تفسير سورة البقرة

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

سورة البقرة ٢
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
الم أَسْمَاءٌ مَدْلُولُهَا حُرُوفُ الْمُعْجَمِ، وَلِذَلِكَ نُطِقَ بِهَا نُطْقَ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَهِيَ مَوْقُوفَةُ الْآخِرِ، لَا يُقَالُ إِنَّهَا مُعْرَبَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا عَامِلٌ فَتُعْرَبُ وَلَا يُقَالُ إِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ لِعَدَمِ سَبَبِ الْبِنَاءِ، لَكِنَّ أَسْمَاءَ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ قَابِلَةٌ لِتَرْكِيبِ الْعَوَامِلِ عَلَيْهَا فَتُعْرَبُ، تَقُولُ هَذِهِ أَلِفٌ حَسَنَةٌ وَنَظِيرُ سَرْدِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَوْقُوفَةً، أَسْمَاءُ الْعَدَدِ، إِذَا عَدُّوا يَقُولُونَ: وَاحِدٌ، اثْنَانِ، ثَلَاثَةٌ، أَرْبَعَةٌ، خَمْسَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَا، وَسَنَذْكُرُ اخْتِلَافَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذلِكَ، ذَا: اسْمُ إِشَارَةٍ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ لَفْظًا، ثُلَاثِيُّ الْأَصْلِ، لَا أُحَادِيُّ الْوَضْعِ، وَأَلِفُهُ لَيْسَتْ زَائِدَةً، خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَالسُّهَيْلِيِّ، بَلْ أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ، وَلَامُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ فِي زَعْمِهِ أَنَّهَا مُنْقَلِبَةٌ مِنْ وَاوٍ مِنْ بَابِ طَوَيْتُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ. وَيُقَالُ فِيهِ: ذَا وَذَائِهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْكَافُ فَقُلْتَ: ذَاكَ دَلَّ عَلَى التَّوَسُّطِ، فَإِذَا أَدْخَلْتَ اللَّامَ فَقُلْتَ: ذَلِكَ دَلَّ عَلَى الْبُعْدِ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ رُتْبَةُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عِنْدَهُ قُرْبٌ وَبُعْدٌ. فَمَتَى كَانَ مُجَرَّدًا مِنَ اللَّامِ وَالْكَافِ كَانَ لِلْقُرْبِ، وَمَتَى كَانَتَا فِيهِ أَوْ إِحْدَاهُمَا كَانَ لِلْبُعْدِ، وَالْكَافُ حَرْفُ خِطَابٍ تُبَيِّنُ أَحْوَالَ الْمُخَاطَبِ مِنْ إِفْرَادٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ وَتَذْكِيرٍ وَتَأْنِيثٍ كَمَا تُبَيِّنُهَا إِذَا كَانَ ضَمِيرًا، وَقَالُوا: أَلِكَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؟ وَلِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ.
الْكِتابُ، يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مُعَانِ الْعَقْدِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ مُنَجَّمٍ لِلْعِتْقِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «١»
، وَعَلَى الْفَرْضِ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى
(١) سورة النور: ٢٤/ ٣٣.
56
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «١»
، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ «٢»
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «٣»
وَعَلَى الْحُكْمِ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَعَلَى الْقَدْرِ:
يَا ابْنَةَ عَمِّي كِتَابُ اللَّهِ أَخْرَجَنِي عَنْكُمْ وَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللَّهَ مَا فَعَلَا
أَيْ قَدَرُ اللَّهِ وَعَلَى مَصْدَرِ كَتَبْتُ تَقُولُ: كَتَبْتُ كِتَابًا وَكُتُبًا، وَمِنْهُ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَعَلَى الْمَكْتُوبِ كَالْحِسَابِ بِمَعْنَى الْمَحْسُوبِ، قَالَ:
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً أَتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
لَا نَافِيَةٌ، وَالنَّفْيُ أَحَدُ أَقْسَامِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. رَيْبَ، الرَّيْبُ: الشَّكُّ بِتُهْمَةٍ رَابَ حَقَّقَ التُّهْمَةَ قَالَ:
لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيَّةَ رَيْبُ إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْكَذُوبُ
وَحَقِيقَةُ الرَّيْبِ قَلَقُ النَّفْسِ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الشَّكَّ رِيبَةٌ وَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَمِنْهُ: أَنَّهُ مَرَّ بِظَنِّي خَافِقٌ فَقَالَ لَا يَرِبْهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ، وَرَيْبُ الدَّهْرِ: صَرْفُهُ وَخَطْبُهُ. فِيهِ: فِي لِلْوِعَاءِ حقيقة أو مجاز، أو زيد للمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، وللموافقة عَلَى، وَالْبَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ زَيْدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «٤»
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ «٥»
لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ «٦»
، ي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
«٧»
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «٨»
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ «٩»
، أَيْ يُكَثِّرُكُمْ بِهِ. الْهَاءُ الْمُتَّصِلَةُ بِفِي مِنْ فِيهِ ضَمِيرٌ غَائِبٌ مُذَكَّرٌ مُفْرَدٌ، وَقَدْ يُوصَلُ بِيَاءٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَحُكْمُ هَذِهِ الْهَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَرَكَةِ وَالْإِسْكَانِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالْإِشْبَاعِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. هُدىً، الْهُدَى: مَصْدَرُ هَدَى، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْهِدَايَةِ، وَالْهُدَى مُذَكَّرٌ وَبَنُو أَسَدٍ يُؤَنِّثُونَهُ، يَقُولُونَ: هَذِهِ هَدًى حَسَنَةٌ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ فِي كِتَابِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْهُدَى لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ، وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: هُوَ مُذَكَّرٌ.
انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَالْهُدَى اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّهَارِ، قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
حَتَى اسْتَبَنْتُ الْهُدَى وَالْبِيدُ هَاجِمَةُ يَخْضَعْنَ فِي الْآلِ غُلْفًا أَو يُصَلِّينَا
(١) سورة النساء: ٤/ ١٠٣. [.....]
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٨٧.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٨٣.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١٧٩.
(٥) سورة الأعراف: ٧/ ٣٨.
(٦) سورة النور: ٢٤/ ١٤.
(٧) سورة يونس: ١٠/ ٦٤.
(٨) سورة طه: ٢٠/ ٧١.
(٩) سورة الشورى: ٤٢/ ١١.
57
وهو على وزن فعلى، كَالسُّرَى وَالْبُكَى. وَزَعَمَ بَعْضُ أَكَابِرِ نُحَاتِنَا أَنَّهُ لَمْ يجئ من فعلى مَصْدَرٌ سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ ذَكَرَ لِي شَيْخُنَا اللُّغَوِيُّ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ رَضِيُّ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يوسف الشَّاطِبِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ قَالَتْ: لَقِيتُهُ لُقًى، وَأَنْشَدَنَا لِبَعْضِ الْعَرَبِ:
وَقَدْ زَعَمُوا حُلْمًا لِقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ بِحَمَدِ الَّذِي أَعْطَاكَ حِلْمًا وَلَا عَقْلًا
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ وَفُعَلٌ يَكُونُ جَمْعًا مَعْدُولًا وَغَيْرَ مَعْدُولٍ، وَمُفْرَدًا وَعَلَمًا مَعْدُولًا وَغَيْرَ مَعْدُولٍ، وَاسْمَ جِنْسٍ لِشَخْصٍ وَلِمَعْنًى وَصِفَةً مَعْدُولَةً وَغَيْرَ مَعْدُولَةٍ، مِثْلُ ذَلِكَ: جُمَعٌ وَغُرَفٌ وَعُمَرٌ وَأُدَدٌ وَنُغَرٌ وَهُدًى وَفُسَقٌ وَحُطَمٌ. لِلْمُتَّقِينَ الْمُتَّقِي اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اتَّقَى، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنْ وَقَى بِمَعْنَى حَفَظَ وَحَرَسَ، وَافْتَعَلَ هُنَا: لِلِاتِّخَاذِ أَيِ اتَّخَذَ وِقَايَةً، وَهُوَ أحد المعاني الاثنى عشر الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ، وَهُوَ: الِاتِّخَاذُ، وَالتَّسَبُّبُ، وَفِعْلُ الْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ، وَالتَّخَيُّرُ، وَالْخَطْفَةُ، وَمُطَاوَعَةُ افَّعَلَ، وَفَعَّلَ، وَمُوَافَقَةُ تَفَاعَلَ، وَتَفَعَّلَ، وَاسْتَفْعَلَ، وَالْمُجَرَّدُ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ، مِثْلُ ذَلِكَ: اطَّبَخَ، وَاعْتَمَلَ وَاضْطَرَبَ، وَانْتَخَبَ، وَاسْتَلَبَ، وَانْتَصَفَ مُطَاوِعُ أَنْصَفَ، وَاغْتَمَّ مُطَاوِعُ غَمَمْتُهُ، وَاجْتَوَرَ، وَابْتَسَمَ، وَاعْتَصَمَ، وَاقْتَدَرَ، وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ. وَإِبْدَالُ الْوَاوِ فِي اتَّقَى تَاءً وَحَذْفُهَا مَعَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ قَبْلَهَا فَيَبْقَى تَقَى مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ.
فَأَمَّا هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ أَوَائِلُ السُّوَرِ، فَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا حُرُوفٌ مُرَكَّبَةٌ وَمُفْرَدَةٌ، وَغَيْرُهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهَا أَسْمَاءٌ عُبِّرَ بِهَا عَنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي يُنْطَقُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْهَا فِي نَحْوِ: قَالَ، وَالْمِيمِ فِي نَحْوِ: مَلَكَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا فَوَاتِحُ لِلتَّنْبِيهِ وَالِاسْتِئْنَافِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ قَدِ انْقَضَى.
قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ كَمَا يَقُولُونَ فِي أَوَّلِ الْإِنْشَادِ لِشَهِيرِ الْقَصَائِدِ. بَلْ وَلَا بَلْ نَحَا هَذَا النَّحْوَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ وَفَوَاتِحُهَا، وَقَوْمٌ: إِنَّهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ أَقْسَامٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا لِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْمٍ: هِيَ حُرُوفٌ مُتَفَرِّقَةٌ دَلَّتْ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي فَقَالَ قَوْمٌ: يَتَأَلَّفُ مِنْهَا اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ، إِلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُ تَأْلِيفَهُ مِنْهَا، أَوِ اسْمُ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، أَوْ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، لَكِنْ جَهِلْنَا طَرِيقَ التَّأْلِيفِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى مُقَطَّعَةٌ، لَوْ أَحْسَنَ النَّاسُ تَأْلِيفَهَا تَعَلَّمُوا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ كَالْفُرْقَانِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
58
وَقِيلَ: هِيَ حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلَى مُدَّةِ الْمِلَّةِ، وَهِيَ حِسَابُ أَبِي جَادٍ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: مُدَّةُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَقِيلَ: مُدَّةُ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ أَيْضًا: لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ قَوْمٍ وَآجَالِ آخَرِينَ، وَقِيلَ:
هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ كَأَنَّهُ قَالَ لِلْعَرَبِ: إِنَّمَا تَحَدَّيْتُكُمْ بِنَظْمٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي عَرَفْتُمْ. وَقَالَ قُطْرُبٌ وغيره وَغَيْرُهُ: هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْعَرَبِ: إِنَّمَا تَحَدَّيْتُكُمْ بِنَظْمٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي عَرَفْتُمْ فَقَوْلُهُ: الم بِمَنْزِلَةِ: أب ت ث، لِيَدُلَّ بِهَا عَلَى التِّسْعَةِ وَعِشْرِينَ حَرْفًا. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ تَنْبِيهٌ كَمَا فِي النِّدَاءِ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ نَزَلَتْ لِيَسْتَغْرِبُوهَا فَيَفْتَحُونَ لَهَا أَسْمَاعَهُمْ فَيَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ بَعْدَهَا فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ. وَقِيلَ: هِيَ أَمَارَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كِتَابٌ فِي أَوَّلِ سُوَرٍ مِنْهُ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ، وَقِيلَ: حُرُوفٌ تَدُلُّ عَلَى ثَنَاءٍ أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ألم أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَالْمُرَادُ أَنَا اللَّهُ أرى. والمص أَنَا اللَّهُ أَفْصِلُ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَلِفُ: مِنَ اللَّهِ، وَاللَّامُ: مِنْ جِبْرِيلَ، والميم: مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ مَبَادِئُ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ بِالْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَةِ وَمَبَانٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَأُصُولِ كَلَامِ الْأُمَمِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَا مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا يَتَضَمَّنُ أمورا كثيرة ذارت فِيهَا الْأَلْسُنُ، وَلَيْسَ فِيهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي الْأَبَدِ وَلِلْأَبَدِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا فِي مُدَّةِ قَوْمٍ وَآجَالِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعَانِيهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَلِهَذَا قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي كِتَابِ اللَّهِ سِرٌّ، وَسِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. وَبِهِ قَالَ الشعب. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْقَاسِمِ: مَا قَامَ الْوُجُودُ كُلُّهُ إِلَّا بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَأَسْمَاءِ اللَّهِ الْمُعْجَمَةِ الْبَاطِنَةِ أَصْلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ خِزَانَةُ سِرِّهِ وَمَكْنُونُ عِلْمِهِ، وَمِنْهَا تَتَفَرَّعُ أَسْمَاءُ اللَّهِ كُلُّهَا، وَهِيَ الَّتِي قَضَى بِهَا الْأُمُورَ وَأَوْدَعَهَا أُمَّ الْكِتَابِ، وَعَلَى هَذَا حَوَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِعُلُومِ الْحُرُوفِ، وَمِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ: أَبُو الْحَكَمِ بْنُ بُرْجَانَ، وَلَهُ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ، وَالْبَوْنِيُّ، وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ وَالطَّائِيُّ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْجَلَالِيُّ، وَابْنُ حَمُّوَيْهِ، وَغَيْرُهُمْ، وَبَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي ذَلِكَ. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ كهيعص فَقَالَ لِلسَّائِلِ: لَوْ أُخْبِرْتَ بِتَفْسِيرِهَا لَمَشَيْتَ عَلَى الْمَاءِ لَا يُوَارِي قَدَمَيْكَ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعَانِيهَا مَعْلُومَةٌ وَيَأْتِي بَيَانُ كُلِّ حَرْفٍ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: اخْتَصَّ اللَّهُ بِعِلْمِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الاختلاف المنتشر الذي لا يَكَادُ يَنْضَبِطُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْكَلَامِ
59
عَلَيْهَا. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ: أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ الَّتِي فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ هُوَ الْمُتَشَابِهُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَسَائِرُ كَلَامِهِ تَعَالَى مُحْكَمٌ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْيَزِيدِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحْدَثِينَ، قَالُوا: هِيَ سِرُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهَا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِهَا وَتَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلْ يَجِبُ أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا وَتُلْتَمَسَ الْفَوَائِدُ الَّتِي تَحْتَهَا، وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّوَابُ مَا قَالَ الْجُمْهُورُ، فَنُفَسِّرُ هَذِهِ الْحُرُوفَ وَنَلْتَمِسُ لَهَا التَّأْوِيلَ لِأَنَّا نَجِدُ الْعَرَبَ قَدْ تَكَلَّمَتْ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ نَظْمًا وَوَضْعًا بَدَلَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي الْحُرُوفُ مِنْهَا، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافِ أَرَادَ قَالَتْ وَقَفْتُ
وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ:
بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرُفَا وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَآ
أَرَادَ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَرَادَ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ: وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ فَلَيْسَ كَوْنُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا تُنْكِرُهُ الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا، فَيَنْبَغِي إِذَا كَانَ مِنْ مَعْهُودِ كَلَامِ الْعَرَبِ، أَنْ يُطْلَبَ تَأْوِيلُهُ وَيُلْتَمَسَ وَجْهُهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا أَنْشَدَ وَبَيْنَ هَذِهِ الْحُرُوفِ، وَقَدْ أَطَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ بِمَا لَيْسَ يَحْصُلُ مِنْهُ كَبِيرُ فَائِدَةٍ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَلَا يَقُومُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ دَعَاوِيهِ بُرْهَانٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُعْرِبُونَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ فَقَالُوا: لَمْ تُعْرَبْ حُرُوفُ التَّهَجِّي لِأَنَّهَا أَسْمَاءُ مَا يُلْفَظُ، فَهِيَ كَالْأَصْوَاتِ فَلَا تُعْرَبُ إِلَّا إِذَا أَخْبَرْتَ عَنْهَا أَوْ عَطَفْتَهَا فَإِنَّكَ تُعْرِبُهَا، وَيَحْتَمِلُ مَحَلُّهَا الرَّفْعَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ، وَالنَّصْبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالْجَرَّ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْقَسَمِ، هَذَا إِذَا جَعَلْنَاهَا اسْمًا لِلسُّوَرِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ اسْمًا لِلسُّوَرِ فَلَا مَحَلَّ لَهَا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَحُرُوفِ الْمُعْجَمِ أو ردت مُفْرَدَةً مِنْ غَيْرِ عَامِلٍ فَاقْتَضَتْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَكِنَّةً كأسماء الأعداد، أو ردتها لِمُجَرَّدِ الْعَدَدِ بِغَيْرِ عَطْفٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاءُ السُّوَرِ، وَتَكَلَّمُوا عَلَى مَا يُمْكِنُ إِعْرَابُهُ مِنْهَا وَمَا لَا يُمْكِنُ، وَعَلَى مَا إِذَا أُعْرِبَ فَمِنْهُ مَا يُمْنَعُ الصَّرْفَ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْنَعُ الصَّرْفَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَقَدْ نُقِلَ خِلَافٌ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْحُرُوفِ آيَةً، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الم آيَةٌ، وَكَذَلِكَ هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ذُكِرَتْ فِيهَا، وَكَذَلِكَ المص وطسم وأخواتها وطه ويس
60
وحم وَأَخَوَاتُهَا إِلَّا حم عسق فإنها آيتان وكهيعص آيَةُ، وَأَمَّا المر وَأَخَوَاتُهَا فَلَيْسَتْ بِآيَةٍ، وَكَذَلِكَ طس وص وق ون وَالْقَلَمِ وق وص حُرُوفٌ دَلَّ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا عَلَى كَلِمَةٍ، وَجَعَلَوْا الْكَلِمَةَ آيَةً، كَمَا عَدُّوا: الرَّحْمنُ ومُدْهامَّتانِ آيَتَيْنِ.
وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ آيَةً. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ الِاقْتِصَارَ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الِاقْتِصَارَ كَانَ لِوُجُوهٍ ذَكَرُوهَا لَا يَقُومُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِرِهَانٌ فَتَرَكْتُ ذِكْرَهَا. وَذَكَرُوا أَنَّ التَّرْكِيبَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ انْتَهَى إِلَى خَمْسَةٍ، وَهُوَ:
كهيعص، لِأَنَّهُ أَقْصَى مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ الِاسْمُ الْمُجَرَّدُ، وَقَطَعَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ أَلِفٌ لَامٌ مِيمٌ حَرْفًا حَرْفًا بِوَقْفَةٍ وَقْفَةٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرَ حُرُوفِ التَّهَجِّي مِنَ الْفَوَاتِحِ، وَبَيْنَ النُّونِ مِنْ طسم وَيس وَعسق وَنُونٍ إِلَّا فِي طس تِلْكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ، وَذَلِكَ اسْمُ مُشَارٍ بَعِيدٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ الْكِتابُ عَلَى بَابِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِطْلَاقِهِ بِمَعْنَى هَذَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَيَكُونُ لِلْقَرِيبِ، فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَوْضُوعِهِ فَالْمُشَارِ إِلَيْهِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ وَغَيْرُهُ، أَوِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، أَوْ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، أَوْ مَا وَعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مِنْ أَنَّهُ يُنَزِّلُ إِلَيْهِ كِتَابًا لَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْكِتَابُ الَّذِي وَعَدَ بِهِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، أَوِ الْكِتَابُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قَالَهُ ابْنُ رِئَابٍ، أَوِ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوِ الْبُعْدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُنْزَلِ وَالْمُنْزَلِ إِلَيْهِ، أَوْ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي تَحَدَّيْتُكُمْ بِالنَّظْمِ مِنْهَا.
وَسَمِعْتُ الْأُسْتَاذَ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ شَيْخَنَا يَقُولُ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّرَاطِ فِي قَوْلِهِ: اهْدِنَا الصِّراطَ «١»
، كَأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ قِيلَ لَهُمْ: ذَلِكَ الصِّرَاطُ الَّذِي سَأَلْتُمُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ. وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ تَبَيَّنَ وَجْهُ ارْتِبَاطِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِسُورَةِ الْحَمْدِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَولَى لِأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ، لَا إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، وَقَدْ رَكَّبُوا وُجُوهًا مِنَ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ.
وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ الْكِتابُ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ إِضْمَارٍ وَلَا افْتِقَارٍ، كَانَ أَولَى أَنْ يَسْلُكَ بِهِ الْإِضْمَارَ وَالِافْتِقَارَ، وَهَكَذَا تَكُونُ عَادَتُنَا فِي إِعْرَابِ الْقُرْآنِ، لَا نَسْلُكُ فِيهِ إِلَّا الْحَمْلَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَأَبْعَدِهَا مِنَ التَّكَلُّفِ، وَأَسْوَغِهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَلَسْنَا كَمَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ تعالى كشعر امرئ
(١) سورة الفاتحة: ١/ ٦.
61
الْقَيْسِ، وَشِعْرِ الْأَعْشَى، يُحَمِّلُهُ جَمِيعَ مَا يَحْتَمِلَهُ اللَّفْظُ مِنْ وُجُوهِ الِاحْتِمَالَاتِ. فَكَمَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ أَفْصَحِ كَلَامٍ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي إِعْرَابُهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَفْصَحِ الْوُجُوهِ، هَذَا عَلَى أَنَّا إِنَّمَا نَذْكُرُ كَثِيرًا مِمَّا ذَكَرُوهُ لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ الْمُتَأَمِّلِينَ تَرْجِيحُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَالُوا:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خبر المبتدأ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالْكِتَابُ صِفَةٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَمَا بَعْدَهُ خَبَرًا. وَفِي موضع خبر الم ولا رَيْبَ جُمْلَةٌ تَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ خبر لذلك، وَالْكِتَابُ صِفَةٌ أَوْ بَدَلٌ أَوْ عَطْفٌ أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، إِذَا كَانَ الْكِتَابُ خَبَرًا، وَقُلْتُ بِتَعَدُّدِ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا أَوْلَى بِالْبُعْدِ لِتَبَايُنِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُفْرَدٌ وَالثَّانِي جُمْلَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ مُبَرَّأٍ مِنَ الرَّيْبِ، وَبَنَّاءُ رَيْبٍ مَعَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الْعَامِلَةُ عَمَلَ إن، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَلَا وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، فَالْمَرْفُوعُ بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِسْنَادِ خَبَرٌ لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ فَلَمْ تَعْمَلْ حَالَةُ الْبِنَاءِ إِلَّا النَّصْبَ فِي الِاسْمِ فَقَطْ، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَأَمَّا الْأَخْفَشُ فَذَلِكَ الْمَرْفُوعُ خَبَرٌ لِلَا، فَعَمِلَتْ عِنْدَهُ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَإِذَا عَمِلَتْ عَمَلَ إِنْ أَفَادَتِ الِاسْتِغْرَاقَ فَنَفَتْ هُنَا كُلَّ رَيْبٍ، وَالْفَتْحُ هُوَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ.
وَقَرَأَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: لَا رَيْبَ فِيهِ بِالرَّفْعِ، وَكَذَا قِرَاءَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ حيث وقع، وَالْمُرَادُ أَيْضًا هُنَا الِاسْتِغْرَاقُ، لَا مِنَ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ دَلَالَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ نَفْيَ رَيْبٍ وَاحِدٍ عَنْهُ، وَصَارَ نَظِيرَ مَنْ قَرَأَ: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ «١»
بِالْبِنَاءِ وَالرَّفْعِ، لَكِنَّ الْبِنَاءَ يَدُلُّ بِلَفْظِهِ عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ، وَالرَّفْعَ لَا يَدُلُّ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، وَيَحْتَمِلُ نَفْيَ الْوَحْدَةِ، لَكِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُمُومُ، وَرَفْعُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَيْبٌ مُبْتَدَأً وَفِيهِ الْخَبَرُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِعَدَمِ تَكْرَارِ لَا، أَوْ يَكُونُ عَمَلُهَا إِعْمَالَ لَيْسَ، فَيَكُونُ فِيهِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ لَا إِذَا عَمِلَتْ عَمَلَ لَيْسَ رَفَعَتِ الِاسْمَ وَنَصَبَتِ الْخَبَرَ، أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَنْسِبُ الْعَمَلَ لَهَا فِي رَفْعِ الِاسْمِ خَاصَّةً، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَرْفُوعٌ لِأَنَّهَا وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ كَحَالِهَا إِذَا نَصَبَتْ وَبُنِيَ الِاسْمُ مَعَهَا، وَذَلِكَ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مُشَبَّعًا فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «٢»
، وَحَمْلُ لَا فِي قِرَاءَةِ لَا رَيْبَ عَلَى أَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ ضَعِيفٌ لِقِلَّةِ إِعْمَالِ لَا عَمَلَ لَيْسَ، فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ ضَعِيفَةً. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، فيه:
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٩٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٩٧.
62
بِضَمِّ الْهَاءِ، وَكَذَلِكَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ وَبِهِ وَنُصْلِهِ وَنُوَلِّهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: فَهُوَ بِضَمِّ الْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِوَاوٍ، وَجَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَخَبَرًا لَهَا مَعَ اسْمِهَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أَنْ يَكُونَ صِفَةً وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ صِلَةِ رَيْبَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُضْمَرُ عَامِلٌ مِنْ لَفْظِ رَيْبَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ لَا رَيْبَ، إِذْ يَلْزَمُ إِذْ ذَاكَ إِعْرَابُهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ اسْمَ لَا مُطَوَّلًا بِمَعْمُولِهِ نَحْوَ لَا ضَارِبًا زَيْدًا عِنْدَنَا، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي بَابِ لَا الْعَامِلَةِ عَمَلَ إِنَّ إِذَا عُلِمَ لَمْ تَلْفِظْ بِهِ بَنُو تَمِيمٍ، وَكَثُرَ حَذْفُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ هُنَا مَعْلُومٌ، فَأَحْمِلُهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فِي الْإِعْرَابِ، وَإِدْغَامُ الْبَاءِ مِنْ لَا رَيْبَ فِي فَاءِ فِيهِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْإِظْهَارُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْيَزِيدِيِّ عَنْهُ. وَقَدْ قَرَأْتُهُ بِالْوَجْهَيْنِ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الطَّبَّاعِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَنَفْيُ الرَّيْبِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَاهِيَّةِ، أَيْ لَيْسَ مِمَّا يَحِلُّهُ الرَّيْبُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ الِارْتِيَابِ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ ارْتِيَابٌ مِنْ نَاسٍ كَثِيرِينَ. فَعَلَى مَا قُلْنَاهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى نَفْيِ التَّعْلِيقِ وَالْمَظِنَّةِ، كَمَا حَمَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ «١»
لِاخْتِلَافِ الْحَالِ وَالْمَحَلِّ، فَالْحَالُ هُنَاكَ الْمُخَاطَبُونَ، وَالرَّيْبُ هُوَ الْمَحَلُّ، وَالْحَالُ هُنَا مَنْفِيٌّ، وَالْمَحَلُّ الْكِتَابُ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ كَوْنِهِمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَوْنِ الرَّيْبَ مَنْفِيًّا عَنِ الْقُرْآنِ.
وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُهُمُ الرَّيْبَ فَقَالَ: لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَقِيلَ هُوَ عُمُومٌ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، أَيْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لَا سَبَبَ فِيهِ لِوُضُوحِ آيَاتِهِ وَإِحْكَامِ مَعَانِيهِ وَصِدْقِ أَخْبَارِهِ. وَهَذِهِ التَّقَادِيرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا. وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ فِيهِ خَبَرٌ، وَبِذَلِكَ بَنَى عَلَيْهِ سُؤَالًا وَهُوَ أَنْ قَالَ: هَلَّا قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى الرَّيْبِ كَمَا قُدِّمَ عَلَى الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا فِيها غَوْلٌ «٢» ؟ وَأَجَابَ: بِأَنَّ التَّقْدِيمَ يُشْعِرُ بِمَا يَبْعُدُ عَنِ الْمُرَادِ، وَهُوَ أَنَّ كِتَابًا غَيْرُهُ فِيهِ الرَّيْبُ، كَمَا قَصَدَ فِي قَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ تَفْضِيلُ خَمْرِ الْجَنَّةِ عَلَى خُمُورِ الدُّنْيَا بِأَنَّهَا لَا تَغْتَالُ الْعُقُولَ كَمَا تَغْتَالُهَا هِيَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَيْسَ فِيهَا مَا فِي غَيْرِهَا مِنْ هَذَا الْعَيْبِ وَالنَّقِيصَةِ. وَقَدِ انْتَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ دَعْوَى الِاخْتِصَاصِ بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ إِلَى دَعْوَاهُ بِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يُفَرِّقُ بَيْنَ: لَيْسَ فِي الدَّارِ رَجُلٌ، وَلَيْسَ رَجُلٌ فِي الدَّارِ، وَعَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ لَا يَغْتَالُ، وَقَدْ وَصَفَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ خَمْرَ الدُّنْيَا، قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣.
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ٤٧.
63
تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلَا يُؤْذِيكَ طَالِبُهَا وَلَا يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمٌ
وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لَا رَيْبَ صِيغَةُ خَبَرٍ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الرَّيْبِ. وَجَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَفِيهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، أَوِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أي هُوَ هُدًى، أَوْ عَلَى فِيهِ مُضْمَرَةً إِذَا جَعَلْنَا فِيهِ مِنْ تَمَامِ لَا رَيْبَ، أَوْ خَبَرٍ بَعْدَ خَبَرٍ فَتَكُونُ قَدْ أَخْبَرْتَ بِالْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ، وَبِقَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا خَبَرًا ثَالِثًا، أَوْ كَانَ الْكِتَابُ تَابِعًا وَهُدًى خَبَرٌ ثَانٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْإِعْرَابِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَبُولِغَ بِجَعْلِ الْمَصْدَرِ حَالًا وَصَاحِبُ الْحَالِ اسْمُ الْإِشَارَةِ، أَوِ الْكِتَابُ، وَالْعَامِلُ فِيهَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ أَوِ الضَّمِيرِ فِي فِيهِ، وَالْعَامِلُ مَا فِي الظَّرْفِ مِنَ الِاسْتِقْرَارِ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْحَالَ تَقْيِيدٌ، فَيَكُونُ انْتِقَالُ الرَّيْبِ مُقَيَّدًا بِالْحَالِ إِذْ لَا رَيْبَ فِيهِ يَسْتَقِرُّ فِيهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، لَكِنْ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ أَنَّهَا حَالٌ لَازِمَةٌ.
وَالْأَوْلَى: جَعْلُ كُلِّ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَذَلِكَ الْكِتَابُ جُمْلَةٌ، وَلَا رَيْبَ جُمْلَةٌ، وَفِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ جُمْلَةٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى حَرْفِ عَطْفٍ لِأَنَّ بَعْضَهَا آخِذٌ بِعُنُقِ بَعْضٍ. فَالْأُولَى أَخْبَرَتْ بِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ الْكَامِلُ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الرَّجُلُ، أَيِ الْكَامِلُ فِي الْأَوْصَافِ. وَالثَّانِيَةُ نَعْتٌ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مَا مِنْ رَيْبَ. وَالثَّالِثَةُ أَخْبَرَتْ أَنَّ فِيهِ الْهُدَى لِلْمُتَّقِينَ. وَالْمَجَازُ إِمَّا فِي فِيهِ هُدًى، أَيِ اسْتِمْرَارُ هُدًى لِأَنَّ الْمُتَّقِينَ مُهْتَدُونَ فَصَارَ نَظِيرَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ، وَإِمَّا فِي الْمُتَّقِينَ أَيِ الْمُشَارِفِينَ لِاكْتِسَابِ التَّقْوَى، كَقَوْلِهِ:
إِذَا مَا مَاتَ مَيِّتُ مِنْ تَمِيمٍ وَالْمُتَّقِي فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الَّذِي يَقِي نَفْسَهُ أَنْ يَتَعَاطَى مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِعُقُوبَةٍ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ، وَهَلِ التَّقْوَى تَتَنَاوَلُ اجْتِنَابَ الصَّغَائِرِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ. وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، هُوَ الْكِتَابُ أَيِ الْكَامِلُ فِي الْكُتُبِ، وَهُوَ المنزل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «١»، فَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ فِيهِ، فَلَا كِتَابَ أَكْمَلُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَيْبٌ وَأَنَّهُ فِيهِ الْهُدَى. فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى الْإِتْيَانُ بِالْجُمْلَةِ كَامِلَةَ الْأَجْزَاءِ حَقِيقَةً لَا مَجَازَ فِيهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ مجازا لحذف لأنا
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٣٨. [.....]
64
اخْتَرْنَا حَذْفَ الْخَبَرِ بَعْدَ لَا رَيْبَ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَنْزِيلُ الْمَعَانِي مَنْزِلَةَ الْأَجْسَامِ، إِذْ جَعَلَ الْقُرْآنَ ظَرْفًا وَالْهُدَى مَظْرُوفًا، فَأَلْحَقَ الْمَعْنَى بِالْعَيْنِ، وَأَتَى بِلَفْظَةٍ فِي الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْوِعَاءِ كَأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْهُدَى وَمُحْتَوٍ عَلَيْهِ احْتِوَاءَ الْبَيْتِ عَلَى زَيْدٍ فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ فِي الْبَيْتِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ: الْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ، وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «١»، وَأَصْلُهُ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الأمانة، ومعناهما الطمأنينة، منه: صَدَّقَهُ، وَأَمِنَ بِهِ: وَثِقَ بِهِ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَمِنَ لِلصَّيْرُورَةِ كَأَعْشَبَ، أَوْ لِمُطَاوَعَةِ فِعْلٍ كَأَكَبَّ، وَضُمِّنَ مَعْنَى الِاعْتِرَافِ أَوِ الْوُثُوقِ فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَاللَّامِ فَما آمَنَ لِمُوسى «٢»، وَالتَّعْدِيَةُ بِاللَّامِ فِي ضِمْنِهَا تَعَدٍّ بِالْبَاءِ، فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ التَّعْدِيَتَيْنِ. الْغَيْبُ: مَصْدَرُ غَابَ يَغِيبُ إِذَا تَوَارَى، وَسُمِّي الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ غَيْبًا لِذَلِكَ أَوْ فَعِيلٌ مِنْ غَابَ فَأَصْلُهُ غَيَّبَ، وَخُفِّفَ نَحْوَ: لَيِّنٍ فِي لِينٍ، وَالْفَارِسِيُّ لَا يَرَى ذَلِكَ قِيَاسًا فِي بنات الْيَاءِ، فَلَا يُجِيزُ فِي لِينٍ التَّخْفِيفَ وَيُجِيزُهُ فِي ذوات الواو، نحو: سَيِّدٍ وَمَيِّتٍ، وَغَيْرُهُ قَاسَهُ فِيهِمَا. وَابْنُ مَالِكٍ وَافَقَ أَبَا عَلِيٍّ فِي ذَوَاتِ الْيَاءِ. وَخَالَفَ الْفَارِسِيُّ فِي ذَوَاتِ الْوَاوِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ لَا مَقِيسٌ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَالْإِقَامَةُ: التَّقْوِيمُ، أَقَامَ الْعَوْدَ قَوَّمَهُ، أَوِ الْإِدَامَةُ أَقَامَتِ الْغَزَالَةُ سُوقَ الضِّرَابِ، أَيْ أَدَامَتْهَا مِنْ قَامَتِ السُّوقُ، أَوِ التَّشَمُّرُ وَالنُّهُوضُ مِنْ قَامَ بِالْأَمْرِ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَقَامَ لِلتَّعْدِيَةِ.
الصَّلَاةُ: فَعَلَةٌ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ لِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الصَّلَى، وَهُوَ عِرْقٌ مُتَّصِلٌ بِالظَّهْرِ يَفْتَرِقُ مِنْ عِنْدِ عَجْبِ الذَّنَبِ، وَيَمْتَدُّ مِنْهُ عِرْقَانِ فِي كُلِّ وَرِكٍ، عِرْقٌ يُقَالُ لَهُمَا الصَّلَوَانِ فَإِذَا رَكَعَ الْمُصَلِّي انْحَنَى صَلَاهُ وَتَحَرَّكَ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ مَصْلِيًّا، وَمِنْهُ أُخِذَ الْمُصَلِّي فِي سَبْقِ الْخَيْلِ لِأَنَّهُ يَأْتِي مَعَ صِلْوَيِ السَّابِقِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَاشْتُقَّتِ الصَّلَاةُ مِنْهُ إِمَّا لِأَنَّهَا جَاءَتْ ثَانِيَةَ الْإِيمَانِ فَشُبِّهَتْ بِالْمُصَلَّى مِنَ الْخَيْلِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الرَّاكِعَ وَالسَّاجِدَ يَنْثَنِي صَلَوَاهُ، وَالصَّلَاةُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَنْتَظِمُ مِنْ أَقْوَالٍ وَهَيْئَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَصَلَّى فَعَلَ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا صَلَّى دَعَا فَمَجَازٌ وَعِلَاقَتُهُ تَشْبِيهُ الدَّاعِي فِي التَّخَشُّعِ وَالرَّغْبَةِ بِفَاعِلِ الصَّلَاةِ، وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الصَّلَاةَ مِمَّا أُخِذَ مِنْ صَلَّى بِمَعْنَى دَعَا، كَمَا قَالَ:
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعًا
وَقَالَ:
لَهَا حَارِسٌ لَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١٧.
(٢) سورة يونس: ١٠/ ٨٣.
65
قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ دُعَاءً، وَانْضَافَ إِلَيْهِ هَيْئَاتٌ وَقِرَاءَةٌ، سُمِّيَ جَمِيعُ ذَلِكَ بِاسْمِ الدُّعَاءِ وَالْقَوْلُ إِنَّهَا مِنَ الدُّعَاءِ أَحْسَنُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ ذكر أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ عِنْدَنَا، وَذَكَرْنَا الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الدَّاعِي وَفَاعِلِ الصَّلَاةِ، وَمِنْ حَرْفُ جَرٍّ. وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّ أَصْلَهَا مِنَا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ بَعْضِ قُضَاعَةَ:
بَذَلْنَا مَارِنَ الْخَطِّيِّ فِيهِمْ وَكُلَّ مُهَنَّدٍ ذَكَرٍ حُسَامِ
مِنَا أَنْ ذَرَّ قَرْنُ الشَمْسِ حَتَّى أغاب شريدهم قتر الظَّلَامِ
وَتَأَوَّلَ ابْنُ جِنِّي، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى فِعَلٍ مِنْ مَنَى يُمْنَى أَيْ قَدَرَ. وَاغْتَرَّ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ: وَقَدْ يُقَالُ مِنَا. وَقَدْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَلِلتَّبْعِيضِ، وَزَائِدَةً وَزِيدَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَلِلتَّعْلِيلِ، وَلِلْبَدَلِ، وَلِلْمُجَاوَزَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَلِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَلِلْفَصْلِ، وَلِمُوَافَقَةِ الْبَاءِ، وَلِمُوَافَقَةٍ فِي. مِثْلَ ذَلِكَ: سِرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، أَكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ، مَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ، يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «١»، فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ «٢»، بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ «٣»، غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ «٤»، قَرُبْتَ مِنْهُ، وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ «٥»، يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ «٦» يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ «٧» مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ»
. مَا تَكُونُ مَوْصُولَةً، وَاسْتِفْهَامِيَّةً، وَشَرْطِيَّةً، وَمَوْصُوفَةً، وَصِفَةً، وَتَامَّةً. مَثَلُ ذَلِكَ:
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، مَرَرْتُ بِمَا مُعْجَبٍ لَكَ، لِأَمْرٍ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ، مَا أَحْسَنَ زَيْدًا. رَزَقْناهُمْ الرِّزْقُ: الْعَطَاءُ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُرْزَقُ كَالطَّحْنِ، وَالرِّزْقُ الْمَصْدَرُ، وَقِيلَ الرِّزْقُ أَيْضًا مَصْدَرُ رَزَقْتَهُ أَعْطَيْتَهُ، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً وَقَالَ:
رُزِقْتَ مَالًا وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا
وَقِيلَ: أَصْلُ الرِّزْقِ الْحَظَّ، وَمَعَانِي فَعَلَ كَثِيرَةٌ ذُكِرَ مِنْهَا: الْجَمْعُ، وَالتَّفْرِيقُ، وَالْإِعْطَاءُ، وَالْمَنْعُ، وَالِامْتِنَاعُ، وَالْإِيذَاءُ، وَالْغَلَبَةُ، وَالدَّفْعُ، وَالتَّحْوِيلُ، وَالتَّحَوُّلُ، وَالِاسْتِقْرَارُ، وَالسَّيْرُ، وَالسَّتْرُ، وَالتَّجْرِيدُ، وَالرَّمْيُ، وَالْإِصْلَاحُ، والتصويت. مثل ذلك:
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٣١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٩.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٣٨.
(٤) سورة آل عمران: ٣/ ١٢١.
(٥) سورة الأنبياء: ٢١/ ٧٧.
(٦) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٠.
(٧) سورة الشورى: ٤٣/ ٤٥.
(٨) سورة فاطر: ٣٥/ ٤٠.
66
حَشَرَ، وَقَسَمَ، وَمَنَحَ، وَغَفَلَ، وَشَمَسَ، وَلَسَعَ، وَقَهَرَ، وَدَرَأَ، وَصَرَفَ، وَظَعَنَ، وَسَكَنَ، وَرَمَلَ، وَحَجَبَ، وَسَلَخَ، وَقَذَفَ، وَسَبَحَ، وَصَرَخَ. وَهِيَ هُنَا لِلْإِعْطَاءِ نَحْوُ: نَحَلَ، وَوَهَبَ، وَمَنَحَ. يُنْفِقُونَ، الْإِنْفَاقُ: الْإِنْفَاذُ، أَنْفَقْتُ الشَّيْءَ وَأَنْفَذْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ نَفَقَ الشَّيْءُ نَفَذَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ تَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ وَالذَّهَابِ، وَمِنْهُ:
نَافَقَ، وَالنَّافِقَاءُ، وَنَفَقَ...
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، الَّذِينَ ذَكَرُوا فِي إِعْرَابِهِ الْخَفْضَ عَلَى النَّعْتِ لِلْمُتَّقِينَ، أَوِ الْبَدَلَ وَالنَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ عَلَى الْقَطْعِ، أَوْ بِإِضْمَارِ أَعْنِي عَلَى التَّفْسِيرِ قَالُوا، أَوْ عَلَى مَوْضِعِ الْمُتَّقِينَ، تَخَيَّلُوا أَنَّ لَهُ مَوْضِعًا وَأَنَّهُ نُصِبَ، وَاغْتَرُّوا بِالْمَصْدَرِ فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ مَعْمُولٌ لَهُ عُدِّيَ بِاللَّامِ، وَالْمَصْدَرُ هُنَا نَابَ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَلَا يَعْمَلُ، وَإِنْ عَمِلَ اسْمُ الْفَاعِلِ وَأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى مَصْدَرِيَّتِهِ فَلَا يَعْمَلُ، لِأَنَّهُ هُنَا لَا يَنْحَلُّ بِحَرْفِ مَصْدَرٍ وَفِعْلٍ، وَلَا هُوَ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ، بَلْ لِلْمُتَّقِينَ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ هُدًى، أَيْ هُدًى كَائِنٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَالرَّفْعُ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ هُمُ الَّذِينَ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَأُولَئِكَ الْمُتَأَخِّرَةُ، وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، وَهَذَا الْأَخِيرُ إِعْرَابٌ مُنْكَرٌ لَا يَلِيقُ مِثْلُهُ بِالْقُرْآنِ، وَالْمُخْتَارُ فِي الْإِعْرَابِ الْجَرُّ عَلَى النَّعْتِ وَالْقَطْعُ، إِمَّا لِلنَّصْبِ، وَإِمَّا لِلرَّفْعِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ جَاءَتْ لِلْمَدْحِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ بِالْهَمْزَةِ سَاكِنَةً بَعْدَ الْيَاءِ، وَهِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، وَحَذَفَ هَمْزَةَ أَفْعَلَ حَيْثُ وَقَّعَ ذلك ورش وأبو عمر، وَإِذَا أُدْرِجَ بِتَرْكِ الْهَمْزِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ رَزِينٌ بِتَحْرِيكِ الْهَمْزَةِ مِثْلَ: يُؤَخِّرُكُمْ، وَوَجْهُ قِرَاءَتِهِ أَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ لِسُكُونِهَا، وَأَقَرَّ هَمْزَةَ أَفْعَلَ لِتَحَرُّكِهَا وَتَقَدُّمِهَا وَاعْتِلَالِهَا فِي الْمَاضِي وَالْأَمْرِ، وَالْيَاءُ مُقَوِّيَةٌ لِوُصُولِ الْفِعْلِ إِلَى الِاسْمِ، كَمَرَرْتُ بِزَيْدٍ، فَتَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ، أَوْ لِلْحَالِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ مُلْتَبِسِينَ بِالْغَيْبِ عَنِ الْمُؤْمَنِ بِهِ، فَيَتَعَيَّنُ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْمَصْدَرُ، وَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ فَعَلَى مَعْنَى الْغَائِبِ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ وَأُرِيدَ بِهِ اسْمَ الْفَاعِلِ، قَالُوا: وَعَلَى مَعْنَى الْغَيْبِ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ وَأُرِيدَ بِهِ اسْمَ الْمَفْعُولِ نَحْوُ: هَذَا خَلْقٌ الله، وَدِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْغَيْبَ مَصْدَرُ غَابَ اللَّازِمِ، أَوْ عَلَى التَّخْفِيفِ مِنْ غَيَّبَ كَلَيَّنَ، فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَصْدَرًا وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ التَّخْفِيفَ، وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْغَيْبِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا يُصَارُ إِلَى ذَلِكَ حتى يسمع منقلا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالْغَيْبُ هُنَا الْقُرْآنُ، قَالَهُ عَاصِمُ بن أبي الجود، أَوْ مَا لَمْ يَنْزِلْ
67
مِنْهُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ أَوْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوْ عِلْمُ الْوَحْيِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ وَافِدٍ، أَوْ أَمْرُ الْآخِرَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ مَا غَابَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَانِئٍ، أَوِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَهُ عَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ مَا غَابَ عَنِ الْحَوَاسِّ مِمَّا يُعْلَمُ بِالدَّلَالَةِ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى، أَوِ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، أَوْ مَعْنَى بِالْغَيْبِ بِالْقُلُوبِ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ مَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، أَوِ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ، قَالَهُ بَعْضُ الشِّيعَةِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا
أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ وَهُوَ: اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَكُتُبُهُ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر والقدر
، خَيْرُهُ وَشَرُّهُ، وَإِيَّاهُ نَخْتَارُ لِأَنَّهُ شَرَحَ حَالَ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
وَالْإِيمَانُ الْمَطْلُوبُ شَرْعًا هُوَ ذَاكَ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا تَضَمَّنَ الِاعْتِقَادَ الْقَلْبِيَّ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، وَالْفِعْلُ الْبَدَنِيُّ، وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَإِخْرَاجُ الْمَالِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ عُمُدُ أَفْعَالِ الْمُتَّقِي، فَنَاسَبَ أَنْ يُشْرَحَ الْغَيْبُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَمَا فُسِّرَ بِهِ الْإِقَامَةُ قَبْلُ يَصْلُحُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ قَوْلُهُ:
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَقَالُوا: وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْإِقَامَةِ عَنِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ لَهَا، قَالُوا: لِأَنَّ الْقِيَامَ بَعْضُ أَرْكَانِهَا، كَمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْقُنُوتِ، وَالْقُنُوتُ الْقِيَامُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قَالُوا:
سَبَّحَ إِذَا صَلَّى لِوُجُودِ التَّسْبِيحِ فِيهَا، فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَا يَصِحُ إِلَّا بِارْتِكَابِ مَجَازٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ قَامَتِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مِنْهَا قِيَامٌ ثُمَّ دَخَلَتِ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ فَقُلْتُ: أَقَمْتُ الصَّلَاةَ، أَيْ جَعَلْتُهَا تَقُومُ، أَيْ يَكُونُ مِنْهَا الْقِيَامُ، وَالْقِيَامُ حَقِيقَةٌ مِنَ الْمُصَلِّي لَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَجُعِلَ مِنْهَا عَلَى الْمَجَازِ إِذَا كَانَ مِنْ فَاعِلِهَا. وَالصَّلَاةُ هُنَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ: أَوِ الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِلُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ.
