده بأن بعل المطلقة أي زوجها أحق بردها في ذلك أي في زمن التربص وهي العدة.
وفي هذا البيان حكمة أخرى للعدة غير تبين الحمل أو براءة الرحم، وهي إمكان المراجعة، فعلم بذلك أن تربص المطلقات بأنفسهن فيه فائدة لهن وفائدة لأزواجهن. وإنما يكون بعل المرأة أحق بها في مدة العدة إذا قصد إصلاح ذات البين وحسن المعاشرة، وأما إذا قصد مضارتها ومنعها من التزوج بعد العدة حتى تكون كالمعلقة لا يعاشرها معاشرة الأزواج بالحسنى ولا يمكنها من التزوج، فهو آثم بينه وبين الله تعالى بهذه المراجعة، فلا يباح أن يرد مطلقته إلى عصمته إلا بإرادة إصلاح ذات البين ونية المعاشرة بالمعروف. وإنما قال الإمام إنه آثم بينه وبين الله تعالى لإفادة أن ذلك محرم لأمر خفي يتعلق بالقصد فلم يكن شرطا في الظواهر لصحة الرجعة، وما كل ما صح في نظر القاضي يكون جائزا تدينا بين الإنسان وربه، لأن القاضي يحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. والطلاق الذي فيه الرجعة قبل انقضاء
٢ أخرجه ابن ماجه في الفتن باب ٨..
كان للعرب في الجاهلية طلاق ومراجعة في العدة ولم يكن للطلاق حد ولا عدد فإن كان لمغاضبة عارضة عاد الزوج فراجع واستقامت عشرته، وإن كان لمضارة المرأة راجع قبل انقضاء العدة واستأنف طلاقا ثم يعود إلى ذلك المرة بعد المرة أو يفيء ويسكن غضبه، فكانت المرأة ألعوبة بيد الرجل يضارها بالطلاق ما شاء أن يضارها، فكان ذلك مما أصلحه الإسلام من أمور الاجتماع. وكان سبب نزول الآية ما أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة وأورده السيوطي في أسباب النزول قالت كان رجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته والله لا أطلقك فتبيني، ولا آويك أبدا، قالت وكيف ذلك ؟ قال أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك. فذهبت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فسكت حتى نزل القرآن :﴿ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ ١
قال الأستاذ الإمام ( رحمه الله تعالى ) ما مثاله بإيضاح : قد ذكر في الآية السابقة الطلاق على الطلاق وذكر العدة والطلاق هنا هو الطلاق هناك. وهو عبارة عن مفارقة المرأة المدخول بها، بحل الرجل عقدة الزوجية التي تربطهما معا، واللفظ دل على هذا المعنى. فهذا بيان لأصل الشرع في الطلاق جاء على صيغة الخبر لتقريره وتوكيده كقوله ﴿ والمطلقات يتربصن ﴾ أي أن حد الله الذي حده للطلاق ولم يخرج به العصمة من أيدي الرجال هو مرتان، أي طلقتان، وعبر بالمرتين ليفيد أن الطلقتين تكون كل منهما مرة تحل بها العصمة ثم تبرم، لا أنهما يكونان بلفظ واحد، ولهذا روى عن ابن عباس أنه جعل كلمة ( طلقت ثلاثا ) بمثابة قرأت الفاتحة ثلاثا، فإن كان صادقا فالطلاق صحيح وإلا فهو لغو من القول وقال إن إنشاء الطلاق ثلاثا بالقول ليس في قدرة الرجل إيقاعه مرة واحدة. ذلك أن الأمور العملية لا تتكرر بتكرر القول المعبر عنها، بل ولا القولية أيضا. فمن فسخ العقد مرة وعبر عنها بقوله ثلاثا فهو كاذب. ولو صح ذلك لصح أن يقال الواحد ثلاثة الثلاثة واحد. ومن سفه نفسه وجاء بهذا فقد خرج عن السنة واستحق التأديب.
فقد روى النسائي من حديث محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال :( أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ) حتى قام فقال يا رسول الله ألا أقتله ! ٢ قال ابن كثير إسناده جيد وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام : رواته موثقون. وقد صرح جماهير العلماء ومنهم الحنفية بأن الطلاق الشرعي هو ما كان مرة بعد مرة، وإن جمع الاثنتين أو الثلاث بدعة، وأنه حرام قال أبو زيد الدبوسي في الأسرار : وهذا هو قول عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة وهو أعلم الصحابة رضي الله عنهم.
قال : هذا هو الطلاق المشروع في كتاب الله تعالى وهو الطلاق الرجعي على هذه الصفة وبهذا العدد، وأما الطلاق البائن فلم يرد في كتاب الله تعالى والفقهاء والمحدثون متفقون على أن حكم الطلاق البائن بلفظ الثلاث أو تكرار اللفظ لا يؤخذ من هذه الآية ولا من آية أخرى من القرآن، ولذلك وقع فيه الخلاف من الصدر الأول إلى الآن، ولم يذكر الخلاف بعد الأئمة الأربعة عن أحد من أتباعهم إلا عن بعض الحنابلة وجمهور الأمة على أن من قال لامرأته أنت طالق ثلاثا تبين منه كما لو طلقها ثلاث مرات، فالطلاق في الآية يراد به نوع منه وهو الرجعي، وأما البائن فلم يذكر، وقد أخذوه من حديث الملاعنة والآخرون يجيبون عنه بأن الملاعنة٣ تقتضي التفريق فالطلاق بعدها لغو.
أقول : حديث الملاعنة الذي أشار إليه الأستاذ الإمام هو ما رواه أحمد والشيخان عن سهل بن سعد أن عويمرا العجلاني أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآنا فأت بها ) فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله ص فلما فرغ قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين٤. وفي لفظ لمسلم وأحمد وكان فراقه إياها سنة في المتلاعنين. وفي حديث ابن عمر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما، ومن هنا ذهب بعض العلماء إلى أن اللعان لا يقتضي التفريق إلا بحكم الحاكم به، وأجاب عنه الذين قالوا إن اللعان يقتضي التفريق بنفسه بأن تفريقه صلى الله عليه وسلم بينهما هو بيانه الحكم في ذلك لا إنشاء تفريق، وعلى كل من القولين لا يحتج بالحديث في وقوع التطليق الثلاث بتكرار اللفظ في المجالس كما فعل عويمر إذ قال :" كما في رواية " فهي الطلاق فهي الطلاق فهي الطلاق. فإن المتبادر منه أنه تأكيد باللفظ، ولو كان هذا طلاقا مكررا صادف محلا لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم إيقاعه بدعيا كما أنكر على الرجل الآخر الذي ذكر في حديث النسائي.
وللجمهور أحاديث أخرى لم يذكرها الأستاذ الإمام من أدلتهم لضعفها واضطرابها أشهرها حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال والله ما أردت إلا واحدة فأعاد اليمين النبي صلى الله عليه وسلم وأعادها هو فردها إليه، وطلقها الثانية من زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان٥، رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وغيرهم قال الترمذي لا يعرف إلا من هذا الوجه وسألت عنه محمدا يعني البخاري فقال فيه اضطراب، فقيل طلقها ثلاثا وقيل واحدة وقيل البتة، وفي إسناده الزبير بن سعد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد وقال ابن عبد البر في التمهيد تكلموا في هذا الحديث، فهو ضعيف ومضطرب كما أنه عارض بما يأتي، ورواية ثلاثا فيه معارضة للروايتين وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة فهو باختلاف رواياته مشترك الإلزام، ومنها حديث ابن عمر وقد ضعفه غير واحد ولا حجة فيه.
وأما الحديث المعارض لذلك الموافق للكتاب العزيز فهو ما رواه أحمد ومسلم من حديث طاوس عن ابن عباس قال كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناه فلو أمضينا عليهم، فأمضاه عليهم٦، وفي رواية لمسلم عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هناتك، ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة ؟ قال قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق ( التتايع بالمثناة التحتية الوقوع في شر من غير تماسك ولا توقف ) فأجازه عليهم٧، وفي رواية لأبي داود٨ التقييد بما قبل الدخول وهو فرد من أفراد الرواية المطلقة التي هي أصح. وللحديث طريق آخر عند الحاكم وصححه. فلم يبق للجمهور إلا الأخذ بعمل عمر رضي الله عنه ومن لم يحتج بعمل الصحابة قال إنه لا بد له من دليل.
قال في نيل الأوطار : واعلم أنه قد وقع الخلاف في الطلاق الثلاث إذا وقعت في وقت واحد هل يقع جميعها ويتبع الطلاق الطلاق أم لا ؟ فذهب جمهور التابعين وكثير من الصحابة وأئمة المذاهب الأربعة وطائفة من أهل البيت منهم أمير المؤمنين على رضي الله تعالى عنه والناصر والإمام يحي حكى عنهم في البحر وحكاه أيضا عن بعض الإمامية أن الطلاق يتبع الطلاق، وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطلاق بل يقع واحدة فقط، وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أبي موسى ورواية عن علي عليه السلام وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والباقر والناصر وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسى بن عبد الله ورواية عن زيد بن علي، وإليه ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية وابن قاسم وجماعة من المحققين، وقد نقله ابن مغيب في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح ونقل الفتوى بذلك عن مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي ومحمد بن عبد السلام وغيرهما، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار وحكاه ابن مغيب في ذلك الكتاب عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وعبد الرحمان بن عوف والزبير.
وذهب بعض الإمامية إلى أنه لا يقع بالطلاق المتتابع شيء ولا واحدة ولا أكثر منها، وقد حكى ذلك عن بعض التابعين، وروي عن ابن علية وهشام بن الحكم وبه قال أبو عبيدة وبعض أهل الظاهر وسائر من يقول إن الطلاق البديع لا يقع لأن الثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة منه. الخ ثم ذكر الشوكاني الأدلة وعرضها على ميزان التعادل والترجيح ورجح وقوع الواحدة وله أي للشوكاني رسالة خاصة في تفنيد أدلة الجمهور وأجوبتهم عن الحديث الصحيح، ولشيخ الإسلام ابن تيمية مؤلف خاص فيها.
وقد أطال ابن القيم في إعلام الموقعين القول في المسألة وأورد الأحاديث فيها والدلائل وأوضح معنى قوله تعالى ﴿ الطلاق مرتان ﴾ بالآيات والأحاديث وهو أن معناها أنه يكون مرة بعد مرة كما تقدم قال :" ومن كان مرة لم يملك المكلف إيقاع مراته كلها جملة واحدة كاللعان فإنه لو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني من الصادقين : كان مرة واحدة، لو حلف في القسامة٩ وقال أقسم بالله يمينا إن هذا قائله : كان ذلك يمينا واحدة، ولو قال المقر بالزنا : أن أقر أربع مرات أني زنيت : كان مرة واحدة، فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارا واحدا ! ثم ذكر أحاديث وآيات أخرى كالأمر بالاستئذان ثلاث مرات وغير ذلك.
ثم ذكر أن الصحابة كانوا مجمعين على أنه لا يقع بالثلاث مجتمعة إلا واحدة من أول الإسلام إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وإن هذا الإجماع لم ينقضه إجماع بعده، وذكر بعض من أفتى به من الصحابة والتابعين وأتباع تابعيهم، وأن الفتوى بذلك تتابعت في كل عصر حتى كان من أتباع الأمة الأربعة من أفتى بذلك، فإنه عندما ذكر أتباع تابعي التابعين قال " فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه حكاه عنهم أبو المغلس وابن حزم وغيرهما، وأفتى به بعض أصحاب مالك حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الحلاب قولا لبعض المالكية وأفتى به بعض الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه قال وكان الجد يفتي به أحيانا " ثم ذكر أن الأئرم من أصحاب أحمد سأله عن حديث ابن عباس بأي شيء يدفعه ؟ فقال بما روي من فتوى ابن عباس بخلافه روي عنه في الفتوى روايتان ثم قال إن مذهب أحمد العمل برواية الصحابي دون رأيه إذا اختلفا، وذكر لذلك شواهد. ثم بين أن إجازة عمر الثلاث لما تتايع الناس في الطلاق تأديبا لهم على مخالفة ما شرع الله في الطلاق من كونه يوقع المرة بعد المرة ليرجعوا إلى السنة، ووجه ذلك بالنسبة إلى ذلك الوقت، وذكر الروايات في تأييده، ثم بين أن المصلحة الآن تقضي بالرجوع إلى الكتاب وما مضت به السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخليفة الأول فرارا من مفاسد ال
٢ أخرجه النسائي في الطلاق باب ٦..
٣ الملاعنة في اللغة وفي الشرع أن يقذف الرجل امرأته بالفاحشة فيشهد أربع شهادات بالله أنه لصادق وفي الخامسة يلعن نفسه إن كان كاذبا، ويدفع عنها الحد أن تشهد بعده أربع شهادات بالله إنه لكاذب، والخامسة إن غضب الله عليها إن كان صادقا. والآيات في سورة النور واضحة..
٤ أخرجه البخاري في الطلاق باب ٢٩، ٤٤، ومسلم في اللعان حديث ١، ٢، وأبو داود في الطلاق باب ٢٧، والنسائي في الطلاق باب ٣٥، وابن ماجه في الطلاق باب ٢٧، والدرامي في النكاح باب ٣٩، واحمد في المسند ٢٢٤..
٥ أخرجه أبو داود في الطلاق باب ١٠، ١٤، واللباس باب ٢١، والترمذي في الطلاق باب ٢، واللباس باب ١١، وأحمد في المسند ١/٢٦٥..
٦ أخرجه مسلم في الطلاق حديث ١٥، وأحمد في المسند ١/٣١٤..
٧ أخرجه مسلم في الطلاق حديث ١٧..
٨ كتاب الطلاق باب ١٠..
٩ القسامة بالفتح الإيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم واتهموا رجلا أنه قتله ومنها دليل دون البينة فيحلفون خمسين يمينا أنه قتله، ويجعل القسامة عليهم أيضا..
بعد أن بين سبحانه وتعالى أن الطلاق مرتان وأنه يكون بلا عوض وقد يكون بعوض قال ﴿ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ﴾ أي فإن طلقها بعد المرتين طلقة ثالثة وهي التسريح بإحسان فلا يملك مراجعتها بعد ذلك إلا إذا تزوجت بآخر زواجا صحيحا مقصودا حصل به ما يراد بالزواج من الغشيان. قال الأستاذ الإمام : عبر عن الطلقة الثالثة ب( إن ) دون ( إذا ) للإشعار بأنها لا ينبغي أن تقع مطلقا كأنه تعالى لا يرضى أن يتجاوز الطلاق المرتين، والنكاح له إطلاقان العقد وما وراء العقد وهو المقصود منه الذي يكنى عنه بالدخول. وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أن الحل يحصل بمجرد العقد، وهو خلاف ما عليه الجماهير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذ قالوا لا بد من المخالطة الزوجية أخذا من إسناد النكاح إلى المرأة مع العلم بأن المرأة لا تتولى العقد ومن تسمية من تنكح زوجا. وهذا هو الموافق لحديث العسيلة الصحيح والمنطبق على الحكمة في منع المراجعة.
روى الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث عائشة قالت جاءت امرأة رفاعة القرضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ١ والعسيلة كناية عن أقل ما يكون من تغشي الرجل للمرأة. وذكر السيوطي في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في امرأة رفاعة هذه واسمها عائشة بنت عبد الرحمان بن عتيك ورفاعة بن وهب بن عتيك ابن عمها. وساق الحديث من رواية ابن المنذر عن مقاتل بن حيان وفيه أنها قالت إنه طلقني أي عبد الرحمن زوجها الثاني قبل أن يمسني أفأرجع إلى الأول ؟ قال " لا حتى يمس ".
وقال المفسرون والفقهاء في حكمة ذلك أنه إذا علم الرجل أن المرأة لا تحل له بعد أن يطلقها ثلاث مرات إلا إذا نكحت زوجا غيره فإنه يرتدع لأنه مما تأباه غيرة الرجال وشهامتهم، ولاسيما إذا كان الزوج الآخر عدوا أو مناظرا للأول، ولنا أن نزيد على ذلك أن يطلق زوجته ثم يشعر بالحاجة إليها فيرتجعها نادما على طلاقها، ثم يمقت عشرتها بعد ذلك فيطلقها، ثم يبدو له ويترجح عنده عدم الاستغناء عنها فيرتجعها ثانية، فإنه يتم له بذلك اختبارها، لأن الطلاق الأول ربما جاء عن غير روية تامة ومعرفة صحيحة منه بمدار حاجته إلى امرأته، ولكن الطلاق الثاني لا يكون كذلك، لأنه لا يكون إلا بعد الندم على ما كان أولا والشعور بأنه كان خطأ، ولذلك قلنا إن الاختبار يتم به فإذا هو راجعها بعده كان ذلك ترجيحا لإمساكها على تسريحها، ويبعد أن يعود إلى ترجيح التسريح بعد أن رآه بالاختبار التام مرجوحا، فإن هو عاد وطلق ثالثة كان ناقص العقل والتأديب، فلا يستحق أن تجعل المرأة كرة بيده يقذفها متى شاء تقلبه ويرتجعها متى شاء هواه، بل يكون من الحكمة أن تبين منه ويخرج أمرها من يده، لأنه علم أن لا ثقة بالتئامهما وإقامتهما حدود الله تعالى.
فإن اتفق بعد ذلك أن تزوجت برجل آخر عن رغبة واتفق أن طلقها الآخر أو مات عنها، ثم رغب فيها الأول وأحب أن يتزوج بها وقد علم أنها صارت فراشا لغيره ورضيت هي بالعود إليه، فإن الرجاء في التئامهما وإقامتهما حدود الله تعالى يكون حينئذ قويا جدا، ولذلك أحلت، بعد العدة، وقد شرحنا الحكمة بناء على ما فسرنا به كون الطلاق مرتين، وكون النكاح لزوج آخر هو ما يكون بين الزوجين بالعقد الصحيح وهو الحق.
﴿ فإن طلقها ﴾ الزوج الثاني ﴿ فلا جناح عليهما ﴾ أي الزوج الثاني والمرأة ﴿ أن يتراجعا ﴾ هذا ما اختاره الأستاذ الإمام خلافا للجلال وغيره من القائلين إن المراد الزوج الأول والمرأة قال وحكمته بعد قوله تعالى :﴿ وبعولتهن أحق بردهن ﴾ ( البقرة : ٢٢٨ ) هي إزالة وهم من يتوهم أن الزوج الأول يكون أحق بها ولا تظهر لنا حكمة في قولهم إن المراد الزوج الأول والمرأة. وعلى كل من القولين لا بد في التراجع من مراعاة شرطه وهو قوله ﴿ إن ظنا أن يقيما حدود الله ﴾ أي ترجح عند كل منهما أنه يقوم بحق الآخر على الوجه الذي حده سبحانه وتعالى فلا بد من حسن القصد وسلامة النية من كل من الزوجين، لأن الله تعالى ما وضع هذه الحدود للزوجين إلا ليصلح حالهما ويستقيم عملهما، فإن كانت هناك نية سوء فإن هذا التراجع لا قيمة له عند الله تعالى، وإن صح عند القاضي أو المفتي عملا بالظواهر وقد فسر بعضهم الظن هنا بالعلم، ولا وجه له لغة ولا فعلا إذ لا يعلم أحد باليقين كيف يعامل الآخر في المستقبل ويكفي أن ينوي إقامة الحدود الشرعية ويغلب على ظنه القدرة على تنفيذ ما نواه.
قال ﴿ وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ﴾ الإشارة بتلك إلى الأحكام في الآية أو الآيتين بينهما في كتابه لأهل العلم بفائدتها وما فيها من المصلحة، ومن علم المصلحة في شيء كان مندفعا بطبعه إلى العمل به وإقامته على الوجه الذي تتحقق به الفائدة منه، يبينها لهؤلاء الذين يعلمون الحقائق لأنهم هم الذين يقيمونها لا من جهل ذلك فيأخذ بظاهر قول المفتي أو القاضي ولا يجعل لحسن النية وإخلاص القلب مدخلا في عمله، فيرجع إلى المرأة ويضمر لها السوء ويبغيها الانتقام، وقد بينا معنى هذه الحدود في تفسير ﴿ ولهن مثل الذي عليهن ﴾ ( البقرة : ٢٢٨ ) فارجع إليه إن كنت نسيته.
ألا فليعلم كل مسلم أن الآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثا هو ما كان زواجا صحيحا عن رغبة، وقد حصل به مقصود النكاح لذاته، فمن تزوج بامرأة مطلقة ثلاثا بقصد إحلالها للأول كان زواجه صوريا غير صحيح، ولا تحل به المرأة للأول بل هو معصية لعن الشارع فاعلها، وهو لا يلعن من فعل فعلا مشروعا ولا مكروها فقط، بل المشهور عند جمهور العلماء أن اللعن إنما يكون على كبائر المعاصي، فإن عادت إليه كانت حراما، ومثال ذلك من طهر الدم بالبول، وهو رجس على رجس. وبهذا قال مالك وأحمد والثوري وأهل الظاهر وخلائق غيرهم من أهل الحديث والفقه.
وقال الأستاذ الإمام : إن نكاح التحليل شر من نكاح المتعة وأشد فسادا وعارا وقال آخرون من الفقهاء إنه جائز مع الكراهة ما لم يشترط في العقد هو أن يكون الظاهر عنوان الباطن وإلا كان نفاقا، على أن باغي التحليل ليس بمتزوج حقيقة الزواج الذي شرعه الله وبينه لا عند نفسه ولا عند من أراده على التحليل وتواطأ معه عليه، فإن عذر القاضي المنفذ له بجهله للواقع عملا بالظاهر، فلا يعذر به العالم به، والمقترف له. وقد أوضح ذلك الحافظ الفقيه ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) أتم الإيضاح ومن غرائب الانتصار للتقليد أن استدل بعضهم ( كالألوسي ) على صحة نكاح المحلل بتسميته محللا في الحديث الناطق بتحريم التحليل، وإنما سماه بذلك من أرادوه أول مرة عند حاجتهم إليه، وبعد التسمية سئل عنه الشارع فلم يجز عمله ولا يصح أن تكون حكاية لفظ الاسم، مبطلة لمضمون الحكم، فالناس هم الذين سموا، والشارع هو الذي حرم، كما ترى في حديث ابن عباس الآتي، وإننا نثبت هنا ما أورده ابن حجر المكي في الزواجر من الأخبار والآثام في تحريم التحليل قال :
أخرج أحمد والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ألا أخبركم بالتيس المستعار ) قالوا بلى يا رسول الله قال ( هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له ) ٢ قال الترمذي والعمل على ذلك عند أهل العلم منهم عمر وابنه وعثمان رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء من التابعين. وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال " لا " إلا نكاح رغبة لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل ثم تذوق العسيلة " وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة وعبد الرزاق والأثرم عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا يؤتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك فقال كلاهما زان، وسأل رجل ابن عمر فقال ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم ؟ فقال له ابن عمر : لا، إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا لنعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال ذلك هو السفاح. وعن رجل طلق ابنة عمه ثم ندم ورغب فيها فأراد أن يتزوجها رجل ليحلها له فقال : كلاهما زان وإن مكثا عشرين سنة أو نحوها، إذا كان يعلم أنه يريد أن يحلها. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن طلق امرأته ثلاثا ثم ندم فقال : هو رجل عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل مخرجا ؟ فقيل له فكيف ترى في رجل يحلها له ؟ فقال من يخادع الله يخدعه " اه.
وأنت ترى مع هذا أن رذيلة التحليل قد فشت في الأشرار الذين جعلوا رخصة الطلاق عادة ومثابة، ولاسيما مع الفتوى والحكم بأن الطلاق مرة واحد بلفظ الثلاث يقع ثلاثا، اتخذ غوغاء المسلمين دينهم هزوا ولعبا، فصار الإسلام نفسه يعاب بهم وما عيبه سواهم. وقد رأيت في لبنان رجلا نصرانيا ولع بشراء الكتب الإسلامية وغيرها وأكثر من النظر فيها، فاهتدى إلى حقية الإسلام مع الميل إلى التصوف، فأسلم، وقال لي لم أجد في الإسلام غير ثلاثة عيوب لا يمكن أن تكون من الله أقبحها مسألة ( التجحيش ) أي التحليل فبينت له الحق فيها فاقتنع.
٢ أخرجه أبو داود في النكاح باب ١٥، والترمذي في النكاح باب ٢٨، والنسائي في الطلاق باب ١٣، والزينة باب ٢٥، وابن ماجه في الناكح باب ٣٣، والدارمي في النكاح باب ٥٣، وأحمد في المسند ١/٨٣، ٨٧، ٨٨، ٩٣، ١٠٧، ١٢١، ١٣٣، ١٥٠، ١٥٨، ٤٥٠، ٢/٣٢٢. جميعهم أخرجوا الحديث بلفظ: "لعن رسول الله المحل والمحلل له"..
هذا حكم جديد غير ما تقدم في قوله ﴿ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ فهذه الآية بيان للواجب في معاملة المطلقات ونهي عن ضده ووعيد على هذا الضد وإرشاد إلى المصلحة، والحكمة في الائتمار بذلك الأمر والانتهاء عن هذا النهي. وتلك بيان لكيفية الطلاق المشروع وعدده وكون الأصل فيه أن يكون بغير عوض، وكون أخذ العوض من المرأة لا يحل إلا بشرط. ولا ينافي هذا ما ورد في سبب نزولها وذكرناه في تفسيرها وهو أليق بهذه، فإن هذه الآيات كلها نزلت في إبطال ما كان عليه الناس من سوء معاملة النساء في الطلاق، فجميع الوقائع التي كانت تقع على عادات الجاهلية كانت تعد من أسباب النزول لها، وقد ورد في أسباب نزول هذه ما نقله السيوطي في كتابه عن ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها ثم يفعل ذلك يضارها ويعضلها فأنزل الله هذه الآية وأخرج عن السدي قال نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها مضارة فأنزل الله تعالى ﴿ ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ﴾ اه ولا تحسبن أن قوله تعالى ﴿ ولا تمسكوهن ﴾ نزل وحده بل كالقول في مجموع هذه الآيات في مسائل الطلاق نزلت كلها مرة واحدة فيما يظهر من سياقها، ولكن بعد وقوع حوادث جعلت من أسبابها.
الأجل في قوله تعالى :﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ﴾ هو زمن العدة ومعنى بلغن أجلهن قاربن إتمام العدة، قال القرطبي هذا إجماع لم يفهم أحد من الآية غيره، وهو مبني على قاعدة ما قارب الشيء يعطى حكمه تجوزا قرينته العرف : يقول المسافر بلغنا البلد أو وصلنا إليه إذا دنا منه وشارفه. وقوله ﴿ فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ﴾ معناه فأعزموا أحد الأمرين إمساك المرأة بالمراجعة أو إطلاق سبيلها وليكن ما تختارونه من أحد الأمرين بالمعروف الذي شرع لكم في آية الطلاق مرتان ﴿ ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ﴾ أي ولا تراجعوهن إرداة مضارتهن وإيذائهن للاعتداء عليهن بتعمد ذلك، فالضرار بمعنى الضرر وذكر بالصيغة التي تأتي للمشاركة للإشعار بأن ضره إياها يستلزم ضرها إياه، فالرجال يضرون أنفسهم بإيذاء النساء، ويؤيد هذا قوله ﴿ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ﴾ في الدنيا بسلوك طرق الشر والاعتداء التي لا راحة لضمير صاحبها، وبجعل المرأة وعصبتها أعداء له يناصبونه ويناوئونه، والعدو القريب أقدر على الإيذاء من العدو البعيد، وبتنفير الناس منه حتى يوشك أن لا يصاهره أحد، وظلم نفسه في الأخرى أيضا بما خالف أمر الله وتعرض لسخطه.
ثم قال تعالى :﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزوا ﴾ وهذا وعيد بعد وعيد، وتهديد لمن يتعدى حدود الله في هذه الأحكام أي تهديد، والسبب فيه حمل المسلمين على احترام صلة الزوجية، وتوقي ما كانوا عليه في عهد الجاهلية، فقد كانوا يتخذون النساء لعبا، ويعبثون بطلاقهن وإمساكهن عبثا، وفي أسباب النزول : أخرج ابن أبي عمر في مسنده وابن مردويه عن أبي الدارداء قال كان الرجل يطلق ثم يقول لعبت، ويعتق ثم يقول لعبت، فأنزل الله ﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزوا ﴾ أي أنزله فيما أنزل من آيات أحكام الطلاق، لا أنه أنزله على حدة كما تقدم نظيره في نظيره. والمعنى لا تتهاونوا بحدود الله تعالى التي شرعها لكم في الآية جريا على سنن الجاهلية، فإن هذا التهاون والاعتداء للحدود بعد هذا البيان والتأكيد من الله تعالى يعد استهزاء بآياته ومن هنا قال بعض السلف : المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه. ولا شك أن الذي يخالف أمر الله وينقض هذه العهود يعد توثيقها طلبا لشهوة من شهواته، أو استمساكا بعادة من عاداته، فهو جدير بأن يعد مستهزئا بآيات الله غير مذعن لها.
بعد التحذير من التهاون بحقوق النساء وجعل العابث بأحكام الله فيها مستهزئا بآياته وفي ذلك من الوعيد والترهيب ما فيه أراد تعالى أن يقرر هذه الأحكام في النفوس بباعث الترغيب فيها بالتذكير بفوائدها ومزاياها، وبيان المنة في هداية الدين التي هي منها، فقال ﴿ واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ﴾ أي امتثلوا ما ذكر آنفا من أمر ونهي، وتذكروا نعمة الله تعالى عليكم بالفطرة السليمة في الرابطة الزوجية المعبر عنها قوله تعالى :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ ( الروم : ٢١ ) وما أنزله عليكم من آيات الأحكام المكملة للفطرة في الزوجية والحكمة فيها، حال كونه يعظكم بالجمع بينهما " أي الأحكام وحكمتها " فإن معرفة الشيء مع حكمته هي التي تحدث العظة والعبرة الباعثة على الامتثال. ولا يبعد أن تكون هذه الآيات النفسية هي المراد بقوله تعالى :﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزوا ﴾.
وقد أفسد على الناس تلك المودة والرحمة، وحجبهم عن الموعظة بالحكمة، وأضعف في نفوس الأزواج ذلك السكون والارتياح، غرور الرجال بالقوة وطغيانهم بالغنى، وكفران النساء لنعمة الرجال، وحفظ سيئاتهم، وتماديهن في الذم لها والتبرم بها، وما مضت به عادات الجاهلية في بعض المتقدمين وعادات التفرنج في المعاصرات والمعاصرين، وقلد به الناس بعضهم بعضا، فالله سبحانه وتعالى ذكرنا أولا بنعمه علينا في أنفسنا لنزيح عن الفطرة السليمة ما غشيها بسوء القدوة واتباع الهوى، ونشكرها له سبحانه بالمحافظة عليها بتمكن صلة الزوجية واحترامها وتوثيقها، وثانيا بهذا الدين القويم الذي هدانا إلى ذاك، وحد لنا كتابه الحدود ووضع الأحكام مبينا حكمها وأسرارها، مؤيدا لها بالوعظ السائق إلى اتباعها، وما ذكرنا بالكتاب هنا إلا لنجعله إماما لنا في تقويم الفطرة، على ما مضت به السنة وعززته الحكمة، ولكننا قد أعرضنا عنه، فمن نظر في شيء من هذه الأحكام فإنما ينظر فيما كتبه بعض البشر مما هو خلو من حكمة التشريع، غير مقرون بشيء من الترغيب والترهيب، فهو لا يحدث للنفوس عظة ولا ذكرى، ولا يبعث في القلوب هداية ولا تقوى، على أن أكثر المسلمين لا ينظر فيها، ولا يسأل العارفين بها عنها، إلا أن يكون لأجل الاستعانة على حقوق يهضمها، أو صلات يقطعها وعرى يفصمها، فهو يستفتي غالبا ليأمن مؤاخذة الحكام، لا ليقيم حدود الإسلام، وإذا قام فيهم داع يدعوا إلى الله، ويذكر المؤمنين بآيات الله، رماه الرؤساء بسهام الملام، وأغروا به السياسة وهاجوا عليه العوام، خائفين أن يحيي ما أماتوه من الاجتهاد في فهم الكتاب والسنة، زاعمين أنه يبطل مذاهب الأئمة، على أن التذكير هو الذي يحيي علم المجتهدين، لأنهم كانوا مذكرين به ومبينين، لا صادين عنه ولا ناسخين، وما كل من اهتدى بهديهم في التذكير والتبيين، يلحقهم في الاستنباط والتدوين، فيا أيها العلماء أحيوا كتاب الله، فوالله إنه لا حياة لهذه الأمة بسواه، ولذلك عادت بترك هديه إلى عادات الجاهلية، وما هو شر منها من إباحة الإفرنج العصرية، اتباعا للهوى ونزغات البهيمية.
هذا وإن جمهور المفسرين فسروا نعمة الله هنا بالدين والرسالة وجعلوا ما أنزل من الكتاب والحكمة تفصيلا للنعمة المجملة قال الأستاذ الإمام ﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾ بإرسال هذا الرسول، وبيان الحدود والحقوق التي تحفظ لكم الهناء في الدنيا، وتضمن لكم السعادة في الآخرة. وذكر أن ما بعد هذا تفصيل له. وفسر الحكمة بسر الكتاب، ثم قال وفي النعمة وجه آخر وهي هذه الرحمة التي جعلها الله بين الرجال والنساء، وامتن بها علينا في قوله ﴿ وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ وإنما أوردنا هذا الوجه أولا بالبيان والتفصيل، لأنه هو المختار عندنا، وذهب بعضهم إلى أن النعمة هنا عامة تشمل نعم الدنيا والدين.
﴿ واتقوا الله ﴾ أمر بعد كل ما تقدم من التأكيد والتشديد والتهديد بتقواه بامتثال أمره ونهيه زيادة في العناية بأمر النساء وصلة الزوجية وهو ما تقتضيه البلاغة في هذا المقام، مقاومة لما ملك النفوس قبل ذلك من عدم المبالاة بعقد الزوجية، إذ كانوا يرونه كعقد الرق والبيع والإجارة في المتاع الخسيس والنفيس بل كانوا يرونه دون ذلك لأن الرجل لم يكن يشتري متاعا ثم يرمي به في الطريق زهدا فيه، ولم يكن يمسك قنه ليعذبه وينتقم منه، ولكنهم كانوا يطلقون المرأة لأدنى سبب، كالملل والغضب، ثم يعودون إليها يفعلون ذلك المرة بعد المرة وكانوا يمسكونها للضرر والإهانة كما تقدم آنفا، وقد يستبدل الواحد منهم امرأة الآخر بامرأته. فاعتياد هذه المعاملة السوءى والأنس بها لا تكون مقاومته إلا بتعظيم شأن عقد الزوجية والمبالغة في تأكيده بالترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، إذ لا يسهل على الرجل الذي كان يرى المرأة مثل الأمة أو دونها أن يساويها بنفسه بمجرد الأمر، ويرى لها عليه مثل ما له عليها ويحظر على نفسه مضارتها وإيذاءها ويلتزم معاملتها بالمعروف في حال إمساكها عنده وفي حال تسريحها إن اضطر إليه. ولكن هذه العظات والتشديدات المشتملة على الإقناع وبيان المصلحة هي التي تعمل في نفسه، وتؤثر بتكرارها في قلبه، وإن كان كالحجارة في القسوة :
أما ترى الحبل بتكراره | في الصخرة الصماء قد أثرا |
وقوله ﴿ واعلموا أن الله بكل شيء عليم ﴾ وهو أبلغ في موضعه من كل ما تقدم من التأكيد والتشديد في حقوق النساء لأن الإنسان قد راعى الأحكام الظاهرة بقدر الإمكان بغير إخلاص فيطبق على الحكم على وجه يعلم أن من ورائه ضررا. فهذه الجملة تذكره بأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء مما يسره العبد أو يعلنه، فلا يرضيه إلا التزام حدوده والعمل بأحكامه، مع الإخلاص وحسن النية، حتى يكون ظاهره كباطنه في الخير، ولا يتم له ذلك إلا بمراقبة الله تعالى في عمله، والعلم اليقين بأنه مطلع عليه فيه : لا يبيت قولا أو فعلا، ولا ينوي خيرا أو شرا، ولا يطوف في ذهنه خاطر، ولا تختلج في قلبه خلجة، إلا وهو سبحانه عالم بذلك ومطلع عليه فلا طريق له إلى مرضاة ربه إلا بتطهير قلبه، وإخلاص نيته في معاملة زوجته، وفي سائر المعاملات، قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى : من حسنت نيته حسن عمله غالبا بل كان موفقا دائما. أقول : ومن التوفيق أن يستفيد من خطئه الذي لم يرد به سوءا فيعرف كيف يتوقى مثل هذا الخطأ، ويزداد بصيرة في الخير، فليزن المؤمنون أنفسهم بميزان هذه الآية الكريمة وأمثالها وهي موازين القسط، ليعلموا أن منشأ فساد البيوت وشقاء المعيشة هو الإعراض عن هدي الكتاب المبين، وأنه لا سبيل إلى السعادة إلا بالرجوع إليه، وفقنا الله ل
﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ﴾ الأجل آخر المدة المضروبة والمراد به انقضاء العدة لا قربها كما في الآية التي قبلها. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين، ذلك أن الإمساك بمعروف والتسريح بمعروف في الآية السابقة لا يتأتى بعد انقضاء العدة، لأن انقضائها إمضاء للتسريح، لا محل معه للتخيير، وإنما التخيير يستمر إلى قرب انقضائها إذ لا محل للعضل قبله لبقاء العصمة.
﴿ فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ﴾ حكم جديد غير الأحكام السابقة هو تحريم العضل أي منع المرأة من الزواج، وقد كان من عادات الجاهلية أن يتحكم الرجال في تزويج النساء إذ لم يكن يزوج المرأة إلا وليها، فقد يزوجها بمن تكره ويمنعها ممن تحب لمحض الهوى، وقال المفسرون إن الرجال المطلقين كانوا يفعلون ذلك بتحكم الرجل بمطلقته فيمنعها أن تتزوج أنفة وكبرا أن يرى امرأته تحت غيره، فكان يصد عنها الأزواج بضروب من الصد والمنع، كما كان يراجعها في آخر العدة لأجل العضل، وقد أثبت الإسلام الولاية للأقربين وحرم العضل وهو المنع من الزوج، وأن يزوج الولي المرأة بدون إذنها، فجمع بين المصلحتين.
وقد اختلف المفسرون في الخطاب هنا، فقيل هو للأزواج أي لا تعضلوا مطلقاتكم أيها الأزواج بعد انقضاء العدة أن ينكحن أزواجهن، واضطر أصحاب هذا القول إلى جعل الأزواج بمعنى الرجال الذين سيكونون أزواجا، وقيل هو للأزواج والأولياء على التوزيع، وقالوا لا بأس بالتفكيك في الضمائر لظهور المراد وعدم الاشتباه، وقيل للأولياء واستدلوا بما ورد في سبب نزول الآية في الصحيح. أخرج البخاري وأصحاب السنن وغيرهم بأسانيد شتى من حديث معقل بن يسار قال كان لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها ؟ والله لا ترجع إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلي بعلها فأنزل هذه الآية ( قال ) ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه : وفي لفظ فلما سمعها معقل قال سمعا لربي وطاعة، ثم دعاه فقال : أزوجك وأكرمك وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه فتلا عليه الآية١ ومن هنا تعرف خطأ من قال إن إسناد النكاح إلى النساء هنا يفيد أنهن هن اللواتي يعقدن النكاح، فإن هذا الإسناد يطلق في القديم والحديث على من زوجها وليها. كانوا يقولون : نكحت فلانة فلانا كما يقولون حتى الآن تزوجت فلانة بفلان، وإنما يكون العاقد وليها. ولم تكن أخت معقل حاولت أن تعقد على زوجها فمنعها وإنما طلبها الزوج منه فامتنع أن ينكحه إياها فصدق عليه أنه منعها أن تنحك زوجها، ونزلت فيه الآية وفهمها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وغيرهم من العرب كالإمام الشافعي بهذا المعنى.
وفي الخطاب وجه ثالث رجحه الزمخشري واختاره الأستاذ الإمام هنا وسبق له مثله وهو أنه للأمة لأنها متكافلة في المصالح العامة على حسب الشريعة كأنه يقول يا أيها الذين آمنوا إذا وقع منكم تطليق للنساء وانقضت عدتهن وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهن وأردنهن ذلك فلا تعضلونهن أن ينكحن أي لا تمنعوهن من الزواج. وعلى هذا الوجه يأخذ كل حظه من الخطاب للمجموع٢ وتقدم لهذا الخطاب نظائر ومنها خطاب بني إسرائيل في عصر التنزيل بما كان من آبائهم في زمن موسى وما بعده مسندا إليهم. والحكمة في هذا الخطاب العام هنا أن يعلم المسلمون أنه يجب على من علم منهم بوقوع المنكر من أولياء النساء أو غيرهم أن ينهوه عن ذلك حتى يفيء إلى أمر الله، وأنهم إذا سكتوا على المنكر ورضوا به يأثمون. والسر في تكافل الأمة أن الأفراد إذا وكلوا إلى نفسهم فكثيرا ما يرجحون أهوائهم وشهواتهم على الحق والمصلحة، ثم يقتدي بعضهم ببعض مع عدم النكير، فيكثر الشر والمنكر في الأمة فتهلك، ففي التكافل والتعاون على إزالة المنكر دفاع عن الأمة، ولكل مكلف حق في ذلك، لأن البلاء إذا وقع فإنه يصيبه سهم منه. قال تعالى :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون* كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ ( المائدة : ٧٨ ).
ثم قال :﴿ إذا تراضوا بينهم بالمعروف ﴾ أي إذا تراضى مريدو التزوج من الرجال والنساء، بأن رضي كل من الرجل والمرأة بالآخر زوجا. وقوله :﴿ بينهم ﴾ يشعر بأن لا نكر في أن يخطب الرجل المرأة إلى نفسها ويتفق معها على التزوج بها ويحرم حينئذ عضلها أي امتناع الولي أن يزوجها منه إذا كان ذلك التراضي في الخطبة بالمعروف شرعا وعادة، بأن لا يكون هناك محرم ولا شيء يخل بالمروءة ويلحق العار بالمرأة وأهلها، وقد استدل الفقهاء بهذا على العضل من غير الكفء غير محرم كأن تزيد الشريفة في قومها أن تتزوج برجل خسيس يلحقها منه الغضاضة، ويمس ما لقومها من الشرف والكرامة، فينبغي أن تصرف عنه بالوعظ والنصيحة. ويجيز بعض الفقهاء العضل إذا كان المهر دون مهر المثل وقال الأستاذ الإمام إذا أرادت المرأة أن تتزوج بأقل من مهر مثلها، ولم يكن الحامل على ذلك فساد الأخلاق المسقط للكرامة أو اتباع الهوى وإرضاء الشهوة بل كان ميلا إلى رجل مستقيم يرجى منه حسن العشرة وصلاح المعيشة، إلا أنه يعسر دفع مهر كثير مع نفقات الزواج الأخرى، فلا يجوز حينئذ العضل بل يجب تزويجه.
وأقول : إن مسألة مراعاة الكفاءة بين الزوجين عرف معروف بين العرب وغيرهم من الأمم ولاسيما الملوك الأمراء، ولا يوجد سبب يحمل الرجال والنساء على الإخلال به كالعشق، فكم من ملك أو أمير تزوج راقصة أو مغنية أو ممثلة للقصص لعشقه لها وإن أدى ذلك إلى ترك الملك أو استحقاقه، وإن من العشق ما هو مسقط للكرامة أو الشرف ومنه ما ليس كذلك، فالأول يعذر جمهور الناس من ابتلى به دون الثاني، والفرق بينهما معروف والمدار في مسألة الكفاءة على العرف القومي والوطني لا على تقاليد بيوت شرفاء النسب والجاه وكبريائهم فما يعده الجمهور إهانة للمرأة تكون مضغة في الأفواه وعارا على بيتها فهو الذي يبيح لأوليائها المنع منه، إذا لم يكن الفضل سببا لمفسدة شر منه، فالمسألة من أحكام المصالح التي تختلف بحسب الزمان والمكان لا تعبدية ولا يجوز إكراه المرأة على الزواج بمن تكره مطلقا.
﴿ ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الأخر ﴾ الوعظ النصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب ويبعث على العمل. أي ذلك الذي تقدم من الأحكام والحدود المقرونة بالحكم والترغيب والترهيب يوعظ به أهل الإيمان بالله والجزاء على الأعمال في الآخرة فإن هؤلاء هم الذين يتقبلونه ويتعظون به فتخشع له قلوبهم، ويتحرون العمل به قبولا لتأديب ربهم، وطلبا للانتفاع به في الدنيا، ورجاء في مثوبته ورضوانه في الأخرى. وأما الذين لا يؤمنون بما ذكر حق الإيمان كالمعطلين والمقلدين الذين يقولون آمنا بأفواههم لأنهم سمعوا قومهم يقولون ذلك ولم تؤمن قلوبهم لأنهم لم يتلقوا أصول الإيمان، الذي يملك من القلب مواقع التأثير ومسالك الوجدان، فإن وعظهم به عبث لا ينفع، وقول لا يسمع، لأنهم يتبعون في معاملة النساء أهواءهم، ويقلدون ما وجدوا عليه آباءهم وعشراءهم.
والآية تدل على أن الإيمان الصحيح يقتضي العمل وقد غفل عن هذا الأكثرون، وقرره الأئمة المحققون، كحجة الإسلام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية والمحقق الشاطبي والأستاذ الإمام رحمهم الله تعالى. قال شيخنا هنا : كأنه يقول من كان مؤمنا فلا يشك أنه يتعظ بهذا. ويشير إلى أن من لم يتعظ ويعمل بها فليس بمؤمن : وتدل على أن أحكام الدين حتى المعاملات منها ينبغي أن تساق إلى الناس مساق الوعظ المحرك للقلوب، لا أن تسرد سردا جافا كما ترى في كتب الفقه.
﴿ ذالكم أزكى لكم وأطهر ﴾ الزكاء النماء والبركة في الشيء، والمشار إليه في ﴿ ذلكم ﴾ هو النهي عن عضل النساء بقيده وشرطه، والمراد أنه مزيد في نماء متبعيه وصلاح حالهم ما بعده مزيد يفضله، وأنه أطهر لأعراضهم وأنسابهم، وأحفظ لشرفهم وأحسابهم، لأن عضل النساء والتضييق عليهن مدعاة لفسوقهن، ومفسدة لأخلاقهن، وسبب لفساد نظام البيوت وشقاء الذراري، مثل في نفسك حال امرأة كأخت معقل بن يسار تزوجت برجل عرفها وعرفته، فأحبها وأحبته، ثم غضب مرة وطلقها، وبعد انقضاء العدة ندم على ما فعل، وأحب أن يعود إلى امرأته التي تحبه، واعتادت الأنس به السكون إليه، فعضلها وليها اتباعا لهواه، واعتزازا بسلطته، ألا يكون ذلك مضيعة لولدهما ومغواة لهما ؟ ومثل أيضا وليا يمنع موليته من الزواج بمن تحب ويزوجها بمن تكره اتباعا لهواه أو عادة قومه، كما كانت العرب تفعل، وانظر أترجون أن يصلح حالهما، ويقيما حدود الله بينهما ؟ أم يخشى أن يغويها الشيطان بالآخر ويغويه بها، ويستدرجها في الغواية فلا يتفقان إلا عند نهاية حدودها ؟ وهكذا مثل كل مخالفة لهذا الأحكام تجدها مفسدة.
وقد كان الناس لجهلهم بوجوه المصالح الاجتماعية على كمالها، لا يرون للنساء شأنا في صلاح حياتهم الاجتماعية وفسادها، حتى علمهم الوحي ذلك ولكن الناس لا يأخذون من الوحي في كل زمان إلا بقدر استعدادهم، وإن ما جاء به القرآن من الأحكام لإصلاح حال البيوت ( العائلات ) بحسن معاملة النساء لم تعمل به الأمة على وجه الكمال، بل نسيت معظمه في هذا الزمان، وعادت إلى جهالة الجاهلية. ولهذا الجهل السابق ولتوهم الذين يسيئون معاملة النساء من الرجال أنهم يفعلون ما هو مصلحة لهم ومحافظة على شرفهم، حتى ختم هذه المواعظ والأحكام والحكم بقوله :﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ أي يعلم سبحانه ما لكم في ذلك من الزكاء والطهر وسائر المصالح ودفع المفاسد وأنتم لا تعلمون ذلك كله علما صحيحا خاليا من الأهواء والأوهام، واعتزاز الرجال بقدرتهم على التحكم في النساء، ولذلك ذكركم في أثر النهي عن عضل النساء عن الزواج بهذه الثلاث :
١- إنها موعظة يتعظ بها من يؤمن بالله واليوم الآخر.
٢- إنها أزكى لكم وأطهر لأعراضكم.
٣- إن الله يعلم كل ذلك كغيره وأنتم لا تعلمون وهذه آيات علمه ظاهرة فإن البشر من جميع الأمم لا من العرب وحدهم لم يهتدوا إلى هذه الأحكام المنزلة في هذه السورة النافعة باختبارهم الطويل، بل عزبت حكمتها عن نفوس الأكثرين بعد أن نزل الوحي بها فلم يعملوا بها، وكان يجب على المؤمن الذكي أن يقيمها على وجهها ملاحظا فوائدها، وعلى المؤمن الغبي أن يسلم أمر ربه بها تسليما وإن لم يظهر له فائدتها في الدنيا اكتفاء بأن الله تعالى يعلم من ذلك ما لا يعلم هو.
وههنا أنبه وأذكر القارئ لهذا التفسير بأن من أظهر ما تفضل به هداية الوحي ما هو صحيح وحسن من حكمة البشر أن المؤمن بالوحي يتبع هدايته سواء أعلم وجهة المنفعة فيها أم لا، فينتفع بها كل مؤمن، وأما حكمة البشر فلا ينتفع بها إلا من فهمها واق
٢ أقول إنه ظهر لي في آيات التشريع في الإسلام وجه آخر هو أن سلطان الحكم والتنفيذ فيها للأمة في جملتها وقد بسطت هذا في تفسير ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله﴾ (النساء: ٥٩) الخ ثم ذكرته في مواضع أخرى حتى القواعد التي استنبطها من سورة البقرة. (المؤلف)..
هذا انتقال من أحكام الطلاق إلى أحكام الرضاعة، وكلاهما من أحكام البيوت ( العائلات ) الهادية إلى كيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف وتربية الأطفال، فمن ثم عطف على ما قبله، وللمفسرين في قوله :﴿ والوالدات ﴾ ثلاثة أقوال :
القول الأول : إنه خاص بالمطلقات لوجوه : أحدها : إن الكلام السابق في أحكامهن وهذا من تتمته. ثانيها : إيجاب رزقهن وكسوتهن على الوالد ولو كن أزواجا لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب لأن النفقة على الزوج التي في العصمة واجبة للزوجية لا للرضاع، ثالثها : إن المطلقة عرضة لإهمال العناية بالولد وترك إرضاعه لأنه يحول دون زواجها في الغالب ولما فيه من الكناية بالرجل ولاسيما الذي لم يتيسر له استئجار ظئر١ تقوم مقام الوالدة. وهنا وجه رابع لترجيح هذا القول ظهر لي الآن وهو تعليل الحكم بالنهي عن المضارة بالولد وإنما تضار بذلك المطلقة دون التي في العصمة فبين أن للمطلقة الحق في إرضاع ولدها كسائر الوالدات وأنه ليس للمطلق منعها وهو عرضة لهذا المنع.
القول الثاني : إنه خاص بالوالدات مع بقاء الزوجية قال الواحدي في هذا القول هو الأولى لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة، وأقول إن هذا الترجيح مرجوح لا يلتفت إليه لأنه مبني على الاحتجاج بقول الفقهاء على القرآن وهذا القول أضعف الأقوال.
القول الثالث : إنه عام في جميع المطلقات، وقال كثيرون إنه أولى عملا بظاهر اللفظ فهو عام لا دليل على تخصيصه، ويكون الرزق والكسوة أي النفقة خاصا ببعض أفراد العام وهن الوالدات المطلقات. وقال بعضهم إن استئجار الأم للإرضاع صحيح، وعبر عن الأجرة بالرزق والكسوة، وقيل إنه ليس في الآية ما يدل علي أن الرزق والكسوة لأجل الرضاع. وأنت ترى أن هذا خلاف المتبادر من الآية، ونحن لا نستفيد من جعل الآية عامة، زيادة عما نستفيد بجعلها خاصة، إلا أنه يجب على غير المطلقة من إرضاع الولد مطلقا أو بشرط، ما يجب على المطلقة بالنص، وأنه من حقوقها أيضا، وهذا يؤخذ من الآية إذا حملت على التخصيص بالطريق الأولى، على أن القائلين بالعموم لم يقوموا بهذا الوجوب مطلقا كما يأتي، ولا أذكر عن الأستاذ الإمام ترجيحا أو اختيارا في هذه المسألة.
قوله تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن ﴾ أمر جاء بصيغة الخبر للمبالغة في تقريره على نحو ما تقدم في قوله :﴿ والمطلقات يتربصن ﴾ وزعم بعضهم أنه خبر على بابه أي أن شأن الوالدات ذلك، وأنت ترى أنه لا فائدة في الإخبار عن الواقع المعلوم للناس في مقام بيان الأحكام، وكأن صاحب هذا القول أراد أن يقوي به قول الفقهاء الذين يرون أنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إلا إذا تعينت مرضعا بأن كان لا يقبل غير ثديها كما يعهد من بعض الأطفال، أو كان الوالد عاجزا عن استئجار ظئر ترضعه، أو قدر ولم يجد الظئر، على أن هؤلاء الفقهاء لم يروا جعل الخبر بمعنى الأمر مانعا من حكمهم هذا، فقد حملوه على الندب في حال الاختبار، قالوا لأن لبن الأم أنفع للولد من لبن الظئر، وخاصة إذا لم يكن ولد الظئر في سنه، والظاهر الأمر للوجوب مطلقا فالأصل أنه يجب على الأم إرضاع ولدها واختاره الأستاذ الإمام، يعني إن لم يكن هناك عذر مانع من مرض ونحوه، ولا يمنع الوجوب جواز استنابة الظئر عنها مع أمن الضرر، لأن هذا هو الوجوب للمصلحة لا للتعبد، فهو كالنفقة على القريب بشرطها، فإذا اتفق الوالدان على استئجار ظئر ورأيا أنها تقوم مقام الوالدة فلا بأس كما في مسألة الفصال الآتية.
كما يجب على الأم إرضاع ولدها يجب لها ذلك بمعنى أنه ليس للوالد أن يمنعها منه. ولأن يمنع الرجل مطلقته من أرضاع ولدها منه إن أبيح له ذلك أقرب من أن تمتنع هي عن إرضاعه، وكان الذي يتبادر إلى فهمي أن المقصود من الجملة أولا وبالذات هو أن من حقوق الوالدات أن يرضعن أولادهن، وما المطلقات إلا والدات فيجب تمكينهن من إرضاع أولادهن المدة التامة للرضاع وهي كما حددها فيرضعهم ﴿ حولين كاملين ﴾ والحول العام والسنة، وهو في الأصل مصدر حال يحول إذا مضى وإذا تغير وتحول فالعام والحول يطلقان على صيفة وشتوة كاملتين وأما السنة فهي تبتدئ من أي يوم عددته من العام إلى مثله اه ملخصا من المصباح.
وقد حددت مدة الرضاعة التامة بسنتين كاملتين مراعاة للفطرة بالنسبة إلى ضعف الأطفال في أقل البيوت أو البيئات استعدادا للعناية بالتربية، واللبن هذا الغذاء الموافق لكل طفل في هذه المدة وهذه المدة هي التي تثبت بها حرمة الرضاعة في النكاح، ومن العجب أن ترى الفقهاء اختلفوا في مدة الرضاعة بعد تحديد الله سبحانه لها فقال بعضهم هي ثلاثون شهرا، وقال بعضهم ثلاثة سنين، ولكن الجماهير على أن مدتها التامة لا تزيد على حولين كاملين وقد تنقص إذا رأى الوالدان ذلك لأن قوله تعالى :﴿ لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾ أجاز الاقتصار على ما دون الحولين ولم يحدد أقل المدة، بل وكله إلى اجتهاد الوالدين الذي تراعى فيه صحة الطفل، فمن الأطفال السريع النمو الذي يستغني عن اللبن بالطعام اللطيف قبل تمام الحولين بعدة أشهر، ومنهم القميء البطيء النمو الذي لا يستغني عن ذلك.
وقد استنبطوا من قوله تعالى في سورة الأحقاف ﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ ( الأحقاف : ١٥ ) أقل مدة الحمل بناء على أن الحولين أكثر مدة الرضاعة فإن ما يبقى بعد طرح شهور الحولين من ثلاثين شهرا هو ستة أشهر وهي أقل مدة الحمل. روي هذا عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وقالوا لعل الحكمة في تحديد المدتين أكثر الرضاعة وأقل الحمل هي انضباطهما دون ما يقابلهما، وقد يقال إننا نطرح مدة الحمل الغالبة وهي تسعة أشهر من مجموع مدة الحمل والفصال وهي ثلاثون شهرا، فالباقي وهو واحد وعشرون شهرا ينبغي أن يكون أقل مدة الرضاعة، والظاهر أن معنى قوله :﴿ لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾ ذلك لمن أراد إتمامها، ولذلك قلنا إن الأمر موكل إلى اجتهاد الوالدين فللام متعلق بمحذوف، وقيل إنه متعلق بقوله :﴿ يرضعن ﴾ أي أنهن يرضعن هذه المدة لمن أراد إتمامها من المولود لهم وهو الآباء، فيكون الأمر لهم في ذلك خاصة، وسيأتي ترجيح الأول في قوله :﴿ فإن أرادا فصالا ﴾.
﴿ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾ المولود له هو الأب ووجه اختيار هذا التعبير على لفظ الوالد والأب هو الإشعار بأن الأولاد لآبائهم، لهم يدعون وإليهم ينسبون، وأن الأمهات أوعية مستودعة لهم كما قال المأمون :
وإنما أمهات الناس أوعية | مستودعات وللآباء أبناء |
والمراد بكون هذه النفقة بالمعروف أن تكون كافية لائقة بحال المرأة في قومها وصنفها. لا تلحقها غضاضة في نوعها ولا في كيفية أدائها إليها، وتقدم أن هذا يرجح للمرأة بمقتضى الزوجية دون الأجرة حتى لا يتوهم أن كل والدة تجب لها الأجرة على إرضاع ولدها، لأن الكلام بدئ بلفظ " الوالدات " وأما في سورة الطلاق فقد عبر بلفظ الأجرة إذا قال :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ﴾ ( الطلاق : ٦ ) لأن الكلام هناك في المطلقات لا يحتمل غيره، فلا إيهام في اختيار اللفظ الأخصر.
ولو توجه الذهن إلى فهم الآية غير مثقل بأقوال الفقهاء لما فهم غير هذا منها، ومن فهمها مجردة غير محمولة على مذهب معين لا يحتاج إلى الكلام في جواز استئجار الأم للرضاع مطلقا وعدمه وهي في النكاح أو العدة، إذ المتبادر من الآية أن الأم يجب عليها إرضاع ولدها عند عدم المانع الشرعي، ويجب لها ذلك أيضا كما تقدم آنفا وأن المطلقات إذا كن والدات يجب أن ينفق عليهن مدة الإرضاع لما تقدم، وهن في هذه المدة إما بائنات ولعله الأكثر لندرة طلاق أم الطفل، ولا خلاف في جواز استئجارهن حينئذ وإما معتدات تجب لهن النفقة لعدم خروجهن من عصمة النكاح. وقد استشكلوا استحقاق هؤلاء الأجرة على الإرضاع، ولا إشكال في وجوب الشيء بسببين، ولا تكرار في نصي الوجوب، لأن كل واحد منهما جاء في موضعه، وله صورة ينفرد بها، إذ المعتدة قد تكون والدة وغير والدة، والمرضع تكون بائنة ومعتدة، وكل منهما مشغولة بمصلحة الرجل المطلق شغلا يمنعها من زواج يغنيها عن نفقته، لأن المرضع قلما يرغب فيها وقلما ترغب هي في الزواج، ثم إنها لا تستحق ولدها إذا تزوجت.
ولما كان المكلفون من الرجال يتفاوتون في الإعسار والإيسار بالنفقة فمنهم من لا يقدر على اللائق بالمرأة في عرف الناس ومنهم من يقدر على أكثر من ذلك عقب تعالى هذا الأمر بقوله :﴿ لا تكلف نفس إلا وسعها ﴾ فسر بعضهم الوسع بالطاقة وهو غلط لأن الوسع ضد الضيق وهو ما تتسع له القدرة ولا يبلغ استغراقها، وأما الطاقة فهي آخر درجات القدرة فليس بعدها إلا العجز المطلق كأنها آخر طاقة أي فتلة من الطاقات التي يتألف منها الحبل، والمعنى أن المطلوب التوسع في النفقة من السعة أي بحيث لا ينتهي إلى الضيق. وقد بسط هذا الإيجاز في سورة الطلاق بقوله تعالى في هذا المقام :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا ﴾ ( الطلاق : ٧ ).
﴿ لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب " لا تضار " بالضم تبعا لقوله " لا تكلف نفس " والباقون بالفتح وكلاهما جائز في اللغة وهو نهي عن المضارة صريح، والأول نهي في المعنى خبر في اللفظ، وقالوا إن الكلام تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم. والصواب أنه يفيد مع تعليل الأحكام السابقة حكما جديدا عاما، فمنع الرجل المرأة من إرضاع ولدها وهي له أرأم، وبه أرأف، وعليه أحنى وأعطف، إضرار بها بسبب ولدها، والتضييق عليها في النفقة مع الإرضاع إضرار بها بسبب ولدها، وامتناعها هي من إرضاعه تعجيزا للوالد بالتماس الظئر أو تكليفه من النفقة فوق وسعه إضرار به بسبب ولده فالعلة في الأحكام السابقة منع الضرر من الجانبين بإعطاء كل ذي حق حقه بالمعروف، وهو يتناول تحريم كل ما يأتي من أحد الوالدين للإضرار بالآخر، كأن تقصر هي في تربية الولد البدنية أو النفسية لتغيظ الرجل، و
لا يزال الكلام في أحكام النساء من حيث هن أزواج يمسكن ويسرحن، فيراجعن أو يبتن، وفي حقوقهن حينئذ في أولادهن، وكل هذا قد مر تفسيره وقد ذكر في هاتين الآيتين أحكام من يموت بعولتهن ماذا يجب عليهن من الحداد والاعتداد ومتى تجوز خطبتهن ومتى يتزوجن.
قوله تعالى ﴿ والذين يتوفون منكم ﴾ أي يتوفاهم الله تعالى أي يقبض أرواحهم ويميتهم قال تعالى :﴿ الله يتوفى النفس حين موتها ﴾ ( الزمر : ٣٢ ) فإذا حذف الفاعل أسند الفعل إلى المفعول هذا هو المستعمل الفصيح. ﴿ ويذرون أزواجا ﴾ أي يتركون زوجات والفصيح استعمال لفظ الزوج في كل من الرجل وامرأته ويجمع في الاستعمال على أزواج قال تعالى :﴿ وأزواجه أمهاتهم ﴾ ( الأحزاب : ٦ ) والزوج في الأصل العدد المكون من اثنين وقد اعتبر في تسمية كل من الرجل وامرأته " زوجا " أن حقيقته من حيث هو زوج مكونة من شيئين اتحدا فصار شيئا واحدا في الباطن وإن كانا شيئين في الظاهر، ولذلك وضع لهما لفظ واحد ليدل على أن تعدد الصورة لا ينافي وحدة المعنى، يريد أن هذا اللفظ المشترك يشعر بأن من مقتضى الفطرة أن يتحد الرجل بامرأته والمرأة ببعلها بتمازج النفوس ووحدة المصلحة حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر.
وقوله تعالى :﴿ يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ﴾ خبر لما قبله أي يتربصن بعد وفاتهم هذه المدة. وتقدم الكلام في مثله في تفسير قوله عز وجل :﴿ يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ ( البقرة : ٢٢٨ ) فارجع إليه إن كنت نسيت ما في التعبير من إيات البلاغة. والمعنى أن عدة النساء اللاتي يموت أزواجهن أربعة أشهر وعشر ليال، لا يتعرض فيها للزواج بزينة ولا خروج من المنزل بغير عذر شرعي، ولا يواعدن الرجال بالزواج، وقد يتعارض هذا مع قوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ ( الطلاق : ٤ ) فهل يقال إن ما هنا خاص بغير الحوامل ؟ أم ما هناك خاص بالمطلقات ؟
الظاهر الثاني. لأن الكلام هنالك في الطلاق والسورة سورته فهو خاص، والآية التي نحن بصدد تفسيرها عامة في كل من يتوفى زوجها لأن الله تعالى جعل عدتها طويلة، وفرض عليها الحداد على الزوج مدة العدة، مع تحريم السنة الحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام اهتماما بحقوق الزوجية وتعظيما لشأنها، ولكن الجمهور على القول الأول، وإن الحامل التي يموت زوجها إذا وضعت تنقضي عدتها ولو بعد الموت بيوم أو ساعة، واحتجوا بحديث سبيعة الأسلمية عند أبي داود فإنها قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاها بأنها حلت حين وضعت حملها، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر، ويروى عن علي وابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا، فأي الآية كانت عند الله هي المخصصة للأخرى كانت عاملة بها، ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام جزما بقول من هذه الأقوال، ولكن الاحتياط الذي قال به الحبران لا ينكره منكر.
وقد سئل الأستاذ الإمام في الدرس عن الحكمة في كون عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، فأجاب إن مثل هذا ليس علينا أن نبحث عنه وإنما نبحث عما يشير الكتاب إلى حكمته إشارة ما. ويقول بعض الناس إن ما يحصل من فراق الزواج من الحزن والكآبة عظيم يمتد إلى أكثر من مدة ثلاثة قروء أو ستين يوما فبراءة الرحم إن كانت تعرف بهذه المدة فلا يكون استعراف براءته من الحمل مانعا من الزواج، فبراءة النفس من كآبة الحزن تحتاج إلى مدة أكثر منها، والتعجيل بالزواج مما يسيء أهل الزوج ويفضي إلى الخوض في المرأة بالنسبة إلى ما ينبغي أن تكون عليه من عدم التهافت على الزواج، وما يليق بها من الوفاء للزوج والحزن عليه.
هذا ما حكاه عن بعض الناس جليناه وزدناه توضيحا فكان بيانا لحكمة الزيادة في عدة الوفاة على عدة الطلاق في الجملة لا لكونها أربعة أشهر وعشرا. وقد سئلنا عن هذه الحكمة فأجبنا بجواب ذكر في المنار ( ص ٥٤٩ م٧ ) واطلع عليه الأستاذ الإمام فلم ينكره. قلنا بعد بيان حكمة العدة وما يجب من حداد المرأة على زوجها ما نصه :
" وذهب أكثر المفسرين إلى أن الحكمة في تحديد عدة الوفاة بهذا القدر أنه هو الزمن الذي يتم فيه تكوين الجنين ونفخ الروح فيه. ولا بد من مراجعة الأطباء في هذا القول قبل تسليمه. والظاهر لنا أن الزيادة لأجل الإحداد ولم يظهر لنا شيء قوي في تحديده، ولكن هناك احتمالات منها أنه ربما كان من عرف العرب أن لا ينتقد على المرأة إذا تعرضت للزواج بعد أربعة أشهر وعشر من موت زوجها فأقرهم الإسلام على ذلك، لأنه من مسائل العرف والآداب التي لا ضرر فيها. وقد كان من المعروف عندهم أن المرأة تصبر عن الزوج بلا تكلف أربعة أشهر وتتوق إليه بعد ذلك. ويروى أن عمر أمر أن لا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من أربعة أشهر بعد أن سأل أهل بيته. وإذا صح أن هذا أصل في المسألة تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام والله أعلم بالصواب " اه.
وسيمر بك قريبا من ذكر بعض عادات العرب في الحداد على الزوج وشدته، وما أصلح الإسلام فيه ما يبطل التعليل الأول، وظاهر الآية أن هذا التحديد لعدة الوفاة يشمل بعمومه الصغيرة والكبيرة، والحرة والأمة، وذات الحيض واليائسة، ولكن الفقهاء اختلفوا في أفراد من هذا الشمول كما اختلفوا في الحامل : فذهب الجماهير إلى أن عدة الأمة نصف عدة الحرة " شهران وخمس ليال " ولم ينقلوا في هذا خلافا إلا عن الأصم وابن سيرين من فقهاء السلف. والأصل في هذا هو القياس على الحد فإن الله تعالى يقول في سورة النساء بعد ذكر التزوج بالإماء :﴿ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ ( النساء : ٢٥ ) وعلى حديث ابن عمر مرفوعا عند ابن ماجه والدارقطني والبيهقي ( طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان ) ١ والحديث ضعيف، في إسناده عمر بن شبيب وعطية العوفي، وقال الدارقطني والبيهقي والصحيح إنه موقوف، واختلفوا أيضا في عدة أم الولد يموت سيدها فقالت طائفة من علماء السلف عدتها أربعة أشهر وعشر، وقال آخرون تعتد بثلاث حيض وعليه الحنفية. وقال آخرون منهم الأئمة الثلاثة عدتها حيضة أو شهر إذا لم تكن تحيض.
﴿ فإذا بلغن أجلهن ﴾ أي أتممن عدتهن ﴿ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ﴾ مما كان محظورا عليهن في العدة من التزين، والتعرض للخطاب، والخروج من المنزل، وقيد ذلك بالمعروف أي شرعا وأدبا عرفيا، لأنهن إذا أتين بالمنكر وجب منعهن. واختلفوا في الخطاب هنا فقيل هو للأولياء لأن هذا من مقدمات الزواج الذي يتولونه، وقيل للمسلمين كافة يتولاه منهم من هو قادر عليه من العارفين به وهو المختار كما علم مما سبق له من النظائر.
لا تقل إن الآية لم تنطق بما يحظر على المرأة في هذه العدة، فنقول إن نفي الجناح متعلق به، فإن ما علم من الناس بالسنة المتبعة والأخبار الصحيحة في أمر نزل فيه القرآن يتعين حمل القرآن عليه. روى الشيخان من حديث حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت : دخلت على أم حبيبة حين توفي أبو سفيان ( والدها ) فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق وغيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على الميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) ٢ قالت زينب : وسمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا " مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول " لا " ثم قال ( إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالعبرة على رأس الحول ) قال حميد فقلت لزينب : ما ترمي بالعبرة على رأس الحول ؟ فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا حتى تمر بها سنة ) ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتقتض به، فقلما تقتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره٣. وروى أحمد والشيخان من حديث أم سلمة أن امرأة توفي زوجها فخشوا على عينها فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه في الكحل فقال ( لا تكتحل، كانت إحداكن تمكث في أحلاسها أو شر بيتها فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة فلا، حتى تمضي أربعة أشهر وعشر ) ٤ وفي رواية مطرف وابن الماجشون عن مالك ( ترمي ببعرة من بعر الغنم أو الإبل فترمي بها أمامها فيكون ذلك إحلالا لها ).
فأنت ترى من هذه الأحاديث الصحيحة أن العرب على غلوها في الحداد، وكثرة منكراتها في النوح والندب، كانت تعتاد أمورا خرافية فيه، وكانت المرأة تحد على زوجها شر حداد وأقبحه، فلتزم شر أحلاسها في شر جانب من بيتها وهو الخفش سنة كاملة لا تمس طيبا ولا زينة ولا تبدو للناس في مجتمعهم، ثم تخرج من ذلك بما علمت. أما الأحلاس فهي جمع حلس ( بكسر فسكون وبالتحريك ) وهو في الأصل ما يكون على الظهر تحت القتب أو الرسج أو البرذعة، ويطلق على الكساء الرقيق وعلى ما يجلس عليه من مسح ونحوه، والحفش بكسر المهملة البيت الصغير المظلم داخل البيت ويسمعون مثله في الحجرات الآن " خزنة " والاقتضاض بالدابة بالقاف هو التمسح بها قيل كانت به جلدها وقيل ما هنالك.
قال ابن قتيبة سألت الحجازيين عن الاقتضاض فذكروا أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ولا تزيل شعرا ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تقتض أي تكسر ما كانت فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها فلا يكاد يعيش ما تقتض به، اه والمراد أنه يموت من نتنها. وأما عادة مرور الكلب ورمي البعرة فظاهر الرواية أن المعتدة كانت في آخر العدة تنتظر مرور الكلب لترميه بالبعرة وإن طال الزمان وبه قال بعضهم، وقيل بل ترمي بها ما عرض من كلب أو غيره، وقالوا إن المعنى في ذلك عندهم أن ما فعلته من التربص في تلك المشقة والجهد هو عندها بمنزلة البعرة التي رمتها احتقارا له وتعظيما لحق زوجها وقيل هو إشارة إلى رمي العدة والتفلت منها. وقيل بل هو تفاؤل بعدم العودة إلى مثلها وتمني أن تموت في كنف من عساها تتزوج به.
إذا علمت هذا وأمثاله مما كانت عليه العرب من العادات السخيفة والخرافات الشائنة المهينة للمرأة، يظهر لك شأن ما جاء به الإسلام من الإصلاح في ذلك، إذ جعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه، ولم يحرم فيها إلا الزينة والطيب، والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدي التزوج، دون النظافة والجلوس في كل مكان من البيت مع النساء والمحارم من الرجال. وهذا الذي أمر به الإسلام يليق ويحسن في كل شعب وجيل في كل زمان وعصر، لا يشق على بدو ولا حضر، وقد رأيت أن سعة الدين وتكريمه للنساء قد كادت تنسي المسلمات ما لم يبعد العهد به من عادتهن وتخرج بهن من كل قيد، حتى استأذن منهن بالكحل بحجة الخيفة على العين من المره٥ أو الرمد حتى ذكرهن صلى الله عليه وسلم بذلك.
واستشكل في الحديث المنع من الكحل للتداوي كما هو ظاهر من قولها " فخشوا على عينها " مع ما علم من أصول الشريعة التي لا خلاف فيها من انتفاء العسر والحرج، ومن كون الضرورات تبيح المحظورات، وكون الضرر والضرار ممنوعين، ومن الترخيص في الكحل للتداوي بالليل دون النهار، لأن الليل أبعد من مظنة الزينة في حديث الموطأ عن أم سلمة، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار ) ٦ وحديث أبي داود ( فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار ) ٧ وأجيب عن حديث النهي المطلق بأجوبة منها حمله على كحل الزينة كأنه
٢ أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣١، والحيض باب ١٢، والطلاق باب ٤- ٤٩/ ومسلم في الرضاع حديث ١٢٥، ١٢٦، ١٢٩، ١٣٣، وأبو داود في الطلاق باب ٤٣، ٤٦، والترمذي في الطلاق باب ١٨، والنسائي في الطلاق باب ٥٨، ٥٩، وابن ماجه في الطلاق باب ٣٥، والدارمي في الطلاق باب ١٢، ١٣، ومالك في الطلاق حديث ١٠١، ١٠٢، وأحمد في المسند ٦/٣٧، ١٨٤، ٢٤٩، ٢٨١، ٢٨٦، ٢٨٧، ٣٢٤، ٣٢٥، ٣٢٦، ٤٠٨، ٤٢٦..
٣ أخرجه البخاري في الطلاق باب ٤٦، مسلم في الرضاع حديث ١٢٥، وأبو داود في الطلاق باب ٤٣، والنسائي في الطلاق باب ٦٣، ومالك في الطلاق حديث ١٠١..
٤ أخرجه البخاري في الطلاق باب ٤٧، وأبو داود في الطلاق باب ٤٣، والترمذي في الطلاق باب ١٨، والنسائي في الطلاق باب ٥٥، وابن ماجه في الطلاق باب ٣٤، وأحمد في المسند ٦/٢٩٢، ٣١١..
٥ المرة بالتحريك: فساد الأجفان من ترك الكحل..
٦ أخرجه مالك في الطلاق حديث ١٠٥، ١٠٨..
٧ أخرجه أبو داود في الطلاق باب ٤٦..
لا يزال الكلام في أحكام النساء من حيث هن أزواج يمسكن ويسرحن، فيراجعن أو يبتن، وفي حقوقهن حينئذ في أولادهن، وكل هذا قد مر تفسيره وقد ذكر في هاتين الآيتين أحكام من يموت بعولتهن ماذا يجب عليهن من الحداد والاعتداد ومتى تجوز خطبتهن ومتى يتزوجن.
ولما كان من شأن الراغبين في التزوج بمن يتوفى زوجها المسارعة إلى خطبتها بين الله للمؤمنين ما يتعلق بذلك من الأحكام والآداب اللائقة بهم وبكرامة النساء في مدة العدة فقال :﴿ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ﴾ فالمراد بالنساء المعتدات لوفاة أزواجهن، قالوا ومثلهن المطلقات طلاقا بائنا، وأما الرجعيات فلا يجوز التعريض لهن لأنهن لم يخرجن عن عصمة بعولتهن بالمرة.
والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن منهجه إلى غرض منه وهو الجانب، ويقابله التصريح، فهو أن تفهم المخاطب ما تريد بضرب من الإشارة والتلويح يحتمله الكلام على بعد بمعونة القرينة.
وفي الكشاف هو أن تذكر شيئا تدل به على شيء لا تذكره، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم. أقول وللناس في كل عصر كنايات في هذا المقام، ومما سمعته من استعمال عامة زماننا في هذا ذكر الرغبة في الزواج مسندة إلى أناس مبهمين نحو أن من الناس من يتمنى لو يكون له كذا أو يوفق إلى كذا.
والخطبة بالكسر من الخطاب أو الخطب وهو الشأن العظيم وهي طلب الرجل المرأة للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس، وأما الخطبة بالضم فهي ما يوعظ به من الكلام. والإكنان في النفس هو ما يضمره مريد الزواج في نفسه ويعزم عليه من التزوج بالمرأة بعد انقضاء العدة.
أباح الله تعالى أن يعرض الرجل للمرأة في العدة بأمر الزواج تعريضا، وقرن ذلك بما يكون من النية في القلب والعزم المستكن في الضمير كأنه مثله في تعذر الاحتراز منه أو تعسيره، ولم يحرم عليهم أن يقطعوا في هذا الأمر بأنفسهم لأن الأمر أمر ديني، بل راعى فيما شرعه لهم ما فطرهم عليه. ولذلك ذكر وجه الرخصة فقال :﴿ علم الله أنكم ستذكرونهن ﴾ في أنفسكم، وخطرات قلوبكم ليست في أيديكم، ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن النطق لهن بما في أنفسكم، فرخص لكم في التعريض دون التصريح، فقفوا عند حد الرخصة.
﴿ ولكن لا تواعدوهن سرا ﴾ أي في السر فإن المواعدة السرية مدرجة الفتنة، ومظنة الظنة، والتعريض يكون في الملأ لا عار فيه ولا قبح، ولا توسل إلى ما لا يحمد، وذهب جمهور العلماء إلى أن السر هنا كناية عن النكاح أي لا تعقدوا معهن وعدا صريحا على التزوج بهن.
قال الأستاذ الإمام : عبر عن النكاح بالسر لأنه يكون سرا في الغالب، وروي عن ابن عباس أنه قال المواعدة سرا أن يقول لها : إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري ونحو هذا. وقيل هي المواعدة على الفاحشة. والدليل على أن النهي عام يراد به تحريم الكلام الصريح معها في الخلوة قوله :﴿ إلا أن تقولوا قولا معروفا ﴾ قيل هو التعريض وقال الأستاذ الإمام : هو ما يعهد مثله بين الناس المهذبين بلا نكير كالتعريض، وهذا أقوى من التعريض.
وجملة القول إنه لا يجوز للرجال أن يتحدثوا مع النساء المعتدات عدة الوفاة في أمر الزواج بالسر ويتواعدوا معهن عليه، وكل ما يخص لهم فيه هو التعريض الذي لا ينكر الناس مثله في حضرتهن، ولا يعدونه خروجا عن الأدب معهن، والفائدة منه التمهيد وتنبيه الذهن، حتى إذا تمت العدة كانت المرأة عالمة بالراغب أو الراغبين، فإذا سبق إلى خطبتها المفضول ردته إلى أن يجيء الأفضل عندها. وقد أوضح الأمر وسلك فيه مسلك الإطناب لأن الناس يتساهلون في مثل هذه الأمور لما لهم من دافع الهوى إليها، ولذاك صرح بما فهم من سابق القول من جواز القصد إلى العقد بعد تمام العدة فقال :
﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح ﴾ أي على عقدة النكاح على حذف " على " ويقال عزم الشيء وعزم عليه واعتزمه أي عقد ضميره على فعله، أو المعنى لا تعتقدوا عقدة النكاح وهو العزم المتصل بالعمل لا ينفصل عنه ﴿ حتى يبلع الكتاب أجله ﴾ أي حتى ينتهي ما كتب وفرض من العدة فالكتاب بمعنى المكتوب أي المفروض أو بمعنى الفرض قال تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ ( البقرة : ٨٧٣ ) وقال :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾ ( النساء : ١٠٣ ) وإنما عبر عن الفريضة المحتملة بلفظ الكتاب لأن ما يكتب يكون أثبت وآكد وأحفظ، وفسر بعضهم الكتاب بالقرآن على أن المراد به العدة أيضا كأنه قال حتى يتم ما نطق به القرآن من مدة العدة. والحاصل أن التزوج بالمرأة في العدة محرم قطعا، ولأجله حرمت خطبتها فيها والعقد باطل بإجماع المسلمين.
ثم قال :﴿ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ﴾ أي يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم فاحذروا أن تعزموا ما حظره عليكم منه من قول وعمل.
قال الأستاذ الإمام هذا التحذير راجع للأحكام التي تقدمت من التعريض وغيره جاء على أسلوب القرآن وسنته في قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وتأكيدا للمحافظة عليها والالتفات إليها، ولا يقال إن العلم بما في النفس أعم من الخير بالعمل، فيستغني عن هذا بما ختمت به الآية السابقة، لأن لكل كلمة مما ورد في هذا الكلام أثرا مخصوصا في النفس، والمقصود واحد. وما دامت الحاجة ماسة إلى شيء فلا يقال إن في الإتيان به تكرارا مستغنى عنه وإن كثر وتعدد ولو بلغ الألوف بلفظه، فكيف به إذا تنوع بعموم أو خصوص أو غير ذلك.
وقوله :﴿ واعلموا أن الله غفور حليم ﴾ بعد ما ورد من الوعيد والتشديد في الآيات السابقة يبين أن للإنسان مخرجا بالتوبة إذا هو تعدى شيئا من الحدود وأراد الرجوع إلى الله تعالى فإنه غفور له رحيم لا يعجل بعقوبته، بل يمهله ليصلح بحسن العمل، ما أفسد بما سبق من الزلل.
قالوا المراد بالجناح المنفي هنا هو التبعة من المهر ونحوه، ولا الإثم والوزر، وأوردوا هذا وجها ضعيفا وجهوه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير ما ينهى عن الطلاق فظن الناس أن فيه جناحا فنفته الآية، وهو كما ترى يتبرأ منه السياق. وقال الأستاذ الإمام : المراد بنفي الجناح نفي المنع وهو مقيد بقيدين عدم المسيس وعدم تسمية مهر. والمسيس اسم مصدر لمسه مسا ( من باب تعب ونصر ) إذا لمسه بيده من غير حائل، هكذا قيدوه كما في المصباح. ويعبر عن إصابة كل شيء للإنسان من خير وشر ونفع وضر. ويكنى به وبالممامسة والملامسة كالمباشرة عن الغشيان المعلوم بين الزوجين.
قرأ الجمهور " ما لم تمسوهن " بالفعل الثلاثي، وقرأ حمزة والكسائي " تماسوهن " بالصيغة الدالة على المشاركة هنا وفي سورة الأحزاب ( ٣٣ ) لأن كلا منهما يشترك فيه بحسب حاله، فهذه القراءة بيان للواقع، وتلك بيان لفعل الرجل الذي يجب به ما يجب من المهر والعدة. وآية الأحزاب التي فيها القراءتان هي :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ﴾ ( الأحزاب : ٤٩ ) وأجمعوا على قراءة واحدة في قوله تعالى من سورة مريم حكاية عنها ﴿ ولم يمسسني بشر ﴾ ( مريم : ٢٠ ) لأنه نفي لسبب الولد من قبل الرجال لا معنى للمشاركة فيه.
والمراد بفرض الفريضة تسمية المهر، والآية تدل على أن عقد النكاح يصح بغير مهر، قالوا ويجب حينئذ مهر المثل. قال الأستاذ الإمام والفرض هنا يصدق بما يكون بعد العقد كأن يقول : أمهرتك ألفا، مثلا.
يقول الله تعالى :﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ﴾ أي لا يلزمكم شيء من المال تأثمون بتركه في حال طلاقكم للنساء ﴿ ما لم تسموهن أو تفرضوا لهن فريضة ﴾ أي مدة عدم مسكم إياهن وتسمية المهر لهن، أي حينئذ يجب عليكم شيء وهو ما يذكر في الآية التالية لهذه. والمعنى إذا تحقق الشرطان أو القيدان فلا تدفعوا لهن مهرا ﴿ ومتعوهن ﴾ أي أعطوهن شيئا يتمتعن به ولتكن هذه المتعة على حسب حالكم في الثروة ﴿ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ﴾ الموسع وصف من أوسع الرجل إذا صار ذا سعة وهي البسطة والغنى، والمقتر من أقتر الرجل إذا قل ماله وافتقر، وقتر على عياله ( من بابي قعد وضرب ) وأقتر ضيق عليهم في النفقة. ولعله من القتار بالضم وهو دخان الشواء والطبيخ وبخاره ورائحته، والقتر من النفقة الرمقة من العيش، ويقال أقتر أيضا إذا قتر عمدا فعاش عيشة الفقير.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان " قدره " بفتح الدال والباقون بسكونها وهما لغتان بمعنى. وقيل القدر بالتسكين الطاقة وبالتحريك المقدار والمراد لا يختلف، وهو أن المتعة تختلف باختلاف ثروة الرجل وبسطه ولذلك لم تحدد بل تركت لاجتهاد المكلف لأنه أعرف بثروة نفسه، وقد علم أن الله فرضها عليه وأكدها بقوله :﴿ متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ﴾ فأما المعروف فهو ما يتعارف الناس بينهم ويليق بهم بحسب اختلاف أصنافهم وأحوال معايشتهم وشرفهم، وأما كونه حقا على المحسنين فمعناه أنها واجبة حاقة على أنها إحسان في التعامل لا عقوبة، فإن الحكمة فيها قالوا جبر إيحاش الطلاق، كأن المعنى إن كنتم مؤمنين بالله محسنين في طاعته فعليكم أن تجعلوا هذا المتاع لائقا مؤديا إلى الغرض منه.
قال الأستاذ الإمام مبينا الحكمة في شرع هذه المتعة : إن في هذا الطلاق غضاضة وإيهاما للناس أن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه منها شيء، فإذا هو متعها متاعا حسنا تزول هذه الغضاضة ويكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها والاعتراف بأن الطلاق كان من قبله أي لعذر يختص به، لا من قبلها، أي لا لعلة فيها، لأن الله تعالى أمرنا أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة. فجعل هذا التمتيع كالمرهم لجرح القلب لكي يتسامع به الناس فيقال : إن فلانا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر وهو آسف عليها معترف بفضلها، لا أنه رأى عيبا فيها أو رابه شيء من أمرها، ويقال إن سيدنا الحسن السبط متع إحدى زوجاته بعشرة آلاف درهم وقال :" متاع قليل من حبيب مفارق " لهذا وكل الله تعالى الأمر في ذلك إلى أريحية المؤمنين فلم يحدده بل وصفه بالمعروف، وذكر المطلق عند إيجابه بالإحسان هنا وبالتقوى في الآية الآتية.
وأقول زيادة في إيضاح الحكمة : من المعروف أن الإقدام على عقد الزوجية يتقدمه تعارف وتواد بين بيت الرجل وبيت المرأة، ثم تكون الخطبة فالعقد، فإذا طلق الرجل قبل الدخول فإن الناس يظنون بالمرأة من الظنون ما لا يظنون بها إذا طلقت بعد الدخول، لأن المعاشرة هي التي تكشف لكل واحد عن طباع الآخر، فحمل الطلاق على تنافر الطباع، وعدم المشاركة في الأخلاق والعادات، وهذا وجه جعل بعض العلماء متعة غير المدخول بها واجبة ومتعة غيرها مستحبة، وإذا كانت الغضاضة في الطلاق قبل الدخول على ما ذكرنا فلا جرم أن ذلك التواد الذي ظهرت بوادره قبل الخطبة وتمكن العقد يتحول إلى عداء وتباغض، إلا أن يدفع المطلق ذلك بالتي هي أحسن وهي المتعة اللائقة، ولا تتحقق هذه الحكمة إلا بجعل مقدار المتعة موكولا إلى اختيار الرجل مع العلم بأنها واجبة على حسب الحال في السعة، وأن الغرض منها كذا، فلا يتحقق الامتثال إلا بتحري إصابته، ومما روي عن الحسن السبط أيضا أنه متع بعشرين ألفا من عسل، وكذلك كانوا يفعلون.
هذا هو المتبادر من الآية ولكن من الفقهاء من قال إن المتعة تستحب ولا تجب لأنها جعلت حقا على المحسنين، كأن القيام بالواجب لا يوصف بالإحسان، ويكفي في إثبات الوجوب قوله تعالى :﴿ على الموسع قدره وعلى المقتدر قدره ﴾ وقوله :﴿ حقا على ﴾ وإنما حسن ذكر الإحسان هنا لأن المفروض غير محدود، والشارع يحب بسط الكف فيه، فذكر بالإحسان لأجل ذلك، وليبين أن المتعة ليست من قبيل الغرامة، إذ لو كانت غرامة في قدرها كما أنه لا اختيار في أصلها لما تحققت بها الحكمة التي تقدم شرحها، وآية الأحزاب المتقدمة آمرة بالتمتيع أمرا لم يذكر معه لفظ المحسنين، على أن الله تعالى ذكر الإحسان والمحسنين في مقام الأعمال الواجبة كقوله في سورة التوبة :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل ﴾ ( التوبة : ١٩ ) والنصح لله ورسوله واجب حتم، وقوله في هذه السورة أيضا :﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ﴾ إلى قوله :﴿ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ ( مريم : ١٢٠ ) وذكر هذا اللفظ كثيرا بعد ذكر الصبر في مواضع اليأس وهو واجب، وبعد ذكر محاولة إبراهيم ذبح ولده وكان واجبا عليه لولا ما افتداه الله تعالى. وقال تعالى في سورة الزمر عند ذكر الجزاء :﴿ أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ﴾ ( الزمر : ٥٨ ) وهل يصح أن يقال إن النفس تعذب على ترك النوافل المستحبة فتتمنى الرجعة لتؤديها ؟
ومن تتبع الآيات التي ذكر فيها الإحسان يرى أن منها ما يراد به الأعمال المفروضة أولا وبالذات، ومنها ما يراد به ما زاد عن الفرض من العمل الصالح، ومنها ما يراد به إحسان العمل وإتقانه مطلقا.
وممن صرح بوجوب المتعة من علماء السلف علي وابن عمر والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك وغيرهم، واختلفوا أيضا في مقدارها وقد علمت المختار فيه، واختلفوا أيضا هل تشرع لغير هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أم لا ؟ وسيأتي ذلك في تفسير ﴿ وللمطلقات متاع بالمعروف ﴾ ( البقرة : ٢٤١ ).
﴿ إلا أن يعفون ﴾ أي النساء المطلقات عن أخذ النصف كله أو بعضه، وهو حق البالغة الرشيدة ﴿ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ﴾ قيل هو الولي مطلقا وعليه جماعة من المفسرين أو الولي المجبر وهو الأب أو الجد فيعفو له عن النصف الواجب كله أو بعضه، والشيعة لا تبيح له العفو عن كله وقال كثير منهم إن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج الذي بيده حلها. قال الأستاذ الإمام عبر عنه بهذا للتنبيه على أن الذي ربط المرأة وأمسك العقدة بيده لا يليق به أن يحلها ويدعها بدون شيء، بل يستحب له العفو والسماح بكل ما كان قد أعطى وإن كان الواجب المحتم نصفه، فذلك تمهيد لقوله :﴿ وأن تعفوا أقرب لتقوى ﴾ والخطاب على هذا خاص بالرجال، وفيه وجه آخر أنه عام للنساء والرجال، أي من عفا فهو المتقي.
ويروي عن جبير بن مطعم أنه تزوج بنتا لسعد بن أبي وقاص ثم طلقها قبل الدخول وأعطاها جميع المهر، فسئل عن هذا فقال أما التزوج فلأنه عرضها علي فما رأيت أن أرده، وأما العفو فأنا أحق بالفضل. هكذا قال من روى القصة بالمعنى، وفي التفسير الكبير أن جبيرا قال : أنا أحق بالعفو، وإذا كان هذا لفظه فهو دليل على أن الخطاب عام على سبيل التغليب، ويرجحه اختلاف الأحوال، ففي بعض الأحوال تكون المصلحة في عفو الرجل عن النصف الآخر وفي بعضها تكون في عفو المرأة عن النصف الواجب لها، ذلك لأن الطلاق قد يكون من قبله بلا علة منها وقد يكون بالعكس، والذي تراه في عامة كتب التفسير أن المراد بالتقوى هنا تقوى الله تعالى المطلوبة في كل شيء، وذلك أن العفو أكثر ثوابا وأجرا.
وقال الأستاذ الإمام : إن التقوى في هذا المقام اتقاء الريبة وما يترتب على الطلاق من التباغض وآثار التباغض، ولا يخفى ما في السماح بالمال، من التأثير في تغير الحال، ولذلك قال بعد ذلك ﴿ ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾ فسروا الفضل بالتفضيل والإحسان وجعلوه للترغيب في العفو. وقال الأستاذ الإمام : المراد به المودة والصلة، أي ينبغي لمن تزوج من بيت ثم طلق أن لا ينسى مودة أهل البيت وصلتهم، قال فأين هذا مما نحن عليه اليوم من التباغض والضرار ؟
على هذا السياق جرى في تفسير الآية وهو مما لا يقف الذهن فيه إلا من كان مطلعا على وجوه الخلاف في الذي بيده عقدة النكاح، يقول القائلون بأنه الولي، إنه هو الذي يتولى العقد شرعا وعرفا وقد تولى العفو عن نصف المهر بالنيابة عن موليته إذا هي طلقت ولاسيما إذا كانت غير مدخول بها ولا حديث بينها وبين الزوج ولا معاملة، وإن تبرع الزوج بالنصف الآخر من المهر لا يسمى عفوا وإنما يسمى هبة، وإن عقدة النكاح لم تبق في يد الزوج بعد الطلاق، ويقول الذاهبون إلى أنه الزوج إن الولي بيده عقد النكاح لا عقدته التي هي أثر العقد، وأنه ليس للولي أن يسمح بشيء من مال موليته لأنها هي المالكة المتصرفة من دونه، وأنت ترى الجواب من كل جانب عما أورده الآخر سهلا والخطب أسهل، فالمعنى المراد أن الواجب نصف المهر إلا أن يسمح الرجل به كله وسمى سماحه بالنصف الآخر عفوا لأن المعهود أنهم كانوا يسرقون جميع المهر عند العقد كالتقدم، أو تعفو المرأة بنفسها أو بواسطة وليها عما يجب لها فلا تأخذ منه شيئا، فأي الفريقين عفا فعفوه أقرب إلى التقوى. والقائلون بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج أكثر كما تشعر به العبارة السابقة، ويروى فيه حديث مرفوع عند ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي.
وقد ختمت الآية بقوله تعالى :﴿ إن الله بما تعملون بصير ﴾ جريا على السنة الإلهية بالتذكير والتحذير بعد تقرير الأحكام، لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذي الإيمان وتبعث على الامتثال. وفي التذكير باطلاع الله تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا، ترغيب في المحاسبة والفضل، وترهيب لأهل المخاشنة والجهل.
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى بعد تفسير هذه الآيات ما معناه : من تدبر هذه الآيات وفهم هذه الأحكام يتجلى له نسبة مسلمي هذا العصر إلى القرآن، ومبلغ حظهم من الإسلام.
قال : وأخص المصريين بالذكر فإن الروابط الطبيعية في النكاح والصهر وسائر أنواع القرابة صارت في مصر أرث وأضعف منها في سائر البلاد، فمن نظر في أحوالهم وتبين ما جرى بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات والمضارات، وما يكيد بعضهم لبعض، يخيل إليه أنهم ليسوا من أهل القرآن، بل يجدهم كأنهم لا شريعة لهم ولا دين بل آلهتهم أهواؤهم، وشريعتهم شهواتهم، وإن حال المماكسة بين التجار في السلع هي أحفظ وأضبط من حال الزواج، وأقوى في الصلة من روابط الأزواج، وسرد في الدرس وقائع تؤيد ما ذكره ( منها ) أن رجلا هجر زوجته وهي ابنة عمه وله منها بنت بغير ذنب غير الطمع في المال فكان كلما كلموه في شأنها قال : لتشتر عصمتها مني ( ومنها ) ما هو أدهى من ذلك وأمر كالذين يتركون نساءهم بغير نفقات حتى قد يضطروهن إلى بيع أغراضهن، وكالمطلقات المعتدات بالقروء يزعمن أن حيضهن حبس فتمر السنون ولا تنقضي عدتهن بزعمهن، وما الغرض إلا إلزام المطلق النفقة طول هذه المدة انتقاما منه، وكالذين يذرون أزواجهم كالمعلقات لا يمسكونهن بمعروف ولا يسرحونهن بإحسان، أو يفتدين منهم بالمال، فأين الله وأين كتاب الله وشرعه من هؤلاء وأين هم منه ؟ إنهم ليسوا من كتاب الله في شيء، ولكن المسرفين أهواءهم يتبعون١.
كانت الآيات السابقة أحكاما بعضها في العبادات، وبعضها في الحدود والمعاملات، آخرها معاملة الأزواج، ورأينا من سنة القرآن أن يختم كل حكم أو عدة أحكام بذكر الله تعالى والأمر بتقواه، والتذكير بعلمه بحال العبد وبما أعد له من الجزاء على عمله، وفي هذا ما فيه من نفخ روح الدين في الأعمال وإشرابها حقيقة الإخلاص. ولكن هنا التذكير القولي بما يبعث على إقامة تلك الأحكام على وجهها، قد يغفل المرء عن تدبره، ويغيب عن الذهن تذكره، بانهماك الناس في معايشهم واشتغالهم بما يكافحون من شدائد الدنيا، أو ما يلذ لهم من نعيمها، ولهذه الضروب من المكافحات، والفنون من تمتع باللذات، سلطان قاهر على النفس، وحاكم مسخر للعقل والحس، يتنكب بالمرء سبيل الهدى، حتى تتفرق به سبل الهوى، فمن ثم كان المكلف محتاجا في تأديب الشهوات الحيوانية، إلى مذكر يذكره بمكانته الروحانية، التي هي كمال حقيقته الإنسانية، وهذا المذكر هو الصلاة فهي التي تخلع الإنسان من تلك الشواغل التي لابد لها منها، وتوجيهه إلى ربه جل وعلا، فتكثر له مراقبته، حتى تعلو بذلك همته، وتزكو نفسه، فتترفع عن البغي والعدوان، وتتنزه عن دناءة الفسق والعصيان، ويجيب إليها العدل والإحسان، بل ترتقي في معارج الفضل إلى مستوى الامتنان١ فتكون جديرة بإقامة تلك الحدود، وزيادة ما يحب الله تعالى من الكرم والجود، ذلك أن الصلاة تنهى بإقامتها على وجهها عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله فيها أعظم من جميع المؤثرات وأكبر، فإذا كان الإنسان قد خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، فقد استثنى الله تعالى من هذا الحكم الكلي المصلين، إذا كانوا على الصلاة الحقيقية محافظين. لهذا قال :
﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ﴾ قال بعض المفسرين في وجه اختيار لفظ المحافظة على حفظ أن الصيغة على أصلها تفيد المشاركة في الحفظ وهي هنا بين العبد وربه كأنه قيل : احفظ الصلاة يحفظك الله الذي أمرك بها، احفظوها تحفظكم من الفحشاء والمنكر بتنزيه نفوسكم عنهما، ومن البلاء والمحن بتقوية نفوسكم عليهما كما قال :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾ ( البقرة : ٤٥ ) وقال الأستاذ الإمام : قال حافظوا على الصلوات ولم يقل احفظوها، لأن المفاعلة تدل على المنازعة والمقاومة، ولا يظهر قول بعضهم إن المفاعلة للمشاركة لأن الصلاة تحفظه كما يحفظها، إلا لو كانت العبارة حافظوا الصلوات، ولكنه قال على الصلوات، أي اجتهدوا في حفظها والمداومة عليها اه لا يريد الأستاذ بهذا أن الصلاة لا تحفظ مما ذكر، وإنما يريد أن لفظ حافظوا لا يدل على هذا المعنى الثابت في نفسه. والذي أفهمه في المفاعلة على الشيء هو فعله المرة بعد المرة ومنه حافظ عليه وواظب عليه وداوم عليه، إلا إذا كانت " على " للتعليل كقاتله على الأمر، أي لأجله، فالمقاتلة فيه للمشاركة ولا يصح هنا. وحفظ الصلاة المرة بعد المرة على الاستمرار عبارة عن الإتيان بها كل مرة كاملة الشرائط والأركان العملية، كاملة الآداب والمعاني القلبية، فالشيء الذي يتعاهد بالحفظ دائما هو الذي لا يلحقه النقص وإلا لم يكن محفوظا دائما.
والصلوات هي الخمس المعروفة ببيان من بين للناس ما نزل إليهم، ونقلت عنه بالتواتر العملي، وأجمع عليها المسلمون من جميع الفرق، فهم على تفرقهم في كثير من المسائل متفقون على أن جاحد صلاة من الخمس لا يعد مسلما، على أنهم استنبطوا كونها خمسا من ذكر الوسطى في الجمع كما في تفسير الرازي. قال الأستاذ الإمام : وهو من قبيل التماس النكتة، ومن آيات أخرى كقوله تعالى :﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون ﴾ ( الروم : ١٧-١٨ ) وسيأتي بيان كل شيء في محله إن شاء الله تعالى. وكانوا يعبرون عن الصلاة بالتسبيح، يقولون سبح الغداة مثلا. أي صلى الفجر.
والصلاة الوسطى هي إحدى الخمس. والوسطى مؤنث الوسط، ويستعمل بمعنى المتوسط بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان، وبمعنى الأفضل، وبكل من المعنيين قال قائلون. ولذلك اختلفوا في : أي الصلوات أفضل وأيتها المتوسطة. وللعلماء في ذلك ثمانية عشرا قولا أوردها الشوكاني ( في نيل الأوطار ) أصحها رواية ما ذهب إليه الجمهور من كونها صلاة العصر لحديث علي عند أحمد ومسلم وأبي داود مرفوعا :( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) ٢ رواه أحمد والشيخان عنه بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب ( ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ) ٣ ولم يذكر العصر، ولذلك قال بعضهم إنها الظهر لأنه شغل يوم الأحزاب عنها وعن العصر جميعا وهي متوسطة وكانت تشق عليهم لأنها تؤدى في وقت الحر والعمل، وفي رواية عن علي عند عبد الله بن أحمد في مسند أبيه كنا نعدها الفجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هي صلاة العصر ) ٤.
ووجه ما رواه أولا توسطها وقوله تعالى في سورة الإسراء :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ﴾ ( الإسراء : ٧٨ ) فقد أشار في الآية إلى الصلوات وجعل الفجر مزية خاصة بها وهو كون قرآنها مشهودا، وورد في معناه أنها تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار. وفي الحديث التصريح بأن صلاة العصر تشارك صلاة الفجر بهذه المزية. ولأصحاب الأقوال الأخرى في تعيين الصلاة الوسطى أحاديث لا تصل إلى درجة ما ورد في صلاة العصر، فقيل هي الفجر وقيل هي الظهر كما مر وقيل هي المغرب وقال الأخفش هي صلاة الجمعة. وقال بعضهم إنها غير معروفة وإن الله تعالى أبهم الصلاة الفضلى التي ثوابها أكثر لنحافظ على كل صلاة.
قال الأستاذ الإمام : ولولا أنهم اتفقوا على أنها إحدى الخمس لكان يتبادر إلى فهمي من قوله :﴿ والصلاة الوسطى ﴾ أن المراد بالصلاة الفعل وبالوسطى الفضلى، أي حافظوا على أفضل أنواع الصلاة وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب وتتوجه بها النفس إلى الله تعالى وتخشع لذكره وتدبر كلامه لا صلاة المرائين ولا الغافلين.
ويقوي هذا قوله بعدها ﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ فهو بيان لمعنى الفضل في الفضلى وتأكيد له، إذ قالوا أن في القنوت معنى المداومة على الضراعة والخشوع، أي قوموا ملتزمين لخشية الله تعالى واستشعار هيبته وعظمته، ولا تكمل الصلاة وتكون حقيقة ينشأ عنها ما ذكر الله تعالى من فائدتها إلا بهذا، وهو يتوقف على التفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب في الصلاة، وخشوعه لما فيها من ذكر الله بقدر الطاقة.
وأقول : إنه ليس عندنا نص صريح في الحديث المرفوع ينافي ما ذكره الأستاذ الإمام في الصلاة الوسطى فقد قال بعض المحدثين إن لفظ " صلاة العصر " في حديث علي مدرج من تفسير الراوي. قالوا ولولا ذلك لما اختلف الصحابة فيها، وأيدوا ذلك ببعض الروايات كرواية مسلم ( شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس. يعني صلاة العصر ) وما قاله في القنوت هو لباب الأقوال الكثيرة التي أوصلها ابن العربي إلى عشرة نظمها في قوله :
ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد | مزيدا على عشر معاني مرضيه |
دعاء، خشوع، والعبادة، طاعة | إقامتها إقرارنا بالعبوديه |
سكوت صلاة والقيام وطوله | كذاك دوام الطاعة الرابح النيه |
المحافظة على الصلوات آية الإيمان الكبرى، وقد جعل الشرع الصلاة والزكاة شرطا لصحة الإسلام وأخوة الدين وماله من الحقوق، قال تعالى في أوائل سورة التوبة في الكلام على المشركين المعتدين ﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ﴾ ( التوبة : ١١ ) والأحاديث في منطوق الآية ومفهومها كثيرة. منها حديث ابن عمر عند أحمد والبخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل ) ٧ والمراد بالناس هنا المشركون أهل الأوثان لا أهل الكتاب الذين يقبل منهم الجزية ومن في حكمهم كالمجوس، ذلك أنهم هم الذين كانوا يقاومون دعوة الإسلام ما لا يقاومها سواهم، وكان استقرار الدين من غير دخول مشركي جزيرة العرب في الإسلام ضربا من المحال، والكلام هنا في مكانة الصلاة من الإسلام لا في الدعوة وحمايتها.
وروى أحمد ومسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ) ٨ وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( العهد الذي بيني وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) ٩ صححه النسائي والعراقي وروى أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال :( من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف ) ١٠ وفي الآثار ما يشعر بأن الصحابة كانوا متفقين على ذلك فقد روى الترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين عن عبد الله بن شقيق العقلي قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة١١.
أرأيت هذه الآيات العزيزة، والأحاديث الناطقة بالعزيمة، قد نال التأويل منها نيله في الزمن الماضي، وأعرض جماهير المسلمين عنها في الزمن الحاضر، حتى كثر التاركون الغافلون والمارقون، وقل عدد المصلين الساهين وندر المصلون المحافظون، ذلك أن الإسلام عند هؤلاء المسلمين، الذين يصفون أنفسهم بالمتمدنين، قد خرج عن كونه عقيدة دينية، إلى كونه جنسية سياسية. آية الاستمساك به والمحافظة عليه والدفاع عنه : مدح كبراء حكامه وإن كانوا لا يقيمون حدوده ولا ينفذون أحكامه، بل رفعوا أنفسهم إلى مرتبة التشريع العام، واستبدال القوانين الوضعية بما نزل الله من الأحكام، فلا غرو أن يعد الذي يغلو بمدح دولته أو بذم عدو لها من أكبر أنصار الإسلام، وإن
٢ أخرجه مسلم في المساجد حديث ٢٠٢، ٢٠٣، وأبو داود في الصلاة باب ٥، وأحمد في المسند ١/٨٢، ١١٣، ١٢٢، ١٢٦، ١٣٥..
٣ أخرجه البخاري في الجهاد باب ٩٨، والمغازي باب ٢٩، ومسلم في المساجد حديث ٢٠٢، ٢٠٦، وأحمد في المسند ١/٧٩، ٨٢، ١٢٦، ١٣٧، ١٤٤، ١٤٦، ١٥٠، ٣٩٢..
٤ أخرجه أحمد في المسند ٥/١٢، ١٣، ٢٢..
٥ أخرجه البخاري في العمل في الصلاة باب ٢، وتفسير سورة ٢، باب ٤٣، ومسلم في المساجد حديث ٣٥، وأبو داود في الصلاة باب ٥، والترمذي في الصلاة باب ١٨٠، وتفسير سورة ٢، باب ٣٣، والنسائي في الصلاة باب ١٤، وأحمد في المسند ٤/٣٠١، ٣٦٨..
٦ أخرجه البخاري في العمل في الصلاة باب ٢، ١٥، ومسلم في المساجد حديث ٣٤، وأبو داود، في الصلاة باب ١٦٦، وابن ماجه في الصلاة باب ٥٩، وأحمد في المسند ١/٣٧٦، ٤٠٩..
٧ أخرجه البخاري في الإيمان باب ١٧، والزكاة باب ١، والصلاة باب ٢٨، والاستتابة باب ٣، والاعتصام باب ٢، ٢٨، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢، وأحمد في المسند ١/١١، ٧٨، ٢/٣١٤، ٣٤٥، ٣٧٧، ٣/١٩٩، ٢٢٤، ٣٠٠، ٤/٩، ٥/٢٣٦..
٨ أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٣٤، وأبو داود قي السنة في باب ١٥، والترمذي في الإيمان باب ٩، وابن ماجه في الإقامة باب ٧٧، والدارمي في المسند ٣/٣٧٠، ٣٨٩..
٩ أخرجه الترمذي في الإيمان باب ٩، والنسائي في الصلاة باب ٨، وابن ماجه في الإقامة باب ٧٧، وأحمد الترمذي في المسند ٥/٣٤٦..
١٠ أخرجه الدارمي في الرقاق باب ١٣، وأحمد في المسند ٢/١٢٩..
١١ أخرجه الترمذي في الإيمان باب ٩..
ولا ريب أن هذه الهيئة التي اختارها الله تعالى للصلاة هي أفضل معين على استحضار سلطانه، وتذكر كرمه وإحسانه، فإن قولك " الله أكبر " في فاتحة الصلاة وعند الانتقال فيها من عمل إلى عمل يعطيك من الشعور بكون الله أكبر وأعظم من كل شيء تشغل به نفسك، وتوجه إليه همك، ما يغمر روحك، ويستولي على قلبك وإرادتك، وفي قراءة الفاتحة من الثناء على الله تعالى وتذكر رحمته وربوبيته ومعاهدته على اختصاصك إياه بالعبادة والاستعانة، ومن دعائه لأن يهديك صراطه الذي استقام عليه ومن سبقت لهم منه النعمة من عباده الصالحين ما فيها مما تقدم شرحه في تفسيرها، وكل ما تقرأه من القرآن بعد الفاتحة له في النفس آثار محمودة تختلف باختلاف ما في القرآن من المعارف العالية، والحكمة البالغة، والعبر العظيمة، والهادية القويمة، وانحناؤك للركوع وللسجود بعد ذلك يقوي في النفس معنى العبودية، وتذكر عظمة الألوهية ونعم الربوبية، لما في هذين العملين من علامة الخضوع والخروج عن المألوف، وما شرع فيهما من تسبيح الله، وتذكر عظمته وعلوه جل ثناؤه.
فإذا تعذر عليك الإتيان ببعض الأعمال البدنية، فإن ذلك لا يسقط عنك هذه العبادة القلبية، التي هي روح الصلاة وغيرها وهي الإقبال على الله تعالى واستحضار سلطانه مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر الإمكان، الذي لا يمنع من مدافعة الخوف الطارئ من سبع مفترس، أو عدو مغتال، أو لص محتال، وكيف يسقط طلب الصلاة القلبية في حال الخوف وهو يساعد على الخروج منه، أو تخفيف وقعه، فالآية تعلمنا أنه يجب أن لا يذهلنا عن الله تعالى شيء من الأشياء، ولا يشغلنا عنه شاغل ولا خوف في حال من الأحوال، ولذلك قال :﴿ فإن خفتم فرجالا أو ركبنا ﴾ أي فصلوا مشاة أو راكبين كيفما اتفق وهذا في حالة الملاحمة في القتال أو مقاومة العدو ودفع الصائل أو الفرار من الأسد، أي ممارسة ذلك الفعل، فإن كان الوقت وقت صلاة على المكلف راجلا أو ركبانا لا يمنعه من صلاته الكر والفر، ولا الطعن والضرب، ويأتي من أقوال الصلاة بما يأتي من الحضور والذكر ويومئ بالركوع والسجود بقدر الاستطاعة، ولا يلتزم التوجه إلى القبلة. وأما صلاة الخوف في هذه الحالة كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة فهي مذكورة في سورة النساء.
﴿ فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾ أي زال خوفكم واطمأننتم فاذكروا الله لأنه علمكم كيف تعبدونه وتصلون له في حال الخوف، فيكون ذلك عونا لكم على دفعه أي تذكروا نعمه عليكم بهذا التعليم واشكروه له، هذا إذا قيل إن الكاف للتعليل، وإذا قلنا أن الكاف للبدلية فالمعنى فاذكروه على الطريقة التي علمكم إياها من قبل، أي فصلوا على السنة المعروفة في الأمم بإتمام القيام والاستقبال والركوع والسجود.
هذه الآيات تتمة ما في السورة من أحكام الأزواج، وقد جاء الأمر بالمحافظة على الصلوات في أثناء هذه الأحكام ـ والصلاة عماد الدين ـ للعناية بها فمن حافظ على الصلوات كان جديرا بالوقوف عند حدود الله تعالى والعمل بشريعته ولذلك قال :﴿ استعينوا بالصبر والصلاة ﴾ ( البقرة : ١٥٣ ) وقد بينا وجه ذلك/ وقد خطر لي وجه آخر هو الذي يطرد في أسلوب القرآن الخاص في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض من عقائد وحكم ومواعظ وأحكام تعبدية ومدنية وغيرها، وهو نفي السآمة على القارئ والسامع من طول النوع الواحد منها، وتجديد نشاطها واعتبارهما في الصلاة وغيرهما.
قوله :﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ﴾ الخ فيه قولان : أحدهما أن عدة الوفاة كانت في أول الإسلام سنة كاملة مجاراة لعادات العرب ولكن مع تخيير المرأة في الاعتداد في بيت الميت فإن اعتدت فيه وجبت نفقتها من تركته وحرم على الورثة إخراجها، وإن خرجت هي سقط حقها في النفقة، وقالوا إنه لم يكن للمرأة من ميراث زوجها إلا هذا المتاع والنفقة، فقوله تعالى :﴿ وصية لأزواجهم ﴾ معناه فليوصوا وصية لأزواجهم، أو فعليهم وصية لأزواجهم إذ قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم " وصي " بالنصب. وقرأها ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم بالرفع.
وقوله :﴿ متاعا إلى الحول ﴾ معناه أن يمتعوا متاعا أو متعوهن متاعا كأنه قال فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعا إلى آخر الحول، وقيل إن التقدير جعل الله ذلك لهن متاعا. وقوله :﴿ غير إخراج ﴾ معناه غير مخرجات أي يجب ذلك لهن مقيمات في دار الميت غير مخرجات فلا يمنعن السكنى.
قال الأستاذ الإمام : الأحسن ما قاله بعضهم من أن متاعا مصدر بمعنى تمتيعا أو معمول للمصدر الذي هو وصية معنى ﴿ غير إخراج ﴾ غير مخرجات وهو حال من الأزواج والنكتة في العدول عنه هي أن المراد أن يوصي الرجل بعدم إخراج زوجه وأن ينفذ أولياؤه وصيته فلا يخرجونهن من بيوتهن، ولو قال :" غير مخرجات " لكان تحتيما عليهن بالبقاء في البيوت ولأفاد عدم جواز إخراجهن لأحد ولو كان وليا كأبيها، وليس هذا المراد، فعبارة الآية تفيد المعنى المراد ولا توهم سواه هذا ما ذهب إليه الجمهور في معنى الآية فهي عندهم توجب أن تكون عدة الوفاء سنة كاملة وأن ينفق على المعتدة من تركة زوجها مقيمة في داره لا يجوز إخراجها منها إلا أن تخرج باختيار فتسقط نفقتها قالوا ثم نسخت بجعل العدة أربعة أشهر وعشرا كما في تلك الآية تقدمت عليها في الذكر وهي متأخرة عنها في النزول وبجعلها وارثة للزوج بنص القرآن مع تحريم الوصية للوارث في الحديث. وأقول وعليه يكون الإصلاح لتلك العادات الجاهلية في الاعتداد لوفاة الزوج وما يتبعه من الحداد عليه قد حصل بالتدريج فأقرت مدة العدة أولا ولكن منع أن تكون بتلك الحالة الرديئة التي تقدم ذكرها ثم نسخت بما تقدم.
قال الأستاذ الإمام : وهناك وجه آخر يتصل بقول الجمهور وهو أن الآية كانت في فرض الوصية وطلب مع هذا الفرض من ورثة الميت أن لا يخرجن النساء في مدة الحول. وأن الخروج الذي يبرأ به أولياء الميت من الوصية المفروضة التي هي النفقة هو الخروج الذي بعده العدة التي هي أربعة أشهر وعشر، قال وهو قول ضعيف.
والقول الثاني أن هذه الآية لم يذكر فيها التربص الذي هو الاعتداد كما ذكر في غيرها من آيات العدة السابقة، وإنما ذكر الوصية والمراد بها أن يستوصي الرجل بالنساء اللواتي يتوفى أزواجهن خيرا بأن لا يخرجوهن من بيوت أزواجهن بعدما كان من قوة علاقتهن بها إلى مدة سنة كاملة تمر فيه عليهن الفصول الأربعة التي يتذكرن أزواجهن فيها، وإن يجعل لهن في مدة السنة شيء من المال ينفقنه على أنفسهن إلا إذا خرجن وتعرضن للزواج أو تزوجن بعد العدة المفروضة في الآية السابقة. ولكن لم يعمل أحد من الصحابة ولا من بعدهم بهذا، ولذلك قال الجمهور إنه منسوخ، وذهب بعض الصحابة والتابعين إلى أن الأمر بالوصية كان الندب وتهاون الناس به كما تهاونوا في كثير من المندوبات أي كاستئذان الأولاد الذين لم يبلغوا الحلم عند دخول بيوتهم في الأوقات الثلاثة التي هي مظنة التهاون بالستر قبل صلاة الفجر وحين وضع الثياب من الظهيرة في أيام الحر ومن بعد صلاة العشاء قال وعلى هذا فلا نسخ لأنهم مجمعون على أنه لا يصار إلى النسخ إذا أمكن الجمع بين النصين.
هذا ما جرى عليه الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في تفسير الآية، وفي كتب التفسير عزيت مخالفة الجمهور إلى كبيرين من قدماء المفسرين وهما مجاهد وأبو مسلم، أما مجاهد فقد روى عنه ابن جرير أنه يقول نزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتان قوله تعالى :﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ﴾ الآية، وقد تقدمت وهذه الآية، فيجب حمل الآيتين على حالتين فإن اختارت الإقامة في دار زوجها المتوفى والنفقة من ماله فعدتها سنة وإلا فعدتها أربعة أشهر وعشرا، فيكون للعدة على قوله أجل محتم وهو الأقل وأجل مخير فيه وهو الأكثر. وأما أبو مسلم فيقول إن معنى الآية من يتوفون منكم ويذرون أزواجا وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الأزواج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهم فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازم، قال والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب على هذا التقدير فالنسخ زائل.
أورد الإمام الرازي هذا في تفسيره ثم قال :" واحتج على قوله بوجوه :
أحدها : أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان.
والثاني : أن يكون الناسخ متأخرا عن المنسوخ في النزول ( أي الأصل أن يكون الخ ولعل لفظ الأصل سقط من الناسخ أو الطابع ) وإذا كان متأخرا عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخرا عنه في التلاوة أيضا لأن هذا الترتيب أحسن. فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة فهو وإن كان جائزا في الجملة إلا أنه يعد من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان. ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك في التلاوة كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك.
الوجه الثالث : هو أنه ثبت في علم أصول الدين أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص كان التخصيص أولى، وههنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد ندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر لأنكم تقولون تقدير الآية : فعليهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها : فليوصوا وصية. فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى وأبو مسلم يقول بل تقدير الآية : والذين يتفون منكم ولهم وصية لأزواجهم، أو تقديرها : وقد أوصوا وصية لأزواجهم : فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج. وإذا كان لا بد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره. ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية. وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل، مع ما في هذا القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، وهذا كلام واضح. وإذا عرفت هذا فنقول هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية فالشرط هو قوله :﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج ﴾ والجزاء هو قوله :﴿ فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ﴾ فهذا تقدير قول أبي مسلم وهو في غاية الصحة اه.
أوردنا كلام الرازي بنصه على إسهابه وإطنابه لما فيه من تفنيد قول الجمهور بالحجج البينة التي يقتنع بها أولو الألباب، وليعلم المقلدون أن في أشهر مفسري القرون الوسطى من ضعف ذلك القول ورجح عليه كلا من القولين المخالفين له. واعلم أن ما ذكره من جواز فيه غريب ما حملهم عليه إلا تصحيح فهمهم لمثل هاتين الآيتين أو اغترارهم بتفسير الجمهور لهما، وإذا سهل تسليم قولهم بجواز وجود آيتين في سورتين تنسخ إحداهما الأخرى مع وجود الناسخة في السورة المتأخرة في ترتيب القرآن فلا يسهل القول بأن آيات متناسقة في سورة واحدة يجعل السابق منها ناسخا لما بعده، ويفهم من قوله بوجوب تنزيه كلام الله تعالى عن مثل ذلك أنه لا يجيزه لأن الواجب في التنزيه يدخل في باب العقائد فهو أبلغ من الواجب في الأحكام العملية، فكيف يسمى تركه جائزا، وإذا كان غير جائز فهو البرهان القاطع على بطلان قول الجمهور بالنسخ.
بعد هذا كله أقول : إن قول مجاهد في الآية بعيد جدا وإن فضله الرازي على قول الجمهور، ويرجح قول أبي مسلم أمران :
( أحدهما ) في العبارة، وهو جعل " الذين يتوفون " فيه على ظاهره والجمهور يجعلونه بمعنى الذين تحضرهم الوفاة، كأن هذه الوصية لا تجب عند القائل بوجوبها إلا على من يشعر بدنو أجله.
و( ثانيهما ) ما علم من عادة العرب في إلزام المرأة بيت زوجها المتوفي سنة كاملة، فلما جعل الإسلام عدتها أربعة أشهر وعشرا كان من مقتضاه أن يخرجها الورثة من البيت بعد مضي العدة، فإذا كانت غير راغبة في الزواج يشق عليها ذلك. فكان من اللائق المتوقع من الزوج الوفي أن يوصي بعدم إخراجها قبل الحول المعتاد جبرا لقلبها، وأن لا تكلف النفقة على نفسها ما دامت في البيت. وقد بين الله تعالى للناس أنه لا حرج على أولياء الميت وورثته فيما تفعله المرأة إذا هي خرجت من بينهم، لأن كفالتهم إياها تسقط حينئذ من غير تقصير منهم في إكرامها، وإنما قيد الفعل بالمعروف لأن منعها عن المنكر واجب عليهم، فإذا قصروا فيه كان عليهم جناح عظيم.
وهذا الوجه الثاني يتفق مع التفسير المختار عن الأستاذ الإمام وهو أن الوصية للندب لا للوجوب. والوجه الأول يمكن التفصي منه بجعل الوصية من الله تعالى لا من المتوفي، والتقدير على الوجه المختار : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية من الله لأزواجهم أو فالله يوصي وصية لأزواجهم أن يمتعن متاعا ولا يخرجن من بيوت أزواجهن إلى تمام الحول، فإن خرجن من تلقاء أنفسهم فلا جناح عليكم أيها المخاطبون بالوصية فيهم في ما فعلن من المعروف شرعا وعادة، كالتعرض للخاطب بعد العدة والتزوج، إذ لا ولاية لكم عليهن فهن حرائر لا منعن إلا من المنكر الذي يمنع منه كل مكلف. وجعل الوصية من الله تعالى معهود في القرآن كقوله ﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ ( النساء : ١١ ) وقوله ﴿ غير مضار وصية من الله ﴾ ( النساء : ١٢ ) وهذا هو المتبادر من النظم الكريم، فهو أظهر من قول أبي مسلم ولا يعارض آية تحديد العدة ولا آية المواريث ولا حديث " لا وصية لوارث " ١ فيتأتى فيه النسخ، سواء كانت هذه الوصية للندب أو للوجوب، وما قلنا إنها للندب إلا لعدم شيوع العمل بها كآية استئذان الوالدان في سورة النور، ولا يمكن الجزم بأنه لم يعمل بها أحد البتة إذ لم يطلع أحد من الخلق على جميع معاملات الناس في بيوتهم فتأمل هذا وما قبله أيها المستقل الفهم المعافى من جهالة التقليد، وتذكر قول المثل السائر : كم ترك الأول للآخر.
وقد ختم الآية بقوله ﴿ والله عزيز حكيم ﴾ للتذكير بأن لله العزة والغلبة فيما يريد من تحويل الأمم عن عادات ضارة، إلى سنن نافعة تقتضيها الحكمة، فتحويل العرب عن عاداتهم في العدة والحداد بجعل المرأة أسيرة ذليلة مقهورة مدة سنة كاملة إلى ما هو خير من ذلك وهو إكرامها ما دامت في بيت زوجها بين أهله، وعدم الحجر على حريتها إذا أرادت الخروج منه ما دامت في حظيرة الشرع وآداب الأمة المعروفة، فهذه الحكمة البالغة توافق مصلحة الأفراد والجمعيات في كل زمان ومكان.
هذه الآيات تتمة ما في السورة من أحكام الأزواج، وقد جاء الأمر بالمحافظة على الصلوات في أثناء هذه الأحكام ـ والصلاة عماد الدين ـ للعناية بها فمن حافظ على الصلوات كان جديرا بالوقوف عند حدود الله تعالى والعمل بشريعته ولذلك قال :﴿ استعينوا بالصبر والصلاة ﴾ ( البقرة : ١٥٣ ) وقد بينا وجه ذلك/ وقد خطر لي وجه آخر هو الذي يطرد في أسلوب القرآن الخاص في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض من عقائد وحكم ومواعظ وأحكام تعبدية ومدنية وغيرها، وهو نفي السآمة على القارئ والسامع من طول النوع الواحد منها، وتجديد نشاطها واعتبارهما في الصلاة وغيرهما.
ثم قال تعالى ﴿ وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ﴾ قال الجلال : كرره ليعم الممسوسة أيضا إذ الآية السابقة في غيرها. وقد أنكر عليه الأستاذ الإمام كعادته القول بالتكرار، قال كأن ما تقدم خاص وما هنا عام. والصواب أن كل آية من الآيات التي وردت في المطلقات وردت في نوع فيهن، فتقدم حكم من لم يمس وقد فرض لها، وحكم المدخول بها المفروض لها، وبقي حكم غيرها ( وفي المذكرة المأخوذة في درسه : وبقي حكم الممسوسة سواء فرض لها أم لا ) فذكره هنا، ولم يذكر ذلك الترتيب، لأن القرآن ليس كتابا فنيا فيكون لكل مقصد من مقاصده باب خاص به، وإنما هو كتاب هداية ووعظ ينتقل بالإنسان من شأن من شؤونه إلى آخر، ويعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة، مع التفنن في العبارة، والتنويع في البيان، حتى لا يمل تاليه وسامعه من المواظبة على الاهتداء. يوجز أحيانا بما يعجز كل أحد عن الإتيان بمثله إذا كان المقام يقتضي الإيجاز، ويطنب في مقام آخر حيث ينبغي الإطناب، وهو معجز في إطنابه كإيجازه، لا لغو فيه ولا حشو، ولكل مقام فيه مقال ينطبق على الحكمة، ويعين على التدبر والتذكر.
( أقول ) إن المطلقات أربع : مطلقة مدخول بها قد فرض لها مهر فلها كل المفروض وعدتها ثلاثة قروء وفيها قوله تعالى ﴿ ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ﴾ ( البقرة : ٢٢٩ ) الآية وتقدم تفسيرها. وفي معناها قوله تعالى في سورة النساء ﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ﴾ ( النساء : ٢٠ ) ومطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها، فيجب لها المتعة بحسب إيسار المطلق ولا مهر لها، وفيها قوله تعالى :﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ﴾ ( البقرة : ٢٣٦ ) الآية. وقد سبق تفسيرها ولا عدة عليها لآية الأحزاب التي ذكرناها في تفسيرها استشهادا. ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها فلها نصف المهر المفروض وفيها قوله تعالى ﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ﴾ ( البقرة : ٢٣٧ ) وتقدم تفسيره ولا عدة عليها أيضا، ومطلقة مدخول بها غير مفروضة لها، قالوا ولها مهر مثلها بلا خلاف. وذكر بعضهم أن قوله تعالى في سورة النساء :﴿ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ﴾ ( النساء : ٢٤ ) معناه فأعطوهن مهورهن بالفرض والتقدير إذا كان غير مسمى، أي والعمدة في التقدير مساواتها بأمثالها على الأقل، ولم يأمرنا تعالى بالتمتيع عند ذكر نوع من المطلقات إلا غير الممسوسات مطلقا كما في آية الأحزاب أو مقيد بقوله ﴿ أو يفرضوا لهن فريضة ﴾ ( البقرة : ٢٣٦ ) كما تقدم في الآية المشار إليها آنفا.
ثم ختم الله تعالى هذه الأحكام المسرودة هنا بقوله ﴿ وللمطلقات متاع ﴾ الخ فزعم بعضهم أن المراد المطلقات المعهودات اللواتي سبق الأمر بتمتيعهن، واستدلوا بما رواه ابن جرير عن ابن زيد قال : لما نزلت ﴿ ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ﴾ ( البقرة : ٢٣٦ ) قال رجل إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله هذه الآية. وفسروا المتقين بمتقي الكفر، وليست هذه الرواية مما يحتج به، وقد قدمنا أن ذكر المحسنين هناك لا يدل على التخيير. وقال بعضهم إن هذا حكم عام فتجب المتعة لكل مطلقة. ولا تكرار على هذا مع الآية الآمرة بتمتيع من لم تمس ولم يفرض لها، لأن هذه الآية مسوقة لحكم هذه المتعة من غير تخصيص ولا تقييد بكونها تختلف باختلاف حال الرجال في الإيسار، وتلك سبقت لبيان نفي الجناح عمن طلق من لم يمسها ولم يفرض لها، وجاء في السياق أنه يجب لها تمتيع حسن بحسب وسع المطلق لما تقدم بيانه في تفسيرها.
فعلى هذا تكون المتعة مشروعة لكل مطلقة، وروي هذا عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وأبي العالية والحسن البصري والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق واستدلوا بعموم هذه الآية وبقوله تعالى في سورة الأحزاب ﴿ يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ﴾ ( الأحزاب : ٢٨ ) وقد كن مدخولا بهن مفروضا لهن المهر. والقائلون بهذا منهم من يقول إنها واجبة لكل مطلقة ومنهم من يقول واجبة لمن لم تمس ولم يفرض لها مندوبة لغيرها. وحجة من قال إن التمتيع خاص بمن لم تمس ولم يفرض لها هي أنه بدل مما يجب لغيرها من نصف المهر إن فرض لها ولم تمس أو المهر المسمى أو مهر المثل إذ كانت ممسوسة. وحسبنا أن الله تعالى جعل تمتيع المطلقات حقا على المتقين، وقد فسروه بالذين يتقون الشرك، أو هو حق على كل مؤمن مطلقا إلا أن يثبت أما ما تستحقه من المهر يسمى متاعا في عرف القرآن فحينئذ تكون هذه الآية فذلكة لسائر الآيات، كأنه قال لكل مطلقة متاع تمتع به، فمنهن من متاعها المهر المسمى أو المقدر ومنهن من متاعها نصفه ومنهم من لها متاع غير محدود لأنه على حسب الاستطاعة. وأحوط الأقوال وأوسطها قول من جعل المتعة غير المهر وأوجبها لمن لا تستحق مهرا وندبها لغيرها.
هذه الآيات تتمة ما في السورة من أحكام الأزواج، وقد جاء الأمر بالمحافظة على الصلوات في أثناء هذه الأحكام ـ والصلاة عماد الدين ـ للعناية بها فمن حافظ على الصلوات كان جديرا بالوقوف عند حدود الله تعالى والعمل بشريعته ولذلك قال :﴿ استعينوا بالصبر والصلاة ﴾ ( البقرة : ١٥٣ ) وقد بينا وجه ذلك/ وقد خطر لي وجه آخر هو الذي يطرد في أسلوب القرآن الخاص في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض من عقائد وحكم ومواعظ وأحكام تعبدية ومدنية وغيرها، وهو نفي السآمة على القارئ والسامع من طول النوع الواحد منها، وتجديد نشاطها واعتبارهما في الصلاة وغيرهما.
ثم ختم الله تعالى هذه الأحكام بقوله ﴿ كذالك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ﴾ أي مضت سنته تعالى بأن يبين لكم آياته في أحكام دينه مثل هذا النحو من البيان، وهو أن يذكر الحكم وفائدته ويقرنه بذكر الله والموعظة الحسنة التي تعين على العمل به، ليعدكم بذلك لكمال العقل فتتحروا الاستفادة من كل عمل فعليكم أن تعقلوا ما تخاطبون به لتكونوا على بصيرة من دينكم، عارفين بانطباق أحكامه على مصالحكم بما فيها من تزكية نفوسكم والتأليف بين قلوبكم، فتكونوا حقيقين بإقامتها والمحافظة عليها.
قال الأستاذ الإمام ليس معنى العقل أن يجعل المعنى في حاشية من حواشي الدماغ، غير مستقر في الذهن ولا مؤثر في النفس، بل معناه أن يتدبر الشيء. ويتأمله حتى تذعن نفسه لما أودع فيه إذعانا يكون له تأثير في العمل، فمن لم يعقل الكلام بهذا المعنى فهو ميت وإن كان يزعم أنه حي ميت من عالم العقلاء، حي بالحياة الحيوانية وقد فهمنا هذه الأحكام ولكن ما عقلناها، ولو عقلناها لما أهملناها.
وأقول : أين هذه الطريقة المثلى في بيان الأحكام من طريق الكتب المعروفة عندنا بكتب الفقه، وهي غفل في الغالب من بيان فائدة الأحكام وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان ومزجها بالوعظ والتذكير ؟ وأين أهل التقليد من هدى القرآن ؟ هو يذكر لنا الأحكام بأسلوب يعدنا للعقل، ويجعلنا من أهل البصيرة، وينهانا عن التقليد الأعمى، وهم يأمروننا بأن نخر على كلامهم وكلام أمثالهم صما وعميانا، ومن حاول منا الاهتداء بالكتاب العزيز وما بينه من السنة المتبعة أقاموا عليه النكير، ولعله لا يسلم من التبديع والتكفير، يزعمون أنهم بهذا يحافظون على الدين وما أضاع الدين إلا هذا، فإن بقينا على هذه التقاليد لا يبقى على هذا الدين أحد. فإننا نرى الناس يتسللون منه لواذا وإذا رجعنا إلى العقل الذي هدانا الله تعالى إليه في هذه الآية وأمثالها رجي لنا أن نحيي ديننا فيكون دين العقل هو مرجع الأمم أجمعين، وهذا ما وعدنا الله تعالى به ﴿ ولتعلمن نبأه بعد حين ﴾ ( ص : ٨٨ ).
لما ذكر تعالى من الأحكام ما ذكر في الآيات السابقة قفى عليه بذكر بعض أخبار الماضين لأجل العظة والاعتبار، بما تتضمنه الوقائع والآثار، كما هي سنة القرآن، في تنويع التذكير والبيان، بل الانتقال هنا إنما هو من الأحكام مسرودة مع بيان حكمتها، والتنبيه لفائدتها، إلى حكم سبقته حكمته، وتقدمت فائدته، في ضمن واقعة مضت زيادةً في البصيرة ومبالغةً في الحَمْل على الاعتبار، وهو حكم القتال في سبيل الله، ويتلوه حكم بذل المال في سبيله. الأحكام تتعلق بالأشخاص في أنفسهم وبيوتهم، وهذان الحكمان في أمر عام يتعلق بالأمم من حيث حفظ وجودها، ودوام استقلالها، بمدافعة المعتدين عنها، وبذل الروح والمال في حفظ مصالحها، وتوفير منافعها، ولذلك كان الأسلوب أشد تأثيرا، وأعظم تذكيرا لأن الإشارة في سياق التذكير بمنافع الشخص ومصالحه في نفسه وفيمن يتصل به، كافية للتذكر والعمل بما يوعظ به لموافقة ذلك لهواه، فلها من النفس عون لا يغيب ووازع لا يعصى، وأما المصالح العامة فإنه لا يفطن لها ولا يرغب فيها إلا الأقلون، فالعناية بالدعوة إليها، يجب أن تكون بمقدار بعد الجماهير عنها، فمن ثم جاءت هذه الآيات ببيان أجلى، وأسلوب أفعل وأقوى، كما ستعلم تفسيرها عن الأستاذ الإمام، لا عن القصاصين وأصحاب الأوهام.
رووا في قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت روايات من الإسرائيليات التي ولع بها المفسرين وكلفوا بتطبيق كتاب الله تعالى عليها، أشهرها أبعدها عن السياق وهي رواية السدي قال : كانت قرية وقع فيها الطاعون وهرب عامة أهلها والذين بقوا مات أكثرهم، وبقي قوم منهم في المرض والبلاء ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون رجع جميع الذين هربوا سالمين، فقال من بقي من المرضى : هؤلاء أحرص منا لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات، ولئن وقع الطاعون ثانيا لنخرجن كما خرجوا. فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا، فلما خرجوا من ذلك الوادي ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا : فهلكوا وبليت أجسامهم، فمر بهم نبي يقال له حزقيل فلما رآهم وقف عليهم وتفكر فيهم فأوحى الله تعالى إليه " أتريد أريك كيف أحييهم " فقال نعم فقيل له ناد : أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي : فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام. ثم أوحى الله تعالى إليه ناد : أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما ودما فصارت لحما ودما ثم ناد : إن الله يأمرك أن تقومي : فقامت، فلما صاروا أحياء قاموا وكانوا يقولون سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، ثم رجعوا إلى قريتهم بعد حياتهم وكانت أمارات أنهم ماتوا في وجوههم، ثم بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم.
أقول على هذه الرواية اقتصر ( الجلال ) مع علمه بأن السدي هذا هو محمد بن مروان الكوفي المفسر الكذاب كما قال ابن جرير وغيره ( وليس إسماعيل السدي التابعي الذي وثقه أحمد وضعفه ابن معين ) وذكر في عددهم أقوالا أقلها أربعة آلاف وأكثرهم سبعون ألفا، وأنهم عاشوا دهرا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن واستمرت في أسباطهم ! ! !
وهناك رواية أخرى وهي أن ملكا من ملوك بني إسرائيل استنفر عسكره للقتال فأبوا لأن الأرض التي دعوا إلى قتالها موبوءة فأماتهم الله ثمانية أيام حتى انتفخوا وعجز بنو إسرائيل عن دفنهم فأحياهم الله تعالى وبقي فيهم شيء من ذلك النتن. وفي العلماء من ينبه الناس لهذه الأكاذيب
والرواية الثالثة هي أن حزقيل النبي عليه السلام ندب قومه إلى القتال فكرهوا وجبنوا فأرسل الله عليهم الموت فكثر فيهم فخرجوا من ديارهم فرارا منه، فدعا عليهم نبيهم فأرسل الله الموت على الخارجين، ثم ضاق صدره فدعا الله فأحياهم، ولكن هذا لم يذكر في نبوة حزقيال من كتب العهد العتيق، ولا في غيرها.
إذا علمت هذا فألق السمع إلى ما نرويه لك عن الأستاذ الإمام، وتدبر ما فيه من حقائق علم الاجتماع في القرآن، لتعلم أن حقائق هداية كتاب الله يتجلى منها في كل عصر للعارفين بالله ما لم يتجلى لسواهم، وأنه الكتاب الذي لا تنتهي هدايته ولا تنفد معارفه، وأن هذه الأمة كالمطر قد يكون في آخره من الخير والبركة ما لم يكن في أوله كما روي في الحديث الصحيح١ ٢.
قال تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ﴾ الاستفهام هنا للتعجيب والعبرة، والخطاب لكل من بلغه، والرؤية بمعنى العلم، والعبارة استعملت استعمال المثل فهي توجه إلى من لم ير ولم يعلم ذلك، والتقدير : ألم ينته علمك أيها المخاطب إلى حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ﴿ وهم ألوف حذر الموت ﴾ فإن حالهم عجيبة من حقها ألا تجهل، فإنهم في كثرتهم أحق بأن يكونوا لهم من الشجاعة ما برأ بهم عن الخروج من وطنهم حذرا من الموت.
قال شيخنا الأستاذ الإمام في هذا المثل ما مثاله : وفي تفسير ابن كثير عن ابن جريح عن عطاء أن هذا مثل أي لا قصة واقعة.
أطلق القرآن القول في هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ولم يعين عددهم ولا أمتهم ولا بلدهم ولو علم لنا خيرا في التعيين والتفصيل لتفضل علينا بذلك في كتابه المبين، فنأخذ القرآن على ما هو عليه لا ندخل فيه شيئا من الروايات الإسرائيلية التي ذكروها، وهي صارفة عن العبرة لا مزيد كمال فيها، والمتبادر من السياق أن أولئك القوم قد خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم، فقد كانوا ألوفا أي كثيرين، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت، وما هو إلا سبب الموت بما يمكن الأعداء من رقاب أهله، قال أبو الطيب :
يرى الجبناء أن الجبن حزم | وتلك خديعة الطبع اللئيم٣ |
أقول : ولا يشترط أن تكون القصة في مثل هذا التعبير واقعة بل يصح مثله في القصص التمثيلية، إذ يراد أن من شأن مثلها في وضوحه أن يكون معلوما حتى كأنه مرئي بالعينين. ومنه ما نبهنا عليه من الفرق بين العطف بالفاء وبثم، وقد قالوا إن العطف في قوله تعالى ( وقاتلوا ) للاستئناف، لأن الجملة المبدوءة بالواو هنا جديدة لا تشارك ما قبلها في إعرابه ولا في حكمه الذي يعطيه العطف.
قال الأستاذ الإمام : وهذا لا يمنع أن يكون بين الجملة المبدوءة بواو الاستئناف وبين ما قبلها تناسب وارتباط في المعنى غير ارتباط العطف والمشاركة في الإعراب، كما هو الشأن هنا، فإن الآية بالأولى مبينة لفائدة القتال في الدفاع عن الحق أو الحقيقة، والثانية آمرة به بعد تقرير حكمته وبيان وجه الحاجة إليه، فالارتباط بينهما شديد الأواخي، لا يعتريه التراخي.
خرجوا فارين ﴿ فقال لهم الله موتوا ﴾ أي أماتهم بإمكان العدو منهم، فالأمر أمر التكوين لا أمر التشريع أي قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أتوه من سبب الموت، وهو تمكين العدو المحارب من أقفائهم بالفرار، ففتك بهم وقتل أكثرهم. ولم يصرح بأنهم ماتوا لأن أمر التكوين عبارة عن مشيئته سبحانه فلا يمكن تخلفه وللاستغناء عن التصريح بقوله بعد ذلك ﴿ ثم أحياهم ﴾ وإنما يكون الإحياء بعد الموت. والكلام في القوم لا في أفراد لهم خصوصية، لأن المراد بيان سنته تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدافع العادين عليها، ومعنى حياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف. فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أمتهم، حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها. فكان من بقي من أفرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم، مدغمين في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم، وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم. ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم. ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديبا لهم، ومطهرا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة.
أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، حتى عادت لهم وحدتهم قوية فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال، فهذا معنى حياة الأمم وموتها يموت قوم منهم باحتمال الظلم، ويذل الآخرون حتى كأنهم أموات، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحية، من حفظ سياج الوحدة، وحماية البيضة، بتكافل أفراد الأمة ومنعتهم، فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت، ويتعلمون من فعل عدوهم بهم كيف يدفعونه عنهم.
قال علي كرم الله وجهه إن بقية السيف هي الباقية، أي التي يحيا بها أولئك الميتون. فالموت والإحياء واقعان على القوم في مجموعهم، على ما عهدنا في أسلوب القرآن إذ خاطب بني إسرائيل في زمن تنزيله بما كان من آبائهم الأولين، بمثل قول ﴿ أنجيناكم من آل فرعون ﴾ ( البقرة : ٤٩ ) وقوله ﴿ ثم بعثناكم من بعد موتكم ﴾ ( البقرة : ٥٦ ) وغير ذلك، وقلنا إن الحكمة في هذا الخطاب تقرير معنى وحدة الأمم وتكافلها، وتأثير سيرة بعضهم في بعض حتى كأنها شخص واحد، وكل جماعة منها كعضو منه، فإن انقطع العضو العامل لم يكن ذلك مانعا من مخاطبة الشخص بما عمله قبل قطعه، وهذا الاستعمال معهود في سائر الكلام العربي يقال : هجمنا على بني فلان حتى أفنيناهم أو أتينا عليهم، ثم أجمعوا أمرهم وكروا علينا ( مثلا ) وإنما كر عليهم من بقي منهم.
( أقول ) : وإطلاق الحياة على الحالة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم والموت على مقابلها معهود كقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾ ( الأنفال : ٢٤ ) وقوله :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ﴾ ( الأنعام : ١٢٢ ) الآية. وانظر إلى دقة التعبير في عطف الأمر بالموت على الخروج من الديار بالفاء الدالة على اتصال الهلاك بالفرار من العدو، وإلى عطفه الأخبار بإحيائهم بثم الدالة على تراخي ذلك وتأخيره، ولأن الأمة إذا شعرت بعلة البلاء بعد وقوعه بها وذهابه باستقلالها فإنه لا يتيسر لها تدارك ما فات إلا في زمن طويل، فما قرره الأستاذ الإمام هو ما يعطيه النظم البليغ وتؤيده السنن الحكيمة، وأما الموت الطبيعي فهو لا يتكرر كما علم من سنة الله ومن كتابه إذ قال ﴿ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ﴾ ( الدخان : ٥٦ ) وقال :﴿ وأحييتنا اثنين ﴾ ( النساء : ١١ ) ولذلك أول بعضهم الموت هنا بأنه نوع من السكتة والإغماء الشديد لم تفارق به الأرواح أبدانها.
وقد
٢ هكذا ذكرت الحديث بالمعنى وأطلقت القول بصحته في الطبعة الأولى بدون تخريج اعتمادا على حفظي المبهم وكأني لم أجد يومئذ وقتا لمراجعته وقد رواه الترمذي من حديث أنس بلفظ "مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره" وقال الحافظ في فتح الباري وهو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة. قال وصححه ابن حبان من حديث عمار. (المؤلف)..
٣ البيت من الوافر وهو في ديوان المتنبي ١/٢٧٤، ويروى صدر البيت في الديوان: يرى الجبناء أن العجز عقل..
ذكرنا الله تعالى بعد هذا الأمر بأنه سميع عليم لينبهنا على مراقبته فيما عسى أن نعتذر به عن أنفسنا في تقصيرها عن امتثال هذا الأمر في وقته، وأخذ الأهبة له قبل الاضطرار إليه، أمرنا أن نعلم أنه سميع لأقوال الجبناء في اعتذارهم عن أنفسهم : ماذا نعمل ؟ ما في اليد حيلة، ليس لها من دون الله كاشفة، ليس لنا من الأمر شيء. لو كان لنا من الأمر شيء ما قعدنا ههنا. فهذه الألفاظ في هذا المقام منفاخ الجبن، وعلل الخوف والحزن، فهي عند أهلها تعلات وأعذار، وعند الله تعالى ذنوب وأوزار، وما كان منها حقا في نفسه فهو من الحق الذي أريد به الباطل وأن نعلم أنه عليهم بما يأتيه مرضى القلوب وضعفاء الإيمان من الحيل والمراوغة، والفرار من الاستعداد والمدافعة، فإذا علمنا هذا وحاسبنا به أنفسنا، عرفنا أن كلا من المتعذر بلسانه، والمتعلل بفعاله، مخادع لربه ولنفسه وقومه.
وقال الأستاذ الإمام بعد نحو ما تقدم : وكثير من الناس يهزأ بنفسه وهو لا يدري إذ يصدق ما يعتاده من التوهم ! وهذه شنشنة المخذولين الذين ضربت عليهم الذلة وخيم عليهم الشقاء، تعمل فيهم هذه الوساوس ما لا تعمل الحقائق. وقد أنذرنا الله تعالى أن نكون مثلهم بتذكيرنا بأنه سميع عليم، لا يخادع ولا يخفى عليه شيء. ونقول إن هذا التذكير كان بالأمر بالعلم لا بمجرد القول أو التسليم، فمن علم علما صحيحا أن الله سميع لما يقول عليم بما يفعل، حاسب نفسه وناقشها، ومن حاسب نفسه وناقشها تجلى له كل آن من تقصيرها ما يحمله على التشمير لتدارك ما فات، والاستعداد لما هو آت، فمن تراه مشمرا فاعلم بأنه عالم، ومن تراه مقصرا فاعلم بأنه مغرور آثم.
القتال للدفاع عن الحق أو لحماية لحقيقة يتوقف على بذل المال لتجهيز المقاتلة ولغير ذلك، لا فصل في الحاجة إلى هذا بين البدو والحضر. فإذا كانت مقاتلة القبائل البدوية لا تكلف رئيسها أن يتولى تجهيزها بل يجهز كل واحد نفسه، فكل واحد مطالب ببذل المال لتجهيز نفسه وإعانة من يعجز عن ذلك من فقراء قومه، وأما دول الحضارة فهي تحتاج في الاستعداد للمدافعة والمهاجمة ما لا يحتاج إليه أهل البادية، وقد كثرت نفقات الدول الحربية اليوم بارتقاء الفنون العسكرية، وتوقف الحرب على علوم وفنون وصناعات كثيرة من قصر فيها كان عرضة لسقوط دولته.
لهذا قرن الله تعالى الأمر بالقتال، بالحث على بذل المال، فالمراد بالبذل هنا ما يعين على القتال، وما هو بمعناه من كل ما يعلي شأن الدين، ويصون الأمة ويمنعها من عدوان العادين، ويرفع مكانتها في العالمين.
وقد ذكر حكم هذا الإنفاق في سبيل الله بعبارة تستفز النفوس وأسلوب يحفز الهمم، ويبسط الأكف بالكرم، فقال ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ﴾ فهذه العبارة أبلغ من الأمر المجرد، ومن الأمر المقرون ببيان الحكمة، والتنبيه إلى الفائدة، والوجه في اختيار هذا الأسلوب هنا على ما قرره الأستاذ الإمام أن الداعية إلى البذل في المصالح العامة ضعيفة في نفوس الأكثرين، والرغبة فيه قليلة، إذ ليس فيه من اللذة والأريحية ما في البذل للأفراد، فاحتيج فيه للمبالغة في التأثير.
يدفع الغنيَّ إلى بذل شيء من فضل ماله لأفراد ممن يعيش معهم أمورٌ كثيرةٌ، منها : إزالة ألم النفس برؤية المعوزين والبائسين، ومنها اتقاء حسد الفقراء واكتفاء شر شرارهم والأمن من اعتدائهم، ومنها التلذذ برؤية يده العليا، وبما يتوقعه من ارتفاع المكانة في النفوس، وتعظيم من يبذل لهم وشكرهم وحبهم، فإن السخي محبب إلى جميع الناس من ينتفع منهم بسخائه ومن لا ينتفع، وإذا كان البذل إلى ذوي القربى أو الجيران فحظ النفس فيه أجلى، وشفاء ألم النفس به أقوى، فإن ألم جارك وقريبك ألم لك، ويتعذر على الإنسان أن يكون ناعما بين أهل البؤس والضراء، سعيدا بين الأشقياء، فكل هذه حظوظ للنفس في البذل للأفراد تسهل عليها امتثال أمر الله فيه وإن لم يكن مؤكدا. وقد يكون فيها من الرياء وحب السمعة ما ينافي كونها قربة وتعبدا.
وأما البذل الذي يراد هنا وهو البذل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته، وحفظ حقوق أهله فليس فيه شيء من تلك الحظوظ التي تسهل على النفس مفارقة محبوبها ( المال ) إلا إذا كان تبرعا جهريا يتولى جمعه بعض الحكام والأمراء أو يجمع بأمر الملوك والسلاطين، ولذلك يقل في الناس من يبذل المال في المصالح العامة لوجه الله تعالى، فلهذا كان المقام يقتضي مزيد التأكيد، والمبالغة في الترغيب. وليس في الكلام ما يدرك شأو هذه الآية في تأثيرها ولاسيما موقعها هذا بعد بيان سنة الله تعالى في موت الأمم وحياتها.
حسبك أنه تعالى جعل هذا البذل بمثابة الإقراض له وهو الغني عن العالمين الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وإنما يقترض المحتاج، وأنه عبر عن طلبه بهذا الضرب من الاستفهام، المستعمل للإكبار والاستعظام، فإنه إنما يقال «من ذا الذي يفعل كذا ؟ » في الأمر الذي يندر أن يقدم عليه أحد. يقال من ذا الذي يتطاول إلى الملك فلان ؟ أو من ذا الذي يعمل هذا العمل وله كذا ؟ إذا كان عظيما أو شاقا يقل من يتصدى له. قال تعالى ﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ ( البقرة : ٢٥٥ ) وقال ﴿ قل من ذا الذي يعصمكم من الله ﴾ ( البقرة : ١٧ ) الآية.
