ﰡ
﴿ الم ﴾ [ راجع المسألة الرابعة من المقدمة ص٨ ]
﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي ليس هذا الكتاب محلا لأن يرتاب عاقل منصف في أنه منزل من عند الله، أو في هدايته للبشر، لأن معه من الدلائل ما لو تأمله لم يتطرق إلى نفسه أدنى شك في ذلك. والريب : الشك والظنة والتهمة. مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة، وقال ابن الأثير : هو الشك مع التهمة.
﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ هو هداية وإرشاد لهم. مصدر هداه هُدًى وهِدايةً وهِدية-بكسرهما- فُهدِىَ. ومعناه الدلالة الموصلة إلى البغية، وضده الضلال. والمتقون : هم الذين يجتنبون كل ما يُؤَثِّم من قول أو فعل، أو يمتثلون ما أمر الله به ويجتنبون ما نهى عنه، وقاية لأنفسهم من عذاب الله وسخطه. جمع مُتَّقِ، اسم فاعل من اتقى وأصله او اتقى-بوزن افتعل- من وقَّى الشيء وقاية، أي صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه. فإذا بنيت منه افتعل قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء الأخرى فصارت اتقى. وخص المتقين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون به.
﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ﴾ يعدلون اركانها، ويوفون شرائطها، ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها. من اقام العود إقامة إذا أزال عوجه، كقومه.
﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في سبل الخير تطوعا أو فرضا. من الإنفاق، وهو إخراج المال وإنفاده وصرفه. يقال : نِفَقَ-كفرِح ونصر- نَفِد وفنِىَ أو قلَّ. وانفق ماله أنفده، والهمزة للتعدية. وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب، ومنه : نافق فلان، والنافقاء، والنفق.
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي مستو عندهم إنذارك وعدمه، فهم لا يصدقون في أي حال. والإنذار : إخبار معه تخويف في مدة تتسع للتحفظ من المخوف، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار، لا إنذار. وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله تعالى.
والآية فيمن شافههم النبي صلى الله عليه وسلم بالإنذار وهم مصرون على الكفر والجحود، وقد حقت عليهم كلمة العذاب لسبق علم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون، لسوء استعدادهم وفساد فطرهم.
وسواء : اسم مصدر بمعنى الاستواء خبر " إنّ " والجملة الاستفهامية بعده مرفوعة به على الفاعلية لتأويلها بمفرد.
﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ غطاء. والغشاوة : ما يغطى به الشيء، من غشاه إذا غطاه يقال : غشية غشاوة-مثلثة-وغشاية، سترة وغطاء. وهو هنا غطاء التعامي عن آيات الله ودلائل توحيده.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ أصل العذاب : المنع. يقال : عذب الفرس-كضرب-امتنع عن العلف. وعذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذب وعذوب. ثم أطلق على الإيجاع الشديد : لما فيه من المنع عن اقتراف الذنب. والعظيم : الكبير، من عظم الشيء، وأصله كبر عظمه، ثم استعير لكل كبير، محسوسا كان أو معقولا، عينا كان أو معنى.
أو المراد أن صورة صنيعهم مع الله حيث أظهروا وأخفوا الكفر، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا وأخر عقابهم إلى الآخرة-تشبه صورة المخادعة، وهو كقوله تعالى :﴿ إنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُم ﴾١
﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي يفطنون إلى أن وبال خداعهم عائد عليهم بالشقاء الأبدي. يقال : شعر بالشئ –كنصر وكرم- أي فطن له، ومنه الشاعر لفطنته، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني ودقيقها.
﴿ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ مؤلم، أي موجع وجعا شديدا. من الم –كفرح- فهو ألم. وآلمه يؤلمه إيلاما، أوجعه إيجاعا شديدا.
﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ ﴾ ساخرون مستخفون بالمؤمنين. والاستهزاء : السخرية والاستخفاف، يقال : هزأ منه وبه –كمنع وسمع-واستهزأ به، أي سخر، كعجب واستعجب.
﴿ وَيَمُدُّهُمْ ﴾ يمهلهم ويملى لهم، ليزدادوا إثما. من المد بمعنى الإمهال، يقال : مده في غيه-من باب رد- أمهله وطول له. أو يزيدهم ويقويهم على وجه الإملاء والإرخاء، يقال : مد الجيش وأمده، إذا ألحق به ما يقويه ويكثره. وقيل : أكثر ما يستعمل المد في المكروه. والإمداد في المحبوب.
﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾ في ضلالهم وكفرهم. والطغيان : مجاوزة الحد. ومنه طغا الماء : أي ارتفع.
﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ يعمون عن الرشد. أو يتحيرون ويترددون بين الإظهار والإخفاء، أو بين البقاء على الكفر وتركه إلى الإيمان. يقال : عَمِهَ-كفرح ومنع- عَمَهًا، إذا تردد وتحير، فهو عَمِهٌ وعامِهٌ، وهم عَمِِهُونَ وعُمّه، كركع. والعَمَه في البصيرة كالعمى في البصر وهو التحير في الأمر. والجملة حال من الضمير في " يمدهم "
﴿ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ أي أوقد نارا عظيمة. والسين والتاء مزيدتان وليستا للطلب، كاستجاب وأجاب. وتنكير " نارا " للتفخيم. والإضاءة : فرط الإنارة. شبهت حيرة المنافقين في ضلالهم وشدة الأمر عليهم، بما يكابده من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل. أو شبه المنافق بموقد النار، وإظهاره الإيمان لاجتناء ثمراته بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بإهلاكه، وإفشاء حاله بانطفاء النار وذهاب نورها.
﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾ تصحب الأمطار الشديدة التي تحدث عند تكاثف السحب في السماء وحجبها ضوء الشمس عن الأرض-ظلمات كأنها سواد الليل، ورعد يصم الآذان، وبرق يخطف الأبصار، وصواعق تحرق ما تصيبه. و هذه ظواهر مدركة بالحواس، واقعة في كل زمان، تحدث عند حدوث أسبابها التي أوجدها مقدر الأسباب والمسببات، ومودع الخواص في المخلوقات، تعالى شأنه وعظمت قدرته.
و قد بينت العلوم الكونية أسباب حدوثها، فليراجعها من أراد الوقوف عليها فيما ألف في الكهرباء التي أودعها الله تعالى في الأجسام وفي آثارها وتفاعلها. ففيها البيان الشافي.
﴿ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ﴾ وإذا اختفى عنهم وقفوا عن المشي في أماكنهم، متحيرين مترصدين ومضة أخرى ليصلوا إلى مقاصدهم. يقال : قامت الدابة إذا وقفت. وقام الماء إذا جمد
﴿ أَندَاداً ﴾ امثالا ونظراء تعبدونها وتسمونها آلهة، وتعتقدون فيها النفع والضر، وتجعلون لها ما لله تعالى وحده، فأشبهت حالكم حال من يعتقد أنها آلهة حقيقة، قادرة على أن تدفع عنكم عذاب الله وتمنحكم ما لم يرد الله بكم من خير. جمع ندن وهو مثل الشيء الذي يضاده و ينافره ويتباعد عنه. وأصله من : ند البعير يند ندا وندادا وندودا، نفر وذهب على وجهه شاردا.
﴿ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم ﴾ أي ادعوا إلى المعارضة من يحضركم، أو من ينصركم-تزعمكم- من دون الله، أو من يشهد لكم أنكم أتيتم بما يماثله. جمع شهيد، بمعنى حاضر أو ناصر، أو قائم بالشهادة.
﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ يشبه بعضه بعضا في الصورة والرائحة، ويختلف في اللذة والطعم، أو في الشرف والمزية والحسن. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما- : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامى، وفي الصحيحين :( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين لرأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلي بشر )
﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ نساء مختصات بهم، مطهرات غاية التطهر من كل دنس وقذر، حسي ومعنوي، لا كنساء الدنيا. جمع زوج، ويطلق على الذكر والأنثى، قال تعالى :﴿ أسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّة ﴾١
﴿ ب َعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ البعوض : ضرب من الذباب، ويطلق على البق المعروف وعلى الناموس. " فما فوقها " أي في الحجم. او في المعنى الذي وقع التمثيل فيه، وهو الصغر والحقارة.
﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ الفسق : الخروج عن الطاعة، من قولهم : فسق الرطب فسوقا- من باب قعد- إذا خرج عن قشره. ويقع بالقليل والكثير من الذنوب، ولكن تعورف فيما كان كثيرا. وهو أعم من الكفر، فيقال للعاصي : فاسق، لخروجه عما ألزمه العقل واقتضته الفطرة. والمراد بالفاسقين هنا : الكفار جميعا، أو المنافقون، أو أحبار اليهود المتعنتون، بدليل الأوصاف الآتية. والإضلال : خلق فعل الضلال في العبد، كما أن الهداية خلق الاهتداء فيه.
ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره، ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه للنبوة والرسالة، قال تعالى :﴿ جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً ﴾٣، وقال تعالى :﴿ اللهُ يَصطَفِي منَ المَلاَئِكةِ رُسُلاً ومِنَ النَّاسِ ﴾٤، ﴿ يُنَزِّلُ المَلاَئِكةَ بالرُّوحِ مِن أَمرِهِ عَلَى مَن يَشَاء من عبَلدِه ﴾٥
جمع ملك، والتاء لتأنيث الجمع، واصله ملاك، من ملك، نحو شمال من شمل، والهمزة زائدة، وهو مقلوب مألك، ثم سهلوه فقالوا : ملك. وقيل : إن ملأك من لأك إذا أرشل، ومنه : الألوكة، أي الرسالة.
﴿ خَلِيفَةً ﴾ هو من يخلف غيره و ينوب منابه، فهو فعيل بمعنى فاعل، والتاء فيه للمبالغة. والمراد يه آدم عليه السلام، لأنه كان خليفة الله في الأرض. وكذلك سائر الأنبياء، استخلفهم الله تعالى في عمارة الأرض وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وإجراء أحكامه عليهم، وتنفيذ أوامره فيهم. وقيل : آدم وذريته، لأنه يخلف بعضهم بعضا في عمارة الأرض، واستغنى بذكره عن ذكره ذريته لكونه الأصل.
﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة، ويضاده الصلاح. يقال : فسد الشئ فسادا وفسودا، وأفسده غيره. وقد عزف الملائكة وقوع ذلك من الإنسان بإخبار من الله تعالى أو إلهام، ولم يقص علينا فيما حكى الله عنهم للإيجاز على عادة القرآن. والاستفهام : استكشاف عن الحكمة الخفية في هذا الاستخلاف، مع ما سيترتب عليه من الإفساد وسفك الدماء.
﴿ وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ﴾ السفك : الصب و الإهراق، يقال : سفكت الدم والدمع سفكا – من باب ضرب- صببته، والفاعل سافك وسفاك. والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإنسان ظلما وعدوانا.
﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ﴾ ننزهك عما يليق بعظمتك، تنزيها متلبسا بحمدك والثناء عليك. من التسبيح، وهو تنزيه الله من السوء على وجه التعظيم، وهو مشتق من السبح، وهو المر السريع في الماء أو في الهواء، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء.
﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ نطهر ذكرك عما لا يليق بك، تعظيما لك وتمجيدا. من التقديس بمعنى التطهير، ومنه : الأرض المقدسة، وروح القدس. واسمه تعالى القدوس، أي الطاهر. واللام في " لك " زائدة لتأكيد التخصيص.
٢ ية ٦ التحريم.
٣ آية ١ فاطر.
٤ آية ٧٥ الحج.
٥ آية ٢ النحل.
و منافعها. أو ألهمه اجناس الأشياء وانواعها، ومعرفة أسمائها وخواصها، ثم عرض هذه المسميات على الملائكة فقال لهم على سبيل التعجيز :﴿ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فيما اختلج في خواطركم من أنى لا أخلق خلقا إلا انتم أعلم منه وأفضل. فلما اعترفوا بعجزهم وقالوا :﴿ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ وليس ذلك منه. أمر آدم أن ينبئهم بها، فأنبأهم بها إظهارا لأحقيته في الاستخلاف في الأرض التي من شانها أن توجد فيها هذه المسميات.
﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ هو أبو الجن، مشتق من الإبلاس، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس. وفعله أبلس، ولم ينصرف لأنه معرفة، ولا نظير له في الأسماء فأشبه الأعجمية. وقيل : هو أعجمي لا اشتقاق له، فلم ينصرف للعلمية والعجمة. والاستثناء منقطع، وقيل متصل، وأن إبليس كان من الملائكة، ورجحه الطبري
﴿ الْجَنَّةَ ﴾ جمهور أهل السنة على أنها جنة المأوى، وهي دار الثواب والخلود للمؤمنين في الآخرة. وذهب آخرون منهم أبو مسلم الأصفهاني : إلى أنها بستان في الأرض خلقه الله امتحانا لآدم وزوجه. وساق أدلة الفريقين الإمام ابن القيم ولم يرجح شيئا منها. والأحوط الأسلم : الكف عن تعيينها وعن القطع به، وإليه مال أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدي في التأويلات
﴿ رَغَداً ﴾ أي أكلاً كثيرا واسعا بلا عناء، يقال : رغد عيشه-كسمع وكرم- رغدا ورغدا، اتسع وطلب. وارغد القوم : اخصبوا وصاروا في رغد من العيش.
﴿ هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ أبهم القرآن تعيينها ولم يقم دليل عليه، فالأولى عدم القطع به. والتاء فيها للوحدة الشخصية، ولذلك ظن آدم أنه إنما نهى عن عينها فأكل غيرها من جنسها. وقيل : للوحدة النوعية، وإنما أكل منها ناسيا أو متأولا أن النهي نهى إرشاد فقط.
الهبوط : النزول من أعلى إلى أسفل، ضد الصعود. يقال : هبط يهبط و يهبط، أي نزل من علو إلى أسفل. والخطاب لآدم وزوجه، كما قال تعالى ﴿ قَالَ اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً ﴾١ وهما المقصودان بالخطاب في قوله تعالى :﴿ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾٢ والقصة واحدة.
﴿ وَمَتَاعٌ ﴾ المتاع : اسم لما يستمتع به من أكل وشرب ولبس وحياة وأنس وغير ذلك، من متع النهار متوعا إذا ارتقع. ويطلق على الانتفاع الممتد الوقت.
٢ ية ٢٤ الأعراف.
﴿ التَّوَّابُ ﴾ الرجاع على عباده بقبول توبتهم. أو بإعانتهم وتوفيقهم إليها. ويقال للعبد : تواب، بمعنى كثير التوبة والندم والاستغفار من الذنوب. من التوب وهو الرجوع، لرجوعه إلى ربه في ذلك ويلزمه ترك الذنب. والتوبة في الشرع : ترك الذنب لقبحه، والندم على فعله، والعزم على ترك معاودته، وتدارك ما فات من حقوق العباد بقدر الإمكان.
﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي ﴾ أدوا ما عاهدتموني عليه من الإيمان والتزام الطاعة، وأتموه واحفظوه. يقال أوفى بعهده ووفى –مشددا ومخففا، إذا أتمه ولم ينقض حفظه، والوفاء ضد الغدر.
﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ فخافوني في نقض العهد، أو في جميع ما تأتون وتذرون. من الرهبة، وهي الخوف مطلقا، أو خوف معه تحرز. وفعله كعلم.
﴿ بِالْبِرِّ ﴾ هو التوسع في الخير، مأخوذ من البر-بالفتح- وهو الفضاء الواسع. واصل كل بر الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكان أحبار اليهود يأمرون الناس بالطاعة والكف عن المعصية ولا يفعلون ذلك.
من الخشوع وهو الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يظهر على الجوارح، قال تعالى :﴿ الذِينَ هُم فِي صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ ﴾٢
٢ ية ٢ المؤمنون.
﴿ عَدْلٌ ﴾ فدية وبدل. و أصل العدل-بالفتح- : ما يساوي الشيء قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه. و العدل-بالكسر- : المساوي من الجنس، ومن العرب من يكسر العين من معنى الفدية. و قيل للفدية : عدل لما فيها من معنى المساواة والمماثلة والمعادلة.
﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ يعانون، من النصر وهو العون. والمراد أنهم لا يمنعون من عذاب الله.
﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ ﴾ يبغون لكم أشد العذاب وأفظعه. من السوم، وهو مطلق الذهاب أو الذهاب في ابتغاء الشيء. يقال : سامت الإبل فهي سائمة، أي ذهبت إلى المراعى. وسام السلعة : إذا طلبها وابتغاها. والسوء-بالضم- كل ما يغم الإنسان من أمر دنيوي أو أخروي. وهو في الأصل مصدر، ويؤنث بالألف فيقال : السوءى.
﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ﴾ يستبقون بناتكم ولا يقتلون ليستخدموهن. يقال : استحياه، أي استبقاه. وأصله : طلب له الحياة والبقاء.
﴿ لاء ﴾ اختبار وامتحان بالمحن المقتضية للصبر، أو المنح المقتضية للشكر، أولهما للترغيب والترهيب يقال : بلونه بلوا وبلاء، اختبرته وامتحنته. والاسم البلوي والبلية والبلوة.
﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾ فاحاطت بكم نار من السماء أحرقتكم، عقابا لكم لفرط عنادكم، أو لظلمكم بطلب رؤية الحق في الدنيا. ونزول الصواعق المهلكة من السماء واقع مشاهد.
ومن المفسرين من حمل الموت على الغشيان والهمود، كما في قوله تعالى :﴿ ويَأتِيهِ المَوتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾١، والبعث على الإفاقة. ومنهم من حمل الموت على الجهل، كما في قوله تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيتاً فَأَحيينَاهُ ﴾٢ و البعث على التعليم.
٢ ية ١٢٢ الأنعام.
﴿ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ﴾ " المن " : مادة حلوة لزجة تشبه العسل-كالطل- تسقط على الشجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. " والسلوى " : طائر معروف بالسماني، أو طير يشبهه، أطعموا بهما في التيه. وقيل : هما كناية عما أنعم الله به عليهم، وهما شئ واحد، سمي منا لامتنان الله به عليهم، وسلوى لتسليهم به.
﴿ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ﴾ خضعا متواضعين خاشعين، شأن التائب من ذنوبه.
﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ أي شأنك يا ربنا حطة، أي لن تحط عنا ذنوبنا وتغفرها. والحطة-كجلسة- اسم للهيئة، من الحط بمعنى الوضع والإنزال، وأصله إنزال الشيء من علو. يقال : استحطه وزره، سأله أن يحطه عنه وينزله. أمروا أن يقولوا قولا دالا على التوبة وإظهار الندم، فخافوا وجهروا بما يدل على الكفر والعصيان.
﴿ يَفْسُقُونَ ﴾ يخرجون عن الطاعة. يقال : فسق فلان عن أمر ربه-كنصر وضرب وكرم- فسقا وفسوقا، إذا خرج عن حجر الشرع١
﴿ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ﴾ لكل سبط عين تجرى بالماء يشرب منها، حتى لا تقع بينهم شحناء وكانوا متضاغنين. وكانت العيون بالبر الشرقي من مصر، قرب مدينة السويس.
﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ أي لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم في الأرض. والمقصود النهي عما كانوا من التمادي في الفساد. مأخوذ من العيث وهو اشد الفساد، يقال : عثي-كرضى-عثوا إذا افسد أشد الإفساد
﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ جعلتا محيطتين بهم، إحاطة القبة بمن ضربت عليه، مجازاة لهم على كفرانهم. وجملتهم في غالب الأمر في ذلة ومسكنة. أو هم مستحقون للذلة والهوان، بسبب ارتكاب المعاصي والاعتداء على حدود الله في كل شئ، والإفساد في الأرض وجحود الحق عنادا، وقتل الأنبياء ظلما، وبما طبعوا عليه من الكذب والنفاق، والمكر السيئ، والخداع، وعبادة المال وشدة الحرص على جمعه والشح به.
وأما إحاطة المسكنة بهم فلما يبدو علليهم من الاستكانة والخضوع عند الضعف، والخوف من القهر. والمسكنة : الخضوع-مفعلة من السكون-لأن صاحبها قليل الحركة والنهوض، لما به من الحاجة والذلة وشدة المحنة.
﴿ وَالنَّصَارَى ﴾ جمع نصران بمعنى نصراني، كندامى وندمان، والياء في نصراني للمبالغة، كما في أحمري. سموا بذلك في الأصل لأنهم نصروا المسيح.
﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾ جمع صابئ، وهو الخارج من دين إلى دين يقال : صبأ الظلف والناب والنجم-كمنع وكرم-إذا طلع. والمراد بهم الخارجون من الدين الحق إلى الدين الباطل. وهم قوم يعبدون الكواكب أو الملائكة، ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم.
﴿ خَاسِئِينَ ﴾ مبعدين عن رحمة الله، مطرودين كما يخسأ الكلب. و الخسوء : الطرد والإبعاد. يقال خسأت الكلب خسأ وخسوءا –من باب منع- طردته و زجرته، وذلك إذا قلت له اخسأ. وخسأ الكلب –كخضع- بعد والجمهور على انهم مسخوا حقيقة. وعن مجاهد : لم تمسخ صورهم، ولكن مسخت قوبهم، فلم تقبل وعظا ولم تع زجرا. فمثلوا هنا بالقردة، كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التورَاةَ ثُمّ لَم َيحمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحمِلُ أَسفَاراً ﴾٢ والقردة من أخس الحيوان وأدنئه.
٢ اية ٥ الجمعة.
﴿ الْحَرْثَ ﴾ هي الأرض المهيأة للزرع، أو نفس الزرع. ويطلق الحرث على إلقاء البذر في الأرض، وعلى إعدادها للزراعة.
﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾ بريئة من العيوب. من السلامة، وهي التعري من الآفات.