وَالرِّزْقُ قِيلَ: هُوَ الْحَلَالُ، قَالَهُ أَصْحَابُنَا، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْحَلَالُ لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ وَصْفِ الْمُتَّقِي. وَمَنْ كُتِبَتْ مُتَّصِلَةً بِمَا مَحْذُوفَةَ النُّونِ مِنَ الْخَطِّ، وَكَانَ حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ مُنْفَصِلَةً لِأَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، لَكِنَّهَا وُصِلَتْ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهَا قَدْ أُخْفِيَتْ نُونُ مَنْ فِي اللَّفْظِ فَنَاسَبَ حَذْفُهَا فِي الْخَطِ، وَهُنَا لِلتَّبْعِيضِ، إِذِ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ إِخْرَاجَ جَمِيعِ مَا رُزِقُوا لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ. وَالنَّفَقَةُ الَّتِي فِي الْآيَةِ هِيَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ نَفَقَةُ الْعِيَالِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ التَّطَوُّعُ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ مَعْنَاهُ، أَوِ النَّفَقَةُ فِي الْجِهَادِ أَوِ النَّفَقَةُ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ الْفَرْضُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُمْسِكَ مِمَّا فِي يَدِهِ بِمِقْدَارِ كِفَايَتِهِ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَيُفَرِّقَ بَاقِيَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَرُجِّحَ كَوْنُهَا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ لِاقْتِرَانِهَا بِأُخْتِهَا الصَّلَاةِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ
68
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلِتَشَابُهِ أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَوَّلِ سُورَةِ النَّمْلِ وَأَوَّلِ سُورَةِ لُقْمَانَ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ طُهْرَةٌ لِلْبَدَنِ، وَالزَّكَاةَ طُهْرَةٌ لِلْمَالِ وَالْبَدَنِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ، وَالزَّكَاةَ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ أَعْظَمَ مَا لِلَّهِ عَلَى الْأَبْدَانِ مِنَ الْحُقُوقِ الصَّلَاةُ، وَفِي الْأَمْوَالِ الزَّكَاةُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ تَمْثِيلًا لِلْمُتَّفَقِ لَا خِلَافًا فِيهِ. وَكَثِيرًا مَا نَسَبَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِنَفْسِهِ حِينَ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ، أَوْ أَخْبَرَ بِهِ، وَلَمْ يَنْسِبْ ذَلِكَ إِلَى كَسْبِ الْعَبْدِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي يُخْرِجُهُ الْعَبْدُ وَيُعْطِيهِ هُوَ بَعْضُ مَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَهُ وَنَحَلَهُ إِيَّاهُ، وَجَعَلَ صِلَاتِ الَّذِينَ أَفْعَالًا مُضَارِعَةً، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمَوْصُولَ أَلْ فَيَصِلَهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ فِيمَا ذَكَرَ الْبَيَانِيُّونَ مُشْعِرٌ بِالتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ بِخِلَافِ اسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُشْعِرٌ بِالثُّبُوتِ وَالْأَمْدَحُ فِي صِفَةِ الْمُتَّقِينَ تَجَدُّدُ الْأَوْصَافِ، وَقَدَّمَ الْمُنْفَقَ مِنْهُ عَلَى الْفِعْلِ اعْتِنَاءً بِمَا خَوَّلَ اللَّهُ بِهِ الْعَبْدَ وَإِشْعَارًا أَنَّ الْمُخْرَجَ هُوَ بَعْضُ مَا أَعْطَى الْعَبْدَ، وَلِتَنَاسُبِ الْفَوَاصِلِ وَحَذْفِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمُوهُ، وَاجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَعَيَّنًا لِلرَّبْطِ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ مُتَصَرِّفٍ تَامٍّ. وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً وَقَدَّرَ، ومن شيء رزقناهمو لِضَعْفِ الْمَعْنَى بَعْدَ عُمُومِ الْمَرْزُوقِ الَّذِي يُنْفَقُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ التمدح الذي يحصل يجعل مَا مَوْصُولَةً لِعُمُومِهَا، وَلِأَنَّ حَذْفَ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ أَوْ جَعْلَ مَا مَصْدَرِيَّةً، فَلَا يَكُونُ فِي رَزَقْنَاهُمْ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ بَلْ مَا مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، فَيُضْطَرُّ إِلَى جَعْلِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْمَصْدَرِ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ إِنَّمَا يُنْفَقُ مِنَ الْمَرْزُوقِ، وَتَرْتِيبُ الصَّلَاةِ عَلَى حَسَبِ الْإِلْزَامِ. فَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ لَازِمٌ لِلْمُكَلَّفِ دَائِمًا، وَالصَّلَاةُ لَازِمَةٌ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَالنَّفَقَةُ لَازِمَةٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ.
الْإِنْزَالُ: الْإِيصَالُ وَالْإِبْلَاغُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أعلا، فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ أَيْ وَصَلَ وَحَلَّ، إِلَى حَرْفُ جَرٍّ مَعْنَاهُ انْتِهَاءُ الْغَايَةِ وَزِيدَ كَوْنُهَا لِلْمُصَاحَبَةِ وَلِلتَّبْيِينِ وَلِمُوَافَقَةِ اللَّامِ وَفِي وَمِنْ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ زِيَادَتَهَا، مِثْلَ ذَلِكَ: سِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ، كَأَنَّنِي إِلَى النَّاسِ مَطْلَبِي، أَيْ فِي النَّاسِ.
أَيَسْقِي فَلَا يَرْوِي إِلَى ابْنِ أَحْمَرَا، أَيْ مَتَى تَهْوِي إِلَيْهِمْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ تَهْوَاهُمْ، وَحُكْمُهَا فِي ثُبُوتِ الْفَاءِ، وَقَلْبِهَا حُكْمُ عَلَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالْكَافُ الْمُتَّصِلَةُ بِهَا ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ الْمُذَكَّرِ، وَتُكْسَرُ لِلْمُؤَنَّثِ، وَيَلْحَقُهَا مَا يَلْحَقُ أَنْتَ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ دَلَالَةً عَلَيْهِمَا، وَرُبَّمَا فُتِحَتْ لِلْمُؤَنَّثِ، أَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهَا مَكْسُورَةً فِي جَمْعِهَا نَحْوَ:
69
قَبْلُ وَبَعْدُ ظَرْفَا زَمَانٍ وَأَصْلُهُمَا الْوَصْفُ وَلَهُمَا أَحْكَامٌ تُذْكَرُ فِي النَّحْوِ، وَمَدْلُولُ قَبْلُ مُتَقَدِّمٌ، كَمَا أَنَّ مَدْلُولَ بَعْدُ مُتَأَخِّرٌ. الْآخِرَةُ تَأْنِيثُ الْآخِرِ مُقَابِلِ الْأَوَّلِ وَأَصْلُ الْوَصْفِ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ «١»، وَلَدارُ الْآخِرَةِ «٢»، ثُمَّ صَارَتْ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَسْكِينِ لَامِ التَّعْرِيفِ وَإِقْرَارِ الْهَمْزَةِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَهَا لِلْقَطْعِ، وَوَرْشٌ يَحْذِفُ وَيَنْقُلُ الْحَرَكَةَ إِلَى اللَّامِ. الْإِيقَانُ: التَّحَقُّقُ لِلشَّيْءِ لِسُكُونِهِ وَوُضُوحِهِ، يُقَالُ يَقِنَ الْمَاءُ سَكَنَ وَظَهَرَ مَا تَحْتَهُ، وَأَفْعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ كَأَبَلَّ بِمَعْنَى اسْتَبَلَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُمَا النَّخَعِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَيَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ مبنيا للفاعل.
وقرىء شَاذًّا بِمَا أُنْزِلَّ إِلَيْكَ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَسْكَنَ لَامَ أَنْزَلَ كَمَا أَسْكَنَ وَضَّاحٌ آخِرَ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ:
إِنَّمَا شِعْرِي قَيْدٌ، قَدْ خُلِطْ بحلجان ثُمَّ حَذَفَ هَمْزَةَ إِلَى وَنَقَلَ كَسْرَتَهَا إِلَى لَامِ أَنْزَلَ فَالتَّقَى الْمِثْلَانِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، وَالْإِدْغَامُ جَائِزٌ فَأَدْغَمَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُوقِنُونَ بِوَاوٍ ساكنة بعد الياء وهي مُبْدَلَةٌ مِنْ يَاءٍ لِأَنَّهُ مِنْ أَيْقَنَ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيَّةَ النُّمَرِيُّ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَدَلَ الْوَاوِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَسْتُ بِسَائِلٍ جَارَاتِ بَيْتِي أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ أَمْ شُهُودُ
لحب المؤقذان إِلَيَّ مُوسَى وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الضَّرُورَةِ، وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّ هَذِهِ الْوَاوَ لَمَّا جَاوَرَتِ الْمَضْمُومَ فَكَأَنَّ الضَّمَّةَ فِيهَا، وَهُمْ يُبْدِلُونَ مِنَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ هَمْزَةً، قَالُوا وَفِي وُجُوهٍ وَوُقِّتَتْ أُجُوهٌ وَأُقِّتَتْ، فَأَبْدَلُوا مِنْ هَذِهِ هَمْزَةً، إِذْ قَدَّرُوا الضَّمَّةَ فِيهَا وَإِعَادَةُ الْمَوْصُولِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ يَحْتَمِلُ الْمُغَايَرَةَ فِي الذَّاتِ وَهُوَ الْأَصْلُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ لِإِيمَانِهِمْ بِكُلِّ وَحْيٍ، فَإِنْ جَعَلْتَ الْمَوْصُولَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَوْصُولِ انْدَرَجُوا فِي جُمْلَةِ الْمُتَّقِينَ، إِنْ لَمْ يُرِدْ بِالْمُتَّقِينَ بِوَصْفِهِ مُؤْمِنُو الْعَرَبِ، وَذَلِكَ لِانْقِسَامِ الْمُتَّقِينَ إِلَى الْقِسْمَيْنِ.
وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُتَّقِينَ لَمْ يَنْدَرِجْ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ قَسِيمٌ لِمَنْ لَهُ الْهُدَى لَا قِسْمٌ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَيُحْتَمَلُ الْمُغَايَرَةُ فِي الْوَصْفِ، فَتَكُونُ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الصِّفَاتِ، وَلَا تَغَايُرَ فِي الذوات بِالنِّسْبَةِ لِلْعَطْفِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَبُنِيَ الفعلان للمفعول للعلم
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٨٣.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ١٠٩، وسورة النحل: ١٦/ ١٣٠.
70
بِالْفَاعِلِ، نَحْوَ: أُنْزِلَ الْمَطَرُ، وَبِنَاؤُهُمَا لِلْفَاعِلِ فِي قِرَاءَةِ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَيْوَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ قُطَيْبٍ، فَاعِلُهُ مُضْمَرٌ، قِيلَ: اللَّهُ أَوْ جِبْرِيلُ. قَالُوا: وَقُوَّةُ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ عِنْدِي مِنَ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ، فَخَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى الْأَوَّلِ لَجَاءَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلَ صِلَةَ مَا الْأُولَى مَاضِيَةً لِأَنَّ أَكْثَرَهُ كَانَ نَزَلَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْجَمِيعِ، أَوْ غُلِّبَ الْمَوْجُودُ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْمُتَقَدِّمِ الْمَاضِي يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالْمُتَأَخِّرِ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْإِيمَانِ وَاحِدٌ. وَأَمَّا صِلَةُ الثَّانِيَةِ فَمُتَحَقِّقَةُ الْمُضِيِّ وَلَمْ يُعَدْ حَرْفُ الْجَرِّ فيما الثَّانِيَةِ لِيَدُلَّ أَنَّهُ إِيمَانٌ وَاحِدٌ، إِذْ لَوْ أَعَادَ لَأَشْعَرَ بِأَنَّهُمَا إِيمَانَانِ.
وَبِالْآخِرَةِ: تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهَا الدَّارُ الْآخِرَةُ لِلتَّصْرِيحِ بِالْمَوْصُوفِ فِي بَعْضِ الْآيِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، إِذْ قَدْ جَاءَ أَيْضًا مُصَرَّحًا بِهَذَا الْمَوْصُوفِ، وَكِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْبَعْثِ. وَأَكَّدَ أَمْرَ الْآخِرَةِ بِتَعَلُّقِ الْإِيقَانِ بِهَا الَّذِي هُوَ أَجْلَى وَآكَدُ مَرَاتِبِ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَفَاوُتَ فِي الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ دَفْعًا لِمَجَازِ إِطْلَاقِ الْعِلْمِ، وَيُرَادُ بِهِ الظَّنُّ، فَذَكَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعِلْمَ بِالْآخِرَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا إِيقَانًا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنَ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ. وَغَايَرَ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالْمُنَزَّلِ وَالْإِيمَانِ بِالْآخِرَةِ فِي اللَّفْظِ لِزَوَالِ كُلْفَةِ التَّكْرَارِ، وَكَانَ الْإِيقَانُ هُوَ الَّذِي خُصَّ بِالْآخِرَةِ لِكَثْرَةِ غَرَائِبِ مُتَعَلِّقَاتِ الْآخِرَةِ، وَمَا أُعِدَّ فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ السَّرْمَدِيَّيْنِ، وَتَفْصِيلُ أَنْوَاعِ التَّنْعِيمِ وَالتَّعْذِيبِ، وَنَشْأَةُ أَصْحَابِهَا عَلَى خِلَافِ النَّشْأَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى. فَالْآخِرَةُ أَغْرَبُ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنَ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، فَلِذَلِكَ خَصَّ بِلَفْظِ الْإِيقَانِ، وَلِأَنَّ الْمُنَزَّلَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مُشَاهَدٌ أَوْ كَالْمُشَاهَدِ، وَالْآخِرَةُ غَيْبٌ صِرْفٌ، فَنَاسَبَ تَعْلِيقَ الْيَقِينِ بِمَا كَانَ غَيْبًا صِرْفًا. قَالُوا: وَالْإِيقَانُ هُوَ الْعِلْمُ الْحَادِثُ سَوَاءٌ كَانَ ضَرُورِيًّا أَوِ اسْتِدْلَالِيًّا، فَلِذَلِكَ لَا يُوصَفُ بِهِ الْبَارِي تَعَالَى، لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ الْمُوقِنُ وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ اعْتِنَاءً بِهِ وَلِتَطَابُقِ الْأَوَاخِرِ. وَإِيرَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ آكَدُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ هَؤُلَاءِ بِالْإِيقَانِ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ فَعَلَ آكَدُ مِنْ فَعَلَ زَيْدٌ لِتَكْرَارِ الِاسْمِ فِي الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُضْمَرًا، وَتَصْدِيرِهِ مُبْتَدَأٌ يُشْعِرُ بِالِاهْتِمَامِ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ التَّقْدِيمَ لِلْفِعْلِ مُشْعِرٌ بِالِاهْتِمَامِ بِالْمَحْكُومِ بِهِ. وَذَكَرَ لَفْظَةَ هُمْ فِي قَوْلِهِ: هُمْ يُوقِنُونَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ هُمْ فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ لِأَنَّ وَصْفَ إِيقَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ أَعْلَى مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْإِنْفَاقِ، فَاحْتَاجَ هَذَا إِلَى التَّوْكِيدِ وَلَمْ يَحْتَجْ ذَلِكَ إِلَى تَأْكِيدٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَهُمْ هُنَاكَ لَكَانَ فِيهِ قَلَقٌ لَفْظِيٌّ، إِذْ كَانَ يَكُونُ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ هُمْ
71
يُنْفِقُونَ. أُولَئِكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ لِلْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أنه للرتبة القصوى كأولالك، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ لِلرُّتْبَةِ الْوُسْطَى، قَاسَهُ عَلَى ذَا حِينَ لَمْ يَزِيدُوا فِي الْوُسْطَى عَلَيْهِ غَيْرَ حَرْفِ الخطاب، بخلاف أولالك. وَيَضْعُفُ قَوْلُهُ كَوْنَ هَاءِ التنبيه لا ندخل عَلَيْهِ. وَكَتَبُوهُ بِالْوَاوِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلَيْكَ، وَبُنِيَ لِافْتِقَارِهِ إِلَى حَاضِرٍ يُشَارُ إِلَيْهِ بِهِ، وَحُرِّكَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَائِهِمَا. الْفَلَاحُ: الْفَوْزُ وَالظَّفْرُ بِإِدْرَاكِ الْبُغْيَةِ، أَوِ الْبَقَاءِ، قِيلَ: وَأَصْلُهُ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ:
إِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ وَفِي تَشَارُكِهِ فِي مَعْنَى الشَّقِّ مُشَارَكَةً فِي الْفَاءِ وَالْعَيْنِ نَحْوَ: فَلَى وَفَلَقَ وَفَلَذَ، تَقَدَّمَ فِي إِعْرَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، أَنَّ مِنْ وَجْهَيْ رَفْعِهِ كَوْنَهُ مُبْتَدَأً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أُولَئِكَ مَعَ مَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الَّذِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا وَعَطْفَ بَيَانٍ، وَيَمْتَنِعُ الْوَصْفُ لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ. وَيَكُونُ خَبَرَ الَّذِينَ إِذْ ذَاكَ قَوْلُهُ: عَلى هُدىً، وَإِنْ كَانَ رَفْعُ الَّذِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ كَانَ مَجْرُورًا أَوْ مَنْصُوبًا، كَانَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ عَلى هُدىً، وقد تقدم أنا لا نَخْتَارُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لِانْفِلَاتِهِ مِمَّا قَبْلَهُ وَالذَّهَابِ بِهِ مَذْهَبَ الِاسْتِئْنَافِ مَعَ وُضُوحِ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ لِلتَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ فِي الِاسْتِئْنَافِ فِيمَا هُوَ ظَاهِرُ التَّعَلُّقِ بِمَا قَبْلَهُ وَالِارْتِبَاطِ بِهِ. وَقَدْ وَجَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهَ الِاسْتِئْنَافِ بِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الكتاب اختص المتقون بِكَوْنِهِ هُدًى لَهُمْ، اتَّجَهَ لِسَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا بَالُ الْمُتَّقِينَ مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْجَلِيلَةَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَالْإِيمَانِ بِالْمُنْزَلِ، وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ عَلَى هُدًى فِي الْعَاجِلِ، وَذَوُو فَلَاحٍ فِي الْآجِلِ. ثُمَّ مَثَّلَ هَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ بِقَوْلِهِ: أَحَبَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْأَنْصَارَ الَّذِينَ قَارَعُوا دُونَهُ، فَكَشَفُوا الْكَرْبَ عَنْ وَجْهِهِ، أُولَئِكَ أَهْلٌ لِلْمَحَبَّةِ، يَعْنِي أَنَّهُ اسْتَأْنَفَ فَابْتَدَأَ بِصِفَةِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا اسْتَأْنَفَ بِصِفَةِ الْأَنْصَارِ.
وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الِاتِّصَالِ يَكُونُ قَدْ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِصِفَاتِ مَدْحٍ فَضَلَتْ جِهَاتِ التَّقْوَى، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ وَأَعْلَمَ بِأَنَّ مَنْ حَازَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الشَّرِيفَةَ هُوَ عَلَى هُدًى، وَهُوَ الْمُفْلِحُ وَالِاسْتِعْلَاءُ الَّذِي أَفَادَتْهُ فِي قَوْلِهِ: عَلى هُدىً، هُوَ مَجَازٌ نَزَّلَ الْمَعْنَى مَنْزِلَةَ الْعَيْنِ، وَأَنَّهُمْ لِأَجْلِ مَا تَمَكَّنَ رُسُوخُهُمْ فِي الْهِدَايَةِ جُعِلُوا كَأَنَّهُمُ اسْتَعْلَوْهُ كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ عَلَى الْحَقِّ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ هَذَا الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْهُدَى بِمَا اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ
72
الْمَذْكُورَةِ فِي وَصْفِ الْهُدَى بِأَنَّهُ مِنْ رَبِّهِمْ، أَيْ كَائِنٌ مِنْ رَبِّهِمْ، تَعْظِيمٌ لِلْهُدَى الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ الرَّبِّ هُنَا وَاضِحَةٌ، أَيْ أَنَّهُ لِكَوْنِهِ رَبَّهُمْ بِأَيِّ تَفَاسِيرِهِ فَسَّرْتَ نَاسَبَ أَنْ يُهَيِّئَ لَهُمْ أَسْبَابَ السَّعَادَتَيْنِ: الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، فَجَعَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى هُدًى، وَفِي الْآخِرَةِ هُمُ مفلحون. وَقَدْ تَكُونُ ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ عَلَى هُدًى، وَحَذْفُ الصِّفَةِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي مُطْلَقُ الْهُدَى المنسوب إلى الله تعالى. وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ هُدَى رَبِّهِمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: مِنْ رَبِّهُمْ بِضَمِّ الْهَاءِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا آتٍ جَمْعُ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعَى فِيهَا سَبْقُ كَسْرٍ أَوْ يَاءٍ، وَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِخَبَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَرَّرَ أُولَئِكَ لِيَقَعَ كُلُّ خَبَرٍ مِنْهُمَا فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَهُوَ آكَدُ فِي الْمَدْحِ إِذْ صَارَ الْخَبَرُ مَبْنِيًّا عَلَى مُبْتَدَأٍ. وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ هُمَا نَتِيجَتَا الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ إِذْ كَانَتِ الْأَوْصَافُ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقُهُ أَمْرُ الدُّنْيَا، وَمِنْهَا مَا مُتَعَلِّقُهُ أَمْرُ الْآخِرَةِ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْهُدَى فِي الدُّنْيَا وَبِالْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْخَبَرَانِ كَمَا ذَكَرْنَا، أَتَى بِحَرْفِ الْعَطْفِ فِي الْمُبْتَدَأِ، وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ الثَّانِي فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ، لَمْ يُدْخِلِ الْعَاطِفَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «١» بَعْدَ قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ «٢» كَيْفَ جَاءَ بِغَيْرِ عَاطِفٍ لِاتِّفَاقِ الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ لِلْمُبْتَدَأَيْنِ فِي الْمَعْنَى؟ وَيُحْتَمَلُ هُمْ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا أَوْ بدلا فيكون المفلحون خيرا عَنْ أُولَئِكَ، أَوِ الْمُبْتَدَأِ وَالْمُفْلِحُونَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ أُولَئِكَ، وَأَحْكَامُ الْفَصْلِ وَحِكْمَةُ الْمَجِيءِ بِهِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
وَقَدْ جُمِعَتْ أَحْكَامُ الْفَصْلِ مُجَرَّدَةً مِنْ غَيْرِ دَلَائِلَ فِي نَحْوٍ مِنْ سِتِّ وَرَقَاتٍ، وَإِدْخَالُ هُوَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ تَأْكِيدٍ وَرَفْعُ تَوَهُّمِ مَنْ يَتَشَكَّكُ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْخَبَرُ أَوْ يُنَازِعُ فِيهِ، أَوْ مَنْ يَتَوَهَّمُ التَّشْرِيكَ فِيهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا «٣»، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى «٤»، وَقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «٥»، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى «٦»، كَيْفَ أَثْبَتَ هُوَ دَلَالَةً عَلَى مَا ذُكِرَ، وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فِي نِسْبَةِ خَلْقِ الزَّوْجَيْنِ وَإِهْلَاكِ عَادٍ، إِذْ لَا يُتَوَهَّمُ إِسْنَادُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الله تعالى ولا
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٧٩.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٧٩. [.....]
(٣) سورة النجم: ٥٣/ ٤٣- ٤٤.
(٤) سورة النجم: ٥٣/ ٤٨.
(٥) سورة النجم: ٥٣/ ٤٥.
(٦) سورة النجم: ٥٣/ ٥٠.
73
الشَّرِكَةُ فِيهِ. وَأَمَّا الْإِضْحَاكُ وَالْإِبْكَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِغْنَاءُ وَالْإِقْنَاءُ فَقَدْ يَدَّعِي ذَلِكَ، أَوِ الشَّرِكَةَ فِيهِ مُتَوَاقِحٌ كَذَّابٌ كَنُمْرُوذَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى «١»، فَدُخُولُ هُوَ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّ هَذَا النَّجْمِ، وَإِنْ كَانَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ هَذَا النَّجْمَ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَاتُّخِذَ إِلَهًا، فَأَتَى بِهِ لِيُنَبِّهَ بِأَنَّ اللَّهَ مُسْتَبِدٌّ بِكَوْنِهِ رَبًّا لِهَذَا الْمَعْبُودِ، وَمَنْ دُونَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُفْلِحُونَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ فِي الْخَارِجِ أَوْ فِي الذِّهْنِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ، فَالْمُخَاطَبُ يَعْرِفُ وُجُودَ ذَاتِ صَدْرٍ مِنْهَا انْطِلَاقٌ، وَيَعْرِفُ زَيْدًا وَيَجْهَلُ نِسْبَةَ الِانْطِلَاقِ إِلَيْهِ، وَأَنْتَ تَعْرِفُ كُلَّ ذَلِكَ فَتَقُولُ لَهُ: زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ، فَتُفِيدُهُ مَعْرِفَةَ النِّسْبَةَ الَّتِي كَانَ يَجْهَلُهَا، وَدَخَلَتْ هُوَ فِيهِ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ هُوَ الْمُنْطَلِقُ، لِتَأْكِيدِ النِّسْبَةِ، وَإِنَّمَا تُؤَكِّدُ النِّسْبَةَ عِنْدَ تَوَهُّمِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ يَشُكُّ فِيهَا أَوْ يُنَازِعُ أَوْ يَتَوَهَّمُ الشِّرْكَةَ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم إِلَى قَوْلِهِ:
الْمُفْلِحُونَ أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ضروب الفصاحة أَنْوَاعًا: الْأَوَّلُ: حُسْنُ الِافْتِتَاحِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى افْتَتَحَ بِمَا فِيهِ غُمُوضٌ وَدِقَّةٌ لِتَنْبِيهِ السَّامِعِ عَلَى النَّظَرِ وَالْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. الثَّانِي:
الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ أَدْخَلَ اللَّامَ إِشَارَةً إِلَى بُعْدِ الْمَنَازِلِ. الثَّالِثُ: مَعْدُولُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ صِيغَتُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. الرَّابِعُ: الِاخْتِصَاصُ هُوَ فِي قَوْلِهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الْخَامِسُ: التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ، والَّذِينَ إِنْ كَانَ الْمَوْصُوفُ وَاحِدًا فَهُوَ تَكْرَارُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَانَ مِنْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَمِنَ التَّكْرَارِ أُولئِكَ، وأُولئِكَ. السَّادِسُ: تَأْكِيدُ الْمُظْهَرِ بِالْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَفِي قَوْلِهِ: هُمْ يُوقِنُونَ. السَّابِعُ: الْحَذْفُ، وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ أَحَدُهَا هَذِهِ الم عِنْدَ مَنْ يُقَدِّرُ ذَلِكَ، وَهُوَ هُدًى، وَيُنْفِقُونَ في الطاعة، وبِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ومِنْ قَبْلِكَ، أَيْ قَبْلَ إِرْسَالِكَ، أَوْ قَبْلَ الْإِنْزَالِ، وَبِالْآخِرَةِ، أَيْ بِجَزَاءِ الْآخِرَةِ، ويُوقِنُونَ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا، وعَلى هُدىً، أَيْ أَسْبَابِ هُدًى، أَوْ عَلَى نُورٍ هُدًى، والْمُفْلِحُونَ، أَيِ الْبَاقُونَ فِي نعيم الآخرة.
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٤٩.
74

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦ الى ٧]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ، إِنَّ: حَرْفُ تَوْكِيدٍ يَتَشَبَّثُ بِالْجُمْلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ، فَيُنْصِبُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، وَيَرْتَفِعُ الْمَسْنَدُ وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَهَا وَلِأَخَوَاتِهَا بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ. وَتَأْتِي أَيْضًا حَرْفَ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ. الْكُفْرُ:
السَّتْرُ، وَلِهَذَا قِيلَ: كَافِرٌ لِلْبَحْرِ، وَمَغِيبُ الشَّمْسِ، وَالزَّارِعِ، وَالدَّافِنِ، وَاللَّيْلِ، وَالْمُتَكَفِّرِ، وَالْمُتَسَلِّحِ. فَبَيْنَهَا كُلِّهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَهُوَ السَّتْرُ، سَوَاءٌ اسْمٌ بِمَعْنَى اسْتِوَاءٍ مَصْدَرِ اسْتَوَى، وَوُصِفَ بِهِ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ، فَتَحْمِلُ الضَّمِيرَ. قَالُوا: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٌ، وَالْعَدَمُ قَالُوا: أَصْلُهُ الْعَدْلُ، قال زهير: يستوي بَيْنَهَا فِيهَا السِّوَاءُ. وَلِإِجْرَائِهِ مَجْرَى الْمَصْدَرِ لَا يُثَنَّى، قَالُوا: هُمَا سَوَاءٌ اسْتَغْنَوْا بِتَثْنِيَةِ سَيٍّ بِمَعْنَى سُواءٍ، كَقِيٍّ بِمَعْنَى قِوَاءٌ، وَقَالُوا: هُمَا سِيَّانِ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ تَثْنِيَتَهُ عَنْ بَعْضِ العرب. قالوا: هذان سواءان، وَلِذَلِكَ لَا تُجْمَعُ أَيْضًا، قَالَ:
وَلَيْلٍ يَقُولُ النَّاسُ مِنْ ظُلُمَاتِهِ سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ الْعُيُونِ وَعُورُهَا
وَهَمْزَتُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ، فَهُوَ مِنْ بَابِ طَوَيْتُ.
وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: قَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ سَوَاءُ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ عَلَى لُغَةِ الْحِجَازِ، فَيَجُوزُ أَنَّهُ أَخَلَصَ الْوَاوَ، وَيَجُوزُ أَنَّهُ جَعَلَ الْهَمْزَةَ بَيْنَ بَيْنَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ.
وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ فِيمَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ الْمُلَيَّنَةِ مِنَ الْمَدِّ، انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَوَاءٌ لَيْسَ لَامُهُ يَاءً بَلْ وَاوًا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوَاءٍ. وَعَنِ الْخَلِيلِ: سُوءٍ عَلَيْهِمْ بِضَمِّ السِّينِ مَعَ وَاوٍ بَعْدَهَا مَكَانَ الْأَلِفِ، مِثْلَ دَائِرَةِ السَّوْءِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ ضَمَّ السِّينَ، وَفِي ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ إِلَى مَعْنَى الْقُبْحِ وَالسَّبِّ، وَلَا يَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَهُ تَعَلُّقُ إِعْرَابٍ بِالْجُمْلَةِ بَعْدَهَا بَلْ يَبْقَى. أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِخْبَارٌ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ إِنْذَارِكَ وَعَدَمِ إِنْذَارِكَ، وَأَمَّا سَوَاءٌ الْوَاقِعُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِمْ قَامُوا سِوَاكَ بِمَعْنَى قَامُوا غَيْرَكَ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِهَذَا فِي اللَّفْظِ، مُخَالِفٌ فِي الْمَعْنَى، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَهُ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءَ. الْهَمْزَةُ لِلنِّدَاءِ، وَزِيدَ وَلِلِاسْتِفْهَامِ الصِّرْفِ، وَذَلِكَ مِمَّنْ يَجْهَلُ النِّسْبَةَ فَيَسْأَلُ عَنْهَا، وَقَدْ يَصْحَبُ الْهَمْزَةَ التَّقْرِيرُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ؟
وَالتَّحْقِيقُ، أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا. وَالتَّسْوِيَةُ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ، وَالتَّوْبِيخُ أَذْهَبْتُمْ
75
طَيِّباتِكُمْ
«١»، والإنكار أن يدنيه لِمَنْ قَالَ جَاءَ زَيْدٌ، وَتَعَاقُبُ حَرْفِ الْقَسَمِ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ.
الْإِنْذَارُ: الْإِعْلَامُ مَعَ التَّخْوِيفِ فِي مُدَّةٍ تَسَعُ التَّحَفُّظَ مِنَ الْمُخَوَّفِ، وَإِنْ لَمْ تَسْعَ سُمِّي إِعْلَامًا وَإِشْعَارًا وَإِخْبَارًا، وَيَتَعَدَّى إِلَى اثنين: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
«٢»، فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً «٣»، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ: نَذَرَ الْقَوْمُ إِذَا عَلِمُوا بِالْعَدُوِّ. وَأَمْ حَرْفُ عَطْفٍ، فَإِذَا عَادَلَ الهمزة وجاء بعده مفردا أَوْ جُمْلَةٌ فِي مَعْنَى الْمُفْرَدِ سُمِّيَتْ أَمْ مُتَّصِلَةً، وَإِذَا انْخَرَمَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا سُمِّيَتْ مُنْفَصِلَةً، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي النَّحْوِ، وَلَا تُزَادُ خِلَافًا لِأَبِي زَيْدٍ. لَمْ حَرْفُ نَفْيٍ مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْمُضَارِعِ، اللَّفْظُ الْمَاضِي مَعْنَى، فَعَمِلَ فِيهِ مَا يَخُصُّهُ، وَهُوَ الْجَزْمُ، وَلَهُ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ.
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ الْخَتْمُ: الْوَسْمُ بِطَابَعٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُوسَمُ بِهِ. الْقَلْبُ: مَصْدَرُ قَلَّبَ، وَالْقَلْبُ: اللُّحْمَةُ الصَّنَوْبَرِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ، وَكُنِّيَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ عَنِ الْعَقْلِ، وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى لُبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِصِهِ. السَّمْعُ: مَصْدَرُ سَمِعَ سَمْعًا وَسَمَاعًا وَكُنِّيَ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنِ الْأُذُنِ. الْبَصَرُ: نُورُ الْعَيْنِ، وَهُوَ مَا تُدْرَكُ بِهِ الْمَرْئِيَّاتِ. الْغِشَاوَةُ: الْغِطَاءُ، غَشَّاهُ أَيْ غَطَّاهُ، وَتُصَحَّحُ الْوَاوُ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ بُنِيَتْ عَلَى تَاءِ التَّأْنِيثِ، كَمَا صَحَّحُوا اشْتِقَاقَهُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَمْ أَسْمَعْ مِنَ الْغِشَاوَةِ فِعْلًا مُتَصَرِّفًا بِالْوَاوِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهَا مَعْنَى مَا اللَّامُ مِنْهُ الْيَاءُ، غَشِيَ يَغْشَى بِدَلَالَةِ قَوْلِهِمُ: الْغَشَيَانُ وَالْغِشَاوَةُ مِنْ غَشِيَ، كَالْجِبَاوَةِ مِنْ جَبَيْتُ فِي أَنَّ الْوَاوَ كَأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ إِذَا لَمْ يُصْرَفْ مِنْهُ فِعْلٌ، كَمَا لَمْ يُصْرَفْ مِنَ الْجِبَاوَةَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. الْعَذَابُ: أَصْلُهُ الِاسْتِمْرَارُ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَسُمِّيَ بِهِ كُلُّ اسْتِمْرَارِ أَلَمٍ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ فَقَالُوا: عَذَّبْتُهُ، أَيْ دَاوَمْتُ عَلَيْهِ الْأَلَمَ، وَقَدْ جَعَلَ النَّاسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَذْبِ: الَّذِي هُوَ الْمَاءُ الْحُلْوُ، وَبَيْنَ عَذُبَ الْفَرَسُ: اسْتَمَرَّ عَطَشُهُ، قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ الِاسْتِمْرَارِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: أَصْلُهُ الْمَنْعُ، يُقَالُ عَذُبَ الْفُرْسُ:
امْتَنَعَ مِنَ الْعَلَفِ. عَظِيمٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَظُمَ غَيْرُ مَذْهُوبٍ بِهِ مَذْهَبَ الزَّمَانِ، وَفَعِيلٌ اسْمٌ، وَصِفَةٌ الِاسْمُ مُفْرَدٌ نَحْوُ: قَمِيصٍ، وَجَمْعٌ نَحْوُ: كَلِيبٍ، وَمَعْنًى نَحْوُ: صَهِيلٍ، وَالصِّفَةُ مُفْرَدُ فَعْلَةٍ كَقُرَى، وَفُعَلَةٍ كَسَرِيٍّ، وَاسْمُ فَاعِلٍ مِنْ فَعُلَ كَكَرِيمٍ، وَلِلْمُبَالَغَةِ مِنْ فَاعِلٍ كَعَلِيمٍ، وَبِمَعْنَى أَفْعَلٍ كَشَمِيطٍ، وَبِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَجَرِيحٍ، وَمُفْعِلٍ كَسَمِيعٍ وَأَلِيمٍ، وَتَفَعَّلَ كَوَكِيدٍ،
(١) سورة الأحقاف: ٤٦/ ٢٠.
(٢) سورة النبأ: ٧٨/ ٤٠.
(٣) سورة فصلت: ٤١/ ١٣.
76
وَمُفَاعِلٍ كَجَلِيسٍ، وَمُفْتَعَلٍ كَسَعِيرٍ، وَمُسْتَفْعِلٍ كَمَكِينٍ، وَفَعَلَ كَرَطِيبٍ، وَفَعُلَ كَعَجِيبٍ، وَفَعَّالٍ كَصَحِيحٍ، وَبِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَصَرِيحِ، وَبِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَخَلِيطٍ وَجَمْعِ فَاعِلٍ كَغَرِيبٍ.
مُنَاسِبَةُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صِفَةً مِنَ الْكِتَابِ لَهُ هُدًى وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الْجَامِعُونَ لِلْأَوْصَافِ الْمُؤَدِّيَةِ إلى الفور، ذَكَرَ صِفَةً ضِدَّهُمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ الْمَحْتُومُ لَهُمْ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، وَافْتَتَحَ قِصَّتَهُمْ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ فِيهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي قِصَّةِ الْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا جَاءَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الِانْجِرَارِ، إِذِ الْحَدِيثُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْكِتَابِ ثُمَّ أَنْجَزَ ذِكْرَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْكِتَابِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ إِعْرَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُبْتَدَأٌ، فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى مِنْ تَمَامِ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ مَلْحُوظًا فِيهِ قَيْدٌ، وَهُوَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْوَفَاةِ عليه، وأن يكون لمعينين كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِمَا. وَسَوَاءٌ وَمَا بَعْدَهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَكُونَ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَيَكُونَ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، بِجَعْلِ سَوَاءٍ الْمُبْتَدَأَ وَالْجُمْلَةِ بَعْدَهُ الْخَبَرَ أَوِ الْعَكْسِ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ، وَيَكُونُ قَدْ دَخَلَتْ جُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ اسْتَوَى إِنْذَارُهُ وَعَدَمُ إِنْذَارِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، فَيَحْتَمِلُ لَا يُؤْمِنُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، إِمَّا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعْدَادَ الْأَخْبَارِ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أي هم لَا يُؤْمِنُونَ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ فَتَكُونُ جُمْلَةً تَفْسِيرِيَّةً لِأَنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ هُوَ اسْتِوَاءُ الْإِنْذَارِ وَعَدَمُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ «١»، أَوْ يَكُونُ جُمْلَةً دِعَائِيَّةً وَهُوَ بَعِيدٌ، وَإِذَا كَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَوَاءٌ خَبَرَ إِنَّ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَقَدِ اعْتُمِدَ بِكَوْنِهِ خَبَرَ الَّذِينَ، وَالْمَعْنَى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ إِنْذَارُهُمْ وَعَدَمُهُ. وَفِي كَوْنِ الْجُمْلَةِ تَقَعُ فَاعِلَةً خِلَافَ مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَكُونُ إِلَّا اسْمًا أَوْ مَا هُوَ فِي تَقْدِيرِهِ، وَمَذْهَبُ هِشَامٍ وَثَعْلَبٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ جَوَازُ كَونِ الْجُمْلَةَ تَكُونُ فَاعِلَةً، وَأَجَازُوا يُعْجِبُنِي يَقُومُ زَيْدٌ، وَظَهَرَ لِي أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو، أَيْ قِيَامُ أَحَدِهِمَا، وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْمُولَةً لِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَعَلَّقَ عَنْهَا، جَازَ أَنْ تقع في
(١) سورة المائدة: ٥/ ٩.
77
مَوْضِعِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَإِلَّا فَلَا، وَنُسِبَ هَذَا لِسِيبَوَيْهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي الْمَبْسُوطَاتِ مِنْ كُتُبِ النَّحْوِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا إِذَا كَانَتْ جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ، وَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ، وَالتَّقْدِيرَانِ الْمَذْكُورَانِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِ. وَإِذَا جَعَلْنَا سَوَاءً الْمُبْتَدَأَ وَالْجُمْلَةَ الْخَبَرَ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ لِأَنَّهَا الْمُبْتَدَأُ فِي الْمَعْنَى وَالتَّأْوِيلِ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ سَوَاءٌ بَعْدَهُ الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِالْهَمْزَةِ الْمُعَادَلَةُ بِأَمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «١»، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «٢»، وَقَدْ تُحْذَفُ تِلْكَ الْجُمْلَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا، فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ «٣» أَيْ أَصَبَرْتُمْ أَمْ لَمْ تَصْبِرُوا، وَتَأْتِي بَعْدَهُ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ الْمُتَسَلِّطَةُ عَلَى اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ، نَحْوُ: سَوَاءٌ عَلَيَّ أَيُّ الرِّجَالِ ضَرَبْتُ، قَالَ زُهَيْرٌ:
سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ حِينٍ أَتَيْتُهُ أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقَى أَمْ بِأَسْعَدِ
وَقَدْ جَاءَ بَعْدَهُ مَا عُرِّيَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، قَالَ:
سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ العيون وعورها وَأَخْبَرَ عَنِ الْجُمْلَةِ بِأَنْ جُعِلَتْ فَاعِلًا بِسَوَاءٍ أَوْ مُبْتَدَأَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُصَدَّرَةً بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى وَكَلَامُ الْعَرَبِ مِنْهُ مَا طَابَقَ فِيهِ اللَّفْظُ الْمَعْنَى، نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ قَائِمٌ، وَهُوَ أَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ مَا غُلِّبَ فِيهِ حُكْمُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، نَحْوَ:
عَلِمْتُ أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْجُمْلَةِ عَلَى عَلِمْتُ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَا بَعْدَ عَلِمْتُ اسْتِفْهَامًا، بَلِ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّسْوِيَةِ. وَمِنْهُ مَا غَلَبَ فِيهِ الْمَعْنَى عَلَى اللَّفْظِ، وَذَلِكَ نَحْوُ الْإِضَافَةِ لِلْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ نَحْوِ:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ الْمَشِيبَ على الصِّبَا إِذْ قِيَاسُ الْفِعْلِ أَنْ لَا يُضَافَ إِلَيْهِ، لَكِنْ لُوحِظَ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْمَصْدَرُ، فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَإِنَّمَا جَرَى عَلَيْهِ لَفَظُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّ فِيهِ التَّسْوِيَةَ الَّتِي هِيَ فِي الِاسْتِفْهَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ مُخْبِرًا سَوَاءٌ عَلَيَّ أَقُمْتَ أَمْ قَعَدْتَ أَمْ ذَهَبْتَ؟ وَإِذَا قُلْتَ مُسْتَفْهِمًا أَخَرَجَ زَيْدٌ أَمْ قَامَ؟ فَقَدِ
(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ٢١.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٩٣.
(٣) سورة الطور: ٥٢/ ١٦.
78
اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَكَ، هَذَانِ فِي الْخَبَرِ، وَهَذَانِ فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَعَدَمُ عِلْمِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ، فَلَمَّا عَمَّمَتْهَمَا التَّسْوِيَةُ جَرَى عَلَى الْخَبَرِ لَفَظُ الِاسْتِفْهَامِ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْإِبْهَامِ، وَكُلُّ اسْتِفْهَامٍ تَسْوِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ تَسْوِيَةٍ اسْتِفْهَامًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ فِي أَوَّلِهِ مُنَاقَشَةٌ، وَهُوَ قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي صُورَتُهُ صُورَةُ الِاسْتِفْهَامِ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْخَبَرَ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْمُفْرَدِ إِمَّا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ سَوَاءٌ أَوِ الْعَكْسُ، أَوْ فَاعِلُ سَوَاءٍ لِكَوْنِ سَوَاءٍ وَحْدَهُ خَبَرًا لِأَنَّ، وَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا لَيْسَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْخَبَرِ وَإِنَّمَا سَوَاءٌ، وَمَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ خَبَرًا أَوْ مُبْتَدَأً مَعْنَاهُ الْخَبَرَ. وَلُغَةُ تَمِيمٍ تَخْفِيفُ الْهَمْزَتَيْنِ فِي نَحْوِ أَأَنْذَرْتَهُمْ، وَبِهِ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَا يَرَوْنَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ، فَقَرَأَ الْحَرَمِّيَانِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَهُشَامٌ:
بِتَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا عَمْرٍو، وَقَالُونَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَهُشَامٍ، يُدْخِلُونَ بَيْنَهُمَا أَلِفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ لَا يُدْخِلُ. وَرُوِيَ تَحْقِيقًا عَنْ هِشَامٍ وَإِدْخَالُ أَلِفٍ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَرُوِيَ عَنْ وَرْشٍ، كَابْنِ كَثِيرٍ، وَكَقَالُونَ وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ أَلِفًا فَيَلْتَقِي سَاكِنَانِ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِمَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَحْنٌ وَخُرُوجٌ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنِينَ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ. الثَّانِي: إِنَّ طَرِيقَ تَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ الْمَفْتُوحِ مَا قَبْلَهَا هُوَ بِالتَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ لَا بِالْقَلْبِ أَلِفًا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ طَرِيقُ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ، وَمَا قَالَهُ هُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَدْ أَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنِينَ عَلَى غَيْرِ الْحَدِّ الَّذِي أَجَازَهُ الْبَصْرِيُّونَ.