ولا يقال من ذا الذي يشرب هذه الكأس المثلوجة، وهجير الصيف متقد، والسموم تلفح الوجوه ؟ وإنه لم يكتف بتسميته إقراضا وبالتعبير عنه بهذا الاستفهام حتى قال ﴿ فيضاعفه له أضعافا كثيرة ﴾. ذلك أن الإقراض هو أن تعطي إنسانا شيئا من المال على أن يرد إليك مثله، فالتعبير بالإقراض يقتضي أن القرض لا يضيع، وليس هذا بكاف في الترغيب الذي تقتضيه الحال هنا، فصرح بأنه لا يرد مثله، بل أضعاف أضعافه من غير تحديد، وقد قال في مقام آخر ﴿ وما أنفقتم من شيء هو يخلفه ﴾ ( سبأ : ٣٩ ) وهو كاف هناك لما علمت من الفصل بين المقامين، والتفاوت بين الناس في الحالين، وإنك لتجد الناس على هذا التأكيد في الترغيب قلما يجودون بأموالهم في المصالح العامة ﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ ( سبأ : ١٣ ).
قال الأستاذ الإمام : معلوم أن الله تعالى غني عن العالمين فلا يحتاج إلى شيء لذاته، ولا هو عائل لجماعة معينين فيقترض له، فلا بد لهذا التعبير بالإقراض من وجه صحيح أي غير ما يعطيه الأسلوب من الترغيب فما هذا الوجه ؟ ورد في الحديث أن الفقراء عيال الله على الأغنياء١، لأن الحاجات التي تعرض لهم يقضيها الأغنياء. ومعنى كونهم عيال الله أن ما أصابهم من الفاقة والعوز إنما كان بالجري على سنن الله في أسباب الفقر، وللفقر أسباب كثيرة منها الضعف والعجز عن الكسب ومنها إخفاق السعي، ومنها البطالة والكسل، ومنها الجهل بالطرق الموصلة، ومنها ما تسوقه الأقدار من نحو حركات الرياح واضطراب البحار واحتباس الأمطار، وكساد التجارة ورخص الأسعار. والأغنياء متمكنون من إزالة بعض هذه الأسباب أو تدارك ضررها وإضعاف أثرها، كإزالة البطالة بإحداث أعمال ومصالح للفقراء، وإزالة الجهل بالإنفاق على التعليم والتربية تعليم طرق الكسب والتربية على العمل والاستقامة والصدق. وإذا كان فقر الفقير إنما هو بالجري على سنة من سنن الله فإزالة سبب فقره أو مساعدته عليه أو فيه إنما يجري على سنة من سننه تعالى أيضا كما أن غنى الغني كذلك. فالإنفاق لإحياء سنة الله ومساعدة من ينتسبون إلى الله تعالى على أنهم عياله ؛ إذ لا غنى لهم بكسبهم ولا حول لهم ولا قوة، ينزل منزلة الإقراض له تعالى، فالفقراء عيال والله يعولهم بأيدي الأغنياء، ويعول الأغنياء بتوفيقهم لأسباب الغنى.
( أقول ) : هكذا وجه العبارة رحمه الله تعالى بعد أن قال : إن البحث على الإنفاق في هذه الآية يراد به الإنفاق في المصلحة العامة لا مواساة الفقير، فكأنه أراد أن يبين صحة التعبير في نفسه حيثما ورد وإن استعمل في مقام آخر كقوله تعالى في سورة التغابن ﴿ إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم ﴾ ( التغابن : ١٧ ) ودخل فيما ذكره بعض المصالح العامة وهو ينطبق على سائرها، فإن القتال لحماية الدين وتأمين دعوته وللدفاع عن الأنفس والبلاد هو من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، فالإنفاق فيه يصح أن يسمى إقراضا لله تعالى باعتبار إقامة سنته به على وجه الحق الذي يرضيه جل شأنه. وقد كنت أزيد مثل هذا البحث فيما أكتبه وأسنده إليه في حياته اعتمادا على إجازته مع كونه مما يقتضيه قوله.
ثم قال روح الله روحه ما مثاله : والتعبير عن الإنفاق بالإقراض الذي يشعر بحاجة المستقرض إلى المقرض عادة جدير بأن يملك قلب المؤمن ويحيط بشعوره ويستغرق وجدانه حتى يسهل عليه الخروج من كل ما يملك ابتغاء مرضاة الله وحياء منه، فكيف وقد وعد برده مضاعفا أضعافا كثيرة ووعد الحق ؟ هذا التعبير بمثابة الهز والزلزال لقلوب المؤمنين، فقلب لا يلين له ويدفع به إلى البذل قلب لم يمسه الإيمان ولم تصبه نفحة من نفحات الرحمن. قلب خاو من الخير. فائض بالخبث والشر. أي لطف من عظيم يداني هذا اللطف من الله تعالى بعباده ؟ جبار السموات والأرض رب كل شيء ومليكه الغني عن العالمين الفعال لما يريد، المقلب لقلوب العبيد، يرشد عباده الذين أنعم عليهم بفضل من المال واختصهم بشيء من النعمة، إلى مواساة إخوانهم بما فيه سعادة لهم أنفسهم ولمن يعيش معهم، ويهديهم إلى بذل شيء من فضول أموالهم في المصالح العامة التي فيها صلاح حالهم، وحفظ شرفهم واستقلالهم، فيبرز هذا الهدي والإرشاد في صورة الاستفهام، دون صيغة الأمر والإلزام، ويسمي نفسه مقترضا ليشعر قلب الغني بمعنى الحاجة التي ربما تصيبه يوما من الأيام، ثم هو يعده، بمضاعفة ذلك العطاء أيكون هذا اللطف كله منه بعبده الذي غمره بنعمته، وفضله على كثير من خلقه، ثم يجمد قلب هذا العبد وتنقبض يده لا يستحي من ربه، ولا يثق بوعده، ويقال مع هذا إنه مؤمن به، وبأن ما أصابه من الخير فهو من عنده ؟ كلا. مثل في نفسك ملكا من ملوك الدنيا يريد أن يجمع إعانة للفقراء أو لمصلحة من مصالح الدولة، وقد خاطبك بمثل هذا الخطاب، في التلطف والاستعطاف، ومثل في خيالك موقع قوله من قلبك، وأثر كلامه في يديك.
أما كون القرض حسنا فالمراد به ما حل محله ووافق المصلحة، لا ما وضع موضع الفخفخة وقصد به الرياء والسمعة، نعم إن ما أنفق في المصالح العامة حسن وإن أريد به الشهرة، ولكنه لا يكون دالا على إيمان المنفق وثقته بربه، وابتغائه مرضاته. ولا على حبه الخير لذاته، لارتقاء نفسه، وعلو همته، بما استفاد من فضائل الدين وحسن التهذيب، فلا يكون له حظ من نفقته يقربه إلى ربه زلفى بل يكون كل جزائه تلك السمعة الحسنة ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ٢. ومن الناس من ينفق في المصالح بنية حسنة ولكن بغير بصيرة تريه مواطن النفقة بنفقته، فيبني مسجدا حيث تكثر المساجد فيكون سببا في زيادة تفرق الجماعة وذلك لحكمة الشرع، أو يبني مدرسة ولا يحسن اختيار المعلمين لها، أو يفرض لها من النفقة ما لا يكفي لدوامها، فيسرع إليها الخراب، أو يضع فيها معلمين فاسدي الاعتقاد أو الآداب، فيفسدون ولا يصلحون، فمثل هذا كله لا يقال له قرض حسن، وإنما يكون الإنفاق قرضا حسنا مستحقا للمضاعفة الكثيرة، إذا وضع موضعه مع البصيرة وحسن النية، ليكون على الوجه المشروع من إقامة الدين وحفظ مصالح المسلمين. أو منفعة جميع الأنام، من الطريق الذي أشرعه الإسلام.
وأما هذه المضاعفة إلى أضعاف كثيرة وسيأتي في آية أخرى بلوغها سبعمائة ضعف والمراد الكثرة فهي تكون في الدنيا والآخرة. ذلك بأن المراد بأن المنفق لإعلاء كلمة الله ولتعزيز الأمة وللمدافعة عن الحق والحقيقة، يكون مدافعا عن نفسه ومعززا لها وحافظا لحقوقها، لأن اعتداء المعتدين على الأمة إنما يكون بالاعتداء على أفرادها، فضعف الأمة وإذلالها وضياع حقوقها لا يتحقق إلا بما يقع على أفرادها وهو منهم، والبلاء يكون عاما ﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ ( الأنفال : ٢٥ ) ثم إن الأمة التي يبذل أغنياؤها المال، وتقوم بفريضة التعاون على الأعمال، فيكفل غنيها فقيرها، ويحمي قويها ضعيفها، تتسع دائرة مصالحها ومنافعها، وتكثر مرافقها وتتوفر سعادتها، وتدوم على أفرادها النعمة، ما استقاموا على البذل والتعاون في المصالح العامة، ثم إنهم يكونون بذلك مستحقين لسعادة الآخرة ومضاعفة الثواب فيها.
( وأقول ) : لو سرنا في الأرض وسبرنا أحوال الأمم الحاضرة، وعرفنا تاريخ الأمم الغابرة، لرأينا كيف ماتت الأمم التي قصرت في هذه الفريضة أو استعبدت، وكيف عزت الأمم التي شمرت فيها وسعدت، وهذه المضاعفة الدنيوية، تكون لكل أمة أقامت هذه السنة الإلهية في حفظ بيضتها، وإعزاز سلطانها، سواء أكان المنفقون فيها يبتغون الأجر عند الله تعالى أم لا، وإن
٢ لفظ الحديث: (إن كانت هجرته إلى دنيا أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) أخرجي البخاري في بدء الوحي باب ١، والإيمان باب ٤١، ومناقب الأنصار باب ٤٥، والنكاح باب ٥، والإيمان باب ٢٣، والحيل باب ١، ومسلم في الإمارة حديث ١٥٥، وأبو داود في الطلاق باب ١١، الترمذي في فضائل الجهاد باب ١٦، والنسائي في الطهارة باب ٥٩، والطلاق باب ٢٤، والإيمان باب ١٩، وابن ماجه في الزهد باب ٢٦، وأحمد في المسند ١/٢٥، ٤٣..
تمهيد في نسبة قصص القرآن إلى التاريخ والفرق بينهما وبيان حال الأمم قبل القرآن وبعده
بدأ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى تفسير هذه الآيات بمقدمة في قصص القرآن جعلها كالتمهيد لتفسيرها فقال ما مثاله مع إيضاح : تقدم في تفسير ﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ﴾ أن القرآن لم يعين أولئك القوم ولا الزمان ولا المكان اللذين كانوا فيهما ( يعني على القول بأنها قصة واقعة لا ضرب مثل كما قال عطاء ). ثم ذكر ههنا قصة أخرى عن بني إسرائيل فعين القوم وذكر أنه كان لهم نبي ولم يذكر اسمه ولا الزمان ولا المكان اللذين حدثت فيهما القصة. ولكنه ذكر بعد ذلك اسم طالوت وجالوت وداود.
يظن كثير من الناس الآن ـ كما ظن كثير ممن قبلهم ـ أن القصص التي جاءت في القرآن يجب أن تتفق مع ما جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق أو كتب التاريخ القديمة، وليس القرآن تاريخا ولا قصصا، وإنما هو هداية وموعظة، فلا يذكر قصة لبيان تاريخ حدوثها، ولا لأجل التفكه بها أو الإحاطة بتفصيلها، وإنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة كما قال ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ ( يوسف : ١١١ ) وبيان سنن الاجتماع كما قال ﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف عاقبة المكذبين ﴾ ( غافر : ٨٥ ) وقال ﴿ سنة الله التي قد خلت في عباده ﴾ ( غافر : ٨٥ ) وغير ذلك من الآيات.
والحوادث المتقدمة منها ما هو معروف. والله تعالى يذكر من هذا وذاك ما شاء أن يذكر لأجل العبرة والموعظة، فيكتفي من قصة بموضع العبرة ومحل الفائدة، ولا يأتي بها مفصلة بجزئياتها التي لا تزيد في العبرة بل ربما تشغل عنها. فلا غرو أن يكون في هذه القصص التي يعظنا الله بها ويعلمنا سننه ما لا يعرفه الناس، لأنه لم يرو ولم يدون بالكتاب. وقد اهتدى بعض المؤرخين الراقين في هذه الأزمنة إلى الاقتداء بهذا، فصار أهل المنزلة العالية منهم يذكرون من وقائع التاريخ ما يستنبطون منه الأحكام الاجتماعية وهو الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات لما يقع فيها من الخلاف الذي يذهب بالثقة، ولما في قراءتها من الإسراف في الزمن والإضاعة للعمر بغير فائدة توازيه، وبهذه الطريقة يمكن إيداع ما عرف من تاريخ العالم في مجلد واحد يوثق به ويستفاد منه، فلا يكون عرضة للتكذيب والطعن، كما هو الشأن في المصنفات التي تستقصي الوقائع الجزئية مفصلة تفصيلا.
إن محاولة جعل قصص القرآن ككتب التاريخ بإدخال ما يروون فيها على أنه بيان لها هي مخالفة لسنته، وصرف للقلوب عن موعظته، وإضاعة لمقصده وحكمته. فالواجب أن نفهم ما فيه، ونعمل أفكارنا في استخراج العبر منه. ونزع نفوسنا عما ذمه وقبحه، ونحملها على التحلي بما استحسنه ومدحه، وإذا ورد في كتب أهل الملل أو المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص فعلينا أن نجزم بأن ما أوحاه الله إلى نبيه ونقل إلينا بالتواتر الصحيح هو الحق وخبره هو الصادق، وما خالفه هو الباطل، وناقله مخطئ أو كاذب، فلا نعده شبهة على القرآن، ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه، فإن حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الاعلام، حالكة الظلام، فلا رواية يوثق بها، للمعرفة التامة بسيرة رجال سندها، ولا تواتر يعتد به بالأولى، وإنما انتقل العالم بعد نزول القرآن من حال إلى حال، فكان بداية تاريخ جديد للبشر كان يجب عليهم ـ لو أنصفوا ـ أن يؤرخوا به أجمعين اهـ.
أقول إن الذي يسبق إلى الذهن من هذا القول هو أن ما كان من شؤون الأمم وسير العالم بعد الإسلام لم ينطمس ولم تذهب الثقة به، ولم ينقطع سند روايته كما كان قبله. وبيان ذلك بالإجمال أن القرآن قد جاء البشر بهداية جديدة كاملة كانوا قد استعدوا للاهتداء بها بالتدريج الذي هو سنة الله تعالى فيهم، فكان من عمل المسلمين في حفظ العلم والتاريخ العناية التامة بالرواية ما يقبل منها وما لا يقبل، ولذلك ألفوا الكتب في تاريخ الرواة لتعرف سيرتهم، وتبين الصادق والكاذب منهم، وتعرف الرواية المتصلة والمنقطعة، وبحثوا في الكتب المؤلفة متى يوثق بنسبتها إلى مؤلفيها، وبينوا حقيقة التواتر الذي يفيد اليقين، والفرق بينه وبين ما يشتهر من روايات الآحاد، فهذه العناية لم ينقطع سند لنوع من أنواع العلم التي وجدت في المسلمين، على أن العناية بعلوم الدين أصولها وفروعها كانت أتم، ثم كان شأن من قفى على آثارهم في العلوم والمعارف بعد ضعف حضارتهم على نحو من شأنهم في التصنيف، وإن كان دونهم في ضبط الرواية ونقدها والأمانة فيها، فلم يضع شيء من العلوم والفنون ولا من الحوادث والوقائع التي جرت في العالم بعد الإسلام، وما اختلف الرواة والمصنفون في جزئياته من تاريخ الإسلام وغيره يسهل تصفيته في جملته، وأخذ المصفى منه لأجل الاعتبار به، وعرفان سنن الاجتماع منه، جريا على هدي القرآن فيه.
لقد وصل الراقون في مدارج العمران اليوم إلى درجة يسهل فيها من ضبط جزئيات الوقائع ما لم يكن يسهل على من قبلهم، كاستخدام الكهرباء في نقل الأخبار لمن يدونها في الصحف وتصوير الوقائع والمعاهد بما يسمونه التصوير الشمسي ( فوتوغرافيا ) وسهولة الانتقال على الكاتبين من مكان إلى مكان، وتأمين الحكام لهم من المخاوف وغير ذلك. وقد اجتمع من هذه الوسائل في الحرب التي كانت في هذين العامين بين دولتي اليابان وروسيا ما لم يجتمع لمدوني التاريخ في غيرها من الحروب ولا غير الحروب من حوادث الزمان، وقد كان لأشهر الجرائد الغربية مكاتبون في مواقع الحرب يتبارون في السبق إلى الوقوف على جزيئات الحوادث وإيصالها إلى جرائدهم، كما تفعل شركات البرقيات ( التلغرافات ) في أنباء المشتركين فيها بذلك، وكنا نرى في رسائل الفريقين من الخلاف والتناقض ما يتعذر معه العلم بالحقيقة ؛ وكم من رسالة للشركات البرقية ولمكاتبي الجرائد كانت من المسائل المتفق عليها فتبين بعد ذلك كذبها١ فهذه آية بينة على أنه لا سبيل إلى الثقة بجزئيات الوقائع التي تحدث في عصرنا ويعنى المؤرخون أشد العناية بضبطها، إلا ما يبلغ رواته المتفقون عليه مبلغ التواتر الصحيح وقليل ما هو، فما بالك بما كان في الأمم الخالية ؟
وجملة القول إن طريقة القرآن في قصص الذين خلوا هي منتهى الحكمة. وما كان لمحمد الأمي الناشئ في تلك الجاهلية الأمية أن يرتقي إليها بفكره، وقد جهلها الحكماء في عصرنا وقبل عصره، ولكنها هداية الله تعالى لعباده أوحاها إلى صفوته منهم صلى الله عليه وسلم :﴿ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ ( الأعراف : ٤٣ ). فعلينا وقد ظهرت الآية ووضحت السبيل أن نلتفت إلى روايات الغابرين في تلك القصص ولا نعد مخالفتها للقرآن شبهة نبالي بكشفها كما قال الأستاذ الإمام روح الله روحه في مقام الرضوان.
فإن قيل : إن قصص العهدين العتيق والجديد التي يسمى مجموعها ( الكتاب المقدس ) هي وحي من الله شهد لها القرآن وهي تعارض بعض قصصه ( قلنا ) أولا إن تلك الكتب ليس لها أسانيد متصلة متواترة، وثانيا : إن القرآن إنما أثبت أن الله تعالى أعطى موسى عليه السلام التوراة وهي الشريعة وأن أتباعه قد حفظوا منها نصيبا ونسوا نصيبا، وأنهم حرفوا النصيب الذي أوتوه، وأنه أعطى عيسى عليه السلام الإنجيل وهو مواعظ وبشارة وقال في أتباعه مثل ما قال في اليهود ( فنسوا حظا مما ذكروا ). ويجد القارئ تفصيل هذه الحقائق في تفسير سورة آل عمران والمائدة والأعراف بالنقول من تاريخ الفريقين.
بعد هذا نقول إن وجه الاتصال بين آيات هذه القصة وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها نزلت في شرع القتال لحماية الحقيقة وإعلاء شأن الحق، وبذل المال في هذه السبيل سبيل الله لعزة الأمم ومنعتها وحياتها الطيبة، التي يقع من ينحرف عنها من الأقوام في الهلاك والموت، كما علم من قصة الذين خرجوا من ديارهم فارين من عدوهم على كثرتهم. وهذه القصة ـ قصة قوم من بني إسرائيل ـ تؤيد ما قبلها من حاجة الأمم إلى دفع الهلاك عنها، فهي تمثل لنا حال قوم لهم نبي يرجعون إليه، وعندهم شريعة تهديهم إذا استهدوا، وقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن، فعلموا أن القتل ضرورة لا بد من ارتكابها ما دام العدوان في البشر، وبعد هذا كله جبنوا وضعفوا عن القتال، فاستحقوا الخزي والنكال.
فهذه القصة المفصلة، فيها بيان لما في تلك المجملة : فر أولئك من ديارهم فماتوا بذهاب استقلالهم، واستيلاء العدو على ديارهم. فالآية هناك صريحة في أن موتهم هذا مسبب عن خروجهم فارين بجبنهم، ولم تصرح بسبب إحيائهم الذي تراخت مدته، ولكن ما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال الذي يضاعفه الله تعالى أضعافا كثيرة، قد هدانا إلى سنته في حياة الأمم، وجاءت هذه القصة الإسرائيلية تمثل العبرة فيه، وتفصل كيفية احتياج الناس إليه، إذ بينت أن هؤلاء الناس احتاجوا إلى مدافعة العادين عليهم، واسترجاع ديارهم وأبنائهم من أيديهم، واشتد بالحاجة حتى طلبوا من نبيهم الزعيم الذي يقودهم في ميدان الجلاد، وقاموا بما قاموا به من الاستعداد. ولكن الضعف كان بلغ من نفوسهم مبلغا لم تنفع معه تلك العدة، فتولوا وأعرضوا للأسباب التي أشير إليها، وألهم القليل منهم رشدهم واعتبروا فانتصروا.
قال تعالى :﴿ ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى ﴾ تقدم الكلام على هذا الضرب من الاستفهام في تفسير القصة السابقة لهذه والملأ القوم يجتمعون للتشاور، لا واحد له، قاله البيضاوي وغيره. وقال غيرهم : الملأ الأشراف من الناس وهو اسم للجماعة كالقوم والرهط والجيش، وجمعه أملاء، سموا ملأ لأنهم يملؤون العيون رواء والقلوب هيبة :﴿ إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ﴾ وهذا النبي لم يسمه القرآن، وقال الجلال هو شمويل وهذا أقوى أقوال المفسرين وهو معرب صمويل أو صموئيل، وقيل إنه يوشع، وهذا من الجهل بالتاريخ فإن يوشع هو فتى موسى، والقصة حدثت في زمن داود والزمن بينهما بعيد، وبعث الملك عبارة عن إقامته وتوليته عليهم.
﴿ قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ﴾ قرأ نافع وحده ( عسيتم ) بكسر السين وهي لغة غير مشهورة، والباقون بفتحها وهي اللغة المشهورة. والمعنى هل قاربتم أن تحجموا عن القتال إن هو كتب عليكم ؟ فعسى للمقاربة أو للتوقع :﴿ قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ﴾ أي، أي داع لنا يدعونا إلى أن لا نقاتل وقد وجد سبب القتال، وهو إخراجنا من ديارنا بإجلاء العدو إيانا عنها، وأفردنا عن أولادنا بسبيه إياهم واستعباده لهم. ﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ﴾ ذلك أن الأمم إذا قهرها العدو ونكل بها يفسد بأسها، ويغلب عليها الجبن والمهانة. فإذا أراد الله تعالى إحياءها بعد موتها ينفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها وهم الأقلون، فيعملون ما لا يعمل الأكثرون، كما علمت من تفسير قوله تعالى :﴿ ثم أحياهم ﴾ وما هو منك ببعيد، ولم يكن هؤلاء القوم قد استعد منهم للحياة إلا القليل.
قال الأستاذ الإمام : وفي الآية من الفوائد الاجتماعية أن الأمم التي تفسد أخلاقها وتضعف قد تفكر في المدافعة عند الحاجة إليها وتعزم على القيام بها إذا توفرت شرائطها التي يتخيلونها على حد قول الشاعر :
وإذا ما خلا الجبان بأرض | طلب الطعن وحده والنزالا |
أذكر ما يظهر لي من السنن والأحكام الاجتماعية في آيات هذه القصة مفصلة معدودة لعلها توعى، وتحفظ فلا تنسى إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى : إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها، فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم وتفكر في سبيله، فتعلم أنها الوحدة التي يمثلها الزعيم العادل، والقائد الباسل، فتتوجه إلى طلبه حتى تجده كما وقع من بني إسرائيل بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.
الثانية : إن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها، وصيانة استقلالها، إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصها، فمتى كثر هؤلاء الخواص في أمة فإنهم هم الذين يطلبون الرئيس الذي يملك عليهم، كما علمت من إسناد طلب الملك إلى الملأ من بني إسرائيل وهم شيوخهم وأهل الفضل فيهم.
الثالثة : متى عظم الشعور في نفوس خواص الأمة بوجوب حفظ استقلالها، ودفع ضيم الأعداء عنها، فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النعرة والحمية للأمة ما عند الكامل، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور، انكشف عجز الأدعياء المدعين، ولم ينفع إلا صدق الصادقين، كما علم من قوله تعالى :﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قيلا منهم والله عليم بالظالمين ﴾.
الرابعة : إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس الذي يكون له الملك عليها، والاختلاف مدعاة التفرق، فيجب أن يكون هناك مرجع يقبله الجمهور من الأمة. لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم وطلبوا منه أن يختار لهم رجلا يكون ملكا عليهم. وقد جعل الإسلام المرجع لاختيار إمام المسلمين مبايعة أولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحل والعقد والمكانة في الأمة الذين هم عون السلطان وقوته باحترام الأمة لهم وثقتها بهم، لذلك لم ينصب النبي صلى الله عليه وسلم إماما للمسلمين في أمر الزعامة والحكم، ولكن استنبط بعض العظماء من الصحابة رضاء النبي صلى الله عليه وسلم بإمامة أبي بكر الدنيوية، بإنابته عنه في الإمامة الدينية، وهي إمامة الصلاة إذ أمر عندما اشتد مرضه، بأن يصلي أبو بكر بالناس مكانه، ومع هذا قال عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها. أي أن الشورى في انتخابه لم تكن تامة. وإنما كان هو الذي عجل بالبيعة خوفا من عاقبة طول أمد الخلاف مع إجماعهم على عدم دفن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نصب الخليفة له، ولكن خلافته وإمامته ( رض ) لم تثبت بالفعل إلا بمبايعة الأمة له.
الخامسة : إن الناس لا يتفقون على التقليد أو الاتباع فيما يرونه مخالفا لمصلحتهم الاجتماعية، ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين. ومن عجيب أمر الناس أن كلا منهم يحسب أنه يعرف الصواب في السياسة ونظام الاجتماع في الأمم والدول، فلا تعرض مسألة على عامي إلا ويبدي فيها رأيا يقيم عليه دليلا على أن هذا العلم هو أعلى من سائر العلوم التي يعترف الجاهلون بها بجهلهم، فلا يحكمون فيها كما يحكمون في علم السياسة والاجتماع. وما يعقله إلا الأفراد من الناس، ومن فروع هذه القاعدة أن عامة المسلمين لهذا العهد يرون أن الدعوة إلى جعل الخلافة موافقة للقواعد الشرعية التي يعتقدونها مخالفة لمصلحتهم، وكثير منهم يعد الداعي إلى ذلك عدوا لهم بل للإسلام نفسه١.
السادسة : إن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة كما علم من قول المنكرين على ملك طالوت في تأييد إنكارهم [ ولم يؤت سعة من المال ] وأصحاب الأنساب الشريفة، كما علم مما فسر به العلماء قوله لهم، ﴿ ونحن أحق بالملك منه ﴾. فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلة خاص، فإنها هي التي تخضع لأصحاب العظمة الوهمية، وهي التي ليست صفة لنفس صاحبها كالمال والانتساب إلى بعض العظماء في عرفهم، سواء كانت عظمتهم بحق أو بغير حق. هذا موضع الخطأ في تعظيم ذي النسب، ويشتد خطره إذا صار أهل الأنساب يستعلون على الناس بأنسابهم دون علومهم وأعمالهم. والقرآن لم يصرح بأن ذلك هو وجه قولهم أنهم أحق بالملك. وفي المسألة نظر لا محل هنا لبسطه، ولكن نقول بالإجمال إن الانتساب إلى أهل الشرف الحقيقي، وهم أصحاب المعارف الصحيحة والأخلاق الفاضلة، والنفوس الكريمة العزيزة له أثر في النفس عظيم، فإن سليل الشرفاء جدير بأن يحافظ على كرامة نفسه فلا يدنسها بالخيانة، ثم أنه لا بد أن يرث شيئا من فضائلهم النفسية فيكون استعداده للخير أعظم في الغالب.
وإنك لتجد الأمم الراقية في العلم والاجتماع تختار ملوكها من سلالة الملوك والأمراء وتحافظ على قوانين الوراثة في ذلك، وما ارتقى عن هذا إلا أصحاب الحكومة الجمهورية، وقد جاء حكم الإسلام في هذه المسألة وسطا لم يغفل أمر النسب بالمرة لئلا تتسع دائرة الخلاف بطمع كل قبيلة في الإمامة الكبرى، ولم يجعل الأمر في بيت معين لما في ذلك من الغوائل، بل جعله في قبيلة عظيمة كثيرة العدد لا تخلو ممن هو أهل للإمامة، وهي محترمة في نفسها كانت محترمة في العصر الأول، ويرجى أن يدوم احترامها ما دام الإسلام الذي أتم الله نعمته على البشر بجعل رسول الله وخاتم النبيين منها ألا وهي قريش. فمن الحكمة في ذلك أن تظل الرياسة العليا للأمة مرتبطة بتاريخ ماضيها وقوم مؤسسها كارتباط دينها بوطنه في عبادتها الشخصية والاجتماعية وهما الصلاة والحج.
السابعة : إن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي ما استفدناه من قوله تعالى :﴿ إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ﴾ الآية كما تقدم.
الثامنة : هي ما أفاده قوله تعالى :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾ كما بيناه معززا بالشواهد من الكتاب العزيز على أن مشيئته تعالى إنما تنفذ بمقتضى سننه العامة في تغيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون ؟ ﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾ ( الأنبياء : ٤٤ ) أو لم يسمعوا دعوة الأنبياء بقوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ فاتقوا الله وأطيعون* ولا تطيعوا أمر المسرفين* الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ﴾ ( الشعراء : ١٥٠- ١٥٢ ) أيظن المسلم الغافل أن مشيئة الله تعالى في قوله :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ ( آل عمران : ٢٦ ) هي عبارة عن مخالفة سننه التي بينتها الآيات التي ذكرناها وما في معناها مما لم نذكره ؟ بل أقول ولا أخشى في الحق لومة لائم : أيظن المسلمون أن تنازع الأمم والدول على ممالكهم وسلبها من أيديهم مخالف لعدل الله العام وسننه الحكيمة التي جاء بها القرآن ؟ كلا إنه تعالى ما فرط في الكتاب من شيء، ولكنهم هم الذين فرطوا فذاقوا جزاء تفريطهم، فإن تابوا وأصلحوا تاب الله عليهم، وإلا فقد مضت سنة الأولين.
التاسعة : إن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر. وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول. فإذا أمر القائد بتسليم الديار أو الأموال أو الأنفس للأعداء وجب تسليمها في قانون كل دولة، نعم أنهم قرنوا بهذا الحق للقائد إيجابهم على أن يبرم الأمور باستشارة أهل الرأي في الفنون العسكرية وهم الذين يسمونهم أركان الحرب. ولكن هؤلاء ورئيسهم مقيدون بدستور الدولة العام، وبموافقة مجلس نواب الأمة على ما نص الدستور على وجوب موافقتهم عليه، ومن خالف ذلك يحاكم ويعاقب.
العاشرة : إن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات وطاعة القواد، الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد، مع طاعة القواد، لأن نصر الله مع الصابرين ـ أي جرت سنته بأن يكون النصر، أثرا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم، وهذا مشاهد في كل زمان، وهو كثير لا مطرد كما جاء في الآية الكريمة.
الحادية عشرة : إن الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاد، فإن الذي يؤمن بأن له إلها غالبا على أمره يمده بمعونته الإلهية، كما أمده بالقوى الروحية والجسدية، فإذا ظفر بإذنه كان مصلحا في الأرض مستعمرا فيها، وإذا قبضه إليه بانتهاء أجله المسمى كان في رحمته ناعما فيها، لهو جدير بأن يستخف بالأهوال، ويثبت في القتال ثبات الأجبال، وقد وافقنا كتاب الإفرنج في هذه المسألة، فصرحوا بأن من أسباب ثبات البوبر وبلائهم في حربهم للإنكليز كونهم أقوى إيمانا وأرسخ عقيدة، وجميع الأمم تشهد بأن الجيش العثماني أثبت جيوش العالم وأصبره وأشجعه، وقد تمنى قائد ألماني يعد من أشهر قواد الأرض لو أن له مئة ألف من هذا الجيش ليملك بها العالم، ذلك بأنه جيش يؤمن بلقاء الله تعالى إيمانا يقل في قواده من يساويه فيه٢.
الثانية عشرة : إن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى فإن الدعاء هو آية ذلك الإيمان الذي بينا فائدته آنفا ولذلك قال عز وجل في سورة الأنفال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ ( الأنفال : ٤٥ ) فيراجع تفسيرها في الجزء العاشر.
الثالثة عشرة : دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنن العامة وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعية في البشر لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة. وأنت ترى أن قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ ( البقرة : ٢٥١ ) ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة. ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وأنه جور وظلم، هم الواضعون له والحاكمون به، وأنه مخالف لهدى الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.
الرابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ لفسدت الأرض ﴾ يؤيد السنة التي يعبر عنها علماء الاجتماع بالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأمثل. ووجه ذلك جعل هذا من لوازم ما قبله، فإنه تعالى يقول إن ما فطر عليه الناس من مدافعة بعضهم بعضا من الحق والمصالحة هو المانع من فساد الأرض أي هو سبب بقاء الحق وبقاء الصلاح. ويعزز ذلك قوله تعالى في بيان حكمة الإذن للمسلمين بالقتال في سورة الحج :{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز* الذين إن مكناهم في الأرض وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأ
تمهيد في نسبة قصص القرآن إلى التاريخ والفرق بينهما وبيان حال الأمم قبل القرآن وبعده
بدأ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى تفسير هذه الآيات بمقدمة في قصص القرآن جعلها كالتمهيد لتفسيرها فقال ما مثاله مع إيضاح : تقدم في تفسير ﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ﴾ أن القرآن لم يعين أولئك القوم ولا الزمان ولا المكان اللذين كانوا فيهما ( يعني على القول بأنها قصة واقعة لا ضرب مثل كما قال عطاء ). ثم ذكر ههنا قصة أخرى عن بني إسرائيل فعين القوم وذكر أنه كان لهم نبي ولم يذكر اسمه ولا الزمان ولا المكان اللذين حدثت فيهما القصة. ولكنه ذكر بعد ذلك اسم طالوت وجالوت وداود.
يظن كثير من الناس الآن ـ كما ظن كثير ممن قبلهم ـ أن القصص التي جاءت في القرآن يجب أن تتفق مع ما جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق أو كتب التاريخ القديمة، وليس القرآن تاريخا ولا قصصا، وإنما هو هداية وموعظة، فلا يذكر قصة لبيان تاريخ حدوثها، ولا لأجل التفكه بها أو الإحاطة بتفصيلها، وإنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة كما قال ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ ( يوسف : ١١١ ) وبيان سنن الاجتماع كما قال ﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف عاقبة المكذبين ﴾ ( غافر : ٨٥ ) وقال ﴿ سنة الله التي قد خلت في عباده ﴾ ( غافر : ٨٥ ) وغير ذلك من الآيات.
والحوادث المتقدمة منها ما هو معروف. والله تعالى يذكر من هذا وذاك ما شاء أن يذكر لأجل العبرة والموعظة، فيكتفي من قصة بموضع العبرة ومحل الفائدة، ولا يأتي بها مفصلة بجزئياتها التي لا تزيد في العبرة بل ربما تشغل عنها. فلا غرو أن يكون في هذه القصص التي يعظنا الله بها ويعلمنا سننه ما لا يعرفه الناس، لأنه لم يرو ولم يدون بالكتاب. وقد اهتدى بعض المؤرخين الراقين في هذه الأزمنة إلى الاقتداء بهذا، فصار أهل المنزلة العالية منهم يذكرون من وقائع التاريخ ما يستنبطون منه الأحكام الاجتماعية وهو الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات لما يقع فيها من الخلاف الذي يذهب بالثقة، ولما في قراءتها من الإسراف في الزمن والإضاعة للعمر بغير فائدة توازيه، وبهذه الطريقة يمكن إيداع ما عرف من تاريخ العالم في مجلد واحد يوثق به ويستفاد منه، فلا يكون عرضة للتكذيب والطعن، كما هو الشأن في المصنفات التي تستقصي الوقائع الجزئية مفصلة تفصيلا.
إن محاولة جعل قصص القرآن ككتب التاريخ بإدخال ما يروون فيها على أنه بيان لها هي مخالفة لسنته، وصرف للقلوب عن موعظته، وإضاعة لمقصده وحكمته. فالواجب أن نفهم ما فيه، ونعمل أفكارنا في استخراج العبر منه. ونزع نفوسنا عما ذمه وقبحه، ونحملها على التحلي بما استحسنه ومدحه، وإذا ورد في كتب أهل الملل أو المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص فعلينا أن نجزم بأن ما أوحاه الله إلى نبيه ونقل إلينا بالتواتر الصحيح هو الحق وخبره هو الصادق، وما خالفه هو الباطل، وناقله مخطئ أو كاذب، فلا نعده شبهة على القرآن، ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه، فإن حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الاعلام، حالكة الظلام، فلا رواية يوثق بها، للمعرفة التامة بسيرة رجال سندها، ولا تواتر يعتد به بالأولى، وإنما انتقل العالم بعد نزول القرآن من حال إلى حال، فكان بداية تاريخ جديد للبشر كان يجب عليهم ـ لو أنصفوا ـ أن يؤرخوا به أجمعين اهـ.
أقول إن الذي يسبق إلى الذهن من هذا القول هو أن ما كان من شؤون الأمم وسير العالم بعد الإسلام لم ينطمس ولم تذهب الثقة به، ولم ينقطع سند روايته كما كان قبله. وبيان ذلك بالإجمال أن القرآن قد جاء البشر بهداية جديدة كاملة كانوا قد استعدوا للاهتداء بها بالتدريج الذي هو سنة الله تعالى فيهم، فكان من عمل المسلمين في حفظ العلم والتاريخ العناية التامة بالرواية ما يقبل منها وما لا يقبل، ولذلك ألفوا الكتب في تاريخ الرواة لتعرف سيرتهم، وتبين الصادق والكاذب منهم، وتعرف الرواية المتصلة والمنقطعة، وبحثوا في الكتب المؤلفة متى يوثق بنسبتها إلى مؤلفيها، وبينوا حقيقة التواتر الذي يفيد اليقين، والفرق بينه وبين ما يشتهر من روايات الآحاد، فهذه العناية لم ينقطع سند لنوع من أنواع العلم التي وجدت في المسلمين، على أن العناية بعلوم الدين أصولها وفروعها كانت أتم، ثم كان شأن من قفى على آثارهم في العلوم والمعارف بعد ضعف حضارتهم على نحو من شأنهم في التصنيف، وإن كان دونهم في ضبط الرواية ونقدها والأمانة فيها، فلم يضع شيء من العلوم والفنون ولا من الحوادث والوقائع التي جرت في العالم بعد الإسلام، وما اختلف الرواة والمصنفون في جزئياته من تاريخ الإسلام وغيره يسهل تصفيته في جملته، وأخذ المصفى منه لأجل الاعتبار به، وعرفان سنن الاجتماع منه، جريا على هدي القرآن فيه.
لقد وصل الراقون في مدارج العمران اليوم إلى درجة يسهل فيها من ضبط جزئيات الوقائع ما لم يكن يسهل على من قبلهم، كاستخدام الكهرباء في نقل الأخبار لمن يدونها في الصحف وتصوير الوقائع والمعاهد بما يسمونه التصوير الشمسي ( فوتوغرافيا ) وسهولة الانتقال على الكاتبين من مكان إلى مكان، وتأمين الحكام لهم من المخاوف وغير ذلك. وقد اجتمع من هذه الوسائل في الحرب التي كانت في هذين العامين بين دولتي اليابان وروسيا ما لم يجتمع لمدوني التاريخ في غيرها من الحروب ولا غير الحروب من حوادث الزمان، وقد كان لأشهر الجرائد الغربية مكاتبون في مواقع الحرب يتبارون في السبق إلى الوقوف على جزيئات الحوادث وإيصالها إلى جرائدهم، كما تفعل شركات البرقيات ( التلغرافات ) في أنباء المشتركين فيها بذلك، وكنا نرى في رسائل الفريقين من الخلاف والتناقض ما يتعذر معه العلم بالحقيقة ؛ وكم من رسالة للشركات البرقية ولمكاتبي الجرائد كانت من المسائل المتفق عليها فتبين بعد ذلك كذبها١ فهذه آية بينة على أنه لا سبيل إلى الثقة بجزئيات الوقائع التي تحدث في عصرنا ويعنى المؤرخون أشد العناية بضبطها، إلا ما يبلغ رواته المتفقون عليه مبلغ التواتر الصحيح وقليل ما هو، فما بالك بما كان في الأمم الخالية ؟
وجملة القول إن طريقة القرآن في قصص الذين خلوا هي منتهى الحكمة. وما كان لمحمد الأمي الناشئ في تلك الجاهلية الأمية أن يرتقي إليها بفكره، وقد جهلها الحكماء في عصرنا وقبل عصره، ولكنها هداية الله تعالى لعباده أوحاها إلى صفوته منهم صلى الله عليه وسلم :﴿ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ ( الأعراف : ٤٣ ). فعلينا وقد ظهرت الآية ووضحت السبيل أن نلتفت إلى روايات الغابرين في تلك القصص ولا نعد مخالفتها للقرآن شبهة نبالي بكشفها كما قال الأستاذ الإمام روح الله روحه في مقام الرضوان.
فإن قيل : إن قصص العهدين العتيق والجديد التي يسمى مجموعها ( الكتاب المقدس ) هي وحي من الله شهد لها القرآن وهي تعارض بعض قصصه ( قلنا ) أولا إن تلك الكتب ليس لها أسانيد متصلة متواترة، وثانيا : إن القرآن إنما أثبت أن الله تعالى أعطى موسى عليه السلام التوراة وهي الشريعة وأن أتباعه قد حفظوا منها نصيبا ونسوا نصيبا، وأنهم حرفوا النصيب الذي أوتوه، وأنه أعطى عيسى عليه السلام الإنجيل وهو مواعظ وبشارة وقال في أتباعه مثل ما قال في اليهود ( فنسوا حظا مما ذكروا ). ويجد القارئ تفصيل هذه الحقائق في تفسير سورة آل عمران والمائدة والأعراف بالنقول من تاريخ الفريقين.
بعد هذا نقول إن وجه الاتصال بين آيات هذه القصة وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها نزلت في شرع القتال لحماية الحقيقة وإعلاء شأن الحق، وبذل المال في هذه السبيل سبيل الله لعزة الأمم ومنعتها وحياتها الطيبة، التي يقع من ينحرف عنها من الأقوام في الهلاك والموت، كما علم من قصة الذين خرجوا من ديارهم فارين من عدوهم على كثرتهم. وهذه القصة ـ قصة قوم من بني إسرائيل ـ تؤيد ما قبلها من حاجة الأمم إلى دفع الهلاك عنها، فهي تمثل لنا حال قوم لهم نبي يرجعون إليه، وعندهم شريعة تهديهم إذا استهدوا، وقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن، فعلموا أن القتل ضرورة لا بد من ارتكابها ما دام العدوان في البشر، وبعد هذا كله جبنوا وضعفوا عن القتال، فاستحقوا الخزي والنكال.
فهذه القصة المفصلة، فيها بيان لما في تلك المجملة : فر أولئك من ديارهم فماتوا بذهاب استقلالهم، واستيلاء العدو على ديارهم. فالآية هناك صريحة في أن موتهم هذا مسبب عن خروجهم فارين بجبنهم، ولم تصرح بسبب إحيائهم الذي تراخت مدته، ولكن ما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال الذي يضاعفه الله تعالى أضعافا كثيرة، قد هدانا إلى سنته في حياة الأمم، وجاءت هذه القصة الإسرائيلية تمثل العبرة فيه، وتفصل كيفية احتياج الناس إليه، إذ بينت أن هؤلاء الناس احتاجوا إلى مدافعة العادين عليهم، واسترجاع ديارهم وأبنائهم من أيديهم، واشتد بالحاجة حتى طلبوا من نبيهم الزعيم الذي يقودهم في ميدان الجلاد، وقاموا بما قاموا به من الاستعداد. ولكن الضعف كان بلغ من نفوسهم مبلغا لم تنفع معه تلك العدة، فتولوا وأعرضوا للأسباب التي أشير إليها، وألهم القليل منهم رشدهم واعتبروا فانتصروا.
أقول : وفي تاريخ أهل الكتاب ما يفيد أن بني إسرائيل كانوا في الزمن الذي بعث فيه صموئيل نبيا ملهما قد انحرفوا عن شريعة موسى ونسوها، فعبدوا من دون الله آلهة أخرى، فضعفت رابطتهم الملية، وسلط الله عليهم الفلسطينيين فحاربوهم حتى أثخنوهم فانكسروا، وسقط منهم ثلاثون ألف مقاتل، وأخذ تابوت عهد الرب منهم، وكان بنو إسرائيل يستفتحون ( أي يستنصرون ويطلبون الفتح ) به على أعدائهم. فلما أخذه أهل فلسطين انكسرت قلوب بني إسرائيل ولم تنهض همتهم لاسترداده وكانوا إلى ذلك العهد لا ملوك لهم، وإنما كان رؤساؤهم القضاة بالشريعة، ومنهم الأنبياء ومنهم صموئيل كان قاضيا فلما شاخ جعل بنيه قضاة وكان ولده البكر وولده الثاني من قضاة الجور وأكلة الرشوة، فاجتمع كل شيوخ بني إسرائيل ( وهم المعبر عنهم في القرآن بالملأ ) وطلبوا من صموئيل أن يختار لهم ملكا يحكم فيهم كسائر الشعوب فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك واستبعادهم للأمم، فألحوا فألهمه الله تعالى أن يختار لهم طالوت ملكا، واسمه عندهم شاول فذلك قوله تعالى :
﴿ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يوت سعة من المال ﴾ الظاهر أن طالوت تعريب لشاول، وإن كان بعيدا منه في اللفظ، وقيل إنه لقب له من الطول، كملكوت من الملك وأمثالها، وذلك أنه كان طويلا مشذبا، ففي سفر صموئيل الأول من العهد العتيق " من كتفه فما فوق كان أطول من كل شعب " وفيه " فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق " واعترض بمنع صرفه.
وقال الأستاذ الإمام عند ذكر طالوت هو الذي يسمونه ( شلول ) وقد سماه الله طالوت فهو طالوت. أي أننا لا نعبأ بما في كتبهم لما قدمنا. وإذا علم القارئ أن القوم لا يعرفون كاتب سفري صموئيل الأول والثاني من هو ؟ ولا في أي زمن كتبا، فإنه يسهل عليه أن لا يعتد بتسميتهم. وأما استنكارهم جعله ملكا فقد صرحوا به وقالوا إن منهم من احتقره، ولكن أخبارهم لا تتصل بأسبابها، ولا تقرن بعللها. وقال المفسرون في استنكارهم لملكه وزعمهم أنهم أحق بالملك منه، أنه كان من أولاد بنيامين من بيت يهوذا، وهو بيت الملك، ولا من بيت لاوي وهو بيت النبوة، وفهم بعضهم من قوله :﴿ ولم يؤت سعة من المال ﴾ إنه كان فقيرا وقالوا كان راعيا أو دباغا أو سقاء. ولا يصح كلامهم في بيت الملك لأنه لم يكن فيهم ملوك قبله، ونفيهم سعة المال التي تؤهله في رأي القائلين لا تدل على أنه كان فقيرا. وإنما العبرة في العبارة هي ما دلت عليه من طباع الناس وهي أنهم يرون أن الملك لابد أن يكون وارثا للملك، أو ذا نسب عظيم يسهل على شرفاء الناس وعظمائهم الخضوع له، وذا مال عظيم يدبر به الملك، والسبب في هذا أنهم قد اعتادوا الخضوع للشرفاء والأغنياء، وإن لم يمتازوا عليهم بمعرفهم وصفاتهم الذاتية، فبين الله تعالى فيما حكاه عن نبيه في أولئك القوم أنهم مخطئون في زعمهم أن استحقاق الملك يكون بالنسب وسعة المال بقوله :
﴿ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ﴾ فسروا اصطفاء الله تعالى هنا بوحيه لذلك النبي أن يجعل طالوت ملكا عليهم، ولعله لو كان هذا هو المراد لقال اصطفاه لكم كما قال :﴿ اصطفى لكم الدين ﴾ ( البقرة : ١٢٢ ) والمتبادر عندي أن معناه فضله واختاره عليكم بما أودع فيه من الاستعداد الفطري للملك، ولا ينافي هذا كون اختياره كان بوحي من الله، لأن هذه الأمور هي بيان لأسباب الاختيار وهي أربعة :
١ الاستعداد الفطري.
٢ السعة في العلم الذي يكون به التدبير.
٣ بسطة الجسم المعبر بها عن صحته وكمال قواه المستلزم ذلك لصحة الفكر، على قاعدة " العقل السليم في الجسم السليم "، وللشجاعة والقدرة على المدافعة، وللهيبة والوقار.
٤ توفيق الله تعالى الأسباب له وهو ما عبر عنه بقوله :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾.
والاستعداد هو الركن الأول في المرتبة فلذلك قدمه، والعلم بحال الأمة ومواضع قوتها وضعفها، وجودة الفكر في تدبير شؤونها، هو الركن الثاني في المرتبة، فكم من عالم بحال زمانه غير مستعد للسلطة اتخذه من هو مستعد لها سراجا يستضيء برأيه في تأسيس مملكة أو سياستها، ولم ينهض به رأيه إلى أن يكون هو السيد الزعيم فيها. وكمال الجسم في قواه وروائه هو الركن الثالث في المرتبة وهو في الناس أكثر من سابقيه.
وأما المال فليس بركن من أركان تأسيس الملك، لأن المزايا الثلاث إذا وجدت سهل على صاحبها الإتيان بالمال. وإنا لنعرف في الناس من أسس دولة وهو فقير أمي، ولكن استعداده ومعرفته بحال الأمة التي سادها وشجاعته كانت كافية للاستيلاء عليها والاستعانة بأهل العلم بالإدارة والشجعان على تمكين سلطته فيها. وقد قدم الأركان الثلاثة على الرابع لأنها تتعلق بمواهب الرجل الذي اختير ملكا فأنكر القوم اختياره فهي المقصود بالجواب. وأما توفيق الله تعالى بتسخير الأسباب التي لا عمل له فيها لسعيه فليس من مواهبه ومزاياه فتقدم في أسباب اختياره، وإنما تذكر تتمة للفائدة وبيانا للحقيقة، ولذلك ذكرت قاعدة عامة لا وصفا له.
ولله در الشاعر العربي حيث قال في صفات الجدير بالاختيار لزعامة الأمة وقيادتها :
فقلدوا أمركم لله دركمو | رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا |
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده | ولا إذا عض مكروه به خشعا |
وليس يشغله مال يثمِّره | عنكم، ولا ولد يبغي له الرفعا |
نعم إذا أراد الله إسعاد أمة جعل ملكها مقويا لما فيها من الاستعداد للخير حتى يغلب خيرها على شرها فتكون سعيدة، وإذا أراد إهلاك أمة جعل ملكها مقويا لدواعي الشر فيها حتى يغلب شرها على خيرها فتكون شقية ذليلة، فتعدو عليها أمة قوية، فلا تزال تنقصها من أطرافها، وتفتات عليها في أمورها، أو تناجزها الحرب، حتى تزيل سلطانها من الأرض، يريد الله تعالى ذلك فيكون بمقتضى سننه في نظام الاجتماع، فهو يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء بعدل وحكمة، لا بظلم ولا عبث، ولذلك قال :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ ( الأنبياء : ١٠٥ ) وقال :﴿ إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ﴾ ( الأعراف : ١٢٨ ) فالمتقون في هذا المقام مقام استعمار الأرض والسيادة في الممالك هم الذين يتقون أسباب خراب البلاد وضعف الأمم، وهي الظلم في الحكام والجهل وفساد الأخلاق في الدولة والأمة، وما يتبع ذلك من التفرق والتنازع والتخاذل، والصالحون في هذا المقام هم الذين يصلحون لاستعمار الأرض وسياسة الأمم بحسب استعدادها الاجتماعي.
أطلت في بيان معنى مشيئة الله تعالى في إتيان الملك لأنني أرى عامة المسلمين يفهمون من مثل عبارة الآية في إيجازها أن الملك يكون للملوك بقوة إلهية هي وراء الأسباب والسنن التي يجري عليها البشر في أعمالهم الكسبية. وهذا الاعتقاد قديم في الأمم الوثنية، وفي معناه عبارة في كتب النصرانية، وبه استعبد الملوك الناس الذين يظنون أن سلطتهم شعبة من السلطة الإلهية، وأن محاولة مقاومتهم هي كمحاولة مقاومة الباري سبحانه وتعالى، والخروج عن مشيئته.
وكان الأستاذ الإمام أوجز في الدرس بتفسير قوله تعالى :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾ إذ جاء في آخره. وقد كتبت في مذكرتي عنه " أي أن له سنة في تهيئة من يشاء للملك " ومثل هذا الإجمال لا يعقله إلا من جمع بين الآيات الكثيرة في إرث الأرض وفي هلاك الأمم وتكونها، والآيات الواردة في أن له تعالى في البشر سننا لا تتبدل ولا تتحول وقد ذكرنا بعضها، ومنها قوله تعالى :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ ( الرعد : ١١ ) فحالة الأمم في صفات أنفسها وهي عقائدها ومعارفها وأخلاقها وعاداتها، هي الأصل في تغير ما بها من سيادة أو عبودية وثروة أو فقر وقوة أو ضعف، وهي هي التي تمكن الظالم من إهلاكها. والغرض من هذا البيان أن نعلم أنه لا يصح لنا الاعتذار بمشيئة الله عن التقصير في إصلاح شؤوننا اتكالا على ملوكنا، فإن مشيئته تعالى لا تتعلق بإبطال سننه تعالى وحكمته في نظام خلقه، ولا دليل في الكتاب والسنة ولا في العقل ولا في الوجود على أن تصرف الملوك في الأمم هو بقوة إلهية خارقة للعادة، بل شريعة الله تعالى وخليقته شاهدتان بضد ذلك ﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ ( الحشر : ٢ ).
ثم ختم الآية بقوله تعالى :﴿ والله واسع عليم ﴾ على طريقة القرآن في التنبيه على الدليل بعد الحكم والتذكير بأسمائه الحسنى وآثارها، أي واسع التصرف والقدرة إذا شاء أمرا اقتضته حكمته في نظام الخليقة فإنه يقع لا محالة، عليم بوجود الحكمة فلا يضع سنته في استحقاق الملك عبثا، ولا يترك أمر العباد في اجتماعهم سدى، بل وضع لهم من السنن الحكيمة ما هو منتهى الإبداع والإتقان، وليس في الإمكان أبدع مما كان.
هذا وقد جرى المفسرون على أن وجوه الرد على منكري جعل طالوت ملكا أربعة. وأحسن عبارة لهم على اختصارها عبارة البيضاوي قال : لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك ( أولا ) : بأن العمدة اصطفاء الله تعالى، وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم. و( ثانيا ) : بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن من معرفة الأمور السياسية وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب، لا ما ذكرتم، وقد زاده الله فيها، وقد كان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه، و( ثالثا ) : بأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء و( رابعا ) : بأنه " واسع " الفضل على الفقير ويغنيه " عليم " بمن يليق بالملك وغيره. اه. فجعلوا الأول بمعنى الثالث وجعلوا مزية العقل ومزية البدن شيئا واحدا وهما شيئان، وأجملوا القول في المشيئة حتى أن المتوهم يتوهم أن ذلك يكون بعناية غيبية، لا بسنة إلهية، وجعلوا كونه تعالى واسعا عليما وجها خاصا. ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام في الأول شيئا، ورأيه في مشيئة الله تعالى هنا ما تقدم آنفا، وقد فسر الواسع التصرف والقدرة، وهو يتفق مع قولهم واسع الفضل، وقال في تفسير " عليم " عليم بوجوه الاختيار ومن يستحق الملك.
أذكر ما يظهر لي من السنن والأحكام الاجتماعية في آيات هذه القصة مفصلة معدودة لعلها توعى، وتحفظ فلا تنسى إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى : إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها، فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم وتفكر في سبيله، فتعلم أنها الوحدة التي يمثلها الزعيم العادل، والقائد الباسل، فتتوجه إلى طلبه حتى تجده كما وقع من بني إسرائيل بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.
الثانية : إن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها، وصيانة استقلالها، إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصها، فمتى كثر هؤلاء الخواص في أمة فإنهم هم الذين يطلبون الرئيس الذي يملك عليهم، كما علمت من إسناد طلب الملك إلى الملأ من بني إسرائيل وهم شيوخهم وأهل الفضل فيهم.
الثالثة : متى عظم الشعور في نفوس خواص الأمة بوجوب حفظ استقلالها، ودفع ضيم الأعداء عنها، فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النعرة والحمية للأمة ما عند الكامل، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور، انكشف عجز الأدعياء المدعين، ولم ينفع إلا صدق الصادقين، كما علم من قوله تعالى :﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قيلا منهم والله عليم بالظالمين ﴾.
الرابعة : إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس الذي يكون له الملك عليها، والاختلاف مدعاة التفرق، فيجب أن يكون هناك مرجع يقبله الجمهور من الأمة. لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم وطلبوا منه أن يختار لهم رجلا يكون ملكا عليهم. وقد جعل الإسلام المرجع لاختيار إمام المسلمين مبايعة أولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحل والعقد والمكانة في الأمة الذين هم عون السلطان وقوته باحترام الأمة لهم وثقتها بهم، لذلك لم ينصب النبي صلى الله عليه وسلم إماما للمسلمين في أمر الزعامة والحكم، ولكن استنبط بعض العظماء من الصحابة رضاء النبي صلى الله عليه وسلم بإمامة أبي بكر الدنيوية، بإنابته عنه في الإمامة الدينية، وهي إمامة الصلاة إذ أمر عندما اشتد مرضه، بأن يصلي أبو بكر بالناس مكانه، ومع هذا قال عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها. أي أن الشورى في انتخابه لم تكن تامة. وإنما كان هو الذي عجل بالبيعة خوفا من عاقبة طول أمد الخلاف مع إجماعهم على عدم دفن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نصب الخليفة له، ولكن خلافته وإمامته ( رض ) لم تثبت بالفعل إلا بمبايعة الأمة له.
الخامسة : إن الناس لا يتفقون على التقليد أو الاتباع فيما يرونه مخالفا لمصلحتهم الاجتماعية، ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين. ومن عجيب أمر الناس أن كلا منهم يحسب أنه يعرف الصواب في السياسة ونظام الاجتماع في الأمم والدول، فلا تعرض مسألة على عامي إلا ويبدي فيها رأيا يقيم عليه دليلا على أن هذا العلم هو أعلى من سائر العلوم التي يعترف الجاهلون بها بجهلهم، فلا يحكمون فيها كما يحكمون في علم السياسة والاجتماع. وما يعقله إلا الأفراد من الناس، ومن فروع هذه القاعدة أن عامة المسلمين لهذا العهد يرون أن الدعوة إلى جعل الخلافة موافقة للقواعد الشرعية التي يعتقدونها مخالفة لمصلحتهم، وكثير منهم يعد الداعي إلى ذلك عدوا لهم بل للإسلام نفسه١.
السادسة : إن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة كما علم من قول المنكرين على ملك طالوت في تأييد إنكارهم [ ولم يؤت سعة من المال ] وأصحاب الأنساب الشريفة، كما علم مما فسر به العلماء قوله لهم، ﴿ ونحن أحق بالملك منه ﴾. فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلة خاص، فإنها هي التي تخضع لأصحاب العظمة الوهمية، وهي التي ليست صفة لنفس صاحبها كالمال والانتساب إلى بعض العظماء في عرفهم، سواء كانت عظمتهم بحق أو بغير حق. هذا موضع الخطأ في تعظيم ذي النسب، ويشتد خطره إذا صار أهل الأنساب يستعلون على الناس بأنسابهم دون علومهم وأعمالهم. والقرآن لم يصرح بأن ذلك هو وجه قولهم أنهم أحق بالملك. وفي المسألة نظر لا محل هنا لبسطه، ولكن نقول بالإجمال إن الانتساب إلى أهل الشرف الحقيقي، وهم أصحاب المعارف الصحيحة والأخلاق الفاضلة، والنفوس الكريمة العزيزة له أثر في النفس عظيم، فإن سليل الشرفاء جدير بأن يحافظ على كرامة نفسه فلا يدنسها بالخيانة، ثم أنه لا بد أن يرث شيئا من فضائلهم النفسية فيكون استعداده للخير أعظم في الغالب.
وإنك لتجد الأمم الراقية في العلم والاجتماع تختار ملوكها من سلالة الملوك والأمراء وتحافظ على قوانين الوراثة في ذلك، وما ارتقى عن هذا إلا أصحاب الحكومة الجمهورية، وقد جاء حكم الإسلام في هذه المسألة وسطا لم يغفل أمر النسب بالمرة لئلا تتسع دائرة الخلاف بطمع كل قبيلة في الإمامة الكبرى، ولم يجعل الأمر في بيت معين لما في ذلك من الغوائل، بل جعله في قبيلة عظيمة كثيرة العدد لا تخلو ممن هو أهل للإمامة، وهي محترمة في نفسها كانت محترمة في العصر الأول، ويرجى أن يدوم احترامها ما دام الإسلام الذي أتم الله نعمته على البشر بجعل رسول الله وخاتم النبيين منها ألا وهي قريش. فمن الحكمة في ذلك أن تظل الرياسة العليا للأمة مرتبطة بتاريخ ماضيها وقوم مؤسسها كارتباط دينها بوطنه في عبادتها الشخصية والاجتماعية وهما الصلاة والحج.
السابعة : إن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي ما استفدناه من قوله تعالى :﴿ إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ﴾ الآية كما تقدم.
الثامنة : هي ما أفاده قوله تعالى :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾ كما بيناه معززا بالشواهد من الكتاب العزيز على أن مشيئته تعالى إنما تنفذ بمقتضى سننه العامة في تغيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون ؟ ﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾ ( الأنبياء : ٤٤ ) أو لم يسمعوا دعوة الأنبياء بقوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ فاتقوا الله وأطيعون* ولا تطيعوا أمر المسرفين* الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ﴾ ( الشعراء : ١٥٠- ١٥٢ ) أيظن المسلم الغافل أن مشيئة الله تعالى في قوله :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ ( آل عمران : ٢٦ ) هي عبارة عن مخالفة سننه التي بينتها الآيات التي ذكرناها وما في معناها مما لم نذكره ؟ بل أقول ولا أخشى في الحق لومة لائم : أيظن المسلمون أن تنازع الأمم والدول على ممالكهم وسلبها من أيديهم مخالف لعدل الله العام وسننه الحكيمة التي جاء بها القرآن ؟ كلا إنه تعالى ما فرط في الكتاب من شيء، ولكنهم هم الذين فرطوا فذاقوا جزاء تفريطهم، فإن تابوا وأصلحوا تاب الله عليهم، وإلا فقد مضت سنة الأولين.
التاسعة : إن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر. وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول. فإذا أمر القائد بتسليم الديار أو الأموال أو الأنفس للأعداء وجب تسليمها في قانون كل دولة، نعم أنهم قرنوا بهذا الحق للقائد إيجابهم على أن يبرم الأمور باستشارة أهل الرأي في الفنون العسكرية وهم الذين يسمونهم أركان الحرب. ولكن هؤلاء ورئيسهم مقيدون بدستور الدولة العام، وبموافقة مجلس نواب الأمة على ما نص الدستور على وجوب موافقتهم عليه، ومن خالف ذلك يحاكم ويعاقب.
العاشرة : إن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات وطاعة القواد، الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد، مع طاعة القواد، لأن نصر الله مع الصابرين ـ أي جرت سنته بأن يكون النصر، أثرا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم، وهذا مشاهد في كل زمان، وهو كثير لا مطرد كما جاء في الآية الكريمة.
الحادية عشرة : إن الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاد، فإن الذي يؤمن بأن له إلها غالبا على أمره يمده بمعونته الإلهية، كما أمده بالقوى الروحية والجسدية، فإذا ظفر بإذنه كان مصلحا في الأرض مستعمرا فيها، وإذا قبضه إليه بانتهاء أجله المسمى كان في رحمته ناعما فيها، لهو جدير بأن يستخف بالأهوال، ويثبت في القتال ثبات الأجبال، وقد وافقنا كتاب الإفرنج في هذه المسألة، فصرحوا بأن من أسباب ثبات البوبر وبلائهم في حربهم للإنكليز كونهم أقوى إيمانا وأرسخ عقيدة، وجميع الأمم تشهد بأن الجيش العثماني أثبت جيوش العالم وأصبره وأشجعه، وقد تمنى قائد ألماني يعد من أشهر قواد الأرض لو أن له مئة ألف من هذا الجيش ليملك بها العالم، ذلك بأنه جيش يؤمن بلقاء الله تعالى إيمانا يقل في قواده من يساويه فيه٢.
الثانية عشرة : إن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى فإن الدعاء هو آية ذلك الإيمان الذي بينا فائدته آنفا ولذلك قال عز وجل في سورة الأنفال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ ( الأنفال : ٤٥ ) فيراجع تفسيرها في الجزء العاشر.
الثالثة عشرة : دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنن العامة وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعية في البشر لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة. وأنت ترى أن قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ ( البقرة : ٢٥١ ) ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة. ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وأنه جور وظلم، هم الواضعون له والحاكمون به، وأنه مخالف لهدى الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.
الرابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ لفسدت الأرض ﴾ يؤيد السنة التي يعبر عنها علماء الاجتماع بالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأمثل. ووجه ذلك جعل هذا من لوازم ما قبله، فإنه تعالى يقول إن ما فطر عليه الناس من مدافعة بعضهم بعضا من الحق والمصالحة هو المانع من فساد الأرض أي هو سبب بقاء الحق وبقاء الصلاح. ويعزز ذلك قوله تعالى في بيان حكمة الإذن للمسلمين بالقتال في سورة الحج :{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز* الذين إن مكناهم في الأرض وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأ
قوله تعالى :﴿ وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ﴾ يدل على أن بني إسرائيل لم يقتنعوا بما احتج به عليهم نبيهم من استحقاق طالوت الملك بما اختاره الله وأعده له باصطفائه، وإيتائه من سعة العلم وبسطة الجسم ما يمكنه من القيام بأعبائه، حتى جعل لذلك آية تدلهم على العناية به، وهي عود التابوت إليهم وهذا التابوت المعروف صندوق له قصة معروفة في كتب اليهود ففي أول الفصل الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه :
" وكلم الرب موسى قائلا كلم بني إسرائيل أن يأخذوا لي تقدمة. من كل من يحثه قلبه يأخذون تقدمتي. وهذه هي التقدمة التي يأخذونها منهم : ذهب وفضة ونحاس وأسمانجوني وأرجوان وقرمز وبوص وشعر معزى وجلود كباش محمرة وجلود نخس وخشب سنط وزيت للمنارة وأطياف لدهن المسحة وللبخور العطر وحجارة جزع وحجارة ترصيع للرداء والصدرة، فيصنعون لي مقدسا لأسكن في وسطهم بحسب جميع ما أنا أريك عن مثال المسكن ومثال جميع آنيته، وهكذا تصنعون فيصنعون تابوتا من خشب السنط طوله ذراعان ونصف، وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف. وتغشيه بذهب نقي، من داخل وخارج تغشيه، وتصنع عليه إكليلا من ذهب حواليه. وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع، على جانبه الواحد حلقتان وعلى جانبه الثاني حلقتان. وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهب، وتدخل العصوين في الحلقات على جانبي التابوت ليحمل التابوت بهما. تبقى العصوان في حلقة التابوت لا تنزعان منها. وتضع في التابوت الشهادة التي أعطيك. وتصنع غطاء من ذهب نقي طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف. وتصنع كروبين من ذهب صنعة خراطة تضعهما على طرفي الغطاء فاصنع كروبا واحدا على الطرف من هنا، وكروبا آخر على الطرف من هناك، من الغطاء تصنعون الكروبين على طرفيه. ويكون الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق مظللين بأجنحتهما على الغطاء ووجهاهما كل واحد إلى آخر. نحو الغطاء يكون وجها الكروبين. وتجعل الغطاء على التابوت من فوق وفي التابوت تضع الشهادة التي أعطيك اه.
هذا ما ورد في صفة الأمر بصنع ذلك التابوت الديني وذكر بعده كيفية صنع المائدة الدينية وآنيتها والمسكن والمذبح وخيمة العهد ومنارة السراج والثياب المقدسة. ثم فصل في الفصل ٢٧، منه كيف كان صنع هذا التابوت والمائدة والمنار ومذبح البخور، وهي غرائب يعدها عقلاء هذه العصور ألاعيب، والحكمة فيها والله أعلم أن بني إسرائيل كانوا وقد استعبدهم وثنيو المصرين أحقابا قد ملكت قلوبهم عظمة تلك الهياكل الوثنية، وما فيها من الزينة والصنعة التي تدهش الناظر، وتشغل الخاطر، فأراد الله تعالى أن يشغل قلوبهم عنها بمحسوسات من جنسها تنسب إليه سبحانه وتعالى وذكر به، فالتابوت سمي أولا تابوت الشهادة أي شهادة الله سبحانه، ثم تابوت الرب وتابوت الله، كذلك أضيف إلى الله تعالى كل شيء صنع للعبادة. وهذا مما يدل على أن تلك الديانة ليست دائمة، فلا غرو إذا نسخ الإسلام كل هذا الزخرف والصنعة من المساجد التي يعبد فيها الله تعالى حتى لا يشغل المصلي عن مناجاة الله بشيء منها، وما كلفه ذلك الشعب الذي وصفته كتبه المقدسة بأنه صلب الرقبة أو كما تقول العرب " عريض القفا " على قرب عهده بالوثنية وإحاطة الشعوب الوثنية به من كل جانب لا يليق بحال البشر في طور ارتقائهم، إذ لا يربى الرجل العاقل، بمثل ما يربى به الطفل أو اليافع. وفي سائر فصول سفر الخروج الثلاثة تفصيل لما قدمه بنو إسرائيل لصنع تلك الدار التي يقدس فيها الله، ولصنع الخيمة والتابوت وغير ذلك. وغرضنا منها معرفة حقيقة التابوت عندهم فإنك لتجد في بعض كتب التفسير وكتب القصص عندنا أقوالا غريبة عنه منها أنه نزل مع آدم من الجنة ومنشأ تلك الأقوال ما كان ينبذ به الإسرائيليون من القصص بين المسلمين مخادعة لهم، ليكثر الكذب في تفسيرهم للقرآن فيضلوا به، ويجد رؤساء اليهود مجالا واسعا للطعن في القرآن يصدون به قومهم عنه.
وفي آخر فصول سفر الخروج أن موسى عليه الصلاة والسلام وضع اللوحين اللذين فيهما شهادة الله أي وصايا لبني إسرائيل في التابوت، وفي كتبهم الأخرى أنه كان بعده عند فتاة يشوع أي ( يوشع ) وأنهم كانوا يستنصرون بهذا التابوت فإذا ضعفوا في القتال وجيء به وقدموه تثوب إليهم شجاعتهم، وينصرهم الله تعالى، أي ينصرهم بتلك الشجاعة التي تتجدد لهم بإحضار التابوت نفسه، ولذلك غلبوا على التابوت فأخذ منهم عندما ضعف يقينهم وفسدت أخلاقهم، فلم يغن عنهم التابوت شيئا كما قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.
أقول : وفي سفر تثنية الاشتراع أن موسى لما كمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلا خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون شاهدا عليكم.
ثم كانت حرب الفلسطينيين وبني إسرائيل على عهد عاليا أو عالي الكاهن فانتصر الفلسطينيون وأخذوا التابوت من بني إسرائيل بعد أن نكلوا بهم تنكيلا فمات عالي قهرا، وكان صموئيل الذي يدعى في الكتب العربية شمويل قاضيا لبني إسرائيل من بعده وهو نبيهم الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا ففعل كما تقدم، وجعل رجوع التابوت إليهم آية لملك طالوت الذي أقامه لهم وقالوا في سبب إتيان التابوت إن أهل فلسطين ابتلوا بعد أخذ التابوت بالفيران في زرعهم والبواسير في أنفسهم، فتشاءموا منه، وظنوا أن إله إسرائيل انتقم منهم فأعادوه على عجلة تجرها بقرتان، ووضعوا فيه صور فيران وصور بواسير من الذهب جعلوا ذلك كفارة لذنبهم.
ومن المدون في التاريخ المقدس عنهم أنه لما أحرق البابليون هيكل سليمان فقدت التوراة وتابوت العهد معا لأنهما قد أحرقا فيه.
وأما قوله تعالى في التابوت :﴿ فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ﴾ فقد كثرت فيه الروايات ومنها ما لا يدل عليه نقل ولا يقبله عقل، على أنها متعارضة لا يمكن الجمع بينها كما ترى في تفسير ابن جرير، وهو أم التفاسير، وقد أوردنا ما أوردنا من كتب اليهود ليعلم أن أكثر ما ذكر عن التابوت وعما فيه من الغرائب لا أصل له في تلك الكتب وإنما وحي الله تعالى ناطق بأن فيه سكينة. والسكينة في اللغة ما تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب، وفي إتيان الصندوق سكينة لا تخفى لما كان له من الشأن الديني عند القوم، أو فيه ما يحدث لهم سكينة وهي الفيران والبواسير الذهب التي تدل على خوف العدو، أو الألواح أو رضاضتها، وهي البقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وروي عن عطاء نحو ما قلناه.
قال ابن جرير وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى السكينة ما قاله عطاء بن أبي رباح من أنها الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات. وقوله :﴿ تحمله الملائكة ﴾ يحتمل وجهين أحدهما : أن المراد بالملائكة صور الكروبين وقد حمل التابوت أي وضع عليهما كما تقول في وصف القصور والتماثيل المصنوعة : فيها فلان على فرس من نحاس، تريد تمثال الفرس وثانيهما : أن البقرتين اللتين حملتا التابوت من بعض الفلسطينيين إلى بني إسرائيل كانتا تسيران مسخرتين بإلهام الملائكة. وفي كتب القوم أن البقرتين اللتين جرتا عجلة التابوت لم يكن لهما قائد ولا سائق وما يجري بإلهام لا كسب فيه للبشر وهو من الخير يسند إلى إلهام الملائكة، روى نحو هذا ابن جرير قال : حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما الخ.
وختم الآية بقوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ قالوا يحتمل أن يكون هذا تتمة كلام نبي بني إسرائيل لهم أي أن في مجيء التابوت علامة أو حجة لكم تدل على عناية الله بكم، واصطفائه لكم هذا الملك الذي ينهض بشؤونكم وينكل بأعدائكم، فعليكم أن ترضوا بملكه ولا تفرقوا عنه. ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى لهذه الأمة معناه أن فيما أوحاه الله تعالى إلى نبيه عليه الصلاة والسلام من هذه القصة آية بينة على نبوته إذ لولا الوحي لما كان يعرفها وهو الأمي الذي لم يقرأ شيئا، ولا كان يعرف ما انطوت عليه من العبرة والفائدة، ولاسيما ما يعتبر في الملوك من الصفات التي تؤهلهم للقيام بأعباء السياسة وأعمال الرياسة، وإنما يكون ذلك آية بينة وعبرة نافعة لمن يؤمن بالله وآياته التي يؤيد بها أنبيائه ورسله عليهم السلام، لذلك قيدها بالشرط الذي حذف جوابه لدلالة الكلام عليه.
أذكر ما يظهر لي من السنن والأحكام الاجتماعية في آيات هذه القصة مفصلة معدودة لعلها توعى، وتحفظ فلا تنسى إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى : إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها، فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم وتفكر في سبيله، فتعلم أنها الوحدة التي يمثلها الزعيم العادل، والقائد الباسل، فتتوجه إلى طلبه حتى تجده كما وقع من بني إسرائيل بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.
الثانية : إن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها، وصيانة استقلالها، إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصها، فمتى كثر هؤلاء الخواص في أمة فإنهم هم الذين يطلبون الرئيس الذي يملك عليهم، كما علمت من إسناد طلب الملك إلى الملأ من بني إسرائيل وهم شيوخهم وأهل الفضل فيهم.
الثالثة : متى عظم الشعور في نفوس خواص الأمة بوجوب حفظ استقلالها، ودفع ضيم الأعداء عنها، فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النعرة والحمية للأمة ما عند الكامل، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور، انكشف عجز الأدعياء المدعين، ولم ينفع إلا صدق الصادقين، كما علم من قوله تعالى :﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قيلا منهم والله عليم بالظالمين ﴾.