﴿ لاَّشِيَة فِيهَا ﴾ لا لون فيها يخالف لون سائر جلدها. واصلها " وَشيٌ " لحقها من النقص ما لحق رنة وعدة. يقال : وشيت الثوب أشيه وشيا وشية، إذا جعلت فيه أثرا يخالف معظم لونه.
﴿ أَمَانِيَّ ﴾ أي لكن يعتقدون أكاذيب وأباطيل افتعلها أحبارهم، فأخذوها عنهم تقليدا لهم لفرط جهلهم. جمع أمنية، وهي الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء وتقديره. من منى الشيء، قدره وأكثر ما يكون التمني في تصور الشيء عن ظن وتخمين، فصار الكذب له املك، و ساغ أن يعبر عن الكذب بالتمني، وعن الأكاذيب بالأماني، كما فسره مجاهد. والاستثناء منقطع.
﴿ بَلَى ﴾ تمسكم النار مخلدين فيها. وهي حرف جواب كنعم وأجل، إلا أنها لا تقع جوابا إلا لنفي متقدم، إبطالا ونقضا وإيجابا له، سواء دخله استفهام أم لا. ففي نحو : ما قام زيد. تقول بلى، أي قد قام. وفي نحو : أليس زيد قائما ؟ تقول بلى، أي هو قائم. ومنه :﴿ أَلَستُ بِرَيِّكُم قَالُوا بَلَى ﴾١ أي أنت ربنا ولو قالوا نعم، لكفروا.
﴿ بِالإِثْمِ ﴾ هو اسم للفعل المبطئ عن الثواب، وجمعه آثام. ولذا يطلق على الذنب والمعصية، يقال أثم يأثم إثما ومأثما، فهو آثيم وأثيم. وقيل : اسم للفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم. أو ما تنفر منه النفس، ولا يطمئن إليه القلب.
﴿ أُسَارَى ﴾ جمع أسير بمعنى مأسور، وهو من يؤخذ على سبيل القهر والغلبة فيشد بالإسار، وهو القد. والقد : سير يقد من جلد غير مدبوغ.
﴿ تُفَادُوهُمْ ﴾ تنقذوهم من الأسر بالفداء. يقال : فاداه وفداه، أعطى فداءه فأنقذه.
﴿ خِزْيٌ ﴾ بلاء وفضيحة. مصدر خزى الرجل يخزي خزيا وخزى : وقع في بلية فذل بذلك، وهو خزيان، وهن خزايا. وأخزاه الله فضحه.
﴿ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ هو جبريل عليه السلام، قال تعالى ﴿ قُل نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ ﴾١ والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الروح المقدس، ووصف بالقدس لطهارته عن مخالفة ربه في شئ وسمي روحا لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة الحياة للبشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب. والروح تحيا به الأجسام.
﴿ فَبَآءواْ بِغَضَبٍ ﴾ رجعوا بغضب فوق غضب. يقال : باء بإثمه يبوء رجع، وهما كفرهم بعيسى عليه السلام، و كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ أي نزله عليك وذكر القلب لأنه هو القابل الأول للوحي، ومحل الحفظ والفهم.
﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ الضمير للشياطين أو لليهود. وقد ذكر العلامة ابن خلدون في مقدمته : أن السحر والطلمسات علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثير في عالم العناصر بغير آلة ولا معين. أو بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد وبعض الموجودات. فالنفوس الساحرة تؤثر بالهمة والتوجه في الأشياء فإن كان بغير معين وآلة فهو السحر، وإن كان بمعين فهو الطلسم. وأن هذه العلوم كانت شائعة في أهل بابل من السريانيين والكلدانيين، وفي أهل مصر من القبط وغيرهم قبل بعثة موسى عليه السلام. وكان لها في زمن بعثته أسواق نافقة، ولهذا كانت معجزته من جنس ما يدعون ويتنازعون فيه.
وهناك نوع ثالث من التاثير، وهو تأثير النفوس في القوى المتخيلة بإلقاء أنواع من الخيالات والمحاكاة والصور فيها، حتى ترى كأنها واقعية وليست إلا خيالا، وهو المسمى بالشعوذة. وأن خلاف العلماء في أن السحر حقيقة أو تخييل خلاف لفظي. فالقائلون بأن له حقيقة نظروا إلى النوعين الأولين، والقائلون بأنه تخييل نظروا إلى النوع الثالث. والشريعة لم تفرق بين السحر والطلمسات وحرمتها جميعا لما فيها من الضرر.
وأما النوع الثالث فقد قال ابن خلدون : إنه ملحق بهذه ين النوعين في التحريم، لما فيه من الضرر والحق أن لا يحرم منه إلا ما فيه مضرة، وأما ما ليس فيه مضرة فلا بحرم، وإنما ينبغي تركه لأنه لا يعني الجادين، و ( من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ). وما جاء في الحديث من عد السحر من الكبائر وعده كفرا، إذا كان الساحر يتجه في رياضته بالتعظيم والعبادة والخضوع والتذلل لغير الله تعالى، فهو محمول على النوعين الأولين.
ثم ذكر الفرق بين المعجزة والسحر بأنه راجع إلى التحدي، وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما ادعاه، وأن الساحر مصروف عن مثل هذا التحدي، فلا يصح منه. ووقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور، فراجعه. وفي الآية إشارة إلى أن السحر موجب للكفر.
﴿ وما أنزل على الملكين ببابل ﴾ أي ويعلمون ما أنزل على المالكين : هاروت وماروت، ببابل، أي ما ألهماه وعلماه من السحر. وعطفه على ما قبله لتنزيل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات، وكان نزولهما لتعليم السحر ابتلاء من الله تعالى
وامتحانا للناس. فمن تعلمه وعمل به كفر، من تعلمه وتوقي العمل به ثبت على الإيمان، والله تعالى وامتحانا للناس، كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وكانا يحذران الناس أشد التحذير من العمل به، فلا بصفاته لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال فيه حتى يبذلا له النصيحة فيقولا له :﴿ إنما نحن فتنة فلا تكفر ﴾.
وكذلك كان للتمييز بين السحر والمعجزة، حيث كثر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة من الشبه، ويميطا الأذى عن الطريق.
والطاهر أنهما نزلا بصورة آدمية، ولا بعد في ذلك، فقد كان جبريل عليه السلام ينزل بصورة دحية الكلبي وغيرة.
وما يروه المفسرون في قصة هاروت وماروت لا أصل له، وهومن أكاذيب الإسرائيليين فلا يعول عليه.
وقد أنكره من الأئمة : القاضي عياض والإمام الرازي والشهاب العراقي وابن كثير والآلوسي.
﴿ إنما نحن فتنة ﴾ ابتلاء من الله، واختبار للناس، أيتبعون النصح ولا يعملون السحر، أم يخالفونه ويعملون السحر. من الفتن، إدخال الذهب النار لتظهر جودته من ردائته. ثم استعمل في الاختبار والامتحان بالمحن والشدائد، وبالمنح واللطائف، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة. وأكثر ما تستعمل في الفتنة : الامتحان بالمحن. وعليه يحمل تفسير بعضهم الفتنة بالمحنة.
وابتلاء الله العباد، ليس ليعلم أحوالهم، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لانهاية له على سبيل التفصيل من الأزل، ولكن ليعلم العباد أحوالهم من ظهور جودة ورداءة، وهي الأحوال التي يعلمها الله تعالى أزلا.
﴿ خلاق ﴾ نصيب من الخير، هو ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة وتخلق به. وفسر الخلاق : بالقوام وبالقدر، والمعاني متقاربة.
ونحفظه.
وكانت هذه اللفظة بلغة اليهود سبا قبيحا، أو بمعنى : اسمع لا سمعت. أويا أحمق، من الرعونة، وهي الحماقة والخفة. فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين، كما قال تعالى :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلام عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ﴾ ١. فنبهي المؤمنون عن مخاطبته بهذه اللفظة، قطعا لألسنة اليهود حتى لا يتخذوها ذريعة إلى سبه صلى الله عليه وسلم، وأمروا بأن يقولوا ما في معناها، مما لا يمكن التذرع به إلى ذلك، وهو انظرنا، أي انتظرنا وتأن، أو انظر إلينا. وهذه الآية أصل في سد الذرائع.
ويرجع عنه غدا، وأنه ما يقول إلا من تلقاء نفسه-أنزل الله هذه الآية بيانا لوجه حكمة النسخ، وأنها رعاية مصالح العباد، وأن النسخ من عند الله لا من عند محمد صلى الله عليه وسلم.
والنسخ : الرفع والإزالة، يقال : نسخت الشمس الظل، إذا أذهبته وأبطلته، ونسخ الآية تارة برفع حكمها مع بقاء تلاوتها، وتارة برفع تلاوتها مع بقاء حكمها، وتارة برفعهما معا. وتارة يكون النسخ يبدل، وتارة بغير بدل، كما تقرر في الأصول. والمراد به في الآية نسخ الحكم ببدل.
وإنساء الآية – من النسيان- إذهابها من القلوب حتى لا تذكرها، وهو النوع الثالث من النسخ والمعنى : ما ننسخ من آية فنرفع حكمها، أو نمحو من القلوب، نأت بدلها بما هو أنفع لكم وأسهل، وأكثر لأجركم. أو بمثلها في المنفعة والثواب. فما نسخ بالأخف فهو في العمل أيسر، وما نسخ بالأشد فهو في الثواب أكثر، وقرئ " ننسأها "، من النسئ بمعنى التأخير، أي نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ.
والصفح : ترك اللوم والعقاب عليه، وهوأبلغ من العفو، إذ قد يعفوالإنسان ولا يصفح.
﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ أي بأمره بقتالهم. أوبالجزاء يوم القيامة. والأمر على الأول واحد الأوامر، وعلى الثاني واحد الأمور.
﴿ قل هاتوا برهانكم ﴾ أي أحضروا حجتكم على ما ادعيتموه من اختصاصكم بدخول الجنة. و " هاتوا " فعل أمر، وهاؤه أصلية. والبرهان على صحة الدعوى، مصدر بره يبره إذا أبيض، سميت به الحجة لنصوع دلالتها على المطلوب،
ومنه : أبره إذا أتي بالبرهان. أومن البره، وهو القطع، ومنه : البرهة وهي القطعة من الزمان، وسميت به الحجة لأن بها قطع دعوى الخصم. أومن البرهنة بمعنى البيان.
﴿ قال الذين لا يعلمون ﴾ قال مشركو العرب الذين لا كتاب لهم يتعلمون منه في محمد وأصحابه :
إنهم ليسوا على شيء من الدين. كما قال أهل الكتاب فيمن خالفهم : لستم على شيء من الدين، فتشابهت قلوبهم.
﴿ ما كان لهم... ﴾ أي ما صح لهم دخولها إلا خائفين من الله تعالى، لمكانها من الشرف والكرامة بإضافة إليه تعالى. أومن المؤمنين أن يبطئوا بهم، فضلا عن أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين.