وَقِرَاءَةُ وَرْشٍ صَحِيحَةُ النَّقْلِ لَا تُدْفَعُ بِاخْتِيَارِ الْمَذَاهِبِ وَلَكِنَّ عَادَةَ هَذَا الرَّجُلِ إِسَاءَةُ الْأَدَبِ عَلَى أَهْلِ الْأَدَاءِ وَنَقْلَةِ لقرآن.
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَنْذَرْتَهُمْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، حَذْفُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، وَلِأَجْلِ ثُبُوتِ مَا عاد لها، وَهُوَ أَمْ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ أَيْضًا بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْمِيمِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا. وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَنْذَرَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ أَأَنْذَرْتَهُمُ الْعَذَابَ عَلَى كُفْرِهِمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمُوهُ؟ وَفَائِدَةُ الْإِنْذَارِ مَعَ تَسَاوِيهِ مَعَ الْعَدَمِ أَنَّهُ قَاطِعٌ لِحُجَّتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قَدْ دُعُوا فَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَلِئَلَّا يَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ، وَأَنَّ فِيهِ تَكْثِيرَ الْأَجْرِ بِمُعَانَاةِ مَنْ لَا قَبُولَ لَهُ لِلْإِيمَانِ وَمُقَاسَاتِهِ، وَإِنَّ فِي ذَلِكَ عُمُومَ إِنْذَارِهِ لِأَنَّهُ أُرْسِلَ لِلْخَلْقِ كَافَّةً. وَهَلْ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ خَبَرٌ عَنْهُمْ أَوْ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ أَوْ ذَمٌّ لَهُمْ أَوْ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقْوَالٌ، وَظَاهِرُ قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِخَتْمِهِ وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَكَنَّى بِالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ عَنْ كَوْنِهَا لَا تَقْبَلُ
79
شَيْئًا مِنَ الْحَقِّ وَلَا تَعِيهِ لِإِعْرَاضِهَا عَنْهُ، فَاسْتَعَارَ الشيء المحسوس والشيء الْمَعْقُولِ، أَوْ مَثَّلَ الْقَلْبَ بِالْوِعَاءِ الَّذِي خُتِمَ عَلَيْهِ صَوْنًا لِمَا فِيهِ وَمَنْعًا لِغَيْرِهِ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ: مَجَازُ الِاسْتِعَارَةِ، وَالثَّانِي: مَجَازُ التَّمْثِيلِ. وَنُقِلَ عَمَّنْ مَضَى أَنَّ الْخَتْمَ حَقِيقَةٌ وَهُوَ انْضِمَامُ الْقَلْبِ وَانْكِمَاشُهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَذْنَبْتَ ضُمَّ مِنَ الْقَلْبِ هَكَذَا، وَضَمَّ مُجَاهِدٌ الْخِنْصَرَ، ثُمَّ إِذَا أَذْنَبْتَ ضُمَّ هَكَذَا، وَضَمَّ الْبِنْصِرَ، ثُمَّ هَكَذَا إِلَى الْإِبْهَامِ، وَهَذَا هُوَ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالرَّيْنُ. وَقِيلَ: الْخَتْمُ سِمَةٌ تَكُونُ فِيهِمْ تَعْرِفُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: حَفِظَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ لِيُجَازِيَهُمْ. وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْكُفْرِ وَنِسْبَةُ الْخَتْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَيِّ مَعْنَى فُسِّرَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، إِذْ هُوَ إِسْنَادٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ، إِذِ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَدْ تَأَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ هَذَا الْإِسْنَادَ، إِذْ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ، إِذْ ذَاكَ قَبِيحٌ وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ، وَذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنَ التَّأْوِيلِ عَشَرَةً، مُلَخَّصُهَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَتْمَ كَنَّى بِهِ عَنِ الْوَصْفِ الَّذِي صَارَ كَالْخُلُقِيِّ وَكَأَنَّهُمْ جُبِلُوا عَلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بهم ذلك. الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِمْ: طَارَتْ بِهِ الْعَنْقَاءُ، إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ، وَكَأَنَّهُمْ مُثِّلَتْ حَالُ قُلُوبِهِمْ بِحَالِ قُلُوبٍ خَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى السَّبَبِ لَمَّا كَانَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الشَّيْطَانَ وَمَكَّنَهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ الْخَتْمَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مَقْطُوعًا بِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ طَوْعًا وَلَمْ يَبْقَ طَرِيقُ إِيمَانِهِمْ إِلَّا بِإِلْجَاءٍ وَقَسْرٍ وَتَرْكُ الْقَسْرِ عَبَّرَ عَنْ تَرْكِهِ بِالْخَتْمِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً لِمَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ تَهَكُّمًا كَقَوْلِهِمْ:
قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ. السَّادِسُ: أَنَّ الْخَتْمَ مِنْهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ هُوَ الشَّهَادَةُ مِنْهُ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
السَّابِعُ: أَنَّهَا فِي قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا عِقَابًا عَاجِلًا، كَمَا عَجَّلَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ عُقُوبَاتٍ فِي الدُّنْيَا. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَعَلَهُ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ لِضِيقِ صُدُورِهِمْ عُقُوبَةً غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنَ الْإِيمَانِ. التَّاسِعُ: أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «١». الْعَاشِرُ: مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَالْقَاضِي، أَنَّ ذَلِكَ سِمَةٌ وَعَلَامَةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْكَافِرِ وَسَمْعِهِ، تَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. انْتَهَى مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَالْمَسْأَلَةُ يُبْحَثُ عَنْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَقَدْ وَقَعَ قَوْلُهُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أشرك في
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٧.
80
الْخَتْمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُلُوبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَشْرَكَ فِي الْغِشَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبْصَارِ. لَكِنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى لِلتَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «١». وَتَكْرِيرُ حَرْفِ الْجَرِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَتْمَ خَتْمَانِ، أَوْ عَلَى التَّوْكِيدِ، إِنْ كَانَ الْخَتْمُ وَاحِدًا فَيَكُونُ أَدَلَّ عَلَى شِدَّةِ الْخَتْمِ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ أَسْمَاعِهِمْ فَطَابَقَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فقرأوا عَلَى التَّوْحِيدِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ فَلُمِحَ فِيهِ الْأَصْلُ، وَإِمَّا اكْتِفَاءً بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا حَقِيقَةً وَحَذْفُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى أَيْ حَوَاسِّ سَمْعِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَيِّ الْحَاسَّتَيْنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَفْضَلُ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ لَا يُجْدِي كَبِيرَ شَيْءٍ. وَالْإِمَالَةُ فِي أبصارهم جائزة، وقد قرىء بِهَا، وَقَدْ غَلَبَتِ الرَّاءُ الْمَكْسُورَةُ حَرْفَ الِاسْتِعْلَاءِ، إِذْ لَوْلَاهَا لَمَا جَازَتِ الْإِمَالَةُ، وَهَذَا بِتَمَامِهِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غِشَاوَةٌ بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَرَفْعِ التَّاءِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةً لِيَشْمَلَ الْكَلَامُ الْإِسْنَادَيْنِ: إِسْنَادَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَإِسْنَادَ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آكَدَ لِأَنَّ الْفِعْلِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَالِاسْمِيَّةَ تَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ. وَكَانَ تَقْدِيمُ الْفِعْلِيَّةِ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهَا أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مُطَابَقَةً بِالْجُمْلَةِ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمَحْكُومُ بِهِ. وَهَذِهِ كَذَلِكَ الْجُمْلَتَانِ تُؤَوَّلُ دَلَالَتُهُمَا إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَنْعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَنَصَبُ الْمُفَضِّلِ غِشَاوَةً يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ مَا أَظْهَرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، أَيْ وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، أَوْ إِلَى عَطْفِ أَبْصَارِهِمْ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَنَصْبِهَا عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِغِشَاوَةٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ اسْمًا وُضِعَ مَوْضِعَ مَصْدَرٍ مِنْ مَعْنَى خَتَمَ، لِأَنَّ مَعْنَى خَتَمَ غَشِيَ وَسَتَرَ، كَأَنَّهُ قِيلَ تُغَشِّيهِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَتَكُونُ قُلُوبُهُمْ وَسَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ مَخْتُومًا عَلَيْهَا مُغَشَّاةً. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَوْلَى لِأَنَّ النَّصْبَ إِمَّا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى خَتْمِ الظَّاهِرِ فَيَعْرِضَ فِي ذَلِكَ أَنَّكَ حُلْتَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ، وما أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ خَتَمَ تَقْدِيرُهُ وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ فَيَجِيءُ الْكَلَامُ مِنْ بَابِ:
مُتَقَلِّدًا سيفا ورمحا
(١) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٣. [.....]
81
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَلَا تَكَادُ تَجِدُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فِي حَالِ سَعَةٍ وَاخْتِيَارٍ، فَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ أَحْسَنُ، وَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جملة. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا أَدْرِي مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ النَّصْبَ إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى خَتْمِ الظَّاهِرِ، وَكَيْفَ تَحْمِلُ غِشَاوَةً الْمَنْصُوبَ عَلَى خَتْمِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ؟ هَذَا مَا لَا حَمْلَ فِيهِ اللَّهُمَّ إِلَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ دُعَاءً عَلَيْهِمْ لَا خَبَرًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ مَذْهَبَهُ لِاعْتِزَالِهِ، وَيَكُونُ غِشَاوَةً فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمَدْعُوِّ بِهِ عَلَيْهِمُ الْقَائِمِ مَقَامَ الْفِعْلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَغَشَّى اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَعْطُوفًا عَلَى خَتَمَ عَطْفَ الْمَصْدَرِ النَّائِبِ مَنَابَ فِعْلِهِ فِي الدُّعَاءِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: رَحِمَ اللَّهُ زَيْدًا وَسُقْيًا لَهُ، وَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ حُلْتَ بَيْنَ غِشَاوَةٍ الْمَعْطُوفِ وَبَيْنَ خَتَمَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَأَمَّا إِنْ جَعَلْتَ ذَلِكَ خَبَرًا مَحْضًا وَجَعَلْتَ غِشَاوَةً فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ الْبَدَلِ عَنِ الْفِعْلِ فِي الْخَبَرِ فَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَنْقَاسُ ذَلِكَ بَلْ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ السَّمَاعِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: غُشَاوَةٌ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَرَفْعِ التَّاءِ، وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ التَّاءَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ غِشْوَةٌ بِالْكَسْرِ وَالرَّفْعِ، وَبَعْضُهُمْ غِشْوَةً وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ، وَالْأَعْمَشُ قَرَأَ بِالْفَتْحِ وَالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ الله يقرأونها غَشْيَةٌ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْيَاءِ وَالرَّفْعِ.
اه. وَقَالَ يَعْقُوبُ: غُشْوَةٌ بِالضَّمِّ لُغَةٌ، وَلَمْ يُؤْثِرْهَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ القراءة.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَأَصْوَبُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمَقْرُوءِ بِهَا مَا عَلَيْهِ السَّبْعَةُ مِنْ كَسْرِ الْغَيْنِ عَلَى وَزْنِ عِمَامَةٍ، وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي هِيَ أَبَدًا مُشْتَمِلَةٌ، فَهَذَا يَجِيءُ وَزْنُهَا: كَالصِّمَامَةِ، وَالْعِمَامَةِ، وَالْعِصَابَةِ، وَالرَّيَّانَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: غِشَاوَةٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمِلَةِ الْمَكْسُورَةِ وَالرَّفْعِ مِنَ الْعَشِيِّ، وَهُوَ شِبْهُ الْعَمَى فِي الْعَيْنِ. وَتَقْدِيمُ الْقُلُوبِ عَلَى السَّمْعِ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ بِالشَّرَفِ وَتَقْدِيمُ الْجُمْلَةِ الَّتِي انْتَظَمَتْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ الْأَبْصَارَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا. وَذَكَرَ أَهْلُ الْبَيَانِ أَنَّ التَّقْدِيمَ يَكُونُ بِاعْتِبَارَاتٍ خَمْسَةٍ: تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ عَلَى الْمَعْلُولِ وَالْمُسَبَّبِ، كَتَقْدِيمِ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَوْلَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
«١»، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَشْرَعُ فِي النِّكَاحِ عند قدرته على المئونة، فَهِيَ سَبَبٌ إِلَى التَّزَوُّجِ، وَالنِّكَاحُ سَبَبٌ لِلتَّنَاسُلِ. وَالْعِلَّةُ: كَتَقَدُّمِ الْمُضِيءِ عَلَى الضَّوْءِ، وَلَيْسَ تَقَدُّمُ زَمَانٍ، لِأَنَّ جرم الشمس
(١) سورة التغابن: ٦٤/ ١٥.
82
لَا يَنْفَكُّ عَنِ الضَّوْءِ. وَتَقَدُّمٌ بِالذَّاتِ، كَالْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ، وَلَيْسَ الْوَاحِدُ عِلَّةً لِلِاثْنَيْنِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَتَقَدُّمٌ بِالشَّرَفِ، كَتَقَدُّمِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ. وَتَقَدُّمٌ بِالزَّمَانِ، كَتَقَدُّمِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ بالوجود، وزاد بعضهم سادسا وَهُوَ: التَّقَدُّمُ بِالْوُجُودِ حَيْثُ لَا زَمَانَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، أَخْبَرَ بِمَا يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ. وَلَمَّا كَانَ قَدْ أَعَدَّ لَهُمُ الْعَذَابَ صَيَّرَ كَأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ لَازِمٌ، وَالْعَظِيمُ هُوَ الْكَبِيرُ.
وَقِيلَ: الْعَظِيمُ فَوْقُ، لِأَنَّ الْكَبِيرَ يُقَابِلُهُ الصَّغِيرُ، وَالْعَظِيمُ يُقَابِلُهُ الْحَقِيرُ. قِيلَ: وَالْحَقِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ، وَأَصْلُ الْعِظَمِ فِي الْجُثَّةِ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْنَى، وَعِظَمُ العذاب بالنسبة لي عَذَابٍ دُونَهُ يَتَخَلَّلُهُ فُتُورٌ، وَبِهَذَا التَّخَلُّلِ الْمُتَصَوَّرِ يَصِحُّ أَنْ يَتَفَاضَلَ الْعَرَضَانِ كَسَوَادَيْنِ أحدهما شبع مِنَ الْآخَرِ، إِذْ قَدْ تَخَلَّلَ الْآخَرَ مَا لَيْسَ بِسَوَادٍ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ:
عَظِيمٌ، أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ يُسَمِّيهِمُ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. الثَّالِثُ: فِي أَبِي جَهْلِ وَخَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. الرَّابِعُ: فِي أَصْحَابِ الْقَلِيبِ: وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُتَبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.
الْخَامِسُ: فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا. السَّادِسُ: فِي الْمُنَافِقِينَ، فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي نَاسٍ بِأَعْيَانِهِمْ وَافَوْا عَلَى الْكُفْرِ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا مَعْهُودُونَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا فِي نَاسٍ مَخْصُوصِينَ وَافَوْا عَلَى الْكُفْرِ، فَيَكُونُ عَامًّا مَخْصُوصًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمِنَ الْيَهُودِ خَلْقٌ كَثِيرٌ بَعْدَ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؟.
وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ أَنْوَاعًا. الْأَوَّلُ: الْخِطَابُ الْعَامُّ اللَّفْظِ الْخَاصُّ الْمَعْنَى. الثَّانِي: الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ تَقْرِيرُ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ، أَيْ يَتَقَرَّرُ أَنَّ الْإِنْذَارَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ. الثَّالِثُ: الْمَجَازُ، وَيُسَمَّى: الِاسْتِعَارَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَحَقِيقَةُ الْخَتْمِ وَضْعُ مَحْسُوسٍ عَلَى مَحْسُوسٍ يَحْدُثُ بَيْنَهُمَا رَقْمٌ يَكُونُ عَلَامَةً لِلْخَاتَمِ، وَالْخَتْمُ هُنَا مَعْنَوِيٌّ، فَإِنَّ الْقَلْبَ لَمَّا لَمْ يَقْبَلِ الْحَقَّ مَعَ ظُهُورِهِ اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الْمَخْتُومِ عَلَيْهِ فَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ. الرَّابِعُ:
الْحَذْفُ، وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ إِنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ. وَمِنْهَا: لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِمَا أَخْبَرْتَهُمْ بِهِ عَنْهُ. وَمِنْهَا: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا تَعِي وَعَلَى أَسْمَاعِهِمْ فَلَا تُصْغِي. وَمِنْهَا: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عَلَى مَنْ نَصَبَ، أَيْ وَجَعَلَ عَلَى
83
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً فَلَا يُبْصِرُونَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ. وَمِنْهَا: وَلَهُمْ عَذَابٌ، أَيْ وَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ دَائِمٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ أَوْ بِالْإِذْلَالِ وَوَضْعِ الْجِزْيَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. الْخَامِسُ: التَّعْمِيمُ: وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ عَذَابٌ وَلَمْ يَقُلْ عَظِيمٌ لَاحْتَمَلَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، فَلَمَّا وَصَفَهُ بِالْعَظِيمِ تَمَّمَ الْمَعْنَى وَعَلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ عَظِيمٌ، إِمَّا فِي الْمِقْدَارِ وَإِمَّا فِي الْإِيلَامِ وَالدَّوَامِ. السَّادِسُ: الْإِشَارَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السَّوَاءَ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِمْ وَبَالُهُ وَنَكَالُهُ عَلَيْهِمْ وَمُسْتَعْلٍ فَوْقَهُمْ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بَيَانَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِمْ فَحَسْبُ لَقَالَ: سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْلٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ أَنَّ عَلَى تُشْعِرُ بِالِاسْتِعْلَاءِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ تَضَّمَنَ مَعْنَى الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الْمَعْنَى فِي قَوْلِكَ سَوَاءٌ عَلَيْكَ وَعِنْدَكَ كَذَا وَكَذَا وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الِاسْتِعْمَالِ بِعَلَى، قَالَ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ «١»، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا «٢»، سَوَاءٌ عَلَيْهَا رِحْلَتِي وَمَقَامِي، وَكُلُّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ عَلَيْهِمْ. السَّابِعُ: مَجَازُ التَّشْبِيهِ شَبَّهَ قُلُوبَهُمْ لِتَأَبِّيهَا عَنِ الْحَقِّ، وَأَسْمَاعَهُمْ لِإِضْرَابِهَا عَنْ سَمَاعِ دَاعِيَ الْفَلَاحِ، وَأَبْصَارَهُمْ لِامْتِنَاعِهَا عَنْ تَلَمُّحِ نُورِ الْهِدَايَةِ بِالْوِعَاءِ الْمَخْتُومِ عَلَيْهِ الْمَسْدُودِ مَنَافِذُهُ الْمُغَشَّى بِغِشَاءٍ يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَا يُصْلِحُهُ، لَمَّا كَانَتْ مَعَ صِحَّتِهَا وَقُوَّةِ إِدْرَاكِهَا مَمْنُوعَةً عَنْ قَبُولِ الْخَيْرِ وَسَمَاعِهِ وَتَلَمُّحِ نُورِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ، إِذِ الْخَتْمُ وَالْغِشَاوَةُ لَمْ يُوجَدَا حَقِيقَةً، وَهُوَ بِالِاسْتِعَارَةِ أَوْلَى، إِذْ مِنْ شَرْطِ التَّشْبِيهِ أَنْ يُذْكَرَ المشبه والمشبه به.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ، النَّاسُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لفظه،
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٣٦.
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ٢١.
84
وَمُرَادِفُهُ: أَنَاسِيُّ، جَمْعُ: إِنْسَانٍ أَوْ إِنْسِيٍّ. قَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ، حَكَاهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ، وَهُوَ مَجَازٌ إِذْ أَصْلُهُ فِي بَنِي آدَمَ، وَمَادَّتُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْفَرَّاءِ: هَمْزَةٌ وَنُونٌ وَسِينٌ، وَحُذِفَتْ هَمْزَتُهُ شُذُوذًا، وَأَصْلُهُ أُنَاسٌ وَنُطِقَ بِهَذَا الْأَصْلِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «١»، فَمَادَّتُهُ وَمَادَّةُ الْإِنْسِ وَاحِدَةٌ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ إِلَى أَنَّ مَادَّتَهُ نُونٌ وَوَاوٌ وَسِينٌ، وَوَزْنُهُ فَعَلَ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوَسِ وَهُوَ الْحَرَكَةُ، يُقَالُ: نَاسَ يَنُوسُ نَوَسًا إِذَا تَحَرَّكَ، وَالنَّوَسُ: تَذَبْذُبُ الشَّيْءِ فِي الْهَوَاءِ، وَمِنْهُ نَوَسَ الْقِرْطُ فِي الْأُذُنِ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ حَرَكَتِهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ نَسِيَ، وَأَصْلُهُ نَسِيَ ثُمَّ قُلِبَ فَصَارَ نَيِسَ، تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا فَقِيلَ: نَاسٌ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْأَلِفُ واللام. والكلام على هذا الْأَقْوَالِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. مَنْ: مَوْصُولَةٌ، وَشَرْطِيَّةٌ، وَاسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَنَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَتَقَعُ عَلَى ذِي الْعِلْمِ، وَتَقَعُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ ذِي الْعِلْمِ إِذَا عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْعَالِمِ، أَوِ اخْتَلَطَ بِهِ فِيمَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ أَوْ فِيمَا فُصِلَ بِهَا، وَلَا تَقَعُ عَلَى آحَادِ مَا لَا يَعْقِلُ مُطْلَقًا خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ. وَأَكْثَرُ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إِلَّا فِي مَوْضِعٍ يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ، كَقَوْلِ سُوَيْدِ بْنِ أَبِي كَاهِلٍ:
رَبِّ مَنْ أَنْضَجْتَ غَيْظًا صَدْرَهُ لَوْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتًا لَمْ يُطَعْ
وَيَقِلُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرَنَا حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا
وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَسْتَعْمِلُ مِنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إِلَّا بِشَرْطِ وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَقَعُ فِيهِ إِلَّا النَّكِرَةَ، وَزَعَمَ هُوَ وَأَبُو الْحَسَنِ الْهُنَائِيُّ أَنَّهَا تَكُونُ زَائِدَةً، وَقَالَ الْجُمْهُورُ:
لَا تُزَادُ. وَتَقَعُ مِنْ عَلَى الْعَاقِلِ الْمَعْدُومِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ وُجُودٌ، تَتَوَهَّمُهُ، مَوْجُودًا خِلَافًا لِبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ، وفاقا للقراء، وَصَحَّحَهُ أَصْحَابُنَا. فَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ: أَصْبَحْتَ كَمَنْ لَمْ يخلق فنزيد: كَمَنْ قَدْ مَاتَ، وَأَكْثَرُ الْمُعْرِبِينَ لِلْقُرْآنِ مَتَى صَلَحَ عِنْدَهُمْ تَقْدِيرُ مَا أَوْ مَنْ بِشَيْءٍ جَوَّزُوا فِيهَا أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَإِثْبَاتُ كَوْنِ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ قَاطِعٌ فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِمَا مُعْجِبٌ لَكَ لِإِمْكَانِ الزِّيَادَةِ، فَإِنِ اطَّرَدَ ذَلِكَ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، كَأَنْ سَرَّنِي مَا مُعْجِبٌ لَكَ وَأَحْبَبْتُ مَا مُعْجِبًا لَكَ، كَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِمَا دَعَى النَّحْوِيُّونَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ سُمِعَ لَأَمْكَنَتِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ زَادُوا مَا بَيْنَ الْفِعْلِ ومرفوعه والفعل ومنصوبه. الزيادة أَمْرٌ ثَابِتٌ لِمَا، فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ فِيهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ ولا
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٧١.
85
يُثْبَتُ لَهَا مَعْنًى إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. وَأَمْعَنْتُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقَعُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ لِمَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ.
الْقَوْلُ: هُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى وَيَنْطَلِقُ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى النِّسْبَةِ الْإِسْنَادِيَّةِ، وَهُوَ الْكَلَامُ وَعَلَى الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ «١»، وَتَرَاكِيبُهُ السِّتُّ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْخِفَّةِ وَالسُّرْعَةِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ وَقَعَتْ جُمْلَةٌ مَحْكِيَّةٌ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَلِلْقَوْلِ فَصْلٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ. الْخِدَاعُ: قِيلَ إِظْهَارُ غَيْرِ مَا فِي النَّفْسِ، وَأَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَيْتُ الْمُفْرَدُ فِي الْمَنْزِلِ مَخْدَعًا لِتَسَتُّرِ أَهْلَ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ فِيهِ، وَمِنْهُ الْأَخْدَعَانِ: وَهُمَا الْعِرْقَانِ الْمُسْتَبْطِنَانِ فِي الْعُنُقِ، وَسُمِّيَ الدَّهْرُ خَادِعًا لِمَا يُخْفِي مِنْ غَوَائِلِهِ، وَقِيلَ الْخَدْعُ أَنْ يُوهِمَ صَاحِبَهُ خِلَافَ مَا يُرِيدُ بِهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ:
ضَبٌّ خَادِعٌ وَخَدِعٌ إِذَا أَمَرَّ الْحَارِثُ، وَهُوَ صَائِدُ الضَّبِّ، يده على باب حجره أَوْهَمَهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ أَصْلُهُ الْفَسَادُ، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أبيض اللون لذيذ طَعْمُهُ طَيِّبَ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ
أَيْ فَسَدَ. إِلَّا: حَرْفٌ، وَهُوَ أَصْلٌ لِذَوَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ مَا بَعْدَهُ وَصْفًا، وَشَرْطُ الْوَصْفِ بِهِ جَوَازُ صَلَاحِيَةِ الْمَوْضِعِ لِلِاسْتِثْنَاءِ. وَأَحْكَامُ إِلَّا مُسْتَوْفَاةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. النَّفْسُ:
الدَّمُ، أَوِ النَّفْسُ: الْمُودَعُ فِي الْهَيْكَلِ الْقَائِمُ بِهِ الْحَيَاةُ، وَالنَّفْسُ: الْخَاطِرُ، مَا يَدْرِي أَيُّ نَفْسَيْهِ يُطِيعُ، وَهَلِ النَّفْسُ الرُّوحُ أَمْ هِيَ غَيْرُهُ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَفِي حَقِيقَةِ النفس خلاف كثير ومجمع عَلَى أَنْفُسٍ وَنُفُوسٍ، وَهُمَا قِيَاسُ فَعْلٍ الِاسْمِ الصَّحِيحِ العين في جميعه الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. الشُّعُورُ:
إِدْرَاكُ الشَّيْءِ مِنْ وَجْهٍ يَدِقُّ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّعْرِ، وَالْإِدْرَاكُ بِالْحَاسَّةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الشِّعَارِ، وهو ثوب بلى الْجَسَدَ وَمَشَاعِرُ الْإِنْسَانِ حَوَاسُّهُ.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ، الْمَرَضُ: مَصْدَرُ مَرِضَ، وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الضَّعْفِ وَالْفُتُورِ، وَمِنْهُ قِيلَ: فُلَانٌ يُمْرِضُ الْحَدِيثَ أَيْ يُفْسِدُهُ وَيُضْعِفُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْمَرَضُ فِي الْقَلْبِ: الْفُتُورُ عَنِ الْحَقِّ، وَفِي الْبَدَنِ: فُتُورُ الْأَعْضَاءِ، وَفِي الْعَيْنِ: فُتُورُ النَّظَرِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الظُّلْمَةُ، قَالَ:
فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ ناحية فما يحس به نجم ولا قمر
(١) سورة المجادلة: ٥٨/ ٨.
86
وَقِيلَ: الْمَرَضُ: الْفَسَادُ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَرَضُ وَالْأَلَمُ والوجع نظائر. الزيادة:
قبلها يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ بَابِ أَعْطَى وَكَسَى، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لَازِمًا نَحْوَ: زَادَ الْمَالُ. أَلِيمٌ:
فَعِيلٌ مِنَ الْأَلَمِ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، كَالسَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ، أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ وَأَصْلُهُ أَلَمٌ. كَانَ: فِعْلٌ يَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، فَيَدُلُّ عَلَى زَمَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فَقَطْ، أَوْ عَلَيْهِ وَعَلَى الصَّيْرُورَةِ، وَتُسَمَّى نَاقِصَةً وَتَكْتَفِي بِمَرْفُوعٍ فَتَارَةً تَكُونُ فِعْلًا لَازِمًا وَتَارَةً مُتَعَدِّيًا، بِمَعْنَى كَفَلَ أَوْ غَزَلَ: كُنْتُ الصَّبِيَّ كَفَلْتُ، وَكُنْتُ الصُّوفَ غَزَلْتُهُ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ اللُّغَاتِ، وَقَدْ تُزَادُ وَلَا فَاعِلَ لَهَا إِذْ ذَاكَ خِلَافًا لِأَبِي سَعِيدٍ، وَأَحْكَامُهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي النَّحْوِ.
التَّكْذِيبُ: مَصْدَرُ كَذَّبَ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلرَّمْيِ بِهِ كَقَوْلِكَ: شَجَّعْتُهُ وَجَبَّنْتُهُ، أَيْ رَمَيْتُهُ بِالشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ، وَهِيَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَعَّلَ وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَةَ: الرَّمْيُ، وَالتَّعْدِيَةُ، وَالتَّكْثِيرُ، وَالْجَعْلُ عَلَى صِفَةٍ، وَالتَّسْمِيَةُ، وَالدُّعَاءُ لِلشَّيْءِ أَوْ عَلَيْهِ، وَالْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْإِزَالَةُ، وَالتَّوَجُّهُ، وَاخْتِصَارُ الْحِكَايَةِ، وَمُوَافَقَةُ تَفَعَّلَ وَفَعَّلَ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُمَا، مِثْلُ ذَلِكَ: جَبَّنْتُهُ، وَفَرَّحْتُهُ، وَكَثَّرْتُهُ، وَفَطَّرْتُهُ، وَفَسَّقْتُهُ، وَسَقَّيْتُهُ، وَعَقَّرْتُهُ، وَمَرَّضْتُهُ، وَقَذَّيْتُ عَيْنَهُ، وَشَوَّقَ، وَأَمَّنَ، قَالَ: آمِينَ، وَوَلَّى: مُوَافِقُ تَوَلَّى، وَقَدَّرَ: مُوَافِقُ قَدَرَ، وَحَمَّرَ: تَكَلَّمَ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَعَرَّدَ فِي الْقِتَالِ. وَأَمَّا الْكَذِبُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، لِمَا ذُكِرَ مِنَ الْكِتَابِ هُدًى لَهُمْ، وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ جَمَعُوا أَوْصَافَ الْإِيمَانِ مِنْ خُلُوصِ الإعتقاد وَأَوْصَافِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ مَا آلَ أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْهُدَى وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْفَلَاحِ. ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمُقَابِلِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ خُتِمَ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَخُتِمَ لَهُمْ بِمَا يَؤُولُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ فِي النِّيرَانِ. وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ مُقَالًا وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ اعْتِقَادًا وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، أَخَذَ يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِمْ.
وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ مُبْهَمٌ فَيُبَيِّنُ جِنْسَهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النَّاسِ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ الْكُفَّارِ السَّابِقِ ذِكْرُهُمْ مَنْ يَقُولُ وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مَخْتُومٍ عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتُ كَيْفَ يَجْعَلُونَ بَعْضَ أُولَئِكَ وَالْمُنَافِقِينَ غَيْرَ مَخْتُومٍ عَلَى قُلُوبِهِمْ؟
وَأَجَابَ بِأَنَّ الْكُفْرَ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ وَصَيَّرَهُمْ جِنْسًا وَاحِدًا، وَكَوْنُ الْمُنَافِقِينَ نَوْعًا مِنْ نَوْعَيْ هَذَا الْجِنْسِ مُغَايِرًا لِلنَّوْعِ الْآخَرِ بِزِيَادَةٍ زَادُوهَا عَلَى الْكُفْرِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْخَدِيعَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا بَعْضًا مِنَ الْجِنْسِ، انْتَهَى. لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ دَاخِلُونَ فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْكُفَّارِ مِنِ اسْتِوَاءِ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ، وَكَوْنِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَكَوْنِهِمْ مَخْتُومًا عَلَى
87
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَمَجْعُولًا عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَمُخْبَرًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَهُمْ قَدِ انْدَرَجُوا فِي عُمُومِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَزَادُوا أَنَّهُمْ قَدِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ. وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ.
وَسَأَلَ سَائِلٌ: مَا مَعْنَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يَقُولُ هُوَ مِنَ النَّاسِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِهَذَا الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وُقُوعُهُ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ بَعْدَهُ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا تَفْصِيلٌ مَعْنَوِيٌّ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ذِكْرُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، فَصَارَ نَظِيرَ التَّفْصِيلِ اللَّفْظِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي قُوَّةِ تَفْصِيلِ النَّاسِ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ، كَمَا فَصَّلُوا إِلَى مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ، وَمَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، وَمَنْ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَقُولُ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الْمُتَقَدِّمُ الذِّكْرِ. وَيَقُولُ: صِفَةٌ، هَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْبَقَاءِ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْوَجْهَ. وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنَ النَّاسِ نَاسٌ يَقُولُونَ كَذَا، كَقَوْلِهِ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا «١» قَالَ: إِنْ جَعَلْتَ اللَّامَ لِلْجِنْسِ يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ، قَالَ: وَإِنْ جَعْلَهَا لِلْعَهْدِ فَمَوْصُولَةٌ كَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ «٢». وَاسْتَضْعَفَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي قَالَ، لِأَنَّ الَّذِي يَتَنَاوَلُ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ، وَالْمَعْنَى هُنَا عَلَى الْإِبْهَامِ وَالتَّقْدِيرُ، وَمِنَ النَّاسِ فَرِيقٌ يَقُولُ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ اللَّامَ فِي النَّاسِ، إِنْ كَانَتْ لِلْجِنْسِ كَانَتْ مَنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَهْدِ كَانَتْ مَوْصُولَةً، أَمْرٌ لَا تَحْقِيقَ لَهُ، كَأَنَّهُ أَرَادَ مُنَاسَبَةَ الْجِنْسِ لِلْجِنْسِ وَالْعَهْدِ لِلْعَهْدِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْجِنْسِ وَمَنْ مَوْصُولَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، وَمَنْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ.
وَأَمَّا اسْتِضْعَافُ أَبِي الْبَقَاءِ كَوْنَ مَنْ مَوْصُولَةً وَزَعْمُهُ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْإِبْهَامِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ بِأَعْيَانِهِمْ مَعْرُوفِينَ، وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بن سَلُولَ، وَأَصْحَابُهُ، وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْكُفْرَ، وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، وَذَكَرَ عَنْهُمْ أَقَاوِيلَ مُعَيَّنَةً قالوها، فلا يكون ذَلِكَ صَادِرًا إِلَّا مِنْ مُعَيَّنٍ فَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ. وَالَّذِي نَخْتَارُ أَنْ تَكُونَ مَنْ مَوْصُولَةً، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ الرَّاجِحُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَمِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ. أَلَا تَرَى جَعْلَ مَنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَتْ فِي مَكَانٍ يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ فِي أَكْثَرِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهَذَا الْكَلَامُ ليس
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٢٣.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٦١.
88
مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ، وَأَمَّا أَنْ تَقَعَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا، حَتَّى أَنَّ الْكِسَائِيَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَهُوَ إِمَامُ نَحْوٍ وَسَامِعُ لُغَةٍ، فَلَا نُحَمِّلُ كِتَابَ اللَّهِ مَا أَثْبَتَهُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي قَلِيلٍ وَأَنْكَرَ وُقُوعَهُ أَصْلًا الْكِسَائِيُّ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً. وَمَنْ: مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَفَظُهَا مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ دَائِمًا، وَتَنْطَلِقُ عَلَيْهِ فُرُوعَ الْمُفْرَدِ وَالْمُذَكَّرِ إِذَا كَانَ مَعْنَاهَا كَذَلِكَ فَتَارَةً يُرَاعَى اللَّفْظُ فَيُفْرَدُ مَا يَعُودُ عَلَى مَنْ مُذَكَّرًا، وَتَارَةً يُرَاعَى الْمَعْنَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَيُطْلِقُ الْمُعْرِبُونَ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا رَجَعَ مِنْ لَفْظِ الْوَاحِدِ إِلَى لَفْظِ الْجَمْعِ بِحَسَبِ لَفْظِ مَنْ وَمَعْنَاهَا وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الْجَمْعِ فِي الرُّتْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ مُتَكَلِّمٌ مِنْ لَفْظِ جَمْعٍ إِلَى تَوَحُّدٍ، لَوْ قُلْتَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُونَ وَيَتَكَلَّمُ لَمْ يَجُزْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْ لَفْظِ جَمْعٍ إِلَى تَوَحُّدٍ خَطَأٌ، بَلْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى جَوَازِ الْجُمْلَتَيْنِ، لَكِنَّ الْبَدْءَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ ثُمَّ عَلَى الْمَعْنَى أَوْلَى مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَمِمَّا رَجَعَ فِيهِ إِلَى الْإِفْرَادِ بَعْدَ الْجَمْعِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو نَ إِذَا كَافَحَتْهُ خَيْلُ الْأَعَادِي
وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلٌ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَيَقُولُ: أُفْرِدَ فِيهِ الضَّمِيرُ مُذَكَّرًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَآمَنَّا: جُمْلَةٌ هِيَ الْمَقُولَةُ، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ وَأَتَى بِلَفْظِ الْجَمْعِ رَعْيًا لِلْمَعْنَى، إِذْ لَوْ رَاعَى لَفَظَ مَنْ قَالَ آمَنْتُ. وَاقْتَصَرُوا مِنْ مُتَعَلَّقِ الْإِيمَانِ عَلَى اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حَيْدَةً مِنْهُمْ عَنْ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِيهَامًا أَنَّهُمْ مِنْ طَائِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ، كَمَا زَعَمَ الزمخشري، يهودا. فَإِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، كَقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «١» وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ، وَهُمْ لَوْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ عَقِيدَتِهِمْ لَكَانَ كُفْرًا، فَكَيْفَ إِذَا قَالُوا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ النِّفَاقِ خَدِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتِهْزَاءً بِهِمْ؟ وَفِي تَكْرِيرِ الْبَاءِ دَلِيلٌ عَلَى مَقْصُودِ كُلِّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ بِالْإِيمَانِ. وَالْيَوْمُ الْآخِرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الْوَقْتُ الْمَحْدُودُ مِنَ الْبَعْثِ إِلَى اسْتِقْرَارِ كُلٍّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِيمَا أُعِدَّ لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الْأَبَدُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ.
وَسُمِّيَ آخِرًا لِتَأَخُّرِهِ، إِمَّا عَنِ الْأَوْقَاتِ الْمَحْدُودَةِ بِاعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَوْ عَنِ الأوقات
(١) سورة التوبة: ٩/ ٣٠.
89
الْمَحْدُودَةِ بِاعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي. وَالْبَاءُ فِي بِمُؤْمِنِينَ زَائِدَةٌ وَالْمَوْضِعُ نَصْبٌ لِأَنَّ مَا حِجَازِيَّةٌ وَأَكْثَرُ لِسَانِ الْحِجَازِ جَرُّ الْخَبَرِ بِالْبَاءِ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَجَاءَ النَّصْبُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: مَا هَذَا بَشَراً «١» وما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ. وَأَمَّا فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ أَيْضًا إِلَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ تَصِلُ الْجُيُوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا
أَبْنَاؤُهَا متكفون أَبَاهُمُ حَنِقُوا الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلَادُهَا
وَلَا تَخْتَصُّ زِيَادَةُ الْبَاءِ بِاللُّغَةِ الْحِجَازِيَّةِ، بَلْ تُزَادُ فِي لُغَةِ تَمِيمٍ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: بِمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْحِجَازِ، لِأَنَّهُ حِينَ حُذِفَتِ الْبَاءُ مِنَ الْخَبَرِ ظَهَرَ النَّصْبُ فِيهِ، وَلَهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ فِي بَابٍ مَعْقُودٍ فِي النَّحْوِ. وَإِنَّمَا زِيدَتِ الْبَاءُ فِي الْخَبَرِ لِلتَّأْكِيدِ، وَلِأَجْلِ التَّأْكِيدِ فِي مُبَالَغَةِ نَفْيِ إِيمَانِهِمْ، جَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ اسْمِيَّةً مُصَدَّرَةً بهم، وَتَسَلُّطُ النَّفْيِ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي لَيْسَ مُقَيَّدًا بِزَمَانٍ لِيَشْمَلَ النَّفْيُ جَمِيعَ الْأَزْمَانِ، إِذْ لَوْ جَاءَ اللَّفْظُ مُنْسَحِبًا عَلَى اللَّفْظِ الْمَحْكِيِّ الَّذِي هُوَ: آمَنَّا، لَكَانَ: وَمَا آمَنُوا، فَكَانَ يَكُونُ نَفْيًا لِلْإِيمَانِ الْمَاضِي، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَلَبِّسِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الْإِيمَانِ فِي وَقْتٍ مَا مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَقْيِيدِ الْإِيمَانِ الْمَنْفِيِّ، أَيْ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَمْ يَرُدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا، إِنَّمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقَ الْقَوْلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْكَرَّامِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِنْ لَمْ يُعْتَقَدْ بِالْقَلْبِ. وَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مَنْ، إذ أَعَادَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي يَقُولُ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَى الْمَعْنَى فَجَمَعَ. وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ اللفظ والمعنى بدىء بِاللَّفْظِ ثُمَّ أُتْبِعَ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى. قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا «٢»، وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ «٣» الْآيَةَ، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً «٤».
وَذَكَرَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ عَلَمُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الكريم بن علي بن عُمَرَ الْأَنْصَارِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَصْلَ الْمِصْرِيُّ الْمَوْلِدَ وَالْمَنْشَأَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِنْتِ الْعِرَاقِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ جَاءَ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ فِي الْقُرْآنِ بدىء فِيهِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى أَوَّلًا ثُمَّ أُتْبِعَ بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٣١.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٤٩.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٧٥.
(٤) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣١.
90
أَزْواجِنا «١»، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ فِي الشَّاذِّ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ متخيلا أنه مما بدىء فِيهِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَا يُجِيزُ الْكُوفِيُّونَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ إِلَّا بِفَاصِلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْبَصْرِيُّونَ الْفَاصِلَ، قَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ، وَلَمْ يَرِدِ السَّمَاعُ إِلَّا بِالْفَصْلِ، كَمَا ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ بِصَحِيحٍ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى»
؟ فَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فِي كَانَ، إِذْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ وَجَاءَ الْخَبَرُ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ جَاءَ جَمْعًا وَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَإِنَّمَا جَاءَ أَكْثَرُ ذَلِكَ بِالْفَصْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَالَةِ قَلَقِ التَّنَافُرِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ، مُضَارِعُ خَادَعَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو حَيَاةَ يَخْدَعُونَ اللَّهَ، مُضَارِعُ خدع لمجرد، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: يُخادِعُونَ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: لِمَ يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِيمَانِ وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فِي الْحَقِيقَةِ؟ فَقِيلَ: يُخَادِعُونَ، وَيُحْتَمَلُ أن يكون بدلا من قَوْلِهِ: يَقُولُ آمَنَّا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيَانًا، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: آمَنَّا وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ فِي الْحَقِيقَةِ مُخَادَعَةٌ، فَيَكُونُ بَدَلَ فِعْلٍ مِنْ فِعْلٍ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي يَقُولُ، أَيْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا، مُخَادِعِينَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالْعَامِلُ فِيهَا اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ: بِمُؤْمِنِينَ، وَذُو الْحَالِ: الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ. وَهَذَا إِعْرَابٌ خَطَأٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ فَنَفَتْ نِسْبَةَ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا قَيَّدْتَ تِلْكَ النِّسْبَةَ بِحَالٍ تَسَلَّطُ النَّفْيُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ الْقَيْدُ، فَنَفَتْهُ، وَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَنْ يَنْتَفِيَ ذَلِكَ الْقَيْدُ فَقَطْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ ثَبَتَ الْعَامِلُ فِي ذَلِكَ الْقَيْدِ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا زَيْدٌ أَقْبَلَ ضَاحِكًا فَمَفْهُومُهُ نَفْيُ الضَّحِكِ وَيَكُونُ قَدْ أَقْبَلَ غَيْرَ ضَاحِكٍ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا، إِذْ لَا يَنْفِي عَنْهُمُ الْخِدَاعَ فَقَطْ، وَيُثْبِتُ لَهُمُ الْإِيمَانَ بِغَيْرِ خِدَاعٍ، بَلِ الْمَعْنَى: نُفِيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقَلُّ، أَنْ يَنْتَفِيَ الْقَيْدُ وَيَنْتَفِيَ الْعَامِلُ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ: لَمْ يُقْبِلْ زَيْدٌ وَلَمْ يَضْحَكْ: أَيْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِقْبَالٌ وَلَا ضَحِكٌ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ وَنَفْيُ الخداع.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٣٩.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١١١. [.....]
91
وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي الْبَقَاءِ كَيْفَ تَنَبَّهَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا فَمَنَعَ أَنْ يَكُونَ يُخَادِعُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَقَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الصِّفَةِ لِمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نَفْيَ خِدَاعِهِمْ، وَالْمَعْنَى عَلَى إِثْبَاتِ الْخِدَاعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَأَجَازَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فِي الصِّفَةِ، وَهُمَا سَوَاءٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَالِ وَالصِّفَةِ فِي ذَلِكَ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا قَيْدٌ يَتَسَلَّطُ النَّفْيُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَمُخَادَعَةُ الْمُنَافِقِينَ اللَّهَ هُوَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ تَظَاهُرِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَهُمْ مُبْطِنُونَ لِلْكُفْرِ، قَالَهُ جَمَاعَةٌ، أَوْ مِنْ حَيْثُ عَدَمِ عِرْفَانِهِمْ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ فَظَنُّوا أَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ خِدَاعُهُ. فَالتَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ مَجَازٌ وَالثَّانِي حَقِيقَةٌ، أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ يُخَادِعُونَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَتَارَةً يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مُرَادًا وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُرَادًا، بَلْ نَزَّلَ مُخَادَعَتَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ مُخَادَعَةِ اللَّهِ، فَجَاءَ: يُخادِعُونَ اللَّهَ، وَهَذَا الْوَجْهُ قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ.