الرابعة : إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس الذي يكون له الملك عليها، والاختلاف مدعاة التفرق، فيجب أن يكون هناك مرجع يقبله الجمهور من الأمة. لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم وطلبوا منه أن يختار لهم رجلا يكون ملكا عليهم. وقد جعل الإسلام المرجع لاختيار إمام المسلمين مبايعة أولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحل والعقد والمكانة في الأمة الذين هم عون السلطان وقوته باحترام الأمة لهم وثقتها بهم، لذلك لم ينصب النبي صلى الله عليه وسلم إماما للمسلمين في أمر الزعامة والحكم، ولكن استنبط بعض العظماء من الصحابة رضاء النبي صلى الله عليه وسلم بإمامة أبي بكر الدنيوية، بإنابته عنه في الإمامة الدينية، وهي إمامة الصلاة إذ أمر عندما اشتد مرضه، بأن يصلي أبو بكر بالناس مكانه، ومع هذا قال عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها. أي أن الشورى في انتخابه لم تكن تامة. وإنما كان هو الذي عجل بالبيعة خوفا من عاقبة طول أمد الخلاف مع إجماعهم على عدم دفن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نصب الخليفة له، ولكن خلافته وإمامته ( رض ) لم تثبت بالفعل إلا بمبايعة الأمة له.
الخامسة : إن الناس لا يتفقون على التقليد أو الاتباع فيما يرونه مخالفا لمصلحتهم الاجتماعية، ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين. ومن عجيب أمر الناس أن كلا منهم يحسب أنه يعرف الصواب في السياسة ونظام الاجتماع في الأمم والدول، فلا تعرض مسألة على عامي إلا ويبدي فيها رأيا يقيم عليه دليلا على أن هذا العلم هو أعلى من سائر العلوم التي يعترف الجاهلون بها بجهلهم، فلا يحكمون فيها كما يحكمون في علم السياسة والاجتماع. وما يعقله إلا الأفراد من الناس، ومن فروع هذه القاعدة أن عامة المسلمين لهذا العهد يرون أن الدعوة إلى جعل الخلافة موافقة للقواعد الشرعية التي يعتقدونها مخالفة لمصلحتهم، وكثير منهم يعد الداعي إلى ذلك عدوا لهم بل للإسلام نفسه١.
السادسة : إن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة كما علم من قول المنكرين على ملك طالوت في تأييد إنكارهم [ ولم يؤت سعة من المال ] وأصحاب الأنساب الشريفة، كما علم مما فسر به العلماء قوله لهم، ﴿ ونحن أحق بالملك منه ﴾. فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلة خاص، فإنها هي التي تخضع لأصحاب العظمة الوهمية، وهي التي ليست صفة لنفس صاحبها كالمال والانتساب إلى بعض العظماء في عرفهم، سواء كانت عظمتهم بحق أو بغير حق. هذا موضع الخطأ في تعظيم ذي النسب، ويشتد خطره إذا صار أهل الأنساب يستعلون على الناس بأنسابهم دون علومهم وأعمالهم. والقرآن لم يصرح بأن ذلك هو وجه قولهم أنهم أحق بالملك. وفي المسألة نظر لا محل هنا لبسطه، ولكن نقول بالإجمال إن الانتساب إلى أهل الشرف الحقيقي، وهم أصحاب المعارف الصحيحة والأخلاق الفاضلة، والنفوس الكريمة العزيزة له أثر في النفس عظيم، فإن سليل الشرفاء جدير بأن يحافظ على كرامة نفسه فلا يدنسها بالخيانة، ثم أنه لا بد أن يرث شيئا من فضائلهم النفسية فيكون استعداده للخير أعظم في الغالب.
وإنك لتجد الأمم الراقية في العلم والاجتماع تختار ملوكها من سلالة الملوك والأمراء وتحافظ على قوانين الوراثة في ذلك، وما ارتقى عن هذا إلا أصحاب الحكومة الجمهورية، وقد جاء حكم الإسلام في هذه المسألة وسطا لم يغفل أمر النسب بالمرة لئلا تتسع دائرة الخلاف بطمع كل قبيلة في الإمامة الكبرى، ولم يجعل الأمر في بيت معين لما في ذلك من الغوائل، بل جعله في قبيلة عظيمة كثيرة العدد لا تخلو ممن هو أهل للإمامة، وهي محترمة في نفسها كانت محترمة في العصر الأول، ويرجى أن يدوم احترامها ما دام الإسلام الذي أتم الله نعمته على البشر بجعل رسول الله وخاتم النبيين منها ألا وهي قريش. فمن الحكمة في ذلك أن تظل الرياسة العليا للأمة مرتبطة بتاريخ ماضيها وقوم مؤسسها كارتباط دينها بوطنه في عبادتها الشخصية والاجتماعية وهما الصلاة والحج.
السابعة : إن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي ما استفدناه من قوله تعالى :﴿ إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ﴾ الآية كما تقدم.
الثامنة : هي ما أفاده قوله تعالى :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾ كما بيناه معززا بالشواهد من الكتاب العزيز على أن مشيئته تعالى إنما تنفذ بمقتضى سننه العامة في تغيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون ؟ ﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾ ( الأنبياء : ٤٤ ) أو لم يسمعوا دعوة الأنبياء بقوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ فاتقوا الله وأطيعون* ولا تطيعوا أمر المسرفين* الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ﴾ ( الشعراء : ١٥٠- ١٥٢ ) أيظن المسلم الغافل أن مشيئة الله تعالى في قوله :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ ( آل عمران : ٢٦ ) هي عبارة عن مخالفة سننه التي بينتها الآيات التي ذكرناها وما في معناها مما لم نذكره ؟ بل أقول ولا أخشى في الحق لومة لائم : أيظن المسلمون أن تنازع الأمم والدول على ممالكهم وسلبها من أيديهم مخالف لعدل الله العام وسننه الحكيمة التي جاء بها القرآن ؟ كلا إنه تعالى ما فرط في الكتاب من شيء، ولكنهم هم الذين فرطوا فذاقوا جزاء تفريطهم، فإن تابوا وأصلحوا تاب الله عليهم، وإلا فقد مضت سنة الأولين.
التاسعة : إن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر. وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول. فإذا أمر القائد بتسليم الديار أو الأموال أو الأنفس للأعداء وجب تسليمها في قانون كل دولة، نعم أنهم قرنوا بهذا الحق للقائد إيجابهم على أن يبرم الأمور باستشارة أهل الرأي في الفنون العسكرية وهم الذين يسمونهم أركان الحرب. ولكن هؤلاء ورئيسهم مقيدون بدستور الدولة العام، وبموافقة مجلس نواب الأمة على ما نص الدستور على وجوب موافقتهم عليه، ومن خالف ذلك يحاكم ويعاقب.
العاشرة : إن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات وطاعة القواد، الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد، مع طاعة القواد، لأن نصر الله مع الصابرين ـ أي جرت سنته بأن يكون النصر، أثرا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم، وهذا مشاهد في كل زمان، وهو كثير لا مطرد كما جاء في الآية الكريمة.
الحادية عشرة : إن الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاد، فإن الذي يؤمن بأن له إلها غالبا على أمره يمده بمعونته الإلهية، كما أمده بالقوى الروحية والجسدية، فإذا ظفر بإذنه كان مصلحا في الأرض مستعمرا فيها، وإذا قبضه إليه بانتهاء أجله المسمى كان في رحمته ناعما فيها، لهو جدير بأن يستخف بالأهوال، ويثبت في القتال ثبات الأجبال، وقد وافقنا كتاب الإفرنج في هذه المسألة، فصرحوا بأن من أسباب ثبات البوبر وبلائهم في حربهم للإنكليز كونهم أقوى إيمانا وأرسخ عقيدة، وجميع الأمم تشهد بأن الجيش العثماني أثبت جيوش العالم وأصبره وأشجعه، وقد تمنى قائد ألماني يعد من أشهر قواد الأرض لو أن له مئة ألف من هذا الجيش ليملك بها العالم، ذلك بأنه جيش يؤمن بلقاء الله تعالى إيمانا يقل في قواده من يساويه فيه٢.
الثانية عشرة : إن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى فإن الدعاء هو آية ذلك الإيمان الذي بينا فائدته آنفا ولذلك قال عز وجل في سورة الأنفال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ ( الأنفال : ٤٥ ) فيراجع تفسيرها في الجزء العاشر.
الثالثة عشرة : دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنن العامة وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعية في البشر لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة. وأنت ترى أن قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ ( البقرة : ٢٥١ ) ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة. ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وأنه جور وظلم، هم الواضعون له والحاكمون به، وأنه مخالف لهدى الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.
الرابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ لفسدت الأرض ﴾ يؤيد السنة التي يعبر عنها علماء الاجتماع بالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأمثل. ووجه ذلك جعل هذا من لوازم ما قبله، فإنه تعالى يقول إن ما فطر عليه الناس من مدافعة بعضهم بعضا من الحق والمصالحة هو المانع من فساد الأرض أي هو سبب بقاء الحق وبقاء الصلاح. ويعزز ذلك قوله تعالى في بيان حكمة الإذن للمسلمين بالقتال في سورة الحج :{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز* الذين إن مكناهم في الأرض وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأ
فصَلَ بالجنود : انفصل بهم من مقامهم وقادهم لقتال أعدائهم، وأصله : فصل نفسه عنه مصاحبا لهم، والجنود جمع جند بالضم وهو العسكر وأصله الأرض الغليظة ذات الحجارة ثم قيل لكل مجتمع قوي جند. والشرب تناول المائع بالفم وابتلاعه، وطَعِمَ الشيءَ من غذاء وشراب : ذاقه، قال الشاعر :
وإن شئت لم أطعم نقاحا ولا بردا١
والغرفة بالفتح المرة من غرف الشيء إذا رفعه من محله وتناوله وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو والحجازيون. والغرفة بالضم ما يغترف وبها قرأ ابن عامر والكوفيون.
لما كان بنو إسرائيل من قبل كارهين لملك طالوت عليهم ثم أذعنوا من بعد وكان إذعان الجميع ورضاهم مما لا يمكن العلم به إلا بالاختبار والابتلاء أراد الله أن يبتلي هذا القائد جنده ليعلم المطيع والعاصي والراضي والساخط، فيختار المطيع الذي يرجى بلاؤه في القتال، وثباته في معامع النزال، وينفي من يظهر عصيانه، ويخشى في الوغى خذلانه، فإن طاعة الجيش للقائد وثقته به من شروط الظفر، وأحوج القواد إلى اختبار الجيش من ولي على قوم وهم له كارهون، أو كان فيهم من يكرهه، فإذا وجد في الجيش من ليس متحدا معه يخشى أن يوضعوا خلاله يبغونه الفتنة ويسومونه الفشل، أخبر طالوت جنوده بأن سيمرون على نهر يمتحنهم به بإذن الله، فمن شرب منه فلا يعد من أشياعه المتحدين معه في أمر القتال إلا أن يكون ما يشربه قليلا وهو غرفة تؤخذ باليد، فإن هذا مما يتسامح فيه ولا يراه مانعا من الاتحاد به والاعتصام بحبله، ومن لم يطعمه أي يذقه بالمرة فإنه منه وهو الذي يركن إليه ويوثق به تمام الثقة.
فالابتلاء سيكون على ثلاث مراتب : مرتبة من يشرب فيروى لا يبالي بالأمر وحكمه أن يتبرأ منه، ومرتبة من يأخذ بيده غرفة يبل بها ريقه وهو مقبول في الجملة، ومرتبة من لا يذوقه البتة وهو الولي النصير الذي يوثق باتحاده، ويعول على جهاده.
قال تعالى :﴿ فشربوا منه إلا قليلا منهم ﴾ ذلك أن القوم كانوا قد فسد بأسهم وتزلزل إيمانهم، واعتادوا العصيان فسهل عليهم عصيانهم، وشق عليهم مخالفة الشهوة وإن كان فيها هوانهم، ولم يبق فيهم من أهل الصدق في الإيمان والغيرة على الملة والأمة إلا نفر قليل ﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ ( سبأ : ١٣ ) والعدد القليل من أهل العزائم، يفعل ما لا يفعل الكثير من ذوي المآثم، كما يعلم من قوله تعالى :﴿ فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه ﴾ أي فلما جاوز النهر طالوت هو والذين آمنوا معه ﴿ قالوا ﴾ أي الجنود وهم أولئك الذين شربوا منه إلا قليلا منهم ﴿ لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ﴾ الطاقة أدنى درجات القوة كما تقدم في تفسير آية الصيام، وجالوت هو أشهر أبطال أعدائهم الفلسطينيين وعرَّبَهُ النصارى الذين ترجموا سفر صموئيل الذي فيه القصة " جليات " ولا اعتداد بتعريبهم. والعبارة تشعر بأن جنود الفلسطينيين كانوا أكثر من الإسرائيليين. أي قال جمهور الجنود ليس لنا أدنى شيء من جنس الطاقة بلقاء جالوت وجنوده.
﴿ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ وهؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقوا الله في الآخرة هو الذين آمنوا وجاوزوا لأنه تعالى لم يذكرهم وظنوا أن القولين من المؤمنين الذين جاوزوا النهر قال ضعافهم لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده : قال أقويائهم : كم فئة قليلة الخ. ثم اشتد بعضهم بعزيمة بعض وكأن من أمر انتصارهم ما يأتي في الآية التي بعده هذه، والعبارة لا تدل على أن الذين شربوا من النهر لم يجاوزوه وإنما خص بالذكر الذين لم يشربوا لأنهم لم يتخلفوا عن طالوت لأجل الشرب، فهم الذين جاوزوه معه مقترنين وهم الذين يعتدهم منه ويتبرأ من المتخلفين كما علم من قوله في الابتلاء.
سياق الكلام فيمن فصل بهم من الجنود وابتلوا بالنهر. وقد قال فيهم إنهم شربوا منه إلا قليلا، ثم أعلمنا أن فريقا منم وصفهم بالمؤمنين جاوزوا النهر مع طالوت فعلمنا أنهم هم الذين أطاعوا ولم يشربوا، ثم أخبرنا بقولين يصلح أحدهما لمعارضة الآخر ورده ( الأول ) أسنده إلى ضمير الجماعة المحكي عنهم الذي قال فيهم إنهم شربوا منه إلا قليلا منهم، ومثله يصدر ممن خالف القائد وجبن عن القتال، و( الثاني ) أسنده إلى الذين يظنون أنهم ملاقو الله وهو ينطبق على الذين أطاعوا القائد واتحدوا معه فلم يعصوا ويتفق مع وصف الإيمان الذي سبقه، فعلمنا أن الجميع جاوزوا النهر وأن هذين القولين كانا بعد مجاوزته، فإن القوم افترقوا عند النهر فسبق من لم يشرب والتف حول القائد وجاوزوا النهر معه، وتخلف الآخرون قليلا للشرب والارتفاق بالماء ثم جاوزوا ولحقوا بالآخرين كما علم من محاورتهم معهم بما ظهر به أثر ما في نفس كل فريق منهما على لسانه.
ومن بديع إيجاز القرآن أن يحذف شيء ويأتي في السياق بما يدل عليه، وأن يذكر القوم بوصف غير ما دل عليه الكلام أو يجعله في مكان الضمير لإفادة أن هذا الوصف المذكور هو سبب في الفعل أو الوصف الذي سيق الكلام لتقريره، كما وصف الذين لم يشربوا بالإيمان مرة وباعتقاد لقاء الله تعالى مرة أخرى، فأعلمنا أن هذا الإيمان والاعتقاد هما سبب طاعة القائد وترك الشرك، وسبب الشجاعة والإقدام على لقاء العدو الذي يفوقهم عددا.
هذا ما ظهر لي في بيان هذه العبارة ويؤيده ما رواه ابن جرير عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : لما جاوزه هو والذين آمنوا معه قال الذين شربوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده :( قال ابن جرير ) : أولى القولين في ذلك بالصواب ما روي من ابن عباس وقاله السدي وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا غرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير، ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه وانخذل عن أهل الشرك والنفاق الخ. وفيه ذكر قول كل من الفريقين. ووسم من يقول بأنه لم يجاوز مع طالوت النهر إلا أهل الإيمان بالغفلة ورد عليه قوله.
وفي كتب اليهود أن الابتلاء بترك شرب الماء كان على يد جدعون قبل قصة طالوت، ويوردون ذلك لما لا يليق بالله تعالى ولكنه يوافق ما بنيت عليه حوادث تاريخهم من كونها كلها عجائب وخوارق عادات لا شيء منها مبني على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري. ففي الفصل السابع من سفر القضاة ما نصه :
" وقال الرب لجدعون إن الشعب الذي معك كثير علي لأدفع المديانيين بيدهم لئلا يفتخر علي إسرائيل قائلا يدي خلصتني. والآن ناد في آذان الشعب قائلا من كان خائفا ومرتعدا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد، فرجع من الشعب اثنان وعشرون ألفا وبقي عشرة آلاف، وقال الرب لجدعون لم يزل الشعب كثيرا، أنزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك هناك ويكون أن الذي أقول لك عنه هذا يذهب معك فهو يذهب معك، وكل من أقول عنه لا يذهب معك فهو لا يذهب، فنزل بالشعب إلى الماء، وقال الرب لجدعون كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب. كان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاثمائة رجل، وأما باقي الشعب جميعا فجثوا على ركبهم لشرب الماء : فقال الرب لجدعون بالثلاثمائة رجل الذين ولغوا أخلصكم وأدفع المديانيين ليدك. وأما سائر الشعب فليذهبوا كل واحد إلى مكانه " اه.
وقد علمت أن القوم خلطوا في تاريخهم، وأن أكثره لا يعرف كاتبوه ومنه سفر صموئيل الذي فيه قصة طالوت، وعبارته تدل على أنه كتب بعد حدوث وقائعه، فإن الكاتب يذكر بعض الأشياء ويقول إنها لا تزال إلى الآن كأن الزمن كان كافيا لأن تندس فيه جميع الرسوم والمعالم التي عهدت عند وقوع تلك الوقائع وهم لا يعرفون كاتبه، وإننا نرى المؤرخين في زمامنا يغلطون بما يقع في عهدهم غلطا أبعد من هذا الغلط في إسناد الشيء إلى غير فاعله وتقديمه أو تأخيره عن زمنه، وكما فات مؤرخي بني إسرائيل تحرير الوقائع والحوادث بالتدقيق، فاتهم ما فيها من العبر والحكم، فأين ما نقلناه في تفسير هذه القصة عنهم مما تجده في عبارة القرآن من صنوف العبرة ؟ فالحق ما قاله الله تعالى في مسألة النهر وغيرها، ولا يعتبر ما خالفه من أقوال سائر الكتب معارضا له فيحتاج إلى التوفيق أو الجواب كما تقدم في مقدمة تفسير هذه القصة والله أعلم وأحكم.
أذكر ما يظهر لي من السنن والأحكام الاجتماعية في آيات هذه القصة مفصلة معدودة لعلها توعى، وتحفظ فلا تنسى إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى : إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها، فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم وتفكر في سبيله، فتعلم أنها الوحدة التي يمثلها الزعيم العادل، والقائد الباسل، فتتوجه إلى طلبه حتى تجده كما وقع من بني إسرائيل بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.
الثانية : إن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها، وصيانة استقلالها، إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصها، فمتى كثر هؤلاء الخواص في أمة فإنهم هم الذين يطلبون الرئيس الذي يملك عليهم، كما علمت من إسناد طلب الملك إلى الملأ من بني إسرائيل وهم شيوخهم وأهل الفضل فيهم.
الثالثة : متى عظم الشعور في نفوس خواص الأمة بوجوب حفظ استقلالها، ودفع ضيم الأعداء عنها، فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النعرة والحمية للأمة ما عند الكامل، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور، انكشف عجز الأدعياء المدعين، ولم ينفع إلا صدق الصادقين، كما علم من قوله تعالى :﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قيلا منهم والله عليم بالظالمين ﴾.
الرابعة : إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس الذي يكون له الملك عليها، والاختلاف مدعاة التفرق، فيجب أن يكون هناك مرجع يقبله الجمهور من الأمة. لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم وطلبوا منه أن يختار لهم رجلا يكون ملكا عليهم. وقد جعل الإسلام المرجع لاختيار إمام المسلمين مبايعة أولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحل والعقد والمكانة في الأمة الذين هم عون السلطان وقوته باحترام الأمة لهم وثقتها بهم، لذلك لم ينصب النبي صلى الله عليه وسلم إماما للمسلمين في أمر الزعامة والحكم، ولكن استنبط بعض العظماء من الصحابة رضاء النبي صلى الله عليه وسلم بإمامة أبي بكر الدنيوية، بإنابته عنه في الإمامة الدينية، وهي إمامة الصلاة إذ أمر عندما اشتد مرضه، بأن يصلي أبو بكر بالناس مكانه، ومع هذا قال عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها. أي أن الشورى في انتخابه لم تكن تامة. وإنما كان هو الذي عجل بالبيعة خوفا من عاقبة طول أمد الخلاف مع إجماعهم على عدم دفن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نصب الخليفة له، ولكن خلافته وإمامته ( رض ) لم تثبت بالفعل إلا بمبايعة الأمة له.
الخامسة : إن الناس لا يتفقون على التقليد أو الاتباع فيما يرونه مخالفا لمصلحتهم الاجتماعية، ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين. ومن عجيب أمر الناس أن كلا منهم يحسب أنه يعرف الصواب في السياسة ونظام الاجتماع في الأمم والدول، فلا تعرض مسألة على عامي إلا ويبدي فيها رأيا يقيم عليه دليلا على أن هذا العلم هو أعلى من سائر العلوم التي يعترف الجاهلون بها بجهلهم، فلا يحكمون فيها كما يحكمون في علم السياسة والاجتماع. وما يعقله إلا الأفراد من الناس، ومن فروع هذه القاعدة أن عامة المسلمين لهذا العهد يرون أن الدعوة إلى جعل الخلافة موافقة للقواعد الشرعية التي يعتقدونها مخالفة لمصلحتهم، وكثير منهم يعد الداعي إلى ذلك عدوا لهم بل للإسلام نفسه١.
السادسة : إن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة كما علم من قول المنكرين على ملك طالوت في تأييد إنكارهم [ ولم يؤت سعة من المال ] وأصحاب الأنساب الشريفة، كما علم مما فسر به العلماء قوله لهم، ﴿ ونحن أحق بالملك منه ﴾. فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلة خاص، فإنها هي التي تخضع لأصحاب العظمة الوهمية، وهي التي ليست صفة لنفس صاحبها كالمال والانتساب إلى بعض العظماء في عرفهم، سواء كانت عظمتهم بحق أو بغير حق. هذا موضع الخطأ في تعظيم ذي النسب، ويشتد خطره إذا صار أهل الأنساب يستعلون على الناس بأنسابهم دون علومهم وأعمالهم. والقرآن لم يصرح بأن ذلك هو وجه قولهم أنهم أحق بالملك. وفي المسألة نظر لا محل هنا لبسطه، ولكن نقول بالإجمال إن الانتساب إلى أهل الشرف الحقيقي، وهم أصحاب المعارف الصحيحة والأخلاق الفاضلة، والنفوس الكريمة العزيزة له أثر في النفس عظيم، فإن سليل الشرفاء جدير بأن يحافظ على كرامة نفسه فلا يدنسها بالخيانة، ثم أنه لا بد أن يرث شيئا من فضائلهم النفسية فيكون استعداده للخير أعظم في الغالب.
وإنك لتجد الأمم الراقية في العلم والاجتماع تختار ملوكها من سلالة الملوك والأمراء وتحافظ على قوانين الوراثة في ذلك، وما ارتقى عن هذا إلا أصحاب الحكومة الجمهورية، وقد جاء حكم الإسلام في هذه المسألة وسطا لم يغفل أمر النسب بالمرة لئلا تتسع دائرة الخلاف بطمع كل قبيلة في الإمامة الكبرى، ولم يجعل الأمر في بيت معين لما في ذلك من الغوائل، بل جعله في قبيلة عظيمة كثيرة العدد لا تخلو ممن هو أهل للإمامة، وهي محترمة في نفسها كانت محترمة في العصر الأول، ويرجى أن يدوم احترامها ما دام الإسلام الذي أتم الله نعمته على البشر بجعل رسول الله وخاتم النبيين منها ألا وهي قريش. فمن الحكمة في ذلك أن تظل الرياسة العليا للأمة مرتبطة بتاريخ ماضيها وقوم مؤسسها كارتباط دينها بوطنه في عبادتها الشخصية والاجتماعية وهما الصلاة والحج.
السابعة : إن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي ما استفدناه من قوله تعالى :﴿ إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ﴾ الآية كما تقدم.
الثامنة : هي ما أفاده قوله تعالى :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾ كما بيناه معززا بالشواهد من الكتاب العزيز على أن مشيئته تعالى إنما تنفذ بمقتضى سننه العامة في تغيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون ؟ ﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾ ( الأنبياء : ٤٤ ) أو لم يسمعوا دعوة الأنبياء بقوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ فاتقوا الله وأطيعون* ولا تطيعوا أمر المسرفين* الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ﴾ ( الشعراء : ١٥٠- ١٥٢ ) أيظن المسلم الغافل أن مشيئة الله تعالى في قوله :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ ( آل عمران : ٢٦ ) هي عبارة عن مخالفة سننه التي بينتها الآيات التي ذكرناها وما في معناها مما لم نذكره ؟ بل أقول ولا أخشى في الحق لومة لائم : أيظن المسلمون أن تنازع الأمم والدول على ممالكهم وسلبها من أيديهم مخالف لعدل الله العام وسننه الحكيمة التي جاء بها القرآن ؟ كلا إنه تعالى ما فرط في الكتاب من شيء، ولكنهم هم الذين فرطوا فذاقوا جزاء تفريطهم، فإن تابوا وأصلحوا تاب الله عليهم، وإلا فقد مضت سنة الأولين.
التاسعة : إن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر. وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول. فإذا أمر القائد بتسليم الديار أو الأموال أو الأنفس للأعداء وجب تسليمها في قانون كل دولة، نعم أنهم قرنوا بهذا الحق للقائد إيجابهم على أن يبرم الأمور باستشارة أهل الرأي في الفنون العسكرية وهم الذين يسمونهم أركان الحرب. ولكن هؤلاء ورئيسهم مقيدون بدستور الدولة العام، وبموافقة مجلس نواب الأمة على ما نص الدستور على وجوب موافقتهم عليه، ومن خالف ذلك يحاكم ويعاقب.
العاشرة : إن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات وطاعة القواد، الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد، مع طاعة القواد، لأن نصر الله مع الصابرين ـ أي جرت سنته بأن يكون النصر، أثرا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم، وهذا مشاهد في كل زمان، وهو كثير لا مطرد كما جاء في الآية الكريمة.
الحادية عشرة : إن الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاد، فإن الذي يؤمن بأن له إلها غالبا على أمره يمده بمعونته الإلهية، كما أمده بالقوى الروحية والجسدية، فإذا ظفر بإذنه كان مصلحا في الأرض مستعمرا فيها، وإذا قبضه إليه بانتهاء أجله المسمى كان في رحمته ناعما فيها، لهو جدير بأن يستخف بالأهوال، ويثبت في القتال ثبات الأجبال، وقد وافقنا كتاب الإفرنج في هذه المسألة، فصرحوا بأن من أسباب ثبات البوبر وبلائهم في حربهم للإنكليز كونهم أقوى إيمانا وأرسخ عقيدة، وجميع الأمم تشهد بأن الجيش العثماني أثبت جيوش العالم وأصبره وأشجعه، وقد تمنى قائد ألماني يعد من أشهر قواد الأرض لو أن له مئة ألف من هذا الجيش ليملك بها العالم، ذلك بأنه جيش يؤمن بلقاء الله تعالى إيمانا يقل في قواده من يساويه فيه٢.
الثانية عشرة : إن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى فإن الدعاء هو آية ذلك الإيمان الذي بينا فائدته آنفا ولذلك قال عز وجل في سورة الأنفال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ ( الأنفال : ٤٥ ) فيراجع تفسيرها في الجزء العاشر.
الثالثة عشرة : دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنن العامة وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعية في البشر لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة. وأنت ترى أن قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ ( البقرة : ٢٥١ ) ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة. ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وأنه جور وظلم، هم الواضعون له والحاكمون به، وأنه مخالف لهدى الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.
الرابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ لفسدت الأرض ﴾ يؤيد السنة التي يعبر عنها علماء الاجتماع بالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأمثل. ووجه ذلك جعل هذا من لوازم ما قبله، فإنه تعالى يقول إن ما فطر عليه الناس من مدافعة بعضهم بعضا من الحق والمصالحة هو المانع من فساد الأرض أي هو سبب بقاء الحق وبقاء الصلاح. ويعزز ذلك قوله تعالى في بيان حكمة الإذن للمسلمين بالقتال في سورة الحج :{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز* الذين إن مكناهم في الأرض وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأ
والبيت من الطويل، وهو للعرجي في ديوانه ص ١٠٩، ولسان العرب (نقح)، (برد)، والتنبيه والإيضاح ١/٢٩٢، ٢/١٠، وتاج العروس (نقح)، (برد)، ولعمر بن أبي ربيعة في دوانه ص ٣١٥، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ١/٢٤٣، وديوان الأدب ١/١٠٢، وتهذيب اللغة ١٤/١٠٥، ويروي البيت للحارث بن خالد المخزومي وهو في ديوانه ص ١١٧..
أذكر ما يظهر لي من السنن والأحكام الاجتماعية في آيات هذه القصة مفصلة معدودة لعلها توعى، وتحفظ فلا تنسى إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى : إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها، فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم وتفكر في سبيله، فتعلم أنها الوحدة التي يمثلها الزعيم العادل، والقائد الباسل، فتتوجه إلى طلبه حتى تجده كما وقع من بني إسرائيل بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.
الثانية : إن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها، وصيانة استقلالها، إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصها، فمتى كثر هؤلاء الخواص في أمة فإنهم هم الذين يطلبون الرئيس الذي يملك عليهم، كما علمت من إسناد طلب الملك إلى الملأ من بني إسرائيل وهم شيوخهم وأهل الفضل فيهم.
الثالثة : متى عظم الشعور في نفوس خواص الأمة بوجوب حفظ استقلالها، ودفع ضيم الأعداء عنها، فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النعرة والحمية للأمة ما عند الكامل، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور، انكشف عجز الأدعياء المدعين، ولم ينفع إلا صدق الصادقين، كما علم من قوله تعالى :﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قيلا منهم والله عليم بالظالمين ﴾.
الرابعة : إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس الذي يكون له الملك عليها، والاختلاف مدعاة التفرق، فيجب أن يكون هناك مرجع يقبله الجمهور من الأمة. لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم وطلبوا منه أن يختار لهم رجلا يكون ملكا عليهم. وقد جعل الإسلام المرجع لاختيار إمام المسلمين مبايعة أولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحل والعقد والمكانة في الأمة الذين هم عون السلطان وقوته باحترام الأمة لهم وثقتها بهم، لذلك لم ينصب النبي صلى الله عليه وسلم إماما للمسلمين في أمر الزعامة والحكم، ولكن استنبط بعض العظماء من الصحابة رضاء النبي صلى الله عليه وسلم بإمامة أبي بكر الدنيوية، بإنابته عنه في الإمامة الدينية، وهي إمامة الصلاة إذ أمر عندما اشتد مرضه، بأن يصلي أبو بكر بالناس مكانه، ومع هذا قال عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها. أي أن الشورى في انتخابه لم تكن تامة. وإنما كان هو الذي عجل بالبيعة خوفا من عاقبة طول أمد الخلاف مع إجماعهم على عدم دفن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نصب الخليفة له، ولكن خلافته وإمامته ( رض ) لم تثبت بالفعل إلا بمبايعة الأمة له.
الخامسة : إن الناس لا يتفقون على التقليد أو الاتباع فيما يرونه مخالفا لمصلحتهم الاجتماعية، ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين. ومن عجيب أمر الناس أن كلا منهم يحسب أنه يعرف الصواب في السياسة ونظام الاجتماع في الأمم والدول، فلا تعرض مسألة على عامي إلا ويبدي فيها رأيا يقيم عليه دليلا على أن هذا العلم هو أعلى من سائر العلوم التي يعترف الجاهلون بها بجهلهم، فلا يحكمون فيها كما يحكمون في علم السياسة والاجتماع. وما يعقله إلا الأفراد من الناس، ومن فروع هذه القاعدة أن عامة المسلمين لهذا العهد يرون أن الدعوة إلى جعل الخلافة موافقة للقواعد الشرعية التي يعتقدونها مخالفة لمصلحتهم، وكثير منهم يعد الداعي إلى ذلك عدوا لهم بل للإسلام نفسه١.
السادسة : إن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة كما علم من قول المنكرين على ملك طالوت في تأييد إنكارهم [ ولم يؤت سعة من المال ] وأصحاب الأنساب الشريفة، كما علم مما فسر به العلماء قوله لهم، ﴿ ونحن أحق بالملك منه ﴾. فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلة خاص، فإنها هي التي تخضع لأصحاب العظمة الوهمية، وهي التي ليست صفة لنفس صاحبها كالمال والانتساب إلى بعض العظماء في عرفهم، سواء كانت عظمتهم بحق أو بغير حق. هذا موضع الخطأ في تعظيم ذي النسب، ويشتد خطره إذا صار أهل الأنساب يستعلون على الناس بأنسابهم دون علومهم وأعمالهم. والقرآن لم يصرح بأن ذلك هو وجه قولهم أنهم أحق بالملك. وفي المسألة نظر لا محل هنا لبسطه، ولكن نقول بالإجمال إن الانتساب إلى أهل الشرف الحقيقي، وهم أصحاب المعارف الصحيحة والأخلاق الفاضلة، والنفوس الكريمة العزيزة له أثر في النفس عظيم، فإن سليل الشرفاء جدير بأن يحافظ على كرامة نفسه فلا يدنسها بالخيانة، ثم أنه لا بد أن يرث شيئا من فضائلهم النفسية فيكون استعداده للخير أعظم في الغالب.
وإنك لتجد الأمم الراقية في العلم والاجتماع تختار ملوكها من سلالة الملوك والأمراء وتحافظ على قوانين الوراثة في ذلك، وما ارتقى عن هذا إلا أصحاب الحكومة الجمهورية، وقد جاء حكم الإسلام في هذه المسألة وسطا لم يغفل أمر النسب بالمرة لئلا تتسع دائرة الخلاف بطمع كل قبيلة في الإمامة الكبرى، ولم يجعل الأمر في بيت معين لما في ذلك من الغوائل، بل جعله في قبيلة عظيمة كثيرة العدد لا تخلو ممن هو أهل للإمامة، وهي محترمة في نفسها كانت محترمة في العصر الأول، ويرجى أن يدوم احترامها ما دام الإسلام الذي أتم الله نعمته على البشر بجعل رسول الله وخاتم النبيين منها ألا وهي قريش. فمن الحكمة في ذلك أن تظل الرياسة العليا للأمة مرتبطة بتاريخ ماضيها وقوم مؤسسها كارتباط دينها بوطنه في عبادتها الشخصية والاجتماعية وهما الصلاة والحج.
السابعة : إن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي ما استفدناه من قوله تعالى :﴿ إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ﴾ الآية كما تقدم.
الثامنة : هي ما أفاده قوله تعالى :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾ كما بيناه معززا بالشواهد من الكتاب العزيز على أن مشيئته تعالى إنما تنفذ بمقتضى سننه العامة في تغيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون ؟ ﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾ ( الأنبياء : ٤٤ ) أو لم يسمعوا دعوة الأنبياء بقوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ فاتقوا الله وأطيعون* ولا تطيعوا أمر المسرفين* الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ﴾ ( الشعراء : ١٥٠- ١٥٢ ) أيظن المسلم الغافل أن مشيئة الله تعالى في قوله :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ ( آل عمران : ٢٦ ) هي عبارة عن مخالفة سننه التي بينتها الآيات التي ذكرناها وما في معناها مما لم نذكره ؟ بل أقول ولا أخشى في الحق لومة لائم : أيظن المسلمون أن تنازع الأمم والدول على ممالكهم وسلبها من أيديهم مخالف لعدل الله العام وسننه الحكيمة التي جاء بها القرآن ؟ كلا إنه تعالى ما فرط في الكتاب من شيء، ولكنهم هم الذين فرطوا فذاقوا جزاء تفريطهم، فإن تابوا وأصلحوا تاب الله عليهم، وإلا فقد مضت سنة الأولين.
التاسعة : إن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر. وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول. فإذا أمر القائد بتسليم الديار أو الأموال أو الأنفس للأعداء وجب تسليمها في قانون كل دولة، نعم أنهم قرنوا بهذا الحق للقائد إيجابهم على أن يبرم الأمور باستشارة أهل الرأي في الفنون العسكرية وهم الذين يسمونهم أركان الحرب. ولكن هؤلاء ورئيسهم مقيدون بدستور الدولة العام، وبموافقة مجلس نواب الأمة على ما نص الدستور على وجوب موافقتهم عليه، ومن خالف ذلك يحاكم ويعاقب.
العاشرة : إن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات وطاعة القواد، الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد، مع طاعة القواد، لأن نصر الله مع الصابرين ـ أي جرت سنته بأن يكون النصر، أثرا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم، وهذا مشاهد في كل زمان، وهو كثير لا مطرد كما جاء في الآية الكريمة.
الحادية عشرة : إن الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاد، فإن الذي يؤمن بأن له إلها غالبا على أمره يمده بمعونته الإلهية، كما أمده بالقوى الروحية والجسدية، فإذا ظفر بإذنه كان مصلحا في الأرض مستعمرا فيها، وإذا قبضه إليه بانتهاء أجله المسمى كان في رحمته ناعما فيها، لهو جدير بأن يستخف بالأهوال، ويثبت في القتال ثبات الأجبال، وقد وافقنا كتاب الإفرنج في هذه المسألة، فصرحوا بأن من أسباب ثبات البوبر وبلائهم في حربهم للإنكليز كونهم أقوى إيمانا وأرسخ عقيدة، وجميع الأمم تشهد بأن الجيش العثماني أثبت جيوش العالم وأصبره وأشجعه، وقد تمنى قائد ألماني يعد من أشهر قواد الأرض لو أن له مئة ألف من هذا الجيش ليملك بها العالم، ذلك بأنه جيش يؤمن بلقاء الله تعالى إيمانا يقل في قواده من يساويه فيه٢.
الثانية عشرة : إن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى فإن الدعاء هو آية ذلك الإيمان الذي بينا فائدته آنفا ولذلك قال عز وجل في سورة الأنفال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ ( الأنفال : ٤٥ ) فيراجع تفسيرها في الجزء العاشر.
الثالثة عشرة : دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنن العامة وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعية في البشر لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة. وأنت ترى أن قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ ( البقرة : ٢٥١ ) ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة. ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وأنه جور وظلم، هم الواضعون له والحاكمون به، وأنه مخالف لهدى الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.
الرابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ لفسدت الأرض ﴾ يؤيد السنة التي يعبر عنها علماء الاجتماع بالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأمثل. ووجه ذلك جعل هذا من لوازم ما قبله، فإنه تعالى يقول إن ما فطر عليه الناس من مدافعة بعضهم بعضا من الحق والمصالحة هو المانع من فساد الأرض أي هو سبب بقاء الحق وبقاء الصلاح. ويعزز ذلك قوله تعالى في بيان حكمة الإذن للمسلمين بالقتال في سورة الحج :{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز* الذين إن مكناهم في الأرض وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأ
ثم بين تعالى حكمة الإذن بالقتال الذي قررته الآيات فقال :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ﴾ قرأ نافع " دفاع الله " والباقون " دفع الله " أي لولا أن الله تعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق وأهل الفساد في الأرض بأهل الإصلاح فيها. لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض وبغوا على الصالحين وأوقعوا بهم، حتى يكون لهم السلطان وحدهم، فتفسد الأرض بفسادهم، فكان من فضل الله على العالمين وإحسانه إلى الناس أجمعين، أن أذن لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض، بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين، فأهل الحق حرب لأهل الباطل في كل زمان، والله ناصرهم ما نصروا الحق وأرادوا الإصلاح في الأرض. وقد سمي هذا دفعا على قراءة الجمهور باعتبار أنه منه سبحانه، إذ كان سنة من سننه في الاجتماع البشري، وسماه دفاعا في قراءة نافع باعتبار أن كلا من أهل الحق المصلحين وأهل الباطل المفسدين يقاوم الآخر ويقاتله.
أذكر ما يظهر لي من السنن والأحكام الاجتماعية في آيات هذه القصة مفصلة معدودة لعلها توعى، وتحفظ فلا تنسى إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى : إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها، فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم وتفكر في سبيله، فتعلم أنها الوحدة التي يمثلها الزعيم العادل، والقائد الباسل، فتتوجه إلى طلبه حتى تجده كما وقع من بني إسرائيل بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.
الثانية : إن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها، وصيانة استقلالها، إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصها، فمتى كثر هؤلاء الخواص في أمة فإنهم هم الذين يطلبون الرئيس الذي يملك عليهم، كما علمت من إسناد طلب الملك إلى الملأ من بني إسرائيل وهم شيوخهم وأهل الفضل فيهم.
الثالثة : متى عظم الشعور في نفوس خواص الأمة بوجوب حفظ استقلالها، ودفع ضيم الأعداء عنها، فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النعرة والحمية للأمة ما عند الكامل، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور، انكشف عجز الأدعياء المدعين، ولم ينفع إلا صدق الصادقين، كما علم من قوله تعالى :﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قيلا منهم والله عليم بالظالمين ﴾.
الرابعة : إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس الذي يكون له الملك عليها، والاختلاف مدعاة التفرق، فيجب أن يكون هناك مرجع يقبله الجمهور من الأمة. لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم وطلبوا منه أن يختار لهم رجلا يكون ملكا عليهم. وقد جعل الإسلام المرجع لاختيار إمام المسلمين مبايعة أولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحل والعقد والمكانة في الأمة الذين هم عون السلطان وقوته باحترام الأمة لهم وثقتها بهم، لذلك لم ينصب النبي صلى الله عليه وسلم إماما للمسلمين في أمر الزعامة والحكم، ولكن استنبط بعض العظماء من الصحابة رضاء النبي صلى الله عليه وسلم بإمامة أبي بكر الدنيوية، بإنابته عنه في الإمامة الدينية، وهي إمامة الصلاة إذ أمر عندما اشتد مرضه، بأن يصلي أبو بكر بالناس مكانه، ومع هذا قال عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها. أي أن الشورى في انتخابه لم تكن تامة. وإنما كان هو الذي عجل بالبيعة خوفا من عاقبة طول أمد الخلاف مع إجماعهم على عدم دفن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نصب الخليفة له، ولكن خلافته وإمامته ( رض ) لم تثبت بالفعل إلا بمبايعة الأمة له.
الخامسة : إن الناس لا يتفقون على التقليد أو الاتباع فيما يرونه مخالفا لمصلحتهم الاجتماعية، ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين. ومن عجيب أمر الناس أن كلا منهم يحسب أنه يعرف الصواب في السياسة ونظام الاجتماع في الأمم والدول، فلا تعرض مسألة على عامي إلا ويبدي فيها رأيا يقيم عليه دليلا على أن هذا العلم هو أعلى من سائر العلوم التي يعترف الجاهلون بها بجهلهم، فلا يحكمون فيها كما يحكمون في علم السياسة والاجتماع. وما يعقله إلا الأفراد من الناس، ومن فروع هذه القاعدة أن عامة المسلمين لهذا العهد يرون أن الدعوة إلى جعل الخلافة موافقة للقواعد الشرعية التي يعتقدونها مخالفة لمصلحتهم، وكثير منهم يعد الداعي إلى ذلك عدوا لهم بل للإسلام نفسه١.
السادسة : إن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة كما علم من قول المنكرين على ملك طالوت في تأييد إنكارهم [ ولم يؤت سعة من المال ] وأصحاب الأنساب الشريفة، كما علم مما فسر به العلماء قوله لهم، ﴿ ونحن أحق بالملك منه ﴾. فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلة خاص، فإنها هي التي تخضع لأصحاب العظمة الوهمية، وهي التي ليست صفة لنفس صاحبها كالمال والانتساب إلى بعض العظماء في عرفهم، سواء كانت عظمتهم بحق أو بغير حق. هذا موضع الخطأ في تعظيم ذي النسب، ويشتد خطره إذا صار أهل الأنساب يستعلون على الناس بأنسابهم دون علومهم وأعمالهم. والقرآن لم يصرح بأن ذلك هو وجه قولهم أنهم أحق بالملك. وفي المسألة نظر لا محل هنا لبسطه، ولكن نقول بالإجمال إن الانتساب إلى أهل الشرف الحقيقي، وهم أصحاب المعارف الصحيحة والأخلاق الفاضلة، والنفوس الكريمة العزيزة له أثر في النفس عظيم، فإن سليل الشرفاء جدير بأن يحافظ على كرامة نفسه فلا يدنسها بالخيانة، ثم أنه لا بد أن يرث شيئا من فضائلهم النفسية فيكون استعداده للخير أعظم في الغالب.
وإنك لتجد الأمم الراقية في العلم والاجتماع تختار ملوكها من سلالة الملوك والأمراء وتحافظ على قوانين الوراثة في ذلك، وما ارتقى عن هذا إلا أصحاب الحكومة الجمهورية، وقد جاء حكم الإسلام في هذه المسألة وسطا لم يغفل أمر النسب بالمرة لئلا تتسع دائرة الخلاف بطمع كل قبيلة في الإمامة الكبرى، ولم يجعل الأمر في بيت معين لما في ذلك من الغوائل، بل جعله في قبيلة عظيمة كثيرة العدد لا تخلو ممن هو أهل للإمامة، وهي محترمة في نفسها كانت محترمة في العصر الأول، ويرجى أن يدوم احترامها ما دام الإسلام الذي أتم الله نعمته على البشر بجعل رسول الله وخاتم النبيين منها ألا وهي قريش. فمن الحكمة في ذلك أن تظل الرياسة العليا للأمة مرتبطة بتاريخ ماضيها وقوم مؤسسها كارتباط دينها بوطنه في عبادتها الشخصية والاجتماعية وهما الصلاة والحج.
السابعة : إن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي ما استفدناه من قوله تعالى :﴿ إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ﴾ الآية كما تقدم.
الثامنة : هي ما أفاده قوله تعالى :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾ كما بيناه معززا بالشواهد من الكتاب العزيز على أن مشيئته تعالى إنما تنفذ بمقتضى سننه العامة في تغيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون ؟ ﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾ ( الأنبياء : ٤٤ ) أو لم يسمعوا دعوة الأنبياء بقوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ فاتقوا الله وأطيعون* ولا تطيعوا أمر المسرفين* الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ﴾ ( الشعراء : ١٥٠- ١٥٢ ) أيظن المسلم الغافل أن مشيئة الله تعالى في قوله :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ ( آل عمران : ٢٦ ) هي عبارة عن مخالفة سننه التي بينتها الآيات التي ذكرناها وما في معناها مما لم نذكره ؟ بل أقول ولا أخشى في الحق لومة لائم : أيظن المسلمون أن تنازع الأمم والدول على ممالكهم وسلبها من أيديهم مخالف لعدل الله العام وسننه الحكيمة التي جاء بها القرآن ؟ كلا إنه تعالى ما فرط في الكتاب من شيء، ولكنهم هم الذين فرطوا فذاقوا جزاء تفريطهم، فإن تابوا وأصلحوا تاب الله عليهم، وإلا فقد مضت سنة الأولين.
التاسعة : إن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر. وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول. فإذا أمر القائد بتسليم الديار أو الأموال أو الأنفس للأعداء وجب تسليمها في قانون كل دولة، نعم أنهم قرنوا بهذا الحق للقائد إيجابهم على أن يبرم الأمور باستشارة أهل الرأي في الفنون العسكرية وهم الذين يسمونهم أركان الحرب. ولكن هؤلاء ورئيسهم مقيدون بدستور الدولة العام، وبموافقة مجلس نواب الأمة على ما نص الدستور على وجوب موافقتهم عليه، ومن خالف ذلك يحاكم ويعاقب.
العاشرة : إن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات وطاعة القواد، الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد، مع طاعة القواد، لأن نصر الله مع الصابرين ـ أي جرت سنته بأن يكون النصر، أثرا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم، وهذا مشاهد في كل زمان، وهو كثير لا مطرد كما جاء في الآية الكريمة.
الحادية عشرة : إن الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاد، فإن الذي يؤمن بأن له إلها غالبا على أمره يمده بمعونته الإلهية، كما أمده بالقوى الروحية والجسدية، فإذا ظفر بإذنه كان مصلحا في الأرض مستعمرا فيها، وإذا قبضه إليه بانتهاء أجله المسمى كان في رحمته ناعما فيها، لهو جدير بأن يستخف بالأهوال، ويثبت في القتال ثبات الأجبال، وقد وافقنا كتاب الإفرنج في هذه المسألة، فصرحوا بأن من أسباب ثبات البوبر وبلائهم في حربهم للإنكليز كونهم أقوى إيمانا وأرسخ عقيدة، وجميع الأمم تشهد بأن الجيش العثماني أثبت جيوش العالم وأصبره وأشجعه، وقد تمنى قائد ألماني يعد من أشهر قواد الأرض لو أن له مئة ألف من هذا الجيش ليملك بها العالم، ذلك بأنه جيش يؤمن بلقاء الله تعالى إيمانا يقل في قواده من يساويه فيه٢.
الثانية عشرة : إن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى فإن الدعاء هو آية ذلك الإيمان الذي بينا فائدته آنفا ولذلك قال عز وجل في سورة الأنفال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ ( الأنفال : ٤٥ ) فيراجع تفسيرها في الجزء العاشر.
الثالثة عشرة : دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنن العامة وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعية في البشر لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة. وأنت ترى أن قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ ( البقرة : ٢٥١ ) ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة. ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وأنه جور وظلم، هم الواضعون له والحاكمون به، وأنه مخالف لهدى الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.
الرابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ لفسدت الأرض ﴾ يؤيد السنة التي يعبر عنها علماء الاجتماع بالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأمثل. ووجه ذلك جعل هذا من لوازم ما قبله، فإنه تعالى يقول إن ما فطر عليه الناس من مدافعة بعضهم بعضا من الحق والمصالحة هو المانع من فساد الأرض أي هو سبب بقاء الحق وبقاء الصلاح. ويعزز ذلك قوله تعالى في بيان حكمة الإذن للمسلمين بالقتال في سورة الحج :{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز* الذين إن مكناهم في الأرض وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأ
أذكر ما يظهر لي من السنن والأحكام الاجتماعية في آيات هذه القصة مفصلة معدودة لعلها توعى، وتحفظ فلا تنسى إن شاء الله تعالى.
السنة الأولى : إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها، فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم وتفكر في سبيله، فتعلم أنها الوحدة التي يمثلها الزعيم العادل، والقائد الباسل، فتتوجه إلى طلبه حتى تجده كما وقع من بني إسرائيل بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.
الثانية : إن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها، وصيانة استقلالها، إنما يكون على حقيقته وكماله في خواصها، فمتى كثر هؤلاء الخواص في أمة فإنهم هم الذين يطلبون الرئيس الذي يملك عليهم، كما علمت من إسناد طلب الملك إلى الملأ من بني إسرائيل وهم شيوخهم وأهل الفضل فيهم.
الثالثة : متى عظم الشعور في نفوس خواص الأمة بوجوب حفظ استقلالها، ودفع ضيم الأعداء عنها، فإنه لا يلبث أن يسري إلى عامتها، فيظن الناقص أن عنده من النعرة والحمية للأمة ما عند الكامل، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور، انكشف عجز الأدعياء المدعين، ولم ينفع إلا صدق الصادقين، كما علم من قوله تعالى :﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قيلا منهم والله عليم بالظالمين ﴾.
الرابعة : إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس الذي يكون له الملك عليها، والاختلاف مدعاة التفرق، فيجب أن يكون هناك مرجع يقبله الجمهور من الأمة. لذلك لجأ الملأ من بني إسرائيل إلى نبيهم وطلبوا منه أن يختار لهم رجلا يكون ملكا عليهم. وقد جعل الإسلام المرجع لاختيار إمام المسلمين مبايعة أولي الأمر لمن يختارونه من أنفسهم، وهم أهل الحل والعقد والمكانة في الأمة الذين هم عون السلطان وقوته باحترام الأمة لهم وثقتها بهم، لذلك لم ينصب النبي صلى الله عليه وسلم إماما للمسلمين في أمر الزعامة والحكم، ولكن استنبط بعض العظماء من الصحابة رضاء النبي صلى الله عليه وسلم بإمامة أبي بكر الدنيوية، بإنابته عنه في الإمامة الدينية، وهي إمامة الصلاة إذ أمر عندما اشتد مرضه، بأن يصلي أبو بكر بالناس مكانه، ومع هذا قال عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها. أي أن الشورى في انتخابه لم تكن تامة. وإنما كان هو الذي عجل بالبيعة خوفا من عاقبة طول أمد الخلاف مع إجماعهم على عدم دفن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نصب الخليفة له، ولكن خلافته وإمامته ( رض ) لم تثبت بالفعل إلا بمبايعة الأمة له.
الخامسة : إن الناس لا يتفقون على التقليد أو الاتباع فيما يرونه مخالفا لمصلحتهم الاجتماعية، ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين. ومن عجيب أمر الناس أن كلا منهم يحسب أنه يعرف الصواب في السياسة ونظام الاجتماع في الأمم والدول، فلا تعرض مسألة على عامي إلا ويبدي فيها رأيا يقيم عليه دليلا على أن هذا العلم هو أعلى من سائر العلوم التي يعترف الجاهلون بها بجهلهم، فلا يحكمون فيها كما يحكمون في علم السياسة والاجتماع. وما يعقله إلا الأفراد من الناس، ومن فروع هذه القاعدة أن عامة المسلمين لهذا العهد يرون أن الدعوة إلى جعل الخلافة موافقة للقواعد الشرعية التي يعتقدونها مخالفة لمصلحتهم، وكثير منهم يعد الداعي إلى ذلك عدوا لهم بل للإسلام نفسه١.
السادسة : إن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة كما علم من قول المنكرين على ملك طالوت في تأييد إنكارهم [ ولم يؤت سعة من المال ] وأصحاب الأنساب الشريفة، كما علم مما فسر به العلماء قوله لهم، ﴿ ونحن أحق بالملك منه ﴾. فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلة خاص، فإنها هي التي تخضع لأصحاب العظمة الوهمية، وهي التي ليست صفة لنفس صاحبها كالمال والانتساب إلى بعض العظماء في عرفهم، سواء كانت عظمتهم بحق أو بغير حق. هذا موضع الخطأ في تعظيم ذي النسب، ويشتد خطره إذا صار أهل الأنساب يستعلون على الناس بأنسابهم دون علومهم وأعمالهم. والقرآن لم يصرح بأن ذلك هو وجه قولهم أنهم أحق بالملك. وفي المسألة نظر لا محل هنا لبسطه، ولكن نقول بالإجمال إن الانتساب إلى أهل الشرف الحقيقي، وهم أصحاب المعارف الصحيحة والأخلاق الفاضلة، والنفوس الكريمة العزيزة له أثر في النفس عظيم، فإن سليل الشرفاء جدير بأن يحافظ على كرامة نفسه فلا يدنسها بالخيانة، ثم أنه لا بد أن يرث شيئا من فضائلهم النفسية فيكون استعداده للخير أعظم في الغالب.
وإنك لتجد الأمم الراقية في العلم والاجتماع تختار ملوكها من سلالة الملوك والأمراء وتحافظ على قوانين الوراثة في ذلك، وما ارتقى عن هذا إلا أصحاب الحكومة الجمهورية، وقد جاء حكم الإسلام في هذه المسألة وسطا لم يغفل أمر النسب بالمرة لئلا تتسع دائرة الخلاف بطمع كل قبيلة في الإمامة الكبرى، ولم يجعل الأمر في بيت معين لما في ذلك من الغوائل، بل جعله في قبيلة عظيمة كثيرة العدد لا تخلو ممن هو أهل للإمامة، وهي محترمة في نفسها كانت محترمة في العصر الأول، ويرجى أن يدوم احترامها ما دام الإسلام الذي أتم الله نعمته على البشر بجعل رسول الله وخاتم النبيين منها ألا وهي قريش. فمن الحكمة في ذلك أن تظل الرياسة العليا للأمة مرتبطة بتاريخ ماضيها وقوم مؤسسها كارتباط دينها بوطنه في عبادتها الشخصية والاجتماعية وهما الصلاة والحج.
السابعة : إن الشروط التي تعتبر في اختيار الرجل في الملك هي ما استفدناه من قوله تعالى :﴿ إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ﴾ الآية كما تقدم.
الثامنة : هي ما أفاده قوله تعالى :﴿ والله يؤتي ملكه من يشاء ﴾ كما بيناه معززا بالشواهد من الكتاب العزيز على أن مشيئته تعالى إنما تنفذ بمقتضى سننه العامة في تغيير أحوال الأمم بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون ؟ ﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾ ( الأنبياء : ٤٤ ) أو لم يسمعوا دعوة الأنبياء بقوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ فاتقوا الله وأطيعون* ولا تطيعوا أمر المسرفين* الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ﴾ ( الشعراء : ١٥٠- ١٥٢ ) أيظن المسلم الغافل أن مشيئة الله تعالى في قوله :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ ( آل عمران : ٢٦ ) هي عبارة عن مخالفة سننه التي بينتها الآيات التي ذكرناها وما في معناها مما لم نذكره ؟ بل أقول ولا أخشى في الحق لومة لائم : أيظن المسلمون أن تنازع الأمم والدول على ممالكهم وسلبها من أيديهم مخالف لعدل الله العام وسننه الحكيمة التي جاء بها القرآن ؟ كلا إنه تعالى ما فرط في الكتاب من شيء، ولكنهم هم الذين فرطوا فذاقوا جزاء تفريطهم، فإن تابوا وأصلحوا تاب الله عليهم، وإلا فقد مضت سنة الأولين.
التاسعة : إن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر. وقوانين الجندية في هذا الزمان مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول. فإذا أمر القائد بتسليم الديار أو الأموال أو الأنفس للأعداء وجب تسليمها في قانون كل دولة، نعم أنهم قرنوا بهذا الحق للقائد إيجابهم على أن يبرم الأمور باستشارة أهل الرأي في الفنون العسكرية وهم الذين يسمونهم أركان الحرب. ولكن هؤلاء ورئيسهم مقيدون بدستور الدولة العام، وبموافقة مجلس نواب الأمة على ما نص الدستور على وجوب موافقتهم عليه، ومن خالف ذلك يحاكم ويعاقب.
العاشرة : إن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات وطاعة القواد، الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد، مع طاعة القواد، لأن نصر الله مع الصابرين ـ أي جرت سنته بأن يكون النصر، أثرا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم، وهذا مشاهد في كل زمان، وهو كثير لا مطرد كما جاء في الآية الكريمة.
الحادية عشرة : إن الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاد، فإن الذي يؤمن بأن له إلها غالبا على أمره يمده بمعونته الإلهية، كما أمده بالقوى الروحية والجسدية، فإذا ظفر بإذنه كان مصلحا في الأرض مستعمرا فيها، وإذا قبضه إليه بانتهاء أجله المسمى كان في رحمته ناعما فيها، لهو جدير بأن يستخف بالأهوال، ويثبت في القتال ثبات الأجبال، وقد وافقنا كتاب الإفرنج في هذه المسألة، فصرحوا بأن من أسباب ثبات البوبر وبلائهم في حربهم للإنكليز كونهم أقوى إيمانا وأرسخ عقيدة، وجميع الأمم تشهد بأن الجيش العثماني أثبت جيوش العالم وأصبره وأشجعه، وقد تمنى قائد ألماني يعد من أشهر قواد الأرض لو أن له مئة ألف من هذا الجيش ليملك بها العالم، ذلك بأنه جيش يؤمن بلقاء الله تعالى إيمانا يقل في قواده من يساويه فيه٢.
الثانية عشرة : إن التوجه إلى الله تعالى بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى فإن الدعاء هو آية ذلك الإيمان الذي بينا فائدته آنفا ولذلك قال عز وجل في سورة الأنفال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ ( الأنفال : ٤٥ ) فيراجع تفسيرها في الجزء العاشر.
الثالثة عشرة : دفع الله الناس بعضهم ببعض من السنن العامة وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعية في البشر لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة. وأنت ترى أن قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ ( البقرة : ٢٥١ ) ليس نصا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو عام لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس الذي يقتضي المدافعة والمغالبة. ويظن بعض المتطفلين على علم السنن في الاجتماع البشري أن تنازع البقاء الذي يقولون إنه سنة عامة هو من أثرة الماديين في هذا العصر، وأنه جور وظلم، هم الواضعون له والحاكمون به، وأنه مخالف لهدى الدين، ولو عرف من يقولون هذا معنى الإنسان أو لو عرفوا أنفسهم، أو لو فهموا هذه الآية وما في معناها من سورة الحج لما قالوا ما قالوا.
الرابعة عشرة : قوله تعالى :﴿ لفسدت الأرض ﴾ يؤيد السنة التي يعبر عنها علماء الاجتماع بالانتخاب الطبيعي أو بقاء الأمثل. ووجه ذلك جعل هذا من لوازم ما قبله، فإنه تعالى يقول إن ما فطر عليه الناس من مدافعة بعضهم بعضا من الحق والمصالحة هو المانع من فساد الأرض أي هو سبب بقاء الحق وبقاء الصلاح. ويعزز ذلك قوله تعالى في بيان حكمة الإذن للمسلمين بالقتال في سورة الحج :{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز* الذين إن مكناهم في الأرض وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأ
تم الجزء الثاني وهو منقول من المجلدين السابع والثامن من مجلة المنار اللذين طبعا في سنتي ١٣٢٢، ١٣٢٣ ه، وقد طبع أول مرة في ثناه نشره وتم طبعه في سنة ١٣٢٥.
وقد قرأ الأستاذ الإمام ما طبع منه على حدته على نهاية تفسير الآية ١٢١ كما قرأ تفسير الجزء الأول كله في المنار وأجازه وعلق على النصف الأول ما نشرناه بنصه عند طبعه فكأنه كتب كل ما عزوناه إليه فيه، وكل ما عداه فهو كله مكتوب بقلمنا من إنشائنا ونقلنا ما فهمناه من دروسه بالمعنى إلا تفسير آية :﴿ كان الناس أمة واحدة ﴾ ( البقرة : ٢١٣ ) ولا غرو فقد كان [ رح ] يقول صاحب المنار ترجمان أفكاري وقد نشر تفسيرها في جزء المنار الذي صدر في غرة ربيع الآخر سنة ١٣٢٣ وثقل عليه المرض بعد نشر تفسير الآية ١٢١ فلم يستطع قراءة شيء وتوفي في ثامن جمادى الأولى منها رحمه الله تعالى.
وتمتاز هذه الطبعة على الأولى بجودة ورقها وكون طبعها بجنس واحد من الحروف وبقلة الغلط المطبعي وبجعل الآيات وأرقامها فيها وفي شواهد التفسير من مصحف الحكومة المصرية وهو أصح المصاحف المطبوعة بموافقته لمصحف الإمام المقتدى به في رسمه، وبأننا زدنا فيه عند طبعه زيادات كثيرة في مسائله، بعضها تمحيص وتحقيق يقتضيه تفسير الآيات ويطلب منه كمسألة ( اليانصيب ) من فروع الميسر، وقد كثرت في عصرنا وكثر السؤال عنها، وبعضها أحكام زائدة على مفهوم الآيات تشتد الحاجة إليها كالفصل الطويل الذي زدناه في تفسير آيات الصيام، التي كثر فيها اختلاف الفقهاء وحقق الراجح منها شيخ الإسلام ( ابن تيمية ). ولله الحمد في الأولى والآخرة.
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ما مثاله مفصلا : كان الكلام إلى هنا في طلب بذل المال والنفس في سبيل الله تعالى، وقد ضرب له مثل الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فماتوا بجبنهم ولم تغن كثرتهم ثم أحياهم الله تعالى أي أحيا أمتهم بنفر منهم غيروا ما بأنفسهم، ومثلا الملأ من بني إسرائيل بعد أن غلب الفلسطينيون أمتهم على أمرها وأخرجوها من ديارها وأبنائها ثم نصرها الله تعالى بفئة قليلة مؤمنة بلقائه، صابرة في بلائه، بعد هذا أراد سبحانه أن يقوي النفوس على القيام بذلك فذكر الأنبياء المرسلين الذين كانوا أقطاب الهداية، ومحل التوفيق منه والعناية، الذين بين الدليل في ّآخر السياق الماضي على أن المخاطب بهذا القرآن الذي فيه سيرتهم منهم. وكان قد ذكر قبل ذلك داود وما آتاه الله من الملك والنبوة ذكرهم مبينا تفضيل بعضهم على بعض، وخص بالذكر أو الوصف من بقي لهم أتباع وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال ثم عاد إلى الموضوع الأول وهو الإنفاق وبذل المال في سبيل الله لكن بأسلوب آخر كما ترى في الآية التي تلي هذه الآية، قال تعالى :
﴿ تلك الرسل ﴾ أي المشار إليهم بقوله ﴿ وإنك لمن المرسلين ﴾ في آخر الآية السابقة، ومنهم داود الذي ذكر في الآية التي قبلها. وهذا أظهر من قولهم : المراد بالرسل من ذكروا في هذه السورة، أو من قص الله على النبي قبل هذا من أنبائهم، أو المراد جماعة الرسل ﴿ فضلنا بعضهم على بعض ﴾ مع استوائهم في اختيار الله تعالى إياهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة والتصريح بهذا التفضيل وذكر بعض المفضلين يشبه أن يكون استدراكا مع ما ذكر في الآيات السابقة من إيتائه تعالى داود الملك والحكمة وتعليمه مما يشاء، فهو يقول إنهم كلهم رسل الله، فهم حقيقيون بأن يتبعوا ويقتدى بهداهم، وإن امتاز بعضهم على بعض بما شاء الله من الخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم.
وقد بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال :﴿ منهم من كلم الله ﴾ ؛ بصيغة الالتفات عن الضمير إلى التعبير بالظاهر لتفخيم شأن هذه المنقبة. والغرض من هذا الالتفات إلفات الأذهان إلى هذه المنبقة تفخيما لها وتعظيما لشأنها. وهذا التكليم كان من الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام كما قال تعالى في سورة النساء ﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ [ النساء : ١٤٣ ] وفي سورة الأعراف ﴿ قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ﴾ [ الأعراف : ١٤٤ ] فهذه الآيات تدل على أن موسى قد خص بتكليم لم يكن لكل نبي مرسل، وإن كان وحي الله تعالى عاما لكل الرسل، ويطلق عليه كلام الله تعالى في سورة الشورى ﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم ﴾ [ الشورى : ٥١ ] فجعل كلامه لرسله ثلاثة أنواع. والظاهر أن تكليم موسى كان من النوع الثاني في الآية وكلها تسمى وحي الله وكلام الله. وقال بعضهم : إن هذا النوع من التكليم كان لنبينا عليه الصلاة والسلام في تجلي ليلة المعراج فهو المراد بمن كلم الله هنا، والجمهور على القول الأول، وإن كان لفظ " من " يتناول أكثر من واحد.
أقول : وقد خاض علماء العقائد في مسألة الكلام الإلهي والتكليم وتبعهم المفسرون فقال بعضهم كالمعتزلة : إن التكليم فعل من أفعال الله تعالى كالتعليم والكلام ما يكون به. وقال الجمهور إن كلام الله تعالى صفة من صفاته تتعلق بجميع ما في علمه وتكليم الرسل عبارة عن إعلامهم بما شاء من علمه. وما به الإعلام هو كلام الله وهو كما قال الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد : شأن من شؤونه قديم بقدمه : أي إنه تعالى متصف في الأزل بالكلام أي بالصفة التي يكون بها التكليم متى شاء كما أنه متصف في الأزل بالقدرة التي بها يكون الخلق والتقدير متى شاء. هذا أوضح ما يبين به مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى النفسي. وهو أن له صفة ذاتية بها يعلم من يشاء من عباده بما شاء وهذا الإعلام هو التكليم والوحي. ولا يجوز لنا البحث عن كيفية كلامه القديم. ولا عن كيفية تكليمه رسله وإيحائه إليهم.
قال الأستاذ الإمام في الدروس : إن هذا الكلام مما لا يمكن أن يعرفه إلا النبي المكلم. فلا ينبغي لنا أن نبحث فيه ونحاول الوقوف على كنهه حتى أن النبي المكلم نفسه لا يستطيع أن يفهمه لغيره. لأنه ليس له عبارة تدل عليه : يعني إن ما كان للرسل عليهم السلام من تكليم الله وما خصهم به من وحيه هو من قبيل الوجدان والشعور النفسي، كالشعور بالسرور واللذة والألم فلا يمكن التعبير عن حقيقته. وليس هو من قبيل التصورات والخواطر. ولا نزيد على هذا البيان في هذا الكلام، فإنه من مزال الأقدام والأقلام، فنحن نؤمن بكلام الله تعالى ووحيه، مع تنزيهه في ذاته وصفاته عن مشابهة خلقه، فإن وقع في كلامنا ما يوهم خلاف هذه العقيدة السلفية فهو من عثرات القلم الضعيف البيان، لا من شذوذ عن الصراط المستقيم والإيمان.
وأما قوله تعالى ﴿ ورفع بعضهم درجات ﴾ فذهب جماهير المفسرين إلى أن المراد به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه ابن جرير عن مجاهد وأيده الأستاذ الإمام : إن الأسلوب يؤيده ويقتضيه. أي لأن السياق في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل والتشنيع على اختلافهم واقتتالهم مع أن دينه واحد في جوهره. والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر ولعل ذكر آخرهم في الوسط للإشعار بكون شريعته وكذا أمته وسطا.
أقول : ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في نفسه الشريفة، ومنها ما هو في كتابه وشريعته، ومنها ما هو في أمته. وآيات القرآن تنبئ بذلك كقوله تعالى في سورة القلم ﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ [ القلم : ٤ ] وقوله تعالى في أواخر سورة الأنبياء بعد ما ذكر نعمه على أشهرهم ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٨ ] ولم يقل مثل هذا في أحد منهم. وقوله في سورة سبأ ﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾ [ النبأ : ٢٨ ] وقال تعالى في فضل القرآن ﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾ [ الإسراء : ٩ ] الآيات. وقال فيها ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] الآية وقال فيها ﴿ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ﴾ [ الزمر : ٥٥ ] الآية وقال ﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ﴾ [ النحل : ٨٩ ] وقال ﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ].
ووصفه بالحكيم وبالمجيد وبالعظيم وبالمبين وبالفرقان، وحفظه من التحريف والتغيير والتبديل ووصف الشريعة بقوله تعالى في سورة الأعلى ﴿ ونيسرك لليسرى ﴾ [ الأعلى : ٨ ] وقال في أمته أي أمة الإجابة الذين اتبعوه حق الإتباع دون الذين لقبوا أنفسهم بلقب الإسلام ولم يهتدوا بهدى القرآن ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول شهيدا عليكم شهيدا ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] وقال فيها من سورة آل عمران ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ] ولو أردت استقصاء الآيات في وجوه درجاته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأتيت بكثير وهذا القليل لا يقال له قليل. وفي الأحاديث من ذكر خصائصه ما أفرد بالتأليف وهي مما يصح أن تعد من درجاته.
وإنك لترى العلماء مع هذا كله لم يتفقوا على أنه المراد في الآية، بل جوزوا أن يكون المراد بها إدريس عليه السلام لقوله تعالى في سورة مريم ﴿ ورفعناه مقاما عليا ﴾ [ مريم : ٥٧ ] على أن المكان ليس بمعنى الدرجات وجوز بعضهم أن يكون المراد بمعنى رفع الله درجات غير واحد من الرسل وهو بمعنى التفضيل المطلق في قوله ﴿ فضلنا بعضهم على بعض ﴾ وجعل بعض المتأخرين حمل ﴿ ورفع بعضهم درجات ﴾ على نبينا صلى الله عليه وسلم من التفسير بالرأي، وبالغ في التحذير منه، وكيف يقبل هذا منه والآية جاءت بعد مطلق التفضيل بهذه الوجوه من التفضيل التي يمكن معرفتها بالدلائل على نحو ما قلنا وتفسير المبهم بالدليل ليس من التفسير بالرأي، لاسيما إذا أيده السياق ورضى به الأسلوب. إنما التفسير بالرأي هو ما يكون من المقلدين ينتحلون مذهبا يجعلونه أصلا في الدين، ثم يحاولون حمل الآيات عليه ولو بالتأويل والتحريف، والأخذ ببعض الكتاب وترك البعض.
ثم قال تعالى ﴿ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ﴾ البينات هي ما يتبين به الحق من الآيات والدلائل كما قال في هذه السورة ﴿ ولقد جاءكم موسى بالبينات ﴾ [ البقرة : ٩٢ ] وروح القدس هو روح الوحي الذي يؤيد الله به رسله كما قال لنبينا ﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرننا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] الآية. وقال له في سورة النحل ﴿ قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ﴾ [ النحل : ١٠٢ ] وقال أبو مسلم : إن روح القدس عبارة عن الروح الطيبة المقدسة التي أيد بها عيسى عليه السلام. وقد سبقت هذه العبارة في الآية ( ٨٧ ) من هذه السورة فلا نطيل في إعادة تفسيرها ولعل النكتة في ذكر اسم عيسى عليه الصلاة السلام : أن ما آتاه إياه لما كان مشتركا كان ذكره بالإبهام غير صريح في كونه ممن فضل به أو الرد على الذين غلوا فيه، فزعموا أنه إله لا رسول مؤيد بآيات الله ظهر لي هذا عند الكتابة، ثم راجعت تفسير أبي السعود فإذا هو يقول : وإفراده عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه عليه السلام من التفريط والإفراط.
ثم قال تعالى :﴿ ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ﴾. قال الأستاذ الإمام ما مثاله مبسوطا : إذا جرينا في فهم الآية على تفسير مفسرنا ( الجلال ) وأضرابه نكون جبرية لا نقبل دينا ولا شرعا ولا يكون لنا في الكلام عبرة، لأنهم يقولون ما قصاراه إن الله تعالى هو الذي غرس في قلوب هؤلاء الذين جاؤوا من بعد الأنبياء بذور الخلاف والشقاق، وقضى عليهم بما ألزمهم العدوان والاقتتال. فإنه شاء أن يكونوا هكذا فكانوا مضطرين في الباطن وإن كان لهم اختيار ما بحسب الظاهر. فلندع هذا ولننظر ما تدل عليه هذه الكلمات القليلة من اتفاق حكمة الله تعالى مع مشيئته في خلق الإنسان وسننه في شؤونه الاجتماعية. لم يخلق الله الناس بقوى محدودة متساوية في أفرادهم لا تتجاوز طلب ما به قوام الجسم بالإلهام الفطري والإدراك الجزئي، كالأنعام السائمة والطيور الحائمة، بل خلق الإنسان كما نعرف الآن جعل له عقلا يتصرف في أنواع شعوره، وفكرا يجول في طرق حاجاته البدنية والنفسية، وجعل ارتقاءه في إدراكه وأفكاره كسبيا ينشأ ضعيفا فيقوى بالتدريج حسب التربية التي يحاط بها والتعليم الذي يتلقاه وتأثير حوادث الزمان والمكان والأسوة والتجارب فيه وجعل هداية الدين له أمرا اختيارا في الأخذ بس
بعد أن ذكرنا الله تعالى بالرسل وما كان من أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال، عاد إلى أمرنا بالإنفاق بأسلوب آخر كما تقدم التنبيه في تفسير الآية السابقة. هنالك يقول ﴿ من ذا الذي يقرض الله ﴾ وقد نبهنا على ما في هذا الخطاب من اللطف والبلاغة. وأزيد هنا أن هذا اللطف إنما يفعل فعله ويبلغ نهاية تأثيره فيمن بلغ في الإيمان إلى عين اليقين، وعرج في الكمال إلى منازل الصديقين، ولطف وجدانه وشعوره، وتألق ضياؤه ونوره، وما كل المؤمنين يدرجون في هذا المدارج، أو يرتقون على هذه المعارج، فالأكثرون منهم يفعل في نفوسهم الترهيب، ما لا يفعل الترغيب، فهم لا ينفقون في سبيل الله إلا خوفا من عقابه، أو طمعا في ثوابه. وقد يعرض للضعفاء من هؤلاء الغرور بشفاعة تغني هنالك عن العمل، أو فدية تقي صاحبها عاقبة ما كان عليه من الزلل، فأمثال هؤلاء يعالجون بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ﴾ قرأ أبو عمر وابن كثير ويعقوب ( لا بيع ) وما عطف عليه بالفتح والباقون بالرفع.