والأرض عبيدا وملكا وخلقا، وتدبيرا وتسخيرا وتصريفا، وكلها مربوبة له تعالى، فكيف ينسب إليه منها ولد.
﴿ سبحانه ﴾ تنزيها له عما هو نقص في حقه، ومحال عليه من اتخاذ الولد، لاقتضاء الوالدية النوعية، والجنسية
والتناسل والافتقار، والتشبيه والحدوث. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويكافئهم ".
﴿ كل له قانتون ﴾ مطيعون طاعة تسخير وانقياد، خاضعون، لا يستعصى منهم شيء على مشيئته وتكوينه. شاهدون بلسان الحال والمقال بوحدانيته. من القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا
وكرها وظلالهم بالغدو والآصال }١.
صفة مشبهة من أبدع، والذي ابتدعها من غير أصل ولا مثال هو الله تعالى، الذي ابتدع المسيح عليه السلام من غير أب بقدرته سبحانه، وابتدع عزيرا والملائكة، فكيف يضيفون إليه تعالى بنوة شيء من هذه المخلوقات.
﴿ وإذا قضى أمرا... ﴾ أي إذا أراد سبحانه إحداث أمر من الأمور حدث فورا، قال تعالى :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾١ وهو ما ذهب من أهل السنة تمثيل لحدوث ما تتعلق به إرادته تعالى بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وليس المراد أنه إذا أراد إحداث أمر أتى بالكاف والنون، ففي الكلام استعارة تمثيلية.
لحدوث ما تتعلق به إرادته تعالى بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وليس المراد أنه إذا أراد إحداث أمر أتى بالكاف والنون، ففي الكلام استعارة تمثيلية.
وذهب آخرون إلى أن الأمر ب " كن " محمول على حقيقته، وأنه تعالى أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بكلمة " كن " أزلا.. ومن ذلك عيسى عليه السلام خلق بكلمة " كن " فكان.
﴿ الذين من قبلهم ﴾ هم أهل الكتاب.
أو الاختبار لإظهار ما في المبتلى من جودة ورداءة، وطاعة وعصيان، دون التعرف لحاله والوقوف على حقيقة أمره. وهو تعالى يختبر عباده تارة بالمضار ليصبروا، وأخرى بالمسار لشكروا، وفي كلا الحالين تبدو النفس على حقيقتها.
﴿ فأتمهن ﴾ أتى بهن على الوجه الأكمل، وأداهن كما يليق به عليه السلام، قال تعالى :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾١.
﴿ مقام إبراهيم ﴾ هو الحجر الذي قام إبراهيم علي السلام عند بناء البيت. وهو على المشهور تحت المصلى المعروف الآن.
أ ومنقادين لك، قائمين بشرائع الإسلام. من استسلم : إذا انقاد.
﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ علمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا : كالطواف والسعي والوقوف.
أو متعبداتنا التي تقام فيها شرائعه،
كمنى وعرفات ونحوهما. جمع منسك – بفتح السين وكسرها – بمعنى الفعل، وبمعنى الموضع. من النسك – مثلثة النون، وبضمها وضم السين – وهو غاية العبادة، وشاع في الحج، لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العبادة.
﴿ ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴾ أي يعلمهم معاني الكتاب وحقائقه، وهو القرآن. ويعلمهم الحكمة، وهي في الأصل إصابة الحق في القول والعمل. والمراد بها هنا : الفقه في الدين ومعرفة أسراره، وحكمه ومقاصده التي يكمل بها العلم بالكتاب.
﴿ ويزكيهم ﴾ يطهرهم من أرجاس الشرك وأدران المعاصي. يقال : زكاه الله أي طهره وأصلحه. ومنه زكاة المال، لتطهره بها وطهارة النفس بإخراجها. وأصل الزكاء – بالمد - : النماء والزيادة، ومنه :
زكا الزرع والأرض زكاء وزكوا، أي نما ونمت.
وتحنف : تحرى طريق الاستقامة. والحنيف : المسلم. و﴿ حنيفا ﴾ حال من إبراهيم.
و الصبغة – كجلسة – من صبغ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، عبر بها عن التطهير بالإيمان بما ذكر، لظهور أثره عليهم، كظهور أثر الصبغ على المصبوغ،
ولتداخله في قلوبهم تداخله وصيرورته حلية لهم. و " صبغة الله " مصدر مؤكد
ل " آمنا "، منصوب بفعل مقدر، أي صبغنا الله صبغته.
واختار الفخر ما ذهب إليه أبو مسلم من أن المعنى : والذين يتوفون منكم وقد أوصوا وصية لأزواجهم بالنفقة والسكنى حولا، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الشارع لهن، وهي أربعة أشهر وعشر فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف، أي الزواج الصحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة.
﴿ وماجعلنا القبلة ﴾بيان للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة له ثم صرفه عنها إلى الكعبة. أي أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك لبيت المقدس هذه المدة ثم صرفك عنه، إنما كان ليظهر حال من يتبعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه مرتدا عن دينه، فنجازي كلا بعمله. وعبر عن ذلك بالعلم لترتبه عليه.
﴿ ممن ينقلب على عقبيه ﴾ يرتد عن دين الإسلام، ويرجع إلى ما كان عليه، إلفا لقبلة آبائه
وهو كقوله تعالى :﴿ نكص على عقبيه ﴾١، ﴿ فارتدا على آثارهما قصصا ﴾٢، وقولهم : رجعت على حافرتي، أي طريق الذي أصعدت فيه. والحافرة : العود في الشيء حتى يرد آخره على أوله.
( وإن كانت لكبيرة ) أي وإن كانت هذه التولية لشاقة ثقيلة على النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم إلى إتباعك، والإيمان بك، والعلم بأن الله تعالى أن يكلف عباده بما يشاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك.
﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾ لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته إلى الكعبة قالوا :
يا رسول الله، كيف بالذين ماتوا منا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فنزلت. أي وما كان الله مريدا لإضاعة إيمانكم، أي صلاتكم إلى القبلة المنسوخة. فالإيمان مجاز عن الصلاة، من إطلاق اللازم على ملزومة بقرينة المقام. أو لإضاعة ثباتكم على الإيمان بالرسول، بل يجازيكم عليه بالحسنى.
٢ فارغ؟؟؟؟؟؟؟.
﴿ ترضاها ﴾تحبها وتهواها، لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، وأقدم القبلتين، وأدعى للعرب إلى الإيمان، فوافقت أغراضه الشريفة - صلى الله عليه وسلم- مشيئة الله وحكمته.
﴿ شطر المسجد الحرام ﴾ نحوه وجهته وتلقاءه، منصوب على الظرفية. والمراد من المسجد الحرام : الكعبة، كما في الصحيحين. أي فول وجهك في الصلاة جهتها، وحيثما كنتم من بر أو بحر، شرق أو غرب فولوا وجوهكم في الصلاة جهتها.
وفى ذكر المسجد الحرام دون الكعبة التي هي القبلة إيذان بكفاية محاذاة الجهة للبعيد، لأن في وجوب محاذاة عينها على البعيد حرجا عظيما دون القريب. وروى عن ابن عباس : أن البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب. وإليه ذهب مالك.
﴿ فيه سكينة ﴾أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة. أو في التابوث ما تسكنون إليه وتطمئنون
وهو التوراة. والسكينة : من السكون، وهو ثبوت الشيء بعد التحرك. أو من السكن –بالتحريك- : وهو كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيرهم.
وعلل الثاني بما جرت به العادة الإلهية من أن يؤتى أهل كل ملة قبلة، وقد شرع للمؤمنين أشرف الجهات التي يعلم أنها حق، وهي بيته المعظم قبلة لهم.
وعلل الثالث بدفع شبه الطاعنين الجاحدين. كأنه تعالى يقول : الزم هذه القبلة، فإنها التي كنت تهواها. ثم يقول : الزم هذه القبلة، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهدى. ثم يقول : الزم هذه القبلة، فإن في ذلك انقطاع حجج الطاعنين.
﴿ إلا الذين ظلموا منهم ﴾ أي لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبه ويجادلونكم بالباطل، فيقول اليهود : ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه، وحبا لبلده. و يقول المشركون : بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم.
﴿ بل أحياء... ﴾ أي بل هم أحياء يرزقون، حياة برزخية خاصة، لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، تمتاز عن حياة سائر المؤمنين في البرزخ.
وقال الآلوسى : إن الروح تتعلق بعد الموت ببدن برزخي، مغاير لهذا البدن الكثيف، وأرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق، على وجه يمتازون فيه عمن عداهم من المؤمنين، إما في نفس التعلق أوفي نفس الحياة، أوفي نفس المتعلق به، مع ما ينضم إلى ذلك من البهجة والنعيم اللائقين بهم، ولهذه الأبدان البرزخية شبه صوري بالأبدان الدنيوية، والله اعلم. وقد أسهب القول في ذلك والدنا – رحمه الله – في كتابه " المطالب القدسية، في أحكام الروح وأثارها الكونية ".
وشعائر الحج : معامله الظاهرة للحواس، التي جعلها الله أعلاما لطاعته ومواضع نسكه وعبادته، كالمطاف والمسعى والموقف والمرمى والمنحر. جمع شعيرة وهي العلامة. وقيل للبدنة المهداة إلى البيت المعظم : شعيرة : لأنها تشعر، أي تعلم. ويقال لمواضع النسك : مشاعر، جمع مشعر وهو المعلم والمتعبد من متعبداته، من الإشعار وهو الإعلام. ومنه المشعر الحرام للمزدلفة، لأنها معلم للعبادة وموضع لها. وتطلق الشعائر على العبادات التي تعبدنا الله بها في هذه المواضع، لكونها علامات على الخضوع والطاعة والتسليم لله تعالى.
﴿ اعتمر ﴾زار. والعمرة : زيارة البيت المعظم على وجه مخصوص، أخذا من العمارة، كأن الزائر يعمر البيت بزيارته، وجمعهاعمر وعمرات، كغرف وغرفات، في جمع غرفة.
﴿ فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ أي فلا إثم عليه في التطوف بهما. من جنح، أي مال عن القصد، وسمي الإثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل.
وقد كان على الصفا صنم يسمى " إسافا " وعلى المروة صنم يسمى " نائلة "، وكانوا في الجاهلية يستلمونهما ويتمسحون بهما، فتحرجوا بعد الإسلام وتكسير الأصنام من السعي بين الصفا والمروة. فنزلت هذه الآية، وأخبر الله أنه من شعائر الله ولا جناح فيه.
﴿ ولو يرى الذين ظلموا ﴾ أي ولو يعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك شدة عذاب الله وعقوبته حين يعاينون العذاب المعد لهم يوم القيامة لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف.
﴿ حسرات ﴾ جمع حسرة، وهي أعلى درجات الندم والغم على ما فات. يقال : حسر يحسر حسرا وحسرة، فهو حسير، إذا اشتدت ندامته على أمر فاته، وأصله من الحسر بمعنى الكشف أو الإعياء، كأنه انحسرت قواه من فرط الغم، أو أدركه الإعياء عن تدارك ما فرط منه. يرى الله المشركين أعمالهم السيئة يوم القيامة في الصحائف، ويتيقنون الجزاء عليها فيتحسرون ويندمون.