وَإِذَا صَحَّ نِسْبَةُ مُخَادَعَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهَا، فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أَنْ نَذْهَبَ إِلَى أَنَّ اسْمَ مُقْحَمٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يُخَادِعُونَ الَّذِينَ آمَنُوا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: يَكُونُ مِنْ بَابِ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، الْمَعْنَى هَذَا أَعْجَبَنِي كَرَمُ زَيْدٍ، وَذِكْرُ زَيْدٍ تَوْطِئَةٌ لِذِكْرِ كَرَمِهِ، وَالنِّسْبَةُ إِلَى الْإِعْجَابِ إِلَى كَرَمِهِ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْمَثَلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ. وَلِلْآيَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ مَحَامِلُ تَأْتِي فِي مَكَانِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَا أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، فَإِنَّ الْإِعْجَابَ أُسْنِدَ إِلَى زَيْدٍ بِجُمْلَتِهِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بَعْضُ صِفَاتِهِ تَمْيِيزًا لِصِفَةِ الْكَرَمِ مِنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي انْطَوَى عَلَيْهَا لِشَرَفِ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَصَارَ مِنَ الْمَعْنَى نَظِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «١»، فَلَا يُدَّعَى كَمَا ادَّعَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الِاسْمَ مُقْحَمٌ، وَأَنَّهُ ذُكِرَ تَوْطِئَةً لِذِكْرِ الْكَرَمِ. وَخَادَعَ الَّذِي مُضَارِعُهُ يُخَادِعُ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ، وَفَاعَلَ يَأْتِي لِخَمْسَةِ مَعَانٍ: لِاقْتِسَامِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَالْمَفْعُولِيَّةِ فِي اللَّفْظِ، وَالِاشْتِرَاكِ فِيهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِمُوَافَقَةِ أَفْعَلَ الْمُتَعَدِّي، وَمُوَافَقَةِ الْمُجَرِّدِ لِلْإِغْنَاءِ عَنْ أَفْعَلَ وَعَنِ الْمُجَرَّدِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ: ضَارِبُ زَيْدًا عُمَرُ، وَبَاعَدْتُهُ، وَوَارَيْتُ الشَّيْءَ، وَقَاسَيْتُ.
وَخَادَعَ هُنَا إِمَّا لِمُوَافَقَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى خَدَعَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: يَخْدَعُونَ اللَّهَ، وَيُبَيِّنُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي حَيَاةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَادَعَ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ، فَمُخَادَعَتُهُمْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا، وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ لَهُمْ حَيْثُ أَجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ وَاكْتَفَى
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩٨.
92
مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَبْطَنُوا خِلَافَهُ، وَمُخَادَعَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ كَوْنُهُمُ امْتَثَلُوا أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
وَفِي مُخَادَعَتِهِمْ هُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَوَائِدُ لَهُمْ، مِنْ تَعْظِيمِهِمْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّطَلُّعِ عَلَى أَسْرَارِهِمْ فَيُغَشُّونَهَا إِلَى أَعْدَائِهِمْ، وَرَفْعُ حُكْمِ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا يَنَالُونَ مِنَ الْإِحْسَانِ بِالْهِدَايَةِ وَقَسْمِ الْغَنَائِمَ. وَقَرَأَ: وَمَا يُخَادِعُونَ، الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: وَمَا يَخْدَعُونَ. وَقَرَأَ الْجَارُودُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، وَأَبُو طَالُوتَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ شَدَّادٍ: وَمَا يَخْدَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: وَمَا يُخَادَعُونَ، بِفَتْحِ الدَّالِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَمُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ: وَمَا يُخَدِّعُونَ، مِنْ خَدَّعَ الْمُشَدِّدِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبَعْضُهُمْ يَفْتَحُ الْيَاءَ وَالْخَاءَ وَتَشْدِيدُ الدَّالِّ الْمَكْسُورَةِ. فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ تَوْجِيهُ:
الْأُولَى: أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْخِدَاعِ إِنَّمَا هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَخْدُوعِ، بِأَنْ يَنْفَعِلَ لَهُ فِيمَا يُخْتَارُ، وَيُنَالُ مِنْهُ مَا يُطْلَبُ عَلَى غِرَّةٍ مِنَ الْمَخْدُوعِ وَتَمَكُنٍ مِنْهُ وَتَفَعُّلٍ لَهُ، وَوَبَالُ ذَلِكَ لَيْسَ رَاجِعًا لِلْمَخْدُوعِ، إِنَّمَا وَبَالُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَادِعِ، فَكَأَنَّهُ مَا خَادَعَ وَلَا كَادَ إِلَّا نَفْسَهُ بِإِيرَادِهَا مَوَارِدَ الْهَلَكَةِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُ بِقَبِيحِ انْتِحَالِهِ وَسُوءِ مَآلِهِ. وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِالْمُخَادَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ، وَتَسْمِيَةِ الْفِعْلِ الثَّانِي بِاسْمِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ الْمُسَبِّبِ لَهُ، كَمَا قَالَ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
جَعَلَ انْتِصَارَهُ جَهْلًا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَنْزَعَ هُنَا أَنَّهُ قَدْ يَجِيءُ مِنْ وَاحِدٍ: كَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَطَارَقْتُ النَّعْلَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَادَعَةُ عَلَى بَابِهَا مِنِ اثْنَيْنِ، فَهُمْ خَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ مَنَّوْهَا الْأَبَاطِيلَ، وَأَنْفُسُهُمْ خَادِعَتُهُمْ حَيْثُ مَنَّتْهُمْ أَيْضًا ذَلِكَ، فَكَأَنَّهَا مُجَاوَرَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَذَكَّرَ مِنْ أَنَّى ومن أين شربه يؤامر نَفْسَيْهِ لِذِي الْبَهْجَةِ الْأَبِلْ
وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
لَمْ تَدْرِ مَا وَلَسْتُ قَائِلَهَا عُمْرُكَ مَا عِشْتَ آخِرَ الأبد
ولم تؤامر نَفْسَيْكَ مُمْتَرِيًا فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَلِدْ
وَقَالَ:
93
وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ:
يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ وَفِي الْعَيْشِ فُسْحَةٌ أَيَستَوبِعُ الذَّوَبَانَ أَمْ لَا يُطَوِّرُهَا
وَكُنْتُ كَذَاتِ الضَّيِّ لَمْ تَدْرِ إِذْ بَغَتْ تُؤَامِرُ نَفْسَيْهَا أَتَسْرِقُ أَمْ تَزْنِي
فَفِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ قَدْ جُعِلَ لِلشَّخْصِ نَفْسَيْنِ عَلَى مَعْنَى الْخَاطِرَيْنِ، وَلَهَا جِنْسَيْنِ، أَوْ يَكُونُ فَاعَلُ بِمَعْنَى فَعَلَ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقِرَاءَةِ: وَمَا يَخْدَعُونَ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: خَادَعْتُ الرَّجُلَ، أَعْمَلْتُ التَّحَيُّلَ عَلَيْهِ فَخَدَعْتُهُ، أَيْ تَمَّتْ عَلَيْهِ الْحِيلَةُ وَنَفَذَ فِيهِ الْمُرَادُ، خِدَعًا، بِكَسْرِ الْخَاءِ فِي الْمَصْدَرِ وَخَدِيعَةً، حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ. فَالْمَعْنَى: وَمَا يَنْفُذُ السُّوءُ إِلَّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ هُنَا: ذَوَاتِهِمْ. فَالْفَاعِلُ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا يُخَادِعُهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ قَالَ: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْدَعُ نَفْسَهُ، بَلْ نَفْسُهُ هِيَ الَّتِي تَخْدَعُهُ وَتُسَوِّلُ لَهُ وَتَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ. وَأَوْرَدَ أَشْيَاءً مِمَّا قَلَبَتْهُ الْعَرَبُ، وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي الْقَلْبِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ وَالشِّعْرِ اتِّسَاعًا وَاتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ وَيَجُوزُ فِي الشِّعْرِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ أَصْحَابُنَا، وَكَانَ هَذَا الَّذِي ادَّعَى الْقَلْبَ لَمَّا رَأَى قَوْلَهُمْ: مَنَّتْكَ نَفْسُكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ «١» تَخَيَّلَ أَنَّ الْمُمَنِّيَ وَالْمُسَوِّلَ غَيْرُ الْمُمَنَّى وَالْمُسَوَّلِ لَهُ، وَلَيْسَ عَلَى مَا تَخَيَّلَ، بَلِ الْفَاعِلُ هُنَا هُوَ الْمَفْعُولُ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَحَبَّ زَيْدٌ نَفْسَهُ، وَعَظَّمَ زَيْدٌ نَفْسَهُ؟ فَلَا يُتَخَيَّلُ هُنَا تَبَايُنُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا الْمَدْلُولُ فَهُوَ وَاحِدٌ. وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا دُونَ قَلْبٍ، فَأَيُّ حَاجَةٍ تَدْعُو إِلَيْهِ هَذَا؟ مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ.
وَمَنْ قَرَأَ: وَمَا يُخَادِعُونَ أَوْ يَخْدَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَانْتِصَابُ مَا بَعْدَ إِلَّا عَلَى مَا انْتُصِبَ عَلَيْهِ زَيْدٌ غُبِنَ رَأْيُهُ، إِمَّا عَلَى التَّمْيِيزِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَإِمَّا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى مَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَإِمَّا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ: فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ ضَمَّنَ الْفِعْلَ مَعْنَى يَنْتَقِضُونَ وَيَسْتَلِبُونَ، فَيَنْتَصِبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، كَمَا ضَمَّنَ الرَّفَثَ مَعْنَى الْإِفْضَاءَ فَعُدِّي بِإِلَى فِي قَوْلِهِ: الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «٢»، وَلَا يُقَالُ رَفَثَ إِلَى كَذَا، وَكَمَا ضَمَّنَ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى «٣»، مَعْنَى أَجْذِبُكَ، وَلَا يُقَالُ: أَلَا هَلْ لَكَ فِي كَذَا. وَفِي قِرَاءَةٍ: وَمَا يَخْدَعُونَ، فَالتَّشْدِيدُ إِمَّا لِلتَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَاعِلَيْنِ أَوْ للمبالغة في
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١٨ و ٨٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٨٧.
(٣) سورة النازعات: ٧٩/ ١٨.
94
نَفْسِ الْفِعْلِ، إِذْ هُوَ مَصِيرٌ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَإِمَّا لِمُوَافَقَةِ فَعَلَ نَحْوَ: قَدَرَ اللَّهُ وَقَدَّرَ، وَقَدْ تقدم ذكر معاني فعل. وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: وَمَا يَخْدَعُونَ، أَصْلُهَا يَخْتَدِعُونَ فَأُدْغِمَ، وَيَكُونُ افْتَعَلَ فِيهِ مُوَافِقًا لِفَعَلَ نَحْوُ: اقْتَدَرَ عَلَى زَيْدٍ، وَقَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَما يَشْعُرُونَ: جُمْلَةٌ معطوفة على: وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَمَفْعُولُ يَشْعُرُونَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِطْلَاعُ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَى خِدَاعِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ تَقْدِيرُهُ هَلَاكُ أَنْفُسِهِمْ وَإِيقَاعِهَا فِي الشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَمَا يَشْعُرُونَ:
جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ تَقْدِيرُهُ وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ غَيْرَ شَاعِرِينَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ شَعَرُوا أَنَّ خِدَاعَهُمْ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ خِدَاعٌ لِأَنْفُسِهِمْ لَمَّا خَادَعُوا اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَجَاءَ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ لَا بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُضِيَّ يُشْعِرُ بِالِانْقِطَاعِ بِخِلَافِ الْمُضَارِعِ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ أَوِ الْمَدْحِ بِالدَّيْمُومَةِ، نَحْوُ: زَيْدٌ يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَعَمْرٌو يَقْرِي الضَّيْفَ.
وَالْقُرَّاءُ عَلَى فَتْحِ رَاءِ مَرَضَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَّا الْأَصْمَعِيَّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، فَإِنَّهُ قَرَأَ بِالسُّكُونِ فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْحَلَبِ وَالْحَلْبِ، وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ، وَلِهَذَا قَرَأَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَرَضِ الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي هُوَ الْفَسَادُ أَوِ الظُّلْمَةُ أَوِ الضَّعْفُ أَوِ الْأَلَمُ كَائِنٌ فِي قُلُوبِهِمْ حَقِيقَةً، وَسَبَبُ إِيجَادِهِ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ ظُهُورُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِهِ، وَفُشُوُّ الْإِسْلَامِ وَنَصْرُ أَهْلِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ، فَيَكُونُ قَدْ كَنَّى بِهِ عَمَّا حَلَّ الْقَلْبَ مِنَ الشَّكِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ عَنِ الْحَسَدِ وَالْغِلِّ، كَمَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بن سَلُولَ، أَوْ عَنِ الضَّعْفِ وَالْخَوْرِ لِمَا رَأَوْا مِنْ نَصْرِ دِينِ اللَّهِ وَإِظْهَارِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَوْ كَانَ فِيهَا مَرَضٌ لَكَانَتْ أَجْسَامُهُمْ مَرِيضَةً بِمَرَضِهَا، أَوْ كَانَ الْحِمَامُ عَاجَلَهُمْ، قَالَ: بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ وَالْقَانُونُ الطِّبِّيُّ، أَمَّا الْحَدِيثُ،
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي جَسَدِ ابْنِ آدَمَ لَمُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ جَمِيعُهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ جَمِيعُهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
وَأَمَّا الْقَانُونُ الطِّبِّيُّ، فَإِنَّ الْحُكَمَاءَ وَصَفُوا الْقَلْبَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عِلْمُ التَّشْرِيحِ، ثُمَّ قَالُوا: إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ مَادَّةٌ غَلِيظَةٌ، فَإِنْ تَمَلَّكَتْ مِنْهُ وَمِنْ غُلَافِهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ حَيَاةٌ وَعَاجَلَتِ الْمَنِيَّةُ صَاحِبَهُ، وَرُبَّمَا تَأَخَّرَتْ تَأْخِيرًا يَسِيرًا، وَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْهُ الْمَادَّةُ الْمُنْصَبَّةُ إِلَيْهِ وَلَا مِنْ غُلَافِهِ، أُخِّرَتِ الْحَيَاةُ مُدَّةً يَسِيرَةً؟ وَقَالُوا: لَا سَبِيلَ إِلَى بَقَاءِ الْحَيَاةِ مَعَ مَرَضِ الْقَلْبِ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ لَا تَكُونُ قُلُوبُهُمْ مَرِيضَةً حَقِيقَةً. وَقَدْ تَلَخَّصَ فِي الْقُرْآنِ
95
مِنَ الْمَعَانِي السَّبَبِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مَرَضًا، وَهِيَ: الرَّيْنُ، وَالزَّيْغُ، وَالطَّبْعُ، وَالصَّرْفُ، وَالضِّيقُ، وَالْحَرَجُ، وَالْخَتْمُ، وَالْإِقْفَالُ، وَالْإِشْرَابُ، وَالرُّعْبُ، وَالْقَسَاوَةُ، وَالْإِصْرَارُ، وَعَدَمُ التَّطْهِيرِ، وَالنُّفُورُ، وَالِاشْمِئْزَازُ، وَالْإِنْكَارُ، وَالشُّكُوكُ، وَالْعَمَى، وَالْإِبْعَادُ بِصِيغَةِ اللَّعْنِ، وَالتَّأَبِّي، وَالْحَمِيَّةُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْغَفْلَةُ، وَالْغَمْزَةُ، وَاللَّهْوُ، وَالِارْتِيَابُ، وَالنِّفَاقُ. وَظَاهِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ مَعَانٍ تَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ فَتَغْلِبُ عَلَيْهِ، وَلِلْقَلْبِ أَمْرَاضٌ غَيْرُ هَذِهِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُضَافَةً إِلَى جُمْلَةِ الْكُفَّارِ. وَالزِّيَادَةُ تَجَاوُزُ الْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ، وَعِلْمُ اللَّهِ محيط بما أضمروه من سُوءِ الِاعْتِقَادِ وَالْبُغْضِ وَالْمُخَادَعَةِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ «١»، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ شَيْئًا مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَقْذِفُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا آخَرَ، فَيَصِيرُ الثَّانِي زِيَادَةً عَلَى الْأَوَّلِ، إِذَا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ لَمَا تَحَقَّقَتِ الزِّيَادَةُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يُحْمَلُ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «٢». وَزِيَادَةُ الْمَرَضِ إِمَّا مِنْ حَيْثُ أَنَّ ظُلُمَاتِ كُفْرِهِمْ تَحِلُّ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ «٣»، أَوْ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمَرَضَ حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ الْحَسَدِ أَوِ الْهَمِّ، بِمَا يُجَدِّدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِدِينِهِ مِنْ عُلُوِّ الْكَلِمَةِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ وَنَفَاذِ الْأَمْرِ، أَوْ لِمَا يَحْصُلُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، وَإِسْنَادُ الزِّيَادَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ بِخِلَافِ الْإِسْنَادِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً «٤».
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ الْمَرَضِ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، إِذِ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ هُوَ الْكُفْرُ، فَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُحْمَلَ الْمَرَضُ عَلَى الْغَمِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَغْتَمُّونَ بِعُلُوِّ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَلَى مَنْعِ زِيَادَةِ الْأَلْطَافِ، أَوْ عَلَى أَلَمِ الْقَلْبِ، أَوْ عَلَى فُتُورِ النِّيَّةِ فِي الْمُحَارَبَةِ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ أَوَّلًا قُلُوبُهُمْ قَوِيَّةً عَلَى ذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ كَانَ يَزْدَادُ بِسَبَبِ ازْدِيَادِ التَّكْلِيفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا كَانَ قَوْلُهُ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً خَبَرًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ دُعَاءً فَلَا، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ دُعَاءٌ بِوُقُوعِ زِيَادَةِ الْمَرَضِ، أَوْ مَجَازًا فَلَا تُقْصَدُ بِهِ الْإِجَابَةَ لِكَوْنِ الْمَدْعُوِّ بِهِ وَاقِعًا، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ السَّبُّ
(١) سورة الرعد: ١٣/ ٨.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١٢٥.
(٣) سورة النور: ٢٤/ ٤٠.
(٤) سورة التوبة: ٩/ ١٢٤.
96
وَاللَّعْنُ وَالنَّقْصُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ «١»، ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ «٢»، وَكَقَوْلِهِ: لَعَنَ اللَّهُ إِبْلِيسَ وَأَخْزَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ، وَأَنَّهُ قَدْ بَاءَ بِخِزْيٍ وَلَعْنٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا انْتِهَاءَ لَهُ، وَتَنْكِيرُ مَرَضٍ مِنْ قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَجْنَاسِ الْمَرَضِ فِي قُلُوبِهِمْ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ دَلَالَةَ النَّكِرَةِ عَلَى مَا وُضِعَتْ لَهُ إِنَّمَا هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ، لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ تَنْتَظِمُ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى جَمْعِ مَرَضٍ لِأَنَّ تَعْدَادَ الْمُحَالِ يَدُلُّ عَلَى تَعْدَادِ الْحَالِ عَقْلًا، فَاكْتَفَى بِالْمُفْرَدِ عَنِ الْجَمْعِ، وَتَعْدِيَةُ الزِّيَادَةِ إِلَيْهِمْ لَا إِلَى الْقُلُوبِ، إِذْ قَالَ تَعَالَى: فَزادَهُمُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَزَادَهَا، يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ فَزَادَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مَرَضًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ زَادَ ذَوَاتَهُمْ مَرَضًا لِأَنَّ مَرَضَ الْقَلْبِ مَرَضٌ لِسَائِرِ الْجَسَدِ، فَصَحَّ نِسْبَةُ الزِّيَادَةِ إِلَى الذَّوَاتِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ فِي ذَوَاتِهِمْ مَرَضًا، وَإِنَّمَا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ. وَأَمَالَ حَمْزَةُ فَزَادَهُمْ فِي عَشَرَةِ أَفْعَالٍ أَلِفُهَا مُنْقَلِبَةً عَنْ يَاءٍ إِلَّا فِعْلًا وَاحِدًا أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ وَوَزْنُهُ فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، إِلَّا ذَلِكَ الْفِعْلَ فَإِنَّ وَزْنَهُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَدْ جَمَعْتُهَا فِي بَيْتَيْنِ فِي قَصِيدَتِي الْمُسَمَّاةِ، بِعِقْدِ اللَّآلِي فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ الْعَوَالِي، وَهُمَا:
وَعَشْرَةُ أَفْعَالٍ تُمَالُ لِحَمْزَةٍ فَجَاءَ وَشَاءَ ضَاقَ رَانَ وَكَمِّلَا
بِزَادَ وَخَابَ طَابَ خَافَ مَعًا وَحَاقَ زَاغَ سِوَى الْأَحْزَابِ مَعْ صَادِهَا فَلَا
يَعْنِي أَنَّهُ قَدِ اسْتَثْنَى حَمْزَةَ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ «٣»، فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ «٤»، فِي سُورَةِ ص، فَلَمْ يُمِلْهَا. وَوَافَقَ ابْنُ ذَكْوَانَ حَمْزَةَ عَلَى إِمَالَةِ جَاءَ وَشَاءَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى زَادَ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَعَنْهُ خِلَافٌ فِي زَادَ هَذِهِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَبِالْوَجْهَيْنِ قَرَأْتُهُ لَهُ، وَالْإِمَالَةُ لِتَمِيمٍ، وَالتَّفْخِيمُ لِلْحِجَازِ. وَأَلِيمٌ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَكُونُ مُحَوَّلًا مِنْ فِعْلٍ لَهَا وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْعَذَابِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْعَذَابَ لَا يَأْلَمُ، إِنَّمَا يَأْلَمُ صَاحِبُهُ، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: شِعْرُ شَاعِرٍ، وَالشِّعْرُ لَا يُشْعِرُ إِنَّمَا الشَّاعِرُ نَاظِمُهُ. وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ بِمَعْنَى: مُؤْلِمٍ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كرب:
(١) سورة المنافقون: ٦٣/ ٤.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١٢٧.
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ١٠.
(٤) سورة ص: ٣٨/ ٦٣.
97
أمن ريحانة الداعي السميع أَيِ الْمُسْمِعِ، وَفَعِيلٌ: بِمَعْنَى مُفْعِلٍ مَجَازٌ، لِأَنَّ قِيَاسَ أَفْعَلُ مَفْعَلٌ، فَالْأَوَّلُ مَجَازٌ فِي التَّرْكِيبِ، وَهَذَا مَجَازٌ فِي الْإِفْرَادِ. وَقَدْ حَصَلَ لِلْمُنَافِقِينَ مَجْمُوعُ الْعَذَابَيْنِ: الْعَذَابُ الْعَظِيمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، قِيلَ لِانْخِرَاطِهِمْ مَعَهُمْ وَلِانْتِظَامِهِمْ فِيهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ؟ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ، فَصَارَ الْمُنَافِقُونَ أَشُدَّ عَذَابًا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، بِالنَّصِّ عَلَى حُصُولِ الْعَذَابَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «١»، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ كَيْنُونَةَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِهَؤُلَاءِ سَبَبُهَا كَذِبُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمْ وما منسوية أَيْ بِكَوْنِهِمْ يَكْذِبُونَ، وَلَا ضَمِيرَ يَعُودُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا حَرْفٌ، خِلَافًا لِأَبِي الْحَسَنِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنْ كَانَ النَّاقِصَةَ لَا مَصْدَرَ لَهَا، فَمَذْهَبُهُ مَرْدُودٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ. وَقَدْ كَثُرَ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ الْمَجِيءُ بِمَصْدَرِ كَانَ النَّاقِصَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُلْفَظُ بِهِ مَعَهَا، فَلَا يُقَالُ: كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا كَوْنًا، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، فَالْعَائِدُ عِنْدَهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ يُكَذِّبُونَهُ أَوْ يَكْذِبُونَهُ. وَزَعَمَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ كَوْنَ مَا مَوْصُولَةً أَظْهَرُ، قَالَ: لِأَنَّ الْهَاءَ الْمُقَدَّرَةَ عَائِدَةٌ إِلَى الَّذِي دُونَ الْمَصْدَرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ، ثَمَّ هَاءٌ مُقَدَّرَةٌ، بَلْ مَنْ قَرَأَ: يَكْذِبُونَ، بِالتَّخْفِيفِ، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ، فَالْفِعْلُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمُ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْعَرَبِيَّانِ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ فَكَوْنُهُمْ يُكَذِّبُونَ اللَّهَ فِي أَخْبَارِهِ وَالرَّسُولَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَدَّدُ فِي مَعْنَى الْمُخَفَّفِ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا قَالُوا فِي: صَدَقَ صَدَّقَ، وَفِي: بَانَ الشَّيْءُ بَيَّنَ، وَفِي: قَلُصَ الثَّوْبُ قَلَّصَ.
وَالْكَذِبُ لَهُ مَحَامِلُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَحَدُهَا: الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَعَمْرُو بْنُ بَحْرٍ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ عَالِمًا بِالْمُخَالَفَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَكَلَّمُوا عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. الثَّانِي: الْإِخْبَارُ بِالَّذِي يُشْبِهُ الْكَذِبَ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ إِلَّا الْحَقُّ، قَالُوا:
وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا. الثَّالِثُ: الْخَطَأُ، كَقَوْلِ عُبَادَةَ فِيمَنْ زَعَمَ: أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَيْ أَخْطَأَ. الرَّابِعُ: الْبُطُولُ، كَقَوْلِهِمْ:
كُذِّبَ الرَّجُلُ، أَيْ بَطَلَ عَلَيْهِ أَمَلُهُ وَمَا رَجَا وَقَدَّرَ. الْخَامِسُ: الْإِغْرَاءُ بِلُزُومِ الْمُخَاطَبِ الشَّيْءَ الْمَذْكُورَ، كَقَوْلِهِمْ: كَذَبَ عَلَيْكَ الْعَسَلُ، أَيْ أَكْلُ الْعَسَلِ، وَالْمُغْرَى بِهِ مرفوع بكذب،
(١) سورة النساء: ٤/ ١٤٥.
98
وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ نَصْبُهُ إِلَّا فِي حَرْفٍ شَاذٍّ، وَرَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَالْمُؤَثَّمُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ قَوْمٌ: الْكَذِبُ كُلُّهُ قَبِيحٌ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَقَالُوا: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَكْذِبُ لِزَوْجَتِهِ وَلِابْنِهِ تَطْيِيبًا لِلْقَلْبِ فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَذِبُ مُحَرَّمٌ وَمُبَاحٌ، فَالْمُحَرَّمُ الْإِخْبَارُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مُرَاعَاتِهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَالْمُبَاحُ مَا كَانَ فِيهِ ذَلِكَ، كَالْكَذِبِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ خِلَافًا، قَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَالْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، حِينَ قَالُوا: تَعَالَوْا إِلَى خَلَّةٍ نَسْلَمُ بِهَا مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَنَتَمَسَّكُ مَعَ ذَلِكَ بِدِينِنَا، فَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِاللِّسَانِ وَاعْتَقَدُوا خِلَافَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ، وابن زيد.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١ الى ١٦]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
إِذَا: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَيَغْلِبُ كَوْنُهَا شَرْطًا، وَتَقَعُ لِلْمُفَاجَأَةِ ظَرْفَ زَمَانٍ وِفَاقًا لِلرِّيَاشِيِّ، وَالزَّجَّاجِ، لَا ظَرْفَ مَكَانٍ خِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ، وَلِظَاهِرِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَلَا حَرْفًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ.
وَإِذَا كَانَتْ حَرْفًا، فَهِيَ لِمَا تُيُقِّنَ أَوْ رُجِّحَ وُجُودُهُ، وَيُجْزَمُ بِهَا فِي الشِّعْرِ، وَأَحْكَامُهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. الْفِعْلُ الثُّلَاثِيُّ الَّذِي انْقَلَبَ عَيْنُ فِعْلِهِ أَلِفًا فِي الْمَاضِي، إِذَا بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، أَخْلَصَ كَسْرَ أَوَّلِهِ وَسَكَنَتْ عَيْنُهُ يَاءً فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ وَمُجَاوِرِيهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَضُمَّ أَوَّلُهَا عِنْدَ
99
كَثِيرٍ مِنْ قَيْسٍ وَعَقِيلٍ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ، وَعَامَّةِ بَنِي أَسَدٍ. وَبِهَذِهِ اللُّغَةُ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَهُشَامٌ فِي:
قِيلَ، وغيض، وحيل، وسيىء، وَسِيئَتْ، وَجِيءَ، وَسِيقَ. وَافَقَهُ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ فِي:
سيىء، وَسِيئَتْ. زَادَ ابْنُ ذَكْوَانَ: حِيلَ، وَسَاقَ. وَبِاللُّغَةِ الْأُولَى قرأ باقي القراءة، وَفِي ذَلِكَ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ إِخْلَاصُ ضَمِّ فَاءِ الْكَلِمَةِ وَسُكُونِ عَيْنِهِ وَاوًا، وَلَمْ يُقْرَأْ بِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِهُذَيْلٍ، وَبَنِي دُبَيْرٍ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَوْجِيهِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَتَكْمِيلِ أَحْكَامِهَا مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. الْفَسَادُ:
التَّغَيُّرُ عَنْ حَالَةِ الِاعْتِدَالِ وَالِاسْتِقَامَةِ. قَالَ سُهَيْلٌ فِي الْفَصِيحِ: فَسَدَ، وَنَقِيضُهُ: الصَّلَاحُ، وَهُوَ اعْتِدَالُ الْحَالِ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ.
الْأَرْضُ: مُؤَنَّثَةٌ، وَتُجْمَعُ عَلَى أُرْضٍ وَأَرَاضٍ، وَبِالْوَاوِ وَالنُّونِ رَفْعًا وَبِالْيَاءِ وَالنُّونِ نَصْبًا وَجْرًا شُذُوذًا، فَتُفْتَحُ الْعَيْنُ، وَبِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، قَالُوا: أَرِضَاتٍ، وَالْأَرَاضِي جَمْعُ جَمْعٍ كَأَوَاظِبِ. إِنَّمَا: مَا: صِلَةٌ لِإِنَّ وَتَكُفُّهَا عَنِ الْعَمَلِ، فَإِنْ وَلِيَتْهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ كَانَتْ مُهَيَّئَةً، وَفِي أَلْفَاظِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ، وَكَوْنُهَا مُرَكَّبَةً مِنْ مَا النَّافِيَةِ، دَخَلَ عَلَيْهَا إِنَّ الَّتِي لِلْإِثْبَاتِ فَأَفَادَتِ الْحَصْرَ، قَوْلٌ رَكِيكٌ فَاسِدٌ صَادِرٌ عَنْ غَيْرِ عَارِفٍ بِالنَّحْوِ، وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ بِالْوَضْعِ، كَمَا أَنَّ الْحَصْرَ لَا يُفْهَمُ مِنْ أَخَوَاتِهَا الَّتِي كُفَّتْ بِمَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ: لَعَلَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَلَعَلَّ مَا زَيْدٌ قَائِمٌ، فَكَذَلِكَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَإِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَإِذَا فُهِمَ حَصْرٌ، فإما يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ لَا أَنَّ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدُوهُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ «١»، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ «٢»، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها. وَإِعْمَالُ إِنَّمَا قَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ.
نَحْنُ: ضَمِيرُ رَفْعٍ مُنْفَصِلٌ لِمُتَكَلِّمٍ مَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لِمُعْظَمِ نَفْسِهِ، وَفِي اعْتِلَالِ بِنَائِهِ عَلَى الضَّمِّ أَقْوَالٌ تُذْكَرُ فِي النَّحْوِ. أَلَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ زَعَمُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا النَّافِيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحَقُّقِ مَا بَعْدَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَ تَحْقِيقًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ «٣»، وَلِكَوْنِهَا مِنَ الْمُنْصَبِّ فِي هَذِهِ لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ، وَقَالَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ أَلَا التَّنْبِيهِيَّةَ
(١) سورة الرعد: ١٣/ ٧، وسورة النازعات: ٧٩/ ٤٥. [.....]
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ١١٠.
(٣) سورة القيامة: ٧٥/ ٤٠.
100
حَرْفٌ بَسِيطٌ، لِأَنَّ دَعْوَى التَّرْكِيبِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ مَا زَعَمُوا مِنْ أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى لَا النَّافِيَةِ دَلَالَةً عَلَى تَحَقُّقِ مَا بَعْدَهَا، إِلَى آخِرِهِ خَطَأٌ، لِأَنَّ مَوَاقِعَ أَلَا تَدُلَّ عَلَى أَنَّ لَا لَيْسَتْ لِلنَّفْيِ، فَيَتِمُّ مَا ادَّعَوْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَلَا إِنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، لَيْسَ أَصْلُهُ لَا أَنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ تَرَاكِيبِ الْعَرَبِ بِخِلَافِ مَا نُظِرَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ «١»، لِصِحَّةِ تَرْكِيبِ، لَيْسَ زَيْدٌ بِقَادِرٍ، وَلِوُجُودِهَا قَبْلَ رُبَّ وَقَبْلَ لَيْتَ وَقَبْلَ النِّدَاءِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ فِيهِ أَنَّ لَا نَافِيَةٌ، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى لَا النَّافِيَةِ فَأَفَادَتِ التَّحْقِيقَ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَلَا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٌ وَلَا سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَادِثُ وَصْلِهَا وَكَيْفَ تُرَاعِي وَصْلَةَ الْمُتَغَيِّبِ
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَلَا يَا لِقَوْمِي لِلْخَيَالِ الْمُشَوِّقِ وَلِلدَّارِ تَنْأَى بِالْحَبِيبِ وَنَلْتَقِي
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَلَا يَا قَيْسُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمْرَ الطَّرِيقِ
إِلَى غَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ دُخُولُ لَا فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يَلْتَقِي بِهِ الْقَسَمُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهَا تُسْتَفْتَحُ، بِرُبَّ، وَبِلَيْتَ، وَبِفِعْلِ الْأَمْرِ، وَبِالنِّدَاءِ، وَبِحَبَّذَا، فِي قَوْلِهِ:
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ وَلَا يَلْتَقِي بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْقَسَمُ وَعَلَامَةُ أَلَا هَذِهِ الَّتِي هِيَ تَنْبِيهٌ وَاسْتِفْتَاحٌ صِحَّةُ الْكَلَامِ دُونَهَا، وَتَكُونُ أَيْضًا حَرْفَ عَرْضٍ فَيَلِيهَا الْفِعْلُ، وَإِنْ وَلِيَهَا الِاسْمُ فَعَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ، وَحَرْفِ جَوَابٍ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: أَلَمْ تَقُمْ فَتَقُولُ: أَلَا بِمَعْنَى بَلَى؟ نَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ كِتَابِ (وَصْفِ الْمَبَانِي فِي حُرُوفِ الْمَعَانِي) قَالَ: وَهُوَ قَلِيلٌ شَاذٌّ، وَأَمَّا أَلَا الَّتِي لِلتَّمَنِّي فِي قَوْلِهِمْ:
أَلَا مَاءً، فَذَكَرَهَا النُّحَاةُ فِي فَصْلِ لَا الدَّاخِلِ عَلَيْهَا الْهَمْزَةُ. لَكِنْ: حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا مُوَافِقًا لِمَا بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ نَقِيضًا أَوْ ضِدًّا جَازَ، أَوْ خلافا ففي الجواز
(١) سورة القيامة: ٧٥/ ٤٠.
101
خِلَافٌ، وَفِي التَّصْحِيحِ خِلَافٌ. وَحَكَى أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الرَّمَّالِ جَوَازَ إِعْمَالِهَا مُخَفَّفَةً عَنْ يُونُسَ، وَحَكَى ذَلِكَ غَيْرُهُ عَنِ الْأَخْفَشِ، وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَلَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ غَالِبًا إِلَّا وَوَاوُ الْعَطْفِ قَبْلَهَا، وَمِمَّا جَاءَتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ قَوْلُهُ تَعَالَى:
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ «١» لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ «٢»، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ:
إِنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لَا تُخْشَى غَوَائِلُهُ لَكِنْ وَقَائِعَهُ فِي الْحَرْبِ تُنْتَظَرُ
وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِ لَكِنْ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. الْكَافُ: حَرْفُ تَشْبِيهٍ تَعْمَلُ الْجَرَّ وَاسْمِيَّتُهَا مُخْتَصَّةً عِنْدَنَا بِالشِّعْرِ، وَتَكُونُ زَائِدَةً وَمُوَافِقَةً لِعَلَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: كَخَيْرٍ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ كَيْفَ أَصْبَحْتَ، وَيَحْدُثُ فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَأَحْكَامُهَا مَذْكُورَةٌ في النحو. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ، السَّفَهُ: الْخِفَّةُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلثَّوْبِ الْخَفِيفِ النَّسْجِ سَفِيهٌ، وَفِي النَّاسِ خِفَّةُ الْحِلْمِ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، أَوِ الْبُهْتُ وَالْكَذِبُ وَالتَّعَمُّدُ خِلَافَ مَا يُعْلَمُ، قَالَهُ مُؤَرِّجٌ، أَوِ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ، وَهُوَ جَمْعٌ مُطَّرِدٌ فِي فَعِيلٍ الصَّحِيحِ الْوَصْفِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَنَّثِهِ التَّاءُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ سَفِهَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَجْلِ اسْمِ الْفَاعِلِ. قَالُوا: وَنَقِيضُ السَّفَهِ: الرُّشْدُ، وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ، يُقَالُ رَجُلٌ حَكِيمٌ، وَفِي ضِدِّهِ سَفِيهٌ، وَنَظِيرُ السَّفَهِ النَّزَقُ وَالطَّيْشُ.
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللِّقَاءُ: اسْتِقْبَالُ الشَّخْصِ قَرِيبًا مِنْهُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ لَقِيَ يَلْقَى، وَقَدْ يُقَالُ لَاقَى، وَهُوَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَسُمِعَ لِلَقِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَصْدَرًا، قَالُوا: لَقِيَ، لُقْيًا، وَلُقْيَةً، وَلَقَاةً، وَلِقَاءً، وَلُقَاءً، وَلَقًى، وَلُقًى، وَلُقْيَاءَ، وَلِقْيَاءَ، وَلُقِيًّا، وَلُقْيَانًا، وَلِقْيَانَةً، وَتِلْقَاءً.
الْخُلُوُّ: الِانْفِرَادُ، خَلَا بِهِ أَيِ انْفَرَدَ، أَوِ الْمُضِيُّ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ «٣».
الشَّيْطَانُ، فَيْعَالٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، فَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ مِنْ شَطَنَ، أَيْ بَعُدَ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ شَاطِنٌ، قَالَ أُمَيَّةُ:
أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ثُمَّ يُلْقَى فِي السجن والأكبال
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٢٠.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٦٦.
(٣) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ٣/ ١٣٧.
102
وَقَالَ رُؤْبَةُ:
وَفِي أَخَادِيدِ السِّيَاطِ الْمُتَّنِ شَافٍ لِبَغْيِ الْكَلْبِ الْمُشَيْطَنِ
وَوَزْنُهُ فَعْلَانُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَنُونُهُ زَائِدَةٌ مِنْ شَاطَ يَشِيطُ إِذَا هَلَكَ، قَالَ الشَّاعِرَ:
قَدْ تَظْفَرُ الْعِيرُ فِي مَكْنُونِ قَائِلَةٍ وَقَدْ تَشْطُو عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ
وَالشَّيْطَانُ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُنْثَاهُ شَيْطَانَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
هِيَ الْبَازِلُ الْكَوْمَاءُ لَا شَيْءَ غَيْرُهَا وَشَيْطَانَةٌ قَدْ جُنَّ مِنْهَا جُنُونُهَا
وَشَيَاطِينُ: مع شَيْطَانَ، نَحْوُ غَرَاثِينَ فِي جَمْعٍ غَرْثَانَ، وَحَكَاهُ الْفَرَّاءُ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ نُونَهُ زَائِدَةٌ تَكُونُ نَحْوَ: غَرْثَانَ، مَعَ اسْمٍ مَعْنَاهُ الصُّحْبَةُ اللَّائِقَةُ بِالْمَذْكُورِ، وَتَسْكِينُهَا قَبْلَ حَرَكَةٍ لُغَةُ رَبِيعَةَ وَغَنْمٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَإِذَا سَكَنَتْ فَالْأَصَحُّ أَنَّهَا اسْمٌ، وإذ ألقيت أَلِفَ اللَّامِ أَوْ أَلِفَ الْوَصْلِ، فَالْفَتْحُ لُغَةُ عَامَّةِ الْعَرَبِ، وَالْكَسْرُ لُغَةُ رَبِيعَةَ، وَتَوْجِيهُ اللُّغَتَيْنِ فِي النَّحْوِ، وَيُسْتَعْمَلُ ظَرْفَ مَكَانٍ فَيَقَعُ خَبَرًا عَنِ الْجُثَّةِ وَالْأَحْدَاثِ، وَإِذَا أُفْرِدَ نُوِّنَ مَفْتُوحًا، وَهِيَ ثُلَاثِيُّ الْأَصْلِ مِنْ بَابِ الْمَقْصُورِ، إِذْ ذَاكَ لَا مِنْ بَابِ يَدٍ، خِلَافًا لِيُونُسَ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ مَعًا حَالٌ، نَحْوُ: جَمِيعًا، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ جَمِيعٍ لِأَنَّهَا تُشْرِكُ فِي الزَّمَانِ نَصًّا، وَجَمِيعُ تَحْتَمِلُهُ.
وَقَدْ سَأَلَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى أَحْمَدَ بْنَ قَادِمٍ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ. قَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدٌ مَعًا، وَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدٌ جَمِيعًا، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْكُضُ فِيهَا إِلَى اللَّيْلِ، وَفَرَّقَ ابْنُ يَحْيَى: بِأَنَّ جَمِيعًا يَكُونُ الْقِيَامُ فِي وَقْتَيْنِ وَفِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا إِذَا قُلْتَ: مَعًا، فَيَكُونُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
الِاسْتِهْزَاءُ: الِاسْتِخْفَافُ وَالسُّخْرِيَةُ، وَهُوَ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ فَعَلَ، تَقُولُ:
هَزَأْتُ بِهِ وَاسْتَهْزَأْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلُ اسْتَعْجَبَ: بِمَعْنَى عَجِبَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا اسْتَفْعَلَ.
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ الْمَدُّ: التَّطْوِيلُ، مَدَّ الشَّيْءَ:
طَوَّلَهُ وَبَسَطَهُ، أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «١»، وَأَصْلُ الْمَدِّ: الزِّيَادَةُ، وَكُلُّ شَيْءٍ دَخَلَ فِي شَيْءٍ فَكَثَّرَهُ فَقَدْ مَدَّهُ، قَالَهُ اللِّحْيَانِيُّ. وَأَمَدَّ بِمَعْنَى مَدَّ، مَدَّ الْجَيْشَ، وَأَمَدَّهُ: زَادَهُ وَأَلْحَقَ بِهِ مَا يُقَوِّيهِ مِنْ جِنْسِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَدَّ زَادَ مِنَ الْجِنْسِ، وَأَمَدَّ: زَادَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَقَالَ يُونُسُ: مَدَّ فِي الْخَيْرِ وَأَمَدَّ فِي الشَّرِّ. انْتَهَى قَوْلُهُ. وَيُقَالُ: مدّ النهر وأمدّه.
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٤٥.
103
نَهْرٌ آخَرٌ، وَمَادَّةُ الشَّيْءِ مَا يَمُدُّهُ، الْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَدَدْتُ الدَّوَاةَ وَأَمْدَدْتُهَا بِمَعْنًى، وَيُقَالُ: مَدَدْنَا الْقَوْمَ: صِرْنَا لَهُمْ أَنْصَارًا وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِغَيْرِنَا. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: أَمَدَّ الْأَمِيرُ جُنْدَهُ بِالْخَيْلِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «١». الطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ، يُقَالُ طَغَى الْمَاءُ، وَطَغَتِ النَّارُ. الْعَمَهُ. التَّرَدُّدُ وَالتَّحَيُّرُ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْعَمَى، إِلَّا أَنَّ الْعَمَى تُوصَفُ بِهِ الْعَيْنُ الَّتِي ذَهَبَ نُورُهَا، وَالرَّأْيُ الَّذِي غَابَ عَنْهُ الصَّوَابُ. يُقَالُ: عَمَهَ، يَعْمَهُ، عَمَهًا، وَعَمَهَانًا فَهُوَ: عَمِهٌ، وَعَامِهٌ. وَيُقَالُ: بَرِيَّةٌ عَمْهَاءُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا عِلْمٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعَمَهُ أَنْ يَرْكَبَ رَأْسَهُ وَلَا يُبْصِرُ مَا يَأْتِي. وَقِيلَ:
الْعَمَهُ: الْعَمَى عَنِ الرُّشْدِ.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ، الِاشْتِرَاءُ وَالشِّرَاءُ بِمَعْنَى: الِاسْتِبْدَالِ بِالشَّيْءِ وَالِاعْتِيَاضِ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّ الِاشْتِرَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِي الِابْتِيَاعِ وَالْبَيْعِ، وَهُوَ مِمَّا جَاءَ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا افْتَعَلَ. الرِّبْحُ: هُوَ مَا يَحْصُلُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ. التِّجَارَةُ: هِيَ صِنَاعَةُ التَّاجِرِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي الْمَالِ لِطَلَبِ النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ. الْمُهْتَدِي: اسْمُ فَاعِلٍ مِنِ اهْتَدَى وَافْتَعَلَ فِيهِ لِلْمُطَاوَعَةِ، هَدَيْتُهُ فَاهْتَدَى، نَحْوُ: سَوَّيْتُهُ فَاسْتَوَى، وَغَمَمْتُهُ فَاغْتَمَّ. وَالْمُطَاوَعَةُ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا أَفْعَلُ، وَلَا تَكُونُ افْتَعَلَ لِلْمُطَاوَعَةِ مَبْنِيَّةً إِلَّا مِنَ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي، وَقَدْ وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا تَكُونُ مِنَ اللَّازِمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِيهَا، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
حَتَّى إِذَا اشْتَالَ سُهَيْلٌ فِي السَّحَرْ كَشُعْلَةِ الْقَابِسِ تَرْمِي بِالشَّرَرْ
لِأَنَّ افْتَعَلَ فِي الْبَيْتِ بِمَعْنَى، فَعَلَ. تَقُولُ: شَالَ يَشُولُ، وَاشْتَالَ يَشْتَالُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَا تَتَعَقَّلُ الْمُطَاوَعَةُ، إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمُطَاوِعُ مُتَعَدِّيًا.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ اسْتِئْنَافًا يَنْعِي عَلَيْهِمْ قَبَائِحَ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا، وَفِي الثَّانِي جُزْءُ كَلَامٍ لِأَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى يَكْذِبُونَ، فَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهُوَ النَّصْبُ، لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، وَهِيَ إِذْ ذَاكَ جُزْءٌ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقَّوْا بِهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا تَكُونُ جُزْءًا مِنَ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي أَجَازَاهُ عَلَى أَحَدِ
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٦.