قالوا : إن المراد بالإنفاق هنا الإنفاق الواجب، لأن الكلام يتضمن الوعيد على الترك وهو لا يكون إلا على ترك الواجب. وقال بعضهم : بل يشتمل المندوب. ومن الواجب على أغنياء المسلمين إذا وقع الفساد في الأمة وتوقفت إزالته على المال أن يبذلوه لدفع المفاسد الفاشية والغوائل الغاشية، وحفظ المصالح العامة. أقول وفي قوله تعالى :﴿ ما رزقناكم ﴾ إشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه عليهم. فأين هذا من الطلب بصيغة الإقراض ؟
كأنه يقول : إننا ما رزقناكم الرزق الحسن واستخلفناكم فيه إلا وقد نقلناه من أيدي قوم أساؤوا التصرف فحبسوا المال وأمسكوا عن المصالح والمنافع التي يرتقي بها شأن البشر بالتعاون على البر والخير. فلا تكونوا مثلهم فإنهم ظلموا أنفسهم وقومهم ببخلهم، فكانوا كافرين بنعم الله تعالى عليهم، إذ لم يضعوها في مواضعها، ولذلك ختم الآية بقوله :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ وسيأتي بيانه.
أما البيع والخلة والشفاعة فللمفسرين في بيان المراد بنفيها طريقان :
أحدهما : أن المراد بالبيع الكسب بأي نوع من أنواع المبادلة والمعاوضة. والمراد بالخلة وهي الصدقة والمحبة للقرابة وغيرها لازمها وهو ما يكون وراءها من الكسب كالصلة والهدية والوصية والإرث. وبالشفاعة وهي معروفة لازمها في الكسب وهو ما يكون إقطاعات الملوك والأمراء لبعض الناس. وإنما يكون غالبا بالتوسل إليهم والشفاعة عندهم. فهذه الثلاث من طرائق جمع المال وسعة الرزق في الدنيا. فهو يقول : يا أيها الذين أمنوا بادروا إلى الإنفاق في سبيل الله مما تناله أيديك وأنتم متمكنون منه ابتغاء مرضاة الله به قبل أن يأتي يوم الجزاء الذي لا تجدون فيه مما تتقربون به إليه مما يكسب ببيع وتجارة، ولا ينال بخلة أو شفاعة، فإنه هو اليوم الذي يظهر فيه فقر العباد وكون الملك لله الواحد القهار.
وأما الطريق الثاني : فقد فسروا فيه البيع بالافتداء وجعلوا فيه الخلة والشفاعة على ظاهرهما. أي أنفقوا فإن الإنفاق في سبيل الخير والبر وهي سبيل الله هو الذي ينجيك في ذلك اليوم الذي لا ينجي الأشحة الباخلين فيه من عذاب الله تعالى فداء فيفتدون منه أنفسهم، ولا خلة يحمل فيها خليل شيئا من أوزار خليله، أو يهبه شيئا من حسناته ولا شفاعة يؤثر بها الشفيع في إرادة الله تعالى، فيحولها عن مجازات الكافر بالنعمة الباخل بالصدقة المستحق للمقت والعقوبة بتدنيس نفسه وتدسيتها في الدنيا. وهذا هو الوجه الذي اختاره الأستاذ الإمام. فالآية بمعنى قوله تعالى في هذه سورة :﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ﴾ [ البقرة : ٤٨ ] فقوله :﴿ لا تجزي نفس عن نفس شيئا ﴾ بمعنى نفي الخلة هنا. والعدل هو الفداء بالعوض وهو بمعنى البيع المنفي هنا. ومثلها الآية ١٢٣.
والخطاب في تينك الآيتين لبني إسرائيل الذين كانوا في عصر التنزيل يقيسون أمور الدنيا على أمور الآخرة كما هو شأن الوثنيين، فيظنون أن الإنسان يمكن أن ينجو في الآخرة بفداء يفتدي به أو بشفاعة تناله من سلفه النبيين والربانيين، كدأب الأمراء والسلاطين، وإن كان في هذه الحياة فاسقا ظالما فاسد الأخلاق مناعا للخير معتديا أثيما. وقصارى هذا الاعتقاد أن سعادة الآخرة هي كالمعروف للعامة من سعادة الدنيا ليست جزاء للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والعقائد الصحيحة أي ليست أثرا لشيء في نفس الإنسان، إنما الغالب فيها أن تكون بإسعاد غيره له. وخير ضروب الإسعاد وأعلاها ما يكون بالشفاعة عند الأمراء والسلاطين الذين يجعلون المرء من أعظم أرباب المال والجاه بكلمة يحملهم عليها الشافع.
فمن كان يطلب في الآخرة منتهى السعادة فعليه أن يعتمد على أحد المقربين عند الله ليشفع له هناك ولا يكلفن نفسه عناء التهذيب وأعمال البر، وقد بين الله تعالى لبني إسرائيل خطأهم في هذا الاعتقاد بما فيه عبرة لهذه الأمة. ثم خاطب المؤمنين بذلك وأنذرهم ما أنذر به بني إسرائيل. وما تغني الآيات والنذر عن قوم يحرفون الكلام عن مواضعه كما فعل بعض المفسرين الذين زعموا أن قوله تعالى :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ يدل على أن الكافرين بأصل الدين هم الذين لا ينفعهم يوم القيامة بيع ولا خلة ولا شفاعة. أي هذا النفي العام المستغرق لمنفعة الفداء والخلة والشفاعة خاص بمن لا يسمي نفسه مسلما. وأما من قبل هذا الاسم فإن الآية لا تتناولهم. وإن كان الخطاب فيها للذين آمنوا. وستعلم أن لفظ الكافرين لا يراد هنا منكرو الألوهية والنبوة أو رافضوا لقب الإسلام، لأن هذا الإصلاح لم يلتزمه القرآن.
سبق القول في الشفاعة والجزاء والفداء في تفسير آية ( واتقوا يوما ) التي استشهدنا بها آنفا فلا نعيده. ولكن بدا لي أن أكتب جملة وجيزة في مسألة قياس عالم الغيب على عالم الشهادة في التماس السعادة والشفاعة، فأقول : تقدم أن القياس باطل على تقدير صدق ظنهم في سعادة الدنيا. لأن الشفاعة المعروفة عند الملوك والحكام وهي أكبر الشبهات في هذا المقام مما يستحيل على الله عز وجل لأن الشفيع هنا يحدث في ذهن المشفوع عنده من الرأي والعلم بالمصلحة وفي قلبه من الميل والأثر ما لم يكن فيهما، فيعفو ويصفح أو يهب ويمنح إما بهذه العاطفة وإما بتلك المعرفة. لأن عمل الإنسان في الدنيا يصدر عن أحد هذين المصدرين في النفس أو عن كليهما. وأما أفعال الله تعالى فهي تابعة لعلمه وحكمته وسائر صفاته القديمة التي يستحيل أن يطرأ عليها تغيير ما. وهذه هي الشفاعة التي يتعلق بها السفهاء المغرورون وقد نفاها الله تعالى في هذه الآية وغيرها من الآيات وبين فيها وفي آيات أخرى كثيرة جدا أن سعادة الآخرة إنما تنال بالأعمال الصالحة مع الإيمان الصحيح المؤثر في الوجدان المصرف للإرادة في الأعمال.
وإنما الذي أريد أن أقوله هنا : هو السعادة الدنيوية الحقيقية التي يعرفها الشرع ويؤيده الاختبار والعقل، هي في الأنفس لا في الآفاق. أعني أنها لا تنال بإسعاد الأخلاء، ولا بشفاعة الشفعاء، إنما العمدة فيها على اعتدال النفس في أخلاقها وأعمالها، وصحة عقائدها ومعارفها، ويتبع هذا الغالب صحة الجسم، وسهولة طرق الرزق، والسلامة من الخرافات والأوهام، التي تفتك بالعقول والأجسام، ويظهر صدق هذا القول ظهورا بينا تقل فيه الشبهات في البلاد التي تُساس بالعدل ويكون الحكام فيها مقيدين بأحكام الشريعة التي تكفلها الأمة. وإنما تعرض الشبهات على صدقه في البلاد التي يحكم فيها السلاطين بإرادتهم وأهوائهم فيعطون من مال الأمة ما أرادوا لمن أرادوا، ويلبسون من أموال الرعية ما أحبوا فينفقونه على من أحبوا، ويحكمون من شايعهم على ظلمهم في أنفس الخاضعين لحكمهم، ولا يشايعهم إلا من كان فاسد الأخلاق سيئ الأعمال يؤثر هواهم على رضوان الله إن كان يفكر في رضوان الله أو يؤمن به وعلى مصلحة الأمة. فما يتمتع به أعوان الظالمين من المال والجاه بالباطل وما يناله أشياعهم من منافع شفاعتهم كل ذلك في حكم الله وشرعه من الشقاء لا من السعادة. أفعلى حكم هؤلاء الظالمين، نقيس حكم رب العزة يوم الدين ؟ أين نحن إذا من قوله :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا. وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ] ؟ إذا خفي شقاء هؤلاء الملوك أشياعهم على الجاهل في طور الإملاء والاستدراج، فإنه لا يخفى على أهل العلم بسنن الله في الخلق ويعرف ذلك كل أحد يوم يأخذهم الله بظلمهم، ويسلط عليهم من يسلب ملكهم، وتشقى بهم الأمة التي رضيت بأحكامهم. فهل يشبه الله تعالى بهؤلاء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ؟ ﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ].
أقول : لا يبعد أن يكون في قوله تعالى بعد نفي الخلة والشفاعة :﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ تعريض بهؤلاء الملوك الذين يمنحون بالشفاعة غير المستحق ويمنعون المستحق، ويعاقبون بها البريء ويعفون عن المجرم، والمراد بالكافرين الكافرون بالنعم بقرينة السياق وهم الذين لا ينفقون في سبل البر والخير. وقد قصر الظلم عليهم كما أفادت الجملة المعرفة الطرفين تشنيعا لحلهم، كأن كل ظلم غير ظلمهم ضعيف لا يعتد به لأنهم ظلموا أنفسهم ودنسوها برذيلة البخل ومنع الحق وظلموا الفقراء والمساكين وغبرهم من الأصناف الذين فرضت لهم الصدقة بمنعهم مما فرض الله لهم وظلموا الأمة بإهمال مصالحها المعبر عنها بسبيل الله. وإن أمة يؤدي أغنياؤها ما فرض الله عليهم لفقرائها ولمصالحها العامة لا تهلك ولا تخزى. ولا شيء أسرع في إهلاك الأمة من فشو البخل ومنع الحق في أفرادها.
وأقول : إن هذا الكفر والظلم مما يتهاون فيه المسلمون في هذه الأزمنة وفي أزمنة قبلها لظنهم أن جميع ما في القرآن من وعيد الكافرين يراد به الكافرون بالمعنى الخاص في اصطلاح المتكلمين والفقهاء، وهم الجاحدون للألوهية أو للنبوة أو لشيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلم من الدين بالضرورة إجماعا. وهذه الآية نفسها تبطل ظنهم وفي معناها آيات كثيرة. ثم إنهم يروون عن عطاء أنه قال " الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون ولم يقل والظالمون هم الكافرون " يعني أنه لا يكاد يسلم امرؤ من ظلم لنفسه ولغيره فلو كان كل ظالم كافرا لهلك الناس. وقد فات صاحب هذا القول أن الظلم والكفر في القرآن يتواردان على المعنى الواحد فيطلقان تارة على ما يتعلق بالاعتقاد وتارة على ما يتعلق بالعمل. ومنه الحكم بين الناس ويقابل هذه الآية في الجمع بينهما في المعنى قوله تعالى :﴿ ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ] ومن استعمال الظلم بمعنى الاعتقاد الباطل قوله تعالى :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : ١٣ ] وقوله تعالى :﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم المهتدون ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ] فسر الظلم هنا في الحديث المرفوع المتفق عليه بال
بعد أن أمرنا تعالى بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي يوم لا مال فيه ولا كسب، ولا ينجي من عقابه فيه شفاعة ولا فداء، انتقل كدأب القرآن إلى تقرير أصول التوحيد والتنزيه التي تشعر متدبرها بعظيم سلطانه تعالى ووجوب الشكر له والإذعان لأمره والوقوف عند حدوده وبذل المال في سبيله وتحول بينه وبين الغرور والاتكال على الشفاعات والمكفرات التي جرأت الناس على نبذ كتاب الله وراء ظهورهم فقال :﴿ الله لا إلاه إلا هو الحي القيوم ﴾. فسر الجلال الإله بالمعبود بحق والحي بالدائم البقاء والقيوم بالمبالغ بالقيام بتدبير خلقه. وقد استحسن الأستاذ الإمام قوله في تفسير كلمة التوحيد وقال إن تفسيره لكلمة ( إله ) هو الشائع وهو إنما يصح إذا حملنا العبادة على معناها الحقيقي وهو استعباد الروح وإخضاعها لسلطان غيبي لا تحيط به علما، ولا تعرف له كنها، فهذا هو معنى التأليه في نفسه وكل ما ألهه البشر من جماد ونبات وحيوان وإنسان فقد اعتقدوا فيه هذا السلطان الغيبي بالاستقلال أو بالتبع لإله آخر أقوى سلطانا. ومن ثم تعددت الآلهة المنتحلة. وكل تعظيم واحترام ودعاء ونداء يصدر عن هذا الاعتقاد فهو عبادة حقيقية وإن كان المعبود غير إله حقيقة، أي ليس له هذا السلطان الذي اعتقده العابد له، لا بالذات ولا بالتوسط إلى ما هو أعظم منه.
فالإله الحق هو الذي يعبد بحق وهو واحد، والآلهة التي تعبد بغير حق كثيرة جدا. وهي غير آلهة في الحقيقة ولكن في الدعوى الباطلة التي يثيرها الوهم. ذلك أن الإنسان إذا رأى أو سمع أو توهم أن شيئا صدر عن موجود بغير علة معروفة ولا سبب مألوف، يتوهم أنه لو لم تكن له تلك السلطة العليا والقوة الغيبية لما صدر عنه ذلك، حتى أن الذين يعتقدون النفع ببعض الشجر والجماد كشجر الحنفي ونعل الكلشني١ يعدون عابدين لها حقيقة. والحاصل أن معنى " لا إله إلا الله " ليس في الوجود صاحب سلطة حقيقية على النفوس يبعثها على تعظيمه والخضوع له قهرا منها معتقدا أن بيده منح الخير ورفع الضر بتسخير الأسباب أو بإبطال السنن الكونية إلا الله تعالى وحده.
قال الأستاذ الإمام : وأما الحي فهو ذو الحياة وهي مبدأ الشعور والإدراك والحركة والنمو. ومثل لذلك بالنبات والحيوان. فإن كلا منهما حي وإن تفاوتت الحياة فيهما فكانت في الحيوان أكمل منها في النبات. قال والحياة بهذا المعنى مما ينزه الله تعالى عنه لأنه محال عليه. ولذلك فسر مفسرنا " الحي " بالدائم البقاء وهو بعيد جدا لا يفهم من اللفظ مطلقا إنما معنى الحياة بالنسبة إليه سبحانه مبدأ العلم والقدرة أي الوصف الذي يعقل معه الاتصاف بالعلم والقدرة. وهذا الوصف يبطل قول الماديين الذين يزعمون أن مبدأ الكون علة تتحرك بطبعها ولا شعور لها بنفسها ولا بحركتها وما ينشأ عنها من الأفعال والآثار. أي إن هذا النظام والأحكام في الخلق من آثار المادة الميتة التي لا شعور لها ولا علم.
اختصر الأستاذ الإمام في الدرس فلم يزد على نحو ما ذكرنا في حياة الله تعالى شيئا والمتكلمون يستدلون على حياة الله تعالى بالعقل من وجهين : أحدهما : أنه تعالى عليم مريد قدير، وهذه الصفات لا تعقل إلا للحي وفيه أنه من قياس الغائب على الشاهد كما يقولون أو من قياس الواجب على الممكن. وثانيهما : أن الحياة كمال وجودي وكل كمال لا يستلزم نقصا يستحيل على الواجب فهو واجب له. وهذا ما قدمه الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد. وقد قدم له بمقدمة نفسية في صفات الواجب. قال رحمه الله تعالى :
«معنى الوجود وإن كان بديهيا عند العقل ولكنه يتمثل له بالظهور ثم الثبات والاستقرار وكمال الوجود وقوته بكمال هذا المعنى وقوته بالبداهة.
وكل مرتبة من مراتب الوجود تستتبع بالضرورة من الصفات الوجودية ما هو كمال لتلك المرتبة في المعنى السابق ذكره. وإلا كان الوجود لمرتبة سواها، وقد فرض لها ما يتجلى للنفس من مثل الوجود لا ينحصر، وأكمل مثال في أي مرتبة ما كان مقرونا بالنظام والكون على وجه ليس فيه خلل ولا تشويش. فإن كان ذلك النظام بحيث يستتبع وجودا مستمرا، وإن كان في النوع، كان أدل على كمال المعنى الوجودي في صاحب المثال.
فإن تجلت للنفس مرتبة من مراتب الوجود على أن تكون مصدرا لكل نظام كان ذلك عنوانا على أنها أكمل المراتب وأعلاها وأرفعها وأقواها.
وجود الواجب هو مصدر كل وجود ممكن كما قلنا وظهر بالبرهان القاطع، فهو بحكم ذلك أقوى الوجودات وأعلاها فهو يستتبع من الصفات الوجودية ما يلائم تلك المرتبة العلية وكل ما تصوره العقل كمالا في الوجود من حيث ما يحيط به من معنى الثبات والاستقرار والظهور وأمكن أن يكون له وجب أن يثبت له وكونه مصدرا للنظام وتصريف الأعمال على وجه لا اضطراب فيه يعد من كمال الوجود كما ذكرنا فيجب أن يكون ذلك ثابتا له. فالوجود الواجب يستتبع من الصفات الوجودية التي تقتضيها هذه المرتبة ما يمكن أن يكون له. فما يحب أن يكون له صفة الحياة وهي صفة تستتبع العلم والإرادة وذلك أن الحياة مما يعتبر كمالا للوجود بداهة فإن الحياة مع ما يتبعها مصدر النظام وناموس الحكمة، وهي في أي مراتبها مبدأ الظهور والاستقرار في تلك المرتبة. فهي كمال وجودي ويمكن أن يتصف بها الواجب، وكل كمال وجودي يمكن أن يتصف به وجب أن يثبت له فواجب الوجود حي وإن باينت حياته حياة الممكنات فإن ما هو كمال للوجود إنما هو مبدأ العلم والإرادة ولو لم تثبت له هذه الصفة لكان في الممكنات ما هو أكمل منه وجودا. وقد تقدم أنه على الوجودات وأكملها فيه.
والواجب هو واهب الوجود وما يتبعه فكيف لو كان فاقدا للحياة يعطيها فالحياة له كمال أنه مصدرها » اه.
أقول : وهذا تحقيق دقيق لا تجد مثله لغير هذا الإمام العارف والحكيم المحقق ولا يعقله إلا أولو الألباب. وقد كنت كتبت في كتاب العقائد الذي ألفته باقتراحه رحمه الله تعالى على وجه يليق بمعارف هذا العصر ويفيد طلاب علومه كلاما في حياة الله تعالى قريبا من الأفهام، واطلع عليه فأعجبه. وإنني أحب إيراده هنا لأنني لم أر في كتب التفسير ولا في كتب الكلام كلاما ممتعا في هذا المقام. وهو وارد بأسلوب السؤال من تلميذ مبتدئ في المدارس والجواب من أخيه وهو عالم عصري طبيب نعبر عنه بالشاب، ومن أبيه وهو عالم صوفي نعبر عنه بالشيخ : وهذا نصه باختصار ما :
قال التلميذ : تنبت الشجرة صغيرة ثم تنمو حتى تكون في زمن قريب أضعاف ما كانت، فمن أين تجيء هذه الزيادة، وكيف تدخل في بنيتها وتتفرق فتأخذ الساق منها حظا والفروع حظا وكذلك الورق والثمر ؟
الشاب : إن هذه الزيادة التي تدخل بنية النبات بعضها من الأرض وبعضها من الهواء. والنبات جسم حي، فهو بصفة الحياة يأخذ من عناصر الأرض والهواء ما يصلح لغذائه فيتغذى به كما يتغذى الحيوان بما يأكله ويشربه، وينمو بذلك كما ينمو الحيوان.
التلميذ : إننا لا نرى في الأرض ولا في الهواء شيئا من مادة النبات ولا من صفاته كاللون والطعم والرائحة.
الشاب : إنه يأخذ منها العناصر البسيطة فيأخذ من الهواء الأكسجين والنتروجين ( الأزوت ) وكذلك الكربون وبعض الأملاح التي توجد في الهواء عادة وإن لم تكن جزءا منه. ويأخذ من الأرض ما يناسبه من عناصرها الكثيرة كالبوتاسا والفسفور والحديد والجير والأملاح ويكون مما يأخذ من ذلك غذاءه بعمل كيماوي منتظم، يعجز عن مثله أعلم علماء الكيمياء. وقد علمت أن جميع هذه الصور المختلفة الأشكال والصفات إنما اختلف بعضها عن بعض باختلاف التركيب الكيماوي وعمل الطبيعة حتى أن مادة السكر هي عين المادة التي يتكون منها الحنظل، والماس والفحم الحجري من عنصر واحد.
الشيخ : إن النبات لا حياة فيه ولو كان يعمل عمله الذي ذكرت في معنى النمو وكيفيته بما تقتضيه صفة الحياة التي أثبتها له، لكان عالما بعمله ومختارا فيه ولم يرد بهذا نقل، ولا أثبته عقل، فنمو النبات إنما يكون بمحض قدرة الله تعالى.
الشاب : لا دليل على أن للنبات علما ولا على أنه لا علم له. فهو في عمله كأعضاء الإنسان وغيره من الحيوان التي تعمل أعمالا منتظمة لا شعور للإنسان بها ولا هي صادرة عن علمه وتدبيره، كأعمال المعدة والكبد في هضم الطعام فليس عندنا دليل على أن للمعدة علما خاصا ولا على أنه لا علم لها، ولكننا نعلم أنها عضو حي بحياة صاحبه فإذا أبين منه ثم وضع فيه الطعام فإنه لا يعمل ذلك العمل. وكون كل شيء بقدرة الله لا يمنع أن يكون لكل شيء سبب. فالله تعالى حكيم لا يعمل شيئا إلا بنظام ﴿ ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت ﴾ [ الملك : ٣ ].
التلميذ : من أين تكون هذه الحياة النباتية للنبات، والحياة الحيوانية للحيوان فهل المادة التي يتغذى بها النبات حية فيأخذ منها حياته ؟
الشاب : كلا إن مواد التغذية ليست حية بنفسها. ألا ترى أن الإنسان لا يأكل شيئا من الحيوان إلا بعد إماتته بنحو الذبح والطبخ. ولا يأكل نباتا إلا بعد إزالة حياته النباتية ولو بالقطع والمضغ فقط ؟ وكذلك النبات. ولكن في النواة التي تتولد منها الشجرة والبيضة التي تتولد منها الحيوان حياة كامنة مستعدة للنمو والتغدية على ما نشاهد في الكون. وهذه الحياة مجهولة الكنه والمبدأ حتى اليوم. وأمرها أخفى من أمر المادة في كنهها ومبدئها.
الشيخ : إذا كنتم في علمكم هذا أرجعتم جميع العناصر التي تألفت منها مادة الكون إلى شيء واحد عرف أثره ولم تعرف حقيقته كما قلت في مبحث الوحدانية فما بالكم تقفون في حياة بعض المواد كالنبات والحيوان، وتقولون لا نعرف مبدأ حياته وحقيقتها وتقفون عند هذا الحد، ولا تقولون : إن الذي صدرت عن ذاته جميع الذوات هو الحي القيوم الذي صدرت عن حياته كل حياة ؟
الشاب : لا شك أن الوجود الواجب القديم هو حي كما أنه قيوم فإذا كان معنى قيوميته أنه قائم بنفسه وكل شيء قائم به. فكذلك هو حي بذاته وكل ما عداه من الأحياء فهو حي به، أي انه يستمد حياته منه. لأن هذه الأحياء كلها من نبات وحيوان هي حادثة والحادث هو ما كان وجوده من غيره لا من ذاته. فالحياة أمر وجودي بل هي أعلى مراتب الوجود فهل يقول عاقل : إن تلك الذات الأزلية قد صدرت عنها الأشياء كلها بلا حياة. ثم إن بعضها أحدث لنفسه حياة ؟ هذه سخافة لا تخطر في بال عاقل، فالإنسان أرقى الأحياء على هذه الأرض لأن من أثر حياته العلم بالكليات والإرادة والتدبير والنظام وهو عاجز عن هبة الحياة لنفسه ولغيره. فغيره من الأحياء أحق بالعجز.
التلميذ : إذا كانت الحياة التي أثرها العلم والإرادة والتدبير والنظام هي أرقى مراتب الحياة وهي حياة الإنسان، ألا يلزم من ذلك مشابهة حياة الإنسان لحياة الله تعالى، لأن هذه الخصائص هي لحياة الله تعالى أيضا ؟
الشيخ : اعلم يا بني أن ذات الله تعالى لا تشبه الذوات، وصفاته لا تشبه الصفات، فإذا طرأت عليك الشبهة في أثر الحياة فقط لان حقيقتها مجهولة فتأمل الفرق بين الحياتين إن حياة الله تعالى ذاتية وحياة الإنسان من الل
المفردات : الرشد بالضم والتحريك إصابة وجه الأمر ومحجة الطريق والهدى إصابة الثاني فهو أخص من الرشد ومثله الرشاد ويستعمل في كل خير وضده الغي. والطاغوت مصدر الطغيان ومبعثه، وهو مجاوزة الحد في الشيء وهو صيغة مبالغة كالملكوت من الملك أو مصدر. ويصح في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع بحسب المعنى. والعروة من الدلو والكوز المقبض ومن الثوب مدخل الزر ومن الشجر الملتف الذي تشتو فيه الإبل فتأكل منه حيث لا كلأ ولا نبات أو هو ما يسقط ورقة كالأراك والسدر أو ما له أصل باق في الأرض أقوال يدل مجموعها على أن العروة هي ما يمكن الانتفاع به من الشجر في كل فصل لثباته وبقائه. وقالوا إذا أمحل الناس عصمت العروة الماشية يعنون ما له أصل باق كالنصى والعرفج وأجناس الخلة والحمض. والوثقى مؤنث الأوثق وهو الأشد الأحكم والموثق من الشجر ما يعول عليه الناس إذا انقطع الكلأ والشجر وأرض وثيقة كثيرة العشب يوثق بها. والانفصام الانكسار والانقطاع، مطاوع فصمه أي كسره أو قطعه ولم يبنه.
سبب النزول : روى أبو داود والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس قال كانت المرأة تكون مقلاة ( أي لا يعيش لها ولد ) فتجعل على نفسها إن عاش لها أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ ١. وأخرج ابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال نزلت :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله الآية. وفي بعض التفاسير أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟ ولابن جرير عدة روايات في نذر النساء في الجاهلية تهويد أولادهن ليعيشوا وأن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام فنزلت الآية فكانت فصل ما بينهم. وفي رواية له عن سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما أنزلت " قد خير الله أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فهم منهم ".
التفسير : أقول هذا هو حكم الدين الذي يزعم الكثيرون من أعدائه وفيهم من يظن أنه من أوليائه أنه قام بالسيف والقوة فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه فمن قبله نجا ومن رفضه حكم بالسيف فيه حكمه. فهل كان السيف يعمل في إكراه الناس على الإسلام في مكة أيام كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مستخفيا وأيام كان المشركون يفتنون المسلم بأنواع من العذاب ولا يجدون رادعا حتى اضطر النبي وأصحابه إلى الهجرة ؟ أم يقولون إن ذلك الإكراه وقع في المدينة بعد أن اعتز الإسلام وهذه الآية قد نزلت في غرة هذا الاعتزاز ؛ فإن غزوة بني النضير كانت في الربيع الأول من السنة الرابع وقال البخاري إنها كانت قبل غزوة أحد التي لا خلاف في أنها كانت في شوال سنة ثلاث وكان كفار مكة لا يزالون يقصدون المسلمين بالحرب. نقض بنو النضير عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكادوا له وهموا باغتياله مرتين وهم بجواره في ضواحي المدينة فلم يكن له بد من إجلائهم عن المدينة فحاصرهم حتى أجلاهم فخرجوا مغلوبين على أمرهم ولم يأذن لمن استأذنه من أصحابه بإكراه أولادهم المتهودين على الإسلام ومنعهم من الخروج مع اليهود. فذلك أول يوم خطر فيه على بال بعض المسلمين الإكراه على الإسلام. وهو اليوم الذي نزل فيه ( لا إكراه في الدين ).
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى : كان معهودا عند بعض الملل لاسيما النصارى حمل الناس على الدخول في دينهم بالإكراه. وهذه المسألة ألصق بالسياسة منها بالدين لأن الإيمان هو أصل الدين وجوهره عبارة عن إذعان النفس ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه. وإنما يكون بالبيان والبرهان ولذلك قال تعالى بعد نفي الإكراه ﴿ قد تبين الرشد من الغي ﴾ أي قد ظهر أن في هذا الدين الرشد والهدى والفلاح والسير في الجادة على نور. وأن ما خالف من الملل والنحل على غي وضلال. ﴿ فمن يكفر بالطاغوت ﴾ وهو كل ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج عن الحق من مخلوق يعبد، ورئيس يقلد، وهوى يتبع، ﴿ ويؤمن بالله ﴾ فلا يعبد إلا إياه، ولا يرجو غيره ولا يخشى سواه، ويرجوه ويخشاه لذاته، وبما سنه من الأسباب والسنن في عباده ﴿ فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾.
أقول : أي فقد طلب أو تحرى باعتقاده وعمله أن يكون متمسكا بأوثق عرى النجاة، وأثبت أسباب الحياة، أو فقد اعتصم بأوثق العرى، وبالغ في التمسك بها، وقال الأستاذ الإمام : الاستمساك بالعروة الوثقى هو الاستقامة على طريق الحق القويم الذي لا يضل سالكه، كما أن المتعلق بعروة هي أوثق العرى وأحكمها فتلا لا يقع ولا يتلفت. وقد حذف لفظ التي وذلك معروف عند العرب في مثل هذا الكلام، وأقول : أفاد كلامه أن عروة الشجر والنبات فهي التي لا ينقطع مددها بالقحط والجدب، كأنه يقول : إن المبالغ بالتمسك بهذا الحق والرشد كمن يأوي بنعمه إلى ذلك الشجر والنبات النابت الذي لا ينقطع مدده ولا يفنى علفه، فإذا نزل الجدب والقحط بمن يعتمدون على الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، كان هو معتصما بالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفروعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي أن صاحب هذه العروة يجد فيها السعادة الدائمة دون غيره.
ومما خطر لي عند الكتابة الآن : أن عروة الإيمان إذا كانت لا تنقطع بالمستمسك بها فهو لا يخشى عليه الهلكة إلا إذا كان هو الذي تركها. فإذا كان الإيمان بالله وما يتبعه من الآثار في صفات صاحبه وأعماله من أسباب الثبات والاستقرار في الوجود لأنه والحق والخير الموافق لمصالح العالم، فلا شك أن شدة التمسك به هي العصمة من الهلاك والسبب الأقوى للثبات والاستقرار في الملك والسيادة والسعة في هذه الحياة الدنيا وللبقاء الأبدي في الحياة الأخرى. والتعبير بالاستمساك يدل على أن من لم يكفر بجميع مناشئ الطغيان، ويعتصم بالحق اليقين من أصول الإيمان، فهو لا يعد مستمسكا بالعروة الوثقى وإن انتمى في الظاهر إلى أهلها، أو ألم بها إلمام الممسك بها، فالعبرة بالاعتصام والاستمساك الحقيقي، لا بمجرد الأخذ الضعيف الصوري، والانتماء القولي والتقليدي.
﴿ والله سميع ﴾ لأقوال مدعي الكفر بالطاغوت والإيمان بالله بألسنتهم، ﴿ عليم ﴾ بما تكنه قلوبهم مما يصدق ذلك أو يكذبه فهو يجزيهم وصفهم فمن شهد بقوة إيمانه جميع الأسباب والسنن الكونية المسخرة بحكمة الله تعالى مسيرة بقدرته وأنه لا تأثير لسواها إلا لواضعها والفاعل بها فهو المؤمن حقا وله جزاء المستمسك بالعروة الوثقى، ومن كان منطويا على شيء من نزعات الوثنية، ناحلا ما جهل سره من عجائب الخلق قوة غير طبيعية، يتقرب إليها أو يتقرب بها إلى الله زلفى، فهو غير معتصم بالعروة الوثقى، وله جزاء الكافرين، الذين يقولون آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين.
وقال الأستاذ الإمام : إن هذه الجملة ( والله سميع عليم ) تذكر للترغيب والتهديد أي فهي تفسر بحسب المقام كما قلنا. فهي جامعة هنا بين الأمرين.
ورد معنى هذه الآية قوله تعالى :﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾ [ يونس : ٩٩ ] ويؤيدهما الآيات الكثيرة الناطقة بأن الدين هداية اختيارية للناس تفرض عليهم مؤيدة بالآيات والبينات وإن الرسل لم يبعثوا جبارين ولا مسيطرين، وإنما بعثوا منذرين، ولكن يرد علينا أننا قد أمرنا بالقتال وقد تقدم بيان الحكمة ذلك. بل أقول : إن الآية التي نفسرها نزلت في غزوة بني النضير إذ أراد بعض الصحابة إجبار أولادهم المتهودين أن يسلموا ولا يكونوا مع بني النضير في جلائهم كما مر، فبين الله لهم أن الإكراه ممنوع وأن العمدة في دعوة الدين بيانه حتى يتبين الرشد من الغي وإن الناس مخيرون بعد ذلك في قبوله وتركه. وشرع القتال لتأمين الدعوة ولكف شر الكافرين عن المؤمنين لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه. ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه كما كانوا يفعلون في مكة جهرا ولذلك قال :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ] أي حتى يكون الإيمان في قلب المؤمن آمنا من زلزلة المعاندين له بإيذاء صاحبه فيكون دينه خالصا لله غير مزعزع ولا مضطرب. فالدين لا يكون خالصا لله إلا إذا كفت الفتن عنه وقوي سلطانه حتى لا يجرؤ على أهله أحد.
( قال الأستاذ الإمام ) : وإنما تكف الفتن بأحد أمرين ( الأول ) إظهار المعاندين الإسلام ولو باللسان لأن من فعل ذلك لا يكون من خصومنا ولا يبارزنا بالعداء وبذلك تكون كلمتنا بالنسبة إليه هي العليا ويكون الدين لله ولا يفتن صاحبه فيه ولا يمنع من الدعوة إليه ( الثاني ) وهو أدل على عدم الإكراه قبول الجزية وهو شيء من المال يعطوننا إياه جزاء حمايتنا لهم بعد خضوعهم لنا وبهذا الخضوع نكتفي شرهم وتكون كلمة الله هي العليا. فقوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام وركن عظيم من أركان سياسته فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه ولا يسمح لأحد أن يكره أحدا من أهله على الخروج منه. وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا في ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدي بمثله عليه إذا أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا الحكمة والموعظة الحسنة وأن نجادل المخالفين بالتي هي أحسن معتمدين على أن تبين الرشد من الغي بالبرهان : هو الصراط المستقيم إلى الإيمان، مع حرية الدعوة، وأمن الفتنة، فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار أي أنه ليس من جوهره ومقاصده وإنما هو سياج له وجنة. فهو أمر سياسي لازم له للضرورة.
لا التفات لما يهذي به العوام، ومعلموهم الطغام، إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف وأن الجهاد مطلوب لذاته، فالقرآن في جملته وتفصيله حجة عليهم. وتأمل مع ما ذكرناك به من الآيات قوله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ﴾.
أقول : ومما يجب بيانه في تفسير هذه الآية أيضا الفرق بين ولاية الله للمؤمنين وولايتهم له وولاية بعضهم لبعض. فإن الجاهلين لا يميزون بين الولايتين فيجعلون لبعض المؤمنين من الولاية ما هو لله تعالى وحده، وذلك شرك في التوحيد خفي عند الجاهل جلي عند العارف ولا بد من تفصيل فيه.
هذه الآية تثبت ولاية الله وحده للمؤمنين وفي معناها آيات تفيد الحصر كقوله تعالى في سورة الشورى ﴿ أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي ﴾ [ الشورى : ٩ ] الآية وقوله فيها ﴿ وهو الولي الحميد ﴾ [ الشورى : ٢٨ ] وثمة آيات كثيرة تنفي ولاية غيره تعالى كالآيات التي تقدمت في الكلام على الشفاعة، وكقوله تعالى في سورة هود بعد أمر النبي ومن معه بالاستقامة ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ﴾ [ هود : ١١٣ ] وقوله في الأنعام ﴿ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ﴾ [ الأنعام : ١٤ ] وقوله ﴿ إن ولي الله الذي أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ﴾ [ الأعراف : ١٩٦ ] وكذلك أمر سائر الأنبياء أن لا يتخذو وليا لهم غير الله تعالى، أي وأن يعلموا أممهم ذلك. قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام ﴿ رب قد آتيتنني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] وقال ﴿ وكفى بالله وليا ﴾ [ النساء : ٤٥ ] فهذه شواهد على ولاية الله وحده للمؤمنين ونهيهم عن اتخاذ ولي من دونه وورد في ولايتهم له قوله في سورة يونس ﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ [ يونس : ٦٢ ] وفي معناها قوله في سورة الأنفال بعد ذكر المشركين ﴿ وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ الأنفال : ٣٤ ].
وقال تعالى في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] وقال ﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ﴾ [ التوبة : ٧٢ ].
يقابل ولاية الله تعالى للمؤمنين وولايتهم له، ولاية الشيطان والطاغوت للكافرين وولايتهم لهما كما ترى في الآية التي نحن بصددها تفسيرها وقال تعالى ﴿ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ] وقال ﴿ فقاتلوا أولياء الشيطان ﴾ [ النساء : ٧٦ ] وقال ﴿ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ﴾ [ الأعراف : ٣٠ ] ويقابل ولاية المؤمنين بعضهم لبعض كما قال ﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ﴾ [ الأنفال : ٧٣ ] وقال ﴿ بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ بالمائدة : ٥١ ].
ومن تأمل هذه الآيات رأى معانيها ظاهرة جلية أما كونه تعالى هو الولي وحده لا ولي سواه فالمراد به أنه هو المتولي لأمور العباد في الواقع ونفس الأمر كما تقدم وذلك بما خلق لهم من المنافع ومن الأعضاء والقوى التي تمكنهم من الانتفاع بها وبما بين لهم من السنن ومهد لهم من الأسباب وهذه هي الولايات العامة المطلقة وأما ولايته للمؤمنين خاصة فهي عبارة عن عنايته بهم وإلهامه وتوفيقه إياهم لما فيه الخير والصلاح الروحاني والجسماني بما اختاروا لأنفسهم من الإيمان به وبما جاءت به رسله. وأما ولايتهم له تعالى فقد عبر عنها بالإيمان والتقوى فهم بالإيمان بولايته لهم يتولونه أي يعتقدون أنه هو المتولي لأمورهم وحده كما تقدم، وهم في استفادتهم بقواهم من منافع الكون واتقائهم لمضاره يلاحظون أن هذا من فضله عليهم وتوليه لأمورهم، إذ مكنهم من ذلك وهيأ أسبابه لهم وإذا ضعفت قواهم دون مطلب من مطالبهم أو جهلوا طريقه وسببه، توجهوا إليه وحده مع تعاونهم وتناصرهم لا يتوجهون إلى غيره في استمداد العناية وطلب التوفيق والهداية كما تقدم آنفا. ثم إنهم مع هذا الإيمان يتقونه تعالى بترك المعاصي والإثم والظلم والبغي في الأرض وغير ذلك مما جعله الله سبب البلاء والشقاء في الدنيا والآخرة بفعل الطاعات والخيرات التي هي أسباب السعادة في الدارين. فهذا معنى تفسير أوليائه الذين آمنوا وكانوا يتقون.
وأما ولاية المؤمنين بعضهم لبعض فهي عبارة عن تعاونهم وتناصرهم في الأمور المشتركة مع استقامتهم على الأعمال الصالحة الخاصة لأن الفساد الشخصي، لا يتفق مع القيام بالمصالح العامة وذلك ظاهر من قوله بعد ذكره هذه الولاية ﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾ [ التوبة : ٧١ ] الخ ومن وصفهم بالمجاهدة في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم كما في الآية الأخرى فكل من كان كذلك وجبت ولايته على جميع المؤمنين ولا معنى لكون المؤمن وليا للمؤمن إلا هذا أي أنه عون ونصير في الحق الذي يعلو به شأن الإيمان وأهله فمن تجاوز ذلك فاتخذ له وليا أو أولياء يعتقد أنهم يتولون شيئا من أموره فيما وراء هذا التعاون والتناصر بين الناس فقد أشرك إذ اعتدى على ولاية الله الخاصة به التي لا يشاركه فيها أحد لا بالتوسط عنده ولا الاستقلال دونه.
هذا المعنى هو عين ولاية الكافرين للشيطان أو الطاغوت كما قال ﴿ والذين اتخذوا من دون الله أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] ولا يقال إن هذا يقتضي أن يسمي بالطاغوت بعض من اتخذ وليا بهذا المعنى من الأنبياء والصالحين كعيسى عليه السلام فإن الذين اعتقدوا هذه الولاية لعيسى وغيره من الصالحين لم يتبعوهم في ذلك وإنما اتبعوا وحي شياطين الإنس والجن ووساوسهم فهو الطاغوت كما قال :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ] الآية قال ﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضه إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] وإن بعضهم ليتبرأ من بعض يوم القيامة كما علم من الآيات الأخرى ومن هذا التقرير تعلم أن القرآن حجة على كل من أسند ولاية الله الخاصة إلى غيره وإن كان ينسب إلى الإسلام. وقد أوغل بعض متخذي الأولياء في دعاء أوليائهم ومطالبتهم بما لا يطلب إلا من الله تعالى حتى صار في المنتسبين إلى العلم منهم من يقول ويكتب أن فلانا الولي يميت ويحيي ويسعد ويشقي ويفقر ويغني، فعليك أيها المؤمن بهدى القرآن ولا يغرنك تأويل أولياء الشيطان.
وقال الأستاذ الإمام : ذهب كثير من المفسرين في معنى الآية إلى أن الله تعالى هو متولي أمور المؤمنين يوفقهم إلى الخروج في الغواية، ويمدهم في الهداية بمحض القدرة كما أن الطاغوت يمدون الكافرين في الغواية، ويخرجونهم بالإغواء من نور الحق إلى ظلمات الضلالة، وهذا تفسير العوام الذين لا يفهمون أساليب اللغة العالية أو تفسير الأعاجم الذين هم أجدر بعدم الفهم. ومعنى الآية الذي يلتئم مع معنى سابقتها ظاهر أتم الظهور وهو أن المؤمن لا ولي له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى، ومتى كان كذلك فإنه يهتدي إلى استعمال الهدايات التي وهبها الله له على وجهها وهي الحواس والعقل والدين. فهؤلاء المؤمنون كلما عرضت لهم شبهة لاح لهم بسلطان الولاية الإلهية على قلوبهم شعاع من نور الحق يطرد ظلمتها فيخرجون منها بسهولة ﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾ [ الأعراف : ٢٠١ ] جولان الحواس في رياض الأكوان، وإدراكها ما فيها من بديع الصنع والإتقان يعطيهم نورا. ونظر العقل في فنون المعقولات يعطيهم نورا، وما جاء به الدين من الآيات البينات يتم لهم نورهم.
﴿ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ﴾ أي لا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة السائقة على الطغيان فإذا كان الطاغوت من الأحياء الناطقة ورأى أن عابديه قد لاح شعاع نور الحق الذي ينبههم إلى فساد ما هم فيه بادر إلى إطفائه بل إلى صرفهم عنه بما يلقيه دونه من حجب الشبهات وأستار زخارف الأقوال التي تقبل منه لأجل الاعتقاد أو بنفس الاعتقاد. وإذا كان الطاغوت من غير الأحياء فإن سدنة هيكله وزعماء حزبه لا يقصرون في تنميق هذه الشبهات، وتزيين تلك الشهوات. أقول : بل هؤلاء الزعماء يعدون من الطاغوت كما علم من تفسيره. فإنهم دعاة الطغيان وأولياؤه فإن لم يكونوا ممن تعتقد فيهم السلطة الغيبية وتوله العقول في مزاياهم الإلهية فإنهم ممن يؤخذ بقولهم في الاعتقاد بتلك السلطة والمزايا وما ينبغي لمظاهرها أو لأربابها من التعظيم الذي هو عين العبادة وإن سمي توسلا أو استشفاعا أو غير ذلك.
ثم قال الأستاذ : الظلمات من الضلالات التي تعرض على الإنسان في كل طور من أطوار حياته كالكفر والشبهات التي تعرض دون الدين، فتصد عن النظر الصحيح فيه أو تحول دون فهمه والإذعان له، وكالبدع والأهواء التي تحمل على تأويله وصرفه عن وجهه، وكالشهوات والحظوظ التي تشغل عنه وتستحوذ على النفس حتى تقذفها في الكفر.
أقول : ولهذه الظلمة شعبتان إحداهما : ما يخرج صاحبها من الإيمان ظاهرا وباطنا لأنه يرى ذلك وسيلة إلى التمتع بشهواته الحسية أو المعنوية كالسلطة والجاه. والثانية : ما يسترسل صاحبها من الفواحش والمنكرات أو الظلم والطغيان حتى لا يبقى لنور الدين مكان من قلبه وهؤلاء هم المشار إليهم بمثل قوله تعالى :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ﴾ [ المطففين : ١٤ ١٥ ] الآيات. وقال رحمه الله تعال : لا توجد مرآة يرى فيها عبدة الطاغوت أنفسهم كما هي أجلى من القرآن : أي ولكنهم لا ينظرون فيه إما لأنهم استحبوا العمى وألفوه حتى لم يبق من أمل في شفاء بصائرهم وأما لأن طاغوتهم يحولون بينهم وبينه ما تقدم.
﴿ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ لأن النار هي الدار التي تليق بأهل الظلمات الذين لم يبق لنور الحق والرشاد مكان في أنفسهم يصلها بدار النور والرضوان. فما يكون عليه الإنسان في الآخرة هو عاقبة ما كانت عليه نفسه في الدنيا. وقد سبق القول بأن الخوض في حقيقة تلك الدار التي سميت بالنار غير جائز وإنما يعتقد من مجموع النصوص أنها دار شقاء يعذب المرء فيها بما تقدم من عمله السيء. وقد يكون هذا العذاب بالبرد إذ ورد أن فيها الزمهرير وأزيد الآن : أنه لا يبعد تكون شبيهة بالأرض من حيث أن فيها مواضع شديدة الحر كالأماكن التي في خط الاستواء ومواضع شديدة البرد كالقطبين إلا أنها أبعد من الأرض عن الاعتدال، فحرها وبردها أشد ومصادرهما غير معروفة لنا. أعاذنا الله منها ومما يؤدي إليها من اعتقاد وقول وعمل بمنه وكرمه آمين.
أقول : ومما يجب بيانه في تفسير هذه الآية أيضا الفرق بين ولاية الله للمؤمنين وولايتهم له وولاية بعضهم لبعض. فإن الجاهلين لا يميزون بين الولايتين فيجعلون لبعض المؤمنين من الولاية ما هو لله تعالى وحده، وذلك شرك في التوحيد خفي عند الجاهل جلي عند العارف ولا بد من تفصيل فيه.
هذه الآية تثبت ولاية الله وحده للمؤمنين وفي معناها آيات تفيد الحصر كقوله تعالى في سورة الشورى ﴿ أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي ﴾ [ الشورى : ٩ ] الآية وقوله فيها ﴿ وهو الولي الحميد ﴾ [ الشورى : ٢٨ ] وثمة آيات كثيرة تنفي ولاية غيره تعالى كالآيات التي تقدمت في الكلام على الشفاعة، وكقوله تعالى في سورة هود بعد أمر النبي ومن معه بالاستقامة ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ﴾ [ هود : ١١٣ ] وقوله في الأنعام ﴿ قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين ﴾ [ الأنعام : ١٤ ] وقوله ﴿ إن ولي الله الذي أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ﴾ [ الأعراف : ١٩٦ ] وكذلك أمر سائر الأنبياء أن لا يتخذو وليا لهم غير الله تعالى، أي وأن يعلموا أممهم ذلك. قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام ﴿ رب قد آتيتنني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] وقال ﴿ وكفى بالله وليا ﴾ [ النساء : ٤٥ ] فهذه شواهد على ولاية الله وحده للمؤمنين ونهيهم عن اتخاذ ولي من دونه وورد في ولايتهم له قوله في سورة يونس ﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ [ يونس : ٦٢ ] وفي معناها قوله في سورة الأنفال بعد ذكر المشركين ﴿ وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ الأنفال : ٣٤ ].
وقال تعالى في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] وقال ﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ﴾ [ التوبة : ٧٢ ].
يقابل ولاية الله تعالى للمؤمنين وولايتهم له، ولاية الشيطان والطاغوت للكافرين وولايتهم لهما كما ترى في الآية التي نحن بصددها تفسيرها وقال تعالى ﴿ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ] وقال ﴿ فقاتلوا أولياء الشيطان ﴾ [ النساء : ٧٦ ] وقال ﴿ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ﴾ [ الأعراف : ٣٠ ] ويقابل ولاية المؤمنين بعضهم لبعض كما قال ﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ﴾ [ الأنفال : ٧٣ ] وقال ﴿ بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ بالمائدة : ٥١ ].
ومن تأمل هذه الآيات رأى معانيها ظاهرة جلية أما كونه تعالى هو الولي وحده لا ولي سواه فالمراد به أنه هو المتولي لأمور العباد في الواقع ونفس الأمر كما تقدم وذلك بما خلق لهم من المنافع ومن الأعضاء والقوى التي تمكنهم من الانتفاع بها وبما بين لهم من السنن ومهد لهم من الأسباب وهذه هي الولايات العامة المطلقة وأما ولايته للمؤمنين خاصة فهي عبارة عن عنايته بهم وإلهامه وتوفيقه إياهم لما فيه الخير والصلاح الروحاني والجسماني بما اختاروا لأنفسهم من الإيمان به وبما جاءت به رسله. وأما ولايتهم له تعالى فقد عبر عنها بالإيمان والتقوى فهم بالإيمان بولايته لهم يتولونه أي يعتقدون أنه هو المتولي لأمورهم وحده كما تقدم، وهم في استفادتهم بقواهم من منافع الكون واتقائهم لمضاره يلاحظون أن هذا من فضله عليهم وتوليه لأمورهم، إذ مكنهم من ذلك وهيأ أسبابه لهم وإذا ضعفت قواهم دون مطلب من مطالبهم أو جهلوا طريقه وسببه، توجهوا إليه وحده مع تعاونهم وتناصرهم لا يتوجهون إلى غيره في استمداد العناية وطلب التوفيق والهداية كما تقدم آنفا. ثم إنهم مع هذا الإيمان يتقونه تعالى بترك المعاصي والإثم والظلم والبغي في الأرض وغير ذلك مما جعله الله سبب البلاء والشقاء في الدنيا والآخرة بفعل الطاعات والخيرات التي هي أسباب السعادة في الدارين. فهذا معنى تفسير أوليائه الذين آمنوا وكانوا يتقون.
وأما ولاية المؤمنين بعضهم لبعض فهي عبارة عن تعاونهم وتناصرهم في الأمور المشتركة مع استقامتهم على الأعمال الصالحة الخاصة لأن الفساد الشخصي، لا يتفق مع القيام بالمصالح العامة وذلك ظاهر من قوله بعد ذكره هذه الولاية ﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ﴾ [ التوبة : ٧١ ] الخ ومن وصفهم بالمجاهدة في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم كما في الآية الأخرى فكل من كان كذلك وجبت ولايته على جميع المؤمنين ولا معنى لكون المؤمن وليا للمؤمن إلا هذا أي أنه عون ونصير في الحق الذي يعلو به شأن الإيمان وأهله فمن تجاوز ذلك فاتخذ له وليا أو أولياء يعتقد أنهم يتولون شيئا من أموره فيما وراء هذا التعاون والتناصر بين الناس فقد أشرك إذ اعتدى على ولاية الله الخاصة به التي لا يشاركه فيها أحد لا بالتوسط عنده ولا الاستقلال دونه.
هذا المعنى هو عين ولاية الكافرين للشيطان أو الطاغوت كما قال ﴿ والذين اتخذوا من دون الله أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] ولا يقال إن هذا يقتضي أن يسمي بالطاغوت بعض من اتخذ وليا بهذا المعنى من الأنبياء والصالحين كعيسى عليه السلام فإن الذين اعتقدوا هذه الولاية لعيسى وغيره من الصالحين لم يتبعوهم في ذلك وإنما اتبعوا وحي شياطين الإنس والجن ووساوسهم فهو الطاغوت كما قال :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ] الآية قال ﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضه إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] وإن بعضهم ليتبرأ من بعض يوم القيامة كما علم من الآيات الأخرى ومن هذا التقرير تعلم أن القرآن حجة على كل من أسند ولاية الله الخاصة إلى غيره وإن كان ينسب إلى الإسلام. وقد أوغل بعض متخذي الأولياء في دعاء أوليائهم ومطالبتهم بما لا يطلب إلا من الله تعالى حتى صار في المنتسبين إلى العلم منهم من يقول ويكتب أن فلانا الولي يميت ويحيي ويسعد ويشقي ويفقر ويغني، فعليك أيها المؤمن بهدى القرآن ولا يغرنك تأويل أولياء الشيطان.
قال الأستاذ الإمام وعزاه إلى المحققين الكلام متصل بما قبله وشاهد عليه كأنه يقول انظروا إلى إبراهيم كيف يهتدي بولاية الله له إلى الحجج القيمة والخروج من الشبهات التي تعرض عليه فيظل على نور من ربه وإلى الذي حاجه كيف كان بولاية الطاغوت له يعمى عن نور الحجة وينتقل من ظلمة من ظلمات الشبه والشكوك إلى أخرى. قالوا الاستفهام في قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ﴾ للتعجيب من هذه المحاجة وغرور صاحبها وغباوته مع الإنكار. وقوله تعالى :﴿ أن آتاه الله الملك ﴾ معناه أن الذي حمله على هذه المحاجة هو إيتاء الله تعالى الملك له. فكان منشأ إسرافه في غروره وسبب كبريائه وإعجابه بقدرته ﴿ إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ﴾ وكأنه كان قد سأله عن ربه الذي يدعو إلى عبادته وقد كسر الأصنام التي تعبد من دونه وسفه أحلام عابديها لأجله. فأجاب بهذا الجواب فأنكره الملك الطاغية الذي حكي عنه ادعاء الألوهية لنفسه ﴿ قال أنا أحيي وأميت ﴾ أحيي من أحكم عليه بالإعدام بالعفو عنه وأميت من شئت إماتته بالأمر بقتله، فدل جوابه هذا على أنه لم يفهم قول إبراهيم عليه السلام.
قال الأستاذ الإمام لم يقل " فقال أنا أحيي وأميت " لأن جوابه منقطع عن الدليل لا يتصل به بالمرة فإنه أراد أن يكون سببا للإحياء والإماتة والكلام في الإنشاء والتكوين لا في اتخاذ الأسباب والتوسل في الشيء المكون فالمراد بالذي يحيي ويميت : الذي ينشئ الحياة في جميع العوالم الحية من نبات وحيوان وغيرها ويزيل الحياة بالموت وعبر بالذي الدال على المعهود المعروفة صلته دون ( من ) التي فيها الإبهام وبالمضارع الدال على التجدد والاستمرار لإفادة أن هذا شأنه دائما كما هو معهود لمن نظر في الأكوان نظر المفكر المستدل.
ولما رأى إبراهيم أنه لم يفهم أن مراده بالذي يحيي ويميت مصدر التكوين الذي يحيا كل حي بإحيائه ويموت بقطع إمداده له بالحياة ﴿ قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب ﴾ فهذا إيضاح لقوله الأول وإزالة لشبهة الخصم لا أنه جواب كما فهم الجلال وغيره والمعنى أن ربي الذي يعطي الحياة ويسلبها بقدرته وحكمته هو الذي يطلع الشمس من المشرق أي هو المكون لهذه الكائنات بهذا النظام والسنن الحكيمة التي نشاهدها عليها. فإن كنت تفعل كما يفعل فغير لنا نظام طلوع الشمس وائت بها من الجهة المقابلة للجهة التي جرت سنته تعالى بظهورها منها ﴿ فبهت الذي كفر ﴾ أي أدركته الحيرة وأخذه الحصر من نصوع الحجة وسطوعها فلم يحر جوابا ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾.
قال الأستاذ الإمام : هذا ترشيح للكلام والمراد بالظلم في هذا المقام الإعراض عن النور الإلهي وهو نور العقل الذي يسير به المرء في طريق الدين فمن ظلم نفسه بإطفاء هذا المصباح فسار يتخبط في الظلمات فإنه لا يهتدي في سيره إلى الصراط المستقيم الموصل إلى السعادة بل يضل عنه حتى يهلك دون غاية.
أقول : يريد بمطفئ المصباح من لم يجعل الحكم في أمر الدين لنظر العقل الصحيح البريء من الهوى ونزاعات التقليد، بل يحكم الطاغوت الذي استسلم له كتقليده للذين وثق بهم تاركا ما أعطاه الله من الاستعداد للفهم اكتفاء برأيهم أو اتباعا لهواه وشهواته التي تزين له ما فيه وتوهمه أن النظر في الدليل قد يقنعه بترك ما هو متمتع به فيفوته. فخير له أن يعرض عن النظر والفكر ويسترسل فيما فيه.
من فهم الآية على الوجه الذي قررناه يعلم أن لا محل للشبهة التي يوردها بعض الناس على حجة إبراهيم عليه السلام وهي انه كان لنمروذ أن يقول له إذا كان ربك هو الذي يأتي بالشمس من المشرق وهو قادر على ما طالبتني به من الإتيان بها من المغرب فليأت بها يوما ما. قال بعض المقلدين ولا يمكن أن يسأل إبراهيم ربه ذلك لأن فيه خراب العالم. وقال بعض المرتابين إنه لو قال له نمروذ ذلك لألزمه. وقد فهم نمروذ على طغيانه وغروره من الحجة ما لا يفهم هؤلاء القائلون. فهم أن مراد إبراهيم أن هذا النظام في سير الشمس لا بد له من فاعل حكيم إذ لا يكون مثله بالمصادفة والاتفاق وإن ربي الذي أعبده هو ذلك الفاعل الحكيم الذي قضت حكمته بأن تكون الشمس على ما نرى. ومن فهم هذا لا يمكن أن يقول اطلب من هذا الحكيم أن يرجع عن حكمته ويبطل سنته. كذلك لا محل لقول بعضهم لم سكت إبراهيم عن كشف شبهته الأولى إذ زعم أن ترك القتل إحياء فقد علمت أن مسألة الشمس قد كشفت ذلك انكشافا لا يخفى على من تخفى عليه الشمس.
( المفردات ) الكاف في قوله " أو كالذي " بمعنى مثل فهي اسم ومن الشواهد على ذلك قول الراجز :
بيض ثلاث كنعاج جم *** يضحكن عن كالبرد المنهم١
أي عن ثنايا مثل حب البرد الذائب وقول الشاعر :
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل٢
وزعم الجلال أنها زائدة انتصارا لمذهب البصريين الذين أنكروا مجيء الكاف بمعنى مثل. ولكن المعنى لا يستقيم كما يليق ببلاغة القرآن إلا على الأول قال الأستاذ الإمام : إن تحكيم مذاهبهم النحوية في القرآن ومحاولة تطبيقه عليها وإن أخل ذلك ببلاغته جراءة كبيرة على الله تعالى، وإذا كان النحو وجد لمثل ذلك فليته لم يوجد.
والقرية بالفتح الضيعة والمصر الجامع وأصل معنى المادة الجمع ومنه قرية النمل لمجتمع ترابها ويعبر بالقرية عن الأمة.
والخاوية الخالية يقال خوى المنزل خواء، وخوى بطن الحامل وقيل يعني ساقطة من خوى النجم إذا سقط.
والعروش السقوف.
ويتسنه يتغير بمرور السنين واشتقاقه من السنة. فهاؤه أصلية يقال سنه ( كتعب ) أتت عليه السنون وتسنهت النخلة أتت عليها السنون وتسنه الطعام تكرج وتعفن لطول الزمن أو أصله تسنى أو تسنن والهاء للسكت.
وننشزها بالزاي نرفعها من أنشزه إذا رفعه. وننشرها بالراء نتقويها ومنها حديث أبو داود " لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم " ٣.
( التفسير ) قال الأستاذ الإمام ما ملخصه : للمفسرين في الآية قولان أحدهما : إن هذا الذي مر على القرية كان من الصديقين أو الأنبياء. وثانيهما : أنه كان من الكافرين، وهو ضعيف، لأن الكافر لا يؤيد بآيات الله. فالكلام على الوجه الأول وهو الصحيح مثل لهداية الله تعالى للمؤمنين وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما كان شأن إبراهيم مع ذلك الكافر. وقالوا إن هذا لا يصح أن يكون معطوفا على قصة الذي حاج إبراهيم في ربه، لأن ذلك منكر، ورد على طريقة التعجيب والإنكار لأن من شأن مثله أن لا يقع. وهذا وإن كان عجيبا لا يصح إنكار وقوعه لأن الشبهة قد تعرض للمؤمن وهو مؤمن فيطلب المخرج بالبرهان فيهديه الله إليه بما له من الولاية والسلطان على نفسه، ويخرجه من ظلمات الشبهة والحيرة إلى نور البرهان والطمأنينة. وقد قدروا هنا " أرأيت " لإثبات التعجيب دون الإنكار أي ﴿ أو ﴾ أرأيت ﴿ كالذي مر على قرية ﴾ أي مثل الذي مر على قرية في إلمام ظلمة الشبهة به وإخراج الله إياه منها إلى النور.
وقد أبهم الله تعالى هذا المار وهذه القرية، فلم يذكر مكانها وأصحابها، بل اقتصر على الوصف الذي به تقرر الحجة حتى لا يشغل القارئ أو السامع عنها شاغل. فهو من الاختصار البليغ ولكن المفسرين أبوا إلا أن يبحثوا عنها وعمن مر بها، فقال بعضهم إنها قرية الذين خرجوا من ديارهم وقيل غير ذلك وقيل إن الذي مر أرمياء وقيل العزيز رجما بالغيب أو تسليما للإسرائيليات.
وقوله :﴿ وهي خاوية على عروشها ﴾ معناه وهي خالية من السكان واقعة على عروشها فقوله " على عروشها " خبر بعد خبر أو متعلق بخاوية على القول الثاني أي ساقطة على عروشها. وقيل المعنى : وهي خاوية من السكان وقائمة على عروشها. ومن أمثالهم : إذا نزعت القوائم سقطت العروش. والحال تأتي من النكرة خلافا لمن منع ذلك وأوقع المفسرين في التعسف في التأويل.
واختيار الجملة الحالية على الحال المفرد لتمثيل حال القرية في النفس بذكر ضميرها وإسناد خاوية إليه. ولو قال : على قرية خاوية لما أفاد هذا التمثيل.
﴿ قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ﴾ يتعجب من ذلك ويعده غريبا لا يكاد يقع ﴿ فأماته الله مئة عام ثم بعثه ﴾ قالوا معناه ألبثه مئة عام ميتا. وذلك أن الموت يكون في لحظة واحدة قال الأستاذ الإمام : وفاتهم أن من الموت ما يمتد زمنا طويلا وهو ما يكون من فقد الحس والحركة والإدراك من غير أن تفارق الروح البدن بالمرة، وهو ما كان لأهل الكهف وقد عبر عنه تعالى بالضرب على الآذان. أقول : ولعل وجهه أن السمع آخر ما يفقد من إدراك من أخذه النوم أو الموت. وهذا الموت أو الضرب على الآذان هو المراد بالشق الثاني من قوله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ﴾ [ العنكبوت : ٤٢ ] والبعث هو الإرسال. فإذا كان هذا النوع من الموت يكون بتوفي النفس أي قبضها فزواله إنما يكون بإرسالها وبعثها.
وأقول : قد ثبت في هذا الزمان أن من الناس من تحفظ حياته زمنا طويلا يكون فيه فاقد الحس والشعور، ويعبرون عن ذلك بالسبات وهو النوم المستغرق الذي سماه الله وفاة. وقد كتب إلى مجلة المقتطف سائل يقول إنه قرأ في بعض التقاويم أن امرأة نامت ٥٥٠٠ يوم أي بلياليها من غير أن تستيقظ ساعة ما في خلال هذه المدة. وسأل هل هذا صحيح ؟ فأجابه أصحاب المجلة بأنهم شاهدوا شابا نام نحو شهر من الزمان ثم أصيب بدخل في عقله. وقرؤوا عن أناس ناموا نوما طويلا أكثره أربعة أشهر ونصف واستبعدوا أن ينام إنسان مدة ٥٥٠٠ أي أكثر من ١٥ سنة نوما متواليا. وقالوا إنهم لا يكادون يصدقون ذلك. نعم إن الأمر غير مألوف، ولكن القادر على حفظ الإنسان أربعة أشهر ونصف و١٥ سنة قادر على حفظه مئة سنة، وإن لم نهتد إلى سنته في ذلك. فلبث الرجل الذي ضرب على سمعه هنا مثلا مئة سنة غير محال في نظر العقل ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلا أن تكون من الممكنات دون المستحيلات. وإنما ذكرنا ما وصل إليه علم بعض الناس من هذا السبات الطويل الذي لم بعهده أكثرهم لأجل تقريب إمكان هذه الآية من أذهان الذين يعسر عليهم التمييز بين ما يستعبد لأنه غير مألوف، وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته.
﴿ قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مئة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ﴾ أي لم يفسد بمرور السنين. أقول : ولم يبين لنا تعالى نوع ذلك الطعام وذلك الشراب ولابد أن يكون مما يعد بقاؤه مئة عام من الآيات التي تدل رائيها على ما لا يعلم من قدرة الله تعالى، وإلا فإن من الطعام والشراب ما لا يفسد بطول السنين. وقد اختلفوا في المراد بقوله تعالى :﴿ وانظر إلى حمارك ﴾ فقيل معناه انظر كيف مات وتفرقت أو تفتتت عظامه، فلولا طول المدة لم يكن كذلك. وقيل معناه انظر كيف بقي حيا طول هذه المدة على عدم وجود من يعتني بشأنه. كذلك اختلفوا في قوله ﴿ ولنجعلك آية للناس ﴾ من حيث العطف ولا معطوف عليه في الكلام، فقدر بعضهم فعلا محذوفا أي ولنجعلك آية للناس فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء.
وقال الأستاذ الإمام : لنزيل تعجبك ونريك آياتنا في نفسك وطعام وشرابك وحمارك ولنجعلك آية للناس. فالعطف دلنا على المحذوف المطوى دلالة ظاهرة وهذا من لطائف إيجاز القرآن. أما كون ما رأى آية له فظاهر وأما كونه هو آية للناس فهو أن علمه بموته مئة سنة ثم بحياته بعد ذلك من أكبر الآيات. وقد قال المفسرون إنه كان عند موته لا يزال شابا وكان له أولاد قد شابوا وهرموا وقد عرفوه وعرفهم وبيان ذلك أن بدنه لم يعمل في هذه المدة الأعمال التي تضنيه وتذهب بماء الشباب منه فتهرمه بل حفظت له حالته التي توفيت نفسه وهو عليها.
ثم قال :﴿ وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحما ﴾ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ننشرها بالراء من الانشار والباقون بالزاي من الانشاز. قال من ذهب إلى أن الحمار مات : إن المراد بالعظام هنا عظامه ومعنى ننشزها نرفعها ونركب بعضها ببعض. ومعنى ننشرها نحييها. ولا مندوحة لمن قال بأن الحمار كان لا يزال حيا من القول بأن المراد بالعظام جنسها.
قال الأستاذ الإمام : إنه بعد أن أراه الآية التي تكون حجة خاصة لمن رآها نبهه إلى الحجة العامة والدليل الثابت الذي يمكن أن يحتج به على البعث في كل زمان ومكان وهو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه فالإنشاء معناه التقوية والإنشاز معناه التنمية لأن الذي ينمو يعلو ويرتفع، كانه يقول كما أطلعناك على بعض الآيات الخاصة التي تدلك على قدرتنا على البعث نهديك إلى الآية الكبرى العامة وهي كيفية التكوين. وإنما كانت هي الآية العامة لأن القرآن يحتج بها على جميع الخلق بمثل قوله :﴿ كما بدأكم تعودون ﴾ [ الأعراف : ٢٩ ] وقوله :﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ] وقوله في آيات تبين تفصيل كيفية البدء :﴿ فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ].
أقول : ويؤيد هذا التفسير قراءة أبي رضي الله عنه " وانظر إلى العظام كيف ننشيها " من الإنشاء. وعظام الحمار كانت موجودة لم يتعلق بها إنشاء جديد بل الحمار نفسه كان موجودا على المختار، وهو المتبادر من قوله " وانظر إلى حمارك " ثم إعادة العامل ( انظر ) عند ذكر آية إنشاز العظام وإنشاء الحيوان مع الفصل بينهما بذكر جعله في نفسه آية. فهذا الفصل دليل على الانتقال من الآية الخاصة إلى الآية العامة التي يغفل الناس عنها. ثم قال فهذه العظام توجد في أول الخلقة عارية من لباس الحياة، بل قال فقيرة من مادتها فالقادر على أن يكسوها لحما يمدها بالحياة ويجعلها أصلا لجسم الحي : قادر على أن يعيد الخصب والعمران للقرية. كما أن القادر على الإحياء بعد لبث مئة سنة قادر على الإحياء بعد لبث الموتى ألوفا من السنين. هكذا يشبه بعض أفعاله بعضا.
﴿ فلما تبين له ﴾ أي ظهر واتضح له ما ذكر :﴿ قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ علما يقينيا مؤيدا بآيات الله في نفسي وفي الآفاق. وسأل الأستاذ الإمام سائل عن كيفية هذا التكلم ؟ فقال : إن الله تعالى لم يبينه وهو مما لا يدركه كل سامع، فكانت الحكمة في عدم بيانه، أقول : إنما سأل السائل لأن الأستاذ جرى على أن الذي مر على قرية صدِّيق. أما على القول بأنه كان نبيا فهذا التكليم كان من الوحي، ولا يبعد ان يكون ما في القصة لنبي قررت به الحجة هكذا كما وقع لإبراهيم وقد يقع في نفوس الصديقين من المعاني والأفكار الصحيحة ما لا يقع في نفوس غيرهم فيعد من إلهام الله تعالى إياهم ذلك، كإلهام أم موسى ما ألهمت به وقد يعبر عنه بالوحي ويحكى عنه بمثل ما يحكى عن التكليم. ويحتمل أن تكون القصة من قبيل التمثيل والله أعلم.
تحت عرانين أنوف شم
والرجز للعجاج في ملحق ديوانه ٢/٣٢٨، وخزانة الأدب ١٠/١٦٦، ١٦٨، والدرر ٤/١٥٦، وشرح شواهد المغني ٢/٥٠٣، والمقاصد النحوية ٣/٢٩٤، وبلا نسبة في لسان العرب (همم) وأسرار العربية ص ٢٥٨، وأوضح المسالك ٣/٥٤ والجنى الداني ص٧٩، وجواهر الأدب ص ١٢٦، وشرح الأشموني ٢/٢٩٦، وشرح المفصل ٨/٤٢، ٤٤، ومغني اللبيب ١/١٨٠، وهمع الهوامع ٢/٣١، وتاج العروس (كوف)، (همم) وجمهرة اللغة ص ١٧١، وكتاب العين ٤/٤٦١، والمخصص ٩/١١٩..
٢ البيت من البسيط، وهو للأغشى في ديوانه ص ١١٣، والأشباه والنظائر ٧/٢٩٧، والجنى الداني ص ٨٢، والحيوان ٣/٤٦٦، وخزانة الأدب ٩/٤٥٣، ٤٥٤، ١٠/١٧٠، والدرر ٤/١٥٩ وسر صناعة ال‘راب ١/٢٧٣، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٣٤، وشرح المفصل ٨/٤٣، ولسان العرب (دنا)، والمقاصد النحوية ٣/٢٩١، وبلا نسبة في الخصائص ٢/٣٨٦، ورصف المباني ص ١٩٥، وشرح ابن عقيل ص ٣٦٦، والمقتضب ٤/١٤١، وهمع الهوامع ٢/٣١..
٣ أخرجه أبو داود في النكاح باب ٨، وأحمد في المسند ١/٤٣٢..
( المفردات ) فصرهن بضم الصاد، أملهن من الإمالة، وكذلك فصرهن بكسر الصاد يقال : صاره إليه يصوره ويصيره بمعنى أماله. ويقال صار الرجل إذا صوت، ومنه عصفور صوار. وصاره يصيره قطعه وفصله صورا صورا، يتعدى بنفسه. وقرئ بتشديد الراء مع كسر الصاد وضمها، فأما الكسر فمعناه التصويت أي صوت وصاح بهن. وأما الضم فمعناه الجمع والضم.
( التفسير ) هذا مثال ثالث لولاية الله تعالى للمؤمنين وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور وهو كالذي قبله من آيات البعث. وأما المثال الأول وهو محاجة من آتاه الله الملك لإبراهيم فهو من الآيات على وجود الله. والحكمة في ذكر مثال واحد في إثبات الربوبية ومثالين في إثبات البعث أن منكري البعث أكثر من منكري الألوهية قال تعالى :﴿ وإذ قال إبراهيم ﴾ قال الجمهور : التقدير : واذكر إذ قال إبراهيم، وقد صرح بمثل هذا المتعلق في قوله ﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء ﴾ [ الأعراف : ٦٩ ] وقال بعضهم إنه معطوف على قوله ﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] واختار الأستاذ الإمام إنه معطوف على ما قبله والتقدير أو رأيت إذ قال إبراهيم الخ، وقالوا إنه صرح هنا بذكر إبراهيم ولم يصرح في المثال الذي قبله بذكر الذي مر على القرية لأن في سؤال إبراهيم من الأدب مع الله تعالى والثناء عليه ما ليس في سؤال ذاك، فصورة ذلك صورة الإنكار وصورة هذا صورة الإقرار مع طلب الزيادة في العلم :
﴿ رب أرني كيف تحيي الموتى ﴾ بدأ السؤال بكلمة رب التي تفيد عنايته تعالى بعبيده وتربيته لعقولهم وأرواحهم بالمعارف لتكون ثناء واستعطافا أمام الدعاء أي أرني بعيني كيفية إحيائك للموتى. وقد ذكروا أسبابا لهذا السؤال لا يقبل مثلها إلا بالنقل الصحيح ولا يحتاج إلى شيء منه في فهم الكلام :﴿ قال ﴾ تعالى وهو أعلم بما سأل عنه من المسؤول :﴿ أولم تؤمن ﴾ حذف ما دخلت عليه الهمز لدلالة العطف عليه وقدروا له ألم تعلم ولم تؤمن. وعندي، أن الأقرب أن يقدر : ألم تعلم ولم تؤمن، بذلك :﴿ قال بلى ﴾ أي قد أوحيت إلي فآمنت وصدقت بالخبر :﴿ ولكن ﴾ تاقت نفسي للخبر، والوقوف على كيفية هذا السر :﴿ ليطمئن قلبي ﴾ بالعيان بعد خبر الوحي والبرهان، قال الأستاذ الإمام ما معناه : في قوله تعالى لإبراهيم " أولم تؤمن " وهو أعلم بإيمانه ويقينه إرشاد إلى ما ينبغي للإنسان أن يقف عند ويكتفي به في هذا المقام فلا يتعداه إلى ما ليس من شأنه كأنه يقول إن الإيمان بهذا السر الإلهي والتسليم فيه لخبر الوحي ودلائله وأمثاله هو منتهى ما يطلب من البشر فلو كان وراء الإيمان والتسليم مطلع لناظر لبينه الله لك وفي هذا الإرشاد لخليل الرحمان تأديب للمؤمنين كافة ومنع لهم عن التفكر في كيفية التكوين وإشغال نفوسهم بما استأثر الله تعالى به فلا يليق بهم البحث عنه.
وقد فهم بعض الناس من هذا السؤال أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان قلقا مضطربا في اعتقاده بالبعث وذلك شك فيه. وما أبلد أذهانهم وأبعد أفهامهم عن إصابة المرمى. وقد ورد في حديث الصحيحين " نحن أولى بالشك من إبراهيم " ١ أي أننا نقطع بعدم شكه كما نقطع بعدم شكنا أو أشد قطعا. نعم ليس في الكلام ما يشعر بالشك فإنه ما من أحد إلا وهو يؤمن بأمور كثيرة إيمانا يقينيا وهو لا يعرف كيفيتها ويود لو يعرفها فهذا التلغراف الذي ينقل الخبر من المشرق إلى المغرب في دقيقة واحدة يوقن به كل الناس في كل بلد يوجد فيه ويقل فيهم العارف بكيفية نقل للخبر بهذه السرعة، أفيقال فيمن طلب بيان هذه الكيفية إنه شاك بوجود التلغراف ؟ طلب المزيد في العلم والرغبة في استكناه الحقائق والتشوف إلى لوقوف على أسرار الخليقة مما فطر الله عليه الإنسان وأكمل الناس علما وفهما أشده للعلم طلبا وللوقوف على المجهولات تشوفا. ولن يصل أحد من الخلق إلى الإحاطة بكل شيء علما وقتل كل موجود فقها وفهما. وقد كان طلب الخليل عليه السلام رؤية كيفية إحياء الموتى بعينيه من هذا القبيل فهو طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه القدسية من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة في أصل عقد الإيمان بالبعث الذي عرفه بالوحي والبرهان دون المشاهدة والعيان.