نزلت في الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة ونحوهما.
﴿ خطوات الشيطان ﴾آثاره وزلاته وطرقه التي يحرم بها الحلال ويحلل الحرام. جمع خطوة كغرفة، وأصلها ما بين القدمين، ثم استعيرت لما ذكر، وقرئ بسكون الطاء.
﴿ ولحم الخنزير ﴾ المراد به جميع أجزائه. وعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه والمقصود بالأكل.
﴿ وما أهل به لغير الله ﴾ الإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقا ومنه : إهلال الصبي، والإهلال بالحج. وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها – كاللات والعزى- ورفعوا بها أصواتهم، وسمي ذلك إهلالا. ثم توسع فيه فقيل لكل ذابح : مهل، سمى أو لم يسم، جهر بالتسمية أولم يجهر. والمراد بما أهل به لغير الله : ما ذبح للأصنام ونحوها، ومنه ما يذبحه المجوسي للنار. ومنه عند الجمهور : ذبائح أهل الكتاب إذا ذكروا عليها اسم عزير أو عيسى عليهما السلام، لأنها مما أهل به لغير الله. وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقا، لعموم قوله تعالى في سورة المائدة وهي آخر السور نزولا :﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾٢ أي ذبائحهم، وهو سبحانه يعلم ما يقولون. وروى الحسن عن علي رضي الله عنه : إذا ذكر الكتابي اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. ذكره الرازي والنيسابوري والآلوسي وغيرهم. وظاهر الآية يقتضي ألا يحرم من المعلومات سوى هذه الأربعة، لكنا نعلم أن في الشرع مطعومات أخرى محرمة كلحوم الحمر الأهلية، فتصير كلمة " إنما " متروكة الظاهر في العمل، كما قاله الرازي.
﴿ فمن اضطر ﴾ أي فمن ألجئ بإكراه أوجوع مهلك – مع فقد الحلال – إلى أكل شيء من هذه المحرمات الأربع، التي كانوا في الجاهلية يستحلونها، أو التي اعتقد المؤمنون حرمتها ولوفي حالة الاضطرار فلا إثم عليه في أكلها. من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء. يقال : اضطره إليه أحوجه وألجأه فاضطر. مأخوذ من الاضرار، وهو حمل الإنسان على أمر يكرهه، وقهره عليه بقوة يناله بدفعها الهلاك. والآية استثناء لحالة الضرورة الملجئة.
﴿ غير باغ ولا عاد ﴾ " غير باغ " في أكله، أي غير طالب للمحرم وهو يجد غيره. أو غير طالب له للذته، أو على جهة الاستئثار به على مضطر آخر، بأن ينفرد بتناوله فيهلك الآخر. من البغاء، وهو الطلب تقول : بغيته بغاء وبغي بغية وبغية، طلبته. " ولا عاد " فيه، أي متجاوز سد الجوعة.
اسم فاعل بمعنى متعد، تقول : عدا طوره، إذا تجاوز حده وتعداه إلى غيره، فهو عاد. ومنه :﴿ بل أنتم قوم عادون ﴾ ٣ و " غير " منصوب على الحال من الضمير المستتر في " اضطر ".
﴿ فلا إثم عليه ﴾ أي في أكله، فسقطت الحرمة للاضطرار. وقيل : سقط الإثم مع بقاء الحرمة للاضطرار. روى عن مسروق : من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار. فجعل الأكل عزيمة لا رخصة.
٢ : آية ٥.
٣ : آية ١٦٦ الشعراء..
أي ولكن البر بر من آمن، وحذف المضاف على حد : الجود حاتم، أي الجود جود حاتم. أو ولكن البر – أي البار- من آمن، على أنه اسم فاعل من بر يبر فهو بر، وأصله برر، فلما أريد الإدغام نقلت كسرة الراء إلى ما قبلها بعد سلب حركتها.
وقد اشتملت الآية على خمسة عشر نوعا من أنواع البر. وهي رد لما زعمته اليهود من أن البر هو مجرد التوجه إلى جهة المغرب، وما زعمته النصارى من أنه مجرد التوجه إلى جهة المشرق. أي ليس البر كله فيما زعموا، وإنما فيما بينته هذه الآية.
﴿ وابن السبيل ﴾ هو المسافر المنقطع عن أهله ووطنه، الذي قد فرغت نفقته. وسمي ابن سبيل لملازمته السبيل، أي الطريق في سفره.
﴿ وفي الرقاب ﴾ أي في فك الرقاب وتخليصها من الاسترقاق أوالأسر. أوشراء رقاب وعنقها.
﴿ والصابرين في البأساء والضراء ﴾ البأساء : ما يصيب الناس في الأموال، كالفقر. والضراء : ما يصيبهم في الأنفس، كالمرض. مشتقان من البؤس والضر، وألفهما للتأنيث. يقال : بئس يبأس بؤسا وبأسا، اشتدت حاجته.
وضره وأضره وضاره ضرا وضرا، ضد نفع. " والصابرين " منصوب على المدح بتقدير أخص، وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال، حتى كأنه ليس من جنس ما قبله. وهذا الضرب من الأسلوب يسمى القطع، وهو أبلغ من الإتباع.
﴿ وحين البأس ﴾ أي ووقت القتال في سبيل الله. يقال : بؤس يبؤس بأسا فهو بئيس، أي شديد شجاع. وهو ظرف منصوب بالصابرين.
" والقصاص " : تتبع الدم بالقود. وأصله من القص، وهو تتبع الأثر. يقال : قص أثره أي تتبعه.
ومنه : القصة والقصص، لما فيهما من التتبع.
﴿ فمن عفي له... ﴾أي فالقاتل عمدا إذا عفي له عن جنايته من جهة أخيه ولي الدم، بأن صفح عنه من القصاص الواجب عليه، ورضي منه بالدية بدل الدم، فالواجب إتباع ولي الدم له بالمعروف بألا يأخذ منه أكثر من حقه ولا يرهقه، وأداء القاتل إليه الدية أداء حسنا لا مطل فيه ولا بخس.
﴿ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ﴾ ففي شرع العفو تسهيل على القاتل، وفي شرع الدية نفع لأولياء المقتول. وقد كتب على اليهود : القصاص وحده، وحرم عليهم أخذ الدية والعفو. وكتب على النصارى : العفو، وحرم عليهم الدية والقصاص. فخير الله هذه الأمة بين القصاص والعفو وأخذ الدية، توسعة عليهم، وتيسيرا وتفضيلا لهم على غيرهم.
٢ : آية ٣ الحشر.
﴿ الوصية للوالدين والأقربين ﴾ فرض الإيصاء في بدء الإسلام للوالدين والأقربين - وارثين أو غير وارثين – على من حضره الموت وله مال. ثم نسخ بآية المواريث، وبحديث :( لا وصية لوارث ) وهو مذهب جمهور الأئمة. وذهب ابن عباس إلى أن المنسوخ وجوب الوصية للوارثين منهم، وبقى الوجوب في حق من لا يرث منهم. وهو قول الحسن ومسروق وطاووس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد.
والإثم : عمل مالا يحل. يقال : أثم يأثم فهوآثم وأثيم. والمراد بالجنف هنا : الميل عن الحق في الوصية خطأ، بقرينه مقابلته بالإثم وهو الميل عن الحق فيها عمدا.
وقيل : يجوز أن تكون الهمزة في أطاق للسلب، كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود، فسلب طاقته وقدرته عند تمامه.
وقيل : الدعاء الابتهال إليه تعالى، وفي الحديث :( ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يكف عنه من السوء مثلها ).
﴿ لعلهم يرشدون ﴾ ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد، وهو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه. يقال رشد ورشد، يرشد ويرشد رشدا ورشدا، اهتدى.
﴿ وكلوا واشربوا ﴾ أباح الله الأكل والشرب مع ما سلف من إباحة الجماع في الليل في أي وقت فيه، إلى أن يتبين بياض النهار من سواد الليل.
﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ﴾ أي محارمه ومناهيه، فلا تقربوها. أو أحكامه المتضمنة لما نهاكم عنه، فلا تقربوا ما نهيتم عنه.
والمراد به هنا : كل ما لم يبح الشرع أخده من المال وإن طابت به النفس، كالربا والميسر، وثمن الخمر والرشوة وشهادة الزور واليمين الكاذبة، والغش والخيانة، والسرقة والغصب، ونحو ذلك، والباء للسببية. والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله، أي لا يأخذ بعضكم مال بعض بالسبب الباطل.
﴿ وتدلوا بها إلى الحكام ﴾ أي تلقوا. يقال : أدليت دلوى في البئر، إذا أرسلتها للاستقاء. ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء، ومنه أدلى بحجته. والمعنى : ولا تلقوا بأمور تلك الأموال التي فيها بالخصومة إلى الحكام. أي لا تسرعوا الخصومة في الأموال إلى الحكام ليعينوكم على إبطال حق أو تحقيق باطل.
﴿ والفتنة أشد من القتل ﴾ أي ولا تستعظموا قتالهم في الحرم والأشهر الحرم إذا بدءوا به، أو إذا تهيئوا له، فإن شركهم في الحرم أشد قبحا من القتل. أو فإن فتنتهم للمؤمنين بالتخويف و الإيذاء والإلجاء إلى مفارقة الأهل والوطن أصعب من القتل.
وأصل الفتنة : عرض الذهب على النار، لاستخلاصه من الغش، ثم استعملت في الشرك وفي الابتلاء فيما ذكر. وروى أن بعض الصحابة قتل في سرية رجلا من المشركين في شهر حرام، فعابه المؤمنون، وقيل عابه المشركون، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم سؤال تبكيت، فنزلت الآية.
﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ﴾أي الحرم. نهى المؤمنون عن القتال في هذا الموطن الشريف إلا إذا بدأ هم المشركون به، وهتكوا حرمته، فيكون قتالهم فيه
عندئذ اضطراريا. والآية محكمة غير منسوخة، وهي تخصيص لقوله تعالى :
﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ بالنسبة للمكان.
الإسلام، حتى يضمحل الشرك، ويكون الدين لله خالصا.
﴿ والحرمات قصاص ﴾ جمع حرمة، وهي ما منع من انتهاكه. والقصاص : المساواة. أي وكل حرمة يجري فيها القصاص. فمن هتك أية حرمة اقتص منه بأن
تهتك له حرمته.
والمراد : أنهم إذا أقدموا على مقاتلتكم في الحرم والشهر الحرام والإحرام، فقاتلوهم أنتم أيضا على سبيل القصاص. ثم أكد ذلك بقوله :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾.
﴿ فما استيسر من الهدى ﴾ أي فعليكم إذا أردتم التحلل من الاحرام ذبح ما تيسر لكم من الهدى، وهو ما يهدى إلى البيت، من بدنة أو بقرة أو شاة. مصدر بمعنى المفعول، أي الهدى.