104
وَجْهَيْ مَا مِنْ قَوْلِهِ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ خَطَأٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، فَيَكْذِبُونَ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، وَقَوْلُهُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ لَا ضَمِيرَ فِيهِ يَعُودُ عَلَى مَا، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بالذي كَانُوا، إِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ لِعَدَمِ الْعَائِدِ. وَأَمَّا وَجْهُهَا الْآخَرُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، فَعَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ يَكُونُ هَذَا الْإِعْرَابُ أَيْضًا خَطَأً، إِذْ عِنْدَهُ أَنَّ مَا الْمَصْدَرِيَّةَ اسْمٌ يَعُودُ عَلَيْهَا مِنْ صِلَتِهَا ضَمِيرٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَارِيَةٌ مِنْهُ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، فَهَذَا الْإِعْرَابُ شَائِعٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ إِعْرَابَ هَذَا سِوَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يَكْذِبُونَ، أَوْ عَلَى يَقُولُ، وَزَعَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ وَجْهٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، إِذْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالْجُمْلَتَانِ بَعْدَهَا هِيَ مِنْ تَفَاصِيلِ الْكَذِبِ وَنَتَائِجِ التَّكْذِيبِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ وَقَوْلَهُمْ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، وَقَوْلَهُمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا كَذِبٌ مَحْضٌ؟ فَنَاسَبَ جَعَلَ ذَلِكَ جُمَلًا مُسْتَقِلَّةً ذُكِرَتْ لِإِظْهَارِ كَذِبِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَنِسْبَةِ السَّفَهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِهْزَائِهِمْ، فَكَثُرَ بِهَذِهِ الْجُمَلِ وَاسْتِقْلَالِهَا ذَمُّهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا سِيقَتْ صِلَةَ جُزْءِ كَلَامٍ لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ لَا تَكُونُ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا، إِنَّمَا جِيءَ بِهَا مُعَرِّفَةً لِلْمَوْصُولِ إِنْ كَانَ اسْمًا، وَمُتَمِّمَةً لِمَعْنَاهُ إِنْ كَانَ حَرْفًا. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ إِذَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْجَوَابُ، فَإِذَا فِي الْآيَةِ مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهَا تَلِيهَا هِيَ النَّاصِبَةُ لِإِذَا لِأَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الظُّرُوفِ الَّتِي يُجَازَى بِهَا وَإِنْ قَصُرَتْ عَنْ عَمَلِهَا الْجَزْمَ. عَلَى أَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ أَجَازَ الْجَزْمَ بِهَا حَمْلًا عَلَى مَتَى مَنْصُوبًا بِفِعْلِ الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ إِذَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ بَعْدَهَا، وَالَّذِي يُفْسِدُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ جواز: إِذَا قُمْتَ فَعَمْرٌو قَائِمٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَجَوَازُ وُقُوعِ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ جَوَابًا لِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ «١» إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا، وَمَا بَعْدَ إِذَا الْفُجَائِيَّةِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَحَذْفُ فَاعِلِ الْقَوْلِ هُنَا لِلْإِبْهَامِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى، أَوِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا قَدْ قِيلَ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهَا الْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِحَرْفِ النَّهْيِ وَهِيَ: لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، إِلَّا إِنْ
(١) سورة يونس: ١٠/ ٢١.
105
ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ وُقُوعَ الْفَاعِلِ جُمْلَةً، وَلَيْسَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْمَذَاهِبُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْفَاعِلِ، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ هُوَ، يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ كَمَا فَسَّرَ الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «١» سِيَاقُ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ قَوْلٌ شَدِيدٌ فَأُضْمِرَ هَذَا الْقَوْلُ الْمَوْصُوفُ وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُفَسِّرَةً، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ الشَّدِيدُ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ مِنْهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ كَلَامٌ، لِأَنَّهُ يَبْقَى لَا تُفْسِدُوا لَا ارْتِبَاطَ لَهُ، إِذْ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا لِلْقَوْلِ مُفَسِّرًا لَهُ.
وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ: لَا تُفْسِدُوا، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِكَ أَلِفٌ حَرْفٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، وَمِنْهُ زَعَمُوا مَطِيَّةَ الْكَذِبِ، قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ وَهَذَا الْكَلَامُ، انْتَهَى. فَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ بَابِ الْإِسْنَادِ إِلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، فَعُدِلَ إِلَى الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِهِ الِاسْمُ بَلْ يُوجَدُ فِي الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ وَالْجُمْلَةِ، وَإِذَا أَمْكَنَ الْإِسْنَادُ الْمَعْنَوِيُّ لَمْ يُعْدَلْ إِلَى الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِالتَّخْرِيجِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ، لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي السَّبْعَةَ عَشَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلَّامِ عِنْدَ كَلَامِنَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَإِفْسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْمَعَاصِي، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ، أَوْ بِهِمَا، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَوْ بِتَرْكِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ بِالنِّفَاقِ الَّذِي صَافَوْا بِهِ الْكُفَّارَ وَأَطْلَعُوهُمْ عَلَى أَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَوْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ أَوْ بِقَصْدِهِمْ تَغْيِيرَ الْمِلَّةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكَ، أَوْ بِاتِّبَاعِهِمْ هَوَاهُمْ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ مَعَ وُضُوحِهِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ تَهْيِيجُ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ، قَالَ: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادُ مَا فِي الْأَرْضِ وَانْتِفَاءُ الِاسْتِقَامَةِ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَالزُّرُوعِ وَالْمَنَافِعِ الدينية والدنيوية،
(١) سورة ص: ٣٨/ ٣٢.
106
قَالَ تَعَالَى: لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ «١»، أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ «٢»، وَمِنْهُ قِيلَ لحرب كانت بين طيء: حَرْبُ الْفَسَادِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وُوَجْهُ الْفَسَادِ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي قِيلَتْ أَنَّهَا كُلَّهَا كَبَائِرُ عَظِيمَةٌ وَمَعَاصٍ جَسِيمَةٌ، وَزَادَهَا تَغْلِيظًا إِصْرَارُهُمْ عَلَيْهَا، وَالْأَرْضُ مَتَى كَثُرَتْ مَعَاصِي أَهْلَهَا وَتَوَاتَرَتْ، قَلَّتْ خَيْرَاتُهَا وَنُزِعَتْ بَرَكَاتُهَا وَمُنِعَ عَنْهَا الْغَيْثُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ، فَكَانَ فِعْلُهُمُ الْمَوْصُوفُ أَقْوَى الْأَسْبَابِ لِفَسَادِ الْأَرْضِ وَخَرَابِهَا. كَمَا أَنَّ الطَّاعَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ وَنُزُولِ الْبَرَكَاتِ وَنُزُولِ الْغَيْثِ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ «٣»، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ «٤»، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا «٥»، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ «٦»، الْآيَاتِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ مَا
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْفَاجِرَ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، إِنَّ مَعَاصِيَهِ يَمْنَعُ اللَّهُ بِهَا الْغَيْثَ، فَيَهْلِكُ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ لِعَدَمِ النَّبَاتِ وَانْقِطَاعِ الْأَقْوَاتِ.
وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنِ الْمُسَبِّبِ، وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ. فَمُتَعَلِّقُ النَّهْيِ حَقِيقَةً هُوَ مُصَافَاةُ الْكُفَّارِ وَمُمَالَأَتُهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِفْشَاءِ السِّرِّ إِلَيْهِمْ وَتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِإِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى هَيْجِ الْفِتَنِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَجَعَلَ مَا رُتِّبَ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ حَقِيقَةً مَنْهِيًّا عَنْهُ لَفْظًا. وَالنَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ هُنَا كَالنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ «٧». وَلَيْسَ ذِكْرُ الْأَرْضِ لِمُجَرَّدِ التَّوْكِيدِ بَلْ فِي ذلك تنبيه على أن هَذَا الْمَحَلَّ الَّذِي فِيهِ نَشْأَتُكُمْ وَتَصَرُّفُكُمْ، وَمِنْهُ مَادَّةُ حَيَاتِكُمْ، وَهُوَ سُتْرَةُ أَمْوَاتِكُمْ، جَدِيرٌ أَنْ لَا يُفْسَدَ فِيهِ، إِذْ مَحَلُّ الْإِصْلَاحِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها»
وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ «٩»، وَقَالَ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ «١٠»، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا «١١»، الْآيَةَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَبِّهَةِ عَلَى الِامْتِنَانِ عَلَيْنَا بِالْأَرْضِ، وَمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا تَكَادُ تحصى.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٠٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٣٠.
(٣) سورة نوح: ٧١/ ١٠.
(٤) سورة الجن: ٧٢/ ١٦. [.....]
(٥) سورة الأعراف: ٧/ ٩٦.
(٦) سورة المائدة: ٥/ ٦٦.
(٧) سورة البقرة: ٢/ ٦٠.
(٨) سورة الأعراف: ٧/ ٥٦.
(٩) سورة الملك: ٦٧/ ١٥.
(١٠) سورة النازعات: ٧٩/ ٣٠- ٣٣.
(١١) سورة عبس: ٨٠/ ٢٥.
107
وَقَابَلُوا النَّهْيَ عَنِ الْإِفْسَادِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، فَأَخْرَجُوا الْجَوَابَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِتَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَصْفِ لَهُمْ، وَأَكَّدُوهَا بِإِنَّمَا دَلَالَةً عَلَى قُوَّةِ اتِّصَافِهِمْ بِالْإِصْلَاحِ.
وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ. أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: قول ابن عباس: أن مُمَالَأَتِنَا الْكُفَّارَ إِنَّمَا نُرِيدُ بِهَا الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَهُوَ: أَنَّ تِلْكَ الْمُمَالَأَةَ هُدًى وَصَلَاحٌ وَلَيْسَتْ بِفَسَادٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مُمَالَأَةَ النَّفْسِ وَالْهَوَى صَلَاحٌ وَهُدًى.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ فِي مُمَالَأَةِ الْكُفَّارِ صَلَاحًا لَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ ظَفِرُوا بِهِمْ لَمْ يُبْقُوا عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ مُمَالَأَةِ الْكُفَّارِ، وَقَالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ بِاجْتِنَابِ مَا نُهِينَا عَنْهُ.
وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، بَلْ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى كل فرد من أنواع الْإِفْسَادِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ وَأَعْلَمَ بِأَنَّ إِيمَانَهُمْ مُخَادَعَةٌ، كَانُوا يَكُونُونَ بَيْنَ حَالَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ مُوَادِعِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَالَةُ الْأُخْرَى أَنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ يَسْعَوْنَ بِالْإِفْسَادِ بِالْأَرْضِ لِتَفَرُّقِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَشَتَاتِ نِظَامِ الْمِلَّةِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُنِعَ مِنْكُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَالْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ، فَلَمْ يُجِيبُوا بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْإِفْسَادِ، بَلْ أَثْبَتُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَحَلًّا لِلْإِفْسَادِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عَنِ الْإِفْسَادِ نَحْوَهُمْ لِاتِّصَافِهِمْ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ. كُلُّ ذَلِكَ بُهْتٌ مِنْهُمْ وَكَذِبٌ صِرْفٌ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْكَذِبِ وَقَوْلِهِمْ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ. وَلَمَّا كَانُوا قَدْ قَابَلُوا النَّهْيَ عَنِ الْإِفْسَادِ بِدَعْوَى الْإِصْلَاحِ الْكَاذِبَةِ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، فَأُثْبِتَ لَهُمْ ضِدُّ مَا ادَّعَوْهُ مُقَابِلًا لَهُمْ ذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّأْكِيدِ مِنْهَا: التَّصْدِيرُ بِإِنَّ وَبِالْمَجِيءِ بِهِمْ، وَبِالْمَجِيءِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي تُفِيدُ الْحَصْرَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: دَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْمُفْسِدُونَ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّفْظَةِ فِي قَوْلِهِ لَا تُفْسِدُوا، فَكَأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْعَهْدِ، وَلَوْ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنَ اللَّفْظَةِ ذِكْرٌ، لَكَانَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ.
وَاسْتُفْتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِأَلَا مُنَبِّهَةً عَلَى مَا يَجِيءُ بَعْدَهَا لِتَكُونَ الْأَسْمَاعُ مُصْغِيَةً لِهَذَا الْإِخْبَارِ الَّذِي جَاءَ فِي حَقِّهِمْ، وَيَحْتَمِلُ هُمْ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ فِي أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فَصْلًا، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ الْمُفْسِدُونَ خَبَرًا لِأَنَّ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَيَكُونُ
108
الْمُفْسِدُونَ خَبَرَهُ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِإِنَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ فَائِدَةِ الْفَصْلِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ:
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَتَحْقِيقُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، هُوَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ يَتَضَمَّنُ عِلْمَ اللَّهِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَوَقَعَتْ لَكِنْ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، وَجِهَةُ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّهُمْ لَمَّا نُهُوا عَنْ إِيجَادِ مِثْلِ مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنَ الْإِفْسَادِ فَقَابَلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، كَانُوا حَقِيقِينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ، فَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي فَاتَهُمْ مِنْ عَدَمِ الشُّعُورِ بِذَلِكَ. تَقُولُ: زَيْدٌ جَاهِلٌ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ اتَّصَفَ بِالْجَهْلِ وَصَارَ وَصْفًا قَائِمًا بِزَيْدٍ، كَانَ يَنْبَغِي لِزَيْدٍ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي قَامَ بِهِ، إِذِ الْإِنْسَانُ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ، فَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِلَكِنْ، لِأَنَّهُ مِمَّا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ وَيَغْمُضُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ إِدْرَاكُهُ. قَالُوا: وَمَفْعُولُ يَشْعُرُونَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ أَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ، أَوْ أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ، أَوْ أَنَّهُمْ يَنْزِلُ بِهِمُ الْمَوْتُ فَتَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ، وَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُنْوَى مَحْذُوفٌ فَيَكُونُ قَدْ نُفِيَ عَنْهُمُ الشُّعُورُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ وَلَا نِيَّةٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، جَعَلُوا لِدَعْوَاهُمْ مَا هُوَ إِفْسَادٌ إِصْلَاحًا مِمَّنِ انْتَفَى عَنْهُ الشُّعُورُ وَكَأَنَّهُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إِدْرَاكِ شَيْءٍ فَأَهْمَلَ الْفِكْرَ وَالنَّظَرَ حَتَّى صَارَ يَحْكُمُ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْفَاسِدَةِ بِأَنَّهَا صَالِحَةٌ، فَقَدِ انْتَظَمَ فِي سِلْكِ مَنْ لَا شُعُورَ لَهُ وَلَا إِدْرَاكَ، أَوْ مَنْ كَابَرَ وَعَانَدَ فَجَعَلَ الْحَقَّ بَاطِلًا، فَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ تَسْلِيَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لَا يُدْرِكُونَ الْحَقَّ، إِذْ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ لَا يَكْتَرِثَ بِمُخَالَفَتِهِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا مِنْ حَيْثُ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ، أَوْ عَطْفُهَا عَلَى صِلَةٍ مَنْ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يَقُولُ، أَوْ عَطْفُهَا عَلَى يَكْذِبُونَ، وَمِنْ حَيْثُ الْعَامِلُ فِي إِذَا، وَمِنْ حَيْثُ حُكْمُ الْجُمْلَةِ بَعْدَ إِذَا، وَمِنْ حَيْثُ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْقَائِلِ لَهُمْ آمِنُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّحَابَةُ، وَلَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ مِنْهُمْ وَهُمْ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ. وَلَمَّا نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنِ الْإِفْسَادِ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ الْكَمَالَ يَحْصُلُ بِتَرْكِ مَا لَا يَنْبَغِي وبفعل ما ينبغي، وبدىء بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ، وَلِأَنَّ الْمَنْهِيَّاتِ عَنْهَا هِيَ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ، وَالتُّرُوكُ أَسْهَلُ فِي الِامْتِثَالِ مِنِ امْتِثَالِ
109
الْمَأْمُورَاتِ بِهَا. وَالْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ: كَما آمَنَ النَّاسُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَأَكْثَرُ الْمُعْرِبِينَ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُمْ: آمِنُوا إِيمَانًا كَمَا آمَنَ النَّاسُ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: فِي سير عليه شديد، أَوْ: سِرْتُ حَثِيثًا، إِنَّ شَدِيدًا وَحَثِيثًا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ: سِيرَ عَلَيْهِ سَيْرًا شَدِيدًا، وَسِرْتُ سَيْرًا حَثِيثًا. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُضْمَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ الْمَحْذُوفِ بَعْدَ الْإِضْمَارِ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّسَاعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَهُ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا. وَتِلْكَ الْمَوَاضِعُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ خَاصَّةً بِجِنْسِ الْمَوْصُوفِ، نَحْوَ: مَرَرْتُ بِكَاتِبٍ وَمُهَنْدِسٍ، أَوْ وَاقِعَةً خَبَرًا، نَحْوَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، أَوْ حَالًا، نَحْوَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَاكِبًا، أَوْ وَصْفًا لِظَرْفٍ، نَحْوَ:
جَلَسْتُ قَرِيبًا مِنْكَ، أَوْ مُسْتَعْمَلَةً اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، وَهَذَا يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، نَحْوَ:
الْأَبْطَحِ وَالْأَبْرَقِ. وَإِذَا خَرَجَتِ الصِّفَةُ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا تَابِعَةً لِلْمَوْصُوفِ، وَلَا يُكْتَفَى عَنِ الْمَوْصُوفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سِيبَوَيْهِ مَنَعَ: أَلَا مَاءً وَلَوْ بَارِدًا وَإِنْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَأَجَازَ: وَلَوْ بَارِدًا، لِأَنَّهُ حَالٌ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَمَا، مِنْ: كَمَا آمَنَ النَّاسُ، مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ كَإِيمَانِ النَّاسِ، فَيَنْسَبِكُ مِنْ مَا، وَالْفِعْلِ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَجْرُورٌ بِكَافِ التَّشْبِيهِ الَّتِي هِيَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ حَالٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَإِذَا كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً فَصِلَتُهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مُصَدَّرَةٌ بِمَاضٍ مُتَصَرِّفٍ أَوْ مُضَارِعٍ، وَشَذَّ وَصْلُهَا بِلَيَسَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
بِمَا لَسْتُمَا أَهْلَ الْخِيَانَةِ وَالْغَدْرِ وَلَا تُوصَلُ بِالْجُمْلَةِ الْأَسْمِيَةِ خِلَافًا لِقَوْمٍ، مِنْهُمْ: أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَعْلَمِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ:
وَجَدْنَا الْحُمْرَ مِنْ شَرِّ الْمَطَايَا كَمَا الْحَبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ
وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَبُو الْبَقَاءِ فِي مَا مِنْ قَوْلِهِ: كَمَا آمَنَ، أَنْ تَكُونَ كَافَّةً لِلْكَافِ عَنِ الْعَمَلِ مِثْلَهَا فِي: رُبَّمَا قَامَ زَيْدٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُجْعَلَ كَافَّةً إِلَّا فِي الْمَكَانِ الَّذِي لَا تَتَقَدَّرُ فِيهِ مَصْدَرِيَّةً، لِأَنَّ إِبْقَاءَهَا مَصْدَرِيَّةً مُبْقٍ لِلْكَافِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ، وَتَكُونُ الْكَافُ إِذْ ذَاكَ مِثْلَ حُرُوفِ الْجَرِّ الدَّاخِلَةِ عَلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي: كَمَا آمَنَ النَّاسُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ كَافَّةً. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النَّاسِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
110
الْكَامِلُونَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، أَوْ عَبَّرَ بِالنَّاسِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ النَّاسُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَنْ عَدَاهُمْ صُورَتُهُ صُورَةُ النَّاسِ، وَلَيْسَ مِنَ النَّاسِ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ، كَمَا قال الشاعر:
ليس من النَّاسِ وَلَكِنَّهُ يَحْسَبُهُ النَّاسُ مِنَ النَّاسِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَيُعْنَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَنَحْوُهُ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ مِنَ الْيَهُودِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ الْأَنْصَارِ عَدَّهُمُ الْكَلْبِيُّ.
وَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى الْعَهْدِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ سَبَقَ إِيمَانُهُ قَبْلَ قَوْلِ ذَلِكَ لَهُمْ، فَيَكُونُ حَوَالَةً عَلَى مَنْ سَبَقَ إِيمَانُهُ لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مَعْهُودُونَ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ. وَالتَّشْبِيهُ فِي:
كَمَا آمَنَ النَّاسُ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَإِلَّا فَهُمْ نَاطِقُونَ بِكَلِمَتِي الشَّهَادَةِ غَيْرَ مُعْتَقِدِيهَا. أَنُؤْمِنُ: مَعْمُولٌ لِقَالُوا، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ أَوِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُشَبَّهًا كَانَ جَوَابُهُمْ مُشَبَّهًا فِي قَوْلِهِمْ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ، وَالْقَوْلُ فِي الْكَافِ وَمَا فِي هَذَا كَالْقَوْلِ فِيهِمَا فِي: كَما آمَنَ النَّاسُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي السُّفَهَاءِ لِلْعَهْدِ، فَيُعْنَى بِهِ الصَّحَابَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ الصِّبْيَانُ وَالنِّسَاءُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وأصحابه، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَنْ فُسِّرَ بِهِ النَّاسُ مِنَ الْمَعْهُودِينَ، أَوِ الْكَامِلُونَ فِي السَّفَهِ، أَوْ لِأَنَّهُمُ انْحَصَرَ السَّفَهُ فِيهِمْ إِذْ لَا سَفِيهَ غَيْرُهُمْ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلصِّفَةِ الْغَالِبَةِ نَحْوِ: الْعَيُّوقِ وَالدَّبَرَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُغَلِّبْ هَذَا الْوَصْفَ عَلَيْهِمْ، فَصَارُوا إِذَا قِيلَ: السُّفَهَاءُ، فَهُمْ مِنْهُ نَاسٌ مَخْصُوصُونَ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْعَيُّوقِ نَجْمٌ مَخْصُوصٌ. وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُمْ: كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أن يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ وَالتَّجَلُّدِ حَذَرًا مِنَ الشَّمَاتَةِ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِسُفَهَاءَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ من بَابِ الِاعْتِقَادِ الْجَزْمِ عِنْدَهُمْ، فَيَكُونُوا قَدْ نَسَبُوهُمْ لِلسَّفَهِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُمْ سُفَهَاءُ، وَذَلِكَ لِمَا أَخَلُّوا بِهِ مِنَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى إِدْرَاكِ الْحَقِّ، وَهُمْ كَانُوا فِي رِئَاسَةٍ وَيَسَارٍ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ إِذْ ذَاكَ أَكْثَرُهُمْ فُقَرَاءُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مُوَالٍ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مِنَ السُّفَهَاءِ لِأَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا مَا لَا يُجْدِي عِنْدَهُمْ وَكَسِلُوا عَنْ طَلَبِ الرِّئَاسَةِ وَالْغِنَى وَمَا بِهِ السُّؤْدُدُ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ هُوَ غَايَةُ السَّفَهِ عِنْدَهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: كَما آمَنَ السُّفَهاءُ إِثْبَاتٌ مِنْهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ بِسَفَهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِضِدِّ السَّفَهِ، وَهُوَ رَزَانَةُ الْأَحْلَامِ وَرُجْحَانُ الْعُقُولِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَأَثْبَتَ أَنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ، وَصَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِأَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ لِيُنَادِي عَلَيْهِمُ الْمُخَاطِبِينَ بِأَنَّهُمُ السُّفَهَاءُ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِإِنَّ وَبِلَفْظِ هُمْ.
111
وَإِذَا الْتَقَتِ الْهَمْزَتَانِ وَالْأُولَى مَضْمُومَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ نَحْوُ: السُّفَهاءُ أَلا، فَفِي ذَلِكَ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: تَحْقِيقُ الْهَمْزَتَيْنِ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ. وَالثَّانِي: تَحْقِيقُ الْأُولَى وَتَخْفِيفُ الثَّانِيَةِ بِإِبْدَالِهَا وَاوًا كَحَالِهَا إِذَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً قَبْلَهَا ضَمَّةٌ في كلمة نحو: أو اتي مُضَارِعُ آتَى، فَاعِلٌ مِنْ أَتَيْتُ، وَجُؤَنٍ تَقُولُ: أُوَاتِي وَجُوَنٌ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَالثَّالِثُ: تَسْهِيلُ الأولى بجعلها بين الهمزة وَالْوَاوِ، وَتَحْقِيقُ الثَّانِيَةِ. وَالرَّابِعُ:
تسهيل الأولى بجعلها بين الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ وَإِبْدَالُ الثَّانِيَةِ وَاوًا. وَأَجَازَ قَوْمٌ وَجْهًا. خَامِسًا: وَهُوَ جَعْلُ الْأُولَى بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ، وَجَعْلُ الثانية بين الهمزة والواو، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّ جَعْلَ الثَّانِيَةَ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ تَقْرِيبًا لَهَا مِنَ الْأَلِفِ، وَالْأَلِفُ لَا تَقَعُ بَعْدَ الضَّمَّةِ، وَالْأَعَارِيبُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي جَازَتْ فِي: هُمْ، فِي قَوْلِهِ: هُمُ الْمُفْسِدُونَ، جَائِزَةٌ فِي: هُمْ، مِنْ قَوْلِهِ:
هُمُ السُّفَهاءُ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَكِنْ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ، مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، وَإِنَّمَا قَالَ هُنَاكَ لَا يَشْعُرُونَ وَهُنَا لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْمُثْبَتَ لَهُمْ هُنَاكَ هُوَ الْإِفْسَادُ، وَهُوَ مِمَّا يُدْرَكُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ كَثِيرٍ، فَنَفَى عَنْهُمْ مَا يُدْرَكُ بِالْمَشَاعِرِ، وَهِيَ الْحَوَاسُّ، مُبَالَغَةً فِي تَجْهِيلَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الشُّعُورَ الَّذِي قَدْ يَثْبُتُ لِلْبَهَائِمِ مَنْفِيٌّ عَنْهُمْ، وَالْمُثْبَتُ هُنَا هُوَ السَّفَهُ، وَالْمُصَدَّرُ بِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى إِمْعَانِ فِكْرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ تَامٍّ يُفْضِي إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمُ الْمَأْمُورُ بِهِ فَنَاسَبَ ذَلِكَ نَفْيُ الْعِلْمِ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ السَّفَهَ هُوَ خِفَّةُ الْعَقْلِ وَالْجَهْلُ بِالْمَأْمُورِ، قَالَ السَّمَوْأَلُ:
نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا فَنَجْهَلُ الْجَهْلَ مَعَ الْجَاهِلِ
وَالْعِلْمُ نَقِيضُ الْجَهْلِ، فَقَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُونَ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ جَهْلٌ بِهِ.
قَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ الْيَمَانِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: وَإِذَا لَاقَوُا الَّذِينَ وَهِيَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي فَاعِلٍ الْخَمْسَةِ، وَالْوَاوُ الْمَضْمُومَةُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ هِيَ وَاوُ الضَّمِيرِ تَحَرَّكَتْ لِسُكُونِ مَا بَعْدَهَا، وَلَمْ تَعُدْ لَامُ الْكَلِمَةِ الْمَحْذُوفَةُ لِعُرُوضِ التَّحْرِيكِ فِي الْوَاوِ، وَاللِّقَاءُ يَكُونُ بِمَوْعِدٍ وَبِغَيْرِ مَوْعِدٍ، فَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ مَوْعِدٍ سُمِّيَ مُفَاجَأَةً وَمُصَادَفَةً، وَقَوْلُهُمْ لِمَنْ لَقُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: آمَنَّا، بِلَفْظِ مُطْلَقِ الْفِعْلِ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ بِشَيْءٍ تَوْرِيَةً مِنْهُمْ وَإِيهَامًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ الْإِيمَانَ بِمُوسَى وَبِمَا جَاءَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ مِنْ خُبْثِهِمْ وَبُهْتِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ
112
الْإِيمَانَ الْمُقَيَّدَ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَيْسُوا بِصَادِقِينَ فِي ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ مَا أَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَمِنِ اعْتِرَافِهِمْ حِينَ اللِّقَاءِ، وَسَمَّوْا ذَلِكَ إِيمَانًا، وَقُلُوبُهُمْ عَنْ ذَلِكَ صَارِفَةٌ مُعْرِضَةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَلَوْا إِلَى بِسُكُونِ الْوَاوِ وَتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ وَرْشٌ: بِإِلْقَاءِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْوَاوِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَيَتَعَدَّى خَلَا بِالْبَاءِ وَبِإِلَى، وَالْبَاءُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَعُدِلَ إِلَى إِلَى لِأَنَّهَا إِذَا عُدِّيَتْ بِالْبَاءِ احْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِانْفِرَادُ، وَالثَّانِي: السُّخْرِيَةُ، إِذْ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: خَلَوْتُ بِهِ، أَيْ سَخِرْتُ مِنْهُ، وَإِلَى لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَإِلَى هُنَا عَلَى مَعْنَاهَا مِنِ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ عَلَى مَعْنَى تَضْمِينَ الْفِعْلِ، أَيْ صَرَفُوا خَلَاهُمْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ، قَالَ الْأَخْفَشُ: خَلَوْتُ إِلَيْهِ، جَعَلْتُهُ غَايَةَ حَاجَتِي، وَهَذَا شَرْحُ مَعْنًى، وَزَعَمَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أَنَّ إِلَى هُنَا بِمَعْنَى مَعَ أَيْ: وَإِذَا خَلَوْا مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، كَمَا زَعَمُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «١»، ومَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «٢»، أَيْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ وَمَعَ اللَّهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
فَلَا تَتْرُكَنِّي بِالْوَعِيدِ كَأَنَّنِي إِلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ
وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، إِذْ نِيَابَةُ الْحَرْفِ عَنِ الْحَرْفِ لَا يَقُولُ بِهَا سِيبَوَيْهِ، وَالْخَلِيلُ، وَتَقْرِيرُ هَذَا فِي النَّحْوِ. وَشَيَاطِينُهُمْ: هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ رُؤَسَاؤُهُمْ فِي الْكُفْرِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ: أَوْ كَهَنَتُهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَجَمَاعَةٌ. وَكَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْكَهَنَةِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَبُو بُرْدَةَ فِي بَنِي أَسْلَمَ، وَعَبْدُ الدَّارِ فِي جُهَيْنَةَ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ فِي بَنِي أَسَدٍ، وَابْنُ السَّوْدَاءِ فِي الشَّامِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ، وَيَعْرِفُونَ الْأَسْرَارَ، وَيُدَاوُونَ الْمَرْضَى، وَسُمُّوا شَيَاطِينَ لِتَمَرُّدِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ، أَوْ بِاسْمِ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، إِنْ فُسِّرُوا بِالْكَهَنَةِ، أَوْ لِشَبَهِهِمْ بِالشَّيَاطِينِ فِي وَسْوَسَتِهِمْ، وَغُرُورِهِمْ، وَتَحْسِينِهِمْ لِلْفَوَاحِشِ، وَتَقْبِيحِهِمْ لِلْحَسَنِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيكِ الْعَيْنِ مِنْ مَعَكُمْ، وقرىء فِي الشَّاذِّ: إِنَّا مَعْكُمْ، وهي لغة غنم
(١) سورة النساء: ٤/ ٢.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٥٢، وسورة الصف: ٦١/ ١٤.
113
وَرَبِيعَةَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْلَانِ مِنْهُمْ، فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: آمَنَّا، وَلِشَيَاطِينِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ. فَانْظُرْ إِلَى تَفَاوُتِ الْقَوْلَيْنِ، فَحِينَ لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا آمَنَّا، أَخْبَرُوا بِالْمُطْلَقِ، كَمَا تَقَدَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُمُ الْإِخْبَارُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ وَنَشْئِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ، لَا فِي ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ أَوْحَدِيُّونَ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا تُطَوِّعُ بِذَلِكَ أَلْسِنَتُهُمْ لِأَنَّهُ لَا بَاعِثَ لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ حَقِيقَةً، أَوْ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَّدُوهُ مَا رَاجَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَاكْتَفَوْا بِمُطْلَقِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا، وَحِينَ لَقُوا شَيَاطِينَهُمْ، أَوْ خَلَوْا إِلَيْهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، فَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ مُوَافِقُوهُمْ، وَأَخْرَجُوا الْأَخْبَارَ فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِإِنَّ لِيَدُلُّوا بِذَلِكَ عَلَى ثَبَاتِهِمْ فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنُوا أَنَّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْإِخْبَارِ بِالْمُوَافَقَةِ، بَلْ بَيَّنُوا أَنَّ سَبَبَ مَقَالَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالِاسْتِخْفَافُ، لَا أَنَّ ذَلِكَ صَادِرٌ مِنْهُمْ عَنْ صِدْقٍ، وَجِدٍّ، وَأَبْرَزُوا هَذَا فِي الأخبار في جملة اسمية مُؤَكَّدَةٍ بِإِنَّمَا مُخْبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ فِيهَا بِاسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُمْ، لَا أَنَّ ذَلِكَ تَجَدُّدٌ عِنْدَهُمْ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ خُلُقِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَقَعَتْ جَوَابًا لِمُنْكِرٍ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: إِنَّا مَعَكُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ مَعَنَا وَأَنْتُمْ مُسَالِمُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، تُصَدِّقُونَهُمْ، وَتُكَثِّرُونَ سَوَادَهُمْ، وَتَسْتَقْبِلُونَ قِبْلَتَهُمْ، وَتَأْكُلُونَ ذَبَائِحَهُمْ؟
فَأَجَابُوهُمْ بقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، أَيْ مُسْتَخِفُّونَ بِهِمْ، نُصَانِعُ بِمَا نُظْهِرُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، فَنَحْنُ نُوَافِقُهُمْ ظَاهِرًا وَنُوَافِقُكُمْ بَاطِنًا، وَالْقَائِلُ إِنَّا مَعَكُمْ، إِمَّا الْمُنَافِقُونَ لِكِبَارِهِمْ، وَإِمَّا كل المنافقين للكافرين، وقرىء: مستهزءون، بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَبِقَلْبِهَا يَاءً مَضْمُومَةً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفُ الْيَاءَ تَشْبِيهًا بِالْيَاءِ الْأَصْلِيَّةِ فِي نَحْوِ: يَرْمُونَ، فَيَضُمُّ الرَّاءَ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي تَحْقِيقِهَا: أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ بَيْنَ. وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ: أَنْ تُقْلَبَ يَاءً قَلْبًا صَحِيحًا. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: حَالُ الْيَاءِ الْمَضْمُومَةِ مُنْكَرٌ، كَحَالِ الْهَمْزَةِ الْمَضْمُومَةِ. وَالْعَرَبُ تَعَافُ يَاءً مَضْمُومَةً قَبْلَهَا كَسْرَةٌ، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى مَا ذهب إلى سِيبَوَيْهِ، انْتَهَى.
وَهَلِ الِاجْتِمَاعُ وَالْمَعِيَّةُ فِي الدِّينِ، أَوْ فِي النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، أَوْ فِي اتِّفَاقِهِمْ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَى أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ وَأَخْفَوْهُ مِنَ الْمَكَايِدِ، أَوْ فِي اتِّفَاقِهِمْ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَتَرَبُّصِهِمْ بِهِمُ الدَّوَائِرَ وَفَرَحِهِمْ بِمَا يَسُوءُ الْمُسْلِمِينَ وَحُزْنِهِمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَقَصْدِهِمْ إِخْمَادَ كَلِمَةِ اللَّهِ؟ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالدَّوَاعِي إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ: خَوْفُ الْأَذَى، وَاسْتِجْلَابُ النَّفْعِ،
114
وَالْهَزْلُ، وَاللَّعِبُ. وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ إِضَافَةُ الِاسْتِهْزَاءِ الَّذِي هَذِهِ دَوَاعِيهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِهْزَاءُ الْمُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كِنَايَةً عَنْ مُجَازَاتِهِ لَهُمْ، وَأُطْلِقَ اسْمُ الِاسْتِهْزَاءِ عَلَى الْمُجَازَاةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ الِاسْتِهْزَاءِ، أَوْ عَنْ مُعَامَلَتِهِ لَهُمْ بِمِثْلِ مَا عَامَلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَقْنِ الدَّمِ، وَصَوْنِ الْمَالِ، وَالْإِشْرَاكِ فِي الْمَغْنَمِ، مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِمْ. وَأُطْلِقَ عَلَى الشَّيْءِ مَا أَشْبَهَهُ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ عَنِ التَّوْطِئَةِ وَالتَّجْهِيلِ، لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَسَمَّى التَّوْطِئَةَ لَهُمُ اسْتِهْزَاءً لِأَنَّهُ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ، بَلْ أَمْلَى، وَأَخَّرَهُمْ إِلَى الْآخِرَةِ، أَوْ عَنْ فَتْحِ بَابِ الْجَنَّةِ فَيُسْرِعُونَ إِلَيْهِ فَيُغْلَقُ، فَيَضْحَكُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ عَنْ خُمُودِ النَّارِ فَيَمْشُونَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ، أَوْ عَنْ ضَرْبِ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ السُّورُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيدِ، أَوْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «١»، أَوْ عَنْ تَجْدِيدِ اللَّهِ لَهُمْ نِعْمَةً كُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا، فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، أَوْ عَنِ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَبَيْنَ النُّورِ الَّذِي يُعْطَاهُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ عَنْ طَرْدِهِمْ عَنِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَمَرَ بِنَاسٍ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَدَنَوْا مِنْهَا وَوَجَدُوا رِيحَهَا وَنَظَرُوا إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهَا لِأَهْلِهَا، وَهُوَ حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ، رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَنَحَا هَذَا الْمَنْحَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ.
وَفِي مُقَابَلَةِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِهْزَاءِ اللَّهِ بِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِمْ، وَلِيَعْلَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَذُبُّ عَنْهُمْ وَيُحَارِبُ مَنْ حَارَبَهُمْ. وَفِي افْتِتَاحِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ اللَّهِ التَّفْخِيمُ الْعَظِيمُ، حَيْثُ صُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِهِ، وَجُعِلَ الْخَبَرُ فِعْلًا مُضَارِعًا يَدُلُّ عِنْدَهُمْ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكَرُّرِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي النِّسْبَةِ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ الْمُخْبَرِ بِهِ فِي قَوْلِهِمْ، ثُمَّ فِي ذَلِكَ التَّنْصِيصِ عَلَى الذين يستهزىء اللَّهُ بِهِمْ، إِذْ عَدَّى الفعل إليهم فقال: يستهزىء بِهِمْ وَهُمْ لَمْ يَنُصُّوا حِينَ نَسَبُوا الِاسْتِهْزَاءَ إِلَيْهِمْ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ، فَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّمَا نحن مستهزءون بِهِمْ وَذَلِكَ لِتَحَرُّجِهِمْ مِنْ إِبْلَاغِ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَنْقِمُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأَبْقَوُا اللَّفْظَ مُحْتَمِلًا أَنْ لَوْ حُوقِقُوا عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ لَهُمْ مَجَالٌ فِي الذَّبِّ عَنْهُمْ أنهم لم يستهزءوا بِالْمُؤْمِنِينَ. أَلَا تَرَى إِلَى مُدَارَاتِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِقَوْلِهِمْ:
إِذَا لَقُوهُمْ قَالُوا آمَنَّا، فَهُمْ عِنْدَ لِقَائِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِظْهَارَ الْمُدَارَاةِ، وَلَا مُشَارَكَتِهِمْ بِمَا يَكْرَهُونَ، بَلْ يُظْهِرُونَ الطَّوَاعِيَةَ وَالِانْقِيَادَ.
(١) سورة الدخان: ٤٤/ ٤٩.
115
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَشِبْلٌ: يَمُدُّهُمْ. وَتُرْوَى عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: وَنِسْبَةُ الْمَدِّ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةٌ، إِذْ هُوَ مُوجِدُ الْأَشْيَاءِ وَالْمُنْفَرِدُ بِاخْتِرَاعِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطَوِّلُ لَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى تَأْوِيلِ الْمَدِّ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مَنْعُ الْأَلْطَافِ وَخُذْلَانُهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ، بَقِيَتْ قُلُوبُهُمْ تَتَزَايَدُ الظُّلْمَةُ فِيهَا تَزَايُدَ النُّورِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ التَّزَايُدُ مَدًّا وَأُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِهِ بِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، أَوْ بِأَنَّ الْمَدَّ هُوَ عَلَى مَعْنَى الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ. قَالَ: أَوْ عَلَى أَنْ يُسْنِدَ فِعْلَ الشَّيْطَانِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ بِتَمْكِينِهِ وَإِقْدَارِهِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِغْوَاءِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي الْمَدِّ لِأَنَّ مَدَّ اللَّهِ لَهُمْ فِي الطُّغْيَانِ قَبِيحٌ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ. وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُ الْكَعْبِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: هُوَ الْمَدُّ فِي الْعُمُرِ، وَعِنْدَنَا نَحْنُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ الْهَادِي وَالْمُضِلُّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَمَدُّ اللَّهِ فِي طُغْيَانِهِمْ، التَّمْكِينُ مِنَ الْعِصْيَانِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوِ الْإِمْلَاءُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الزِّيَادَةُ مِنَ الطُّغْيَانِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الْإِمْهَالُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَابْنُ كَيْسَانَ، أَوْ تَكْثِيرُ الْأَمْوَالِ، وَالْأَوْلَادِ، وَتَطْيِيبُ الْحَيَاةِ، أَوْ تَطْوِيلُ الْأَعْمَارِ، وَمُعَافَاةُ الْأَبْدَانِ، وَصَرْفُ الرَّزَايَا، وَتَكْثِيرُ الْأَرْزَاقِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: فِي طُغْيَانِهِمْ بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ، يُقَالُ: طُغْيَانٌ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، كَمَا قالوا: القيان، وغينان، بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ. وَأَمَالَ الْكِسَائِيُّ فِي طُغْيَانِهِمْ، وَأَضَافَ الطُّغْيَانَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ فِعْلُهُمْ وَكَسْبُهُمْ، وَكُلُّ فِعْلٍ صَدَرَ مِنَ الْعَبْدِ صَحَّتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَإِلَى اللَّهِ بِالِاخْتِرَاعِ. وَمَا فُسِّرَ بِهِ الْعَمَهُ يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَعْمَهُونَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يَتَرَدَّدُونَ وَيَتَحَيَّرُونَ، أَوْ يَعْمَوْنَ عَنْ رُشْدِهِمْ، أو يركبون رؤوسهم وَلَا يُبْصِرُونَ.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْأَخِيرُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَرَدِّدِينَ فِي كُفْرِهِمْ، بَلْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَمَا سِوَاهُ الْبَاطِلُ. يَعْمَهُونَ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَمُدُّهُمْ وَإِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي طُغْيَانِهِمْ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ، وَفِي طُغْيَانِهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِيَمُدُّهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِيَعْمَهُونَ. وَمَنَعَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ فِي طُغْيَانِهِمْ وَيَعْمَهُونَ حَالَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَمُدُّهُمْ، قَالَ: لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَعْمَلُ فِي حَالَيْنِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْحَالَانِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ
116
كَانَا لِذَوِي حَالٍ جَازَ، نَحْوَ: لَقِيتُ زَيْدًا مُصْعِدًا مُنْحَدِرًا فَأَمَّا إِذَا كَانَا لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَفِي إِجَازَةِ ذَلِكَ خِلَافٌ. ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَقْضِيَ مَصْدَرَيْنِ، وَلَا ظَرْفَيْ زَمَانٍ، وَلَا ظَرْفَيْ مَكَانٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْضِي حَالَيْنِ. وَخَصَّصَ أَهْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنْ لَا يَكُونَ الثَّانِي عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، أَوْ مَعْطُوفًا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَا كَذَلِكَ جَازَتِ الْمَسْأَلَةُ. قَالَ: بَعْضُهُمْ: إِلَّا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَإِنَّهَا تَعْمَلُ فِي ظَرْفَيْ زَمَانٍ، وَظَرْفَيْ مَكَانٍ، وَحَالَيْنِ لِذِي حَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ اخْتَارَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَعْمَلَ فِي حَالَيْنِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَإِلَى هَذَا أَذْهَبُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنْ فَاعِلٍ، أَوِ الْوَاقِعَ بِمَفْعُولٍ، يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ فِي زَمَانَيْنِ، وَفِي مَكَانَيْنِ. وَأَمَّا الْحَالَانِ فَلَا يَسْتَحِيلُ قِيَامُهُمَا بِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، إِلَّا إِنْ كَانَا ضِدَّيْنِ، أَوْ نَقِيضَيْنِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: جَاءَ زيد ضاحكا راكبا، لأنه لَا يَسْتَحِيلُ مَجِيئُهُ وَهُوَ مُلْتَبِسٌ بِهَذَيْنِ الْحَالَيْنِ. فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ يَجُوزُ أَنْ يَجِيءَ الْحَالَانِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِمَا وَاحِدٌ.
أُولَئِكَ: اسم أُشِيرَ بِهِ إِلَى الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، الْجَامِعِينَ لِلْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ مِنْ دَعْوَى الْإِصْلَاحِ، وَهُمُ الْمُفْسِدُونَ، وَنِسْبَةُ السَّفَهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ السُّفَهَاءُ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِ الْمُوَافَقَةِ وَهُمْ مَعَ الْكُفَّارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ، بِضَمِّ الْوَاوِ.
وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ قَعْنَبٌ الْعَدَوِيُّ: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْفَتْحِ. وَلِاعْتِلَالِ ضَمَّةِ الْوَاوِ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَوَجْهُ الْكَسْرِ أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، نَحْوُ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا «١»، وَوَجْهُ الْفَتْحِ اتِّبَاعُهَا لِحَرَكَةِ الْفَتْحِ قَبْلَهَا. وَأَمَالَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْهُدَى، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَالِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ كَنَّى بِهِ عَنِ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِلشَّيْءِ مُخْتَارٌ لَهُ مُؤْثِرٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَجَعَلَ تَمَكُّنَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْهُدَى كَالثَّمَنِ الْمَبْذُولِ فِي الْمُشْتَرَى، وَإِنَّمَا ذَهَبَ فِي الِاشْتِرَاءِ إِلَى الْمَجَازِ لِعَدَمِ الْمُعَاوَضَةِ، إِذْ هِيَ اسْتِبْدَالُ شَيْءٍ فِي يَدِكَ لِشَيْءٍ فِي يَدِ غَيْرِكَ، وَهَذَا مَفْقُودٌ هُنَا.
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الِاشْتِرَاءَ هُنَا حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، وَالْمُعَاوَضَةُ مُتَحَقِّقَةٌ، ثُمَّ رَامُوا يُقَرِّرُونَ ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّرَ لِأَنَّهُ على كل تقدير يؤول الشِّرَاءُ فِيهِ إِلَى الْمَجَازِ، قَالُوا:
إِنْ كَانَ أَرَادَ بِالْآيَةِ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، فَقَدْ كَانَ لَهُمْ هُدًى ظَاهِرٌ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَةِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْغَزْوِ، وَالْقِتَالِ. فلما لم تصدق
(١) سورة الجن: ٧٢/ ١٦.