﴿ قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ﴾ قرأ حمزة فصرهن بكسر الصاد والباقون بضمها مع تخفيف الراء فيهما. ومعناه أمهلهن وضمهن إليك. وقيل معنى قراءة الكسر : فقطعهن. ولكنه إذا كان بهذا المعنى لا يتعدى بإلى كما تقدم. وقرئ بتشديد الراء وتقدم معناه هذا، قالوا إنه قطعهن. وقد تكلموا في حكمة اختيار الطير على غيره من الحيوانات، فقال الرازي ما لا يصح أن يقال. وقال غيره : الحكمة في ذلك أن الطير أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التقطيع والتجزئة. وذكر الأستاذ الإمام في الدرس وجها آخر، وهو أن الطير أكثر نفورا من الإنسان في الغالب فإتيانها بمجرد الدعوة أبلغ في المثل وسيأتي الوجه الوجيه في تفسير أبي مسلم للآية ثم تكلموا في أنواعها ولا حاجة إليه. وتكلموا في كونها أربعة فقالوا : إنه الموافق لعدد الرياح وليس بشيء. وقال بعضهم إنها كانت أربعة ليضيع في كل جهة من الجهات الأربع بعضها وهو قريب ومال الأستاذ الإمام في ذلك إلى التفويض.
﴿ ثم اجعل على كل جبل منهن جزء ﴾ قرأ أبو بكر في روايته عن عاصم جزؤا بضم الزاي حيث وقع والباقون بسكونها وهما لغتان. قالوا : والمعنى جزئهن واجعل على كل جبل منهن جزءا. ورووا أنه ذبح الطيور ونتفها وقطعها أجزاء وخلط بعضها ببعض ولا يدل الكلام على ذلك. ﴿ ثم ادعهن يأتينك سعيا ﴾ أي أدع الطيور يأتينك مسرعات طيرانا ومشيا :﴿ واعلم أن الله عزيز حكيم ﴾ فهو بعزته غالب على أمره، وبحكمته قد جعل أمر الإعادة موافقا لحكمة التكوين.
ملخص معنى الآية عند الجمهور : أن إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم طلب من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى فأمره تعالى بأن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن أجزاء يفرقها على عدة جبال هناك، ثم يدعوها إليه فتجيئه، وقالوا إنه فعل ذلك. وخالفهم أبو مسلم المفسر الشهير فقال ليس في الكلام ما يدل على أنه فعل ذلك وما كل أمر يقصد به الامتثال. فإن من الخبر ما يأتي بصيغة الأمر لاسيما إذا أريد زيادة البيان كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلا ؟ فتقول خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن حبرا. تريد هذه الكيفية ولا تعني تكليفه صنع الحبر بالفعل. قال : وفي القرآن كثير من الأمر الذي يراد به الخبر والكلام ههنا مثل لإحياء الموتى. ومعناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك وآنسها بك حتى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك فإن الطيور من أشد الحيوان استعدادا لذلك ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فإنها تسرع إليك لا يمنعها تفرق أمكنتها وبعده من ذلك. كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين " كونوا أحياء " فيكونوا أحياء كما كان شأنه في بدء الخلق، إذ قال للسماوات والأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين. هذا ما تجلى به تفسير أبي مسلم وقد أورده الرازي مختصرا. وقال :
والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر ( يعني أبا مسلم ) القول بأن المراد منه فقطعن واحتج عليه بوجوه : الأول : أن المشهور في اللغة في قوله " فصرهن " أملهن. وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه فكان إدراجه في الآية إلحاقا لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز الثاني : أنه لو كان المراد بصرهن قطعهن لم يقل " إليك " فإن ذلك لا يتعدى بإلى، وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان المعنى الإمالة. فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن ؟ قلنا : التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجئ إلى التزامه خلاف الظاهر الثالث : أن الضمير في قوله " ثم أدعهن " عائد إليها لا إلى أجزائها وإذا كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائدا إلى تلك الأجزاء لا إليها، وهو خلاف الظاهر. وأيضا الضمير في قوله " يأتينك سعيا " عائد إليها لا إلى أجزائها. وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في يأتينك عائدا إلى أجزائها لا إليها.
واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه الأول : أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها فيكون إنكار ذلك إنكارا للإجماع والثاني : أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى الله عليه وسلم فلا يكون له فيه مزية على الغير والثالث : أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى. وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك. وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة والرابع : أن قوله " ثم اجعل على كل جبل منهن جزء " يدل على أن تلك الطيور جعلت جزءا جزء. قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : إنه أضاف الجزء على الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة. والجواب أن ما ذكرته وإن كان محتملا إلا أن حمل الجزء على ما ذكرنا أظهر. والتقدير فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا أو بعضا " اه كلام الرازي.
آية فهم الرازي وغيره فيها خلاف ما فهمه جميع المفسرين من قبله. ولم يقل أحد أن فهم فئة من الناس حجة على فهم الآخرين، وعلى أن ما فهمه أبو مسلم هو المتبادر من عبارة الآية الكريمة، وما قالوه مأخوذ من روايات حكموها في الآية، ولا يأت الله الحكم الأعلى وعلى ما في تلك الرواية هب لا تدل.
وأما قوله : إن ما ذكره أبو مسلم غير مختص بإبراهيم فلا يكون فيه مزية : فهو مردود بأن هذا المثال لكيفية إحياء الله للموتى أو لكيفية التكوين فيه توضيح لها وتحديد لما يصل إليه علم البشر من أسرار الخليقة ولا دليل على أن العلم بذلك كان عاما في الناس، فيقال إنه لا خصوصية فيه لإبراهيم. على أنه يرد مثل هذا الإيراد على حجة إبراهيم على الذي آتاه الله الملك، وحجته على عبدة الكواكب في سورة الأنعام. فإن مثل هذه الحجج التي أيد الله تعالى بها إبراهيم مما يحتج به الرازي وغيره. فهل ينفي ذلك أن تكون هداية من الله لإبراهيم وإخراجا من ظلمات الشبه التي كانت محيطة بأهل زمنه إلى نور الحق وقد قال تعالى :﴿ وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم ﴾ [ الأنعام : ٨٣ ] الآية.
وأما قوله : إن إجابة إبراهيم إلى ما سأل لا تحصل بقول أبي مسلم وإنما تحصل بقول الجماهير فالأمر بعكسه. وذلك أن إتيان الطيور بعد تقطيعها وتفريق أجزائها في الجبال لا يقتضي رؤية كيفية الإحياء. إذ ليس فيها إلا رؤية الطيور كما كانت قبل التقطيع لأن الإحياء حصل في الجبال البعيدة. وافرض أنك رأيت رجلا قتل وقطع إربا إربا ثم رأيته حيا أفتقول حينئذ إنك عرفت كيفية إحيائه ؟ هذا ما يدل على قولهم. وأما قول أبي مسلم فهو الذي يدل عليه غاية ما يمكن أن يعرف البشر من سر التكوين والإحياء وهو توضيح معنى قوله تعالى للشيء " كن فيكون " ولولا أن الله تعالى بين لنا ذلك بما حكاه عن خليله لجاز أن يطمع
أعاد الأستاذ الإمام التذكير هنا بأن من سنة القرآن الحكيم مزج آيات الأحكام بآيات المواعظ والعبر والتوحيد، ليقرر أمر الحكم وينصر النفوس على القيام به ( ثم قال ما معناه بتصرف ) : قد قلنا مرارا أن أمر الإنفاق في سبيل الله أشق الأمور على النفوس، لاسيما إذا اتسعت دائرة المنفعة فيما ينفق فيه، وبعدت نسبة من ينفق عليه عن المنفق، فإن كل إنسان يسهل عليه الإنفاق على نفسه وأهله وولده إلا أفراد من أهل الشح المطاع وهذا النوع من الإنفاق لا يوصف صاحبه بالسخاء ومن كان له نصيب من السخاء سهل عليه الإنفاق بقدر هذا النصيب فمن كان له أدنى نصيب فإنه يرتاح إلى الإنفاق على ذوي القربى والجيران. فإذا زاد أنفق على أهل بلده فأمته فالناس كلهم وذلك منتهى الجود والسخاء. وإنما يصعب على المرء الإنفاق على منفعة من يبعد عنه، لأنه فطر على أن لا يعمل عملا لا يتصور لنفسه فائدة منه وأكثر النفوس جاهلة باتصال منافعها ومصالحها بالبعداء عنها فلا تشعر بأن الإنفاق في وجوه البر العامة كإزالة الجهل بنشر العلم ومساعدة العجزة والضعفاء وترقية الصناعات وإنشاء المستشفيات والملاجئ وخدمة الدين المهذب للنفوس هو الذي تقوم به المصالح العامة حتى تكون كلها سعيدة عزيزة فعلمهم الله تعالى أن ما ينفقونه في المصالح يضاعف لهم أضعافا كثيرة فهو مفيد لم في آخرتهم أيضا.
فذكر أولا أن الإنفاق في سبيل الله بمنزلة إقراضه تعالى ووعد بمضاعفته أضعافا كثيرة ثم ضرب الأمثال وذكر قصص الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيله ثم ذكر البعث وإحياء الموتى وانتهاءهم إلى الدار التي يوفون فيها أجورهم في يوم لا تنفع فيه فدية ولا خلة ولا شفاعة وإنما تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيله ثم ضرب المثل للمضاعفة. أي بعد أن قرر أمر البعث بالدلائل والأمثال. إذ كان الإيمان به أقوى البواعث على بذل المال.
قال :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ﴾ وهي ما يوصل إلى مرضاته من المصالح العامة لاسيما ما كان نفعه أعم وأثره أبقى :﴿ كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة ﴾ أي كمثل أبرك بذر في أخصب أرض نما أحسن نمو فجاءت غلته مضاعفة سبع مئة ضعف وذلك منتهى الخصب والنماء. أي أن هذا المنفق يلقى جزاءه في الدنيا مضاعفا أضعافا كثيرة. كما قال في آية سابقة، فالتمثيل للتكثير لا للحصر ولذلك قال :﴿ والله يضاعف لمن يشاء ﴾ فيزيده على ذلك زيادة لا تقدر ولا تحصر. فذلك العدد لا مفهوم له وقيل يضاعف تلك المضاعفة التي ضرب لها المثل.
﴿ والله واسع عليم ﴾ لا ينحصر فضله ولا يجد عطاؤه :﴿ عليم ﴾ بمن يستحق المضاعفة من المخلصين الذين يهديهم إخلاصهم إلى وضع النفقات في مواضعها التي يكثر نفعا وتبقى فائدتها زمنا طويلا، كالمنفقين في إعلاء شأن الحق وتربية الأمم على آداب الدين وفضائله التي تسوقهم إلى سعادة المعاش والمعاد، حتى إذا ما ظهرت آثار نفقاتهم النافعة في قوة ملتهم وسعة انتشار دينهم وسعادة أفراد أمتهم عاد عليهم من بركات ذلك وفوائده ما هو فوق ما أنفقوا بدرجات لا يمكن حصرها. وقد قال الأستاذ الإمام رحمه الله في الدرس : إن المراد بالإنفاق هنا الإنفاق في خدمة الدين. وقال في وقت آخر : إن كلمة في سبيل الله تشتمل جميع المصالح العامة وهو ما جرينا عليه آنفا.
أقول : ومن أراد كمال البيان في ذلك فليعتبر بما يراه في الأمم العزيزة التي ينفق أفرادها ما ينفقون في إعلاء شأنها بنشر العلوم وتأليف الجمعيات الدينية الخيرية وغير ذلك من الأعمال التي تقوم بها المصالح العامة، إذ يرى كل فرد من أفراد أدنى طبقاتها عزيزا بها محترما باحترامها مكفولا بعنايتها كأن أمته ودولته متمثلتان في شخصه. وليقابل بين هؤلاء الأفراد وبين كبراء الأمم التي ضعفت وذلت بإهمال الإنفاق في المصالح العامة وإعلاء شأن الملة كيف يراهم أحقر في الوجود من صعاليك غيرهم. ثم ليرجع إلى نفسه وليتأمل كيف أن نفقة كل فرد من الأفراد في المصالح العامة يصح أن تعتبر هي المسعدة للأمة كلها من حيث إن مجموع النفقات التي بها تقوم المصالح تتكون مما يبذله الأفراد فلولا الجزئيات لم توجد الكليات، ومن حيث إن الناس يقتدي بعضهم ببعض بمقتضى الجبلة والفطرة فكل من بذل شيئا في سبيل الله كان إماما وقدوة لمن يبذل بعده وإن لم يقصدوا الإقتداء به لأن الناس يتأثر بعضهم بفعل بعض من حيث لا يشعرون. والفضل الأكبر في هذه الأمة لمن يبدأ بالإنفاق في عمل نافع لم يسبق إليه. أولئك واضعو سنن الخير والفائزون بأكبر المضاعفة لأن لهم أجورهم ومثل أجور من اقتدى بسنتهم. فقد أخرج مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من سن في الإسلام حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها " ١ الحديث.
أعاد الأستاذ الإمام التذكير هنا بأن من سنة القرآن الحكيم مزج آيات الأحكام بآيات المواعظ والعبر والتوحيد، ليقرر أمر الحكم وينصر النفوس على القيام به ( ثم قال ما معناه بتصرف ) : قد قلنا مرارا أن أمر الإنفاق في سبيل الله أشق الأمور على النفوس، لاسيما إذا اتسعت دائرة المنفعة فيما ينفق فيه، وبعدت نسبة من ينفق عليه عن المنفق، فإن كل إنسان يسهل عليه الإنفاق على نفسه وأهله وولده إلا أفراد من أهل الشح المطاع وهذا النوع من الإنفاق لا يوصف صاحبه بالسخاء ومن كان له نصيب من السخاء سهل عليه الإنفاق بقدر هذا النصيب فمن كان له أدنى نصيب فإنه يرتاح إلى الإنفاق على ذوي القربى والجيران. فإذا زاد أنفق على أهل بلده فأمته فالناس كلهم وذلك منتهى الجود والسخاء. وإنما يصعب على المرء الإنفاق على منفعة من يبعد عنه، لأنه فطر على أن لا يعمل عملا لا يتصور لنفسه فائدة منه وأكثر النفوس جاهلة باتصال منافعها ومصالحها بالبعداء عنها فلا تشعر بأن الإنفاق في وجوه البر العامة كإزالة الجهل بنشر العلم ومساعدة العجزة والضعفاء وترقية الصناعات وإنشاء المستشفيات والملاجئ وخدمة الدين المهذب للنفوس هو الذي تقوم به المصالح العامة حتى تكون كلها سعيدة عزيزة فعلمهم الله تعالى أن ما ينفقونه في المصالح يضاعف لهم أضعافا كثيرة فهو مفيد لم في آخرتهم أيضا.
فذكر أولا أن الإنفاق في سبيل الله بمنزلة إقراضه تعالى ووعد بمضاعفته أضعافا كثيرة ثم ضرب الأمثال وذكر قصص الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيله ثم ذكر البعث وإحياء الموتى وانتهاءهم إلى الدار التي يوفون فيها أجورهم في يوم لا تنفع فيه فدية ولا خلة ولا شفاعة وإنما تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيله ثم ضرب المثل للمضاعفة. أي بعد أن قرر أمر البعث بالدلائل والأمثال. إذ كان الإيمان به أقوى البواعث على بذل المال.
ثم قال تعالى :﴿ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ﴾ الآية : قال الأستاذ الإمام : إن هذه الآية لبيان ثواب الإنفاق في الآخرة بعد التنويه بمنفعته في الدنيا. وقد شرط لهذا الثواب ترك المن والأذى فأما المن فهو ان يذكر المحسن إحسانه لمن أحسن هو إليه، يظهر به تفضله عليه، وأما الأذى فهو أعم. ومنه أن يذكر المحسن إحسانه لغير من أحسن عليه بما ربما يكون اشد عليه مما لو ذكره له وقال غيره : المن أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه أوجب بذلك عليه حقا. والأذى أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه. قالوا وإنما قدم المن لكثرة وقوعه، وتوسيط كلمة ( لا ) للدلالة على شمول النفي بإفادة أن كلا من المن والأذى كاف وحده لإحباط العمل، وعدم استحقاق الثواب على الإنفاق. وقالوا إن العطف بثم لإظهار علو رتبة المعطوف عليه.
وقال الأستاذ الإمام : قد يشكل على بعض الناس التعبير بثم التي تفيد التراخي مع العلم بأن المن أو الأذى العاجل أضر، وأجدر بأن يجعل تركه شرطا لتحصيل الأجر، وجوابه : إن من يقرن النفقة بالمن والأذى أو يتبعها أحدهما أو كليهما عاجلا لا يستحق أن يدخل في الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله أو يوصف بالسخاء المحمود عند الله. وإذا كان من يمن أو يؤذي بعد الإنفاق بزمن بعيد لا يعتد الله بإنفاقه ولا يأجره عليه ولا يقيه الخوف والحزن، أفلا يكون المتعجل به أجدر بذلك ؟ بلى، وإنما الكلام في السخي الذي ينفق في سبيل الله مخلصا متحريا للمصلحة والمنفعة لا باغيا جزاء ممن ينفق عليه ولا مكافأة، ولكنه قد يعرض له بعد ذلك ما يحمله على المن والأذى المحبطين للأجر، كأن يرى ممن كان أنفق عليه غمطا لحق أو إعراضا عنه وتركا لما كان من احترامه إياه، فيثير ذلك غضبه حتى يمن أو يؤذي ومثل هذا قد يقع من المخلصين فحذرهم الله تعالى منه.
وأنت ترى أن ما قاله الأستاذ الإمام هو الظاهر وقد مثل له بالصدقة على الأفراد بما يصنع مثله في الإنفاق في المصالح. ويشهد لذلك ما قاله ابن جرير في الآية فإنه حمل الإنفاق فيها على إعانة المجاهدين وصور المن والأذى بالانتقاد عليهم ورميهم بالتقصير في جهادهم وكونهم لم يقوموا بالواجب عليهم ثم قال " وإنما شرط ذلك في المنفق في سبيل الله وأوجب الأجر لمن كان غير مان ولا مؤذ من أنفق عليه في سبيل الله، لأن النفقة في سبيل الله مما ابتغى به وجه الله وطلب به ما عنده. فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه، لأنه لا يد له قبله ولا صنيعة يستحق بها عليه إن لم يكافئه عليها المن والأذى إذا كانت نفقة ما أنفق عليه احتسابا وابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته وعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه " اه وهو يلتقي مع كلام الأستاذ الإمام في أن المن في الآية قد يقع متراخيا عن وقت الإنفاق ولكن تخصيصه ذلك بالإنفاق على المجاهدين مما لا دليل عليه. وقوله تعالى :﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ يشعر بأن هذا الأجر عظيم، من رب قادر كريم، فقد أضافهم إليهم تشريفا لهم وإعلاء لشأنهم :﴿ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ يوم يخاف الناس وتفزعهم الأهوال :﴿ ولا هم يحزنون ﴾ يوم يحزن البخلاء الممسكون عن الإنفاق في سبيل الله والمبطلون لصدقاتهم بالمن والأذى بل هم الأمن والطمأنينة، والسرور الدائم والسكينة، وقد تقدم تفسير الخوف والحزن من قبل.
أعاد الأستاذ الإمام التذكير هنا بأن من سنة القرآن الحكيم مزج آيات الأحكام بآيات المواعظ والعبر والتوحيد، ليقرر أمر الحكم وينصر النفوس على القيام به ( ثم قال ما معناه بتصرف ) : قد قلنا مرارا أن أمر الإنفاق في سبيل الله أشق الأمور على النفوس، لاسيما إذا اتسعت دائرة المنفعة فيما ينفق فيه، وبعدت نسبة من ينفق عليه عن المنفق، فإن كل إنسان يسهل عليه الإنفاق على نفسه وأهله وولده إلا أفراد من أهل الشح المطاع وهذا النوع من الإنفاق لا يوصف صاحبه بالسخاء ومن كان له نصيب من السخاء سهل عليه الإنفاق بقدر هذا النصيب فمن كان له أدنى نصيب فإنه يرتاح إلى الإنفاق على ذوي القربى والجيران. فإذا زاد أنفق على أهل بلده فأمته فالناس كلهم وذلك منتهى الجود والسخاء. وإنما يصعب على المرء الإنفاق على منفعة من يبعد عنه، لأنه فطر على أن لا يعمل عملا لا يتصور لنفسه فائدة منه وأكثر النفوس جاهلة باتصال منافعها ومصالحها بالبعداء عنها فلا تشعر بأن الإنفاق في وجوه البر العامة كإزالة الجهل بنشر العلم ومساعدة العجزة والضعفاء وترقية الصناعات وإنشاء المستشفيات والملاجئ وخدمة الدين المهذب للنفوس هو الذي تقوم به المصالح العامة حتى تكون كلها سعيدة عزيزة فعلمهم الله تعالى أن ما ينفقونه في المصالح يضاعف لهم أضعافا كثيرة فهو مفيد لم في آخرتهم أيضا.
فذكر أولا أن الإنفاق في سبيل الله بمنزلة إقراضه تعالى ووعد بمضاعفته أضعافا كثيرة ثم ضرب الأمثال وذكر قصص الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيله ثم ذكر البعث وإحياء الموتى وانتهاءهم إلى الدار التي يوفون فيها أجورهم في يوم لا تنفع فيه فدية ولا خلة ولا شفاعة وإنما تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيله ثم ضرب المثل للمضاعفة. أي بعد أن قرر أمر البعث بالدلائل والأمثال. إذ كان الإيمان به أقوى البواعث على بذل المال.
ثم قال تعالى :﴿ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعا أذى ﴾ قالوا أي كلام جميل تقبله القلوب ولا تنكره، يرد به السائل من غير عطاء وستر لما وقع منه من الإلحاف١ في المسألة وغيره مما يثقل على النفوس أو ستر حال الفقير بعدم التشهير به خير له من صدقة يتبعها أذى. وقيل إن المراد بالمغفرة المغفرة من الله تعالى لمن يرد السائل ردا جميلا وذلك خير له عند الله تعالى من صدقة يتبعها أذى فهو يستحق عليها العقاب من حيث يرجو الثواب. والجملة مستأنفة لتأكيد النهي عن المن والأذى في الآية السابقة.
وقال الأستاذ الإمام : القول بالمعروف يتوجه تارة إلى السائل إن كانت الصدقة عليه، وتارة يتوجه إلى المصلحة العامة، كما إذا هاجم البلد عدو وأرادوا جمع المال للاستعانة على دفعه فمن لم يكن له مال يمكنه أن يساعد بالقول المعروف الذي يحث على العمل وينشط العامل، ويبعث عزيمة الباذل، والمغفرة أن تغضي عن نسبة التقصير في الإنفاق إليك وان تظهر في هيأة لا ينفر منها المحتاج ولا يتألم من فقره أمامك. والمعنى أن مقابلة المحتاج بكلام يسر وهيأة ترضي خير من الصدقة مع الإيذاء بسوء القول أو سوء المقابلة، ولا فرق في المحتاج بين أن يكون فردا أو جماعة فإن مساعدة الأمة ببعض المال مع سوء القول في العمل الذي ساعدها عليه وإظهار استهجانه وبيان التقصير فيه أو تشكي الناس في فائدته لا توازي هذه المساعدة : إحسان القول في ذلك العمل الذي تطلب له المساعدة والإغضاء عن التقصير الذي ربما يكون من العاملين فيه. فكونك مع الأمة بقلبك ولسانك خير من شيء من المال ترضخ به مع قول السوء وفعل الأذى. ومعنى هذه الخيرية أنه أنفع وأكثر فائدة لا أنه يقوم مقام البذل ويغني عنه. فمن آذى فقد بغض نفسه إلى الناس بظهوره في مظهر البغضاء لهم ولا شك أن السلم والولاء، خير من العداوة والبغضاء، وان اضمن شيء لمصلحة الأمة وأقوى معزز لها هو أن يكون كل واحد من أفرادها في عين الآخر وقلبه في مقام المعين له وإن لم يعنه بالفعل.
وأقول : إن هذا الآية مقررة لقاعدة : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، التي هي من أعظم قواعد الشريعة، ومبينة أن الخير لا يكون طريقا ووسيلة إلى الشر.
ومرشدة إلى وجوب العناية بجعل العمل الصالح خاليا من الشوائب التي تفسده وتذهب بفائدته كلها أو بعضها، وإلى أنه ينبغي لمن عجز عن إحسان عمل من أعمال البر وجعله خالصا نقيا أن يجتهد في إحسان عمل آخر يؤدي إلى غايته حتى لا يحرم من فائدته بالمرة، كمن شق عليه أن يتصدق ولا يمن ولا يؤدي فحث على الصدفة أو جبر قلب الفقير بقول المعروف. ومن البديهي أن أعمال البر والخير لا يغني بعضها عن بعض، فكيف يغني ترك الشر واتقاء المفاسد عن عمل الخير والقيام بالمصالح.
﴿ والله غني ﴾ بذاته وبما له من ملك السماوات والأرض عن صدقة عباده، فلا يأمر الأغنياء بالبذل في سبيله لحاجة به، وإنما يريد أن يطهرهم ويزكيهم ويؤلف بين قلوبهم ويصلح شؤونهم الاجتماعية، ليكونوا أعزاء، بعضهم لبعض أولياء. والمن والأذى ينافيان ذلك. فهو غني عن قبول صدقة يتبعها أذى لأنه لا يقبل إلا الطيبات ﴿ حليم ﴾ لا يعجل بعقوبة من يمن ويؤذي. قال الأستاذ الإمام : يطلق الحلم ويراد به هذا اللازم من لوازمه، أي الإمهال وعدم المعالجة بالمؤاخذة. وقد يراد به لازم آخر وهو الإغضاء والعفو وليس بمراد، لأنه لو أريد لكان تحريضا على الأذى ولكل مقال مقام بعينه. فالأول يطلق في مقابل العجول الطائش والثاني في مقابل الغضوب المنتقم. وفي الاسمين الكريمين تنفيس لكرب الفقراء وتعزية لهم وتعليق لقلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني المغني، وتهديد للأغنياء وإنذار لهم أن يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم وعدم معالجتهم بالعقاب على كفرهم بنعمته عليهم بالمال فإنه يوشك أن يسلبها منهم في يوم من الأيام.
ثم إنه لما كانت النفوس المولعة بذكر ما يصدر عنها من الإحسان للتمدح والفخر، وكان ذلك مطية الرياء، وطريق المن والإيذاء ّ لاسيما إذا آنس المصدق تقصيرا في شكره على صدقته أو احتقارا لها، فإنه لا يكاد يملك حينئذ نفسه ويكفها عن المن أو الأذى كما تقدم عن الأستاذ الإمام كان من الهدى القويم ومقتضى البلاغة أن تؤتى في النهي عن المن والأذى والرياء بعبارات مختلفة لأجل التأثير في التنفير عن ذلك والحمل على تركه ولذلك قال :
.
أعاد الأستاذ الإمام التذكير هنا بأن من سنة القرآن الحكيم مزج آيات الأحكام بآيات المواعظ والعبر والتوحيد، ليقرر أمر الحكم وينصر النفوس على القيام به ( ثم قال ما معناه بتصرف ) : قد قلنا مرارا أن أمر الإنفاق في سبيل الله أشق الأمور على النفوس، لاسيما إذا اتسعت دائرة المنفعة فيما ينفق فيه، وبعدت نسبة من ينفق عليه عن المنفق، فإن كل إنسان يسهل عليه الإنفاق على نفسه وأهله وولده إلا أفراد من أهل الشح المطاع وهذا النوع من الإنفاق لا يوصف صاحبه بالسخاء ومن كان له نصيب من السخاء سهل عليه الإنفاق بقدر هذا النصيب فمن كان له أدنى نصيب فإنه يرتاح إلى الإنفاق على ذوي القربى والجيران. فإذا زاد أنفق على أهل بلده فأمته فالناس كلهم وذلك منتهى الجود والسخاء. وإنما يصعب على المرء الإنفاق على منفعة من يبعد عنه، لأنه فطر على أن لا يعمل عملا لا يتصور لنفسه فائدة منه وأكثر النفوس جاهلة باتصال منافعها ومصالحها بالبعداء عنها فلا تشعر بأن الإنفاق في وجوه البر العامة كإزالة الجهل بنشر العلم ومساعدة العجزة والضعفاء وترقية الصناعات وإنشاء المستشفيات والملاجئ وخدمة الدين المهذب للنفوس هو الذي تقوم به المصالح العامة حتى تكون كلها سعيدة عزيزة فعلمهم الله تعالى أن ما ينفقونه في المصالح يضاعف لهم أضعافا كثيرة فهو مفيد لم في آخرتهم أيضا.
فذكر أولا أن الإنفاق في سبيل الله بمنزلة إقراضه تعالى ووعد بمضاعفته أضعافا كثيرة ثم ضرب الأمثال وذكر قصص الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيله ثم ذكر البعث وإحياء الموتى وانتهاءهم إلى الدار التي يوفون فيها أجورهم في يوم لا تنفع فيه فدية ولا خلة ولا شفاعة وإنما تنفعهم أعمالهم التي أهمها الإنفاق في سبيله ثم ضرب المثل للمضاعفة. أي بعد أن قرر أمر البعث بالدلائل والأمثال. إذ كان الإيمان به أقوى البواعث على بذل المال.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ﴾ أقول : بين سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين أن ترك المن والأذى شرط لحصول الأجر على الإنفاق في سبيله وأن العدول عن الصدقة التي يتبعها الأذى إلى قول وعمل آخر يكرم به الفقير أو تؤيد به المصلحة العامة خير من نفس تلك الصدقة في الغاية التي شرعت لها. ثم أقبل تعالى على خطاب المؤمنين ونهاهم نهيا صريحا أن يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى وفي ذلك من المبالغة في التنفير عن هاتين الرذيلتين ما يقتضيه ولوع الناس بهما.
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى : واستدلت المعتزلة بالآية على إحباط الكبائر للأعمال الصالحة حتى كأنها لم تعمل. وأجيب عن الآية بأن المراد بها لا تبطلوا ثواب صدقاتكم وبغير ذلك من التكلف الذي لا يحتاج إليه، لأن الكلام في إحباط المن والأذى للفائدة المقصودة من الصدفة وهي تخفيف بؤس المحتاجين وكشف أذى الفقر عنهم إذا كانت الصدقة على الأفراد، وتنشيط القائمين بخدمة الأمة ومساعدتهم إذا كانت الصدقة في مصلحة عامة. فإذا أتبعت الصدقة بالمن والأذى كان ذلك هدما لما بنته وإبطالا لما عملته. وكل عمل لا يؤدي إلى الغاية المقصودة منه فقد حبط وبطل، كأنه لم يكن. فكيف إذا أتبع بضد الغاية ونقيضها ؟ كذلك تكون صلاة المرائي باطلة لأن الغرض منها لم يحصل وهو توجه القلب إلى الله تعالى واستشعار سلطانه والإذعان لعظمته والشكر لإحسانه، وقلب المرائي إنما يتوجه إلى من يرائيه. هذا هو معنى إبطال المن والأذى للصدقة.
والذي يزعمه المعتزلة هو أن ارتكاب أي كبيرة من الكبائر يبطل جميع الأعمال الصالحة السابقة ويوجب الخلود في النار فاستدلالهم بالآية على هذا إنما يدل على أنهم لم يفهموا هدى الله تعالى في كتابه ولم يعرفوا فطرة البشر التي جاء الدين لتأديبها. وقد رأيت كلام من أيد مذهبه بهدم مذهبهم، هكذا يتجاذب القرآن أهل المذاهب كل يجذبه إلى مذهبه الذي رضيه لنفسه فتراهم عندما يشاغب بعضهم بعضا يتعلقون بالكلمة المفردة إذا كانت تحتمل ما قالوا ويجعلونها حجة للمذهب ويؤولون ما عداها ولو بالتمحل. وأهل الخلاف ليسوا من أهل القرآن فلا يعول على أقوالهم في بيان معانيه.
ثم شبه تعالى أصحاب المن والأذى بالمرائي، أو إبطال عملهم للصدقة بإبطال ريائه لها، فقال :﴿ كالذي ينفق ماله رئاء الناس ﴾ أي لأجل ريائهم أو مرائيا لهم أي لأجل أن يروه فيحمدوه لا ابتغاء مرضاة الله تعالى بتحري ما حث عليه من رحمة عباده الضعفاء والمعوزين وترقية شأن الملة بالقيام بمصالح الأمة فهو إنما يحاول إرضاء الناس ﴿ ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ فيقترب إليه تعالى بالإنفاق خشية عقابه ورجاء ثوابه في ذلك اليوم ﴿ فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ﴾ أي إن صفته وحاله في عد انتفاعه بما ينفق كالحجر الأملس إذا كان عليه شيء من التراب ثم أصابه مطر غزير عظيم القطر أزال عنه ما أصابه حتى عاد أملس ليس عليه شيء من ذلك التراب. ووجه الشبه بين المانِّ والمؤذي بصدقته وبين المرائي بنفقته : أن كلا منهما غش نفسه فألبسها ثوب زور يوهم رائيه ما لا حقيقة له، كمن يلبس لبوس العلماء أو الجند وليس منهم، فلا يلبث أن يظهر أمره ويفتضح سره، فيكون ما تلبس به كالتراب على الصفوان يذهب به الوابل، كذلك تكشف الحوادث وما يبتلى به المؤمنون والمنافقون حقيقة هؤلاء وتفضح سرائرهم فهم ﴿ لا يقدرون على شيء مما كسبوا ﴾ أي لا ينتفعون بشيء من صدقاتهم ونفقاتهم ولا يجنون ثمراتها في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا فلأن المن والأذى مما ينافي غاية الصدقة كما تقدم ومن فعلهما كان أبغض إلى الناس من البخيل الممسك. والرياء على الناس فهو كما قال الشاعر :
ثوب الرياء يشف عما تحته | فإذا اكتسيت به فإنك عار |
يقول ذاك الذي تقدم هو مثل أهل الرياء، وأصحاب المن والإيذاء، ﴿ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم ﴾ أي لطلب رضوان الله ولتثبيت أنفسهم وتمكينها في منازل الإيمان والإحسان حتى تكون مطمئنة في بذلها لا ينازعها فيه زلزال البخل ولا اضطراب الحرص لإيثارها حب الخير عن أمر الله على حب المال، عن هوى النفس ووسوسة الشيطان. وإنما يكون هذا التثبيت بتعويد النفس على البذل حيث يفيد البذل، حتى يصير الجود لها طبعا وخلقا. وإنما قال :﴿ من أنفسهم ﴾ ولم يقل لأنفسهم لأن إنفاق المال في سبيل الله يفيد بعض التثبيت والطمأنينة، وإنما كمال ذلك ببذل الروح والمال جميعا في سبيله، كما قال تعالى في سورة الحجرات ﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ﴾ [ الحجرات : ١٥ ]. وقد هدانا تعليل الانفاق بهاتين العلتين إلى أن نقصد بأعمالنا أمرين. أولهما : ابتغاء رضوانه لذاته تعبدا له. وثانيهما : تزكية أنفسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال كالبخل والمبالغة في حب المال. على أن هذا وسيلة لذاك. وفائدة كل من الأمرين عائدة علينا والله غني عن العالمين. فإذا صدقنا في القصدين صدق علينا هذا المثل وكنا في نفع إنفاقنا ﴿ كمثل جنة بربوة ﴾ أي بستان بمكان مرتفع من الأرض.
قرأ ابن عامر وعاصم بفتح راء ربوة والباقون بضمها.
قالوا : وما كان كذلك من الجنات كان عمل الشمس والهواء فيه أكمل، فيكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا. أما الأماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلا قليلا فلا تكون كذلك. وقال بعضهم واختاره الإمام الرازي إن المراد بالربوة الأرض المستوية الجيدة التربة بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو كما قال :﴿ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت ﴾ [ الحج : ٥ ]. ويؤيده كون المثل مقابلا لمثل الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر.
﴿ أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ﴾ أي فكان ثمرها مثلي ما كانت تثمر في العادة، أو أربعة أمثاله على القول بأن ضعف الشيء مثله مرتين. والأكل كل ما يؤكل وهو بضمتين وتسكن الكاف تخفيفا، وبها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ﴿ فإن لم يصبها وابل فطل ﴾ أي فالذي يصيبها طل، أو فطل يكفيها لجودة تربيتها وكرم ومنبتها وحسن موقعها. والطل المطر الخفيف المستدق القطر. أقول : وقد عرف بالاختبار أن الأرض الجيدة في الواقع المعتدلة يكفيها القليل من الري لرطوبة ثراها وجودة هوائها فإن الشجر يتغذى من الهواء كما يتغذى من الأرض. والمعنى : أن هذه الجنة أكلها دائم وظلها، كثر ما يصيبها من المطر أو قل. فإن لم يكن ثمرها مضاعفا لم يكن معدوما، فإذن لا يكون طلبه قط محروما.
ووجه الشبه عندي أن المنفق ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفسه هو في إخلاصه وسخاء نفسه وإخلاص قلبه كالجنة الجيدة التربة الملتفة الشجر العظيمة الخصب في كثرة بره وحسنه. فهو يجود بقدر سعته فإن أصابه خير كثير أغدق ووسع في الإنفاق وإن أصابه خير قليل أنفق منه بقدره. فخيره دائم وبره لا ينقطع، لأن الباعث عليه ذاتي لا عرضي كأهل الرياء وأصحاب المن والإيذاء. هذا ما سبق إلى فهمي عند الكتابة. قالوا : بل والطل على هذا عبارة عن سعة الرزق وما دون السعة. ثم رجعت إلى ما كتبت في مذكرتي عن الأستاذ الإمام فإذا هو قد قال في الدرس أن النية الصالحة في الإنفاق كالوابل للجنة، فبها تكون النفقة نافعة للناس، لأن أصحابها يتحرون فيضعون نفقتهم موضع الحاجة لا يبذرون بغير روية. ثم قال عند ذكر الطل : أي إن أمثال هؤلاء المخلصين لا يخيب قاصدهم لأن رحمة قلوبهم لا يغور معينها، فإن لم تصبه بوابل من عطائها لم يفته طله كالجنة التي لا يخشى عليها اليبس والزوال.
وقد ختم الآية بقوله عز وجل :﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ ليذكرنا بأنه لا يخفى عليه الملخص من المرائي تحذيرا لنا من الرياء الذي يتوهم صاحبه أنه يغش الناس بإظهار خلاف ما يضمر. فكأنه يقول الله لا يخفى عليه ما تنطوي عليه سريرتك أيها المنفق فعليك أن تخلص له.
المفردات : ود الشيء أحبه مع تمنيه. والأعناب جمع عنب وهو ثمر الكرم الطري واحدته عنبة. والنخيل جمع نخل أو اسم جمع وهو شجر التمر يذكر ويؤنث وواحدته نخلة. والقرآن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره لا بثمره. وقالوا في تعليل ذلك : إن كل شيء في النخيل نافع للناس في ارتفاقهم : ورقه وجذوعه وأليافه وعثاكيلة، فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغير ذلك. والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنكس عنها إلى السماء حاملة للغبار فتكون كهيئة العمود. جمعه أعاصر وأعاصير. والمراد بالنار السموم الشديد أو البرد الشديد روايتان عن السلف ذكرهما ابن جرير بأسانيده. وهو دليل على أن النار تطلق على كل ما يحرق الشيء ولو بتخفيف رطوبته، والصر أي البرد الشديد كالحر الشديد في ذلك كلاهما يحرق الشجر والنبات.
التفسير : الاستفهام لإنكار وقوع أن يود الإنسان لو تكون له جنة معظم شجرها الكرم والنخل اللذان هما أجمل الشجر وأنفعه، كثيرة المياه حاوية لأنواع من الثمرات الكثيرة قد نيطت بها آماله، ورجا أن ينتفع بها عياله، ويصيبه الكبر الذي يقعده عن الكسب في حال كثرة ذريته وضعفهم عن أن يقوموا بشأنه وشأنهم حتى لا يبقى له ولا لهم مورد للرزق غير هذه الجنة، وبينا هو كذلك إذا بالجنة قد أصابها الإعصار، فأحرقها بما فيه من سموم النار.
وقد اختلف في تفسير " له فيها من كل الثمرات " مع كون الجنة من نخيل وأعناب فقال بعضهم إن المراد بالثمرات هنا المنافع أي هو متمتع بجميع فوائدها. وقيل المعنى له فيها رزق من كل الثمرات على حد ﴿ وما منا إلا له مقام معلوم ﴾ [ الصافات : ١٦٤ ] أي ما منا أحد إلا له الخ وقيل إن " من " بمعنى بعض وهي مبتدأ وقال الأستاذ الإمام ما معناه : إذا التفتنا عن قواعد النحو الوضعية، ولم نلتزم تعليلاتها وتدقيقاتها الفلسفية، وكسرنا قيود سيبويه والخليل، أمكننا أن نفهم العبارة من غير تقدير ولا تأويل، فإن العربي الصريح، الذي طبع على القول الفصيح، لا يفهم من قولك عندي من كل شيء، أو لي في بستاني من كل ثمر إلا أنك تريد أن لك حظا من كل شيء وسهما من كل ثمر لا يحتاج في ذلك إلى تقدير قول محذوف، ونظم غير مألوف، وهذا الصواب، فطبق عليه ولا تطبقه على قواعد الإعراب.
أما وجه التمثيل فقد خصوه بالمرائي وقالوا : إن المعنى أنه سيكون في يوم القيامة عند شدة الحاجة إلى ثواب نفقته التي راءى بها كذلك الشيخ الكبير الذي احترقت جنته التي لا معاش له سواها عندما كثر عياله الضعفاء وعجز عن العمل فلا يملك من ثوابها شيئا ولا يقدر أن يكسب ما يغنيه عنه. وأقول : إن المثل ينطبق أيضا على من أبطل صدقته بالمن والأذى وأنه ليس خاصا بالآخرة فإن باذل المال للفقراء وفي المصالح العامة يكون له من الجاه والمكانة عند الناس ما يشبه تلك الجنة التي وصفها المثل في رونقها ومنافعها، ويوشك أن يذهب مال هذا المنفق وتشتد حاجته وتقصر يده حتى لا يكون له مرتزق إلا ما غرسته يده من جنته تلك، فيحاول أن يجني منها فيحول دون ذلك إعصار من المن والأذى أو من ظهور الرياء فيحرقها حتى تكون كالصريم لا تؤتي ثمرها، ولا تسر رؤيتها، كذلك تكون عاقبة أهل الرياء وذوي المن والإيذاء ينبذهم الناس، عند شد حاجتهم إلى الناس، ولذلك أرشدنا تعالى بعد المثل، إلى التفكير في عاقبة هذا العمل، فقال :﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات ﴾ أي إنه تعالى يبين لكم الآيات الدالة على حقائق الأمور وغاياتها وفوائدها وغوائلها مثل هذا البيان في أبهى معارض التمثيل ﴿ لعلكم تتفكرون ﴾ في العواقب فتضعون نفقاتكم في المواضع التي يرضاها مع الإخلاص وقصد تثبيت النفس حتى لا يستخفها الطيش والإعجاب، فيدفعها إلى المن والأذى. ثم قال تعالى :
أقول حثت الآيات السابقة على الصدقة والإنفاق في سبيل الله أبلغ حث وآكده وأرشدت إلى ما يجب أن يتصف به المنفق عند البذل من الإخلاص وقصد تثبيت النفس وما يجب أن يتقيه بعد البذل وهو المن الأذى، فكان ذلك إرشادا يتعلق بالبذل والباذل. ثم أراد تعالى أن يبين لنا ما ينبغي مراعاته في المبذول ليكمل الإرشاد في هذا المقام فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ﴾ فبين نوع ما ينفق ويبذل ووصفه. أما الوصف فهو أن يكون من الطيبات والطيب هو الجيد المستطاب وضده الخبيث المستكره. ولذلك قال في مقابل هذا الأمر ﴿ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾ أصل تيمموا تتيمموا. ومن العجيب أن يختلف المفسرون في تفسير الطيب هل يراد به ما ذكر أم هو معنى الحلال وأن يرجح بعض المعروفين بالتدقيق منهم الثاني، وبعضهم أنه ورد هنا بالمعنيين على أن بعضهم عزا الأول إلى الجمهور.
نعم إن كل جيد وحسن يوصف بالطيب وإن كان حسنه معنويا فيقال البلد الطيب والأكل الطيب، ولكن أسلوب الآية يأبى أن يراد بالطيبات هنا أنواع الحلال وبالخبيث المحرم وقواعد الشرع لا ترضاه. وما ورد في سبب نزول الآية يؤيد أسلوبها وهو أن بعض المسلمين كانوا يأتون بصدقتهم من حشف التمر وهو رديئه رواه ابن جرير عن البراء بن عازب وفي رواية عن الحسن " كانوا يتصدقون من رذالة مالهم " وفي أخرى عن علي رضي الله عنه " نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء " وقد أورده ابن جرير في ذلك عدة روايات.
والمعنى أنفقوا من جياد أموالكم ولا تيمموا أي تقصدوا الخبيث فتجعلوا صدقتكم منه خاصة دون الجيد فهو نهي عن تعمد حصر الصدقة في الخبيث ولا يدل على منع التصدق به من غير تعمد ولا حصر ولو أريد بالخبيث الحرام، لنهى عن الإنفاق منه ألبتة لا عن قصد التخصيص فقط أما وقد جاءت الآية بالأمر بالإنفاق ن الطيبات من غير حصر للنفقة فيها وبالنهي عن تحري الإنفاق من الخبيث خاصة دون الطيب لا عن مطلق الإنفاق من الخبيث فلا يجوز مع هذا أن يراد بالطيبات الحلال وبالخبيث المحرم. على أن الأصل في مال المؤمنين أن يكون حلالا وإنما خوطبوا بالإنفاق مما في أيديهم فلو أريد بالطيبات والخبيث ما ذكر لكان الخطاب مبنيا على أن أموال المؤمنين فيها الحلال والحرام وكان منطوق الآية أنفقوا من الحلال ولا تتحروا جعل صدقاتكم من الحرام وحده ومفهومها جواز التصدق بالحرام أيضا وهذا ما يأباه النظم الكريم، والشرع القويم، ثم إن ما اخترناه مؤيد بقوله تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ [ آل عمران : ٩٢ ] وبوصف الرزق بالحلال والطيب معا في آيات كثيرة وبمثل قوله تعالى :﴿ اليوم أحل لكم الطيبات ﴾ [ المائدة : ٥ ] وقوله :﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ [ الأعراف ١٧ ] والآيات في هذا المعنى كثيرة. فهل تقول إن المعنى يحل لهم الحلال ويحرم عليهم الحرام وهو من تحصيل الحاصل ؟ واعلم أن الخبيث الذي حرم أخص من الخبيث الذي ينهى عن تحري التفقه فيه، فإن المحرم ما كانت رداءته ضارة كالدم ولحم الخنزير.
وأما قوله تعالى :﴿ ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ﴾ فهو حجة على من ينفق الخبيث في سبيل الله تشعر بالتوبيخ والتقريع، أي كيف تقصدون الخبيث منه تتصدقون ولستم تَرضونَ بمثله لأنفسكم إلا أن تتساهلوا فيه تساهل من أغمض عينيه عنه فلم ير الغيب فيه ؟ ولن يرضى ذلك لنفسه أحد إلا وهو يرى أنه مغبون مغموض الحق. وقد صوروه فيمن له حق عند امرئ فرد عليه بدلا عنه ما هو دونه جودة وهو يكون في غير الحقوق أيضا فالرديء لا يقبل هداية إلا بإغماض فيه وتساهل مع المهدي، لأن إهداء الرديء يشعر بقلة احترام المهدى إليه، وما يبذل في سبيل الله وابتغاء مرضاته هو كالمعطى له فيجب على المؤمن أن يجعله من أجود ما عنده وأحسنه ليكون جديرا بالقبول. فإن الذي يقبل الرديء مغمضا فيه إنما يقبله لحاجته إلى قبوله والله تعالى لا يحتاج فيغمض ولذلك قال :﴿ واعلموا أن الله غني حميد ﴾ فلا يصح أن يتقرب إليه بما لا يقبله لرداءته إلا فقير اليد أو فقير النفس الذي لا يبالي أن يرضى بما ينافي الحمد كقبول الرديء الذي يدل على عدم التعظيم والاحترام.
وأما نوع ما ينفق فهو بعض ما يجنيه المرء بعمله ككسب الفعلة والتجار والصناع وبعض ما يخرج من الأرض من غلات الحبوب وثمرات الشجر والمعادن والركاز، وهو ما كان دفن في الأرض قبل الإسلام. وقد أسند إليه تعالى ما يخرج من الأرض مع أن للإنسان فيه كسبا لأن العمدة فيه فضل الله تعالى لا مجرد حرث الإنسان وبزره، على أن منه ما ليس للناس فيه عمل ما، أو ما لهم فيه إلا عمل قليل لا يكاد يذكر. قال بعضهم إن تقديم الكسب على ما يخرج الله من الأرض يدل على تفضيله ويعضده حديث البخاري مرفوعا " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده " ١ واختلفوا في الإنفاق هنا. فقيل هو خاص بالزكاة المفروضة وقيل خاص بالتطوع، وقيل يعمهما وهو الصواب. إذ لا دليل على التخصيص.
واختلف الذين قالوا إن الآية في الزكاة المفروضة هل تجب الزكاة في كل ما يخرجه الله للناس من الأرض عملا بعموم اللفظ أم يخص ببعض ذلك. واختلف القائلون بالتخصيص فقال بعضهم إنه خاص بما يقتات به دون نحو الفاكهة والبقول، وقال بعضهم غير ذلك. والآية في نفسها جلية واضحة لا مثار للخلاف فيها وإنما جاء الخلاف من حملها على زكاة الفريضة مع إضافة ما ورد من الروايات القولية في زكاة ما تخرج الأرض إليها. ومن جردها عن الآراء والروايات فهم منها أن الله تعالى يأمرنا بأن ننفق من كل ما ينعم به علينا من الرزق سواء كان سببه كسب أيدينا أو ما يخرجه لنا من نبات الأرض ومعادنها، كل ذلك فضل منه يجب شكره له بنفقة بعض الجيد منه في سبيله وابتغاء مرضاته. والآية لم تخصص ولم تعين مقدار ما ينفق بل وكلته إلى رغبة المؤمن في شكر الله تعالى فإن ورد دليل آخر يعين بعض النفقات فله حكمه.
أقول : لم يبق بعد هذا الترغيب والترهيب، والتعليم الكامل والتأديب، إلا أن يكون المؤمن بهذا الهدى أشد الناس رغبة في الصدقة والإنفاق في سبيل الله بحسب سعته وحاله وأن يكون في بذله مخلصا متحريا مواقع الفائدة مبتعدا بعد البذل عما يذهب بثمرته من المن والأذى. ولكنك تجد كثيرا من اللابسين لباس الإيمان يتقلبون في النعم وهم أشد الناس كفرا، إذ كانوا أشد الناس إمساكا وبخلا، وقد يعد هذا من مواطن العجب، ولكن الكتاب الحكيم قد جاءنا بما له من العلة والسبب، وأرشدنا إلى طريق التفصي منه والهرب، فقال :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم * يؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب* ﴾
فقوله تعالى :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ﴾ معناه أنه يخيل إليكم بوسوسته أن الإنفاق يذهب بالمال، ويفضي إلى سوء الحال، فلابد من إمساكه والحرص عليه استعدادا لما يولده الزمن من الحاجات وهذا هو معنى قوله تعالى :﴿ ويأمركم بالفحشاء ﴾ فإن الأمر هنا عبارة عما تولده الوسوسة من الإغراء. والفحشاء والبخل وهي في الأصل كل ما فحش أي اشتد قبحه وكان البخل عند العرب من أفحش الفحش قال طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى | عقيلة مال الفاحش المتشدد١ |
ومعنى هذا الدعاء عندي : أن من سنة الله أن يخلف على المنفق بما يسهل له من أسباب الرزق ويرفع من شأنه في القلوب، وأن يحرم البخيل من مثل ذلك. وعلى هذا يكون وعد الله تعالى بشيئين أحدهما لخير الآخرة وهي المغفرة والثاني لخير الدنيا وهو الخلف الذي يعطيه. وأقول إن من هذا الخلف الرزق المعنوي وهو الجاه الذي هو عبارة عن ملك القلوب فيدخل فيه ما قاله الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى.
﴿ والله واسع عليم ﴾ فهو إذا وعد أنجز لسعة فضله. ثم إنه يعلم أين يضع مغفرته وفضله. بمثل هذا يفسرون هذه الأسماء في هذه المواضع. وأقول إن اسم " عليم " يفيد هنا أنه سبحانه يعلم غيب العبد ومستقبله. والشيطان لا يعلم ذلك فوعده تغرير، لا يعبأ به العاقل النحرير.
ومن مباحث اللفظ في الآية : استعمال الوعد في الخير والشر وهو شائع لغة، ثم جرى عرف الناس أن يخصوا الوعد بالخير والإيعاد بالشر. فإذا ذكروا الوعد مع الشر أرادوا به التهكم. على أن ما يعد به الشيطان من الفقر هو على تقدير الإنفاق. ويلزمه الوعد بالغنى مع البخل الذي يأمر به.
٢ أخرجه البخاري في الزكاة باب ٢٧، ومسلم في الزكاة حديث ٥٧، وأحمد في المسند ٥/١٩٧..
قال الأستاذ الإمام ما مناه : والمراد بإيتائه الحكمة من يشاء إعطاؤه آلتها العقل كاملة مع توفيقه لحسن استعمال هذه الآلة في تحصيل العلوم الصحيحة. فالعقل هو الميزان القسط الذي توزن به الخواطر والمدركات، ويميز به بين أنواع التصورات والتصديقات، فمتى رجحت فيه كفة الحقائق طاشت كفة الأوهام، وسهل التمييز بين الوسوسة والإلهام.
أقول : وهذا القول يتفق مع ما روي عن ابن عباس من " أن الحكمة هي الفقه في القرآن " أي معرفة ما فيه من الهدى والأحكام بعللها وحكمها، لأن هذا الفقه هو أجل الحقائق في النفس الماحية لما يعرض لها من الوساوس حتى لا تكون مانعة من العمل الصالح. ولا شك أن من فقه ما ورد في الإنفاق وفوائده وآدابه من الآيات لا يكون وعد الشيطان له بالفقر وأمره إياه بالبخل مانعا له منه، ولكن الفقه في القرآن لا يكون إلا بكمال العقل وحسن استعماله في الفهم، والبحث عن فوائد الأحكام وعللها ودلائل المسائل وبراهينها. فالخبر فسر الحكمة بالأخص رعاية للمقام والأستاذ الإمام فسرها بالأعم بيانا لشمول هداية القرآن. فالآية بإطلاقها رافعة لشأن الحكمة بأوسع معانيها هادية إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له.
ومن رزىء بالتقليد كان محروما من ثمرة العقل وهي الحكمة، ومحروما من الخير الكثير الذي أوجبه الله لصاحب الحكمة بقوله ﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾ فيكون كالكرة تتقادفه وسوسة شياطين الجن وجهالة شياطين الإنس، يتوهم أنه قد يستغني بعقول الناس عن عقله وبفقه الناس عن فقه القرآن، بدعوى أنه جمع كل ما أوجبه القرآن مع زيادة في البيان. وقد يجد في فقه الناس أن الله لم يوجب عليه غير الزكاة التي لا تجب إلا بعد أن يحول الحول وهو مالك للنصاب، وأنه إذا هو وهب امرأته ماله قبل انقضاء الحول بيوم أو يومين ثم استوهبها إياه بعد دخول الحول الجديد بيوم أو يومين لم تجب عليه الزكاة. ويمكن على هذا أن يملك ألوف الألوف من الدنانير وتمر عليه السنون والأحوال لا ينفق منها شيئا في سبيل الله ويكون مؤمنا عاملا بفقه الناس، ولكنه إذا عرض نفسه على القرآن وفقه ما انزل الله فيه من غير تقليد ولا غرور بعظمة شهرة المحتالين المحرفين فإن يعلم أنه يكون بهذا المنع عدوا لله تعالى ولكتابه، محروما من الخير الكثير الذي آتاه الله تعالى لأهله.
قرأنا واطلعنا على كثير من كتب الفقه التي هي عمدة المقلدين المنسوبين إلى المذاهب الأربعة. فلم نر في شيء منها عشر معشار ما جاء في القرآن الكريم من الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله وبيان فوائده ومنافعه وكونه من أكبر آيات الإيمان والتنفير من الإمساك والبخل وبيان كونه من آيات الكفر ولكنها تطيل فيما لم يعن به كتاب الله من بيان النصاب في كل ما تجب به الزكاة والحول وغير ذلك من المسائل التي تستقصي كل شيء إلا ما ينفذ إلى القلب فيجذبه إلى الرب بعد أن ينقذه من وساوس الشياطين، ويزج به في وجدان الدين. وهذا ما أعابه الإمام الغزالي على هذا العلم الذي سموه فقها. وقال : إنه ليس من فقه القرآن من شيء. فهل يصح مع هذا أن يقال إنه يمكن الاستغناء به عن فهم القرآن وفقه حكمه وأسراره ؟ ألم تر أن أوسع الناس معرفة به هم في الغلب أشدهم بخلا وحرصا حتى لا تكاد ترى أحدا منهم مشتركا في جمعية خيرية أو منفقا في مصلحة عامة أو خاصة، بل منهم الذين يحتالون ويعلمون الناس الحيل لمنع الزكاة المعينة التي أجمعوا على أنها من أركان الإسلام.
ومنهم من يصف الجمعيات الخيرية بالبدعة ويلمز أهلها في عملهم، يعتذر بذلك عن نفسه أنه لم يقبض يده عن مساعدتهم إلا تمسكا بالشرع ومحافظة على أحكامه فإذا قيل لهؤلاء : إن صح ما تزعمون فلم لا تنشئون جمعيات خيرية لخدمة الأمة وإعلاء شأن الملة شكوا من كل أحد إلا من أنفسهم، على أنهم لو فعلوا لأسرع الجماهير إلى تلبيتهم لأن السواد الأعظم من المسلمين لا يزال يعتقد بأنهم هم المحافظون على الدين، أفرأيت من لا يعمل الخير ولا يأمر به بل يصد عنه يكون قد أوتي الحكمة التي قال فيمن أوتيها إنه أوتي خيرا كثيرا ؟ أو يكون قد أوتي فقه القرآن الذي هو أخص ما فسرت به الحكمة ؟
لا نعني بما تقدم أن علم الأحكام المعروف بالفقه لا حاجة إليه بالمرة وإنما نعني أنه لا يستغنى به عن فهم القرآن حتى في الأحكام.
ثم أقول إيضاحا للمقام : إن الله جعل الخير الكثير مع الحكمة في قرن. فهما لا يفترقان كما لا يفترق المعلول عن علته التامة. فالحكمة هي العلم الصحيح المحرك للإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير. وآلة الحكمة هي العقل السليم المستقل بالحكم في مسائل العلم فهو لا يحكم إل بالدليل فمتى حكم جزم فأمضى وأبرم فكل حكيم عليم عامل مصدر للخير الكثير ولذلك قال تعالى :﴿ وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾ أي وقد جرت سنته تعالى بأنه لا يتعظ بالعلم ويتأثر به تأثرا يبعث على العمل إلا أصحاب العقول الخالصة من الشوائب، والقلوب السليمة من المعايب، وهو تذليل يؤيد ما تقدم في تفسير الحكمة. فنسأله تعالى أن يجعلنا من أولي الألباب المؤيدين بالحكمة وفصل الخطاب، ثم قال تعالى :
أرشدنا عز وجل في هذه الآية إلى أنه يجازي على كل صدقة وكل التزام لصدقة وبر، لأن علمه محيط بكل عمل وكل قصد، لنتذكر ذلك فنختار لأنفسنا أفضل ما نحب أن يعلمه عنا.
فقوله ﴿ وما أنفقتم من نفقة ﴾ يشتمل قليلها وكثيرها سرها وعلانيتها ما أتبع منها بالمن والأذى وما لم يتبع بشيء منهما.
وقوله :﴿ أو نذرتم من نذر ﴾ يأتي فيه مثل ذلك ويشمل ما كان نذر قربة وتبرر ونذر لجاج وغضب. فالأول ما قصد به التزام الطاعة قربة لله تعالى بلا شرط ولا قيد لئلا يتهاون فيها كأن ينذر نفقة معينة أو صلاة نافلة أو بشرط حصول نعمة أو رفع نقمة. كقوله إن شفى الله فلانا فعلي أو لله علي أن أتصدق بكذا أو أقف على الجمعية الخيرية كذا والثاني ما يقصد به حث النفس على شيء أو منعها عنه. كقوله إن كلمت فلانا فعلي كذا. واتفقوا على أن يجب الوفاء بالأول.
وفي الثاني أقوال : منها أنه يجب فيه كفارة يمين بشرطه. ومنها أنه يخير بين الوفاء بما التزمه وبين كفارة يمين، ولا محل هنا لتفصيل القول فيما ورد وما قيل في النذر. وإنما نقول إنه التزام فعل الشيء بلفظ يدل عليه كقول الناذر لله علي كذا أو علي لله كذا أو نذرت لله كذا. وينبغي أن يكون في طاعة لأنه لا يتقرب إليه تعالى إلا بالطاعة. فإن نذر فعل معصية حرم عليه أن يفعلها. وإن نذر مباحا فعله، لأن فسخ العزائم من النقص. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم من نذرت أن تضرب بالدف وتغني يوم قدومه بالوفاء. وقد يقال إن هذا مستحب لا مباح.
وقال تعالى ﴿ فإن الله يعلمه ﴾ جواب الشرط أي فإنه تعالى يعلم ما ذكر من النفقة أو النذر ويجازي عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. فالجملة وعد ووعيد وترغيب وترهيب.
ثم أكد ما فيها من الوعيد بقوله :﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾ ينصرونهم يوم الجزاء فيدفعون عنهم العذاب بجاههم أو يفتدونهم منه بمالهم كقوله :﴿ وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ﴾ [ غافر : ١٨ ]. أقول : والظالمون في مقام الإنفاق هم الذين ظلموا أنفسهم إذ لم يزكوها ويطهروها من هذه الفحشاء البخل أو من رذائل الرياء والمن والأذى وظلموا الفقراء والمساكين بمنع ما أوجبه الله لهم، وظلموا الملة والأمة بترك الإنفاق في المصالح العامة وبما كانوا قدوة سيئة لغيرهم فظلمهم عام شامل. فهل يعتبر بهذا أغنياء المسلمين وهم يرون أمتهم قد صارت ببخلهم أبعد الأمم عن الخير بعد أن كانت خير أمة أخرجت للناس ؟ أما إنهم لا يجهلون أن المال هو القطب الذي تدور عليه جميع مصالح الأمم في هذا العصر، وأنهم لو شاؤوا لانتاشوا هذه الأمة من وهدتها، وعادوا بها إلى عزتها، ولكنهم قوم ظالمون، قساة لا يتوبون ولا يتذكرون.
هذا حكم آخر من أحكام الصدقات يشعر بالحاجة إليه المخلصون الذين يتحامون الرياء والفخر في الإنفاق. وما كل مظهر للعمل الصالح مرائيا به ولكن كل مخف له بعيد عن الرياء. ولذلك قال تعالى :﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي ﴾ أي فنعم شيئا إبداؤها. وأصلها نعم ما هي. قرأ ابن كثير وورش وحفص ( نعما ) بكسر النون والعين في لغة هذيل. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل. وقرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين ( اختلاسها ) في رواية وإسكانها في أخرى والأولى أقيس وحكيت الثانية لغة
قال ﴿ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ﴾ أي إن إعطاءها للفقراء في الخفية والسر أفضل من الإبداء، لما في الإخفاء من البعد عن شبهة الرياء ومثاره، ومن إكرام الفقير وتحامي إظهاره فقره وحاجته. وقيل خير لكم من الخيور وليس بمعنى التفضيل ويؤيد الأول زيادة الجزاء بقوله ﴿ ويكفر عنكم سيئاتكم ﴾ أي ويمحو عنكم بعض سيئاتكم.
قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص ( ويكفر ) بالياء أي الله تعالى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ويعقوب ( ونكفر ) بالنون مرفوعا أي نحن نكفر. وقرأ حمزة والكسائي ( ونكفر ) بالنون مجزوما بالعطف على محل الفاء.
ثم قال ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ أي لا تخفى عليه نياتكم في الإبداء والإخفاء. فإن الخبير هو العالم بدقائق الأمور.
بقي في الآية مبحثان ( أحدهما ) : أن بعض المفسرين قال إن الصدقات في الآية عامة تشمل الزكاة المفروضة والتطوع. فإخفاء كل فريضة خير من إبدائها. وقال الأكثرون إنها خاصة بالتطوع لأن الفرائض لا رياء فيها وهي شعائر لا ينبغي إخفاؤها، وهو الذي اختاره الأستاذ الإمام، قال : إن إبداء الفريضة إشعار لشعيرة من شعائر الإسلام لو أخفيت لتوهم منعها، وذلك يؤثر في المتوهم فيسهل عليه المنع لما للقدوة وحال البيئة من التأثير. ولا محل للرياء في الفرائض والشعائر لأن من شأنها أن تكون عامة ولأن المرائي بها لا يكون مصدقا بفرضيتها ومن كان كذلك فهو كافر.
أقول : فإذا انقلبت الحال فصار المؤدي للفريضة نادرا لا يكاد يعرف فإذا عرف أشير إليه بالبنان فهل يصير الأفضل له إخفاؤها ؟ الظاهر أن الإظهار في هذه الحالة يكون آكد لأن ظهور الإسلام وقوته بإظهار شعائره وفرائضه ولمكان القدوة. بل قال بعض العلماء إن الإظهار أفضل لمن يرجو اقتداء الناس به في صدقته وإن كانت تطوعا، لأن نفعها حينئذ يكون متعديا، وهو أفضل من النفع القاصر بلا نزاع. فعلى هذا تكون الخيرية في الآية خاصة بصدقتين متساويتين في الفائدة إحداهما خفية والأخرى جلية. فلا شك أن الخفية تكون حينئذ أفضل. ولك أن تقول : إن الخيرية فيها عامة إلا أنها مقيدة بقيد الحيثية كما يقولون أي إن كل صدقة خفية خير من كل صدقة جلية، من حيث هي ستر لحال الفقير وتكريم له ومجنبة لنزغات الرياء. ولا يلزم من ذلك أن تكون خيرا من كل جهة. فإذا وجد في الجلية فائدة ليست في الخفية كالإقتداء تكون خيرا من هذه الجهة أو الحيثية. ولك أن توازن بعد ذلك بين الفضيلتين المختلفتي الجهة أيتهما أرجح وذلك يختلف باختلاف حال المعطي والمعطي، والقدوة. فرب معطي لا يقتدي به أحد ومعطي يقتدي به الواحد والاثنان، ومعطي يتبعه الجماهير، ورب معطى إليه يرى من العار أن يأخذ من كل أحد ويفضل أن يعطيه زيد وحده في السر ولا يحب أن يأخذ من غيره ولو في السر.
وإن من المنفقين من لا يخاف على نفسه الرياء إذا هو تصدق في الملأ ومنهم من يأمن عليها الرياء ولو أنفق في الخلوة إلا أن يجتهد في ضبط نفسه لتواظب على الكتمان، على أن المخلص لا يعسر عليه أن يجمع بين إخفاء الصدقة الذي يسلم به من منازعة الرياء، وبين إبدائها الذي يكون مدعاة للأسوة والإقتداء، ويسهل هذا الجمع في التعاون على المصالح العامة كأن يرسل لمتصدق ورقة مالية لجمعية خيرية، ولا يذكر لها اسمه أو يذكره لمن يبذل المال له، كرئيسها أو أمينها فقط. ومن دأب الجمعيات أن تشيد بمثل هذه الصدقة بألسنة الجرائد التي هي أوسع طرق الشهرة في عصرنا وأبعدها مدى.
ولا يبعد عن هدى الآية من يقول إن الإنفاق في المصالح العامة كإنشاء المدارس للتربية الملية والتعليم النافع، وإنشاء المستشفيات والدعوة إلى الدين والجهاد ونحو ذلك يشبه إيتاء الزكاة، فلا ينبغي إخفاؤه وإن أخفى المنفق اسمه، وأن تفضيل الإخفاء خاص بالصدقة على الفقراء كما هو صريح قوله ﴿ وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء ﴾ [ البقرة : ٢٧١ ] الخ ولم يقل : وإن تخفوها وتجعلوها في سبيل الله فهو خير لكم : وذلك أن الصدقة على الفقير سد لخلة، فلا يحتاج فيها إلى المباراة في الاستكثار كما يحتاج في إقامة المصالح العامة، ثم إن فيها من ستر حاله وحفظ كرامته ما لا يجيء مثله في المصالح.
وقد ورد في حديث البخاري أن " من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " ١ ومن الناس من يظن أن إخفاء كل أعمال الخير أفضل من إظهارها وأنه خير للإنسان أن يكون مغمورا من أن يكون معروفا بالخير مقتدى به. فأين من هذا الظن قوله تعالى :﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ﴾ [ القصص : ٥ ] وقوله عز وجل ﴿ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا ﴾ [ السجدة : ٢٤ ] الآية وقوله في بيان دعاء عباده ﴿ واجعلنا للمتقين إماما ﴾ [ الفرقان : ٧٤ ] فهل يكون الإمام الذي يقتدى به في الخير مغمورا مجهولا.
( المبحث الثاني ) : أنه أطلق في الآية لفظ الفقراء، ولم يقل فقراءكم. فدل ذلك على أن الصدقة تستحب على كل فقير، وإن كان كافرا فكما وسعت رحمته الكافر فلم يحرمه لكفره من الرزق بسعيه، كذلك لم يحرم عليه الصدقة عنه عجزه عن الكسب الذي يكفيه. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية نزلت في الصدقة على أهل الكتابين. أورد ذلك ابن جرير وحكاه عن يزيد بن أبي حبيب. والفقهاء لم يمنعوا صدقة التطوع عن غير المسلم. وإنما قالوا إن الزكاة التي هي إحدى أركان الإسلام خاصة بالمسلمين. وكذلك زكاة الفطر. ولم يمنعوا صدقة التطوع عن مسلم ولا كافر، ولا بر ولا فاجر، بل قالوا إذ اضطر الذمي أو المعاهد إلى الفوت وجب على المسلمين سد رمقه، كما يجب عليهم سد رمق المسلم المضطر، إلا من أهدر الشرع دمه. وعموم نصوص القرآن والأحاديث تدل على أن الله كتب الرحمة والإحسان في كل شيء. ومن ذلك حديث الصحيحين " في كل كبد رطبة أجر " ٢ وفي رواية لغيرهما " في كل كبد حرى أجر " ٣ يعنى في جميع الأحياء.
٢ أخرجه بهذا اللفظ: البخاري في المساقاة باب ٩، والمظلم باب ٢٣، والأدب باب ٢٧، ومسلم في السلام حديث ١٥٣، وأبو داود في الجهاد باب ٤٤، ومالك في صفة النبي حديث ٢٣، وأحمد في المسند ٢/٣٧٥، ٥١٧..
٣ أخرجه ابن ماجة في الأدب باب ٨، وأحمد في المسند ٢٢٢، ٤/١٧٥..
أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تصدقوا إلا على أهل دينكم ) فأنزل الله تعالى ﴿ ليس عليكم هداهم ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية ) وأخرج ابن جرير عنه أنه قال " كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت " والمعنى أن هذه الوقائع تقدمت نزولها، فلما نزلت كانت فصلا فيها، وإلا فهي مرتبطة بما قبلها وما قبلها نزل في الفقراء عامة.
قال الأستاذ الإمام : إن الآية السابقة قد أطلقت إيتاء الفقراء وجعلته على عمومه الشامل للمؤمن والكافر. وقد أرشد الله المسلمين في هذه الآية إلى عدم التحرج من الإنفاق على المشركين لأنهم غير مهديين، فإن الرحمة بالفقير وسد خلته لا ينبغي أن تتوقف على إيمانه، بل من شأن المؤمن أن يكون خيره عاما، وأن يكون سابقا لسائر الناس بالكرم والفضل.
أقول : والخطاب على ما ورد في حديث سعيد وحديث ابن عباس الأول خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لنهيه عن الإنفاق. وعلى هذا، فالتوجيه عام موجه إلى المؤمنين كافة وإن جاء بضمير المخاطب المفرد. ويؤيده كونه في سائر الآية بضمائر جمع المخاطبين. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلف هداية الكافرين بالفعل وإنما كلف البلاغ فقط. وأعلم أن أمر الناس في الاهتداء مفوض إلى ربهم وما وضعه لسير عقولهم وقلوبهم من السنن فغيره أولي بأن لا يكلف ذلك. فليس علينا إذن أن نمنع الخير عن الكافر عقوبة له على كفره أو جذبا له إلى الإيمان واضطرارا له إلى الهداية فإن الهداية ليست علينا.
﴿ ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ بتوفيقه إلى النظر الصحيح المؤدي إلى الاعتقاد الجازم الذي يثمر العمل. وأما الباعث في الإنفاق فيجب أن يكون ما أرشدنا إليه سبحانه في قوله :﴿ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ﴾ الخ. قالوا معنى هذا أن نفع الإنفاق في الآخرة خاص بكم. وهكذا صرح بعضهم بتقييد النفع بالآخرة. وقال الأستاذ الإمام هنا : أي لأن نفعه عائد عليكم في الدنيا والآخرة. وسيأتي أنه بجعله خاصا بالدنيا، ومعنى كونه خيرا في الدنيا أنه يكف شر الفقراء ويدفع عنهم أذاهم فإن الفقراء إذا ضاق بهم الأمر واشتدت بهم الحاجة يندفعون إلى الاعتداء على أهل الثروة بالسرقة والنهب والإيذاء بحسب استطاعتهم، ثم يسري شرهم إلى غيرهم وربما صار فسادا عاما بسوء القدوة، فيذهب بالأمن والراحة من الأمة، وقد تقدم لهذا الكلام نظير في موضع آخر.
( قال ) وقوله تعالى :﴿ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ﴾ قد يكون خبرا على ظاهره، أي لا تنفقون لأجل جاه أو مكانة عند المنفق عليه وإنما تنفقون لوجه الله فلا فرق بين معطي ومعطي إذا كان الفقير مستحقا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزاق الرحيم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لاعتقاده. أقول : ويؤيده قوله :﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ﴾ [ الإسراء : ٢٠ ] قال : وفي كون الإنفاق لا يكون إلا لوجه الله إشارة إلا أن الإنفاق على الكافرين إذا كان إعانة لهم على إيذاء المسلمين لا يكون جائزا، لأنه لا يكون مرضيا لله تعالى يبتغي به وجهه. وأكثر المفسرين على أنه خبر بمعنى النهي، أي لا تنفقوا إلا لوجهه وابتغاء مرضاته عز وجل.
ثم قال في قوله تعالى :﴿ وما تنفقوا من خير يوف إليكم ﴾ أي في الآخرة لا ينقصكم منه شيء وعد أولا بأن خير الإنفاق عائد على المنفقين في الدنيا بقوله :﴿ فلأنفسكم ﴾ ثم وعد بالجزاء عليه في الآخرة موفى تاما وقال ﴿ وأنتم لا تظلمون ﴾ أي لا تنقصون من الجزاء عليه شيئا ولو نقيرا أو فتيلا. أقول : وقد رأيت أنه جعل هنا قوله تعالى " فلأنفسكم " خاصا بالدنيا وما نقلناه عنه أولا من أنه عام قد قاله في الدرس، فهل كان سبق لسان أم رجع عنه عند تمام تفسير الآية. وكيف فاتنا أن نسأله عن ذلك ؟ هذا ما وجدته في مذكرتي لا أذكر شيئا غير ذلك.
أقول : والذي كان تبادر إلى فهمي من قوله تعالى :﴿ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ﴾ أنه معنى ﴿ والذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم ﴾ [ البقرة : ٢٦٥ ] أيْ أن أيَّ نفقة من الخير أنفقتم فهي تفيدكم في تثبيت أنفسكم في مقامات الإسلام والإيمان والإحسان، والحال أنكم ما تنفقون ذلك إلا ابتغاء وجه الله وإرادة رضوانه. ومتى كان الإنفاق كذلك كان مزكيا ومثبتا للنفس معدا لها ومؤهلا لرضوان الله لا يمنع من ذلك كون المنفق عليه مؤمنا أو كافرا، إذ الإنفاق ليس لأجل التقرب إليه وابتغاء الأجر منه.
وبعد أن ذكر الفائدة الذاتية للإنفاق في نفس المنفق ذكر الجزاء عليه بقوله :﴿ وما تنفقوا من خير ﴾ الخ أي وإنكم على استفادتكم من الإنفاق في أنفسكم بترقيتها وجعلها مستحقة لقرب الله ورضوانه لا يضيع عليكم ما تنفقونه بل توفونه لا تظلمون منه شيئا ويدخل في ذلك الأجر عليه في الدنيا والآخرة. والكلام على هذا التفسير أشد التئاما وأحسن نظاما، فالجملتان الشرطيتان فيه متعاطفتان وقوله :﴿ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ﴾ جملة حالية قيد في الشرطية الأولى.