﴿ ولاتحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله ﴾ أي ولا تتحللوا بالحلق حتى تعلموا أن الهدي المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه، وهو الحرم، لقوله تعالى :﴿ ثم محلها على البيت العتيق ﴾١، وقوله :﴿ هديا بالغ الكعبة ﴾. ٢ وإليه ذهب أبو حنيفة. أو لا تحلوا حتى يبلغ الهدي محله، أي يذبح في موضع الاحصار، حلا كان أو حرما، وإليه ذهب جمهور الأئمة. ويستفاد حكم غير المحصر من الآية بدلالة النص، كما ذكره الآلوسي.
﴿ نسك ﴾ ذبيحة، وأقلها شاة. وأصل النسك : سبائك الفضة التي خلصت من الخبث،
وكل سبيكة منها نسيكة. ومنه قيل للمتعبد : ناسك، لأنه خلص نفسه لله تعالى من دنس الآثام، كالسبيكة المخلصة من الخبث. ثم قيل للذبيحة : نسك ونسيكة، لأنها من أشرف العبادات والقربات.
﴿ فما استيسر من الهدي ﴾ أي فعليه ما تيسر له من الهدى بسبب التمتع.
( ١ ) آية ٣٣ الحج. ( ٢ ) آية ٩٥
﴿ ذلك ﴾ أي التمتع أو الحكم المذكور. أي لزوم الهدي أو بدله على المتمتع.
﴿ حاضري المسجد الحرام ﴾ حاضرو المسجد الحرام : هم أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت. أوهم أهل مكة خاصة. أوهم أهل مكة ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة، وإلى الأول ذهب الحنفية، وإلى الثاني المالكية، وإلى الثالث أحمد والشافعي رحمهما الله وتفصيل الأدلة في الفروع.
﴿ ولا فسوق ﴾ لا خروج عن طاعة الله تعالى بارتكاب المعاصي، ومنها السباب، وفعل محظورات الإجرام.
﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ﴾ تزودوا ما تبلغون به في سفركم، وتكفون به وجوهكم عن الناس. أو تزودوا لمعادكم بالتقوى، فإنها خير زاد في الآخرة.
وسئل عمر – رضي الله عنه - : هل كنتم تتجرون في الحج ؟ فقال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج.
﴿ أفضتم من عرفات ﴾ دفعتم أنفسكم بكثرة للخروج منها إلى مزدلفة. من الإفاضة، وهي دفع بكثرة، تشبها بفيض الماء الكثير. يقال : أفضت الماء إذا صببته بكثرة. وعرفات : جمع، سميت به البقعة المعروفة، كأذرعات.
﴿ المشعر الحرام ﴾ هو مزدلفة. أو جبل قزح. وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة، لأنه من معالم الحج. ووصف بالحرام لحرمته. وقال ابن كثير : وإنما سميت المزدلفة بالمشعر الحرام لأنها داخل الحرم.
والخصام : مصدر خاصم. أو جمع خصم، أي أشد الخصوم خصومة.
﴿ فحسبه جهنم ولبئس المهاد ﴾ كافية جهنم جزاء. والمهاد : الفراش. وأصله ما يوطأ للصبي لينام عليه. والآية نزلت في الأخنس بن شريق، وكان منافقا. وعن ابن مسعود : أن من أكبر الذنب عند الله أن يقال للعبد اتق الله، فيقول : عليك بنفسك ؟ وروى أنه قيل لعمر : اتق الله، فوضع خده على الأرض، تواضعا لله عز وجل.
﴿ خطوات الشيطان ﴾ آثاره وطرائقه التي يزين لكم بها المعاصي. جمع خطوة - بالضم – وأصلها ما بين قدمي الماشي.
ونقضه وإبرامه.
أكمان ذاته مغايرة لذواتهم، فوجب تأويلها على التفصيل، فيحمل الإتيان بأمره أو بأسه، كما قال تعالى :﴿ أويأتي أمر ربك ﴾٣، ﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا ﴾٤.
﴿ في ظلل من الغمام ﴾ جمع ظلة - كغرفة – وهي ما يظلك. والغمام : السحاب الأبيض الرقيق، جمع غمامة. ولا يكون ظلة إلا حيث يكون متراكبا. أي يأتيهم الله في ظلل كائنة من الغمام، أي في قطع متفرقة منه، كل قطعة منها في غاية الكثافة والعظم. وقيل : إن " في " بمعنى الباء، أي يأتيهم الله بظلل من الغمام، أي بالعذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة.
٢ : آية ٣٩ البقرة.
٣ : آية ٣٣ النحل.
٤ : آية ٤٣ الأنعام.
أو أنه لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها. أو يعطي للمتقين في الآخرة ما يشاء بغير حساب منه لهم على ما من به عليهم.
﴿ بغيا بينهم ﴾حسدا وحرصا على الدنيا، أو ظلما ومجاوزة للحد. يقال : بغى عليه استطال، وبابه رمى. وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء : بغي.
و سلم : هل يحل لهم القتال فيه ؟ فنزلت.
وقيل : السائلون هم المشركون، وقد قالوا : إن محمدا وأصحابه استحلوا الدماء في الشهر الحرام.
﴿ قل قتال فيه كبير ﴾أي عظيم مستنكر. وفي تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام.
والجمهور على أن هذا الحكم منسوخ، وأنه لا حرج في قتالهم في الأشهر الحرم، قاتلوا أو لم يقاتلوا-بقوله تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾١ فإن المراد بالأشهر الحرم هنا :
هي أشهر العهد الأربعة التي أبيح للمشركين السياحة فيها، لا الأشهر الحرم الأربعة المعروفة، فالتقييد بها يفيد أن قبلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأزمنة والأمكنة.
و ذهب عطاء بن أبي رباح إلى أنه لا يحل القتال في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أني يقاتلهم المشركون فيها، فلم يجز القتال فيهما إلا دفاعا. قال الآلوسي : والأمة اليوم على خلافه في سائر الأمصار.
﴿ وصد عن سبيل الله وكفر به ﴾أي وصرفهم المسلمين عن كل ما يوصل إلى طاعة الله تعالى وعن المسجد الحرام، وشركهم بالله في بيته وحرمه، وإخراجهم أهله منه، أعظم وزرا عند الله تعالى من القتال في الشهر الحرام، فإن كنتم قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد انتهكوا حرمة أعظم وأفظع.
﴿ و الفتنة أكبر من القتل ﴾أي والشرك. أو امتحان المسلمين بأنواع التعذيب والأذى والبلايا لصرفهم عن دينهم، أعظم وزرا من القتل، لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا، وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة.
﴿ حبطت أعماله ﴾بطلت أعمالهم. من قولهم : حبطت الدابة تحبط حبطا وحبوطا، إذا أصابت مرعا طيبا، فأفرطت في الأكل حتى انتفخت فماتت.
والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزلت هذه الآية، فتركها قوم وشربها آخرون. ثم صلى أحد الصحابة المغرب إماما، فلم يحسن القراءة لسكره، فنزل :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾١. فرحمت تحريما في الصلاة. ثم اجتمع بعض الصحابة يوما في دار عتبان ابن مالك : فلما سكروا افتخروا وتناشدوا أشعار الهجاء وتضاربوا، فشكا بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزل :﴿ إنما الخمر والميسر –إلى قوله تعالى فهل أنتم منتهون ﴾٢ فقال عمر : انتهينا، انتهينا. وحرمت الخمر بهذه الآية تحريما مؤبدا. وللتدرج في التحريم حكمة بالغة، فإنهم وقد ألفوا الخمر لو منعوا منها دفعة واحدة لشق الأمر عليهم. فكان في التدريج في التحريم رفق عظيم.
والخمر : اسم لكل ما خامر العقل، أي خالطه، أو ستره وغطاه، سواء اتخذ من العنب أومن غيره، وفي الحديث الصحيحة ( كل مسكر خمر، وما أسكر منه الفرق٣ فملء الكف منه حرام ). ولعن رسول الله عليه وسلم عاصرها ومعتصرها، وشاربها وساقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها والمبتاعة إليه، وواهبها وآكل ثمنها }. أخرجه الترمذي. والخمر : يؤنث ويذكر.
﴿ والميسر ﴾القمار، مصدر ميمي من يسر، كالموعد من وعد. مشتق من اليسر، لأنه كسب المال بسهولة. وأصله : قمار العرب بالأزلام والأقلام، وفي حكمه كل شيء فيه خطر، أي رهان.
﴿ ويسألونكم ماذا ينفقون ﴾سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم حين حثهم على الصدقة ماذا ينفقون ؟ فقال تعالى :﴿ قل العفو ﴾أي أنفقوا العفو، وهو ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة. وهذا القدر هو الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يجهد صاحبه، وقد يبين بآية الزكاة. وأصل العفو : نقيض الجهد، ولذا يقال للأرض الممهدة السهلة الوطء : عفو.
٢ آية ٩٠ المائدة.
٣ : آية ١٥٢ الأنعام.
و قوله تعالى :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما... ﴾٢ انطلق من كان عنده مال ليتيم يعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، ويحبس له ما يفضل من طعامه، حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.
﴿ إصلاح لهم خير ﴾أي مداخلتهم مداخلة يترتب عليها إصلاحهم في أنفسهم بتقويمهم وتهذيبهم، وفي أموالهم بالرعاية والاستثمار- خير لهم وللقائمين بأمورهم من مجانبتهم.
﴿ وإن تخالطوهم فإخوانك ﴾أي وإن تخالطوهم في المعيشة والمصاهرة تؤدوا اللائق بكم، لأنهم إخوانك في الدين، وقد تكون لهم مع ذلك أخوة في النسب، أو قرابة في العشيرة.
﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾العنات : الشدة والمشقة. يقال : أعنته في كذا يعنته إعناتا، إذا أجهده وألزمه ما يشق عليه. أي ولو شاء الله لضيق عليكم، وأحرجكم بتحريم المخالطة لهم، ولكنه وسع عليكم وخفف عنكم، فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن.
٢ : آية ١٠ النساء..
وقد نسخ الحكم أو خصص في حق الكتابيات خاصة، فأجيز نكاحهن وإن كان مع الكراهة.
و حرم الله زواج الكفار مطلقا بالمؤمنات ولو كانوا كتابيين.
ومحاضا : وأصله السيلان. يقال : حاض الوادي إذا سال، ومنه الحوض لسيلان الماء إليه. وقيل : المحيض هنا اسم مكان.
﴿ هو أذى ﴾أي قذر، أو موضع قذر. يقال : أذي الشيء يأذى أذى، أي قذر. ويطلق الأذى على الضرر. والحيض : ضرر شرعا وطبا.
﴿ فاعتزلوا النساء في المحيض ﴾أي في زمن الحيض. أو في كمانه، وهو الفرج، فلا تواقعهن فيه. ﴿ فأتوهن من حيث... ﴾أي في المكان الذي أمركم الله باجتنابه لعارض الأذى، وهو الفرج، ولا تعدوه إلى غيره. و( من ) بمعنى في.