117
بَوَاطِنُهُمْ ظَوَاهِرَهُمْ وَاخْتَارُوا الْكُفْرَ، اسْتَبْدَلُوا بِالْهُدَى الضَّلَالَ، فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ، وَحَصَلَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ حَقِيقَةً، وَكَانَ مِنْ بُيُوعِ الْمُعَاطَاةِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى اللَّفْظِ، وَقَالُوا: لَمَّا وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ وَاسْتَمَرَّ لَهُمْ حُكْمُهَا إِلَى الْبُلُوغِ وجد التَّكْلِيفِ، اسْتَبْدَلُوا عَنْهَا بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ، وَقَالُوا: لَمَّا كَانُوا ذَوِي عُقُولٍ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ مِنَ الْخَطَأِ، اسْتَبْدَلُوا بِهَذَا الِاسْتِعْدَادِ النَّفِيسِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَالتَّقْلِيدَ لِلْآبَاءِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ، فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ. قَالُوا: وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلَ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، فَقَدْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمُصَدِّقِينَ بِبَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُسْتَفْتِحِينَ بِهِ، وَيَدْعُونَ بِحُرْمَتِهِ، وَيُهَدِّدُونَ الْكُفَّارَ بِخُرُوجِهِ، فَكَانُوا مُؤْمِنِينَ حَقًا. فَلَمَّا بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، خَافُوا عَلَى رِئَاسَتِهِمْ وَمَآكِلِهِمْ وَانْصِرَافِ الِاتِّبَاعِ عَنْهُمْ، فَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا الْمَذْكُورَ عِنْدَنَا، وَغَيَّرُوا صِفَتَهُ، وَاسْتَبْدَلُوا بِذَلِكَ الْإِيمَانِ الْكُفْرَ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ، فَتَحَقَّقَتِ الْمُعَاوَضَةُ. قَالُوا: وَإِنْ كَانَ أَرَادَ سَائِرَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَالْمُعَاوَضَةُ أَيْضًا مُتَحَقِّقَةٌ، إِمَّا بِالْمُدَّةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ كَفَرُوا، أَوْ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانَ فِي مَحْصُولِهِمُ الْمَدَارِكُ الثَّلَاثَةُ: الْحِسِّيُّ وَالنَّظَرِيُّ وَالسَّمْعِيُّ، وَهَذِهِ الَّتِي تُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ، فَاسْتَبْدَلُوا بِهَا الْجَرْيَ عَلَى سُنَنِ الْآبَاءِ فِي الْكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: خَلَقَهُمْ لِطَاعَتِهِ، فَاسْتَبْدَلُوا عَنْ هَذِهِ الْخِلْقَةِ الْمُرْضِيَةِ كُفْرَهُمْ وَضَعْفَ قَوْلِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ بَرَّأَهُمْ لِطَاعَتِهِ، لَمَا كَفَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لِشَيْءٍ وَيَتَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «١»، وَعَلَى وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: الضَّلَالَةُ: الْكُفْرُ، وَالْهُدَى: الْإِيمَانُ، وَقِيلَ الشَّكُّ وَالْيَقِينُ، وَقِيلَ الْجَهْلُ وَالْعِلْمُ، وَقِيلَ الْفِرْقَةُ وَالْجَمَاعَةُ، وَقِيلَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَقِيلَ النَّارُ وَالْجَنَّةُ. وَعَطْفُ: فَمَا رَبِحَتْ، بِالْفَاءِ، يَدُلُّ عَلَى تَعَقُّبِ نَفْيِ الرِّبْحِ لِلشِّرَاءِ، وَأَنَّهُ بِنَفْسِ مَا وَقَعَ الشِّرَاءُ تَحَقَّقَ عَدَمُ الرِّبْحِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ دَخَلَتْ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى الجزاء والتقديران اشْتَرَوْا. وَالَّذِينَ إِذَا كَانَ فِي صِلَةِ فِعْلٍ، كَانَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ، وَمِثْلُهُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ «٢»، وَقَعَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ «٣»، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَدْخُلُ الدَّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، انْتَهَى. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الَّذِينَ لَيْسَ مُبْتَدَأً، فَيُشَبَّهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ مُبْتَدَأً، فَتَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ، كما تدخل
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٢.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٧٤. [.....]
118
فِي جَوَابِ الشَّرْطِ. وَأَمَّا الَّذِينَ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، وَقَوْلُهُ: فَمَا رَبِحَتْ لَيْسَ بِخَبَرٍ، فَتَدْخُلُهُ الْفَاءُ، وَإِنَّمَا هِيَ جُمْلَةٌ فَعَلَيْةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ الَّذِينَ، فَهِيَ صِلَةٌ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الصِّلَةِ صِلَةٌ، وَقَوْلُهُ وَقَعَ الْجَوَابُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ، إِنَّمَا الْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ يُنْفِقُونَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أولئك مبتدأ، والذين اشْتَرَوْا مُبْتَدَأٌ، وَفَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ، وَالَّذِينَ وَخَبَرُهُ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ لِعَدَمِ الرَّابِطِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا لِأُولَئِكَ. وَلِتَحَقُّقِ مُضِيِّ الصِّلَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الصِّلَةُ مَاضِيَةً، مَعْنًى لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي خَبَرِ مَوْصُولِهَا الْمُبْتَدَأِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً، وَالَّذِينَ بَدَلٌ مِنْهُ، وَفَمَا رَبِحَتْ خَبَرٌ لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا تَدْخُلُهُ الْفَاءُ لِعُمُومِ الْمَوْصُولِ، وَلِإِبْدَالِ الَّذِينَ مِنْ أُولَئِكَ، صَارَ الَّذِينَ مَخْصُوصًا لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَخْصُوصٍ، وَخَبَرُ الْمَخْصُوصِ لَا تُدْخُلُهُ الْفَاءُ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ لَيْسَ إِلَّا عَلَى كَوْنِ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً وَالَّذِينَ خَبَرًا عَنْهُ. وَنِسْبَةُ الرِّبْحِ إِلَى التِّجَارَةِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الَّذِي يَرْبَحُ أَوْ يَخْسَرُ إِنَّمَا هُوَ التَّاجِرُ لَا التِّجَارَةُ، وَلَمَّا صَوَّرَ الضَّلَالَةَ وَالْهُدَى مُشْتَرًى وَثَمَنًا، رَشَّحَ هَذَا الْمَجَازَ الْبَدِيعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَرْشِيحِ الْمَجَازِ، وَهُوَ أَنْ يُبْرِزَ الْمَجَازَ فِي صُورَةِ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْحَقِيقَةِ، فَيَنْضَافُ مَجَازٌ إِلَى مَجَازٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ وَعَجَّتْ عَجِيجًا مِنْ جُذَامَ الْمَطَارِفُ
أَقَامَ الْخَزَّ مَقَامَ شَخْصٍ حِينَ بَاشَرَ رَوْحًا بَكَى مِنْ عَدَمِ مَلَامَتِهِ، ثُمَّ رَشَّحَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ، ثُمَّ زَادَ فِي تَرْشِيحِ المجاز بقوله: وعجب، أَيْ وَصَاحَتْ مَطَارِفُ الْخَزِّ مِنْ قَبِيلِ رَوْحٍ هَذَا، وَهِيَ: جُذَامُ. وَمَعْنَى الْبَيْتِ: أَنَّ رَوْحًا وَقَبِيلَتَهُ جُذَامَ لَا يَصْلُحُ لَهُمْ لِبَاسُ الْخَزِّ وَمَطَارِفُهُ، لِأَنَّهُمْ لَا عَادَةَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَكَنَّى عَنِ التَّبَايُنِ بَيْنَهُمَا بِمَا كَنَّى فِيهِ فِي الْبَيْتِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَيَا بُومَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَوْقَ هَامَتِي عَلَى الرَّغْمِ مِنِّي حِينَ طَارَ غُرَابُهَا
لَمَّا كَنَّى عَنِ الشَّيْبِ بِالْبُومَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا وَنَادَاهَا، رَشَّحَ هَذَا الْمَجَازَ بِقَوْلِهِ: قَدْ عَشَّشَتْ، لِأَنَّ الطَّائِرَ مِنْ أَفْعَالِهِ اتِّخَاذُ الْعَشَّةِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَرْشِيحِ الْمَجَازِ فِي كَشَّافِهِ مَثَلًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: تِجَارَاتُهُمْ، عَلَى الْجَمْعِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ تِجَارَةً، وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَلَى الْإِفْرَادِ أَنَّهُ اكْتَفَى بِهِ عَنِ الْجَمْعِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ، إِشْعَارٌ بِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَمْ يَذْهَبْ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَى الرِّبْحَ، وَنَفْيُ الرِّبْحِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِقَاصِ رَأْسِ الْمَالِ. وأجيب عن هذا بأنه اكْتَفَى بِذِكْرِ عَدَمِ الرِّبْحِ عَنْ
119
ذِكْرِ ذَهَابِ الْمَالِ، لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الضَّلَالَ نَقِيضُ الْهُدَى، وَالنَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَاسْتِبْدَالُهُمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى دَلَّ عَلَى ذَهَابِ الْهُدَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَتَخَرَّجُ عِنْدِي عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ قوله:
علي لا حب لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ، فَنَفَى الْهِدَايَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ نَفْيَ الْمَنَارِ، وَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمَنَارِ نَفْيُ الْهِدَايَةِ بِهِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا ذَكَرَ شِرَاءَ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، تَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ هُوَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ، إِذِ التِّجَارَةُ لَيْسَ نَفْسُ الِاشْتِرَاءِ فَقَطْ، وَلَيْسَ بِتَاجِرٍ، إِنَّمَا التِّجَارَةُ: التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ لِتَحْصِيلِ النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ فَنَفَى الرِّبْحَ. وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ التِّجَارَةِ أَيْ لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ الَّذِي وَقَعَ هُوَ تِجَارَةٌ فَلَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تِجَارَةً انْتَفَى الرِّبْحَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا تِجَارَةَ لَهُمْ وَلَا رِبْحَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي يَطْلُبُهُ التُّجَّارُ فِي مُتَصَرَّفَاتِهِمْ شَيْئَانِ:
سَلَامَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحُ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ أَضَاعُوا الطِّلْبَتَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مَالُهُمْ كَانَ هُوَ الْهُدَى، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعَ الضَّلَالَةِ، وَحِينَ لَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِيهِمْ إِلَّا الضَّلَالَةُ لَمْ يُوصَفُوا بِإِصَابَةِ الرِّبْحِ، وَإِنْ ظَفِرُوا بِمَا ظَفِرُوا بِهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، لِأَنَّ الضَّلَالَ خَاسِرٌ دَامِرٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ قَدْ رَبِحَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُخْلَصٍ فِي الْجَوَابِ لِأَنَّ نَفْيَ الرِّبْحِ عَنِ التِّجَارَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَهَابِ كُلِّ الْمَالِ، وَلَا عَلَى الْخُسْرَانِ فِيهِ، لِأَنَّ الرِّبْحَ هُوَ الْفَضْلُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، فَإِذَا نَفَى الْفَضْلَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَهَابِ رَأْسِ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا عَلَى الِانْتِقَاصِ مِنْهُ، وَهُوَ الْخُسْرَانُ. قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ مفيدا لذهاب رؤوس أَمْوَالِهِمْ، أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فَكَمَّلَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ، وَتَمَّ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَيَانِ يُقَالُ لَهُ: التَّتْمِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ عُيُونَ الْوَحْشِ حَوْلَ خِبَائِنَا وأرحلنا الْجَزْعُ الَّذِي لَمْ يُثَقَّبِ
تَمَّمَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: الَّذِي لَمْ يُثَقَّبِ، وَكَمَّلَ الْوَصْفَ وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى اعْتِيَاضَهُمُ الضَّلَالَةَ عَنِ الْهُدَى تِجَارَةً، وَإِنْ كَانَتِ التِّجَارَةُ هِيَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ الْمُتَحَقِّقُ مِنْهُ الْفَائِدَةُ، أَوِ الْمُتَرَجَّى ذَلِكَ مِنْهُ. وَهَذَا الِاعْتِيَاضُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ. قَالَ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا «١» الْآيَةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ:
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٣.
120
وَهَلْ يَنْفَعُهُ وَصْلُهُ الرَّحِمَ وَإِطْعَامُ الْمَسَاكِينِ؟ فَقَالَ: «لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»
، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَاضُوا ذَلِكَ إِلَّا لَمَّا تَحَقَّقُوا وَارْتَجَوْا مِنَ الْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَقَوْلِهِمْ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «١». وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ يَوْمًا وَاحِدًا، وَبَعْضُهُمْ عَشْرًا، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ تَزْعُمُ أَنَّهَا عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّ غَيْرَهَا عَلَى الْبَاطِلِ. فَلِحُصُولِ الرَّاحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَرَجَاءَ الرَّاحَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، سَمَّى اشْتِرَاءَهُمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى تِجَارَةً، وَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَوْنَهُمْ مُهْتَدِينَ. وَهَلِ الْمَعْنَى مَا كَانُوا فِي عِلْمِ اللَّهِ مُهْتَدِينَ، أَوْ مُهْتَدِينَ مِنَ الضَّلَالَةِ، أَوْ لِلتِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، أَوْ فِي اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ، أَوْ نَفَى عَنْهُمُ الْهِدَايَةَ وَالرِّبْحَ، لِأَنَّ مِنَ التُّجَّارِ مَنْ لَا يَرْبَحُ فِي تِجَارَتِهِ وَيَكُونُ عَلَى هُدًى، وَعَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا بَيْنَ نَفْيِ الرِّبْحِ وَالْهِدَايَةِ. وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَا سَبَقَتْ لَهُمْ هِدَايَةٌ بِالْفِعْلِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْهُدَى، أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هُدًى فِيمَا مَضَى، فَبَيَّنَ قَوْلُهُ:
وَما كانُوا مُهْتَدِينَ مَجَازَ قَوْلِهِ: بِالْهُدَى، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي اعْتَاضُوا الضَّلَالَةَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ إِدْرَاكِ الْهُدَى، فَالْمُثْبَتُ فِي الِاعْتِيَاضِ غَيْرُ الْمَنْفِيِّ أَخِيرًا، لِأَنَّ ذَاكَ بِالْقُوَّةِ وَهَذَا بِالْفِعْلِ. وَانْتِصَابُ مُهْتَدِينَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِهَا وَحْدَهَا خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بَكَانَ وَالِاسْمِ مَعًا، وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَ انْتِصَابِهِ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ الْفَرَّاءُ، قَالَ: لِشَغْلِ الِاسْمِ بِرَفْعِ كَانَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ حَالًا خَبَرًا فَأَتَى مَعْرِفَةً، فَقِيلَ: كَانَ أَخُوكَ زَيْدًا تغليبا للخير، لَا لِلْحَالِ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَقْوَالًا: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ. الثَّانِي: فِي قَوْمٍ أَعْلَمَ اللَّهُ بِوَصْفِهِمْ قَبْلَ وُجُودِهِمْ، وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِالْمُغَيَّبَاتِ.
الثَّالِثُ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وَأَصْحَابِهِ نَزَلَ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَكَرُوا مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَقِيَ نَفَرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: انْظُرُوا كَيْفَ أَرُدُّ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ عَنْكُمْ، فَذَكَرَ أَنَّهُ مَدَحَ وَأَثْنَى عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ، فَوَبَّخَهُ عَلِيٌّ وَقَالَ لَهُ: لَا تُنَافِقْ، فَقَالَ: إِلَيَّ تَقُولُ هَذَا، وَاللَّهِ إِنَّ إِيمَانَنَا كَإِيمَانِكُمْ، ثُمَّ افْتَرَقُوا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ؟ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَقَاوِيلُ غَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي غُضُونِ الْكَلَامِ قَبْلَ هذا.
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ٣٥.
121

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧ الى ١٨]

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ: الْمَثَلُ فِي أَصْلِ كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْمِثْلِ وَالْمَثِيلِ، كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَشَبِيهٍ، وَهُوَ النَّظِيرُ، وَيُجْمَعُ الْمَثَلُ وَالْمِثْلُ عَلَى أَمْثَالٍ. قَالَ الْيَزِيدِيُّ: الْأَمْثَالُ:
الْأَشْبَاهُ، وَأَصْلُ الْمَثَلِ الْوَصْفُ، هَذَا مِثْلُ كَذَا، أَيْ وَصْفُهُ مُسَاوٍ لِوَصْفِ الْآخَرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَالْمَثَلُ: الْقَوْلُ السَّائِرُ الَّذِي فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: الْمَثَلُ، ذِكْرُ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مَحْسُوسٍ وَغَيْرِ مَحْسُوسٍ، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وَصْفٍ مُشَابِهٍ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْخَفَاءِ لِيَصِيرَ فِي الذِّهْنِ مُسَاوِيًا لِلْأَوَّلِ فِي الظُّهُورِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْمَثَلِ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ مَا لَا يُؤَثِّرُهُ وَصْفُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ تَشْبِيهُ الْخَفِيِّ بِالْجَلِيِّ، وَالْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ، فَيَتَأَكَّدُ الْوُقُوفُ عَلَى مَاهِيَّتِهِ وَيَصِيرُ الْحِسُّ مُطَابِقًا لِلْعَقْلِ. وَالَّذِي: اسْمٌ مَوْصُولٌ لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مُبْهَمٌ يَجْرِي مَجْرَى مَنْ فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ مُفْرَدٌ، وَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الَّذِينَ، قَالَ: وَيُغْنِي عَنْهُ الَّذِي فِي غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَثِيرًا وَفِيهِ لِلضَّرُورَةِ قَلِيلًا وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ النُّونُ مِنَ الَّذِينَ فَيَبْقَى الَّذِي، وَإِذَا كَانَ الَّذِي لِمُفْرَدٍ فَسُمِعَ تَشْدِيدُ الْيَاءِ فِيهِ مَكْسُورَةً أَوْ مَضْمُومَةً، وَحَذْفُ الْيَاءِ وَإِبْقَاءُ الذَّالِ مَكْسُورَةً أَوْ سَاكِنَةً، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ تِلْكَ لُغَاتٌ فِي الَّذِي. وَالِاسْتِيقَادُ: بِمَعْنَى الْإِيقَادِ وَاسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ، وَوَقُودُ النَّارِ ارْتِفَاعُ لَهِيبِهَا. وَالنَّارُ: جَوْهَرٌ لَطِيفٌ مُضِيءٌ حَارٌّ مُحْرِقٌ. لَمَّا: حَرْفُ نَفْيٍ يَعْمَلُ الجزم وبمعنى إلا، وظرفا بِمَعْنَى حِينَ عِنْدَ الْفَارِسِيِّ، وَالْجَوَابُ عَامِلٌ فِيهَا إِذِ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَحَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى مَا نُفِيَ بِمَا، وَلِمَجِيءِ جَوَابِهَا مُصَدَّرًا بِإِذَا الْفُجَائِيَّةِ. الْإِضَاءَةُ: الْإِشْرَاقُ، وَهُوَ فَرْطُ الْإِنَارَةِ. وَحَوْلَهُ: ظَرْفُ مَكَانٍ لَا يَتَصَرَّفُ، وَيُقَالُ: حَوَالٍ بِمَعْنَاهُ، وَيُثَنَّيَانِ وَيَجْمَعُ أَحْوَالٌ، وَكُلُّهَا لَا تَتَصَرَّفُ وَتَلْزَمُ الْإِضَافَةَ. الذَّهَابُ: الِانْطِلَاقُ. النُّورُ: الضَّوْءُ مِنْ كُلِّ نَيِّرٍ وَنَقِيضُهُ الظُّلْمَةُ، وَيُقَالُ نَارَ يَنُورُ إِذَا نَفَرَ، وَجَارِيَةٌ نَوَارٌ: أَيْ نَفُورٌ، وَمِنْهُ اسْمُ امْرَأَةِ الْفَرَزْدَقَ، وَسَمِّيَ نُورًا لِأَنَّ فِيهِ اضْطِرَابًا وَحَرَكَةً. التَّرْكُ: التَّخْلِيَةُ، اتْرُكْ هَذَا أَيْ خَلِّهِ وَدَعْهُ، وَفِي تَضْمِينِهِ مَعْنَى التَّصْيِيرِ وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى اثْنَيْنِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ جَوَازُ ذَلِكَ. الظُّلْمَةُ: عَدَمُ النُّورِ، وَقِيلَ: هُوَ عَرَضٌ يُنَافِي النُّورَ، وَهُوَ
122
الْأَصَحُّ لِتَعَلُّقِ الْجَعْلِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ بِهِ، وَالْأَعْدَامُ لَا تُوصَفُ بِالْخَلْقِ، وَقَدْ رَدَّهُ بَعْضُهُمْ لِمَعْنَى الظُّلْمِ، وَهُوَ الْمَنْعُ، قَالَ: لِأَنَّ الظُّلْمَةَ تَسُدُّ الْبَصَرَ وَتَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ. الْإِبْصَارُ: الرُّؤْيَةُ.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ جُمُوعُ كَثْرَةٍ عَلَى وَزْنِ فُعْلٍ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي جَمْعِ فَعْلَاءَ وَأَفْعَلَ الْوَصْفَيْنِ سَوَاءٌ تَقَابَلَا، نَحْوَ: أَحْمَرَ وَحَمْرَاءَ، أَوِ انْفَرَدَ الْمَانِعُ فِي الْخِلْقَةِ، نَحْوَ:
عَذَلَ وَرَتَقَ. فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ مُشْتَرَكًا لَكِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلَا عَلَى نِظَامِ أَحْمَرَ وَحَمْرَاءَ، وَذَلِكَ نَحْوُ: رَجُلٍ آلَى وَامْرَأَةٍ عَجْزَاءَ، لَمْ يَنْقَسْ فِيهِ فَعَلَ بَلْ يُحْفَظُ فِيهِ. وَالصَّمَمُ: دَاءٌ، يَحْصُلُ فِي الْأُذُنِ يَسُدُّ الْعُرُوقَ فَيَمْنَعُ مِنَ السَّمْعِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الصَّلَابَةِ، قَالُوا: قَنَاةٌ صَمَّاءُ، وَقِيلَ أَصْلُهُ السَّدُّ وَصَمَمْتُ الْقَارُورَةَ: سَدَدْتُهَا. وَالْبَكَمُ: آفَةٌ تَحْصُلُ فِي اللِّسَانِ تَمْنَعُ مِنَ الْكَلَامِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَقِيلَ: الَّذِي يُولَدُ أَخْرَسَ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا يَفْهَمُ الْكَلَامَ وَلَا يَهْتَدِي إِلَى الصَّوَابِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ دَاءٌ فِي الْفُؤَادِ لَا فِي اللِّسَانِ. وَالْعَمَى: ظُلْمَةٌ فِي الْعَيْنِ تَمْنَعُ مِنْ إِدْرَاكِ الْمُبْصَرَاتِ، وَالْفِعْلُ مِنْهَا عَلَى فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى أَفْعَلَ، وَهُوَ قِيَاسُ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ. وَالرُّجُوعُ، إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ، فَهُوَ بِمَعْنَى: الْعَوْدِ، وَإِنْ تَعَدَّى فَبِمَعْنَى:
الْإِعَادَةِ. وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ: إِنَّهَا تُضَمَّنُ مَعْنَى صَارَ فَتَصِيرُ مِنْ بَابِ كَانَ، تَرْفَعُ الِاسْمَ وَتَنْصِبُ الْخَبَرَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا جَاءَ بِحَقِيقَةِ صِفَتِهِمْ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ ضَرْبِ الْمَثَلِ زِيَادَةً فِي الْكَشْفِ وَتَتْمِيمًا لِلْبَيَانِ، وَلِضَرْبِ الْعَرَبِ الْأَمْثَالَ وَاسْتِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ الْمُثُلَ وَالنَّظَائِرَ شَأْنٌ لَيْسَ بِالْخَفِيِّ فِي إِبْرَازِ خَبِيئَاتِ الْمَعَانِي وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنِ الْحَقَائِقِ، حَتَّى تُرِيَكَ الْمُتَخَيَّلَ فِي صُورَةِ الْمُحَقَّقِ وَالْمُتَوَهَّمِ فِي مَعْرِضِ الْمُتَيَقَّنِ وَالْغَائِبَ بِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ، وَفِيهِ تَبْكِيتٌ لِلْخَصْمِ الْأَلَدِّ وَقَمْعٌ لِسُورَةِ الجامع الْآبِي، وَلِأَمْرٍ مَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَفِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَمْثَالَهُ، وَفَشَتْ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «١»، وَمِنْ سُوَرِ الْإِنْجِيلِ سُوَرُ الْأَمْثَالِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَثَلُهُمْ: مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بَعْدَهُ، وَالتَّقْدِيرُ كَائِنٌ كَمَثَلٍ، كَمَا يُقَدَّرُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ حُرُوفِ الْجَرِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْخَبَرُ الْكَافُ، وَهِيَ عَلَى هَذَا اسْمٌ، كَمَا هِيَ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالْفَتْلُ
انْتَهَى.
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٣.
123
وهذا الذي اختاره وينبأ بِهِ غَيْرَ مُخْتَارٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ اسْمًا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّا لَا نُجِيزُهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْوَجْهَ الَّذِي بَدَأْنَا بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ: فَصُيِّرُوا مِثْلَ: كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «١». وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَثَلَ وَالْمِثْلَ بِمَعْنًى، صَارَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ عَلَى الزِّيَادَةِ، إِذِ الْمَعْنَى تَشْبِيهُ الْمَثَلِ بِالْمِثْلِ، لا يمثل الْمِثْلِ وَالْمَثَلُ هُنَا بِمَعْنَى الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، فَشَبَّهَ شَأْنَهُمْ وَوَصَفَهُمْ بِوَصْفِ الْمُسْتَوْقِدِ نَارًا، فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْكَافُ زَائِدَةً. وَفِي جِهَةِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وُجُوهٌ ذَكَرُوهَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ يَدْفَعُ بِهَا الْأَذَى، فَإِذَا انْطَفَأَتْ عَنْهُ وَصَلَ الْأَذَى إِلَيْهِ، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَحْقِنُ دَمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَيُبِيحُهُ بِالْكُفْرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَهْتَدِي بِهَا، فَإِذَا انْطَفَأَتْ ضَلَّ، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَهْتَدِي بِالْإِسْلَامِ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى نِفَاقِهِ ذَهَبَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ وَعَادَ إِلَى ظُلْمَةِ كُفْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمُدَّهَا بِالْحَطَبِ ذَهَبَ ضَوْؤُهَا، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، إِذَا لَمْ يَسْتَدِمِ الْإِيمَانَ ذَهَبَ إِيمَانُهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُسْتَضِيءَ بِهَا نُورُهُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ لَا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النَّارُ بَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ لَمَّا أَقَرَّ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ قَلْبِهِ كَانَ نُورُ إِيمَانِهِ كَالْمُسْتَعَارِ. الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ شَبَّهَ إِقْبَالَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْإِضَاءَةِ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ الذهاب، قَالَهُ مُجَاهِدٌ: السَّادِسُ: شَبَّهَ الْهُدَى الَّذِي بَاعُوهُ بِالنُّورِ الَّذِي حَصَلَ لِلْمُسْتَوْقِدِ، وَالضَّلَالَةَ الْمُشْتَرَاةَ بِالظُّلُمَاتِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَحَقَنَ بِهِ دَمَهُ وَمَشَى فِي حُرْمَتِهِ وَضِيَائِهِ ثُمَّ سَلَبَهُ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَيَمَانِ بْنِ رِئَابٍ، أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ، فَتَكُونُ فِي الْمُمَاثَلَةِ إِذْ ذَاكَ وُجُوهٌ ذَكَرُوهَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُسْتَوْقِدَ النَّارِ يَسْتَضِيءُ بِنُورِهَا وَيَتَأَنَّسُ وَتَذْهَبُ عَنْهُ وَحْشَةُ الظَّلْمَةِ، وَالْيَهُودُ لَمَّا كانوا يبشرون بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَيَسْتَنْصِرُونَ بِهِ فَيُنْصَرُونَ، شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارَ، فَلَمَّا بُعِثَ وَكَفَرُوا بِهِ، أَذْهَبَ اللَّهُ ذَلِكَ النُّورَ عَنْهُمْ. الثَّانِي: شَبَّهَ نَارَ حَرْبِهِمُ الَّتِي شَبُّوهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَارِ الْمُسْتَوْقِدِ، وَإِطْفَاءَهَا بِذَهَابِ النُّورِ الَّذِي لِلْمُسْتَوْقِدِ. الثَّالِثُ: شَبَّهَ مَا كَانُوا يَتْلُونَهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنِ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَصِفَتِهِ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ وَدِينِهِ وَأَمْرِهِمْ بِاتِّبَاعِهِ بِالنُّورِ الْحَاصِلِ لِمَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا
(١) سورة الفيل: ١٠٥/ ٥.
124
غَيَّرُوا اسْمَهُ وَصِفَتَهُ وَبَدَّلُوا التَّوْرَاةَ وَجَحَدُوا أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ نُورَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الَّذِي، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ فِي أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَنْ فِي الْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ، وَقَوْلُ الْأَخْفَشِ أَنَّهُ مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ لَفْظًا وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى نَعْتًا لِمَا تَحْتَهُ أَفْرَادٌ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ كَمَثَلِ الْجَمْعِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا كَأَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُفْرَدِ لَفْظًا وَمَعْنًى بِجَمْعِ الضَّمِيرِ فِي ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَجَمْعِهِ فِي دِمَائِهِمْ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِي هُنَا هُوَ الَّذِينَ وَحُذِفَتِ النُّونُ لِطُولِ الصِّلَةِ، فَهُوَ خَطَأٌ لإفراد الضمير في الصلة، وَلَا يَجُوزُ الْإِفْرَادُ لِلضَّمِيرِ لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ. أَلَا تَرَى جَمْعَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «١» عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَجَمْعَهُ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَا رَبَّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ وَلَا فِيمَنْ قَعَدْ
إِلَّا الَّذِي قَامُوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ وَأَمَّا قَوْلُ الْفَارِسِيِّ: إِنَّهَا مِثْلُ مَنْ، لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي صِيغَةُ مُفْرَدٍ وَثُنِّيَ وَجُمِعَ بِخِلَافِ مَنْ، فَلَفْظُ مَنْ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ أَبَدًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الَّذِي، وَقَدْ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «٢»، وَأَعَلَّ لِتَسْوِيغِ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ، قَالَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي لِكَوْنِهِ وَصْلَةً إِلَى وَصْفِ كُلِّ مَعْرِفَةٍ وَاسْتِطَالَتُهُ بِصِلَتِهِ حَقِيقٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَلِذَلِكَ نَهَكُوهُ بِالْحَذْفِ، فَحَذَفُوا يَاءَهُ ثُمَّ كَسْرَتَهُ ثُمَّ اقْتَصَرُوا عَلَى اللَّامِ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُمْ حَذَفُوهُ حَتَّى اقْتَصَرُوا بِهِ عَلَى اللَّامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ، خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ اللَّامُ بَقِيَّةَ الَّذِي لَكَانَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، كَمَا كَانَ لِلَّذِي، وَلَمَا تَخَطَّى الْعَامِلُ إِلَى أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نَفْسِ الصِّلَةِ فَيَرْفَعُهَا وَيَنْصِبُهَا وَيَجُرُّهَا، وَيُجَازُ وَصْلُهَا بِالْجُمَلِ كَمَا يَجُوزُ وَصْلُ الَّذِي إِذَا أُقِرَّتْ يَاؤُهُ أَوْ حُذِفَتْ، قَالَ: وَالثَّانِي: إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَامَةٌ لِزِيَادَةِ الدَّلَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْمَوْصُولَاتِ لَفْظُ الْجَمْعِ وَالْوَاحِدِ فِيهِنَّ سَوَاءٌ؟ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ جمعه ليس بمنزلة جمع غَيْرِهِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِثْلُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَاقِعًا إِلَّا عَلَى مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ مَا يُجْمَعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ مِنَ الذُّكُورِيَّةِ وَالْعَقْلِ؟ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ وَالْفَاعِلِينَ من جهة أنه
(١- ٢) سورة التوبة: ٩/ ٦٩.
125
لَا يَكُونُ إِلَّا جَمْعًا لِمُذَكَّرٍ عَاقِلٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَبْنِيًّا الْتُزِمَ فِيهِ طَرِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي اللَّفْظِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَهُذَيْلٌ أَتَتْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِيهِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ رَفْعًا وَالْيَاءِ وَالنُّونِ نَصْبًا وَجَرًّا، وَكُلُّ الْعَرَبِ الْتَزَمَتْ جَمْعَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَيْهِ مِنْ صِلَتِهِ كَمَا يَعُودُ عَلَى الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ الْعَاقِلِ، فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِمُسَوِّغٍ لِأَنْ يُوضَعَ الَّذِي مَوْضِعَ الَّذِينَ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِرَادَةِ الْجَمْعِ أَوِ النَّوْعِ، وَقَدْ رَجَعَ إِلَى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَخِيرًا.
وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: كَمَثَلِ الَّذِينَ، عَلَى الْجَمْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِي إِذَا كَانَ أَصْلُهُ الَّذِينَ فَحُذِفَتْ نُونُهُ تَخْفِيفًا لَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا يَعُودُ عَلَى الْجَمْعِ، فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ بِهِ؟ وَإِذَا صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ فَتَخْرِيُجَهَا عِنْدِي عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ حَمْلًا عَلَى التَّوَهُّمِ الْمَعْهُودِ مِثْلُهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، كَأَنَّهُ نَطَقَ بِمَنِ الَّذِي هُوَ لَفْظٌ وَمَعْنًى، كَمَا جَزَمَ بِالَّذِي مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ نَطَقَ بِمَنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ التَّوَهُّمُ قَدْ وَقَعَ بَيْنَ مُخْتَلِفِي الْحَدِّ، وَهُوَ إِجْرَاءُ الْمَوْصُولِ فِي الْجَزْمِ مَجْرَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ مُتَّفِقِي الْحَدِّ، وَهُوَ الَّذِينَ، وَمَنِ الْمَوْصُولَانِ مِثَالُ الْجَزْمِ بِالَّذِي، قَوْلُ الشَّاعِرِ، أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
كَذَاكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَوَاقِبُ مَا صَنَعَ
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُ الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى جَمْعٍ اكْتِفَاءً بِالْإِفْرَادِ عَنِ الْجَمْعِ كَمَا تَكْتَفِي بِالْمُفْرَدِ الظَّاهِرِ عَنِ الْجَمْعِ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، أَنْشَدَ أَبُو الْحَسَنِ:
وَبِالْبَدْوِ مِنَّا أُسْرَةٌ يَحْفَظُونَنَا سِرَاعٌ إِلَى الدَّاعِي عِظَامٌ كَرَاكِرُهْ
أَيْ كَرَاكِرُهُمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الَّذِي فِي اسْتَوْقَدَ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ الْمَفْهُومِ مِنِ اسْتَوْقَدَ، التَّقْدِيرُ اسْتَوْقَدَ هُوَ، أَيِ الْمُسْتَوْقِدُ، فَيَكُونُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ «١» أَيْ هُوَ أَيِ الْبَدَاءُ الْمَفْهُومُ مِنْ بَدَا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْفَاعِلِ فِي الْآيَةِ، وَفِي الْعَائِدِ عَلَى الَّذِينَ وَجْهَانِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَكُونَ حُذِفَ وَأَصْلُهُ لَهُمْ، أَيْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ لَهُمُ الْمُسْتَوْقِدُ نَارًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ شُرُوطُ الْحَذْفِ الْمَقِيسِ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٣٥.
126
وَلَوْ أَنَّ مَا عَالَجْتُ لِينَ فُؤَادِهَا فَقَسَا اسْتَلْيِنُ بِهِ لَلَانَ الْجَنْدَلُ
يُرِيدُ مَا عَالَجْتُ بِهِ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَالضَّمِيرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شُرُوطُ الْحَذْفِ الْمَقِيسِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي مَبْسُوطَاتِ كُتُبِ النَّحْوِ، وَضَابِطُهَا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ مَجْرُورًا بِحَرْفِ جَرٍّ لَيْسَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ، أَوِ الْمَوْصُوفُ بِهِ الْمَوْصُولَ، أَوِ الْمُضَافُ لِلْمَوْصُولِ قَدْ جُرَّ بِحَرْفٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْحَرْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَرْفُ الَّذِي جَرَّ الضَّمِيرَ، مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَرْفُ السَّابِقُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الأولى الواقعة لَا عَائِدَ فِيهَا، لَكِنْ عَطَفَ عَلَيْهَا جُمْلَةً بِالْفَاءِ، وَهِيَ جُمْلَةُ لَمَّا وَجَوَابُهَا، وَفِي ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي، فَحَصَلَ الرَّبْطُ بِذَلِكَ الْعَائِدِ الْمُتَأَخِّرِ، فَيَكُونُ شَبِيهًا بِمَا أَجَازُوهُ مِنَ الرَّبْطِ فِي بَابِ الِابْتِدَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ جَاءَتْ هِنْدٌ فَضَرَبْتُهَا، وَيَكُونُ الْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي جَوَابِ لَمَّا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ تَخْرِيجَ قِرَاءَةِ ابْنِ السَّمَيْفَعِ.
وَاسْتَوْقَدَ: اسْتَفْعَلَ، وَهِيَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ. حَكَى أَبُو زَيْدٍ: أَوْقَدَ وَاسْتَوْقَدَ بِمَعْنًى، وَمِثْلُهُ أَجَابَ وَاسْتَجَابَ، وَأَخْلَفَ لِأَهْلِهِ وَاسْتَخْلَفَ أَيْ خَلَّفَ الْمَاءَ، أَوْ لِلطَّلَبِ، جَوَّزَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَكَوْنُهَا بِمَعْنَى أَوْقَدَ، قَوْلُ الْأَخْفَشِ، وَهُوَ أَرْجَحُ لِأَنَّ جَعْلَهَا لِلطَّلَبِ يَقْتَضِي حَذْفَ جُمْلَةٍ حَتَّى يَصِحَّ الْمَعْنَى، وَجَعْلُهَا بِمَعْنَى أَوْقَدَ لَا يَقْتَضِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الطَّلَبِ اسْتَدْعَوْا نَارًا فَأَوْقَدُوهَا، فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، لِأَنَّ الْإِضَاءَةَ لَا تَتَسَبَّبُ عَنِ الطَّلَبِ، إِنَّمَا تَتَسَبَّبُ عَنِ الِاتِّقَادِ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَمْلُهَا عَلَى غَيْرِ الطَّلَبِ أَرْجَحَ، وَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ بَيْنَ قِصَّةٍ وَقِصَّةٍ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي نَحْوِ هَذَا التَّشْبِيهِ إِلَى مُقَابَلَةِ جَمَاعَةٍ بِجَمَاعَةٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «١»، وَعَلَى أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ أَيْضًا؟ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى هُوَ كَمَثَلِ الْجَمْعِ؟ أَوِ الْفَوْجِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، فَهُوَ مِنَ الْمُفْرَدِ اللَّفْظِ الْمَجْمُوعِ الْمَعْنَى. عَلَى أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ تَخَيَّلَ أَنَّهُ مُفْرِدٌ وَرَامَ مُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ، كَمَثَلِ أَصْحَابِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ لِأَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَاهُ مُفْرَدًا لَفْظًا وَمَعْنًى لَمَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّشْبِيهَ إِنَّمَا جَرَى فِي قِصَّةٍ بِقِصَّةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُقَابَلَةُ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَنَكَّرَ نَارًا وَأَفْرَدَهَا،
(١) سورة الجمعة: ٦٢/ ٥.
127
لِأَنَّ مُقَابِلَهَا مِنْ وَصْفِ الْمُنَافِقِ إِنَّمَا هُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالْإِسْلَامِ، وَجَوَانِحُهُ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الْكُفْرِ والنفاق مملوءة بِهِ، فَشَبَّهَ حَالَهُ بِحَالِ مَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا مَا إِذْ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْمُطْلَقِ، لَا عَلَى كَثْرَةٍ وَلَا عَلَى عَهْدٍ، وَالْفَاءُ فِي فَلَمَّا لِلتَّعْقِيبِ، وَهِيَ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ الشَّرْطِ عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا دَخَلَتْ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الصِّلَةُ مِنَ الشَّرْطِ وَقَدَّرَهُ إِنِ اسْتَوْقَدَ فَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا الزَّعْمَ فِي قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَأَضَاءَتْ: قِيلَ مُتَعَدٍّ وَقِيلَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، قَالُوا: وَهُوَ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، فَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَتِ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ، إِذْ يُقَالُ: ضَاءَ الْمَكَانُ، كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فِي النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفْقُ.
وَالْفَاعِلُ إِذْ ذَاكَ ضَمِيرُ النَّارِ وَمَا مَفْعُولَةٌ وَحَوْلَهُ صِلَةٌ مَعْمُولَةٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ لَا نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ وَحَوْلَهُ صِفَةٌ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، أَيْ فَلَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ الْمَكَانَ الَّذِي حَوْلَهُ، وَإِذَا كَانَ لَازِمًا فَقَالُوا: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي أَضَاءَتْ لِلنَّارِ، وَمَا زَائِدَةٌ، وَحَوْلَهُ ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ لَيْسَ ضَمِيرَ النَّارِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَا الْمَوْصُولَةُ وَأُنِّثَ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: فَلَمَّا أَضَاءَتِ الْجِهَةُ الَّتِي حَوْلَهُ، كَمَا أَنَّثُوا عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِمْ: مَا جَاءَتْ حَاجَتُكَ. وَقَدْ أَلَمَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرُوهُ لِأَنَّهُ لَا يُحْفَظُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: جَلَسْتُ مَا مَجْلِسًا حَسَنًا، وَلَا قُمْتُ مَا يَوْمَ الْجُمْعَةَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى مَحْفُوظٌ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ سُمِعَ زِيَادَةً فِي مَا نَحْوَ هَذَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ اطِّرَادِ زِيَادَةِ مَا، وَالْأَوْلَى فِي الْآيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَضَاءَتْ مُتَعَدِّيَةٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ زِيَادَةٍ، وَلَا حَمْلٍ عَلَى الْمَعْنَى.
وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَلَمَّا ضاءت ثُلَاثِيًّا فَيَتَخَرَّجُ عَلَى زِيَادَةِ مَا وَعَلَى أَنْ تَكُونَ هِيَ الْفَاعِلَةُ، إِمَّا مَوْصُولَةً وَإِمَّا مَوْصُوفَةً، كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا جَوَابُهَا: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي: بِنُورِهِمْ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الَّذِي، إِذْ قَرَّرْنَا أَنَّ الْمَعْنَى كَالْجَمْعِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، أَوْ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ كَمَثَلِ أَصْحَابِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ جَوَابَ لَمَّا مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، كَمَا حَذَفُوهُ فِي قَوْلِهِ:
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا «١»، الْآيَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا جَازَ حَذْفُهُ لِاسْتِطَالَةِ الْكَلَامِ مَعَ أَمْنِ الْإِلْبَاسِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: لِاسْتِطَالَةِ الْكَلَامِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ لِأَنَّهُ لم يستطل
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١٥.
128
الْكَلَامَ، لِأَنَّهُ قَدَّرَهُ خُمِدَتْ، وَأَيُّ اسْتِطَالَةٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، خُمِدَتْ؟ بَلْ هَذَا لَمَّا وَجَوَابُهَا، فَلَا اسْتِطَالَةَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ قَدْ طَالَ بِذِكْرِ الْمَعَاطِيفِ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَى الْفِعْلِ وَذِكْرِ مُتَعَلَّقَاتِهَا بَعْدَ الْفِعْلِ الَّذِي يَلِي لَمَّا، فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَذْفُ سَائِغًا لِاسْتِطَالَةِ الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ: مَعَ أَمْنِ الْإِلْبَاسِ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَأَيُّ أَمْنِ إِلْبَاسٍ فِي هَذَا وَلَا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ؟ بَلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ الْكَلَامِ وَصِحَّتُهُ وَوَضْعُهُ مَوَاضِعَهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ هُوَ الْجَوَابُ، فَإِذَا جَعَلْتَ غَيْرَهُ الْجَوَابَ مَعَ قُوَّةِ تَرَتُّبِ ذَهَابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ عَلَى الْإِضَاءَةِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ اللُّغْزِ، إِذْ تَرَكْتَ شَيْئًا يُبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ وَأَضْمَرْتَ شَيْئًا يَحْتَاجُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى وَحْيٍ يُسْفِرُ عَنْهُ، إِذْ لَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ اللَّفْظَ مَعَ وُجُودِ تَرْكِيبِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ.
وَلَمْ يَكْتَفِ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنْ جَوَّزَ حَذْفُ هَذَا الْجَوَابِ حَتَّى ادَّعَى أَنَّ الْحَذْفَ أَوْلَى، قَالَ: وَكَانَ الْحَذْفُ أَوْلَى مِنَ الْإِثْبَاتِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَجَازَةِ مَعَ الْإِعْرَابِ عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي حَصَلَ عَلَيْهَا الْمُسْتَوْقِدُ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ لِلَّفْظِ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ خُمِدَتْ، فَبَقُوا خَابِطِينَ فِي ظَلَامٍ، مُتَحَيِّرِينَ مُتَحَسِّرِينَ عَلَى فَوْتِ الضَّوْءِ، خَائِبِينَ بَعْدَ الْكَدْحِ فِي إِحْيَاءِ النَّارِ، انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ نَوْعٌ مِنَ الْخَطَابَةِ لَا طائل تحتها، لأنه كان يُمْكِنُ لَهُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَلِي قَوْلَهُ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وَأَمَّا مَا فِي كَلَامِهِ بَعْدَ تَقْدِيرِ خُمِدَتْ إِلَى آخِرِهِ، فَهُوَ مِمَّا يُحَمِّلُ اللَّفْظَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَيُقَدِّرُ تَقَادِيرَ وَجُمَلًا مَحْذُوفَةً لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ، وَذَلِكَ عَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَا كَلَامٍ فِي مُعْظَمِ تَفْسِيرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ كَلَامُ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَلَا أَنْ يُزَادَ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ الشَّرْحُ طِبْقَ الْمَشْرُوحِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَلَا نقص منه. ولما جوز واحذف الْجَوَابِ تَكَلَّمُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، فَخَرَّجُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنِفًا جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا بَالُهُمْ قَدْ أَشْبَهَتْ حَالُهُمْ حَالَ هَذَا الْمُسْتَوْقِدِ؟ فَقِيلَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ جَوَابَ لَمًّا مَحْذُوفٌ، وَقَدِ اخْتَرْنَا غَيْرَهُ وَأَنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّخْرِيجَيْنِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرَهُمَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ التَّمْثِيلِ، عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، لَا يَظْهَرُ فِي صِحَّتِهِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ التَّمْثِيلِ هِيَ قَوْلُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعْلُهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بَدَلًا مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ، لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَكُونُ فِي الْجُمَلِ
129
إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فَعِلْيَةً تُبْدَلُ مِنْ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، فَقَدْ ذَكَرُوا جَوَازَ. ذَلِكَ. أَمَّا أَنْ تُبْدَلَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مِنْ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَ ذَلِكَ، وَالْبَدَلُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ.