وللإنفاق على هذا فائدتان أولاهما وهي المقصودة بالذات، تثبيت نفس المنفق وترقيتها بالإخلاص لله ابتغاء وجهه. والأخرى الثواب عليه في الدنيا والآخرة وهي دون الأولى عند العارفين.
وابتغاء وجه الله بالعمل أن يعمل له دون سواه تقربا إليه وإرضاء له لذاته لا للتشوف إلى شيء آخر، كأن المراد بذلك عرضه عليه ومقابلته به فقط. ولا يفهم هذا حق فهمه إلا من عرف مراتب الناس ومقاصدهم في خدمة الملوك، ذلك أن منهم من يعمل للملك خوفا من العقوبة على ترك ما فرضه عليه قانونه أو التقصير فيه. ومنهم من يعمل لأجل اقتضاء الأجر الذي فرض للعمل، فهو لا يكفر في غيره. ومنهم من يعمل فيجد العمل لأجل الارتقاء من جزاء إلى أكبر منه. ومنهم وهو أعلاهم مرتبة من يعمل العمل الحسن المرضي للملك لأجل أن يكون في نظره محسنا عارفا قيمة العمل الذي أمر به وما وراءه من الحكمة التي كانت علة الأمر. فمثل هذا يصح أن يقال فيه إنه مبتغ وجه الملك، أي أن يكون في الجهة التي يراه فيها محسنا. فإن من يتعرض لأن يرى فإنما يأتي من تلقاء الوجه. ومن الناس من يعمل العمل لا يبتغي به إلا أن يواجه الناس لا الملوك خاصة بما يعتقدون أنه كمال لا يبتغى غير ذلك جلب نفع أو دفع ضر. فأرشد الله الإنسان أن يكون في عمله الصالح مع الله تعالى كذلك. أي أن يكمل نفسه بالعمل ويبتغي أن يراه الله تعالى كاملا يعمل العمل لأنه حسن تتحقق به حكمته تعالى، وتقوم به سنته في صلاح البشر.
ولك أن تقول : إن معنى ابتغاء وجه الله تعالى هو طلب إقباله ومحبته للعامل قال تعالى حكاية عن إخوة يوسف ﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ﴾ [ يوسف : ٩ ] فمعنى خلو وجهه لهم أن لا يشاركهم في إقباله عليهم ومحبته لهم مشارك. ولبعض الصوفية منزع دقيق في معنى وجه الله تعالى، وهو أن لكل شيء وجهين : وجها إلى هذا العالم الحادث، وهو ما يكون عليه فيه ولا بقاء له لأن جميع المحدثات عرضة للزوال، ووجها إلى الدوام والبقاء وهو وجه الله تعالى. فمعنى ابتغاء وجه الله بالإنفاق على هذا المنزع أن يقصد به ثمرته الدائمة في الآخرة، وهي إنما تكون بارتقاء النفس في الكمال الذي يؤهلها للبقاء في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إذا فهمت هذا علمت أنه لا حاجة هنا إلى إيراد طريقتي السلف والخلف في المتشابهات وآيات الصفات، كأن نقول إن الوجه صفة لله تعالى أو كأنها كناية عن الذات، حتى يكون المعنى على الأول وما تنفقون إلا ابتغاء صفة الله تعالى التي سموها وجها، وآمنا بها مع تنزيهه تعالى عن صفات المحدثين وعلى الثاني وما تنفقون إلا ابتغاء ذات الله تعالى. هذا ما لا يظهر معه للآية معنى، وكل ما ذكرناه في تفسيرها أظهر منه وأجلى، وقد رأيت أن الأستاذ اكتفى كالمفسرين بجعله معنى مرضاة الله تعالى. وهو صحيح.
( قال ) أولئك الذين نزلت فيهم الآية كانوا من الذين هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها فهل محصرون في سبيل الله بهذه الهجرة ومحصرون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن، وقد كان حفظه أفضل العبادات على الإطلاق لأنه حفظ الدين كله وأنتم تعرفون أنهم ما كانوا يحفظونه لأجل تلاوته أمام الجنائز، ولا في الأعراس والمآتم ولا لاستجداء الناس به ولا لمجرد التعبد بتلاوة ألفاظه وإنما كانوا يحفظونه للفهم والاهتداء والعمل به، ولحفظ أصل الدين بحفظه. وكانوا أيضا يحفظون ما يبينه به النبي صلى الله عليه وسلم من سنته.
( قال ) : ويحتج بأهل الصفة أكلة أموال الناس بالباطل من أهل التكايا الذين ينقطعون إليها تاركين للأعمال النافعة، فلا يتعلمون العلم ولا يجاهدون في سبيل الله، وليس فيهم صفة من الصفات الخمس التي وصف الله بها أهل الصفة. وإنما قصارى أمرهم أنهم يأكلون بدينهم : يأكلون الصدقات والأوقاف لأجل أن يعبدوا الله تعالى في هذه المواضع خاصة. فهي لهم كالأديار للنصارى وهم فيها كالرهبان، وإن كان بعضهم يتزوج وقد يخرج الذي يتزوج من التكية لأنه قد يكون من شروط المقيم فيها أن لا يتزوج ومنهم من لا يلتزم الإقامة في التكية وإنما يجمعه بأصحابها اسم الطريقة، كأصحاب السيارات الذين ينزل شيخ الطريقة منهم بزعنفته من جماعته بلدا بعد آخر فيكلفون من يستضيفونه الذبائح والطعام الكثير، ثم لا يخرجون إلا مثقلين، يسألون فيحلفون، بل يسلبون وينهبون، فإذا منعوا ما أرادوا انتقموا لأنفسهم بكل ما قدروا عليه من أنواع الانتقام.
أقول : إن الناس يحفظون عنهم شيئا كثيرا من ضروب الإيذاء، ومنه ما يبرزونه في معرض الكرامات والخوارق. حدثني غير واحد أن من الفلاحين من قصر في إجابة مطالب بعض الشيوخ عندما نزل وزعنفته به فأحرقوا له جرن ( بيدر ) الحنطة وزعموا أن الله أحرق بغير فعل فاعل كرامة لشيخهم. وحدثت أن بعضهم اتخذ في رأس العلم الذي يحمل فوق رأسه عدسية من الزجاج كان يوجهها من ناحية الشمس إلى الجرن الذي يريد إحراقه من حيث لا يشعر الفلاحون. ويقول إنه يريد التصرف فيه فيقع الحريق فيه ولم يدن أحد منه، فلا يشك الفلاحون الجاهلون في أن الحريق كان كرامة للشيخ الذي لا حرفة له إلا أكل أموال الناس بالكذب على الله تعالى وإدعاء الولاية والقرب منه. وهؤلاء الأشرار الضالون هم الذين يشبهون أنفسهم بأهل الصفة، ويزعمون أن لأكلهم أموال الناس بالباطل أصلا في الكتاب والسنة، وحاشى لكتاب الله وسنة رسول من ذلك.
ما ذكره الأستاذ الإمام من نزول الآية في أهل الصف هو المروي عن ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي. وعن سعيد بن جبير أنها نزلت في قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله تعالى فصاروا زمنى فجعل لهم في أموال المسلمين حقا. والقاعدة الأصولية : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فكل من اتصف بهذه الصفة من الفقراء كان له حكم من نزلت فيهم الآية من استحقاق الصدقة. وقد رأيت المفسرين أوجزوا في تفسير هذه الصفات فأحببت أن أبسط القول فيها فأقول :
الصفة الأولى : الإحصار في سبيل الله فقول تعالى :﴿ أحصروا في سبيل الله ﴾ بالبناء للمفعول يدل على أن المراد بالإحصار المانع من الكسب ما كان ترك الكسب فيه بسبب اضطراري ويفهم منه أن حبس النفس في سبيل الله أي في الأعمال المشروعة التي تقوم بها المصالح كالجهاد والعلم لا ينبغي أن يمنع الإنسان عن الكسب الذي يستطيعه للقيام بأوده بل يطلب منه أن يعمل للمصلحة العامة في أوقات الفراغ من العمل الذي به قوام معيشته فإن ترك الكسب مختارا لم يحل له أن يأخذ الصدقة. أما السبب الاضطراري للإحصار عن الكسب فمنه ما هو طبيعي كالعجز وما هو شرعي كالعلم بتعطيل المصلحة العامة التي أحصر فيها إذا هو تركها لأجل الكسب فإذا تعين بعض الناس لذلك بأن كان غيرهم يعجز عن القيام بالمصلحة وكان جمعهم بينه وبين الكسب متعذرا وجب عليهم ترك الكسب وحبس أنفسهم في سبيل الله وكانوا بذلك محصرين بالاضطرار الشرعي، ووجبت نفقتهم في بيت المال، وإلا فعلى أغنياء الأمة. وإن لم يتعين لذلك أناس مخصوصون كان الأمر من فروض الكفاية كما هو ظاهر. ومنه الإحصار لتعلم الفنون العسكرية.
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿ لا يستطيعون ضربا في الأرض ﴾ أي إنهم عاجزون عن الكسب. والضرب في الأرض هو السفر لنحو التجارة وبذلك فسره المفسرون هنا. وهذا يؤيد ما قلناه آنفا من اشتراط الاضطرار فيما يحصر عنه وإن كان ما يحصر فيه اختياريا، وأن القادر على الكسب ولو بالسفر لا يحل له أن يأكل الصدقة.
الصفة الثالثة : قوله :﴿ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ﴾ أي إذا رآهم الجاهل بحقيقة حالهم يظنهم أغنياء لما هم عليه من التعفف وهو المبالغة في التنزه في الطمع فيما في أيدي الناس وكل ما لا يليق كالقبيح والمحرم. وقد فسر أهل اللغة التعفف بالعفة وبالصبر والنزاهة عن الشيء وجعله المفسرون هنا للتكلف ولكن صيغة تفعل تأتي لتكلف الشيء وللمبالغة فيه والثاني أظهر هنا، لأن من يتكلف العفة قلما يخفى حاله على رائيه. وأما المبالغ في العفة فهو الذي لا يكاد يظهر عليه أثر الحاجة فهو المتبادر هنا، والمقام المدح والمبالغ في العفة فهو الذي لا يكاد يظهر عليه أثر الحاجة فهو المتبادر هنا، والمقام المدح والمبالغ في الفضيلة أحق به من متكلفها.
الصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ تعرفهم بسيماهم ﴾ أي بعلاماتهم الخاصة بهم قيل هو الخشوع والتواضع. وقيل هي الرثاثة في الثياب أو الحال وليسا بشيء. وقيل بآثار الجوع والحاجة في الوجه. وهذا قريب والصواب أن هذه السيما لا تتعين بهيأة خاصة لاختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال وإنما تترك إلى فراسة المؤمن الذي يتحرى بالإنفاق أهل الاستحقاق. فصاحب الحاجة لا يخفى على المفترس مهما تستر وتعفف فكم من سائل يأتيك رث الثياب خاشع الطرف والصوت تعرف من سيماه إنه يسأل تكثرا وهو غني وكم من رجل يقابلك بطلاقة وجه وحسن بزة فتحكم بالفراسة في لحن قوله ومعارف وجهه أنه مسكين عزيز النفس.
الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ لا يسألون الناس إلحافا ﴾ أي لا يسألون الناس شيئا مما في أيديهم سؤال إلحاح، كما هو شأن الشحاذين، وأهل الكدية المعروفين، فالإلحاف هو الإلحاح في السؤال. وظاهر العبارة نفي سؤال الإلحاف لا مطلق السؤال. وأما ظاهر السياق فهو أن القيد لبيان حال السائلين في العادة وأن النفي للسؤال مطلقا. والمعنى أنهم لا يسألون أحدا شيئا لا سؤال إلحاف، ولا سؤال رفق واستعطاف، وعليه المحققون. وهذا الذي اخترناه هو ما تؤيده الأخبار. ففي حديث أبي هريرة في الصحيحين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف. اقرأوا إن شئتم :﴿ لا يسألون الناس إلحافا ﴾ ١ وفي لفظ " ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس " ٢.
والسؤال محرم في الإسلام لغير ضرورة. وروى أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " المسألة لا تحل إلا لثلاثة، لذي فقر مدقع، أو لذي عزم مفظع، أو لذي دم موجع " ٣ فالفقر المدقع : هو الشديد الذي يلصق صاحبه بالقعاء، وهي الأرض التي لا نبات فيها. والغرم بالضم ما يلزم أداؤه تكلفا لا في مقابلة عوض. ومنه ما يحمله الإنسان من النفقة لإصلاح ذات البين ولنحو ذلك من أعمال البر، كدفع مظلمة وحفظ مصلحة فله أن يسأل الناس مساعدته على ما يحمله من المغارم. وقد اشترط في الحديث أن يكون الغرم الذي تسأل الإعانة عليه مفظعا أي شديدا فظيعا. فإذا تحمل غرما خفيفا يسهل عليه أداؤه فليس له أن يسأل لأجله. ويختلف ذلك باختلاف حال المتحملين. وأما ذو الدم الموجع فهو الذي يتحمل الدية عن الجاني من قريب أو حميم أو نسيب لئلا يقتل فيتوجع لقتله.
وروى أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمر والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة وأحمد من حديثهما عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال :" لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " ٤ وقد حسنه الترمذي، ولبعضهم مقال في بعض رجاله. وروى أحمد وأبو داوود والنسائي والدارقطني عن عبيد الله بن عدي بن الخيار " أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر ورآهما جلدين فقال : إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " ٥. قال أحمد في هذا الحديث هو أجودها إسنادا، قاله في المنتقى. وروي عنه أنه قال ما أجوده من حديث.
والمرة في الحديث الأول بكسر الميم القوة. والسوي الخلق السليم الأعضاء. والمراد به القادر على الكسب. وروى أحمد وأبو داود وابن حبان عن سهل ابن الحنظلية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم ) قالوا يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال ( ما يغديه أو يعشيه ) ٦ وقد احتج الإمام أحمد بهذا الحديث وصححه ابن حبان. وروى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق منه ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ) ٧ وروى أحمد ومسلم وابن ماجة من حديثه أيضا " من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقل منه أو ليستكثر " ٨.
وأما الحديث المشهور " للسائل حق وإن جاء على فرس " ٩ فقد رواه أحمد وأبو داود من حديث الحسين بن علي والروايات عنه كلها مراسي، ل وفي إسناد الحديث يعلى ابن أبي يحيى قال أبو حاتم الرازي مجهول. وقد حملوه على تحسين الظن بالمسلم وأنه لم يسأل إلا لحاجة تبيح له السؤال المحرم.
قال في نيل الأوطار : فيه أي الحديث الأمر بحسن الظن بالمسلم الذي امتهن نفسه بذل السؤال فلا يقابله بسوء الظن واحتقاره بل يكرمه بإظهار السرور له ويقدر أن الفرس التي تحته عارية أو انه ممن يجوز له أخذ الزكاة مع الغنى كمن تحمل حمالة أو غرم غرما لإصلاح البين : وما قالوه في الحديث يقال في تفسير السائلين في الآية ١٧٧ من هذه السورة وتفسير :﴿ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ﴾ [ الذاريات : ١٩ ] وآية :{ والذين في أموالهم حق معلوم * لل
٢ أخرجه البخاري في الزكاة باب ٥٣، ومسلم في الزكاة حديث ١٠١، والنسائي في الزكاة باب ٧٦، وأحمد في المسند ١/٣٨٤، ٤٤٦، ٢/٣١٦..
٣ أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٦، والترمذي في الزكاة باب ٢٣، وابن ماجة في التجارات باب ٢٥، وأحمد في المسند ٣/١١٤، ١٢٧..
٤ أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٤، والترمذي في الزكاة باب ٢٣، والنسائي في الزكاة باب ٩٠، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٦، والدارمي في الزكاة باب ١٥، وأحمد في المسند ٢/١٦٤، ١٩٢، ٣٧٧، ٣٨٩، ٤/٦٢، ٥/٣٧٥..
٥ أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٤، والنسائي في الزكاة باب ٩١، وأحمد في المسند ٤/٢٢٤، ٥/٣٦٢..
٦ أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٤، وأحمد في المسند ٦/١٨١..
٧ أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٠٦، والترمذي في الزكاة باب ٣٨، وأحمد في المسند ٢/٣٩٥..
٨ أخرجه البخاري في باب الزكاة ٥٢، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٥، وأحمد في المسند ٢/٢٣١..
٩ أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٣٣، ومالك في الصدقة حديث ٣، وأحمد في المسند ١/٢٠١..
كل ما تقدم في الآيات من الإنفاق كان في الترغيب فيه وبيان فوائده في أنفس المنفقين وفي المنفق عليهم وفي الأمة التي يكفل أقوياؤها ضعفاءها وأغنياؤها فقراءها، ويقوم فيها القادرون بالمصالح العامة، وفي آداب النفقة، وفي المستحق لها وأحق الناس بها، ونحو ذلك من الأحوال، إلا ما يتعلق بالزمان، فقد ذكره الله تعالى في قوله :﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ﴾ وفيه بيان عموم الأوقات مع عموم الأحوال من الإظهار والإخفاء، وفي تقديم الليل على النهار والسر على العلانية إيذان بتفضيل صدقة السر. ولكن الجمع بين السر والعلانية يقتضي أن لكل منها موضعا تقتضيه الحال وتفضله المصلحة لا يحل غيره محله. وتقدم وجه كل في تفسير ٢٧١ ﴿ إن تبدوا الصدقات ﴾. وهؤلاء الذين ينفقون أموالهم في كل وقت وكل حال لا يقبضون أيديهم مهما لاح لهم طريق للإنفاق هم الذين بلغوا نهاية الكمال في الجود والسخاء وطلب مرضاة الله تعالى.
وقد ورد أن الآية نزلت في الصديق الأكبر عليه الرضوان إذ أنفق أربعين دينار. قيل اتفق أن كانت عشرة منها بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية. ونقل الألوسي عن السيوطي أن خبر تصدقه بأربعين ألفا رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة، ولكن ليس فيه أن الآية نزلت في ذلك. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وغيرهما بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في علي رضي الله عنه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما وسرا درهما وعلانية درهما. وفي رواية الكلبي : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما حملك على هذا ؟ قال حملني أن أستوجب على الله الذي وعدني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن ذلك لك ) والعبارة تدل على أنه أنفق ذلك بعد نزول الآية.
وأخرج المنذر عن سعيد بن المسيب إنها نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف إذ أنفقا في جيش العسرة. وأخرج الطبراني وابن حاتم إنها نزلت في أصحاب الخيل وفي إسناد هذه الرواية مجهولان.
فلم يصح في سبب نزولها شيء. ومعناها عام أي الذين ينفقون أموالهم في كل وقت وكل حال، لا يحصون الصدقة في الأيام الفاضلة أو رؤوس الأعوام، ولا يمتنعون عن الصدقة في العلانية إذ اقتضت الحال العلانية، وإنما يجعلون لكل وقت حكمه ولكل حال حكمها إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها.
وقوله :﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ يشعر بأن هذا الأجر عظيم، وفي إضافتهم إلى الرب ما فيها من التكريم، ﴿ ولا خوف عليهم ﴾ يوم يخاف البخلاء الممسكون من تبعة بخلهم :﴿ ولا هم يحزنون ﴾ وقد تقدم تفسير مثل هذا الوعد الكريم.
نزلت هذه الآيات في تحريم الربا الذي كان معروفا في الجاهلية يأتيه اليهود والمشركون. وهي من آخر القرآن نزولا كما سيأتي. وذكرت في النظم بعد آيات الصدقة التي كان آخرها آية الكاملين في السخاء والجود الذين ينفقون في عامة الأوقات والأحوال، لما بينها في التناسب والتضاد. فالمتصدق يعطي المال بغير عوض يقابله والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله. وإننا نذكر تفسير الآيات ثم نفيض الكلام في مسألة الربا وحكمة تحريمه. لأن لهذه المسألة شأنا كبيرا في حياة الأمم السياسية والاجتماعية في هذا العصر ويزعم بعض المتفرنجين من المسلمين أن تحريم الربا هو العقبة الكؤود في طريق مجاراة المسلمين للأمم الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة.
قوله تعالى :﴿ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ﴾ تنفير من الربا وتبشيع لحال آكله. والمراد بالأكل الأخذ لأجل التصرف وأكثر مكاسب الناس تنفق في الأكل ومن تصرف في شيء من مال غيره يقال أكله وهضمه أي أنه تصرف تمام التصرف حتى لا مطمع في رده.
الربا في اللغة الزيادة على ما حوله. وتعريف الربا للعهد، أي لا تأكلوا الربا الذي عهدتم في الجاهلية. وذكر ابن جرير في تفسير الآية وتفسير آية آل عمران كيفية ذلك قال : وكان آكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل فإذا حل الأجل طلبه ذلك فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه. اه. وذكر وقائع للجاهلية في ذلك سننقلها عنه في موضعها.
وأما قيام آكلي الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره : المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع، كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة قد جن.
أقول : وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا : إن المراد بالقيام من القبر عند البعث، وان الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين. رووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود. بل روى الطبراني من حديث عوف بن مالك مرفوعا " إياك والذنوب التي لا تغفر : الغلول فمن غل شيئا يأتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط ".
أقول : والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية، لأنه إذا ذكر القيام انصرف على النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث. وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده. وهي لم تنزل مع القرآن ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية. ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قاله ابن عطية إلا من لم يظهر له صحته في الواقع. وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون له رواية يفسرونه بها وقلما يصح في التفسير شيء كما قال الإمام أحمد.
أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه. فإن أولئك الذين فتنهم المال واستبعدهم حتى ضريت نفوسهم بجمعه وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي، تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم، كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة. وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس : فإن تخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم، وكخبط العشواء. وبهذا يمكن الجمع بين ما قاله ابن عطية وما قاله الجمهور. ذلك بأنه إذا كان ما شنع به على المرابين من خروج حركاتهم عن النظام المألوف هو إثر اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم كان لا بد أن يبعثوا عليه. فإن المرء يبعث على ما مات عليه لأنه يموت على ما عاش عليه. وهناك تظهر صفات النفس الخسيسة في أقبح مظاهرها، كما تتجلى صفات النفس الزكية في أبهى مجاليها.
ثم إن التشبيه مبني على أن المصروع الذي يعبر عنه بالممسوس يتخبطه الشيطان. أي إنه يصرع بمس الشيطان له، وهو ما كان معروفا عند العرب وجاريا في كلامهم مجرى المثل. قال البيضاوي في التشبيه : وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع. والخبط ضرب على غير اتساق كخبط العشواء " اه. وتبعه أبو السعود كعادته فذكر عبارته بنصها. فالآية على هذا لا تثبت أن الصرع المعروف يحصل بفعل الشيطان حقيقة ولا تنفي ذلك. وفي المسألة خلاف بين العلماء. أنكر المعتزلة وبعض أهل السنة أن يكون للشيطان في الإنسان غير ما يعبر عنه بالوسوسة. وقال بعضهم إن سبب الصرع مس الشيطان كما هو ظاهر التشبيه، وإن لم يكن نصا فيه وقد ثبت عند أطباء هذا العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الحديثة. وقد يعالج بعضها بالأوهام وهذا ليس برهانا قطعيا. على أن هذه المخلوقات الخفية التي يعبر عنها بالجن يستحيل أن يكون لها نوع اتصال بالناس المستعدين للصرع، فتكون من أسبابه في بعض الأحوال. والمتكلمون يقولون إن الجن أجسام حية خفية لا ترى. وقد قلنا في ( المنار ) غير مرة : إنه يصح أن يقال عن الأجسام الحية الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة، وتسمى بالميكروبات يصح أن تكون نوعا من الجن، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض. قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أن الطاعون من وخز الجن. على أننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الأطباء، أو إضافة شيء إليه مما لا دليل في العلم عليه لأجل تصحيح بعض الروايات الأحادية. فنحمد الله تعالى أن القرآن أرفع من أن يعارضه العلم.
قال تعالى :﴿ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ أي ذلك الأكل للربا مسبب عن استحلالهم له وجعله كالبيع، وما هو كالبيع. فإن البيع معاوضة بين شيئين، وأما الربا الذي كانوا يأكلونه فهو زيادة عن دينهم يزيدونها عند تأخير الأجل لا يقابلها شيء، وما يؤخذ بغير مقابل فهو من الباطل. لذلك حرم الله الربا دون البيع فقال :﴿ وأحل الله البيع وحرم الربا ﴾ ولو كانا متساويين لما اختلف حكمهما عند احكم الحاكمين فكل ما فيه معاوضة صحيحة من أكل أموال الناس بالباطل الذي لا يقابله عوض فهي بيع حلال، وإنما تحرم الزيادة التي يأخذها صاحب المال لأجل التأخير في الأجل، وهي لا معاوضة فيها ولا مقابل لها فهي ظلم. وسيأتي في آية أخرى تعليل تحريم الربا بكونه ظلما. هذا ما يظهر لنا في معنى هذه العبارة. وترى مفسرينا قد بنوا كلامهم فيها على تسليم كون البيع مثل الربا ؛ إذ جعلوا تحريم الربا بمعنى الأمر التعبدي وقالوا إن معناه أن الله تعالى رد عليهم بأن أحل هذا وحرم هذا فيجب أن يطاع.
ويظهر من عبارة ابن جرير أن هذا القول الذي أسند إليه على ظاهره قال :" هذا الذي ذكرنا انه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء ما حل بهم من أجل أنهم كانوا في الدين يكذبون ويفترون ويقولون إنما البيع الذي أحله الله لعباده مثل الربا. وذلك أن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية كان إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق : زدني في الأجل وأزيدك في مالك. فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : هذا ربا لا يحل. فإذا قيل لهما ذلك قالا : سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال. فكذبهم الله تعالى في قيلهم وقال :﴿ وأحل الله البيع ﴾. ثم قال في تفسير هذا ما نصه : يعني جل ثناؤه : وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع وحرم الربا، يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل وتأخيره دينه عليه. يقول عز وجل : وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل سواء. وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين، وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، وأحللت الأخرى منهما وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها فيستفضل فضلها. فقال الله عز وجل ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا، لأني أحللت البيع وحرمت الربا والأمر أمري والخلق خلقي أقضي فيهم بما أشاء واستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي " اه.
أقول : أما ما قاله في بيان الفرق بين الزيادتين فهو الصواب وما ذكره في معنى الربا هو الذي كان معهودا عندهم، وهو ما يسميه الفقهاء ربا النسيئة كما تقدم. وأما قوله إنهم كان يقال لهم هذا ربا محرم وكانوا يجيبون بما حكى الله عنهم فليست الآية نصا فيه إذ الحكاية عن الأحوال بالأقوال من الأساليب المعروفة عند العرب، ويتوقف جعل القول على حقيقته على إثبات اعتقاد العرب بتحريم الربا أو على جعل الآية خاصة باليهود. فإن الربا محرم في شريعتهم وهم أشد الخلق مراباة. وكانوا يستحلون أكل أموال العرب بكل نوع من أنواع الباطل :﴿ ويقولون ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ [ آل عمران : ٧٥ ] وإنما حرم علينا أموال إخوتنا الإسرائيليين : ولا دليل على التخصيص، بل الآيات نزلت في وقائع لغيرهم كما سيأتي. ثم إن ما علل به كون إحدى الزيادتين ليست كالأخرى وهو أن الله تعالى حرمها يقال فيه : إنها ليست مثلها في الواقع ونفس الأمر كما بين هو، ولا في النفع والضر كما سنبين. ولذلك حرمها الله تعالى فما حرم الله تعالى شيئا إلا لأنه ضار في نفسه، ولا أحل شيئا إلا وهو نافع في نفسه.
ثم قال تعالى :﴿ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ﴾ تقدم الكلام في معنى الوعظ وكون أحكام القرآن مقرونة بالمواعظ في تفسير آية ٢٣٢. أي فمن بلغه تحريم الله تعالى للربا ونهيه فترك الربا فورا بلا تراخ ولا تردد، انتهاء عما نهى الله عنه فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا، لا يكلف رده إلى من اخذ منهم، بل يكتفي منه بأن لا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئا :﴿ وأمره إلى الله ﴾ يحكم فيه بعدله، ومن العدل أن لا يؤاخذ بما أكل قبل التحريم وبلوغه الموعظة من ربه، ولكن العبارة تشعر بأن إباحة أكل ما سلف، رخصة للضرورة، وتومىء إلى أن رد ما أخذه من قبل النهي إلى أربابه الذين أخذ منهم أفضل العزائم. ألم تر أنه عبر عن إباحة ما سلف باللام ولم يقل كما قال بعد ذكر كفارة صيد المحرم :﴿ عفا الله عما سلف ﴾ [ المائدة : ٩٥ ]، وأنه عقب هذه الإباحة بإيهام الجزاء وجعله إلى الله، والمعهود في أسلوبه أن يصل مثل ذلك بذكر المغفرة والرحمة، كما قال في آخر آية محرمات النساء :﴿ وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ﴾ [ النساء : ٢٣ ]. أباح ما سلف قبل التحريم وأبهم جزاء آكله، لعله يغض بأكل ما في يده منه فيرده إلى صاحبه، ولكنه صرح بأشد الوعيد على من أكل شيئا بعد النهي فقال :﴿ ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ أي ومن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم، الذي لا ينهاهم إلا عما يضر بهم في أفرادهم أو جميعهم، هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه فيكونون خالدين فيها.
وقد أول الخلود المفسرون لتتفق الآية مع المقرر في العقائد والفقه، ومن كون المعاصي لا توجب الخلود في النار. فقال أكثرهم إن المراد : ومن عاد إلى تحليل الربا واستباحته اعتقادا. ورده بعضهم بأن الكلام في أكل الربا وما ذكر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم فيه قبل التحريم، فهو ليس بمعنى استباحة المحرم، فإذا كان الوعيد قاصرا على الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل. والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء. يجب إرجاع كل قول في الدين إليه، ولا يجوز تأويل شيء منه ليوافق كلام الناس. وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قتل العمد، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال. ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار، انتصارا لأصحابه الأشاعرة.
وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم للخلود بطول المكث.
نزلت هذه الآيات في تحريم الربا الذي كان معروفا في الجاهلية يأتيه اليهود والمشركون. وهي من آخر القرآن نزولا كما سيأتي. وذكرت في النظم بعد آيات الصدقة التي كان آخرها آية الكاملين في السخاء والجود الذين ينفقون في عامة الأوقات والأحوال، لما بينها في التناسب والتضاد. فالمتصدق يعطي المال بغير عوض يقابله والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله. وإننا نذكر تفسير الآيات ثم نفيض الكلام في مسألة الربا وحكمة تحريمه. لأن لهذه المسألة شأنا كبيرا في حياة الأمم السياسية والاجتماعية في هذا العصر ويزعم بعض المتفرنجين من المسلمين أن تحريم الربا هو العقبة الكؤود في طريق مجاراة المسلمين للأمم الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة.
ثم بين الله تعالى الفرق بين الربا والصدقة، إذ جاء الكلام عنه بعد الكلام عنها ببيان أثرهما فقال :
﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾ فسروا محق الله الربا بإذهاب بركته وإهلاك المال الذي يدخل فيه. وقد اشتهر هذا حتى عرفه العامة. فهم يذكرون دائما ما يحفظون من أخبار آكلي الربا الذين ذهبت أموالهم وخربت بيوتهم. وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجة والحاكم وأخرجه ابن جرير في التفسير " إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل " ١ وقال الضحاك إن هذا المحق في الآخرة، بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه، فلا يبقى لأهله منه شيء.
وقال الأستاذ الإمام : ليس المراد بهذا المحق محق الزيادة في المال فإن هذا مكابرة للمشاهدة والأخبار، وإنما المراد ما يلاقي المرابي من عداوة الناس وما يصاب به في نفسه من الوساوس وغيرها. أما عداوة الناس فمن حيث هو عدو المحتاجين وبغيض المعوزين، وقد تفضي العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضرات، واعتداء على الأموال والأنفس والثمرات، وقد ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا إذ قام الفقراء فيها يعادون الأغنياء ويتألب العمال عليهم حتى صارت هذه المسألة أعقد المسائل عندهم. وأما ما يصاب به في نفسه من الوساوس والأوهام فهو لا يعرفه إلا من راقب هؤلاء العابدين للمال وبلا أخبارهم. ولا أذكر عنه مثالا على ذلك وما الأمثال فيه بقليلة. فمنهم من يشغله المال عن طعامه وشرابه وعن أهله وولده حتى يقصر في حق نفسه وحقوقهم تقصيرا يفضي إلى الخسر أو المهانة والذل، ومنهم من يركب لذلك الصعب ويقتحم الخطر حتى يكون من الهالكين.
وأقول : المحق في اللغة محو الشيء والذهاب به كمحاق القمر وكل ما لا يحسن المرء عمله محقه كما في الأساس، فلعل المراد بمحق الربا ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة وزيادة الربا تذهب بذلك لاشتغال المرابي غالبا عن اللذة وخفض المعيشة بولهه في ماله ولمقت الناس إياه وكراهتهم له كما علم مما تقدم فهو لم يحسن التصرف في التوصل إلى ثمرة المال. وأما إرباء الصدقات فهو زيادة فائدتها وثمرتها في الدنيا وأجرها في الآخرة كما تقدم في تفسير آيات الصدقة ومضاعفة الله إياها " فمعنى " يمحق الله الربا ويربي الصدقات، أن سنته قضت في عابد المال الذي لا يرحم معوزا ولا ينظر معسرا إلا بمال يأخذه ربا بدون مقابل، أن يكون محروما من الثمرة الشريفة للثروة وهي كون صاحبها ناعما عزيزا شريفا عند الناس، لكونه مصدرا لخيرهم والتفضل عليهم وإعانتهم على زمنهم، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال. فهو في عدم انتفاعه بماله هذا الضرب من الانتفاع كمن محق ماله وهلك. وقضت سنته في المتصدق أن يكون لانتفاعه بماله أكبر من ماله ( وقد تقدم شرح ذلك فلا نعيده ) وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم قال :" من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما بربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل " ٢ والحديث من باب التمثيل كما هو ظاهر.
قال تعالى :﴿ والله لا يحب كل كفار أثيم ﴾ قالوا لا يحب لا يرضى، والكفار المستحل للربا، والأثيم المقيم على الإثم. وأقول : إن حب الله للعبد شأن من شؤونه يعرف باستعمال العبد إتمام حكم الله في صلاح عباده ونفى هذا الحب يعرف بضد ذلك. والكفار هنا هو المتمادي على كفر انعام الله عليه بالمال إذ لا ينفق منه في سبيله ولا يواسي به المحتاجين من عباده. والأثيم هو الذي جعل المال آلة لجذب ما في أيدي الناس إلى يده فافترض إعسارهم، لاستغلال اضطرارهم.
فصل في حكمة تحريم الربا
قال الأستاذ الإمام في الدرس ما مثاله : يقول كثير من الناس الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية وأخذوا الشهادات من المدارس بل ومن هم أكبر من هؤلاء أن المسلمين منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب ومن كان غنيا منهم لا يعطى بالربا. فمال الفقير يذهب ومال الغني لا ينمو. ويجعلون هذه المسألة أهم المسائل الاجتماعية والعمرانية عند المسلمين يعنون أنه ما جنى على المسلمين إلا دينهم. قال : وهذه أوهام لم تقل عن اختبار فإن المسلمين في هذه الأيام لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة لما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم. فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدين فهل يقول المشتبهون إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدين ؟ ألم تسبقنا جميع الأمم إلى إتقان ذلك فلماذا لم نتقن سائر أعمال الكسب لنعوض منها على أنفسنا ما فاتنا من كسب الربا المحرم علينا، وديننا يدعونا إلى أن نسبق الأمم في إتقان كل شيء ؟
الحق أن المسلمين في الأغلب قد نبذوا الدين ظهريا فلم يبق عندهم منه إلا تقاليد وعادات أخذوها بالوراثة عن آبائهم ومعاشريهم فمن يدعي أن الدين عائق لهم عن الترقي فقد عكس القضية وأضاف إلى جهالاتهم جهالة شرا منها وإنما يجيء هذا من عدم البصيرة والتأمل في حال الأمة من بدايتها إلى ما انتهت إليه ولو عرفت الأمة نفسها لعرفت ماضيها كما تعرف حاضرها ولكن جهلها بنفسها وعدم قراءة ماضيها هو الذي أوقعها فيما هي فيه من البلاء العظيم فهي لا تدري من أين أخذت ولا كيف سقطت بعد ما ارتفعت.
أقول : يعني أنها ارتفعت بالدين وسقطت بتركه مع الجهل بالسبب وأفضى بها الجهل إلى أن صارت تجعل علة الرقي والارتفاع، هي عين العلة للسقوط والانحطاط، ومن ذلك استدانة أفرادنا وحكوماتنا من الأجانب بالربا فإنها أضاعت ثروتها وملكنا وكان الدين لو اتبعناه عاصما منها، فنحن ننسى مثل هذه الفائدة الكبرى للدين في الموضوع نفسه ونذكر من سيئات الدين أنه حرم الربا ولو لم يحرمه لجاز أن يكسب بعض أغنيائنا أكثر مما يكسبون الآن. وقد أشار الأستاذ إلى هذا المعنى فقال : إن أثر الربا فينا لا يمكننا أن نزيله بمئات من السنين ولو أننا حافظنا على أمر الدين فيه لكنا بقينا لأنفسنا : فتأمل قوله : بقينا لأنفسنا.
وقال في تفسير ﴿ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ الخ ما مثاله : مسألة الربا مسألة كبيرة اتفقت فيها الأديان ولكن اختلفت فيها الأمم، فاليهود كانوا يرابون مع غيرهم والنصارى يرابي بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس وقد كان المسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة زمنا طويلا ثم قلدوا غيرهم، ومنذ نصف قرن فشت المراباة بينهم في أكثر الأقطار وكانوا قبل ذلك يأكلون الربا بالحيلة التي يسمونها شرعية وقد أباحها بعض الفقهاء في استثمار مال اليتيم وطالب العلم المنقطع، ومنها مسألة السبحة المشهورة وهي أن يتفق الدائن مع المدين على أن يعطيه مئة إلى سنة بمئة وعشرة مثلا فيعطيه المئة نقدا ويبيعه سبحة بعشرة في الذمة فيشتريها ثم يهديها إليه.
على أن الذين يأكلون الربا من المسلمين لا يزالون قليلين جدا ولكن الذين يؤكلونه غيرهم كثيرون جدا حتى لا تكاد تجد متمولا في هذه البلاد سالما من الاستدانة بالربا إلا قليلا والسبب في ذلك تقليد حكامهم في هذه السنة بل كثيرا ما كان حكام هذه البلاد يلزمون الرعية بها إلزاما لأداء ما يفرضونه عليهم من الضرائب والمصادرات. ومن هنا نرى أن الأديان لم يمكنها أن تقاوم ميل جماهير الناس إلى أكل الربا حتى كأنه ضرورة يضطرون إليها. ومن حجتهم عليها أن البيع مثل الربا فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما نسيئة يجوز له أن يعطي المحتاج العشرة دراهم على أن يرد إليه بعد سنة عشرين درهما لأن السبب في كل من الزيادتين الأجل. هكذا يحتج الناس في أنفسهم كما تحتج الحكومات بأنها لو لم تأخذ المال بالربا لاضطرت إلى تعطيل مصالحها أو خراب أرضها.
والله تعالى قد أجاب عن دعوى مماثلة البيع للربا بجواب ليس على طريقة أجوبة الخطباء المؤثرين ولا على طريقة أقيسة الفلاسفة والمنطقيين، ولكنه على سنة هداية الدين وهو أن الله أحل البيع وحرم الربا. وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب من قبيل إبطال القياس بالنص، أي إنكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن لذلك القول إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآيات إلا به ولا ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه وتطبيقها على آرائهم ومذاهبهم فيه. والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله، ولكن ههنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف وأن يكون كل منهم عونا للآخر لاسيما عند شدة الحاجة إليه ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم، وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواحد مال الفقير الفاقد. فهذا وجه للتباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس.
وهناك وجه آخر وهو أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقا على آخر بغير عمل لأنه باطل لا مقابل له وبهذه السنة أحل البيع لأن فيه عوضا يقابل عوضا وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها. والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه. ذلك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقيا لأن من يشتري قمحا مثلا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعا حقيقيا ( وأقول والثمن في هذا المقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما ) وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل ( أقول وهي لا تعطى بالرضى والاختيار بل بالكره والاضطرار ).
وثم وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزانا لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم. فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودا بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال، فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء. ولو وقف الناس في استغلال المال عند حد الضرورة لما كان فيه مثل هذه المضرات. ولكن أهواء الناس ليس لها حد تقف عنده بنفسها ( أي فلا بد لها من الوازع الذي يوقفها بالإقناع أو الإلزام ) لذلك حرم الله الربا وهو لا يشرع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين، ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة.
وأما واضعو القوانين فإنهم يضعون للناس الأحكام بحسب حالهم الحاضرة التي يرونها موافقة لما يسمونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ولا في أثرها في تربية الفضائل والبعد عن الرذائل وإننا نرى البلاد التي أحلت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين وقل فيها التعاطف والتراحم، وحلت القسوة محل الرحمة حتى أن الفقير فيها يموت جوعا لا يجد عليه بما يسد رمقه فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال واعتصامهم المرة بعد المرة لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع، لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره بل يعطونهم أقل مما يستحقونه، وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلابا كبيرا في العالم ولذلك قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي شر هذه المسألة وقد صرح كثير منهم بأنه لا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين. وقد ألف تولستوي الفيلسوف الروسي كتابا سماه ( ما العمل ؟ ) وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ وقد قال في آخره : أن أوروبا نجحت في تحرير الناس من الرق ولكنها غفلت عن رفع نير الدينار ( الجنيه ) عن أعناق الناس الذين ربما استعبدهم المال يوما ما.
قال الأستاذ رحمه الله تعالى : وهذه بلادنا قد ضعف فيها التعاطف والتراحم وقل الإسعاد والتعاون منذ فشا فيها الربا وإنني لأعي وأدرك ما مر بي منذ أربعين سنة. كنت أرى الرجل يطلب من الآخر قرضا فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ويعطيه ما طلب بعد أن يستوثق منه باليمين إنه لا يحدث الناس بأنه اقترض منه لأنه يستحي أن يكون في نظرهم متفضلا عليه قال : رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعددة ورأيت من وفاء من يقترض أنه يغني المقرض عن المطالبة بله المحاكمة. ثم بعد خمس وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده قرضا طلبه إلا بسند وشهود. فسألته أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل، وتقسم عليهم أو تحلفهم أن لا يذكروا ذلك ؟ قال : نعم. قلت فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلا بسند وشهود وما علمت عليه من سوء ؟ قال : لا أعرف سبب ذلك إلا أنني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي. قلت : وقد أخبرني أن هذا الذي سأل منه عن ذلك هو والده رحمهما الله تعالى.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في حكمه تحريم الربا وما قاله في مضرة استغلال النقد مأخوذ من كلام للإمام الغزالي ومطبق على حال العصر. وإنني أورد عبارة الغزالي فيه من كتاب الشكر من الإحياء لما فيها من الحسن والفوائد قال رحمه الله تعالى :
" من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغني عنه ويحتاج على الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطي منه في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلا يدري أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأ
٢ أخرجه البخاري في الزكاة باب ٨، والتوحيد باب٢٣، ومسلم في الزكاة حديث ٦٣، ٦٤، والترمذي في الزكاة باب ٢٨، والنسائي في الزكاة با ٤٨، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٨، والدرامي في الزكاة باب ٣٥، ومالك في الصدقة حديث ١، وأحمد في المسند ٢/٢٦٨، ٣٣١، ٣٨٢، ٤٠٤، ٤١٨، ٤١٩، ٤٣١، ٤٧١، ٥٣٨، ٥٤١، ٦/٦٥١..
نزلت هذه الآيات في تحريم الربا الذي كان معروفا في الجاهلية يأتيه اليهود والمشركون. وهي من آخر القرآن نزولا كما سيأتي. وذكرت في النظم بعد آيات الصدقة التي كان آخرها آية الكاملين في السخاء والجود الذين ينفقون في عامة الأوقات والأحوال، لما بينها في التناسب والتضاد. فالمتصدق يعطي المال بغير عوض يقابله والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله. وإننا نذكر تفسير الآيات ثم نفيض الكلام في مسألة الربا وحكمة تحريمه. لأن لهذه المسألة شأنا كبيرا في حياة الأمم السياسية والاجتماعية في هذا العصر ويزعم بعض المتفرنجين من المسلمين أن تحريم الربا هو العقبة الكؤود في طريق مجاراة المسلمين للأمم الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة.
ثم قال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا ﴾ أي صدقوا تصديق إذعان بما جاء من عند الله في هذه المسألة كغيرها ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ أي الأعمال التي تصلح بها نفوسهم وشأن من يعيش معهم، ومنها مواساة المحتاجين، والرحمة بالبائسين، وإنظار المعسرين، ومن سنة القرآن أن يقرن الإيمان بالعمل الصالح في مقام الوعد لأن الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان يتبعه العمل الصالح حتما لا يتخلف عنه وهذا برهان على ما قلناه في تفسير الآية السابقة ﴿ وأقاموا الصلوات ﴾ التي تذكر المؤمن بالله تعالى فتزيد في إيمانه وحبه لربه ومراقبته له حتى تسهل عليه طاعته في كل شيء ﴿ وآتوا الزكاة ﴾ التي تزكي النفس من رذيلة البخل والحرص وتمرنها على أعمال البر حتى تسهل عليها ويكون ترك أكل أموال الناس بالربا أسهل. وذكر الصلاة والزكاة بعد الأعمال الصالحة التي تشملهما لأنهما أعظم أركان العبادة النفسية والمالية، فمن أتى بهما كاملتين سهل عليه كل عمل صالح ﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ تقدم نظير هذا الجزاء قريبا فلا حاجة لإعادة التذكير بمعناه. وجملة الآية تعريض بآكل الربا كأنه يقول لو كان من هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات الخ، لكف عنه، ولكنه كفار أثيم وتمهيد لما بعدها وهو.
فصل في حكمة تحريم الربا
قال الأستاذ الإمام في الدرس ما مثاله : يقول كثير من الناس الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية وأخذوا الشهادات من المدارس بل ومن هم أكبر من هؤلاء أن المسلمين منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب ومن كان غنيا منهم لا يعطى بالربا. فمال الفقير يذهب ومال الغني لا ينمو. ويجعلون هذه المسألة أهم المسائل الاجتماعية والعمرانية عند المسلمين يعنون أنه ما جنى على المسلمين إلا دينهم. قال : وهذه أوهام لم تقل عن اختبار فإن المسلمين في هذه الأيام لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة لما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم. فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدين فهل يقول المشتبهون إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدين ؟ ألم تسبقنا جميع الأمم إلى إتقان ذلك فلماذا لم نتقن سائر أعمال الكسب لنعوض منها على أنفسنا ما فاتنا من كسب الربا المحرم علينا، وديننا يدعونا إلى أن نسبق الأمم في إتقان كل شيء ؟
الحق أن المسلمين في الأغلب قد نبذوا الدين ظهريا فلم يبق عندهم منه إلا تقاليد وعادات أخذوها بالوراثة عن آبائهم ومعاشريهم فمن يدعي أن الدين عائق لهم عن الترقي فقد عكس القضية وأضاف إلى جهالاتهم جهالة شرا منها وإنما يجيء هذا من عدم البصيرة والتأمل في حال الأمة من بدايتها إلى ما انتهت إليه ولو عرفت الأمة نفسها لعرفت ماضيها كما تعرف حاضرها ولكن جهلها بنفسها وعدم قراءة ماضيها هو الذي أوقعها فيما هي فيه من البلاء العظيم فهي لا تدري من أين أخذت ولا كيف سقطت بعد ما ارتفعت.
أقول : يعني أنها ارتفعت بالدين وسقطت بتركه مع الجهل بالسبب وأفضى بها الجهل إلى أن صارت تجعل علة الرقي والارتفاع، هي عين العلة للسقوط والانحطاط، ومن ذلك استدانة أفرادنا وحكوماتنا من الأجانب بالربا فإنها أضاعت ثروتها وملكنا وكان الدين لو اتبعناه عاصما منها، فنحن ننسى مثل هذه الفائدة الكبرى للدين في الموضوع نفسه ونذكر من سيئات الدين أنه حرم الربا ولو لم يحرمه لجاز أن يكسب بعض أغنيائنا أكثر مما يكسبون الآن. وقد أشار الأستاذ إلى هذا المعنى فقال : إن أثر الربا فينا لا يمكننا أن نزيله بمئات من السنين ولو أننا حافظنا على أمر الدين فيه لكنا بقينا لأنفسنا : فتأمل قوله : بقينا لأنفسنا.
وقال في تفسير ﴿ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ الخ ما مثاله : مسألة الربا مسألة كبيرة اتفقت فيها الأديان ولكن اختلفت فيها الأمم، فاليهود كانوا يرابون مع غيرهم والنصارى يرابي بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس وقد كان المسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة زمنا طويلا ثم قلدوا غيرهم، ومنذ نصف قرن فشت المراباة بينهم في أكثر الأقطار وكانوا قبل ذلك يأكلون الربا بالحيلة التي يسمونها شرعية وقد أباحها بعض الفقهاء في استثمار مال اليتيم وطالب العلم المنقطع، ومنها مسألة السبحة المشهورة وهي أن يتفق الدائن مع المدين على أن يعطيه مئة إلى سنة بمئة وعشرة مثلا فيعطيه المئة نقدا ويبيعه سبحة بعشرة في الذمة فيشتريها ثم يهديها إليه.
على أن الذين يأكلون الربا من المسلمين لا يزالون قليلين جدا ولكن الذين يؤكلونه غيرهم كثيرون جدا حتى لا تكاد تجد متمولا في هذه البلاد سالما من الاستدانة بالربا إلا قليلا والسبب في ذلك تقليد حكامهم في هذه السنة بل كثيرا ما كان حكام هذه البلاد يلزمون الرعية بها إلزاما لأداء ما يفرضونه عليهم من الضرائب والمصادرات. ومن هنا نرى أن الأديان لم يمكنها أن تقاوم ميل جماهير الناس إلى أكل الربا حتى كأنه ضرورة يضطرون إليها. ومن حجتهم عليها أن البيع مثل الربا فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما نسيئة يجوز له أن يعطي المحتاج العشرة دراهم على أن يرد إليه بعد سنة عشرين درهما لأن السبب في كل من الزيادتين الأجل. هكذا يحتج الناس في أنفسهم كما تحتج الحكومات بأنها لو لم تأخذ المال بالربا لاضطرت إلى تعطيل مصالحها أو خراب أرضها.
والله تعالى قد أجاب عن دعوى مماثلة البيع للربا بجواب ليس على طريقة أجوبة الخطباء المؤثرين ولا على طريقة أقيسة الفلاسفة والمنطقيين، ولكنه على سنة هداية الدين وهو أن الله أحل البيع وحرم الربا. وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب من قبيل إبطال القياس بالنص، أي إنكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن لذلك القول إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآيات إلا به ولا ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه وتطبيقها على آرائهم ومذاهبهم فيه. والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله، ولكن ههنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف وأن يكون كل منهم عونا للآخر لاسيما عند شدة الحاجة إليه ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم، وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواحد مال الفقير الفاقد. فهذا وجه للتباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس.
وهناك وجه آخر وهو أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقا على آخر بغير عمل لأنه باطل لا مقابل له وبهذه السنة أحل البيع لأن فيه عوضا يقابل عوضا وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها. والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه. ذلك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقيا لأن من يشتري قمحا مثلا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعا حقيقيا ( وأقول والثمن في هذا المقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما ) وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل ( أقول وهي لا تعطى بالرضى والاختيار بل بالكره والاضطرار ).
وثم وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزانا لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم. فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودا بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال، فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء. ولو وقف الناس في استغلال المال عند حد الضرورة لما كان فيه مثل هذه المضرات. ولكن أهواء الناس ليس لها حد تقف عنده بنفسها ( أي فلا بد لها من الوازع الذي يوقفها بالإقناع أو الإلزام ) لذلك حرم الله الربا وهو لا يشرع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين، ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة.
وأما واضعو القوانين فإنهم يضعون للناس الأحكام بحسب حالهم الحاضرة التي يرونها موافقة لما يسمونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ولا في أثرها في تربية الفضائل والبعد عن الرذائل وإننا نرى البلاد التي أحلت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين وقل فيها التعاطف والتراحم، وحلت القسوة محل الرحمة حتى أن الفقير فيها يموت جوعا لا يجد عليه بما يسد رمقه فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال واعتصامهم المرة بعد المرة لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع، لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره بل يعطونهم أقل مما يستحقونه، وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلابا كبيرا في العالم ولذلك قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي شر هذه المسألة وقد صرح كثير منهم بأنه لا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين. وقد ألف تولستوي الفيلسوف الروسي كتابا سماه ( ما العمل ؟ ) وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ وقد قال في آخره : أن أوروبا نجحت في تحرير الناس من الرق ولكنها غفلت عن رفع نير الدينار ( الجنيه ) عن أعناق الناس الذين ربما استعبدهم المال يوما ما.
قال الأستاذ رحمه الله تعالى : وهذه بلادنا قد ضعف فيها التعاطف والتراحم وقل الإسعاد والتعاون منذ فشا فيها الربا وإنني لأعي وأدرك ما مر بي منذ أربعين سنة. كنت أرى الرجل يطلب من الآخر قرضا فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ويعطيه ما طلب بعد أن يستوثق منه باليمين إنه لا يحدث الناس بأنه اقترض منه لأنه يستحي أن يكون في نظرهم متفضلا عليه قال : رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعددة ورأيت من وفاء من يقترض أنه يغني المقرض عن المطالبة بله المحاكمة. ثم بعد خمس وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده قرضا طلبه إلا بسند وشهود. فسألته أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل، وتقسم عليهم أو تحلفهم أن لا يذكروا ذلك ؟ قال : نعم. قلت فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلا بسند وشهود وما علمت عليه من سوء ؟ قال : لا أعرف سبب ذلك إلا أنني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي. قلت : وقد أخبرني أن هذا الذي سأل منه عن ذلك هو والده رحمهما الله تعالى.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في حكمه تحريم الربا وما قاله في مضرة استغلال النقد مأخوذ من كلام للإمام الغزالي ومطبق على حال العصر. وإنني أورد عبارة الغزالي فيه من كتاب الشكر من الإحياء لما فيها من الحسن والفوائد قال رحمه الله تعالى :
" من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغني عنه ويحتاج على الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطي منه في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلا يدري أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأ
نزلت هذه الآيات في تحريم الربا الذي كان معروفا في الجاهلية يأتيه اليهود والمشركون. وهي من آخر القرآن نزولا كما سيأتي. وذكرت في النظم بعد آيات الصدقة التي كان آخرها آية الكاملين في السخاء والجود الذين ينفقون في عامة الأوقات والأحوال، لما بينها في التناسب والتضاد. فالمتصدق يعطي المال بغير عوض يقابله والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله. وإننا نذكر تفسير الآيات ثم نفيض الكلام في مسألة الربا وحكمة تحريمه. لأن لهذه المسألة شأنا كبيرا في حياة الأمم السياسية والاجتماعية في هذا العصر ويزعم بعض المتفرنجين من المسلمين أن تحريم الربا هو العقبة الكؤود في طريق مجاراة المسلمين للأمم الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ﴾. وصفهم بالإيمان وذكرهم بالتقوى ثم انتقل إلى الأمر بترك ما بقي من الربا لمن كانوا يرابون منهم عند غرمائهم ثم وصل ذلك بقوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ قال الأستاذ الإمام : أي إن كان إيمانكم تاما شاملا لجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الأحكام فذروا بقايا الربا. وقد عهد في الأسلوب العربي أن يقال : إن كنت متصفا بهذا الشيء فافعل كذا : ويذكر أمرا من شأنه أن يكون أثرا لذلك الوصف. أقول : ويؤخذ من هذا أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد نهي الله تعالى عنه وتوعده عليه فلا يعد من أهل هذا الإيمان التام الشامل، الذي له السلطان الأعلى على إرادة العامل، وهذا يؤيد ما قلناه في مسألة خلود من عاد إلى الربا بعد تحريمه في النار. ومن الناس من يؤمن ببعض الكتاب إيمانا يبعث على العمل ويكفر ببعض فلا يذعن له ويعمل به، فهو يجحده بفعله وإن أقر به بلسانه، ولا يعتد الله بإيمانه إلا إذا صدق قلبه وعمله لسانه " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ١.
فصل في حكمة تحريم الربا
قال الأستاذ الإمام في الدرس ما مثاله : يقول كثير من الناس الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية وأخذوا الشهادات من المدارس بل ومن هم أكبر من هؤلاء أن المسلمين منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب ومن كان غنيا منهم لا يعطى بالربا. فمال الفقير يذهب ومال الغني لا ينمو. ويجعلون هذه المسألة أهم المسائل الاجتماعية والعمرانية عند المسلمين يعنون أنه ما جنى على المسلمين إلا دينهم. قال : وهذه أوهام لم تقل عن اختبار فإن المسلمين في هذه الأيام لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة لما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم. فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدين فهل يقول المشتبهون إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدين ؟ ألم تسبقنا جميع الأمم إلى إتقان ذلك فلماذا لم نتقن سائر أعمال الكسب لنعوض منها على أنفسنا ما فاتنا من كسب الربا المحرم علينا، وديننا يدعونا إلى أن نسبق الأمم في إتقان كل شيء ؟
الحق أن المسلمين في الأغلب قد نبذوا الدين ظهريا فلم يبق عندهم منه إلا تقاليد وعادات أخذوها بالوراثة عن آبائهم ومعاشريهم فمن يدعي أن الدين عائق لهم عن الترقي فقد عكس القضية وأضاف إلى جهالاتهم جهالة شرا منها وإنما يجيء هذا من عدم البصيرة والتأمل في حال الأمة من بدايتها إلى ما انتهت إليه ولو عرفت الأمة نفسها لعرفت ماضيها كما تعرف حاضرها ولكن جهلها بنفسها وعدم قراءة ماضيها هو الذي أوقعها فيما هي فيه من البلاء العظيم فهي لا تدري من أين أخذت ولا كيف سقطت بعد ما ارتفعت.
أقول : يعني أنها ارتفعت بالدين وسقطت بتركه مع الجهل بالسبب وأفضى بها الجهل إلى أن صارت تجعل علة الرقي والارتفاع، هي عين العلة للسقوط والانحطاط، ومن ذلك استدانة أفرادنا وحكوماتنا من الأجانب بالربا فإنها أضاعت ثروتها وملكنا وكان الدين لو اتبعناه عاصما منها، فنحن ننسى مثل هذه الفائدة الكبرى للدين في الموضوع نفسه ونذكر من سيئات الدين أنه حرم الربا ولو لم يحرمه لجاز أن يكسب بعض أغنيائنا أكثر مما يكسبون الآن. وقد أشار الأستاذ إلى هذا المعنى فقال : إن أثر الربا فينا لا يمكننا أن نزيله بمئات من السنين ولو أننا حافظنا على أمر الدين فيه لكنا بقينا لأنفسنا : فتأمل قوله : بقينا لأنفسنا.
وقال في تفسير ﴿ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ الخ ما مثاله : مسألة الربا مسألة كبيرة اتفقت فيها الأديان ولكن اختلفت فيها الأمم، فاليهود كانوا يرابون مع غيرهم والنصارى يرابي بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس وقد كان المسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة زمنا طويلا ثم قلدوا غيرهم، ومنذ نصف قرن فشت المراباة بينهم في أكثر الأقطار وكانوا قبل ذلك يأكلون الربا بالحيلة التي يسمونها شرعية وقد أباحها بعض الفقهاء في استثمار مال اليتيم وطالب العلم المنقطع، ومنها مسألة السبحة المشهورة وهي أن يتفق الدائن مع المدين على أن يعطيه مئة إلى سنة بمئة وعشرة مثلا فيعطيه المئة نقدا ويبيعه سبحة بعشرة في الذمة فيشتريها ثم يهديها إليه.
على أن الذين يأكلون الربا من المسلمين لا يزالون قليلين جدا ولكن الذين يؤكلونه غيرهم كثيرون جدا حتى لا تكاد تجد متمولا في هذه البلاد سالما من الاستدانة بالربا إلا قليلا والسبب في ذلك تقليد حكامهم في هذه السنة بل كثيرا ما كان حكام هذه البلاد يلزمون الرعية بها إلزاما لأداء ما يفرضونه عليهم من الضرائب والمصادرات. ومن هنا نرى أن الأديان لم يمكنها أن تقاوم ميل جماهير الناس إلى أكل الربا حتى كأنه ضرورة يضطرون إليها. ومن حجتهم عليها أن البيع مثل الربا فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما نسيئة يجوز له أن يعطي المحتاج العشرة دراهم على أن يرد إليه بعد سنة عشرين درهما لأن السبب في كل من الزيادتين الأجل. هكذا يحتج الناس في أنفسهم كما تحتج الحكومات بأنها لو لم تأخذ المال بالربا لاضطرت إلى تعطيل مصالحها أو خراب أرضها.
والله تعالى قد أجاب عن دعوى مماثلة البيع للربا بجواب ليس على طريقة أجوبة الخطباء المؤثرين ولا على طريقة أقيسة الفلاسفة والمنطقيين، ولكنه على سنة هداية الدين وهو أن الله أحل البيع وحرم الربا. وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب من قبيل إبطال القياس بالنص، أي إنكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن لذلك القول إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآيات إلا به ولا ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه وتطبيقها على آرائهم ومذاهبهم فيه. والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله، ولكن ههنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف وأن يكون كل منهم عونا للآخر لاسيما عند شدة الحاجة إليه ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم، وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواحد مال الفقير الفاقد. فهذا وجه للتباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس.
وهناك وجه آخر وهو أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقا على آخر بغير عمل لأنه باطل لا مقابل له وبهذه السنة أحل البيع لأن فيه عوضا يقابل عوضا وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها. والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه. ذلك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقيا لأن من يشتري قمحا مثلا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعا حقيقيا ( وأقول والثمن في هذا المقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما ) وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل ( أقول وهي لا تعطى بالرضى والاختيار بل بالكره والاضطرار ).
وثم وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزانا لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم. فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودا بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال، فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء. ولو وقف الناس في استغلال المال عند حد الضرورة لما كان فيه مثل هذه المضرات. ولكن أهواء الناس ليس لها حد تقف عنده بنفسها ( أي فلا بد لها من الوازع الذي يوقفها بالإقناع أو الإلزام ) لذلك حرم الله الربا وهو لا يشرع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين، ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة.
وأما واضعو القوانين فإنهم يضعون للناس الأحكام بحسب حالهم الحاضرة التي يرونها موافقة لما يسمونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ولا في أثرها في تربية الفضائل والبعد عن الرذائل وإننا نرى البلاد التي أحلت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين وقل فيها التعاطف والتراحم، وحلت القسوة محل الرحمة حتى أن الفقير فيها يموت جوعا لا يجد عليه بما يسد رمقه فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال واعتصامهم المرة بعد المرة لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع، لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره بل يعطونهم أقل مما يستحقونه، وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلابا كبيرا في العالم ولذلك قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي شر هذه المسألة وقد صرح كثير منهم بأنه لا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين. وقد ألف تولستوي الفيلسوف الروسي كتابا سماه ( ما العمل ؟ ) وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ وقد قال في آخره : أن أوروبا نجحت في تحرير الناس من الرق ولكنها غفلت عن رفع نير الدينار ( الجنيه ) عن أعناق الناس الذين ربما استعبدهم المال يوما ما.
قال الأستاذ رحمه الله تعالى : وهذه بلادنا قد ضعف فيها التعاطف والتراحم وقل الإسعاد والتعاون منذ فشا فيها الربا وإنني لأعي وأدرك ما مر بي منذ أربعين سنة. كنت أرى الرجل يطلب من الآخر قرضا فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ويعطيه ما طلب بعد أن يستوثق منه باليمين إنه لا يحدث الناس بأنه اقترض منه لأنه يستحي أن يكون في نظرهم متفضلا عليه قال : رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعددة ورأيت من وفاء من يقترض أنه يغني المقرض عن المطالبة بله المحاكمة. ثم بعد خمس وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده قرضا طلبه إلا بسند وشهود. فسألته أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل، وتقسم عليهم أو تحلفهم أن لا يذكروا ذلك ؟ قال : نعم. قلت فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلا بسند وشهود وما علمت عليه من سوء ؟ قال : لا أعرف سبب ذلك إلا أنني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي. قلت : وقد أخبرني أن هذا الذي سأل منه عن ذلك هو والده رحمهما الله تعالى.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في حكمه تحريم الربا وما قاله في مضرة استغلال النقد مأخوذ من كلام للإمام الغزالي ومطبق على حال العصر. وإنني أورد عبارة الغزالي فيه من كتاب الشكر من الإحياء لما فيها من الحسن والفوائد قال رحمه الله تعالى :
" من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغني عنه ويحتاج على الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطي منه في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلا يدري أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأ
نزلت هذه الآيات في تحريم الربا الذي كان معروفا في الجاهلية يأتيه اليهود والمشركون. وهي من آخر القرآن نزولا كما سيأتي. وذكرت في النظم بعد آيات الصدقة التي كان آخرها آية الكاملين في السخاء والجود الذين ينفقون في عامة الأوقات والأحوال، لما بينها في التناسب والتضاد. فالمتصدق يعطي المال بغير عوض يقابله والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله. وإننا نذكر تفسير الآيات ثم نفيض الكلام في مسألة الربا وحكمة تحريمه. لأن لهذه المسألة شأنا كبيرا في حياة الأمم السياسية والاجتماعية في هذا العصر ويزعم بعض المتفرنجين من المسلمين أن تحريم الربا هو العقبة الكؤود في طريق مجاراة المسلمين للأمم الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة.
﴿ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾ أي فإن لم تتركوا ما بقي من الربا كما أمرتم فافعلوا واستيقنوا بأنكم على حرب من الله ورسوله إذ نبذتم ما جاءكم به رسوله عنه.
فقوله : فأذنوا كقوله فاعلموا وزنا ومعنى وهي قراءة الجمهور، وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عياش ( فآذنوا ) بمد الألف من الإيذان بمعنى الإعلام أي فاعلموا أنفسكم أي ليعلم بعضكم بعضا أو المسلمين بأنكم محاربون لله ورسوله بالخروج عن الشريعة وعدم الخضوع للحكم. وهذا يستلزم أن يكونوا عالمين بذلك، كأنه يقول إن عدم الخضوع للأمر خروج عن الشريعة فهو إعلام للمسلمين بأنكم خارجون عن حكم الله ورسوله محاربون لهما. فسر الأستاذ الإمام حرب الله لهم ببغضه وانتقامه، قال : نحن إن لم نر أثر هذا في الماضين فإننا نراه في الحاضرين ممن أصبحوا بعد الغنى يتكففون ومن باتوا والمسألة الاجتماعية ( مناصبة العمال لأرباب الأموال ) تهددهم بالويل والثبور. وأما الحرب من رسوله لهم فهي مقاومتهم بالفعل في زمنه، واعتبارهم أعداء له في هذا الزمن الذي لا يخلفه فيه أحد يقيم شرعه ﴿ وإن تبتم ﴾ ورجعتم عن الربا امتثالا وخضوعا ﴿ فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ﴾ غرماءكم بأخذ الزيادة ﴿ ولا تظلمون ﴾ بنقص شيء من رأس المال بل تأخذونه كاملا.
روى ابن جرير عن السدي أن الآيتين نزلتا في العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية أسلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله ذروا ما بقي من فضل كان في الجاهلية من الربا. وأخرج عن ابن جريج قال كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع. فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد على مكة وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام. ورفعوا ذلك إلى العتاب بن أسيد فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال :" إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب ". وأخرج أبو يعلى في مسنده وابن منده من طريق الكلبي عن ابن صالح عن ابن العباس نحوه.
وفي الآية أن الربا حرم لأنه ظلم ولكن بعض ما يعده الفقهاء منه لا ظلم فيه بل ربما كان فيه فائدة للآخذ والمعطي.
فصل في حكمة تحريم الربا
قال الأستاذ الإمام في الدرس ما مثاله : يقول كثير من الناس الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية وأخذوا الشهادات من المدارس بل ومن هم أكبر من هؤلاء أن المسلمين منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب ومن كان غنيا منهم لا يعطى بالربا. فمال الفقير يذهب ومال الغني لا ينمو. ويجعلون هذه المسألة أهم المسائل الاجتماعية والعمرانية عند المسلمين يعنون أنه ما جنى على المسلمين إلا دينهم. قال : وهذه أوهام لم تقل عن اختبار فإن المسلمين في هذه الأيام لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة لما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم. فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدين فهل يقول المشتبهون إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدين ؟ ألم تسبقنا جميع الأمم إلى إتقان ذلك فلماذا لم نتقن سائر أعمال الكسب لنعوض منها على أنفسنا ما فاتنا من كسب الربا المحرم علينا، وديننا يدعونا إلى أن نسبق الأمم في إتقان كل شيء ؟
الحق أن المسلمين في الأغلب قد نبذوا الدين ظهريا فلم يبق عندهم منه إلا تقاليد وعادات أخذوها بالوراثة عن آبائهم ومعاشريهم فمن يدعي أن الدين عائق لهم عن الترقي فقد عكس القضية وأضاف إلى جهالاتهم جهالة شرا منها وإنما يجيء هذا من عدم البصيرة والتأمل في حال الأمة من بدايتها إلى ما انتهت إليه ولو عرفت الأمة نفسها لعرفت ماضيها كما تعرف حاضرها ولكن جهلها بنفسها وعدم قراءة ماضيها هو الذي أوقعها فيما هي فيه من البلاء العظيم فهي لا تدري من أين أخذت ولا كيف سقطت بعد ما ارتفعت.
أقول : يعني أنها ارتفعت بالدين وسقطت بتركه مع الجهل بالسبب وأفضى بها الجهل إلى أن صارت تجعل علة الرقي والارتفاع، هي عين العلة للسقوط والانحطاط، ومن ذلك استدانة أفرادنا وحكوماتنا من الأجانب بالربا فإنها أضاعت ثروتها وملكنا وكان الدين لو اتبعناه عاصما منها، فنحن ننسى مثل هذه الفائدة الكبرى للدين في الموضوع نفسه ونذكر من سيئات الدين أنه حرم الربا ولو لم يحرمه لجاز أن يكسب بعض أغنيائنا أكثر مما يكسبون الآن. وقد أشار الأستاذ إلى هذا المعنى فقال : إن أثر الربا فينا لا يمكننا أن نزيله بمئات من السنين ولو أننا حافظنا على أمر الدين فيه لكنا بقينا لأنفسنا : فتأمل قوله : بقينا لأنفسنا.
وقال في تفسير ﴿ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ الخ ما مثاله : مسألة الربا مسألة كبيرة اتفقت فيها الأديان ولكن اختلفت فيها الأمم، فاليهود كانوا يرابون مع غيرهم والنصارى يرابي بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس وقد كان المسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة زمنا طويلا ثم قلدوا غيرهم، ومنذ نصف قرن فشت المراباة بينهم في أكثر الأقطار وكانوا قبل ذلك يأكلون الربا بالحيلة التي يسمونها شرعية وقد أباحها بعض الفقهاء في استثمار مال اليتيم وطالب العلم المنقطع، ومنها مسألة السبحة المشهورة وهي أن يتفق الدائن مع المدين على أن يعطيه مئة إلى سنة بمئة وعشرة مثلا فيعطيه المئة نقدا ويبيعه سبحة بعشرة في الذمة فيشتريها ثم يهديها إليه.
على أن الذين يأكلون الربا من المسلمين لا يزالون قليلين جدا ولكن الذين يؤكلونه غيرهم كثيرون جدا حتى لا تكاد تجد متمولا في هذه البلاد سالما من الاستدانة بالربا إلا قليلا والسبب في ذلك تقليد حكامهم في هذه السنة بل كثيرا ما كان حكام هذه البلاد يلزمون الرعية بها إلزاما لأداء ما يفرضونه عليهم من الضرائب والمصادرات. ومن هنا نرى أن الأديان لم يمكنها أن تقاوم ميل جماهير الناس إلى أكل الربا حتى كأنه ضرورة يضطرون إليها. ومن حجتهم عليها أن البيع مثل الربا فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما نسيئة يجوز له أن يعطي المحتاج العشرة دراهم على أن يرد إليه بعد سنة عشرين درهما لأن السبب في كل من الزيادتين الأجل. هكذا يحتج الناس في أنفسهم كما تحتج الحكومات بأنها لو لم تأخذ المال بالربا لاضطرت إلى تعطيل مصالحها أو خراب أرضها.
والله تعالى قد أجاب عن دعوى مماثلة البيع للربا بجواب ليس على طريقة أجوبة الخطباء المؤثرين ولا على طريقة أقيسة الفلاسفة والمنطقيين، ولكنه على سنة هداية الدين وهو أن الله أحل البيع وحرم الربا. وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب من قبيل إبطال القياس بالنص، أي إنكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن لذلك القول إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآيات إلا به ولا ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه وتطبيقها على آرائهم ومذاهبهم فيه. والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله، ولكن ههنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف وأن يكون كل منهم عونا للآخر لاسيما عند شدة الحاجة إليه ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم، وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواحد مال الفقير الفاقد. فهذا وجه للتباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس.
وهناك وجه آخر وهو أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقا على آخر بغير عمل لأنه باطل لا مقابل له وبهذه السنة أحل البيع لأن فيه عوضا يقابل عوضا وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها. والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه. ذلك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقيا لأن من يشتري قمحا مثلا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعا حقيقيا ( وأقول والثمن في هذا المقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما ) وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل ( أقول وهي لا تعطى بالرضى والاختيار بل بالكره والاضطرار ).
وثم وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزانا لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم. فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودا بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال، فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء. ولو وقف الناس في استغلال المال عند حد الضرورة لما كان فيه مثل هذه المضرات. ولكن أهواء الناس ليس لها حد تقف عنده بنفسها ( أي فلا بد لها من الوازع الذي يوقفها بالإقناع أو الإلزام ) لذلك حرم الله الربا وهو لا يشرع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين، ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة.
وأما واضعو القوانين فإنهم يضعون للناس الأحكام بحسب حالهم الحاضرة التي يرونها موافقة لما يسمونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ولا في أثرها في تربية الفضائل والبعد عن الرذائل وإننا نرى البلاد التي أحلت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين وقل فيها التعاطف والتراحم، وحلت القسوة محل الرحمة حتى أن الفقير فيها يموت جوعا لا يجد عليه بما يسد رمقه فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال واعتصامهم المرة بعد المرة لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع، لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره بل يعطونهم أقل مما يستحقونه، وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلابا كبيرا في العالم ولذلك قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي شر هذه المسألة وقد صرح كثير منهم بأنه لا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين. وقد ألف تولستوي الفيلسوف الروسي كتابا سماه ( ما العمل ؟ ) وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ وقد قال في آخره : أن أوروبا نجحت في تحرير الناس من الرق ولكنها غفلت عن رفع نير الدينار ( الجنيه ) عن أعناق الناس الذين ربما استعبدهم المال يوما ما.
قال الأستاذ رحمه الله تعالى : وهذه بلادنا قد ضعف فيها التعاطف والتراحم وقل الإسعاد والتعاون منذ فشا فيها الربا وإنني لأعي وأدرك ما مر بي منذ أربعين سنة. كنت أرى الرجل يطلب من الآخر قرضا فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ويعطيه ما طلب بعد أن يستوثق منه باليمين إنه لا يحدث الناس بأنه اقترض منه لأنه يستحي أن يكون في نظرهم متفضلا عليه قال : رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعددة ورأيت من وفاء من يقترض أنه يغني المقرض عن المطالبة بله المحاكمة. ثم بعد خمس وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده قرضا طلبه إلا بسند وشهود. فسألته أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل، وتقسم عليهم أو تحلفهم أن لا يذكروا ذلك ؟ قال : نعم. قلت فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلا بسند وشهود وما علمت عليه من سوء ؟ قال : لا أعرف سبب ذلك إلا أنني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي. قلت : وقد أخبرني أن هذا الذي سأل منه عن ذلك هو والده رحمهما الله تعالى.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في حكمه تحريم الربا وما قاله في مضرة استغلال النقد مأخوذ من كلام للإمام الغزالي ومطبق على حال العصر. وإنني أورد عبارة الغزالي فيه من كتاب الشكر من الإحياء لما فيها من الحسن والفوائد قال رحمه الله تعالى :
" من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغني عنه ويحتاج على الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطي منه في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلا يدري أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأ
نزلت هذه الآيات في تحريم الربا الذي كان معروفا في الجاهلية يأتيه اليهود والمشركون. وهي من آخر القرآن نزولا كما سيأتي. وذكرت في النظم بعد آيات الصدقة التي كان آخرها آية الكاملين في السخاء والجود الذين ينفقون في عامة الأوقات والأحوال، لما بينها في التناسب والتضاد. فالمتصدق يعطي المال بغير عوض يقابله والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله. وإننا نذكر تفسير الآيات ثم نفيض الكلام في مسألة الربا وحكمة تحريمه. لأن لهذه المسألة شأنا كبيرا في حياة الأمم السياسية والاجتماعية في هذا العصر ويزعم بعض المتفرنجين من المسلمين أن تحريم الربا هو العقبة الكؤود في طريق مجاراة المسلمين للأمم الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة.
﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ﴾ أي وإن وجد غريم معسر من غرمائكم فأنظروه وأمهلوه إلى وقت يسار يتمكن فيه من الأداء.
وقرأ حمزة ونافع ميسرة بضم السين وهي لغة كالفتح الذي قرأ به الباقون.
روي أن بني المغيرة قالوا لبني عمرو بن عمير في القصة السابقة نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك التمرة فأبوا فنزلت الآية في قصتهم كالآيتين قبلها.
﴿ وأن تصدقوا خير لكم ﴾ أصل " تصدقوا " تتصدقوا قرأ عاصم بتخفيف الصاد بحذف إحدى التائين والباقون بتشديدها للإدغام. أي وتصدقكم على المعسر بوضع الدين عنه وإبرائه منه خير لكم من إنظاره فهو ندب إلى الصدقة والسماح للمدين المعسر لما فيه من التعاطف والتراحم بين الناس وبر بعضهم ببعض وذلك من أعظم أسباب هناء المعيشة وحسن حال الأمة. ولذلك نبه إلى العلم بذلك فقال :﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ لأن من لا يعلم وجه الخيرية في شيء لا يعمله ومن علم عمل حتما، أي إن كنتم تعلمون انه خير لكم عملتم به وعاملتم إخوانكم بالمسامحة. فعليكم بالعلم الذي يهديكم إلى خير العمل الذي يقرب بعضكم من بعض ويجعلكم متحابين متوادين. وقد استدل بعضهم بالآية على وجوب إنظار المعسر مطلقا وبعضهم على وجوب ذلك في دين الربا خاصة وقالوا إن هذا الواجب يفضله شيء مندوب وهو الإبراء والتصدق على المعسر فإنه ليس بواجب اتفاقا وقيل إن المراد بالتصدق هنا الإنظار كأنه يقول وهذا الإنظار الذي أمرتم به خير لكم وهو خلاف المتبادر.
فصل في حكمة تحريم الربا
قال الأستاذ الإمام في الدرس ما مثاله : يقول كثير من الناس الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية وأخذوا الشهادات من المدارس بل ومن هم أكبر من هؤلاء أن المسلمين منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب ومن كان غنيا منهم لا يعطى بالربا. فمال الفقير يذهب ومال الغني لا ينمو. ويجعلون هذه المسألة أهم المسائل الاجتماعية والعمرانية عند المسلمين يعنون أنه ما جنى على المسلمين إلا دينهم. قال : وهذه أوهام لم تقل عن اختبار فإن المسلمين في هذه الأيام لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة لما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم. فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدين فهل يقول المشتبهون إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدين ؟ ألم تسبقنا جميع الأمم إلى إتقان ذلك فلماذا لم نتقن سائر أعمال الكسب لنعوض منها على أنفسنا ما فاتنا من كسب الربا المحرم علينا، وديننا يدعونا إلى أن نسبق الأمم في إتقان كل شيء ؟
الحق أن المسلمين في الأغلب قد نبذوا الدين ظهريا فلم يبق عندهم منه إلا تقاليد وعادات أخذوها بالوراثة عن آبائهم ومعاشريهم فمن يدعي أن الدين عائق لهم عن الترقي فقد عكس القضية وأضاف إلى جهالاتهم جهالة شرا منها وإنما يجيء هذا من عدم البصيرة والتأمل في حال الأمة من بدايتها إلى ما انتهت إليه ولو عرفت الأمة نفسها لعرفت ماضيها كما تعرف حاضرها ولكن جهلها بنفسها وعدم قراءة ماضيها هو الذي أوقعها فيما هي فيه من البلاء العظيم فهي لا تدري من أين أخذت ولا كيف سقطت بعد ما ارتفعت.
أقول : يعني أنها ارتفعت بالدين وسقطت بتركه مع الجهل بالسبب وأفضى بها الجهل إلى أن صارت تجعل علة الرقي والارتفاع، هي عين العلة للسقوط والانحطاط، ومن ذلك استدانة أفرادنا وحكوماتنا من الأجانب بالربا فإنها أضاعت ثروتها وملكنا وكان الدين لو اتبعناه عاصما منها، فنحن ننسى مثل هذه الفائدة الكبرى للدين في الموضوع نفسه ونذكر من سيئات الدين أنه حرم الربا ولو لم يحرمه لجاز أن يكسب بعض أغنيائنا أكثر مما يكسبون الآن. وقد أشار الأستاذ إلى هذا المعنى فقال : إن أثر الربا فينا لا يمكننا أن نزيله بمئات من السنين ولو أننا حافظنا على أمر الدين فيه لكنا بقينا لأنفسنا : فتأمل قوله : بقينا لأنفسنا.
وقال في تفسير ﴿ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ الخ ما مثاله : مسألة الربا مسألة كبيرة اتفقت فيها الأديان ولكن اختلفت فيها الأمم، فاليهود كانوا يرابون مع غيرهم والنصارى يرابي بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس وقد كان المسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة زمنا طويلا ثم قلدوا غيرهم، ومنذ نصف قرن فشت المراباة بينهم في أكثر الأقطار وكانوا قبل ذلك يأكلون الربا بالحيلة التي يسمونها شرعية وقد أباحها بعض الفقهاء في استثمار مال اليتيم وطالب العلم المنقطع، ومنها مسألة السبحة المشهورة وهي أن يتفق الدائن مع المدين على أن يعطيه مئة إلى سنة بمئة وعشرة مثلا فيعطيه المئة نقدا ويبيعه سبحة بعشرة في الذمة فيشتريها ثم يهديها إليه.
على أن الذين يأكلون الربا من المسلمين لا يزالون قليلين جدا ولكن الذين يؤكلونه غيرهم كثيرون جدا حتى لا تكاد تجد متمولا في هذه البلاد سالما من الاستدانة بالربا إلا قليلا والسبب في ذلك تقليد حكامهم في هذه السنة بل كثيرا ما كان حكام هذه البلاد يلزمون الرعية بها إلزاما لأداء ما يفرضونه عليهم من الضرائب والمصادرات. ومن هنا نرى أن الأديان لم يمكنها أن تقاوم ميل جماهير الناس إلى أكل الربا حتى كأنه ضرورة يضطرون إليها. ومن حجتهم عليها أن البيع مثل الربا فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما نسيئة يجوز له أن يعطي المحتاج العشرة دراهم على أن يرد إليه بعد سنة عشرين درهما لأن السبب في كل من الزيادتين الأجل. هكذا يحتج الناس في أنفسهم كما تحتج الحكومات بأنها لو لم تأخذ المال بالربا لاضطرت إلى تعطيل مصالحها أو خراب أرضها.
والله تعالى قد أجاب عن دعوى مماثلة البيع للربا بجواب ليس على طريقة أجوبة الخطباء المؤثرين ولا على طريقة أقيسة الفلاسفة والمنطقيين، ولكنه على سنة هداية الدين وهو أن الله أحل البيع وحرم الربا. وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب من قبيل إبطال القياس بالنص، أي إنكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن لذلك القول إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآيات إلا به ولا ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه وتطبيقها على آرائهم ومذاهبهم فيه. والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله، ولكن ههنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف وأن يكون كل منهم عونا للآخر لاسيما عند شدة الحاجة إليه ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم، وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواحد مال الفقير الفاقد. فهذا وجه للتباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس.
وهناك وجه آخر وهو أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقا على آخر بغير عمل لأنه باطل لا مقابل له وبهذه السنة أحل البيع لأن فيه عوضا يقابل عوضا وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها. والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه. ذلك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقيا لأن من يشتري قمحا مثلا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعا حقيقيا ( وأقول والثمن في هذا المقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما ) وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل ( أقول وهي لا تعطى بالرضى والاختيار بل بالكره والاضطرار ).
وثم وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزانا لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم. فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودا بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال، فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء. ولو وقف الناس في استغلال المال عند حد الضرورة لما كان فيه مثل هذه المضرات. ولكن أهواء الناس ليس لها حد تقف عنده بنفسها ( أي فلا بد لها من الوازع الذي يوقفها بالإقناع أو الإلزام ) لذلك حرم الله الربا وهو لا يشرع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين، ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة.
وأما واضعو القوانين فإنهم يضعون للناس الأحكام بحسب حالهم الحاضرة التي يرونها موافقة لما يسمونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ولا في أثرها في تربية الفضائل والبعد عن الرذائل وإننا نرى البلاد التي أحلت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين وقل فيها التعاطف والتراحم، وحلت القسوة محل الرحمة حتى أن الفقير فيها يموت جوعا لا يجد عليه بما يسد رمقه فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال واعتصامهم المرة بعد المرة لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع، لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره بل يعطونهم أقل مما يستحقونه، وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلابا كبيرا في العالم ولذلك قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي شر هذه المسألة وقد صرح كثير منهم بأنه لا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين. وقد ألف تولستوي الفيلسوف الروسي كتابا سماه ( ما العمل ؟ ) وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ وقد قال في آخره : أن أوروبا نجحت في تحرير الناس من الرق ولكنها غفلت عن رفع نير الدينار ( الجنيه ) عن أعناق الناس الذين ربما استعبدهم المال يوما ما.
قال الأستاذ رحمه الله تعالى : وهذه بلادنا قد ضعف فيها التعاطف والتراحم وقل الإسعاد والتعاون منذ فشا فيها الربا وإنني لأعي وأدرك ما مر بي منذ أربعين سنة. كنت أرى الرجل يطلب من الآخر قرضا فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ويعطيه ما طلب بعد أن يستوثق منه باليمين إنه لا يحدث الناس بأنه اقترض منه لأنه يستحي أن يكون في نظرهم متفضلا عليه قال : رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعددة ورأيت من وفاء من يقترض أنه يغني المقرض عن المطالبة بله المحاكمة. ثم بعد خمس وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده قرضا طلبه إلا بسند وشهود. فسألته أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل، وتقسم عليهم أو تحلفهم أن لا يذكروا ذلك ؟ قال : نعم. قلت فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلا بسند وشهود وما علمت عليه من سوء ؟ قال : لا أعرف سبب ذلك إلا أنني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي. قلت : وقد أخبرني أن هذا الذي سأل منه عن ذلك هو والده رحمهما الله تعالى.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في حكمه تحريم الربا وما قاله في مضرة استغلال النقد مأخوذ من كلام للإمام الغزالي ومطبق على حال العصر. وإنني أورد عبارة الغزالي فيه من كتاب الشكر من الإحياء لما فيها من الحسن والفوائد قال رحمه الله تعالى :
" من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغني عنه ويحتاج على الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطي منه في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلا يدري أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأ
﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ قرأ أبو عمرو ويعقوب ( ترجعون ) بفتح الفاء وكسر الجيم من رجع والباقون ( ترجعون ) بضم التاء وفتح الجيم من أرجع بالبناء للمفعول. أي واحذروا يوما عظيما ترجعون فيه من غفلاتكم وشواغل الحياة الجسدية التي تشغلكم عن مراقبة الله فتصيرون إلى الله أي إلى الاستغراق في العلم والشعور بأنه لا سلطان إلا سلطانه ولا ملك إلا له.
ذكر معنى ذلك الأستاذ الإمام وقال معناه مبسوطا١ : أما حقيقة الرجوع فلا تصح هنا لأننا ما غبنا عن الله طرفة عين ولا يمكن أن نغيب عنه فنرجع إليه، ولكن الإنسان في غفلته وشغله بشؤونه الحيوانية يتوهم أن له استقلالا تاما بنفسه وأن له رؤساء وأمراء يخافهم ويرجوهم، ويرى أنه تعرض له حاجات وضرورات يجب عليه أن يستعد لها بتكثير المال وجمعه من حرام وحلال. فأمثال هذه الخواطر تكون له شغلا شاغلا ربما يستغرق وقته فيصرفه عن التفكر في منافع التسامح في معاملة الناس والتصدق على المحتاج منهم، فكان أنفع دواء لمرض انصراف النفس عن التفكر في سلطان الله وقدرته، والتقرب إليه بما فيه تمام حكمته، التذكير بيوم القيامة الذي تبطل فيه هذه الشواغل، وتتلاشى هذه الصوارف، حتى لا يشغل الإنسان فيه شيء ما عن الله تعالى وما أعده من الجزاء للعباد على قدرة أعمالهم. ولذلك قال بعد التذكير بالرجوع إليه ﴿ ثم توفى كل نفس ما كسبت ﴾ أي تجازى على ما عملت في الدنيا جزاء وافيا ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ أي لا ينقصون من أجورهم شيئا بل قد يزاد المحسنون منهم فيعطون أكثر مما يستحقون على إحسانهم كما ثبت في آيات أخرى.
أخرج البخاري عن ابن عباس أن آخر آية نزلت آية الربا٢. وأخرج البيهقي عن عمر مثله. قال في الإتقان : والمراد بها ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ﴾ وعند أحمد وابن ماجة عن عمر. من آخر ما نزل آية الربا : وعند ابن مردوية عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر فقال : إن من آخر القرآن نزولا آية الربا. وأخرج النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن ﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه ﴾ الآية. وأخرج ابن مردوية نحوه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ : آخر آية نزلت. وأخرجه ابن جرير من طريق العوفي والضحاك عن ابن عباس. وقال الفريابي في تفسيره حدثنا سفيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال آخر آية نزلت :﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم أحد وثمانون يوما. ثم ذكر في الإتقان مثله عن سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم إلا أنه قال عاش بعد نزول هذه الآية تسع ليال ومثله عن ابن جريج عند ابن جرير.
وعن ابن شهاب عند أبي عبيد أن آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين. وعن سعيد بن المسيب عند ابن جرير مثل هذا اللفظ في آية الدين فقط. قال السيوطي بعد ذلك : ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا ﴿ واتقوا يوما ﴾ وآية الدين لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، ولأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر وذلك صحيح اه. أي إن كل مخبر ذكر ذلك في سياق يقتضيه.
وقيل غير ما ذكر في آخر القرآن نزولا وفي مدة بقاءه صلى الله عليه وسلم بعد نزول ﴿ واتقوا يوما ﴾ الآية. وورد أنه قال " اجعلوها بين آية الربا وآية الدين " وفي رواية أخرى " جاءني جبريل فقال اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة " وهكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم في ترتيب الآيات.
فصل في حكمة تحريم الربا
قال الأستاذ الإمام في الدرس ما مثاله : يقول كثير من الناس الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية وأخذوا الشهادات من المدارس بل ومن هم أكبر من هؤلاء أن المسلمين منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب ومن كان غنيا منهم لا يعطى بالربا. فمال الفقير يذهب ومال الغني لا ينمو. ويجعلون هذه المسألة أهم المسائل الاجتماعية والعمرانية عند المسلمين يعنون أنه ما جنى على المسلمين إلا دينهم. قال : وهذه أوهام لم تقل عن اختبار فإن المسلمين في هذه الأيام لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة لما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم. فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدين فهل يقول المشتبهون إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدين ؟ ألم تسبقنا جميع الأمم إلى إتقان ذلك فلماذا لم نتقن سائر أعمال الكسب لنعوض منها على أنفسنا ما فاتنا من كسب الربا المحرم علينا، وديننا يدعونا إلى أن نسبق الأمم في إتقان كل شيء ؟
الحق أن المسلمين في الأغلب قد نبذوا الدين ظهريا فلم يبق عندهم منه إلا تقاليد وعادات أخذوها بالوراثة عن آبائهم ومعاشريهم فمن يدعي أن الدين عائق لهم عن الترقي فقد عكس القضية وأضاف إلى جهالاتهم جهالة شرا منها وإنما يجيء هذا من عدم البصيرة والتأمل في حال الأمة من بدايتها إلى ما انتهت إليه ولو عرفت الأمة نفسها لعرفت ماضيها كما تعرف حاضرها ولكن جهلها بنفسها وعدم قراءة ماضيها هو الذي أوقعها فيما هي فيه من البلاء العظيم فهي لا تدري من أين أخذت ولا كيف سقطت بعد ما ارتفعت.
أقول : يعني أنها ارتفعت بالدين وسقطت بتركه مع الجهل بالسبب وأفضى بها الجهل إلى أن صارت تجعل علة الرقي والارتفاع، هي عين العلة للسقوط والانحطاط، ومن ذلك استدانة أفرادنا وحكوماتنا من الأجانب بالربا فإنها أضاعت ثروتها وملكنا وكان الدين لو اتبعناه عاصما منها، فنحن ننسى مثل هذه الفائدة الكبرى للدين في الموضوع نفسه ونذكر من سيئات الدين أنه حرم الربا ولو لم يحرمه لجاز أن يكسب بعض أغنيائنا أكثر مما يكسبون الآن. وقد أشار الأستاذ إلى هذا المعنى فقال : إن أثر الربا فينا لا يمكننا أن نزيله بمئات من السنين ولو أننا حافظنا على أمر الدين فيه لكنا بقينا لأنفسنا : فتأمل قوله : بقينا لأنفسنا.
وقال في تفسير ﴿ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ الخ ما مثاله : مسألة الربا مسألة كبيرة اتفقت فيها الأديان ولكن اختلفت فيها الأمم، فاليهود كانوا يرابون مع غيرهم والنصارى يرابي بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس وقد كان المسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة زمنا طويلا ثم قلدوا غيرهم، ومنذ نصف قرن فشت المراباة بينهم في أكثر الأقطار وكانوا قبل ذلك يأكلون الربا بالحيلة التي يسمونها شرعية وقد أباحها بعض الفقهاء في استثمار مال اليتيم وطالب العلم المنقطع، ومنها مسألة السبحة المشهورة وهي أن يتفق الدائن مع المدين على أن يعطيه مئة إلى سنة بمئة وعشرة مثلا فيعطيه المئة نقدا ويبيعه سبحة بعشرة في الذمة فيشتريها ثم يهديها إليه.
على أن الذين يأكلون الربا من المسلمين لا يزالون قليلين جدا ولكن الذين يؤكلونه غيرهم كثيرون جدا حتى لا تكاد تجد متمولا في هذه البلاد سالما من الاستدانة بالربا إلا قليلا والسبب في ذلك تقليد حكامهم في هذه السنة بل كثيرا ما كان حكام هذه البلاد يلزمون الرعية بها إلزاما لأداء ما يفرضونه عليهم من الضرائب والمصادرات. ومن هنا نرى أن الأديان لم يمكنها أن تقاوم ميل جماهير الناس إلى أكل الربا حتى كأنه ضرورة يضطرون إليها. ومن حجتهم عليها أن البيع مثل الربا فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما نسيئة يجوز له أن يعطي المحتاج العشرة دراهم على أن يرد إليه بعد سنة عشرين درهما لأن السبب في كل من الزيادتين الأجل. هكذا يحتج الناس في أنفسهم كما تحتج الحكومات بأنها لو لم تأخذ المال بالربا لاضطرت إلى تعطيل مصالحها أو خراب أرضها.
والله تعالى قد أجاب عن دعوى مماثلة البيع للربا بجواب ليس على طريقة أجوبة الخطباء المؤثرين ولا على طريقة أقيسة الفلاسفة والمنطقيين، ولكنه على سنة هداية الدين وهو أن الله أحل البيع وحرم الربا. وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب من قبيل إبطال القياس بالنص، أي إنكم تقيسون في الدين والله تعالى لا يجيز هذا القياس ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن لذلك القول إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآيات إلا به ولا ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه وتطبيقها على آرائهم ومذاهبهم فيه. والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله، ولكن ههنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف وأن يكون كل منهم عونا للآخر لاسيما عند شدة الحاجة إليه ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم، وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل الغني الواحد مال الفقير الفاقد. فهذا وجه للتباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس.
وهناك وجه آخر وهو أن الله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقا على آخر بغير عمل لأنه باطل لا مقابل له وبهذه السنة أحل البيع لأن فيه عوضا يقابل عوضا وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها. والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه. ذلك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقيا لأن من يشتري قمحا مثلا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعا حقيقيا ( وأقول والثمن في هذا المقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما ) وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فما يؤخذ منه زيادة عن رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل ( أقول وهي لا تعطى بالرضى والاختيار بل بالكره والاضطرار ).
وثم وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزانا لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم. فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودا بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال، فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء. ولو وقف الناس في استغلال المال عند حد الضرورة لما كان فيه مثل هذه المضرات. ولكن أهواء الناس ليس لها حد تقف عنده بنفسها ( أي فلا بد لها من الوازع الذي يوقفها بالإقناع أو الإلزام ) لذلك حرم الله الربا وهو لا يشرع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين، ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة.
وأما واضعو القوانين فإنهم يضعون للناس الأحكام بحسب حالهم الحاضرة التي يرونها موافقة لما يسمونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ولا في أثرها في تربية الفضائل والبعد عن الرذائل وإننا نرى البلاد التي أحلت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين وقل فيها التعاطف والتراحم، وحلت القسوة محل الرحمة حتى أن الفقير فيها يموت جوعا لا يجد عليه بما يسد رمقه فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال واعتصامهم المرة بعد المرة لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع، لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره بل يعطونهم أقل مما يستحقونه، وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلابا كبيرا في العالم ولذلك قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي شر هذه المسألة وقد صرح كثير منهم بأنه لا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين. وقد ألف تولستوي الفيلسوف الروسي كتابا سماه ( ما العمل ؟ ) وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ وقد قال في آخره : أن أوروبا نجحت في تحرير الناس من الرق ولكنها غفلت عن رفع نير الدينار ( الجنيه ) عن أعناق الناس الذين ربما استعبدهم المال يوما ما.
قال الأستاذ رحمه الله تعالى : وهذه بلادنا قد ضعف فيها التعاطف والتراحم وقل الإسعاد والتعاون منذ فشا فيها الربا وإنني لأعي وأدرك ما مر بي منذ أربعين سنة. كنت أرى الرجل يطلب من الآخر قرضا فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ويعطيه ما طلب بعد أن يستوثق منه باليمين إنه لا يحدث الناس بأنه اقترض منه لأنه يستحي أن يكون في نظرهم متفضلا عليه قال : رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعددة ورأيت من وفاء من يقترض أنه يغني المقرض عن المطالبة بله المحاكمة. ثم بعد خمس وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده قرضا طلبه إلا بسند وشهود. فسألته أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل، وتقسم عليهم أو تحلفهم أن لا يذكروا ذلك ؟ قال : نعم. قلت فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلا بسند وشهود وما علمت عليه من سوء ؟ قال : لا أعرف سبب ذلك إلا أنني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي. قلت : وقد أخبرني أن هذا الذي سأل منه عن ذلك هو والده رحمهما الله تعالى.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في حكمه تحريم الربا وما قاله في مضرة استغلال النقد مأخوذ من كلام للإمام الغزالي ومطبق على حال العصر. وإنني أورد عبارة الغزالي فيه من كتاب الشكر من الإحياء لما فيها من الحسن والفوائد قال رحمه الله تعالى :
" من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغني عنه ويحتاج على الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطي منه في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلا يدري أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأ
٢ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢، باب ٥٤، وابن ماجة في التجارات باب ٥٨، والدرامي في المقدمة باب ١٨، وأحمد في المسند ١/٣٦، ٥٠..
ذكر الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في وجوه الاتصال بين هاتين الآيتين وما قبلهما صفوة ما قال المفسرون موضحا، ونذكر ما قاله كذلك : الكلام في الأموال بدأ بالترغيب في الصدقات والإنفاق في سبيل الله وذلك محض الرحمة وثنى بالنهي عن الربا الذي هو محض القساوة. ثم جاء بأحكام الدين والتجارة والرهن. أقول : وهي محض العدالة فقد أمرنا الله ببذل المال حيث ينبغي البذل وهو الصدقة والإنفاق في سبيله، وبتركه حيث ينبغي الترك وهو الربا، وبتأخيره حيث ينبغي التأخير وهو إنظار المعسر، وبحفظه حيث ينبغي الحفظ وهو كتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعاوضات وأخذ الرهن إذا لم يتيسر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد. ذلك بأن من يضيع ماله بإهمال المحافظة عليه لا يكون محمودا عند الناس ولا مأجورا عند الله، كما قال الحسن عليه الرضوان في المغبون بالبيع.
قال الأستاذ الإمام : ولما كانت سلطة صاحب الربا قد زالت بتحريمه ولم يبق له إلا رأس المال وقد أمر بإنظار المعسر فيه وكان لا بد لحفظه من كتابته إذ ربما يخشى ضياعه بالإنظار إلى الأجل ـ جاء بعد أحكام الربا بأحكام الدين ونحوه وبقول بعض المعسرين : وله الحق، إنه تقدم في الآيات طلب الإنفاق والتصدق ثم حكم الربا الذي يناقض الصدقة ثم جاء هنا بما يحفظ المال الحلال لأن الذي يؤمر بالإنفاق والصدقة، ويترك الربا لا بد له من كسب ينمي ماله ويحفظه من الضياع ليتسنى له القيام بالإنفاق في سبيل الله ولا يضطر بالفاقة إلى الوقوع فيما حرم الله. وهذا يدل على أن المال ليس مذموما لذاته في دين الله ولا مبغضا عنده تعالى على الإطلاق كيف وقد شرع لنا الكسب الحلال وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه بأن نستعمل عقولنا في تعرفها ونوجه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها.
ففي آية الدين بعد ما تقدم احتراس أو استدراك مزيل ما عساه يتوهم من الكلام السابق وهو أن المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله والتشديد في تحريم الربا يدلان على أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما هو ظاهر نصوص بعض الأديان السابقة. فكأنه يقول إنا لا نأمركم بإضاعة المال وإهماله، ولا بترك استثماره واستغلاله، إنما نأمركم بأن تكسبوه من طرق الحل وتنفقوا منه في طرق الخير والبر، أقول ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى في سورة النساء ﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ﴾ [ النساء : ٥ ] أي تقوم وثبت بها منافعكم ومصالحكم وحديث " نعم المال الصالح للمرء الصالح " ١ رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمرو بن العاص بسند صحيح وإنما المذموم في الشرع أن يكون الإنسان عبدا للمال، يبخل به ويجمعه من الحرام والحلال، كما ورد في حديث أبي هريرة عند البخاري " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم " ٢ الحديث. ولولا أن إزالة هذا الوهم مقصود لما جاءت آية الدين بما جاءت به من المبالغة والتأكيد في كتابة الدين والإشهاد عليه مع ما يعهد في أسلوب القرآن من الإيجاز لا سيما في الأحكام العلمية وقد عد القفال هذه التأكيدات في الآية فبلغت تسعة. أقول وفي الآية الأولى خمسة عشر أمرا ونهيا.
وذكر الرازي وجها آخر للاتصال في النظم عزاه إلى قوم المفسرين " قالوا إن المراد بالمدانية السلم فالله سبحانه لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ولهذا قال بعض العلماء لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضع الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل تلك طريقا حلالا وسبيلا مشروعا " اهـ
وأقول : إن الفرق بين الربا القطعي المحرم في القرآن وبين السلم أن الربح في السلم ليس من شأنه أن يكون أضعافا مضاعفة كربا النسيئة ولولا ذلك لم يظهر لتحريم الربا مع إباحة السلم فائدة إذ ليس في أمور المكاسب والمعايش تعبد لا تقبل.
وإذ قد فهمت وجه اتصال الآيتين بما قبلهما فهاك تفسيرهما وفيهما عدة أحكام :
١ ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ﴾ تداينتم داين بعضكم بعضا، وهو يأتي بمعنى تعاملتم بالدين وبمعنى تجازيتم. ولما قال بدين تعين المعنى بالنص القطعي. والمراد بالدين المال الذي يكون في الذمة لا المصدر. وقد حمل المداينة بعضهم على السلف ( السلم ) وروي عن ابن عباس. فقد أخرج البخاري وغيره عنه أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله قد أحله وقرأ هذه الآية. وبعضهم على القرض وضعفه الرازي بأن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل وما في الآية قد اشترط فيه الأجل. وقوله هذا هو الضعيف. وقال الجمهور إن الدين عام يشمل القرض والسلم وبيع الأعيان إلى أجل وهو الصواب. والأجل الوقت المضروب لانتهاء شيء والمسمى المعين بالتسمية كشهر وسنة مثلا. بعد أن أمر بالكتابة إجمالا بين كيفيتها ومن يتولاها فقال :
٢ ﴿ وليكتب بينكم كاتب بالعدل ﴾ أي ليكن فيكم كاتب للديون عادل في كتابته يساوي بين المتعاملين لا يميل إلى أحدهما فيجعل له من الحق ما ليس له ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه شيئا. وقال الأستاذ الإمام إن قوله تعالى :﴿ فاكتبوه ﴾ أمر عام للمتعاملين وفيهم الأمي الذي لا يكتب ولذلك احتيج إلى هذه الجملة : وقد ذكروا أن العدل في الكاتب يستلزم العلم بشروط المعاملات التي تحفظ الحقوق لأن الكاتب الجاهل قد يترك بعض الشروط أو يزيد فيها أو يبهم في الكتابة بجهله فيلتبس بذلك الحق بالباطل ويضيع حق أحد المتعاملين كما يضيع بتعمد الترك أو الزيادة أو الإبهام إذا لم يكن عادلا. وافقهم الأستاذ الإمام على ذلك. أقول : وقد يغني عن أخذ ذلك بطريق اللزوم قوله :
٣ ﴿ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ﴾ فإن تعليم الله إياه ليس خاصا بصناعة الكتابة، بل هو ما وفقه له من علم الأحكام والفقه فيها. فالكتابة لا تكون ضمانا تاما إلا إذا كان الكاتب عالما بما يجب عمله في ذلك من الأحكام الشرعية والشروط المرعية والاصطلاحات العرفية، وكان عادلا مستقيما لا غرض له إلا بيان الحق كما هو من غير محاباة ولا مراعاة. وإنما قدم صفة العدالة على صفة العلم بذلك لأن من كان عدلا يسهل عليه أن يتعلم ما ينبغي لكتابة الوثائق، لأن العدالة تهديه إلى ذلك ومن كان عالما غير عدل فإن العلم بذلك لا يهديه إلى العدالة. قلما يقع فساد من عدل ناقص العلم، وإنما أكثر الفساد من العلماء الفاقدين لملكة العدالة.
وقال الأستاذ الإمام : إن كاتب العقود والوثائق بمنزلة المحكمة الفاضلة بين الناس وليس كل من يخط بالقلم أهلا لذلك. وإنما أهله من يصح أن يكون قاضي العدل والإنصاف. وقال إن ما ذكر في وصف الكاتب إرشاد من الله تعالى لتلك الأمة الأمية إلى نظام معروف، وهو أن يكون كاتب الديوان عادلا عارفا بالحقوق والأحكام فيها حتى لا يقع التنازع بعد ذلك فيما يكتبه. وإرشاد للمسلمين إلى أنه ينبغي أن يكون فيهم هذا الصنف من الكتاب. فهذه قاعدة شرعية لإيجاد المقتدرين على كتابة العقود وهو ما يسمونه اليوم العقود الرسمية. ويتحتم ذلك على القول بأن الكتابة واجبة.
قال : وفيه أيضا أن الكاتب ينبغي أن يكون غير المتعاقدين، وإن كانا يحسنان الكتابة، لئلا يغالط أحدهما الآخر أو يغشه. وكأن هذا أمر حتم وعليه العمل الآن فإن للعقود الرسمية كتابا يختصون بها. أقول : وفي قوله ( ولا يأب كاتب ) الخ دليل على أن العلم بما فيه مصلحة الناس يجب عليه إذا دعي إلى القيام بها أن يجيب الدعوة. ولذلك لم يكتف بالنهي عن الإباء عن الكتابة بل أمر بها أمرا صريحا فقال ( فليكتب ) وهذا ظاهر لاسيما على قول من قال من أهل الأصول إن النهي عن الشيء ليس أمر بضده. وقال الأستاذ الإمام : إنه تأكيد لأن الموضوع غريب في نظر الأميين الذين خوطبوا به أولا.
٤ ﴿ وليملل الذي عليه الحق ﴾ أي وليلق على الكاتب ما يكتبه من عليه الحق من المتعاملين، ليكون إملاله حجة عليه تبينها الكتابة وتحفظها والإملال والإملاء واحد، يقال أمل على الكاتب وأملى عليه إذا ألقى عليه ما يكتبه والأصل فيه اللام. ﴿ وليتق الله ربه ﴾ في إملاله بأن يبين الحق الذي عليه كاملا ﴿ ولا يبخس منه شيئا ﴾ أي لا ينقص منه شيئا ما، وإن قل. أمر الذي عليه الحق بتقوى الله في إملاله على الكاتب وذكره بأن الله ربه الذي غذاه بنعمه وسخر له قلب الدائن، فبذل له ماله ليحمله بالتذكير بجلال الذات الإلهية، وهو من قبيل الترهيب، وبجمال نعم الربوبية، وهو من قبيل الترغيب على شكر الله بالاستقامة، وشكر الدائن بالاعتراف بحقه على وجه الكمال لأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس٣ كما ورد في الحديث ثم نهاه بعد هذا الأمر المؤكد أن يبخس من الحق شيئا لأن الإنسان عرضة للطمع فربما يستخفه طمعه إلى نقص شيء من الحق أو الإبهام في الإقرار الذي يملي على الكاتب تمهيدا للمحاولة والمماطلة ونحو ذلك. فهذا تأكيد بالنهي بعد الأمر لمقاومة هذا الأمر.
٥ ﴿ فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ﴾ ذكر الذي عليه الحق مظهرا في موضع الإضمار لزيادة الكشف والبيان كما قالوا وفسر السفيه بضعيف الرأي أي من لا يحسن التصرف في المال لضعف عقله، واختاره الأستاذ الإمام وقيل هو العاجز الأحمق وقيل الجاهل بالإملال وقال الإمام الشافعي هو المبذر لماله المفسد لدينه وهو بمعنى الأول. والضعيف الصبي والشيخ الهرم. ومن لا يستطيع الإملال هو الجاهل والألكن والأخرس. وولي الإنسان من يتولى أموره ويقوم بها عنه وقد اكتفى في أمر الولي بالعدل كالكاتب ولم يؤمر وليه بمثل ما أمر ونهي به من عليه الحق لأن من يبيع دينه بدنيا غيره قليل بالنسبة إلى من يبيع دينه بدنيا نفسه.
٦ ﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾ أي اطلبوا أن يشهد على ذلك رجلان ممن حضر ذلك منكم أو أشهدوهما على ذلك. فالشهيد من شهد الشيء وحضره بإمعان كما يؤخذ من صيغة المبالغة، واستشهده سأله أن يشهد أي أن يكون شاهدا بذلك عند الحاجة إليه. ويطلق الشهيد على الأمين في الشهادة كما في القاموس ولعل الوصف منتزع من صيغة المبالغة ولكن حمل هذا التفسير على الشهيد اسما لله تعالى ولا دليل على االتخصيص. والسياق يدل مع الصيغة على أن وصف الكمال معتبر فيمن يستشهد كما اعتبر مثله في الكاتب والولي. وما بيناه في معنى الشهيد يرد قول القائلين إن المراد بالشهيدين من سيكونان شاهدين بذلك الحق من باب مجاز الأول. وقوله " من رجالكم " والخطاب للمؤمنين يدل على أنهم لا يستشهدون من لم يكن منهم. وكون استشهاد غيرهم ليس مشروعا لهم أو ليس جائزا عملا بمفهوم الصفة لا يعد نصا على أن شهادته إذا هو شهد لا تصح أولا تدل على شيء ولكن العلماء اتفقوا على شروط الشهادة الشرعية منها الإسلام والعدالة لهذه الآية ولقوله :﴿ وأشهدوا ذوي عدل منكم ﴾ [ الطلاق : ٢ ] وجعلوا قوله تعالى في آية الوصية ﴿ اثنان ذوي عدل منكم أو آخران من غيركم ﴾ [ المائدة : ١٠٦ ] خاصا بمثل تلك الواقعة. وأولها بعضهم بغير ذلك كما يأتي في محله. ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام شيئا في المسألة وقد حقق العلامة ابن القيم أن البينة في الشرع أعم من الشهادة فكل ما يتبين به الحق بينة كالقرائن القطعية ويمكن أن تدخل غير المسلم في البينة بهذا المعنى الذي استدل عليه بالكتاب والسنة واللغة إذا تبين للحاكم بها الحق.
٧و٨ ﴿ فإن لم يكونا ﴾ أي من تستشهدونهما ﴿ رجلين ﴾ وجعل المفسرون الضمير للشاهدين بحسب الإرادة والقصد ﴿ فرجل وامرأتان ﴾ يستشهدان أو فليستشهد رجل وامرأتان. وتقديرنا أولى من تقدير الجمهور الإشهاد وإنما وافقوا اصطلاح الفقهاء واتبعنا نظم القرآن ﴿ ممن ترضون من الشهداء ﴾ قالوا أي ممن ترضون دينهم وعدالتهم حال كونهم من الشهداء وإنما وصف الرجل مع المرأتين بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها، ولذلك وكل الأمر فيه إلى رضى المستشهدين ثم بين علة جعل المرأتين بمنزلة رجل واحد بقوله تعالى ﴿ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ﴾ أي حذر أن تضل إحداهما أي تخطئ لعدم ضبطها وقلة عنايتها فتذكر كل منهما الأخرى بما كان فتكون شهادتها متممة لشهادتها. أي إن كلا منهما عرضة للخطأ والضلال أي للضياع وعدم الاهتداء إلى ما كان وقع بالضبط فاحتيج إلى إقامة الاثنتين مقام الرجل الواحد لأنهما بتذكير كل منهما للأخرى تقومان مقام الرجل. ولهذا أعاد لفظ " إحداهما " مظهرا وليس بمعنى لئلا تنسى واحدة فتذكرها الثانية كما فهم كثير من المفسرين. وقال بعضهم ( وهو الحسين بن علي المغربي ) معناه أن تضل إحدى الشهادتين عن إحدى المرأتين فتذكرها بها المرأة الأخرى، فجعل إحدى الأولى للشهادة والثانية للمرأة، وأيده الطبرسي بأن نسيان الشهادة لا يسمى ضلالا، لأن الضلال معناه الضياع والمرأة لا تضيع واستدل على التفرقة بين الضلال والنسيان بقوله تعالى :﴿ ضلوا عنا ﴾ [ الأعراف : ٣٧ ] ومثله ﴿ لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ [ طه : ٥٢ ] وكأن الأستاذ الإمام أقره عندما ذكره، ورده بعضهم بما فيه من التفكيك وبأن تفسير الضلال بالنسيان مروي عن سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما ونقله ابن الأثير لغة. أقول : وما ذكرته يغني عن هذا وذكر الألوسي في وجه العدول عن قوله :﴿ فتذكرها ﴾ إلى قوله :﴿ فتذكر إحداهما الأخرى ﴾ أنه رأى في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار " إحدى " معرضا بما ذكره المغربي فقال :
يا رأس أهل العلو السادة البررة | ومن نداه على كل الورى نشره |
ما سر تكرار ( إحدى ) دون ( تذكر | ها ) في آية لذوي الإشهاد في البقره |
وظاهر الحال إيجاز الضمير على | تكرار ( إحداهما ) لو أنه ذكره |
وحمل الإحدى على نفس الشهادة في | أولاهما ليس مرضيا لدى المهره |
فغص بفكرك لاستخراج جوهره | من بحر علمك ثم ابعث لنا درره |
يا من فوائده بالعلم منتشره | ومن فضائله بالكون مشتهره |
يا من تفرد في كشف العلو لقد | وافى سؤالك والأسرار مستتره |
" تضل إحداهما " فالقول محتمل | كليهما فهي للإظهار مفتقره |
ولو أتى بضمير كان مقتضيا | تعيين واحدة للحكم معتبره |
ومن رددتم عليه الحل فهو كما | أشرتم ليس مرضيا لمن سبره |
هذا الذي سمح الذهن الكليل به | والله أعلم في الفحوى بما ذكره |
وقال الإمام الأستاذ : إن الله تعالى جعل شهادة المرأتين شهادة واحدة فإذا تركت إحداهما شيئا من الشهادة كأن نسيته أو ضل عنها تذكرها الأخرى
ذكر الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في وجوه الاتصال بين هاتين الآيتين وما قبلهما صفوة ما قال المفسرون موضحا، ونذكر ما قاله كذلك : الكلام في الأموال بدأ بالترغيب في الصدقات والإنفاق في سبيل الله وذلك محض الرحمة وثنى بالنهي عن الربا الذي هو محض القساوة. ثم جاء بأحكام الدين والتجارة والرهن. أقول : وهي محض العدالة فقد أمرنا الله ببذل المال حيث ينبغي البذل وهو الصدقة والإنفاق في سبيله، وبتركه حيث ينبغي الترك وهو الربا، وبتأخيره حيث ينبغي التأخير وهو إنظار المعسر، وبحفظه حيث ينبغي الحفظ وهو كتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعاوضات وأخذ الرهن إذا لم يتيسر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد. ذلك بأن من يضيع ماله بإهمال المحافظة عليه لا يكون محمودا عند الناس ولا مأجورا عند الله، كما قال الحسن عليه الرضوان في المغبون بالبيع.
قال الأستاذ الإمام : ولما كانت سلطة صاحب الربا قد زالت بتحريمه ولم يبق له إلا رأس المال وقد أمر بإنظار المعسر فيه وكان لا بد لحفظه من كتابته إذ ربما يخشى ضياعه بالإنظار إلى الأجل ـ جاء بعد أحكام الربا بأحكام الدين ونحوه وبقول بعض المعسرين : وله الحق، إنه تقدم في الآيات طلب الإنفاق والتصدق ثم حكم الربا الذي يناقض الصدقة ثم جاء هنا بما يحفظ المال الحلال لأن الذي يؤمر بالإنفاق والصدقة، ويترك الربا لا بد له من كسب ينمي ماله ويحفظه من الضياع ليتسنى له القيام بالإنفاق في سبيل الله ولا يضطر بالفاقة إلى الوقوع فيما حرم الله. وهذا يدل على أن المال ليس مذموما لذاته في دين الله ولا مبغضا عنده تعالى على الإطلاق كيف وقد شرع لنا الكسب الحلال وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه بأن نستعمل عقولنا في تعرفها ونوجه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها.
ففي آية الدين بعد ما تقدم احتراس أو استدراك مزيل ما عساه يتوهم من الكلام السابق وهو أن المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله والتشديد في تحريم الربا يدلان على أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما هو ظاهر نصوص بعض الأديان السابقة. فكأنه يقول إنا لا نأمركم بإضاعة المال وإهماله، ولا بترك استثماره واستغلاله، إنما نأمركم بأن تكسبوه من طرق الحل وتنفقوا منه في طرق الخير والبر، أقول ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى في سورة النساء ﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ﴾ [ النساء : ٥ ] أي تقوم وثبت بها منافعكم ومصالحكم وحديث " نعم المال الصالح للمرء الصالح " ١ رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمرو بن العاص بسند صحيح وإنما المذموم في الشرع أن يكون الإنسان عبدا للمال، يبخل به ويجمعه من الحرام والحلال، كما ورد في حديث أبي هريرة عند البخاري " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم " ٢ الحديث. ولولا أن إزالة هذا الوهم مقصود لما جاءت آية الدين بما جاءت به من المبالغة والتأكيد في كتابة الدين والإشهاد عليه مع ما يعهد في أسلوب القرآن من الإيجاز لا سيما في الأحكام العلمية وقد عد القفال هذه التأكيدات في الآية فبلغت تسعة. أقول وفي الآية الأولى خمسة عشر أمرا ونهيا.
وذكر الرازي وجها آخر للاتصال في النظم عزاه إلى قوم المفسرين " قالوا إن المراد بالمدانية السلم فالله سبحانه لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ولهذا قال بعض العلماء لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضع الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل تلك طريقا حلالا وسبيلا مشروعا " اهـ
وأقول : إن الفرق بين الربا القطعي المحرم في القرآن وبين السلم أن الربح في السلم ليس من شأنه أن يكون أضعافا مضاعفة كربا النسيئة ولولا ذلك لم يظهر لتحريم الربا مع إباحة السلم فائدة إذ ليس في أمور المكاسب والمعايش تعبد لا تقبل.
وإذ قد فهمت وجه اتصال الآيتين بما قبلهما فهاك تفسيرهما وفيهما عدة أحكام :
جعل بعض المفسرين قوله تعالى :﴿ لله ما في السموات وما في الأرض ﴾ بمثابة الدليل على ما قبله. وقال الأستاذ الإمام : الآية متصلة بقوله تعالى :﴿ ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ﴾ ويصح أن تكون متممة لها لأن مقتضى كونه عليما بكل شيء أن له كل شيء. فهذا كالدليل على كونه عالما بكل شيء أي أنه عليم به. لأنه له وهو خالقه، فهو كقوله :﴿ ألا يعلم من خلق ﴾. وبهذا الاستدلال يتقرر النهي عن كتم الشهادة وكونه إثما يعاقب عليه وأكده بقوله :﴿ وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ لدخول كتمان الشهادة في عموم ما في النفس. قال ويصح أن تكون الآية متصلة بآية الدين من أولها لأنه شرع لنا أحكاما تتعلق بالدين كالكتابة والشهادة، فكأنه يقول إن تساهلتم في هذه الأحكام وأضعتم الحقوق فتظاهرتم بالأمانة مع انطواء النفس على الخيانة وغالطتم الناس وأكلتم أموالهم بذلك أو أضعتموها بكتمان الشهادة ونحو ذلك، فإن الله يحاسبكم ويعاقبكم على ذلك، لأن له ما في السموات وما في الأرض منها أنتم وأعمالكم النفسية أو البدنية. أقول : وجعلها بعضهم متعلقا بأحكام السورة كلها.
قال : والمراد بقوله " ما في أنفسكم " الأشياء الثابتة في أنفسكم وتصدر عنها أعمالكم كالحقد والحسد وألفة المنكرات التي يترتب عليها ترك النهي عن المنكر، فإن السكوت عن النهي أمر كبير يحل الله عقوبته في الأمة بسببه وليس هو مجرد اتفاق السكوت، وإنما هو اعتبار سببه في النفس، وهو ألفة المنكر والأنس به. وللإنسان عمل اختياري في نفسه هو الذي يحاسب عليه. نعم إن الخواطر والهواجس قد تأتي بغير إرادة الإنسان ولا يكون له فيها تعمّل، ولكنه إذا مضى معها واسترسل تحسب عليه عملا يجازى عليه لأنه سايرها مختارا وكان يقدر على مطاردتها وجهادها. وسواء كانت هذه الخواطر والهواجس صادرة عن ملكة في النفس تثيرها أو عن شيء لا يدخل في حيز الملكة. مثال ذلك الحسود تبعث ملكة الحسد في نفسه خواطر الانتقام من المحسود والسعي في إزالة نعمته لتمكنها في نفسه وامتلاكها لمنازع فكره، وهذه الخواطر مما يحاسب عليها أبداها أو أخفاها إلا أن يجاهدها ويدافعها فذلك ما يكلفه. ومثال الثاني المظلوم يذكر ظالمه فيشتغل فكره في دفع ظلمه والهرب من أذاه وربما استرسل مع خواطره إلى أن تجره إلى تدبير الحيل للإيقاع به ومقابلة ظلمه بما هو شر منه فيكون مؤاخذا عليها، أبداها أو أخفاها. وقد قال تعالى :﴿ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ﴾ [ المائدة : ٧٨ ٧٩ ]. وذلك أن فظاعة المنكر زالت من نفوسهم بالأنس بها من أول الأمر. وهكذا يقال في كل أعمال القلب التي أمرنا الشرع بمجاهدتها ولا يدخل في هذا ما يمر في النفس من الخواطر والوساوس كما قيل، وبنوا عليه أن الصحابة رضي الله عنهم شق عليهم العمل بالآية وشكوا للنبي صلى الله عليه وسلم الوسوسة، فنزلت الآية التي بعدها دفعا للحرج. ولفظ الآية يدفع هذا لأنها نص فيما هو ثابت في النفس ومتمكن منها كالأخلاق والملكات والعزائم القوية التي يترتب عليها العمل بأثرها فيها إذا انتفت الموانع وتركت المجاهدة. وكذلك يدفعه ما كان عليه الصحابة الكرام من علو الهمة والأخذ بالعزائم، وهم الذين كانوا يفهمون القرآن حق الفهم ويتأدبون به ويقيمونه كما يجب، وما أبعدهم عن الاسترسال مع الوساوس والأوهام.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام مفصلا وهو المتبادر من لفظ الآية ولا شك أن ما يجازى عليه مما في النفس يعم الملكات الفاضلة والمقاصد الشريفة. وإنما مثل هو وغيره بالحقد والحسد لمناسبة السياق، ولهذا السياق خصه بعضهم بكتمان الشهادة، وهو مروي عن ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد. ورد ذلك الأكثرون بأنه مخالف لعموم اللفظ، وخصه بعضهم بالكفار وهو تخصيص بلا مخصص أيضا، وذهب الجمهور إلى أن الآية منسوخة بما بعدها. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه وغيرهم عن أبي هريرة قال " لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة. وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا سمعنا وطعنا غفرانك ربنا إليك المصير ) فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ]. فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] إلى آخرها " ١ وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس نحوه. واخرج البخاري والبيهقي عن مروان الأصفر عن رجل من الصحابة أحسبه ابن عمر ﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم ﴾ قال نسخها ما بعدها. واحتجوا للنسخ بحديث أبي هريرة في الصحيحين والسنن " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به " ٢.
وأقول : ليس في هذه الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن الآية منسوخة وإنما قصاراها أن بعض الصحابة فهم أنها نسخت والروايات عنهم في ذلك مختلفة. والقول بالنسخ ممنوع من وجوه :
أحدها : أن قوله تعالى :﴿ يحاسبكم به الله ﴾ خبر، والأخبار لا تنسخ كما هو معروف في علم الأصول.
ثانيها : أن كسب القلب وعمله مما دل الكتاب والسنة والإجماع والقياس على ثبوته والجزاء عليه، ظهر أثره على الجوارح أم لم يظهر، وهو ما دلت عليه الآية. فالقول بنسخها إبطال للشريعة ونسخ للدين كله أو إثبات لكونه دينا جثمانيا ماديا لا حظ للأرواح والقلوب منه قال تعالى :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾ [ البقرة : ٢٢٥ ] وقال :﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾ [ الإسراء : ٣٦ ] وقال :﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ [ النور : ١٩ ]. والحب من أعمال القلب الثابتة في النفس. فقوله تعالى :﴿ ما في أنفسكم ﴾ معناه ما ثبت واستقر في أنفسكم كما تقدم ويدخل فيه الكفر والأخلاق الراسخة والصفات الثابتة من الحب والبغض في الجور وكتمان الشهادة وقصد السوء أو سوء القصد وفساد النية وخبث السريرة. وهذه الأعمال والصفات هي الأصل في الشقاوة وعليها مدار الحساب والجزاء، ولولا أن للأعمال البدنية آثارا في النفس تزكيها أو تدسيها، لما آخذ الله تعالى في الآخرة أحدا عليها، لأنه تعالى لا يعاقب الناس حبا في الانتقام ولا يظلم نفسا شيئا ولكنه جعل سنته في الإنسان أن يرتقي أو يتسفل نفسا وعقلا بالعمل. فلهذا كان العمل مجزيا عليه في الآخرة فإن أثره في النفس هو متعلق الجزاء.
ثالثها : أن الخواطر السانحة والوساوس العارضة وحديث النفس الذي لا يصل إلى درجة القصد الثابت والعزم الراسخ لا يدخل في مفهوم الآية كما قال المحققون واختاره الأستاذ الإمام كما تقدم لأن ما ذكر غير ثابت ولا مستقر وقوله :" في أنفسكم " يفيد الثبات والاستقرار. وإنما كان هذا وجها لإبطال النسخ لأنه إذا ثبت أن ما ذكر داخل في الآية فلقائل أن يقول إن الآية خبر يفيد النهي عن هذه الخواطر والوساوس في المعنى، فهو من تكليف ما لا يطاق فيجب أن يكون قوله بعده ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ ناسخا له وبهذا تعلم أن حديث التجاوز عن حديث النفس لا ينافي الآية ولا يصلح دعامة للقول بنسخها.
رابعها : أن تكليف ما ليس في الوسع ينافي الحكمة الإلهية البالغة والرحمة الربانية السابغة، فهو لم يقع فيقال إن الآية منه ونخست بما بعده.
خامسها : المعقول في النسخ أن يشرع حكم يوافق مصلحة المكلفين ثم يأتي زمن أو تطرأ حال يكون ذلك الحكم فيه مخالفا للمصلحة. وكون ما في النفس يحاسب عليه من الحقائق التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأحوال.
فإن قيل : إذا كان معنى الآية ما ذكرت فلماذا قال الصحابة فيها ما قالوا ؟
أقول : إن الصحابة عليهم الرضوان قد دخلوا في الإسلام وأكثرهم رجال قد تربوا في حجر الجاهلية وانطبعت في نفوسهم قبله أخلاقها وأثرت في قلوبهم عاداتها فكانوا يتزكون منها ويتطهرون من لوثها تدريجا بزيادة الإيمان، كلما نزل شيء من القرآن وبإتباع الرسول، فيما يفعل ويقول، فلما نزلت هذه الآية خافوا أن يؤاخذوا على ما كان لا يزال باقيا في أنفسهم من أثر التربية الجاهلية الأولى وناهيك بما كانوا عليم من الخوف من الله عز وجل واعتقاد النقص في أنفسهم حتى بعد كمال التزكية وتمام الطهارة حتى كان مثل عمر بن الخطاب يسأل حذيفة بن اليمان " هل يجد فيه شيئا من علامات النفاق " فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يؤاخذها إلا على ما كلفها فهم مكلفون بتزكية أنفسهم ومجاهدتها بقدر الاستطاعة والطاقة وطلب العفو عما لا طاقة لهم به، كما سيأتي تفصيله ولا يبعد أن يكون بعضهم قد خاف أن تدخل الوسوسة والشبهة قبل التمكن من دفعها في عموم الآية. فكان ما بعدها مبينا لغلطهم في ذلك.
وأما تسمية بعضهم ذلك نسخا فقد أجاب عنه بعض المفسرين بأنه عبر بالنسخ عن البيان والإيضاح تجوزا. ولك أن تقول : إن المراد به النسخ اللغوي وهو الإزالة والتحويل لا الاصطلاحي. أي إن الآية الثانية كانت مزيلة لما أخافهم من الأولى أو محولة له إلى وجه آخر. ويحتمل أن يكون الصحابي لم ينطق بلفظ النسخ وإنما فهمه الراوي من القصة فذكره. وكثيرا ما يروون الأحاديث المرفوعة بالمعنى على أنه ليس من النص المرفوع. ورأي الصحابي ليس بحجة عند الجماهير، لا سيما إذا خالف ظاهر الكتاب. وإنني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن، وإن وثقوا رجاله، فرب راو يوثق للاغترار بظاهر حاله، وهو سيئ الباطن ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها كما تنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض. وقد قالوا إن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو للبرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.
أما إبداء ما في النفس فهو إظهاره بالقول أو بالفعل، وأما إخفاؤه فهو ضده والإبداء والإخفاء سيان عند الله تعالى لأنه ﴿ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ﴾ [ غافر : ١٩ ] فالمدار في مرضاته على تزكية النفس وطهارة السريرة لا على لوك اللسان وحركات الأبدان. وأما المحاسبة فهي على ظاهرها وإن فسرها بعض بالعلم وبعض بالجزاء الذي هو غبها ولازمها، ذلك أن للنفوس في اعتقاداتها وملكاتها وعزائمها وإرادتها موازين يعرف بها يوم الدين رجحان الحق والخير أو الباطل والشر هي أدق مما وضع البشر من موازين الأعيان وموازين الأعراض كالحر والبر { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من
٢ أخرجه البخاري في العتق باب٦، والطلاق باب ١١، والأيمان باب ١٥، ومسلم في الإيمان حديث ٢٠١، ٢٠٢، وأبو داود في الطلاق باب١٥، والترمذي في الطلاق باب ٨، والنسائي في الطلاق باب ٢٢، وابن ماجة في الطلاق باب ١٤، ١٦، وأحمد في المسند ٢/٣٩٨، ٤٢٥، ٤٧٤، ٤٨١، ٤٩١..
قيل : إن الآيتين متعلقتان بما قبلهما لما فيه من ذكر كمال الألوهية الذي يقابله من كمال الإيمان والدعاء ما يناسبه، أو لما فيه من ذكر الحساب والعلم بالخفايا المقتضي للإيمان والدعاء. وقيل إنه لما افتتحت هذه السورة ببيان كون القرآن لا ريب فيه وكونه هدى للمتقين وذكر صفات هؤلاء المتقين وأصول الإيمان التي أخذوا بها وخبر سائر الناس من الكافرين والمرتابين ثم ذكر فيها كثيرا من الأحكام ومحاجة من لم يهتد به من بعض الأمم، ناسب بعد هذا كله ختم السورة بالشهادة للمؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان وهم المهتدون تمام الاهتداء، ولقنهم من الدعاء ما ستعلم حكمته. وهذا الوجه هو الذي اختاره الأستاذ الإمام.
قال تعالى :
﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ﴾ أي صدق الرسول بما أنزل إليه من هذه السورة وغيرها من العقائد والأحكام والسنن والبينات والهدى تصديق إذعان واطمئنان وكذلك المؤمنون من أصحابه ( عليهم الرضوان ) وقد شهد لهم بهذا الإيمان أثره في نفوسهم الزكية وهممهم العلية، وأعمالهم المرضية والله أكبر شهادة. وقد اعترف كثير من علماء الإفرنج الباحثين في شؤون المسلمين وعلومهم وسائر شؤون أمم الشرق بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على اعتقاد جازم بأنه مرسل من الله وموحى إليه، وكانوا من قبل متفقين على أنه ادعى الوحي لأنه رآه أقرب الطرق لنشر حكمته والإقناع بفلسفته أو لنيل السلطة وهو غير معتقد به.
﴿ كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ﴾ وقرأ حمزة ( وكتابه ) أي كل منهم آمن بوجود الله ووحدانيته وتنزيهه وكمال صفاته وحكمته وسننه في خلقه، وبوجود الملائكة الذين هم السفراء بين الله والرسل من البشر ينزلون بالوحي على قلوب الأنبياء. قال المفسرون ليس المراد بالإيمان بالملائكة الإيمان بذواتهم بل الإيمان بسفارتهم في الوحي، كما يفهم من النظم والترتيب، ولذلك عطف عليهم الإيمان بحقية كتبه وصدق رسله. لكن ما يفيده الترتيب والنظم من إرادة الإيمان بالملائكة من حيث هم حملة الوحي إلى الرسل لا ينافي ملاحظة الإيمان بهم من حيث هم من عالم الغيب بل يستلزمه. وأما البحث عن ذواتهم ما هي وعن صفاتهم وأعمالهم كيف هي ؟ فهو مما لم يأذن به الله في دينه.
والمراد بالإيمان بالكتب والرسل جنسهما أي يؤمنون بذلك إيمانا إجماليا فيما أجمله القرآن وتفصيليا فيما فصله لا يزيدون على ذلك شيئا ويقولون ﴿ لا نفرق بيم أحد من رسله ﴾ قرأ يعقوب وأبو عمرو في رواية عنه ( لا يفرق ) وهو يعود على لفظ كل. وذكر المقول مع حذف القول كثير في الكلام البليغ وله مواضع في الكتاب لا يقف الفهم في شيء منها.
قال الأستاذ الإمام : والمعنى أن من شأن المؤمنين أن يقولوا هذا معتقدين أنهم في الرسالة والتشريع سواء، كثر قوم الرسول منهم أم قلوا وكثرت الأحكام المنزلة عليه أم قلت، وتقدمت البعثة أم تأخرت. وهذا لا ينافي قوله تعالى :﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ] فإن التفضيل ليس في أصل الرسالة والوحي كما تقدم في تفسير الآية. أقول : وفي هذه مزية للمؤمنين من هذه الأمة على غيرهم من أهل الكتاب الذين يفرقون بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض كأنهم لم يعقلوا معنى الرسالة في نفسها إذ لو عقلوها لما فرقوا بين من أوتوها. وقد رأيت غير واحد من أذكياء النصارى يدرك هذه المزية.
آمنوا بما ذكر قائلين بعدم التفريق ﴿ وقالوا سمعنا وأطعنا ﴾ أي بلغنا فسمعنا القول سماع وعي وفهم، وأطعنا ما أمرنا به فيه إطاعة إذعان وانقياد. قال الأستاذ الإمام في الدرس : وقد بينا لكم مرارا أن فرقا بين إيمان الإذعان وبين ما يسميه الإنسان إيمانا واعتقادا، لأنه نشأ عليه وقبله بالتقليد ولم يسمع له ناقضا. فمثل هذا ليس اعتقادا حقيقيا، وقلما ينشأ عنه عمل لأنه تقليد، بقاؤه في الغفلة عن ناقضه، والإذعان ينبه النفس دائما إلى ما تذعن له، ويبعثها دائما إلى العمل به إلا إذا عرض ما لا يسلم منه المرء من الموانع، ولهذا عطف " أطعنا " على " سمعنا ". ولما كان العامل المذعن المخلص يراقب قلبه ويحاسب نفسه على التقصير الذي تأتي به العوارض الطارئة ويلومها على ما دون الكمال عن الأعمال كان من شأن المؤمنين أن يقولوا مع السمع والطاعة :﴿ غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾، أي يسألونه تعالى أن يغفر لهم ما عساه يطرأ على أنفسهم فيعوقها عن الرقي في معارج الكمال الذي دعاها إليه الإيمان. والغفران كالمغفرة : الستر، وستر الذنب يكون بعدم الفضيحة عليه في الدنيا وترك الجزاء عليه في الآخرة. وإنما يطلب هذا بالتوبة واتباع السيئة الحسنة مع الدعاء الذي يزيد في الإيمان، وبذلك يمحى أثر الذنوب من النفس في الدنيا فيرجى أن تصير إليه تعالى في الآخرة نقية زكية. لأن هذا المصير إليه وحده هو الذي يكون وراءه الجزاء بحسب درجات النفوس في معارج الكمال.
قيل : إن الآيتين متعلقتان بما قبلهما لما فيه من ذكر كمال الألوهية الذي يقابله من كمال الإيمان والدعاء ما يناسبه، أو لما فيه من ذكر الحساب والعلم بالخفايا المقتضي للإيمان والدعاء. وقيل إنه لما افتتحت هذه السورة ببيان كون القرآن لا ريب فيه وكونه هدى للمتقين وذكر صفات هؤلاء المتقين وأصول الإيمان التي أخذوا بها وخبر سائر الناس من الكافرين والمرتابين ثم ذكر فيها كثيرا من الأحكام ومحاجة من لم يهتد به من بعض الأمم، ناسب بعد هذا كله ختم السورة بالشهادة للمؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان وهم المهتدون تمام الاهتداء، ولقنهم من الدعاء ما ستعلم حكمته. وهذا الوجه هو الذي اختاره الأستاذ الإمام.
﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ ولا يحاسبها إلا على ما كلفها والتكليف هو الإلزام بما فيه كلفة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، وقال بعضهم هو ما يسهل عليه من الأمور المقدور عليها، وهو ما دون مدى طاقته. والمعنى أن شأنه تعالى وسنته في شرع الدين أن لا يكلف عباده ما لا يطيقون.
قال المفسرون : إن الآية تدل على عدم وقوع تكليف ما لا يطاق لا على عدم جوازه. ولكن هذا لا يلتئم مع قولهم إن الكلام في شأنه وسنته تعالى في التكليف، وستأتي تتمة هذا البحث قريبا. وإذا كان هذا التكليف لم يقع كما قالوا امتنع أن تكون الآية ناسخة لما قبلها لأنه لا يتضمن تكليف ما ليس في الوسع كما تقدم، ولا لقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ [ آل عمران : ١٠٣ ] كما قيل. وفي الجملة وجهان : قيل هي ابتداء خبر من الله تعالى كأنه بشارة بغفران ما طلبوا غفرانه من التقصير وتيسير ما قد يشتم من الآية السابقة من التعسير، وقيل إنها داخلة في قول المؤمنين، فهم بعد سؤال الغفران قد أذنوا بأن يصفوا الله تعالى بهذا النوع من الرأفة بعباد، والحكمة في سياستهم.
﴿ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ﴾ قيل إن الكسب والاكتساب واحد في اللغة نقل عن الواحدي. وقيل إن الاكتساب أخص واختلفوا في توجيهه واختار الأستاذ الإمام في الدرس ما قاله الزمخشري، وقال إنه الصواب، وهو أن الفرق بينهما كالفرق بين عمل واعتمل، فكل من اكتسب واعتمل يفيد الاختراع والتكلف فالآية تشير أو تدل على أن فطرة الإنسان مجبولة على الخير وأنه يتعود الشر بالتكلف والتأسي. والمعنى أن لها ثواب ما كسبت من الخير وعليها عقاب ما اكتسبت من الشر.
وقد اختلف الناس في الإنسان هل هو خير بالطبع أو شرير بالطبع وإلى أي الأمرين يكون أميل بفطرته مع صرف النظر عما يتفق له في تربيته. المسألة مشهورة وقد قال الأستاذ الإمام : لا شك أن الميل إلى الخير مما أودع في طبع الإنسان والخير كل ما فيه نفع نفسك ونفع الناس. وجماع ذلك كله أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك كما ورد في الحديث١ والإنسان يفعل الخير بطبعه وتكون فيه لذته ويميل إلى عبادة الله تعالى لأن شكر المنعم مغروس في الطبع ويظهر أثره في كل إنسان وأقله البشاشة والارتياح للمنعم ولا يحتاج الإنسان إلى تكلف في فعل الخير لأنه يعلم أن كل أحد يرتاح إليه ويراه بعين الرضى.
وأما الشر فإنه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا مقتضى فطرتها ومهما كان الإنسان شريرا فإنه لا يخفى عليه أن الشر ممقوت في نظر الناس وصاحبه مهين عندهم فإن الطفل ينشأ على الصدق حتى يسمع الكذب من الناس فيتعلمه، وإذا رأى إعجاب الناس بكلام من يصف شيئا يزيد فيه ويبالغ كاذبا استحب الكذب وافتراه لينال الحظوة عند الناس ويحظى بإعجابهم، وهو مع ذلك يشعر بقبحه حتى إذا نبز أمامه أحد بلقب الكاذب أو الكذاب أحس بمهانة وخزيها. وهكذا شان الإنسان عند اقتراف كل شر يشعر في نفسه بقبحه ويجد من أعماق سريرته هاتفا يقول له لا تفعل ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه إلا في النادر. ومن النادر أن يصير الإنسان شرا محضا يريد أنه قلما يألف أحد الشر وينطبع به حتى يكون طبعا له لا تشعر نفسه بقبحه عند الشروع فيه ولا في أثنائه ولا بعد الفراغ منه، حتى إنه قال إنه لا يوجد في المليون من الناس شرير واحد يفعل الشر وهو لا يشعر بأنه شر قبيح في نفسه.
والذين ذهبوا إلى أن الإنسان شرير بالطبع أرادوا من الطبع ما يرون عليه غالب الناس ولم يلاحظوا فيه معنى الغريزة ومناشئ العمل من الفطرة. ذلك أن الإنسان ينشأ بين منازعات الكون وفواعل الطبيعة وأحيائها ومغالبة أبناء جنسه على المنافع والمرافق، وقد يدفعه هذا الجهاد إلى الأثرة وتوفير الخير لنفسه خاصة ويلجئه الظلم إلى الظلم فيأتيه متعلما إياه تعلما متكلفا له تكلفا وفي نفسه ذلك الهاتف الفطري يقول له لا تفعل وهو النبراس الإلهي الذي لا ينطفئ. فإذا رجع الإنسان إلى أصل فطرته لا يرى إلا الخير، ولا يميل إلا إليه، وإذا تأمل في الشر الذي يعرض له لم يخفَ عليه أنه ليس من أصل الفطرة وإنما هو من الطوارئ التي تعرض عليها، لا سيما من ينشأ بين قوم فسدت فطرتهم وأشد ما يضر الإنسان في ذلك نظره إلى حال غيره ولذلك أمرنا في الحديث أن ننظر في شؤون الدنيا إلى من دوننا. وهذا الأمر خاص بالافراد بعضهم مع بعض، فإن نظر الواحد إل من دونه يجعله راضيا بما أوتيه من النعم بعيدا عن الحسد الذي هو منبع الشرور. وأما الأمم فينبغي أن ننظر في حال من فوقنا منها لأجل مباراتها ومساماتها.
هذا ما قاله الإمام في هذه المسألة بإيضاح، ومنه يعلم وجه قوله تعالى في الخير كسبت وفي الشر اكتسبت. وكان رحمه الله تعالى يرى أن أحق ما يتعجب له من حال الإنسان كثرة عمل الشر وقلة عمل الخير، ويعلل ذلك بأن عمل الخير سهل وعاقبته حميدة وعمل الشر عسر ومغبته ذميمة. ولا عجب في تعجبه، فقد كان مجبولا من طينة الخير سليم الفطرة من عوارض الشر حتى لم تؤثر في نفسه الزكية الشرور التي كانت تحيط به من أول نشأته إلى يوم وفاته قدس الله روحه ورضي عنه. والمسألة تحتاج زيادة في البسط لكثرة اشتباه الناس فيها ولشد ما عارضنا في تقريرها الطلاب في الدرس والباحثون في المحاضرات. ولئن سألتهم ما هو الشر الفطري في البشر ليقولن حب الشهوات والغضب وما ينشأ عنهما من الأعمال والأخلاق ولولا هاتان الغريزتان لما جلب أحد لنفسه ولا لغيره نفعا، ولما دفع ضرا، ولما ظهر من أعمال الإنسان ما نرى من أسرار الطبيعة ومحاسن الخليقة بل لولاهما لبادت الأفراد وانقرض النوع من الأرض. وفي الفطرة والدين المرشد إلى كمالها ما يكفي لإقامة الميزان القسط فيهما غالبا حتى لا يطلب في الأمة تفريط ولا إفراط ويكون الخير أصلا عاما والشر عرضا مفارقا.
والأصل الذي لا ينازع فيه أحد أن الإنسان قد جبل على أن لا يعمل عملا إلا إذا اعتقد أنه نافع وأن فعله خير له من تركه، وذلك شانه في الترك أيضا، وأن هداياته الأربع الحس والوجدان والعقل والدين كافية لأن يعتقد أن كل خير نافع وكل شر ضار. فإذا قصر في الاهتداء بهذه الهدايات فوقع في الشر كان وقوعه فيه أثرا لتنكب طريق الفطرة لا للسير على جادتها وأكثر أعمال الناس نافعة لهم غير ضارة بغيرهم. ومن التفصيل في المسألة ما تقدم من القول في كذب الأطفال ومنه ما سئلنا عنه في الدرس ومجالس البحث من الميل إلى الزنا مثلا وأجبنا بأن الإنسان لا يميل بفطرته إلى الزنا وإنما يميل إلى الوقاع، وهذا من الخير وأصول الكمال في الفطرة، وإنما الزنا وضع له في غير موضعه وذلك من العوارض الطارئة التي تكثر بترك مقومات الفطرة وحوافظها من نذر الدين وقضايا العقل وآداب الاجتماع. ولقد كنت قبل الوقوف على أحوال الناس لا سيما في بلاد مصر أظن أن الزنا لا يكاد يقع إلا نادرا من بعض أفراد الجاهلين وهذا ما يعتقده كل من ينشأ في بيئة تغلب فيها العفة ولم يعرف حال غيرها ولا أخبار الشاذين فيها. ولو كان فطريا لشعر كل أحد من نفسه بالحاجة إليه كما يشعر بأنه في حاجة إلى زوج يتحد به. ولعل ما أوردناه كاف للمتدبر ولا يتسع التفسير لأكثر منه.
بين الله تعالى لنا شأن المؤمن في السمع والطاعة ثم طلب المغفرة لما يلم به أو يهتم به نفسه من التقصير، وفضله ومنته في عدم تكليف النفس ما ليس في وسعها ثم علمنا هذا الدعاء لندعوه به وهو ﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾ فتركنا ما ينبغي فعله أو فعلنا ما يجب تركه أو جئنا بالشيء على غير وجهه. وهذا يدل على أن من شأن النسيان والخطأ أن يؤاخذ عليهما وسيأتي بيان الوجه فيه. والمؤاخذة المعاقبة، وهي من الأخذ لأن من يراد عقابه يؤخذ بيد القهر.
قال الأستاذ الإمام ومن الناس من قال إن الخطأ والنسيان لا مؤاخذة عليهما لأن الناسي والمخطئ لا إرادة لهما فيما فعلاه نسيانا أو خطأ.
ومثل هذا الكلام يوجد في كتب الأصول والكلام، ويتبعه من المناقشات ما يبعد به عن حدود الإفهام، وإذا رجع الإنسان إلى نفسه وتأمل الأمر في ذاته علم أن الناسي يصح أن يؤاخذ فيقال له لم نسيت ؟ فإن النسيان قد يكون من عدم العناية بالشيء وترك إجالة الفكر فيه وترديده في النفس ليستقر في الذاكرة فتبرزه عند الحاجة إليه. ولذلك ينسى الإنسان ما لا يهمه ويحفظ ما يهمه. فإذا كان النسيان غير اختياري فسببه الذي بيناه آنفا اختياري ولذلك يؤاخذ الناس بعضهم بعضا بالنسيان لا سيما نسيان الأدنى لما يأمره به الأعلى، فإذا عهدت إلى من لك عليه سلطان أو فضل بأن يفعل كذا أو يجيئك في يوم كذا فنسي ولم يمتثل فإنك تسأله وتؤاخذه بما ترميه به من الإهمال وعدم العناية بأمرك، وقد آخذ الله آدم على ذنبه ثم تاب عليه مع قوله فيه :﴿ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ﴾ [ طه : ١١٢ ] وقال في جواب من يسأل يوم القيامة ربه لم حشره أعمى من هذه السورة ﴿ كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ [ طه : ١٦٢ ] وقال في أهل الكتاب ﴿ ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾ [ المائدة : ١٣ ] وفي آية ﴿ فنسوا حظا مما ذكروا به ﴾ [ المائدة : ١٤ ] وهناك آية أخرى وقد فسر النسيان فيها بالترك الذي هو لازمه وذلك لا يمنع الاستدلال بها لأن المراد بالنسيان هنا أيضا وهو ترك الامتثال.
وكذلك الخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط والتروي ولذلك أوجبت الشريعة الضمان في إتلاف الخطأ والدية في جنايته. فإذا أراد أن يرمي صيدا فأصاب إنسانا فقتله كان مؤاخذا في الشريعة، وكذا في القوانين الوضعية.
فثبت أن المؤاخذة على النسيان والخطأ مما جاءت به الشريعة وجرى عليه عرف الناس في معاملاتهم وقوانينهم، ولو لم يكن كل من الناسي والمخطئ مقصرا لما كان هذا، وكما جاز ذلك وحسن يجوز أن يؤاخذ الله الناسي والمخطئ مقصرا لما كان هذا، وكما جاز ذلك وحسن يجوز أن يؤاخذ الله الناس في الآخرة بكل ما يأتونه من المنكر ناسين تحريمه أو واقعين فيه خطأ، ولكنه تعالى علمنا أن ندعوه بأن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وذلك من فضله علينا وإحسانه في هدايتنا فإن هذا الدعاء يذكرنا بما ينبغي من العناية والاحتياط والتفكر والتذكر لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان، أو يقل وقوعهما منا، فيكون ذنبا جديرا بالعفو والمغفرة.
فهذا الدعاء لا يدل على أن حكم الله في النسيان والخطأ أن لا يؤاخذ عليهما بل قصارى ما يؤخذ منه أنهما مما يرجى العفو عنهما إذا وقع العبد فيهما بعد بذل جهده والاحتياط والتحري والتفكر والتذكر وأخذ الدين بقوة، وشعر بتقصيره فلجأ إلى الدعاء الذي يقوي في النفس خشية الله تعالى والرجاء بفضله. فيكون هذا الإقبال على الله تعالى نورا تنقشع به ظلمة ذلك التقصير، ولعل إيراد الشرط بإن للإيذان بان هذا خلاف ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن وأنه لا يقع إلا قليلا. وهذا وما قبله مما زدته على كلام الأستاذ الإمام في هذا المقام.
وقد يرد على هذا التفسير حديث ابن عباس المرفوع عند ابن ماجة وابن المنذر وابن حبان والدارقطني والبيهقي في السنن وهو " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ٢، وهو ضعيف لا يسلم له إسناد ولكنه لكثرة طرقه يعد عندهم من الحسن لغيره. ( قاله في فتح البيان ) : وقد يقال إن مخالفته ل
٢ أخرجه ابن ماجه في الطلاق باب ١٦..