﴿ ولكن يؤاخذكم... ﴾أي ولكن يؤاخذكم بالعقوبة في الآخرة بما تعمدتم فيه الكذب، وهو أن يحلف أحدكم على شيء ماض كذبا، ويسمى اليمين الغموس، ولا كفارة فيه. أو لكن يؤاخذكم بوجوب الكفارة فيها، والأول مذهب جمهور الأئمة، والثاني مذهب الشافعية.
﴿ فإن فاءوا ﴾رجعوا في هذه المدة عما حلفوا عليه. يقال : فاء يفيء فيئا وفيئة، إذا رجع. وأحكام الإيلاء مبينة في الفقه.
﴿ وبعولتهن أحق ﴾أي أزواجهن أولى برجعتهن إليهم في حال العدة. جمع بعل، وهو الذكر من الزوجين. يقال : بعل الرجل يبعل بعولة، إذا صار زوجا.
﴿ عليهن درجة ﴾زيادة في الحق. أو فضيلة بالقيام بأمرهن والحماية لهن. والدرجة في الأصل : ما يرتقى عليه، واستعملت في المنزلة الرفيعة وفيما ذكرنا مجازا.
﴿ أو تسريح بإحسان ﴾أي طلاق مصاحب لجبر الخاطر وأداء الحقوق، وعدم المضارة.
﴿ لا تضار والدة ﴾نهى عن أن يلحق أحدهما بالآخر ضررا بسبب الولد، فلا ينزعه الزوج منها إذا أرادت إرضاعه، ولا يكرهها عليه إذا أبته، ولا يمنعها شيئا مما وجب لها عليه. وكذلك لا تدفعه هي إليه لتضره بتربيته، ولا تطلب منه ما ليس حقا لها، ولا تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد.
﴿ وتشاور ﴾أي وتداول في الرأي بينهما، أو مع أهل الخبرة في أمر الفطام قبل الحولين. والمشاورة : استخراج الرأي بما فيه المصلحة، من الشور وهو اجتناء العسل. يقال : شرت العسل إذا استخرجه من مواضعه.
﴿ فلاجناج عليهما ﴾فلا حرج ولا إثم عليهما في ذلك، من الجنوح، وهو الميل، لميل الآثم عن الحق.
﴿ تسترضعوا أولادكم ﴾أي تسترضعوا المراضع أولادكم. يقال : أرضعت المرأة الطفل، واسترضعتها إياه. أو استرضعوا المراضع لأولادكم. وحذف حرف الجر من المفعول الثاني، كما في قوله تعالى :﴿ وإذا كالوهم ﴾١
﴿ لا تواعدوهن سرا ﴾السر ضد الجهر، أريد منه هنا الوطء، لأنه لا يكون إلا سرا. ثم العقد لأنه سببه، فهو مجاز على...... لا تأخذوا عليهن وهن في العدة عهدا ألا يتزوجن غيركم بعد انقضاءها. أولا يقل الرجل للمعتدة : تزوجني، بل يعرض لها تعريضا غير مفصح.
وتقدر باجتهاد الحاكم كالنفقة. والموسع : ذو السعة والغنى. يقال : أوسع الرجال، اتسعت حاله. والمقتر : ضيق الحال. يقال : أفتقر الرجل، افتقر وقل ما في يده. ولا تجب المتعة لغيرهن من المطلقات، وإنما تستحب لهن.
أما المطلقات بعد الدخول ولهن مهر مسمى، فيجب لهن المهر كاملا، وإن لم يسم لهن مهر وجب لهن مهر المثل، ولا متعة لهن في الحالتين. وقيل : تجب فيهما مع المهر.
﴿ إلا أن يعفون ﴾أي إلا أن تترك المطلقات نصيبهن من الصداق للأزواج. أو يترك الأزواج ما يعود إليهم من نصف المهر الذي ساقوه كاملا إلى زوجاتهم.
والوسطى : مؤنث الأوسط، يقال : وسطت القوم أوسطهم، إذا صرت في وسطهم. وأوسط الشيء ووسطه : خياره.
﴿ قانتين ﴾مطيعين لله خاضعين. من القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع.
وسيأتي حكم خوف العدو في غير حال المقاتلة في قوله تعالى :﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ﴾١.
﴿ يقبض ويبسط ﴾يسلب تارة ويعطى أخرى. أو يسلب قوما ويعطى آخرين. أو يضيق على بعض ويوسع على بعض، حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكمة والمصلحة. أي فلا تبخلوا بما وسع عليكم كيلا تبدل أحوالكم. والقبض : ضد البسط. يقال : قبضه بيده يقبضه، تناوله. وقبض عليه بيده، أمسكه. وبسط يده : مدها. وبسط المكان القوم : وسعهم. والآية تحريض على الإقراض الحسن، وزجر عن تركه.
﴿ هل عسيتم ﴾هل الأمر كما أتوقعه منكم أنكم تجبنون عن القتال معه ؟ والاستفهام لتقرير أن التوقع كائن.
﴿ فيه سكينة ﴾أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة. أو في التابوت ما تسكنون إليه وتطمئنون
وهو التوراة. والسكينة : من السكون، وهو ثبوت الشيء بعد التحرك. أو من السكن –بالتحريك- : وهو كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيرهم.
﴿ ومن لم يطعمه ﴾من لم يذقه أصلا، لا قليلا ولا كثيرا. من طعم الشيء يطعمه، إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا. واستعمال طعم الماء بمعنى الماء ذاق طعمه مستفيض.
﴿ غرفة بيده ﴾الغرفة : اسم للشيء المغترف، وجمعه غراف. وأما الغرفة فهي اسم للمرة الواحدة من الغرف. وقيل : هما لغتان بمعنى واحد. رخص لهم في الأخذ باليد دون الكرع.
﴿ والحكمة ﴾هي النبوة. ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله في بني إسرائيل، وورثه فيهما ابنه سليمان عليهما السلام.
﴿ ولا شفاعة ﴾أي لأحد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى. فالإطلاق هنا مقيد بآية
﴿ إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا ﴾ ١والنبي مأذون له، أو يستأذن فيؤذن له.
﴿ القيوم ﴾الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم، والمعطي لهم ما به قوامهم. وهو مبالغة في القيام، وأصله قيووم –وزن فيعول- من قام بالأمر إذا حفظه وبره.
﴿ لا تأخذه سنة ﴾أي نعاس، وهو الفتور أول النوم مع بقاء الشعور والإدراك، ويقال له غفوة.
مصدر وسن الرجل يوسن وسنا وسنة، فهو وسن ووسنان، إذا نعس. والمراد أنه تعالى لا يغفل عن تدبير أمر خلقه أبدا.
﴿ وسع كرسيه ﴾الكرسي غير العرش، وهما مخلوقان لله تعالى، كالسموات والأرض. ومن المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، فنفوض علم حقيقتهما إليه تعالى، مع كمال تنزيهه عن الجسمية، وعن مشابهة المحدثات، ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ١. وعن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير الكرسي بالعلم، وهو قول مجاهد. وفسر بالملك والسلطان والقدرة، وهي معان مجازية.
﴿ ولا يئوده حفظهما ﴾لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما. يقال : آده الأمر أوالحمل-من باب قال- أثقله فهو مئود، كمقول.
القلب وإذعان في النفس- إكراه وإجبار من الله تعالى، بل مبناه على التمكين والاختيار، وهو مناط الثواب والعقاب، ولولا ذلك لما حصل الابتلاء والاختبار، ولبطل الامتحان، وهو كقوله تعالى :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾١. وقيل : معناه إن من حق العاقل بعد ظهور الآيات البينات على أن الإيمان بالله وطاعته رشد، والكفر به ومعصيته غي-ألا يحتاج إلى الإكراه على التدين بالاسلام الحنيف، بل يختاره من غير تردد. والجملة على المعنيين خبرية. وقيل : خبر في معنى النهى، أي لا تكرهوا في الدين ولا تجبروا عليه أحدا، فإنه بين واضح الدلائل والبراهين. فمن هداه الله له، ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أضله الله وأعمى قلبه لا يفيده الإكراه على الدخول فيه.
وهو عام منسوخ بقوله تعالى :﴿ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ﴾٢. أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية. وعن ابن عباس : أنها نزلت في أولاد الأنصار الذين تهودوا قبل الاسلام، وأراد أهلوهم من الأنصار استردادهم حين أجليت بنو النضير في السنة الرابعة، فقال الرسول صلى عليه وسلم إثر نزول الآية :( قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم ).
أما الجهاد الذي فرضه الله على المؤمنين فليس للإكراه على الاسلام والعقيدة، وإنما هو من أجل بقاء الكفار على جحود حق الله وعصيانهم أمره ومحادته، بعد وضوح الحجج وظهور الدلائل والإعذار إليهم، ولحملهم على العمل بشريعته والانقياد لأحكامه، ولحماية الدعوة والحق الذي جاءت به من عدوانهم، وليكون الدين كله لله وحده، قال تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ﴾٣.
﴿ تبين الرشد ﴾تميز الحق من الباطل، والهدى من الضلال، بوضوح الدلائل. والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، مصدر رشد يرشد ويرشد، أي اهتدى. والمراد هنا : الحق والهدى.
والغي : الضلال، مصدر غوى يغوي أي ضل، والاسم الغواية.
﴿ بالطاغوت ﴾اسم لكل ما يطغى الإنسان، كالأصنام والأوثان والشيطان والكاهن والساحر، وكل رأس في الضلال، وكل ما عبد من دون الله تعالى. من طغا يطغو طغوا وطغوانا. أو طغى-كرضي وسعي- طغيا وطغيانا، إذا جاوز الحد وغلا في الكفر، وأسرف في المعاصي والظلم.
﴿ استمسك بالعروة ﴾ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى، وهي الإيمان أو القرآن أو الاعتقاد
الحق، أو السبب الموصل إلى رضا الله تعالى. والعروة من الدلو والكوز : مقبضه. ومن الثوب : مدخل زره. استعملت في المعاني المذكورة على سبيل التجوز. والوثقي : تأنيث الأوثق، من وثق-بالضم-وثاقة، قوي وثبت فهو وثيق، أي ثابت محكم.
٢ : آية ٧٣ التوبة..
٣ آية ١٩٣ من هذه السورة..
أي ألم ينته علمك إلى قصة هذا الكافر الذي ليت له بولى، كيف تصدى لمحاجة من تكلفت بنصرته وأخبرت أني ولي له، هذا الكافر الذي لست له بولي، كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت أتى ولي له، وكيف خذلته ونصرت عليه خليلي الذي اصطفيته وواليته.
﴿ فبهت الذي كفر ﴾غلب وقهر وتحير وانقطع في حجاجه، وهو فعل جاء على صورة المبنى للمفعول كزهي وزكم، والمعنى فيه على البناء للفاعل. و( الذي كفر )فاعله. والبهت : الانقطاع والحيرة. وقرئ أيضا بوزن علم ونصر وكرم.