وَالْجُمْلَةُ الْأُولَى لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، إِذْ لَا عَامِلَ فِي الْأُولَى فَتُكَرَّرُ فِي الثَّانِيَةِ فبطلت جهة البدء فِيهَا، وَمَنْ جَعَلَ الْجَوَابَ مَحْذُوفًا جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي بِنُورِهِمْ عَائِدًا عَلَى الْمُنَافِقِينَ. وَالْبَاءَ فِي بِنُورِهِمْ لِلتَّعْدِيَةِ، وَهِيَ إِحْدَى الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ الَّتِي تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَاءَ تَجِيءُ لَهَا، وَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ النَّحْوِيِّينَ تُرَادِفُ الْهَمْزَةَ. فَإِذَا قُلْتَ: خَرَجْتُ بِزَيْدٍ فَمَعْنَاهُ أَخْرَجْتُ زَيْدًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ خَرَجْتَ، وَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قُمْتُ بِزَيْدٍ، دَلَّ عَلَى أَنَّكَ قُمْتَ وَأَقَمْتَهُ، وَإِذَا قُلْتَ: أَقَمْتُ زَيْدًا، لَمْ يَلْزَمْ أَنَّكَ قُمْتَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ فِي التَّعْدِيَةِ. وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ ذَهَبَ السُّهَيْلِيُّ، قَالَ: تَدْخُلُ الْبَاءُ، يَعْنِي الْمُعَدِّيَةَ، حَيْثُ تَكُونُ مِنَ الْفَاعِلِ بَعْضُ مُشَارَكَةٍ لِلْمَفْعُولِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ نَحْوَ: أَقْعَدْتُهُ، وَقَعَدْتُ بِهِ، وَأَدْخَلْتُهُ الدَّارَ، وَدَخَلْتُ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا فِي مِثْلِ: أَمْرَضْتُهُ، وَأَسْقَمْتُهُ. فَلَا بُدَّ إِذَنْ مِنْ مُشَارَكَةٍ، وَلَوْ بِالْيَدِ، إِذَا قُلْتَ: قَعَدْتُ بِهِ، وَدَخَلْتُ بِهِ. وَرُدَّ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُوصَفُ بِالذَّهَابِ مَعَ النُّورِ؟ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَبَا الْعَبَّاسِ: إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالذَّهَابِ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِهِ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بِالْمَجِيءِ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ «١»، وَالَّذِي يُفْسِدُ مَذْهَبَ أَبِي الْعَبَّاسِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
دِيَارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنًى تَحِلُّ بِنَا لَوْلَا نِجَاءُ الرَّكَائِبِ
أَيْ تَحُلُّنَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى تُصَيِّرُنَا حَلَالًا غَيْرَ مُحْرِمِينَ، وَلَيْسَتْ تَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَرَامًا، فَتَصِيرُ حَلَالًا بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَلِكَوْنِ الْبَاءِ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُقَالُ: أَذْهَبْتُ بِزَيْدٍ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «٢»، فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ رُبَاعِيًّا تَخْرِيجٌ يُذْكَرُ فِي مَكَانِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِبَاءِ التَّعْدِيَةِ أَحْكَامٌ غَيْرُ هَذَا ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: أَذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادَفَةِ الْبَاءِ لِلْهَمْزَةِ، وَنِسْبَةُ الْإِذْهَابِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةٌ، إِذْ هُوَ فَاعِلُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَفِي مَعْنَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مثل ضرب
(١) سورة الفجر: ٨٩/ ٢٢.
(٢) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٢٠.
130
لِلْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ، فَنَاكَحَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَوَارَثُوهُمْ وَقَاسَمُوهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ الْعِزَّ، كَمَا سَلَبَ مُوقِدَ النَّارِ ضَوْءَهُ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ، أَيْ فِي عَذَابٍ.
الثَّانِي: إِنَّ ذَهَابَ نُورِهِمْ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَقَدْ ذَهَبَ مِنْهُمْ نُورُ الْإِسْلَامِ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ كُفْرِهِمْ. الثَّالِثُ: أَبْطَلَ نُورَهُمْ عِنْدَهُ، إِذْ قُلُوبُهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرُوا، فَهُمْ كَرَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا ثُمَّ طُفِئَتْ فَعَادَ فِي ظُلْمَةٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي بنورهم عائدا عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ عَادَ عَلَى الْمُسْتَوْقِدِينَ، فَذَهَابُ النُّورِ هُوَ إِطْفَاءُ النَّارِ الَّتِي أَوْقَدُوهَا، وَيَكُونُ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ فِعْلٌ، فَلِذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ: لَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا رِيحًا عَاصِفًا فَأَطْفَأَهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَأْتِي عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنها نَارٌ حَقِيقَةٌ أَوْقَدَهَا أَهْلُ الْفَسَادِ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا وَبِنُورِهَا إِلَى فَسَادِهِمْ وَعَبَثِهِمْ، فَأَخْمَدَ اللَّهُ نَارَهُمْ وَأَضَلَّ سَعْيَهُمْ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ ذِكْرَ النَّارِ هُنَا مَثَلٌ لَا حَقِيقَةٌ لَهَا، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَارُ الْعَدَاوَةِ وَالْحِقْدِ، فَإِذْهَابُ اللَّهِ لَهَا دَفْعُ ضَرَرِهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِذَا كَانَتِ النَّارُ مَجَازِيَّةً، فَوَصْفُهَا بِالْإِضَاءَةِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ هُوَ مِنْ مَجَازِ التَّرْشِيحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَإِذْهَابُ النُّورِ أَبْلَغُ مِنْ إِذْهَابِ الضَّوْءِ لِانْدِرَاجِ الْأَخَصِّ فِي نَفْيِ الْأَعَمِّ، لَا الْعَكْسِ. فَلَوْ أَتَى بِضَوْئِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ ذَهَابُ النُّورِ.
وَالْمَقْصُودُ إِذْهَابُ النُّورِ عَنْهُمْ أَصْلًا، أَلَا تَرَى كَيْفَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ؟
وَإِضَافَةُ النُّورِ إِلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، إِذْ إِضَافَتُهُ إِلَى النَّارِ هُوَ الْحَقِيقَةُ، لَكِنْ مِمَّا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ صَحَّ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ظُلُمَاتٍ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو السَّمَّاكِ: بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: بِفَتْحِهَا. وَهَذِهِ اللُّغَى الثَّلَاثُ جَائِزَةٌ فِي جَمْعِ فُعْلَةٍ الِاسْمُ الصَّحِيحُ الْعَيْنِ، غَيْرُ الْمُضَعَّفِ، وَلَا الْمُعَلِّ اللَّامِ بِالتَّاءِ. فَإِنِ اعْتُلَتْ بِالْيَاءِ نَحْوَ: كُلِّيَّةٍ، امْتَنَعَتِ الضَّمَّةُ، أَوْ كَانَ مُضَعَّفًا نَحْوَ: دُرَّةٍ، أَوْ مُعْتَلَّ الْعَيْنِ نَحْوَ: سُورَةٍ، أَوْ وَصْفًا نَحْوَ: بُهْمَةٍ امْتَنَعَتِ الْفَتْحَةُ وَالضَّمَّةُ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: إِنَّ ظُلَمَاتٍ، بِفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ ظُلَمٍ، الَّذِي هُوَ جَمْعُ ظُلْمَةٍ. فَظُلُمَاتٌ عَلَى هَذَا جَمْعُ جَمْعٍ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْفَتْحِ تَخْفِيفًا أَسْهَلُ مِنِ ادِّعَاءِ جَمْعِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْعُدُولَ إِلَيْهِ قَدْ جَاءَ فِي نَحْوِ: كِسْرَاتٍ جَمْعُ كِسْرَةٍ جَوَازًا، وَإِلَيْهِ فِي نَحْوِ: جَفْنَةٍ وُجُوبًا.
وَفُعْلَةُ وَفِعْلَةُ أَخَوَاتٌ، وَقَدْ سُمِعَ فِيهَا الْفَتْحُ بِالْقُيُودِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: فِي ظُلْمَةٍ، عَلَى التَّوْحِيدِ لِيُطَابِقَ بَيْنَ إِفْرَادِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَقِرَاءَةِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ ظُلْمَةٌ تَخُصُّهُ، فَجُمِعَتْ لِذَلِكَ. وَحَيْثُ وَقَعَ ذِكْرُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ عَلَى هَذَا الْمَنْزَعِ مِنْ إِفْرَادِ النُّورِ وَجَمْعِ
131
الظُّلُمَاتِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَنُكِّرَتِ الظُّلُمَاتُ وَلَمْ تُضَفْ إلى ضميرهم كَمَا أُضِيفَ النُّورُ اكْتِفَاءً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ إِضَافَتِهَا إِلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَاخْتِصَارِ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَ مُتَعَدِّيًا لِوَاحِدٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: فِي ظُلُمَاتٍ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَلَا يُبْصِرُونَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا، إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَرْكِهِمْ وَإِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْمَجْرُورِ فَيَكُونُ حَالًا مُتَدَاخِلَةً، وَهِيَ فِي التَّقْدِيرَيْنِ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تُرِكَ فِي ظُلْمَةٍ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُبْصِرُ؟ وَإِنْ كَانَ تَرَكَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ كَانَ فِي ظُلُمَاتٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَلَا يُبْصِرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ؟ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي ظُلُمَاتٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَا يُبْصِرُونَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ ظَنَنْتُ زَيْدًا مُنْفَرِدًا لَا يَخَافُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ ظَنَنْتُ زَيْدًا فِي حَالِ انْفِرَادِهِ لَا يَخَافُ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثاني أصله خبر الْمُبْتَدَأِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَأْتِي الْخَبَرُ عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ، إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا الْأَخْبَارِ. فَإِذَا جَعَلْتَ فِي ظُلُمَاتٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَانَ قَدْ فُهِمَ مِنْهَا أَنَّ مَنْ هُوَ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُ، فَلَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ لَا يُبْصِرُونَ مِنَ الْفَائِدَةِ إِلَّا التَّوْكِيدُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَخْبَارِ. أَلَا تَرَى إِلَى تَخْرِيجِ النَّحْوِيِّينَ قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
عَلَى أَنَّ وَشِقٌّ مُبْتَدَأٌ وَعِنْدَنَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَمْ يُحَوَّلْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَفَادَتِ التَّأْكِيدَ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى مَجِيءِ الْخَبَرِ مُؤَكَّدًا، لِأَنَّ نَفْيَ التَّحْوِيلِ مَفْهُومٌ مِنْ كَوْنِ الشِّقِّ عِنْدَهُ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُحَوَّلْ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالظُّلُمَاتُ هُنَا الْعَذَابُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ظُلْمَةُ الْكُفْرِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ظُلْمَةٌ يُلْقِيهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: ظُلْمَةُ النِّفَاقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَفْعُولَ لَا يُبْصِرُونَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْوَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْإِبْصَارِ عَنْهُمْ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، بِالرَّفْعِ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ هُمْ صُمٌّ، وَهِيَ أَخْبَارٌ مُتَبَايِنَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالدَّلَالَةِ الْوَضْعِيَّةِ، لَكِنَّهَا فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ واحد، إذ يؤول مَعْنَاهَا كُلُّهَا إِلَى عَدَمِ قَبُولِهِمُ الْحَقَّ وَهُمْ سُمَعَاءُ الْآذَانِ، فُصَّحُ الْأَلْسُنِ، بُصَرَاءُ الْأَعْيُنِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَصِيخُوا إِلَى الْحَقِّ وَلَا نَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ، وَلَا تَلَمَّحُوا أَنْوَارَ الْهِدَايَةِ، وُصِفُوا بِمَا وُصِفُوا مِنَ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى، وَقَدْ سُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ لِهَذَا نَظَائِرُ، أَنْشَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ ذَلِكَ أَبْيَاتًا، وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ:
132
أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ
وَأَصُمُّ عَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا أُذُنِي وَمَا فِي سَمْعِهَا وَقْرُ
وَهَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالِاسْتِعَارَةُ إِنَّمَا تُطْلَقُ حَيْثُ يُطْوَى ذِكْرُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خُلُوًّا عَنْهُ، صَالِحًا لِأَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ لَوْلَا دَلَالَةُ الْحَالِ أَوْ فَحْوَى الْكَلَامِ، كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ هُنَاكَ لِذِكْرِهِ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، إِذْ هُوَ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى هُوَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ قَبُولِهِمُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ التَّصَامُمَ وَالتَّبَاكُمَ وَالتَّعَامِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَنَبَّهَ عَلَى سُوءِ اعْتِمَادِهِمْ وَفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ. وَالْعَرَبُ إِذَا سَمِعَتْ مَا لَا تُحِبُّ، أَوْ رَأَتْ مَا لَا يُعْجِبُ، طَرَحُوا ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوهُ وَلَا رَأَوْهُ. قَالَ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً «١»، وَقَالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ «٢» الْآيَةَ.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي ذَمِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْجَهْلِ وَالْبَلَادَةِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْبَهَائِمِ وَأَشْبَهُ حَالًا مِنَ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تُبْصِرُ. فَمَنْ عُدِمَ هَذِهِ الْمَدَارِكَ الثَّلَاثَةَ كَانَ مِنَ الذَّمِّ فِي الرُّتْبَةِ الْقُصْوَى، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، الْمُبَالَغَةَ فِي ذَمِّ آلِهَةِ أَبِيهِ قَالَ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
«٣» ؟ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الدُّعَاءُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ: دُعَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَعَاطِيهِمْ ذَلِكَ، فَحَقَّقَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا «٤». وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا، بِالنَّصْبِ، وَذَكَرُوا فِي نَصْبِهِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مفعولا. ثانيا لترك، وَيَكُونَ فِي ظُلُمَاتٍ مُتَعَلِّقًا بتركهم، أو في موضع
(١) سورة لقمان: ٣١/ ٧.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٥.
(٣) سورة مريم: ١٩/ ٤٢.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٧. [.....]
133
الحال، ولا يُبْصِرُونَ. حَالٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ فِي تَرَكَهُمْ، عَلَى أَنْ تَكُونَ لَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، أَوْ تَكُونَ تَعَدَّتْ إِلَيْهِمَا وَقَدْ أَخَذَتْهُمَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَعْنِي. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُبْصِرُونَ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الذَّمِّ، صُمًّا بُكْمًا، فَيَكُونَ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
أَقَارِعُ عَوْفٍ لَا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا وُجُوهُ قُرُودٍ تَبْتَغِي من تخادع
وَفِي الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ، إِذْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ فِي الْعَمَلِ بِمَا قَبْلَهَا، وَمَا قَبْلَهَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُسْتَوْقِدِينَ، إِلَّا إِنْ جُعِلَ الْكَلَامُ فِي حَالِ الْمُسْتَوْقِدِ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، وَكَانَ الضَّمِيرُ فِي نُورِهِمْ يَعُودُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَإِذْ ذَاكَ تَكُونُ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ لَهُمْ. وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ فَيَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهَا حَالَةُ الرَّفْعِ مِنْ أَوْصَافِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّقْدِيرَ هُمْ صُمٌّ، أَيِ الْمُنَافِقُونَ؟ فَكَذَلِكَ فِي النَّصْبِ. وَنَصَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ضعف النصب على الذم، وَلَمْ يُبَيِّنْ جِهَةَ الضَّعْفِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ النَّصْبَ عَلَى الذَّمِّ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يُذْكَرُ الِاسْمُ السَّابِقُ فَتَعْدِلُ عَنِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْإِعْرَابِ إِلَى الْقَطْعِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمِ اسْمٌ سَابِقٌ تَكُونُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ مُوَافِقَةً لَهُ فِي الْإِعْرَابِ فَتُقْطَعُ، فَمِنْ أَجْلِ هَذَا ضَعُفَ النَّصْبُ عَلَى الذَّمِّ. فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ: جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ، وَهِيَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَمُتَعَقِّبَتُهَا، لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ، الَّتِي هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ الْحَقِّ، جَدِيرٌ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى إِيمَانٍ. فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ فِي معنيين، فَذَلِكَ وَاضِحٌ، لِأَنَّ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِيمَانِ لا يرجع إليه أَبَدًا، وَإِنْ كَانَتْ فِي غير معنيين فَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالدَّيْمُومَةِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَا. قَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ: لَا يَرْجِعُونَ عَنْ ضَلَالِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى، وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَنِ التَّمَسُّكِ بِالنِّفَاقِ، وَقِيلَ: إِلَى الْهُدَى بَعْدَ أَنْ بَاعُوهُ، أَوْ عَنِ الضَّلَالَةِ بَعْدَ أَنِ اشْتَرَوْهَا، وَأَسْنَدَ عَدَمَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ تَعَالَى لَهُمْ عُقُولًا لِلْهِدَايَةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَعَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَالْجَرْيِ عَلَى مَأْلُوفِ آبَائِهِمْ، كَانَ عَدَمُ الرُّجُوعِ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ اخْتِرَاعًا وَإِلَى الْعَبْدِ لِمُلَابَسَتِهِ لَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، فَأَضَافَ هَذِهِ
134
الأوصاف الذميمة إلى ملابسها وَقَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ «١»، فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْمُوجِدِ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ كُلُّهَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لَازِمًا، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ فَهُمْ لَا يرجعون جوابا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ أَوْ، لَهَا خَمْسَةُ مَعَانٍ: الشَّكُّ، وَالْإِبْهَامُ، وَالتَّخْيِيرُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَالتَّفْصِيلُ. وَزَادَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَبِمَعْنَى بَلْ، وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّائِغِ يَقُولُ: أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ:
أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَلِذَلِكَ وَقَعَتْ فِي الْخَبَرِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّكَّ تَرَدُّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، لَا أَنَّهَا وُضِعَتْ لِلشَّكِّ، فَقَدْ تَكُونُ فِي الْخَبَرِ، وَلَا شَكَّ إِذَا أُبْهِمَتْ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَأَمَّا الَّتِي لِلتَّخْيِيرِ فعلى أصلها لأن المخبر إِنَّمَا يُرِيدُ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ، وَأَمَّا الَّتِي زَعَمُوا أَنَّهَا لِلْإِبَاحَةِ فَلَمْ تُؤْخَذِ الْإِبَاحَةُ مِنْ لَفْظِ أَوْ وَلَا مِنْ مَعْنَاهَا، إِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ لِغَلَبَةِ الْعَادَةِ فِي أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ لَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُبَاحَيْنِ لَمْ يَعْصِ، عِلْمًا بِأَنَّ أَوْ لَيْسَتْ مُعْتَمَدَةً هُنَا. الصَّيِّبُ: الْمَطَرُ، يُقَالُ: صَابَ يَصُوبُ فَهُوَ صَيِّبٌ إِذَا نَزَلَ وَالسَّحَابُ أَيْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى عَفَاهَا صَيِّبُ وَدْقِهِ دَانِي النَّوَاحِي مُسْبِلُ هَاطِلُ
وَقَالَ الشَّمَّاخُ:
وَأَشْحَمَ دَانٍ صَادِقَ الرَّعْدِ صَيِّبُ وَوَزْنُ صَيِّبٍ فَيْعِلٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ مِنَ الْأَوْزَانِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمُعْتَلِّ الْعَيْنِ، إِلَّا مَا شَذَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَيْقِلٌ بِكَسْرِ الْقَافِ عَلَمٌ لِامْرَأَةٍ، وَلَيْسَ وَزْنُهُ فَعِيلًا، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ. وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ لِلْكُوفِيِّينَ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَخْفِيفِ مِثْلِ هَذَا. السَّمَاءُ: كُلُّ مَا عَلَاكَ مِنْ سَقْفٍ وَنَحْوِهِ، وَالسَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ ذَاتُ الْبُرُوجِ،
(١) سورة محمد: ٤٧/ ٢٣.
135
وَأَصْلُهَا الْوَاوُ لِأَنَّهَا مِنَ السُّمُوِّ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُفْرَدِ تَاءُ تَأْنِيثٍ. قَالُوا: سَمَاوَةٌ، وَتَصِحُّ الْوَاوُ إِذْ ذَاكَ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْكَلِمَةُ، قَالَ الْعَجَّاجُ:
طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا سَمَاوَةَ الْهِلَالِ حَتَّى احْقَوْقَفَا
وَالسَّمَاءُ مُؤَنَّثٌ، وَقَدْ يُذَكَّرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إِلَيْهِ قَوْمًا لَحِقْنَا بِالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ
وَالْجِنْسُ الَّذِي مُيِّزَ وَاحِدُهُ بِتَاءٍ، يُؤَنِّثُهُ الْحِجَازِيُّونَ، وَيُذَكِّرُهُ التَّمِيمِيُّونَ وَأَهْلُ نَجْدٍ، وَجَمْعُهُمْ لها على سموات، وعلى اسمية، وعلى سماء. قَالَ: فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِنَا شَاذٌّ لِأَنَّهُ، أَوَّلًا: اسْمُ جِنْسٍ فَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يُجْمَعَ، وَثَانِيًا: فَجَمْعُهُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لَيْسَ فِيهِ شَرْطُ مَا يُجْمَعُ بِهِمَا قِيَاسًا، وَجَمْعُهُ عَلَى أَفْعِلَةٍ لَيْسَ مِمَّا يَنْقَاسُ فِي الْمُؤَنَّثِ، وَعَلَى فَعَائِلَ لَا يَنْقَاسُ فِي فِعَالٍ.
الرَّعْدُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، وَعِكْرِمَةُ: الرَّعْدُ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ بِهَذَا الصَّوْتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلَّمَا خَالَفَتْ سَحَابَةٌ صَاحَ بِهَا، وَالرَّعْدُ اسْمُهُ. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَالْخَلِيلُ: صَوْتُ مَلَكٍ يَزْجُرُ السَّحَابَ. وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْضًا صَوْتُ مَلِكٍ يَسْبَحُ، وَقِيلَ: رِيحٌ تَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رِيحٌ تَخْتَنِقُ بَيْنَ السَّحَابِ فَتُصَوِّتُ ذَلِكَ الصَّوْتَ، وَقِيلَ: اصْطِكَاكُ الْأَجْرَامِ السَّحَابِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ: أَنَّهُ اسْمُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ، وَقَالَهُ عَلِيٌّ، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَلَكٌ، وَالْمَسْمُوعُ صَوْتُهُ يُسَبِّحُ وَيَزْجُرُ السَّحَابَ، وَقِيلَ: الرَّعْدُ صَوْتُ تَحْرِيكِ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِزَجْرِ السَّحَابِ. وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ، الثَّانِي: أَنَّهُ صَوتٌ.
قَالُوا: وَسُمِّيَ هَذَا الصَّوْتُ رَعْدًا لِأَنَّهُ يُرْعِدُ سَامِعَهُ، وَمِنْهُ رَعَدَتِ الْفَرَائِصُ، أَيْ حُرِّكَتْ وَهُزَّتْ كَمَا تَهُزُّهُ الرِّعْدَةُ. وَاتَّسَعَ فِيهِ فَقِيلَ: أَرْعَدَ، أَيْ هَدَّدَ وَأَوْعَدَ لأنه ينشأ عن الإيعاد.
وَالتَّهَدُّدِ: ارْتِعَادُ الْمُوعَدِ وَالْمُهَدَّدِ.
الْبَرْقُ: مِخْرَافٌ حَدِيدٌ بِيَدِ الْمَلَكِ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ، قَالَهُ عَلِيٌّ
، أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ بِذَلِكَ الْمِخْرَافِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَوْ سَوْطُ نُورٍ بِيَدِ الْمَلَكِ يَزْجُرُهَا بِهِ
، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ ضَرْبُ ذَلِكَ السَّوْطِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَعَزَاهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَوْ مَلَكٌ يَتَرَاءَى. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوِ الْمَاءُ، قَالَهُ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو الْجَلَد جِيلَانُ بْنُ فَرْوَةَ الْبَصْرِيُّ،
136
أَوْ تَلَأْلُؤُ الْمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ، أَوْ نَارٌ تَنْقَدِحُ مِنِ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ.
وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنَ اللُّغَةِ: أَنَّ الرَّعْدَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا الصَّوْتِ الْمُزْعِجِ الْمَسْمُوعِ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، وَأَنَّ الْبَرْقَ هُوَ الْجِرْمُ اللَّطِيفُ النُّورَانِيُّ الَّذِي يُشَاهَدُ وَلَا يَثْبُتُ.
يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ جَعَلَ: يَكُونُ بِمَعْنَى خَلَقَ أَوْ بِمَعْنَى أَلْقَى فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَبِمَعْنَى صَيَّرَ أَوْ سَمَّى فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَلِلشُّرُوعِ فِي الْفِعْلِ فَتَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَابِهَا. الْأُصْبُعُ: مَدْلُولُهَا مَفْهُومٌ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَذَكَرُوا فِيهَا تِسْعَ لُغَاتٍ وَهِيَ:
الْفَتْحُ لِلْهَمْزَةِ، وَضَمُّهَا، وَكَسْرُهَا مَعَ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ لِلْبَاءِ. وَحَكَوْا عَاشِرَةً وَهِيَ: أُصْبُوعٌ، بِضَمِّهَا، وَبَعْدَ الْبَاءِ وَاوٌ. وَجَمِيعُ أَسْمَاءِ الْأَصَابِعِ مُؤَنَّثَةٌ إِلَّا الْإِبْهَامَ، فَإِنَّ بَعْضَ بَنِي أَسَدٍ يَقُولُونَ: هَذَا إِبْهَامٌ، وَالتَّأْنِيثُ أَجْوَدُ، وَعَلَيْهِ الْعَرَبُ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ. الْأُذُنُ: مَدْلُولُهَا مَفْهُومٌ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، كَذَلِكَ تَلْحَقُهَا التَّاءُ فِي التَّصْغِيرِ قَالُوا: أُذَيْنَةٌ، وَلَا تَلْحَقُ فِي الْعَدَدِ، قَالُوا: ثَلَاثُ آذَانٍ، قَالَ أَبُو ثَرْوَانَ فِي أُحْجِيَّةٍ لَهُ:
مَا ذُو ثَلَاثِ آذَانٍ يَسْبِقُ الْخَيْلَ بِالرَّدَيَانِ
يريد السهم وآذانه وقدده. الصَّاعِقَةُ: الْوَقْعَةُ الشَّدِيدَةُ مِنْ صَوْتِ الرَّعْدِ مَعَهَا قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ تَسْقُطُ مَعَ صَوْتِ الرَّعْدِ، قَالُوا: تَنْقَدِحُ مِنَ السَّحَابِ إِذَا اصْطَكَّتْ أَجْرَامُهُ، وَهِيَ نَارٌ لَطِيفَةٌ حَدِيدَةٌ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا أَتَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ مَعَ حِدَّتِهَا سَرِيعَةُ الْخُمُودِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ. قَالَ لَبِيدٌ يَرْثِي أَخَاهُ أَرْبَدَ، وَكَانَ مِمَّنْ أَحْرَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ:
فَجَعَنِي الْبَرْقُ والصواعق بالفارس يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النَّجِدِ وَيُشَبِّهُ بِالْمَقْتُولِ بِهَا مَنْ مَاتَ سَرِيعًا، قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
وَرَوَى الْخَلِيلُ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ: السَّاعِقَةُ بِالسِّينِ، وَقَالَ النَّقَّاشُ: صَاعِقَةٌ وَصَعْقَةٌ وَصَاقِعَةٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الصَّاقِعَةُ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمُجْرِمِينَ أَصَابَهُمْ صَوَاقِعَ لَا بَلْ هُنَّ فَوْقَ الصَّوَاقِعِ
وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ:
137
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لُغَةً، وَقَدْ حَكَوْا تَصْرِيفَ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، وَنُقِلَ الْقَلْبُ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَيُقَالُ: صَعَقَتْهُ وَأَصْعَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ، إِذَا أَهْلَكَتْهُ، فَصُعِقَ: أَيْ هَلَكَ. وَالصَّاعِقَةُ أَيْضًا الْعَذَابُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَالصَّاعِقَةُ وَالصَّاقِعَةُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِصَوْتِ الرَّعْدِ أَوْ لِلرَّعْدِ، فَتَكُونُ التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: رَاوِيَةٌ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا، كَمَا قَالُوا فِي الْكَاذِبَةِ. الْحَذَرُ، وَالْفَزَعُ، وَالْفَرَقُ، وَالْجَزَعُ، وَالْخَوْفُ: نَظَائِرُ الْمَوْتِ، عَرْضٌ يَعْقُبُ الْحَيَاةَ. وَقِيلَ: فَسَادُ بِنْيَةِ الْحَيَوَانِ، وَقِيلَ: زَوَالُ الْحَيَاةِ. الْإِحَاطَةُ: حَصْرُ الشَّيْءِ بِالْمَنْعِ لَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَالثُّلَاثِيُّ مِنْهُ مُتَعَدٍّ، قَالُوا: حَاطَهُ، يُحُوطُهُ، حَوْطًا.
أَوْ كَصَيِّبٍ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، وَحَذْفُ مُضَافَانِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: أَوْ: كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «١»، أَيْ كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ. وَأَوْ هُنَا لِلتَّفْصِيلِ، وَكَانَ مَنْ نَظَرَ فِي حَالِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ يُشَبِّهُهُ بِحَالِ الْمُسْتَوْقِدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَبِّهُهُ بِحَالِ ذَوِي صَيِّبٍ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى كَوْنِ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ. وَأَنَّ الْمَعْنَى أَيُّهُمَا شِئْتَ مَثِّلْهُمْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَلَا إِلَى أَنَّ أَوْ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَا إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ هُنَا. وَلَا إِلَى كَوْنِ أَوْ لِلشَّكِّ بِالنِّسْبَةِ للمتخاطبين، إِذْ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا إِلَى كَوْنِهَا بِمَعْنَى بَلْ، وَلَا إِلَى كَوْنِهَا لِلْإِبْهَامِ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَالْإِبَاحَةَ إِنَّمَا يَكُونَانِ فِي الْأَمْرِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ صِرْفٌ. وَلِأَنَّ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ بِمَعْنَى بَلْ، لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مُثْبِتُ ذَلِكَ مُؤَوَّلٌ، وَلِأَنَّ الشَّكَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، أَوِ الْإِبْهَامَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ لَا مَعْنًى لَهُ هُنَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى الظَّاهِرُ فِيهَا كَوْنُهَا لِلتَّفْصِيلِ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ الثَّانِي أَتَى كَاشِفًا لِحَالِهِمْ بَعْدَ كَشْفِ الْأَوَّلِ. وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ التَّفْصِيلَ وَالْإِسْهَابَ بِحَالِ الْمُنَافِقِ، وَشَبَّهَهَ فِي التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ بِمُسْتَوْقِدِ النَّارِ، وَإِظْهَارُهُ الْإِيمَانُ بِالْإِضَاءَةِ، وَانْقِطَاعُ جَدْوَاهُ بِذَهَابِ النُّورِ. وَشَبَّهَ فِي الثَّانِي دِينَ الْإِسْلَامِ بِالصَّيِّبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، وَمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْإِفْزَاعِ وَالْفِتَنِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّوَاعِقِ، وَكِلَا التَّمْثِيلَيْنِ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُفَرَّقَةُ، كَمَا شَرَحْنَاهُ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ دُونَ الْمُفَرَّقَةِ، فَلَا تَتَكَلَّفُ مُقَابَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى التَّمْثِيلِ الْأَوَّلِ، فَوَصَفَ وُقُوعَ الْمُنَافِقِينَ فِي ضَلَالَتِهِمْ وما حبطوا فِيهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ بِمَا يُكَابِدُ مَنْ طُفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا فِي
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ١٩.
138
ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَبِحَالِ مَنْ أَخَذَتْهُ السَّمَاءُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مَعَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ وَخَوْفٍ مِنَ الصَّوَاعِقِ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي يَجْعَلُونَ. وَالتَّمْثِيلُ الثَّانِي أَبْلَغُ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ وَشِدَّةِ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ أَخَّرَ فَصَارَ ارْتِقَاءً مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ. وَقَدْ رَامَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ تَرَتُّبَ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَمُوَازَنَتَهَا فِي الْمَثَلِ مِنَ الصَّيِّبِ وَالظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ، فَقَالَ: مَثَّلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِالصَّيِّبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَشْكَالِ، وَعَمَّا هُمْ بِالظُّلُمَاتِ وَالْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ بِالرَّعْدِ وَالنُّورِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي تَكَادُ أَحْيَانًا أَنْ تُبْهِرَهُمْ بِالْبَرْقِ وَتُخَوِّفَهُمْ بِجَعْلِ أَصَابِعِهِمْ، وَفَضْحِ نِفَاقِهِمْ وَتَكَالِيفِ الشَّرْعِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا مِنَ الْجِهَادِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا بِالصَّوَاعِقِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ التَّمْثِيلِ الْمُفَرَّقِ الَّذِي يُقَابِلُ مِنْهُ شَيْءٌ شَيْئًا مِنَ الْمُمَثَّلِ، وَسَتَأْتِي بَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وقرىء: أَوْ كَصَايِبٍ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ صَابَ يَصُوبُ وَصَيِّبٌ، أَبْلَغُ مِنْ صَايِبٍ، وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا مَوْضِعُهُ رَفْعٌ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إِذَا قُلْنَا لَيْسَتْ جَوَابٌ لِمَا جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ فُصِلَ بِهَا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ إِذَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ الْجُمْلَتَانِ جُمْلَتَيِ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
يُحِلُّونَ بِالْمَقْصُورَةِ الْقَوَاطِعَ تَشَقُّقُ الْبُرُوقِ بِالصَّوَاقِعِ
لَعَمْرُكَ وَالْخُطُوبُ مُغِيرَاتٌ وَفِي طُولِ الْمُعَاشَرَةِ التَّقَالِي
لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمِّ أَوْفَى وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لَا تُبَالِي
فَفَصْلَ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ بِجُمْلَتَيِ الِاعْتِرَاضِ. مِنَ السَّمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِصَيِّبٍ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَمِنْ فِيهِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتُعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، وتكون من إذ ذاك لِلتَّبْعِيضِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ، أَوْ كَمَطَرٍ صَيِّبٍ مِنْ أَمْطَارِ السَّمَاءِ، وَأَتَى بِالسَّمَاءِ مَعْرِفَةً إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذَا الصَّيِّبَ نَازِلٌ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ، فَهُوَ مُطَبَّقٌ عَامٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ السَّحَابَ مِنَ السَّمَاءِ يَنْحَدِرُ، وَمِنْهَا يَأْخُذُ مَاءَهُ، لَا كَزَعْمِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبَحْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ «١» انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْشَأَ الْمَطَرِ مِنَ الْبَحْرِ، إِنَّمَا تَدُلُّ الْآيَتَانِ عَلَى أَنَّ الْمَطَرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ تَنَافٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَطَرُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ مَنْشَأَهُ مِنَ الْبَحْرِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّحَابَ بَنَاتُ بَحْرٍ، يَعْنِي أَنَّهَا تَنْشَأُ مِنَ البحار، قال طرفة:
(١) سورة النور: ٢٤/ ٤٣.
139
لَا تَلُمْنِي إِنَّهَا مِنْ نِسْوَةٍ رُقَّدِ الصَّيْفِ مَقَالِيتٍ نُزَرْ
كَبَنَاتِ الْبَحْرِ يَمْأَدَنَّ كَمَا أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ الْخُضَرْ
وَقَدْ أَبْدَلُوا الْبَاءَ مِيمًا فَقَالُوا: بَنَاتُ الْمَحْرِ، كَمَا قَالُوا: رَأَيْتُهُ مِنْ كَثَبٍ وَمِنْ كَثَمٍ.
وَظُلُمَاتٌ: مُرْتَفِعٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ إِذَا وَقَعَ صِفَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِيهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ الْمُخَصَّصَةِ بِقَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ، إِمَّا تَخْصِيصُ الْعَمَلِ، وَإِمَّا تَخْصِيصُ الصِّفَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي إِعْرَابِ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ ظُلُمَاتٌ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْجُمَلِ، كَانَ الْأَوْلَى جَعْلَهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ وَجَمْعَ الظُّلُمَاتِ، لِأَنَّهُ حَصَلَتْ أَنْوَاعٌ مِنَ الظُّلْمَةِ. فَإِنْ كَانَ الصَّيِّبُ هُوَ الْمَطَرُ، فَظُلُمَاتُهُ ظُلْمَةُ تَكَاثُفِهِ وَانْتِسَاجِهِ وَتَتَابُعِ قَطْرِهِ، وَظُلْمَةُ:
ظِلَالِ غَمَامِهِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَإِنْ كَانَ الصَّيِّبُ هُوَ السَّحَابُ، فَظُلْمَةُ سَجْمَتِهِ وَظُلْمَةُ تَطْبِيقِهِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الصَّيِّبِ، فَإِذَا فُسِّرَ بالمطر، فكان ذَلِكَ السَّحَابُ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ مُلْتَبِسَيْنِ بِالْمَطَرِ جُعِلَا فِيهِ عَلَى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ، وَلَمْ يُجْمَعِ الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جُمِعَتْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمَصْدَرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِرْعَادٌ وَإِبْرَاقٌ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَيْنَانِ فَلِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مَصْدَرَيْنِ فِي الْأَصْلِ، إِذْ يُقَالُ:
رَعَدَتِ السَّمَاءُ رَعْدًا وَبَرَقَتْ بَرْقًا، رُوعِيَ حُكْمُ أَصْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ، كَمَا قَالُوا: رَجُلٌ خَصْمٌ، وَنُكِّرَتْ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ الْعُمُومَ، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ اشْتِمَالُ الصَّيِّبِ عَلَى ظُلُمَاتٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ.
وَالضَّمِيرُ فِي يَجْعَلُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا حُذِفَ، فَتَارَةً يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مَلْفُوظٌ بِهِ فَتَعُودُ الضَّمَائِرُ عَلَيْهِ كَحَالِهِ مَذْكُورًا، وَتَارَةً يُطْرَحُ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ «١»، التَّقْدِيرُ، أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، وَلِذَلِكَ عَادَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: يَغْشَاهُ. وَمِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الِالْتِفَاتُ وَالْإِطْرَاحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ «٢» الْمَعْنَى مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ فَقَالَ: فَجَاءَهَا، فَأَطْرَحَ الْمَحْذُوفَ وقال: أو هم، فَالْتَفَتَ إِلَى الْمَحْذُوفِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ
(١) سورة النور: ٢٤/ ٤٠.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٤.
140
الْإِعْرَابِ، لِأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ مَثَلِ ذَلِكَ الرَّعْدِ؟ فَقِيلَ:
يَجْعَلُونَ، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَهُوَ الْجَرُّ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِذَوِي الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَاعِلِينَ، وأجاز بعضهم أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْهَاءُ فِي فِيهِ. وَالرَّاجِعُ عَلَى ذِي الْحَالِ مَحْذُوفٌ نَابَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَنْهُ التَّقْدِيرُ مِنْ صَوَاعِقِهِ.
وَأَرَادَ بِالْأَصَابِعِ بَعْضَهَا، لِأَنَّ الأصبع كُلَّهَا لَا تُجْعَلُ فِي الْأُذُنِ، إِنَّمَا تُجْعَلُ فِيهَا الْأُنْمُلَةُ، لَكِنَّ هَذَا مِنَ الِاتِّسَاعِ، وَهُوَ إِطْلَاقُ كُلٍّ عَلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ لِفَرْطِ مَا يَهُولُهُمْ مِنْ إِزْعَاجِ الصَّوَاعِقِ كَأَنَّهُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِالْأُنْمُلَةِ، بَلْ لَوْ أمكنهم السد بالأصبع كُلِّهَا لَفَعَلُوا، وَعُدِلَ عَنِ الِاسْمِ الْخَاصِّ لِمَا يُوضَعُ فِي الْأُذُنِ إِلَى الِاسْمِ الْعَامِّ، وَهُوَ الْأُصْبُعُ، لِمَا فِي تَرْكِ لَفْظِ السَّبَّابَةِ مِنْ حُسْنِ أَدَبِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِ الْكِنَايَاتِ فِيهِ تَكُونُ بِأَحْسَنَ لَفْظٍ، لِذَلِكَ مَا عُدِلَ عَنْ لَفْظِ السَّبَّابَةِ إِلَى الْمِسْبَحَةِ وَالْمُهَلِّلَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَلَمْ تَأْتِ بِلَفْظِ الْمِسْبَحَةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُسْتَحْدَثَةٌ، لَمْ يَتَعَارَفْهَا النَّاسُ فِي ذَلِكَ العهد، وإنما أحدثت بعدا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مِنَ الصَّوَاقِعِ، وقد تقدم أنها لغة تَمِيمٍ، وَأَخْبَرْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالْجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ وَالْوَضْعِ كَأَنَّهُ قَالَ: يَضَعُونَ أَصَابِعَهُمْ، وَمَنْ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يَجْعَلُونَ، وَهِيَ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ مِنْ أَجْلِ الصَّوَاعِقِ وَحَذَرَ الْمَوْتِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ، إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ مُتَّحِدٌ بِالْعَامِلِ فَاعِلًا وَزَمَانًا، هَكَذَا أَعْرَبُوهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الصَّوَاعِقِ هُوَ فِي الْمَعْنَى مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْطُوفًا لَجَازَ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «١» وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
يَرْكَبُ كُلَّ عَاقِرٍ جُمْهُورِ مَخَافَةً وَزَعَلَ الْمَحْبُورِ
وَالْهَوْلَ مِنْ تَهَوُّلِ الْهُبُورِ وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ يَحْذَرُونَ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: حَذَارَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَاذَرَ، قَالُوا وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ.
الْإِحَاطَةُ هُنَا: كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُونَهُ، كَمَا لَا يَفُوتُ الْمُحَاطَ الْمُحِيطُ بِهِ، فَقِيلَ: بالعلم، وَقِيلَ: بِالْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: بِالْإِهْلَاكِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّهَا دخلت بين
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٠٧ و ٢٦٥.
141
هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ، ويَكادُ الْبَرْقُ «١»، وَهُمَا مِنْ قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ هَذَا التَّمْثِيلَ مِنَ التَّمِثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ، وَهُوَ الَّذِي تُشَبَّهُ فِيهِ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ آحَادُ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ شَبِيهَةٌ بِآحَادِ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ تَشْبِيهَ حَيْرَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِحَيْرَةِ مَنِ انْطَفَأَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا، وَبِحَيْرَةِ مَنْ أَخَذَتْهُ السَّمَاءُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ مَعَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ. وَهَذَا الَّذِي سَبَقَ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ. وَقَالُوا أَيْضًا: يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَثَلُ مُرَكَّبًا مِنْ أُمُورٍ، وَالْمُمَثَّلُ يَكُونُ مُرَكَّبًا أَيْضًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَثَلِ مُشْبِهٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُمَثَّلِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلَانِ مِنْ جَعْلِ هَذَا الْمَثَلِ مِنَ التَّمْثِيلِ الْمُفَرَّقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الصَّيِّبَ مَثَلٌ لِلْإِسْلَامِ وَالظُّلُمَاتِ، مَثَلٌ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ، مَثَلَانِ لِمَا يُخَوَّفُونَ بِهِ.
وَالرَّابِعُ: الْبَرْقُ مَثَلٌ لِلْإِسْلَامِ وَالظُّلُمَاتُ، مَثَلٌ لِلْفِتْنَةِ وَالْبَلَاءِ. وَالْخَامِسُ: الصَّيِّبُ: الْغَيْثُ الَّذِي فِيهِ الْحَيَاةُ مَثَلٌ لِلْإِسْلَامِ وَالظُّلُمَاتُ، مَثَلٌ لِإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ وَمَا فِيهِ مِنْ إِبِطَانِ الْكُفْرِ، وَالرَّعْدُ مَثَلٌ لما في الإسلام من حَقْنِ الدِّمَاءِ وَالِاخْتِلَاطِ بِالْمُسْلِمِينَ في المناكحة والموازنة، وَالْبَرْقُ وَمَا فِيهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ مَثَلٌ لِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الزَّجْرِ بِالْعِقَابِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَيُرْوَى مَعْنَى هَذَا عَنِ الْحَسَنِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ الصَّيِّبَ وَالظُّلُمَاتِ وَالرَّعْدَ وَالْبَرْقَ وَالصَّوَاعِقَ كَانَتْ حَقِيقَةً أَصَابَتْ بَعْضَ الْيَهُودِ، فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِقِصَّتِهِمْ لِبَقِيَّتِهِمْ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ الَّذِي أَصَابَ الْمُنَافِقِينَ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَوَلَدُهُمُ الْغِلْمَانُ، أَوْ أَصَابُوا غَنِيمَةً أَوْ فَتْحًا قَالُوا: دِينُ مُحَمَّدٍ صِدْقٌ، فَاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا هَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَأَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ قَالُوا: هَذَا مِنْ أَجْلِ دِينِ مُحَمَّدٍ، فَارْتَدُّوا كُفَّارًا. الثَّامِنُ: أَنَّهُ مَثَّلَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَالنِّعْمَةِ وَالْبَلَاءِ بِالصَّيِّبِ الَّذِي يَجْمَعُ نَفْعًا بِإِحْيَائِهِ الْأَرْضَ وَإِنْبَاتِهِ النَّبَاتَ وَإِحْيَاءِ كُلِّ دَابَّةٍ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِلتَّطْهِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَضَرًّا بِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْإِغْرَاقِ وَالْإِشْرَاقِ، وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالصَّوَاعِقِ بِالْإِرْعَادِ وَالْإِبْرَاقِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ يَدْفَعُ آجِلًا بِطَلَبِ عَاجِلِ النَّفْعِ، فَيَبِيعُ آخِرَتَهُ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ بِالدُّنْيَا الَّتِي صَفُّوهَا كَدِرٌ وَمَآلُهُ بَعْدُ إِلَى سَقَرَ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ مَثَلٌ لِلْقِيَامَةِ لِمَا يَخَافُونَهُ مِنْ وَعِيدِ الْآخِرَةِ لِشَكِّهِمْ فِي دِينِهِمْ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَرْقِ، بِمَا فِي إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَمَثَّلَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ بِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الزَّوَاجِرِ بِالْعِقَابِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. الْعَاشِرُ: ضَرْبُ الصَّيِّبِ مَثَلٌ لِمَا أظهر المنافقون
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٠.