﴿ وهي خاوية ﴾ساقطة حيطانها على سقوفها التي سقطت. يقال : خوي البيت، سقط. أو خالية من الناس ثابتة على عروشها. يقال : خوت الدار تخوي خويا وخواء، أقوت وخلت.
والعروش : جمع عرش، وهو سقف البيت، ويسمى العريش. وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش وعرش.
﴿ لم يتسنه ﴾لم يتغير بمر السنين الطويلة عليه، ولم تذهب طرواته، فكأنه لم تمر عليه السنون.
مشتق من السنة، والهاء فيه أصلية إذا قدرلام سنة هاء، وأصلها سنهة لتصغيرها على سنيهة، وجمعها على سنهات كسجدة وسجدات، ولقولهم : سانهته إذا عاملته سنة فسنة، وتسنه عند القوم إذا أقام فيهم سنة. أو الهاء فيه للوقف نحو كتابيه. وجزمه بحذف حرف العلة إذا قدر لام سنة واوا، وأصلها سنوة لتصغيرها
على سنية وجمعها على سنوات، وقولهم : سانيته وتسنيت عنده، أقمت سنين.
﴿ ولنجعلك آية ﴾أي وفعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء لنجعلك آية للناس وعبرة، ودلالة على البعث بعد الموت.
﴿ كيف ننشزها ﴾كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسم، ونؤلف بينها، من الانشاز وهو الرفع. يقال : أنشز الشيء رفعه من مكانه. وأصله النشز-بفتحتين وبالسكون-وهو المكان المرتفع. وقرئ( ننشرها )بضم النون والراء، أي نحييها، من أنشر الله الموتى أي أحياهم.
﴿ فصرهن إليك ﴾فأملهن واضممهن إليك، لتتأملهن وتعرف أشكالهن وهيئاتهن، كيلا تلتبس عليك بعد الإحياء. ثم جزئهن أجزاء، أو فقطعهن. قرئ بضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء. يقال : صاره يصوره ويصيره، أماله. وصار الشيء : قطعه وفصله. و( إليك )متعلق ب( صرهن )على الأول. وب( خذ ) على الثاني، باعتبار تضمينه بمعنى الضم.
﴿ منا ولا أذى ﴾المن : إظهار الاصطناع، وأن يعتد الإنسان بإحسانه على من أحسن إليه يقال : من عليه يمن، أي امتن عليه، وهو من كبائر الذنوب. ويقال : المنة تهدم الصنيعة. والأذى : ما يصل إلى الحيوان من الضرر، يقال : آذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذية. والمراد هنا : التطاول والتفاخر على المنعم عليه.
﴿ فمثله كمثل صفوان ﴾أي فمثل المرائي في الإنفاق كمثل حجر كبير أملس صلب، من الصفاء وهو خلوص الشيء مما يشوبه. يقال : يوم صفوان، أي صافي الشمس. وقيل : هو جمع، واحده صفوانة.
﴿ فأصابه وابل ﴾أي مطر شديد عظيم القطر. يقال : وبلت السماء تبل وبلا ووبولا، اشتد مطرها.
﴿ فتركه صلدا ﴾أي أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه، ومنه رأس أصلد، إذا كان لا ينبت شعرا. وصلد الزند يصلد، لم يخرج نارا. والمقصود : أن أعمال هؤلاء المرائين بالإنفاق تبطل يوم القيامة وتضمحل، كما يذهب المطر ما على الصفوان من التراب.
﴿ جنة ﴾ تطلق الجنة على الأشجار الملتفة المتكاثفة، وهو الأنسب هنا. وعلى الأرض المشتملة عليها.
﴿ بربوة ﴾بمكان من الأرض مرتفع عن السبيل. والعادة في أشجار الربى أن تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا.
﴿ أكلها ﴾ثمرها. وكل مأكول : أكل.
﴿ فطل ﴾فمطر خفيف يكفيها لطيبها وكرم منبتها. والطل : أضعف المطر وهو الرذاذ، وجمعه طلال وطلل. والمراد : أن هذه الجنة تزكو وتثمر، كثر المطر أو قل، فكذلك نفقة هؤلاء ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم تزكو عند الله وتطيب، كثرت أو قلت.
﴿ ولا تيمموا الخبيث ﴾ولا تقصدوا الردئ من أموالكم تنفقون منه. يقال : تيممت الشئ ويممته، إذا قصدته.
﴿ ولستم بآخذيه ﴾والحال أنكم لا تأخذونه لأنفسكم إلا بأن تتساهلوا فيه، وتغضوا الطرف عن رداءته، من الإغماض، وأصله غمض البصر وإطباق الجفن على الجفن، ثم استعير للتغافل والتساهل.
﴿ ويأمركم بالفحشاء ﴾يغريكم بالبخل. والفاحش عند العرب : البخيل. قيل : كل فحشاء في القرآن فهي الزنى إلا في هذه الآية. أو ويأمركم بالخصلة الفحشاء، وهي إنفاق الردئ من المال لا الجيد خشية الفقر.
وأما الصدقة المفروضة فالإظهار فيها أفضل، لأنها من شعائر الإسلام كالصلاة المكتوبة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا. وكذلك جميع الفرائض والنوافل.
﴿ لا يستطيعون ضربا ﴾سيرا في البلاد وتقلبا فيها، ابتغاء المكاسب والعيش، لاشتغالهم بالجهاد والتعلم. وسمي السير ضربا لما فيه من ضرب الأرض بالأرجل.
﴿ من التعفف ﴾أي من أجل تعففهم عن السؤال. والتعفف : ترك الشيء والإعراض عنه، بقهر النفس وحملها عليه. يقال : عف عن الشيء يعف، إذا كف عنه. وتعفف : إذا تكلف الإمساك عنه.
﴿ تعرفهم بسماهم ﴾تعرف فقرهم بما يرى عليهم من الضعف والرثاثة. أن تعرفهم بما يبدو عليهم من الخشوع والتواضع. أوبما ألبسهم الله من الهيبة والوقار. والسيما –بالقصر وتمد- : أصلها من الوسم بمعنى العلامة.
﴿ إلحافا ﴾أي إلحاحا. يقال : ألحف عليه في المسألة، أي ألح فهو ملحف. والنفي منصب على القيد والمقيد معا بقرينة السياق، أي أنهم لا يسألون أصلا تعففا منهم.
والربا : الزيادة. يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد وكثر. وفي الشرع : فضل مال لايقابله عوض في معاوضة مال بمال، قلت الفائدة أوكثرت. وهو ربا نسيئة، وربا فضل، وكل منهما محرم شرعا. وسيأتي تتمة لهذا في آية ١٣٠ من آل عمران.
﴿ يتخبطه الشيطان ﴾يتخبله الشيطان ويصرعه بسبب مسه إياه. وأصل التخبط : الضرب على غير استواء واتساق، كخبط البعير الأرض بيديه. وفعله من باب ضرب. والمس : الخبل والجنون. يقال : مس الرجل فهو ممسوس، إذا ألم به ملم فجن. والمعنى : أن المتعاملين بالربا المستحلين له لا يقومون يوم البعث إلا كقيام المصروع الذي تخبله الشيطان وصرعه. وهو-كما اختاره الإمام القفال – تشبيه جاء على ما تعارفوه من إضافة الصرع وكل شيء قبيح إلى الشيطان، ونظيره قوله تعالى :﴿ طلعها كأنه رءوس الشياطين ﴾١. واختار الفخر أن المراد بمس الشيطان : دعاؤه إلى طلب الملذات والشهوات والاشتغال بغير الله، ومن استجاب له كان متخبطا في أمر الدنيا، فتارة يجره الشيطان إلى الهوى، وتارة يجره الملك إلى الهدى. وآكل الربا مفرط في حب الدنيا، فإذا مات على ذلك الحب. صار حجابا بينه وبين الله تعالى. فالخبط الذي كان حاصلا له في الدنيا بسبب حب المال أورثه خبطا في الآخرة، أوقعه في ذل الحجاب.
﴿ إنما البيع مثل الربا ﴾زعموا أنه حيث حل بيع ما قيمته درهم بدرهمين حالا أو مؤجلا يحل بيع درهم بدرهمين. وجعلهم الربا أصلا وتشبيه البيع به مبالغة منهم في التماثل.
﴿ وأحل الله البيع وحرم الربا ﴾إبطال من الله تعالى لقول الكفار :( إنما البيع مثل الربا ).
ذهب خبرُه وبركتُه. ويقال : محقه محقا، أي أبطله ومحاه. ولما كان الباعث على الربا تحصيل المزيد من المال، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصانه، بين الله تعالى في هذه الآية : أن الربا وإن كان زيادة في الحال فهو نقصان في الحقيقة، لذهاب بركة الله به لا محالة. وأن الصدقة وإن كانت نقصانا في الحال للمال صورة فهي زيادة فيه معنى، وذلك في الدنيا والآخرة.
﴿ وليملل ﴾وليكن المملي من عليه الحق، لأنه المقر المشهود عليه والإملال والإملاء لغتان بمعنى واحد. يقال : أمل وأملى.
﴿ ولا يبخس ﴾ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا في الإملاء. يقال : بخس زيد عمرا حقه يبخسه، نقصه. ومنه :﴿ وشروه بثمن بخس ﴾٢.
﴿ واستشهدوا ﴾الأمر للندب. وقيل للوجوب.
﴿ أن تضل إحداهما ﴾الضلال : ترك الطريق المستقيم، عمدا كان أو سهوا، قليلا كان أو كثيرا. أي خشية أن تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى. وهو بيان لحكمة اشتراط العدد في شهادة النساء في الأموال.
﴿ ولا تسأموا ﴾أي ولا تضجروا ولا تملوا. يقال : سئمت الشيء أسأمه سأما وسآمة، ضجرته ومللته. ويقال : سئمت منه، ومنه :﴿ لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ﴾٣.
﴿ أقسط ﴾أعدل وأحفظ. : أقسط الحاكم يقسط إقساطا وهو مقسط، إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه، ومنه :( إن الله يحب المقسطين )٤.
﴿ تجارة ﴾التجارة : التصرف في رأس المال طلبا للربح. يقال : تجر يتجر وهو تاجر والجمع تجر وتجار وتجار. أي لكن تجارة الحاضرة يجوز عدم الإشهاد والكتب فيها.
٢ آية ٢٠ يوسف.
٣ آبة ٤٩ فصلت.
٤ آية ٤٩ المائدة..
﴿ غفرانك ﴾مصدر نائب عن فعله، أي اغفر غفرانك، على حد سقيا ورعيا. والمراد : نسألك غفران ذنوبنا.
﴿ لا تحمل علينا إصرا ﴾الإصر : الثقل والعهد الثقيل. أي لا تكلفنا أمرا يثقل علينا. أو عهدا ثقيلا لا نفي به، كما كلفت بني إسرائيل من قبلنا، فلا تمتحنا بمثله، رأفة منك وفضلا. والله أعلم.