142
مِنَ الْإِيمَانِ وَالظُّلُمَاتِ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمُ الَّذِي أَبَطَنُوهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَرْقِ بِمَا عَلَاهُمْ مِنْ خَيْرِ الْإِسْلَامِ وَعَلَتْهُمْ مِنْ بَرَكَتِهِ، وَاهْتِدَائِهِمْ بِهِ إِلَى مَنَافِعِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمْنِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَا فِيهِ مِنَ الصَّوَاعِقِ، بِمَا اقْتَضَاهُ نِفَاقُهُمْ وَمَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَلَاكِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَيْضًا أَقْوَالًا كُلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى التَّمْثِيلِ التَّرْكِيبِيِّ: الْأَوَّلُ: شَبَّهَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ بِالَّذِينَ اجْتَمَعَتْ لَهُمْ ظُلْمَةُ السَّحَابِ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَشَدُّ لِحَيْرَتِهِمْ، إِذْ لَا يَرَوْنَ طَرِيقًا، وَلَا مَنْ أَضَاءَ لَهُ الْبَرْقَ ثُمَّ ذَهَبَ كَانَتِ الظُّلْمَةُ عِنْدَهُ أَشَدُّ مِنْهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَرْقٌ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَطَرَ، وَإِنْ كَانَ نَافِعًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ صَارَ النَّفْعُ بِهِ زَائِلًا، كَذَلِكَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ نَافِعٌ لِلْمُنَافِقِ لَوْ وَافَقَهُ الْبَاطِنُ، وَأَمَّا مَعَ عدم الموافقة فهو ضر. الثَّالِثُ:
أَنَّهُ مَثَّلَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ مَا أَظْهَرُوهُ نَافِعُهُمْ وَلَيْسَ بِنَافِعِهِمْ بِمَنْ نَزَلَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ مَعَ الصَّوَاعِقِ، فَإِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ الْمُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا جَعْلُ أَصَابِعِهِ فِي آذَانِهِ وَهُوَ لَا يُنْجِيهِ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَثَّلَ لِتَأَخُّرِ الْمُنَافِقِ عَنِ الْجِهَادِ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ بِمَنْ أَرَادَ دَفْعَ هَذِهِ الْأُمُورِ بِجَعْلِ أَصَابِعِهِمْ فِي آذَانِهِمْ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مَثَّلَ لعدم إخلاص الْمُنَافِقِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِالْجَاعِلِينَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، فإنهم وإن تخلصوا عن الْمَوْتِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ مِنْ وَرَائِهِمْ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠]
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
يَكَادُ: مُضَارِعُ كَادَ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، وَوَزْنُهَا فَعَلَ يَفْعَلُ، نَحْوَ خَافَ يَخَافُ، مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَفِيهَا لُغَتَانِ: فَعَلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَفَعُلَ، وَلِذَلِكَ إِذَا اتَّصَلَ بِهَا ضَمِيرُ الرَّفْعِ لِمُتَكَلِّمٍ أَوْ مُخَاطَبٍ أَوْ نُونِ إِنَاثٍ ضَمُّوا الْكَافَ فَقَالُوا: كُدْتُ، وَكُدْتَ، وَكُدْنَ، وَسُمِعَ نَقْلُ كَسْرِ الْوَاوِ إِلَى الْكَافِ، مَعَ مَا إِسْنَادِهِ لِغَيْرِ مَا ذُكِرَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكِيدَتْ ضِبَاعُ الْقُفِّ يَأْكُلْنَ جُثَّتِي وَكِيدَ خَرَاشٌ عِنْدَ ذَلِكَ يُيْتِمُ
يُرِيدُ، وَكَادَتْ، وَكَادَ، وَلَيْسَ، مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا مضارع إِلَّا: كَادَ، وَأَوْشَكَ. وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ هِيَ مِنْ بَابِ كَانَ، تَرْفَعُ الِاسْمَ وَتَنْصِبُ الْخَبَرَ، إِلَّا أَنَّ خَبَرَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُضَارِعًا، وَلَهَا بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ، وَهِيَ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ فِعْلًا ذَكَرَهَا أَبُو
143
إِسْحَاقَ الْبَهَارِيُّ فِي كِتَابِهِ (شَرْحُ جُمَلِ الزَّجَّاجِيِّ). وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يَكَادُ فِعْلٌ يَنْفِي الْمَعْنَى مَعَ إِيجَابِهِ وَيُوجِبُهُ مَعَ النَّفْيِ، وَقَدْ أَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ شِعْرًا يُلْغِزُ فِيهِ بِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ هَذَا الْمُفَسِّرُ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ فِي أَنَّ نَفْيَهَا نَفْيٌ وَإِيجَابُهَا إِيجَابٌ، وَالِاحْتِجَاجُ لِلْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. الْخَطْفُ:
أَخْذُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ. كُلَّ: لِلْعُمُومِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَازِمٍ لِلْإِضَافَةِ، إِلَّا أَنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يَجُوزُ حَذْفُهُ وَيُعَوَّضُ مِنْهُ التَّنْوِينُ، وَقِيلَ: هُوَ تَنْوِينُ الصَّرْفِ، وَإِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ مَعْرِفَةً بَقِيَتْ كُلٌّ عَلَى تَعْرِيفِهَا بِالْإِضَافَةِ، فَيَجِيءُ مِنْهَا الْحَالُ، وَلَا تُعَرَّفُ بِاللَّامِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَأَجَازَ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ، وَالْفَارِسِيُّ، وَرُبَّمَا انْتَصَبَ حَالًا، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَتْبَعَ تَوْكِيدًا كَأَجْمَعَ، وَتُسْتَعْمَلُ مُبْتَدَأً، وَكَوْنُهَا كَذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ كَوْنِهَا مَفْعُولًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَقْصُورٍ عَلَى السَّمَاعِ وَلَا مُخْتَصًّا بِالشِّعْرِ خِلَافًا لِزَاعِمِهِ. وَإِذَا أُضِيفَتْ كُلٌّ إِلَى نكرة أو معرفة بلام الْجِنْسِ حَسُنَ أَنْ تَلِيَ الْعَوَامِلَ اللَّفْظِيَّةَ، وَإِذَا ابْتُدِئَ بِهَا مُضَافَةً لَفْظًا إِلَى نَكِرَةٍ طَابَقَتِ الْأَخْبَارَ وَغَيْرِهَا مَا تُضَافُ إِلَيْهِ وَإِلَى مَعْرِفَةٍ، فَالْأَفْصَحُ إِفْرَادُ الْعَائِدِ أَوْ مَعْنَى لَا لَفْظًا، فَالْأَصْلُ، وَقَدْ يُحَسَّنُ الْإِفْرَادُ وَأَحْكَامُ كُلٌّ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَكْثَرَهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ بِالتَّذْكِرَةِ، وَسَرَدْنَا مِنْهَا جُمْلَةً لِيُنْتَفَعَ بِهَا، فَإِنَّهَا تَكَرَّرَتْ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا.
الْمَشْيُ: الْحَرَكَةُ الْمَعْرُوفَةُ. لَوْ: عِبَارَةُ سِيبَوَيْهِ، إِنَّهَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ إِنَّهَا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ لِاطِّرَادِ تَفْسِيرِ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كُلِّ مَكَانٍ جَاءَتْ فِيهِ لَوْ، وَانْخِرَامِ تَفْسِيرِهِمْ فِي نَحْوِ: لَوْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا لَكَانَ حَيَوَانًا، إِذْ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِمَامِ يَكُونُ الْمَعْنَى ثُبُوتُ الْحَيَوَانِيَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، إِذِ الْأَخَصُّ مُسْتَلْزِمٌ الْأَعَمَّ، وَعَلَى تَفْسِيرِهِمْ يَنْخَرِمُ ذَلِكَ، إِذْ يَكُونُ الْمَعْنَى مُمْتَنِعُ الْحَيَوَانِيَّةِ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْإِنْسَانِيَّةِ انْتِفَاءُ الْحَيَوَانِيَّةِ، إِذْ تُوجَدُ الْحَيَوَانِيَّةُ وَلَا إِنْسَانِيَّةَ. وَتَكُونُ لَوْ أَيْضًا شَرْطًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى أَنْ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِهَا خِلَافًا لِقَوْمٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إِلَّا مُظْهِرًا خُلُقَ الْكِرَامِ وَلَوْ تَكُونُ عَدِيمَا
وَتَشْرَبُ لَوْ مَعْنَى التَّمَنِّي، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ»
، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا تَكُونُ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى أَنَّ خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ. شَاءَ:
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٦٧.
144
بِمَعْنَى أَرَادَ، وَحَذْفُ مَفْعُولِهَا جَائِزٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَأَكْثَرُ مَا يُحْذَفُ مَعَ لَوْ، لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ تَكَاثَرَ هَذَا الْحَذْفُ فِي شَاءَ وَأَرَادَ، يَعْنِي حَذْفُ مَفْعُولَيْهِمَا، قَالَ: لَا يَكَادُونَ يُبْرِزُونَ هَذَا الْمَفْعُولَ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَغْرَبِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ «١»، ولَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى «٢»، انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ صَاحِبُ التِّبْيَانِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَنْشَدَ قَوْلَهُ:
فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ سَاحَةَ الصَّبْرِ أَوْسَعُ
مَتَى كَانَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ عَظِيمًا أَوْ غَرِيبًا، كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُذْكَرَ نَحْوُ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَلْقَى الْخَلِيفَةَ كُلَّ يَوْمٍ لَقِيتُهُ، وَسِرُّ ذِكْرِهِ أَنَّ السَّامِعَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ، فَأَنْتَ تَقْصِدُ إِلَى إِثْبَاتِهِ عِنْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا فَالْحَذْفُ نَحْوُ: لَوْ شِئْتُ قُمْتُ. وَفِي التَّنْزِيلِ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا «٣»، انْتَهَى. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ غَرَابَةٌ حَسُنَ ذِكْرَهُ، وَإِنَّمَا حُسْنُ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ مِنْ حَيْثُ عَوْدِ الضَّمِيرِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَمْ يَكُنْ لِلضَّمِيرِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ، فَهُمَا تَرْكِيبَانِ فَصِيحَانِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ. فَأَحَدُهُمَا الْحَذْفُ وَدَلَالَةُ الْجَوَابِ عَلَى الْمَحْذُوفِ، إِذْ يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مَصْدَرًا دَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ حَذَفُوا أَحَدَ جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ الْخَبَرُ فِي نَحْوِ: لَوْلَا زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ، لِلطُّولِ بِالْجَوَابِ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُثْبَتِ فَلِأَنْ يُحْذَفَ الْمَفْعُولُ الَّذِي هُوَ فَضْلَةٌ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ جِنْسِ الْمُثْبَتِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنْ يُذْكَرَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَا قَبْلَهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِيَ دَمًا لَبَكَيْتُهُ وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ دَلِيلٌ فَلَا يُحْذَفُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ولِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ. الشَّيْءُ: مَا صَحَّ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ وَجْهِ وَيُخْبَرَ عَنْهُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ التَّأْنِيثُ مِنَ التَّذْكِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْءَ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَا أُخْبِرَ عَنْهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعْلَمَ أَذَكَرٌ هُوَ أَوْ أُنْثَى؟ وَالشَّيْءُ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا مُرَادِفٌ لِلْمَوْجُودِ،
(١) سورة الأنبياء: ٢/ ١٧.
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٤.
(٣) سورة الأنفال: ٨/ ٣١.
145
وَفِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدُومِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ خِلَافٌ، وَمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْكَرُ النَّكِرَاتِ، إِذْ يُطْلَقُ عَلَى الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَالْقَدِيمِ وَالْمَعْدُومِ وَالْمُسْتَحِيلِ. الْقُدْرَةُ: الْقُوَّةُ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِطَاعَةُ لَهُ، وَالْفِعْلُ قَدَرَ وَمَصَادِرُهُ كَثِيرَةٌ: قَدَرٌ، قُدْرَةٌ، وَبِتَثْلِيثِ الْقَافِ، وَمَقْدِرَةٌ، وَبِتَثْلِيثِ الدَّالِ: وَقُدْرٌ، أَوْ قِدْرٌ، أَوْ قُدَرٌ، أَوْ قَدَارٌ، أَوْ قِدَارٌ، أَوْ قُدْرَانًا، وَمَقْدَرًا، وَمَقْدُرًا.
الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ إِذْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوَابُ قَائِلٍ قَالَ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْبَرْقِ؟ فَقِيلَ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِذَوِي الْمَحْذُوفَةِ التَّقْدِيرُ كَائِدُ الْبَرْقِ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْبَرْقِ لِلْعَهْدِ، إِذْ جَرَى ذِكْرُهُ نَكِرَةً فِي قَوْلِهِ: فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَصَارَ نَظِيرُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «١». وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَيَحْيَى بْنُ زَيْدٍ: يَخْطِفُ بِسُكُونِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَأَظُنُّهُ غَلَطًا وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقْرَأْ بِالْفَتْحِ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَتْحُ، يَعْنِي فِي الْمُضَارِعِ أَفْصَحُ، انْتَهَى. وَالْكَسْرُ فِي طَاءِ الْمَاضِي لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَهِيَ أَفْصَحُ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ: خَطَفَ بِفَتْحِ الطَّاءِ، يَخْطِفُ بِالْكَسْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَنَسَبَ الْمَهْدَوِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ إِلَى الْحَسَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ، وَذَلِكَ وَهْمٌ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: يَخْتَطِفُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ:
يَتَخَطَّفُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: يَخَطَّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَالطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: يَخَطِّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَأَصْلُهُ يَخْتَطِفُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَبُو رجاء، وعاصم الجحدري، وقتادة:
يَخِطِّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقَرَأَ أَيْضًا الْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ: يِخِطِّفُ، بِكَسْرِ الثَّلَاثَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُخَطِّفُ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ خَطَفَ، وَهُوَ تَكْثِيرُ مُبَالَغَةٍ لَا تَعْدِيَةٍ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: يَخْطِّفُ، بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ اخْتِلَاسٌ لِفَتْحَةِ الْخَاءِ لَا إِسْكَانَ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حَدِّ الْتِقَائِهِمَا.
فَهَذَا الحرف قرىء عَشْرَ قِرَاءَاتٍ: السَّبْعَةُ يَخْطَفُ، وَالشَّوَاذُّ: يَخَطِفُ يَخْتَطِفُ يَتَخَطَّفُ يَخَطَّفُ وَأَصْلُهُ يَتَخَطَّفُ، فَحَذَفَ التَّاءَ مَعَ الْيَاءِ شُذُوذًا، كَمَا حَذَفَهَا مَعَ التَّاءِ قياسا. يخطف
(١) سورة المزمل: ٧٣/ ١٥- ١٦.
146
يَخْطِّفُ يُخَطِّفُ يَخَطِّفُ، وَالْأَرْبَعُ الْأُخَرُ أَصْلُهَا يُخْتَطَفُ فَعُرِضَ إِدْغَامُ التَّاءِ فِي الطَّاءِ فَسَكَنَتِ التَّاءُ لِلْإِدْغَامِ فَلَزِمَ تَحْرِيكُ مَا قَبْلَهَا، فَإِمَّا بِحَرَكَةِ التَّاءِ، وَهِيَ الْفَتْحُ مُبَيَّنَةً أَوْ مُخْتَلَسَةً، أَوْ بِحَرَكَةِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَهِيَ الْكَسْرُ. وَكَسْرُ الْيَاءِ إِتْبَاعٌ لِكَسْرَةِ الْخَاءِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ إِدْغَامٍ اخْتُصِمَ بِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَصْرِيفِيَّةٌ يَخْتَلِفُ فِيهَا اسْمُ الْفَاعِلِ وَاسْمُ الْمَفْعُولِ وَالْمَصْدَرُ، وَتَبْيِينُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وَمَنْ فَسَّرَ الْبَرْقَ بِالزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ قَالَ: يَكَادُ ذَلِكَ يُصِيبُهُمْ. وَمَنْ مَثَّلَهُ بِحُجَجِ الْقُرْآنِ وَبَرَاهِينِهِ السَّاطِعَةِ قَالَ: الْمَعْنَى يَكَادُ ذَلِكَ يَبْهِرُهُمْ.
وَكُلَّ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ وَسَرَتْ إِلَيْهِ الظَّرْفِيَّةُ مِنْ إِضَافَتِهِ لِمَا الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَا صَحِبْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، فَالْمَعْنَى مُدَّةَ صُحْبَتِكَ لِي أُكْرِمُكَ، وَغَالِبُ مَا تُوصَلُ بِهِ مَا هَذِهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَمَا الظَّرْفِيَّةُ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ، فَإِذَا قُلْتَ: أَصْحَبُكَ مَا ذَرَّ لِلَّهِ شَارِقٌ، فَإِنَّمَا تُرِيدُ الْعُمُومَ. فَكُلُّ هَذِهِ أَكَّدَتِ الْعُمُومَ الَّذِي أَفَادَتْهُ مَا الظَّرْفِيَّةُ، وَلَا يُرَادُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مُطْلَقُ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ صِلَةً لِمَا، فَيُكْتَفَى فِيهِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِدَلَالَتِهَا عَلَى عُمُومِ الزَّمَانِ جَزَمَ بِهَا بَعْضُ الْعَرَبِ. وَالتَّكْرَارُ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْفُقَهَاءُ فِي كُلَّمَا، إِنَّمَا ذَلِكَ فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ، لَا إِنَّ لَفْظَ كُلَّمَا وُضِعَ لِلتَّكْرَارِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ كُلٌّ تَوْكِيدًا لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مَا الظَّرْفِيَّةِ، فَإِذَا قُلْتَ: كُلَّمَا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، فَالْمَعْنَى أُكْرِمُكَ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ جيئاتك إِلَيَّ. وَمَا أَضَاءَ: فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، إِذِ التَّقْدِيرُ كُلُّ إِضَاءَةٍ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْضًا، مَعْنَاهُ: كُلَّ وَقْتِ إِضَاءَةٍ، فَقَامَ الْمَصْدَرُ مَقَامَ الظَّرْفِ، كَمَا قَالُوا: جِئْتُكَ خُفُوقَ النَّجْمِ. وَالْعَامِلُ فِي كُلَّمَا قَوْلُهُ: مَشَوْا فِيهِ، وَأَضَاءَ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ هُنَا مُتَعَدٍّ التَّقْدِيرُ، كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمُ الْبَرْقُ الطَّرِيقَ. فَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدًا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْبَرْقِ، أَيْ مَشَوْا فِي نُورِهِ وَمَطْرَحِ لَمَعَانِهِ، وَيَتَعَيَّنُ عَوْدُهُ عَلَى الْبَرْقِ فِيمَنْ جَعَلَ أَضَاءَ لَازِمًا، أَيْ: كُلَّمَا لَمَعَ الْبَرْقُ مَشَوْا فِي نُورِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: كُلَّمَا ضَاءَ ثُلَاثِيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: مَرُّوا فِيهِ، وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَضَوْا فِيهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَضَاءَ لَهُمْ فِي حَالَتَيْ وَمِيضِ الْبَرْقِ وَخَفَائِهِ، قِيلَ: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ وَالضَّحَّاكُ: وَإِذَا أَظْلَمَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَأَصْلُ أَظْلَمَ أَنْ لَا يَتَعَدَّى، يُقَالُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ. وظاهر كلام الزمخشري أن أَظْلَمَ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ لِمَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُبْنَى لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَظْلَمَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَجَاءَ فِي شِعْرِ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الطَّائِيِّ:
147
هُمَا أَظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ظَلَامَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمَرَدَ أَشْيَبِ
وَهُوَ إِنْ كَانَ مُحْدَثًا لَا يُسْتَشْهَدُ بِشِعْرِهِ فِي اللُّغَةِ، فَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، فَاجْعَلْ مَا يَقُولُهُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَرْوِيهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْعُلَمَاءِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ، فَيَقْتَنِعُونَ بِذَلِكَ لِوُثُوقِهِمْ بِرِوَايَتِهِ وَإِتْقَانِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَظَاهِرُهُ كَمَا قُلْنَا أَنَّهُ مُتَعَدٍّ وَبِنَاؤُهُ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَلِذَلِكَ اسْتُأْنِسَ بِقَوْلِ أَبِي تَمَامٍ: هُمَا أَظْلَمَا حَالَيَّ، وَلَهُ عِنْدِي تَخْرِيجٌ غَيْرَ مَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَظْلَمَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ لِمَفْعُولٍ، وَلَكِنَّهُ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ. أَلَا تَرَى كَيْفَ عُدِّيَ أَظْلَمَ إِلَى الْمَجْرُورِ بِعَلَى؟ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ أَوْ حُذِفَ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَكَانَ الْأَصْلُ: وَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ حُذِفَ، فَقَامَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَقَامَهُ، نَحْوُ: غَضِبَ زَيْدٌ عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ تَحْذِفُ زَيْدًا وَتَبْنِي الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ فَتَقُولُ: غُضِبَ عَلَى عَمْرٍو، فَلَيْسَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ إِذْ ذَاكَ: وَإِذَا أَظْلَمَ اللَّهُ اللَّيْلَ، فَحُذِفَتِ الْجَلَالَةُ وَأُقِيمَ ضَمِيرُ اللَّيْلِ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ حَبِيبٍ فَلَا يُسْتَشْهَدُ بِهِ، وَقَدْ نُقِدَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ الِاسْتِشْهَادُ بِقَوْلِ حَبِيبٍ:
مَنْ كَانَ مَرْعَى عَزْمِهِ وَهُمُومِهِ رَوضُ الْأَمَانِي لَمْ يَزَلْ مَهْزُولًا
وَكَيْفَ يُسْتَشْهَدُ بِكَلَامِ مَنْ هُوَ مُوَلِّدٌ، وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِيمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ اللَّحْنِ فِي شِعْرِهِ؟ وَمَعْنَى قَامُوا: ثَبَتُوا وَوَقَفُوا، وَصُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى بِكُلَّمَا، وَالثَّانِيَةُ بِإِذَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُمْ حُرَّاصٌ عَلَى وُجُودِ مَا هِمَمُهُمْ بِهِ مَعْقُودَةٌ مِنْ إِمْكَانِ الْمَشْيِ وَتَأْتِيهِ، فَكُلَّمَا صَادَفُوا مِنْهُ فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّوَقُّفُ وَالتَّحَبُّسُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدِي بَيْنَ كُلَّمَا وَإِذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مَتَى فُهِمَ التَّكْرَارُ مِنْ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ لَزِمَ مِنْهُ أَيْضًا التَّكْرَارُ فِي أَنَّهُ إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا، لِأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ إِضَاءَةِ الْبَرْقِ وَالْإِظْلَامِ، فَمَتَى وُجِدَ هَذَا فُقِدَ هَذَا، فَيَلْزَمُ مِنْ تَكْرَارِ وُجُودِ هَذَا تَكْرَارِ عَدَمِ هَذَا، عَلَى أَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِذَا تَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ كَكُلَّمَا، وَأَنْشَدَ:
إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ الْحُبِّ فِي كَبِدِي أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ
قَالَ: فَهَذَا مَعْنَاهُ مَعْنَى كُلَّمَا.
وَفِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: كُلَّمَا أَتَاهُمُ الْقُرْآنُ بِمَا يُحِبُّونَهُ تَابَعُوهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِضَاءَةُ الْبَرْقِ حُصُولُ مَا يَرْجُونَهُ مِنْ سَلَامَةِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَيُسْرِعُونَ إِلَى مُتَابَعَتِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَرْقُ الْإِسْلَامُ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ إِهْتِدَاؤُهُمْ، فَإِذَا تَرَكُوا ذَلِكَ وَقَعُوا فِي
148
ضَلَالِهِمْ. وَقِيلَ: إِضَاءَتُهُ لَهُمْ: تَرْكُهُمْ بِلَا ابْتِلَاءٍ، وَمَشْيُهُمْ فِيهِ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْمُسَالَمَةِ بِإِظْهَارِ مَا يُظْهِرُونَهُ، وَقِيلَ: كُلَّمَا سَمِعَ الْمُنَافِقُونَ الْقُرْآنَ وَحُجَجَهُ أُنْسُوا وَمَشَوْا مَعَهُ، فَإِذَا نَزَلَ مَا يُعْمَوْنَ فِيهِ أَوْ يُكَلَّفُونَهُ قَامُوا، أَيْ ثَبَتُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ: كُلَّمَا تَوَالَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ قَالُوا: دِينُ حَقٍّ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ مُصِيبَةٌ سَخِطُوا وَثَبَتُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ: كُلَّمَا خَفِيَ نِفَاقُهُمْ مَشَوْا، فَإِذَا افْتُضِحُوا قَامُوا، وَقِيلَ: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمُ الْحَقُّ اتَّبَعُوهُ، فَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بِالْهَوَى تَرَكُوهُ. وَقِيلَ: يَنْتَفِعُونَ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ، فَإِذَا وَرَدَتْ مِحْنَةٌ أَوْ شِدَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَحَيَّرُوا، كَمَا قَامَ أُولَئِكَ فِي الظُّلُمَاتِ مُتَحَيِّرِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِشِدَّتِهِ عَلَى أَصْحَابِ الصَّيِّبِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ غَايَةِ التَّحَيُّرِ وَالْجَهْلِ بِمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُوَنَ، إِذَا صَادَفُوا مِنَ الْبَرْقِ خَفْقَةً مَعَ خَوْفٍ أَنْ يَخْطَفَ أَبْصَارَهُمْ، انْتَهَزُوا تِلْكَ الخفقة فرصة فحطوا خُطُوَاتٍ يَسِيرَةٍ، فَإِذَا خَفِيَ وَفَتَرَ لَمَعَانُهُ بَقُوا وَاقِفِينَ مُتَقَيِّدِينَ عَنِ الْحَرَكَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَفْعُولُ شَاءَ هُنَا مَحْذُوفٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ إِذْهَابَ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ. وَالْكَلَامُ فِي الْبَاءِ فِي بِسَمْعِهِمْ كَالْكَلَامِ فِيهَا فِي: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَوْحِيدُ السَّمْعِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: لَأَذْهَبَ بِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ التَّقْدِيرُ لَأَذْهَبَ أَسْمَاعَهُمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ، يُرِيدُ رَأْسَهُ، وَخَشُنْتُ بِصَدْرِهِ، يُرِيدُ صَدْرَهُ، وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ قِيَاسِ زِيَادَةِ الْبَاءَ، وَجَمْعُهُ الْأَسْمَاعُ مُطَابِقٌ لِجَمْعِ الْأَبْصَارِ. وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: أَنَّ ذَهَابَ اللَّهِ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ كَانَ يَقَعُ عَلَى تَقْدِيرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِإِهْلَاكِهِمْ، لِأَنَّ فِي هَلَاكِهِمْ ذَهَابُ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ. وَقِيلَ: وَعِيدٌ بِإِذْهَابِ الْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ حَتَّى لَا يَتَوَصَّلُوا بِهِمَا إِلَى مَا لَهُمْ، كَمَا لَمْ يَتَوَصَّلُوا بِهِمَا إِلَى مَا عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: لَأَظْهَرَ عَلَيْهِمْ بِنِفَاقِهِمْ فَذَهَبَ مِنْهُمْ عِزُّ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: لَأَذْهَبَ أَسْمَاعَهُمْ فَلَا يَسْمَعُونَ الصَّوَاعِقَ فَيَحْذَرُونَ، وَلَأَذْهَبَ أَبْصَارَهَمْ فَلَا يَرَوْنَ الضَّوْءَ لِيَمْشُوا. وَقِيلَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لِمَا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ. وَقِيلَ: لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، فَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي الْحَقِّ فَيَنْتَفِعُوا بِهَا فِي أُخْرَاهُمْ. وَقِيلَ: لَزَادَ فِي قَصِيفِ الرَّعْدِ فَأَصَمَّهُمْ وَفِي ضَوْءِ الْبَرْقِ فَأَعْمَاهُمْ. وَقِيلَ لَأَوْقَعَ بِهِمْ مَا يَتَخَوَّفُونَهُ مِنَ الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ. وَقِيلَ: لَفَضَحَهُمْ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَلَّطَهُمْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَذَهَبَ سَمْعُهُمْ بِقَصِيفِ الرَّعْدِ وَأَبْصَارُهُمْ بِوَمِيضِ الْبَرْقِ.
149
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَوِي صَيِّبٍ، فَصَرْفُ ظَاهِرِهِ إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمُنَافِقِينَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي تَحَيُّرِ هَؤُلَاءِ السَّفْرِ وَشِدَّةِ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الصَّيِّبِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى ظُلُمَاتٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، بِحَيْثُ تَكَادُ الصَّوَاعِقُ تُصِمُّهُمْ وَالْبَرْقُ يُعْمِيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ سَبَقَتِ الْمَشِيئَةُ بِذَهَابِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لَذَهَبَتْ، وَكَمَا اخْتَرْنَا فِي قَوْلِهِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إِلَى آخِرِهِ أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي حَالِ الْمُسْتَوْقِدِ، كَذَلِكَ اخْتَرْنَا هُنَا أَنَّ هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي حَالَةِ السَّفَرِ، وَشِدَّةِ الْمُبَالَغَةِ فِي حَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا يَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُبَالَغَةِ فِي حَالِ الْمُشَبَّهِ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتُ الَّتِي لِلْمُشَبَّهِ بِهِ ثَابِتَةً لِلْمُشَبَّهِ بِنَظَائِرِهَا ثَابِتَةً لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ التَّمْثِيلُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُفْرَدَةِ. وَأَمَّا عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ، فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّشْبِيهِ بِمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ قَبْلُ، وَخَصَّ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ فِي قَوْلِهِ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا فِي قَوْلِهِ:
فِي آذانِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقِ، وَمُدْرِكُهُمَا السَّمْعُ، وَالظُّلُمَاتِ وَالْبَرْقِ، وَمُدْرِكُهُمَا: الْبَصَرُ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ شَاءَ أَذْهَبَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ، أَعْقَبَ تَعَالَى مَا عَلَّقَهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ بِالْإِخْبَارِ عنه تعالى بالمقدرة لِأَنَّ بِهِمَا تَمَامَ الْأَفْعَالِ، أعني القدرة وَالْإِرَادَةِ وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ إِذْ لَا أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ تَعَالَى. وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: قَدِيرٌ، وَفِي لَفْظِ قَدِيرٌ مَا يُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، إِذِ الْقُدْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلَاتِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا بَعْضُ كَلَامٍ عَلَى تَنَاسُقِ الْآيِ الَّتِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَنَحْنُ نُلَخِّصُ ذَلِكَ هُنَا، فَنَقُولُ: افْتَتَحَ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِوَصْفِ كَلَامِهِ الْمُبِينِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ هُدًى لِمُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَدَحَهُمْ، ثُمَّ مَدَحَ مَنْ سَاجَلَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَتَلَاهُمْ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَكَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى فِي الْحَالِ وَمِنَ الظَّفَرِ فِي الْمَآلِ، ثُمَّ تَلَاهُمْ بِذِكْرِ أَضْدَادِهِمُ الْمَخْتُومِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمُ الْمُغَطَّى أَبْصَارُهُمُ الْمَيْئُوسُ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ أَتْبَعَ هَؤُلَاءِ بِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمُخَادِعِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَأَخَّرَ ذِكْرَهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَسْوَأَ أَحْوَالًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمُ اتَّصَفُوا فِي الظَّاهِرِ بِصِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي الْبَاطِنِ بِصِفَاتِ الْكَافِرِينَ، فَقَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَنَّى بِذِكْرِ أَهْلِ الشَّقَاءِ الْكَافِرِينَ، وَثَلَّثَ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ، وَأَمْعَنَ فِي ذِكْرِ مَخَازِيهِمْ فَأَنْزَلَ فِيهِمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، كُلُّ ذَلِكَ تَقْبِيحٌ لِأَحْوَالِهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَخَازِي أَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ ذَلِكَ حَتَّى أَبْرَزَ أَحْوَالَهُمْ فِي صُورَةِ الأنفال، فَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِلتَّنْفِيرِ عَمَّا اجْتَرَحُوهُ مِنْ قَبِيحِ الْأَفْعَالِ. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ
150
هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي نُوقِلَ فِي ذَرْوَةِ الْإِحْسَانِ وَتَمَكَنَ فِي بَرَاعَةِ أَقْسَامِ الْبَدِيعِ وبلاغة معاني البيان.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
يَا: حَرْفُ نِدَاءٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا اسْمُ فِعْلٍ مَعْنَاهَا: أُنَادِي، وَعَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِ النِّدَاءِ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يَقَعْ نِدَاءً إِلَّا بِهَا، وَهِيَ أَعَمُّ حُرُوفِ النِّدَاءِ، إِذْ يُنَادَى بِهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ وَالْمُسْتَغَاثُ وَالْمَنْدُوبُ. وَأَمَالَهَا بَعْضُهُمْ، وَقَدْ تَتَجَرَّدُ لِلتَّنْبِيهِ فَيَلِيهَا الْمُبْتَدَأُ وَالْأَمْرُ وَالتَّمَنِّي وَالتَّعْلِيلُ، وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا يُنْوَى بَعْدَهَا مُنَادِي. أَيْ: اسْتِفْهَامٌ وَشَرْطٌ وَصِفَةٌ وَوَصْلَةٌ لِنِدَاءِ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامِ، وَمَوْصُولَةٌ، خِلَافًا لِأَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى، إِذْ أَنْكَرَ مَجِيئَهَا مَوْصُولَةً، وَلَا تَكُونُ مَوْصُوفَةً خِلَافًا لِلْأَخْفَشِ. هَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ، أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا مَعَ ضَمِيرِ رَفْعٍ مُنْفَصِلٍ مُبْتَدَأٍ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِاسْمِ إِشَارَةٍ غَالِبًا، أَوْ مَعَ اسْمِ إِشَارَةٍ لَا لِبُعْدٍ، وَيُفْصَلُ بِهَا بَيْنَ أَيْ فِي النِّدَاءِ وَبَيْنَ الْمَرْفُوعِ بَعْدَهُ، وَضَمُّهَا فِيهِ لُغَةُ بَنِي مَالِكٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يَقُولُونَ: يَا أَيُّهَ الرَّجُلُ، وَيَا أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ. الْخَلْقُ: الِاخْتِرَاعُ بِلَا مِثَالِ، وَأَصْلُهُ التَّقْدِيرُ، خَلَقَتِ الْأَدِيمَ قُدْرَتُهُ، قَالَ زُهَيْرٌ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي قَالَ قُطْرُبٌ: الْخَلْقُ هُوَ الْإِيجَادُ عَلَى تَقْدِيرٍ وَتَرْتِيبٍ، وَالْخَلْقُ وَالْخَلِيقَةُ تَنْطَلِقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَمَعْنَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَالْإِحْدَاثِ، وَالْإِبْدَاعِ، وَالِاخْتِرَاعِ، والإنشاء، متقارب. قبل: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهَا عَامِلٌ فَيُخْرِجُهَا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَّا مِنْ، وَأَصْلُهَا وَصْفٌ نَابَ عَنْ مَوْصُوفِهِ لُزُومًا، فَإِذَا قُلْتَ: قُمْتُ قَبْلَ زَيْدٍ، فَالتَّقْدِيرُ قُمْتُ زَمَانًا قَبْلَ زَمَانِ قِيَامِ زَيْدٍ، فَحُذِفَ هَذَا كُلُّهُ وَنَابَ عَنْهُ قَبْلَ زَيْدٍ. لَعَلَّ: حَرْفُ تَرَجٍّ فِي المحبوبات، وتوقع في المحدورات، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمُمْكِنِ، لَا يُقَالُ: لَعَلَّ الشَّبَابَ يَعُودُ، وَلَا تَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ، خِلَافًا لِقُطْرُبٍ وَابْنِ كَيْسَانَ، وَلَا اسْتِفْهَامًا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَفِيهَا لُغَاتٌ لَمْ يَأْتِ مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا الْفُصْحَى، وَلَمْ يُحْفَظْ بَعْدَهَا نَصْبُ الِاسْمَيْنِ، وَحَكَى الْأَخْفَشُ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يجر بِلَعَلَّ، وَزَعَمَ أَبُو زَيْدٍ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةُ بَنِي عَقِيلٍ. الْفِرَاشُ: الْوِطَاءُ الَّذِي يُقْعَدُ عَلَيْهِ وَيُنَامُ وَيُتَقَلَّبُ عَلَيْهِ. الْبِنَاءُ: مَصْدَرٌ، وَقَدْ براد بِهِ الْمَنْقُولُ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قُبَّةٍ أَوْ خِبَاءٍ أَوْ طِرَافٍ وَأَبْنِيَةُ الْعَرَبِ أَخْبِيَتِهِمْ. الْمَاءُ: مَعْرُوفٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَوْهَرٌ سَيَّالٌ بِهِ قِوَامُ الْحَيَوَانِ وَوَزْنُهُ
151
فَعَلَ وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ وَاوٍ وَهَمْزَتُهُ بَدَلٌ مِنْ هَاءٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ: مُوَيْهٌ، وَمِيَاهٌ، وَأَمْوَاهٌ. الثَّمَرَةُ: مَا تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ مِنْ مَطْعُومٍ أَوْ مَشْمُومٍ. النِّدُّ: الْمُقَاوِمُ الْمُضَاهِي مَثَلًا كَانَ أَوْ ضِدًّا أَوْ خِلَافًا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْمُفَضَّلُ: النِّدُّ: الضِّدُّ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ تَمْثِيلٌ لَا حَصْرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: النِّدُّ: الضد المبغض المناوي مِنَ النُّدُودِ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: النِّدُّ: الْكُفُؤُ وَالْمِثْلُ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ اللُّغَةِ سِوَى أَبِي عُبَيْدَةَ. فَإِنَّهُ قَالَ: الضِّدُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: النِّدُّ:
الْمِثْلُ، وَلَا يُقَالُ إِلَّا للمثل المخالف للبارىء، قَالَ جَرِيرٌ:
أَتَيَّمًا تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا وَمَا تَيَّمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ
وَنَادَدْتُ الرَّجُلَ: خَالَفْتُهُ وَنَافَرْتُهُ، مِنْ نَدَّ نُدُودًا إِذَا نَفَرَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَيْسَ لِلَّهِ نِدٌّ وَلَا ضِدٌّ، نَفَى ما يسد مسد وَنَفَى مَا يُنَافِيهِ.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خِطَابٌ لِجَمِيعِ مَنْ يَعْقِلُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْيَهُودِ خَاصَّةً، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ، أَوْ لَهُمْ وَلِلْمُنَافِقِينَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ لِكُفَّارِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَالظَّاهِرُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ دَعْوَى الْخُصُوصِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَمَا يؤول إِلَيْهِ حَالُ كُلٍّ مِنْهُمْ، انْتَقَلَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ إِلَى خِطَابِ النِّدَاءِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، بَعْدَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، إِذْ فِيهِ هَزٌّ لِلسَّامِعِ وَتَحْرِيكٌ لَهُ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ صِنْفٍ إِلَى صِنْفٍ، وَلَيْسَ هَذَا انْتِقَالًا مِنَ الْخِطَابِ الْخَاصِّ إِلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ خِطَابٌ خَاصٌّ إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ تَجَوُّزًا فِي الْخِطَابِ بِأَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْكَلَامُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: انْتَقَلَ مِنَ الْكَلَامِ الْخَاصِّ إِلَى الْكَلَامِ الْعَامِّ، قال هذا المفسر، وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ، فَإِنَّهُمْ يَخُصُّونَ ثُمَّ يَعُمُّونَ. وَلِهَذَا
لَمَا نَزَلَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «١» دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَصَّ وَعَمَّ، فَقَالَ: «يَا عَبَّاسُ عَمُّ مُحَمَّدٍ لا أغني عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا».
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَا بَنِيَّ انْدُبُوا وَيَا أَهْلَ بَيْتِي وَقَبِيلِي عَلَيَّ عاما فعاما
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢١٤.
152
انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَلْقَمَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: كُلُّ شَيْءٍ نَزَلَ فِيهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فهو مكي، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَهُوَ مَدَنِيٌّ. أَمَّا فِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا فِي يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا يَا أَيُّهَا النَّاسُ. وَأَيٌّ فِي أَيُّهَا مُنَادَى مُفْرَدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، وَلَيْسَتِ الضَّمَّةُ فِيهِ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ وَالرِّيَاشِيِّ، وَهِيَ وَصْلَةٌ لِنِدَاءِ مَا فِيهِ الألف واللام مَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُنَادَى تَوَصُّلٌ بِنِدَاءِ أَيْ إِلَى نِدَائِهِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَهَاءُ التَّنْبِيهِ كَأَنَّهَا عِوَضٌ مِمَّا مُنِعَتْ مِنَ الْإِضَافَةِ وَارْتَفَعَ النَّاسُ عَلَى الصِّفَةِ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ بِنَاءَ أَيْ شَبِيهٌ بِالْإِعْرَابِ، فَلِذَلِكَ جَازَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْمَوْضِعِ، خِلَافًا لِأَبِي عُثْمَانَ. وَزَعَمَ أَبُو الْحَسَنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّ أَيًّا فِي النِّدَاءِ مَوْصُولَةٌ وَأَنَّ الْمَرْفُوعَ بَعْدَهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَإِذَا قَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَتَقْدِيرُهُ: يَا مَنْ هُوَ الرَّجُلُ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ أَبِي عُثْمَانَ مُسْتَقْصًى فِي النَّحْوِ.
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ: وَلَمَّا وَاجَهَ تَعَالَى النَّاسَ بِالنِّدَاءِ أَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ شَمِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. لَا يُقَالُ: الْمُؤْمِنُونَ عَابِدُونَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْأَمْرُ بِمَا هُمْ مُلْتَبِسُونَ بِهِ؟ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِمْ أَمْرٌ بِالِازْدِيَادِ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَصَحَّ مُوَاجَهَةُ الْكُلِّ بِالْعِبَادَةِ، وَانْظُرْ لِحُسْنِ مَجِيءِ الرَّبِّ هُنَا، فَإِنَّهُ السَّيِّدُ وَالْمُصْلِحُ، وَجَدِيرٌ بِمَنْ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُصْلِحًا أَحْوَالَ الْعَبْدِ أَنْ يُخَصَّ بِالْعِبَادَةِ وَلَا يُشْرِكَ مَعَ غَيْرِهِ فِيهَا. وَالْخِطَابُ، إِنْ كَانَ عَامًّا، كَانَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَكُمْ صِفَةَ مَدْحٍ، وَإِنْ كَانَ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانَتْ لِلتَّوْضِيحِ، إِذْ لَفْظُ الرَّبِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ آلِهَتِهِمْ، وَنَبَّهَ بِوَصْفِ الْخَلْقِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ دُونَ غَيْرِهِ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ
«١»، أَوْ عَلَى امْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ بِالْخَلْقِ عَلَى الصُّورَةِ الْكَامِلَةِ، وَالتَّمْيِيزِ عَنْ غَيْرِهِمْ بِالْعَقْلِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، أَوْ عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرَهُ، وَوَصْفُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَلْقِ مُوجِبٌ لِلْعِبَادَةِ، إِذْ هُوَ جَامِعٌ لِمَحَبَّةِ الِاصْطِنَاعِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَالْمُحِبُّ يَكُونُ عَلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الطَّاعَةِ لِمَنْ يُحِبُّ. وَقَالُوا: الْمَحَبَّةُ ثَلَاثٌ، فَزَادُوا مَحَبَّةَ الطِّبَاعِ كَمَحَبَّةِ الْوَالِدِ لِوَلِدِهِ، وَأَدْغَمَ أَبُو عمرو خلقكم، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَلْقِ فِي اللُّغَةِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ وَالْإِنْشَاءِ فَلَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
(١) سورة النمل: ١٦/ ١٧. [.....]
153
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، فَمُقْتَضَى اللُّغَةِ أَنَّهُ قَدْ يُوصَفُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، كَبَيْتِ زُهَيْرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «١»، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ «٢». وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، أُسْتَاذُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ: إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَالِقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَالتَّسْوِيَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِكْرِ وَالظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. وَكَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَكَلَامُ الْبَصْرِيِّ مُصَادِمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ «٣»، إِذْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ اسم الخالق على الله، وَفِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَعَطَفَ قوله: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي خَلَقَكُمْ، وَالْمَعْطُوفُ مُتَقَدِّمٌ فِي الزَّمَانِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَبَدَأَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الزَّمَانِ، لِأَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ بِأَحْوَالِ نَفْسِهِ أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ غَيْرِهِ، إِذْ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلِأَنَّهُمُ الْمُوَاجَهُونَ بِالْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ، فَتَنْبِيهُهُمْ أَوَّلًا عَلَى أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ آكَدُ وَأَهَمُّ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِصِفَةِ الْخَلْقِ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ مُقِرَّةٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ، وَالنَّاسُ تَبَعٌ لَهُمْ، إِذْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُمْ، جَعَلَهُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِفَتْحِ مِيمِ مِنْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُشْكِلَةٌ وَوَجْهُهَا عَلَى إِشْكَالِهَا أَنْ يُقَالَ: أَقْحَمَ الْمَوْصُولَ الثَّانِيَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَصِلَتِهِ تَأْكِيدًا، كَمَا أَقْحَمَ جَرِيرٌ فِي قَوْلِهِ:
يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيٍّ لَا أَبَا لَكُمُ تَيْمًا الثَّانِي بَيْنَ الْأَوَّلِ وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَكَإِقْحَامِهِمْ لَامَ الْإِضَافَةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي لَا أَبَا لَكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ الَّذِي خَرَّجَ الزَّمَخْشَرِيُّ قِرَاءَةُ زَيْدٍ عَلَيْهِ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ النَّحْوِيِّينَ زَعَمَ أَنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بَعْدَ الْمَوْصُولِ بِمَوْصُولٍ آخَرَ فِي مَعْنَاهُ مُؤَكِّدٍ لَهُ، لَمْ يَحْتَجِ الْمَوْصُولُ الثَّانِي إِلَى صِلَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
مِنَ النَّفَرِ اللَّائِي الَّذِينَ أَذَاهُمُ يَهَابُ اللِّئَامُ حَلْقَةَ الْبَابِ قَعْقَعُوا
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٤.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ١١٠.
(٣) سورة الحشر: ٥٩/ ٢٤.
154
فَإِذَا وَجَوَابُهَا صِلَةُ اللَّائِي، وَلَا صِلَةَ لِلَّذِينَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِهِ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ إِذَا أُكِّدَ الْمَوْصُولُ أَنْ تُكَرِّرَهُ مَعَ صِلَتِهِ لِأَنَّهَا مِنْ كَمَالِهِ، وَإِذَا كَانُوا أَكَّدُوا حَرْفَ الْجَرِّ أَعَادُوهُ مَعَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِافْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، وَلَا يُعِيدُونَهُ وَحْدَهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، فَالْأَحْرَى أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِالْمَوْصُولِ الَّذِي الصِّلَةُ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْهُ. وَخَرَّجَ أَصْحَابُنَا الْبَيْتَ عَلَى أَنَّ الصِّلَةَ لِلْمَوْصُولِ الثَّانِي وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ذَلِكَ الْمُبْتَدَأُ وَالْمَوْصُولُ فِي مَوْضِعِ الصِّلَةِ لِلْأَوَّلِ تَقْدِيرُهُ من النفر اللائي هُمُ الَّذِينَ أَذَاهُمْ، وَجَازَ حَذْفُ الْمُبْتَدَأِ وَإِضْمَارِهِ لِطُولِ خَبَرِهِ، فَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ قِرَاءَةُ زَيْدٍ أَنْ يَكُونَ قَبْلَكُمْ صِلَةَ مِنْ، وَمِنْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَذَلِكَ الْمُبْتَدَأُ وَخَبَرُهُ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِينَ، التَّقْدِيرُ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ صِلَةُ الَّذِينَ قَوْلَهُ: مِنْ قَبْلِكُمْ، وَفِي ذَلِكَ إِشْكَالٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ أَعْيَانٌ، وَمِنْ قَبْلِكُمْ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ نَاقِصٌ لَيْسَ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ عَنِ الْأَعْيَانِ فَائِدَةٌ، فَكَذَلِكَ الْوَصْلُ بِهِ إِلَّا عَلَى تأويل، وتأويله أنه يؤول إِلَى أَنَّ ظَرْفَ الزَّمَانِ إِذَا وُصِفَ صَحَّ وُقُوعُهُ خَبَرًا نَحْوَ: نَحْنُ فِي يَوْمٍ طَيِّبٍ، كَذَلِكَ يُقَدَّرُ هَذَا وَالَّذِينَ كَانُوا مِنْ زَمَانٍ قَبْلَ زَمَانِكُمْ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَإِنْ كَانَ خَلْقُهُمْ لَا يَقْتَضِي الْعِبَادَةَ عَلَيْنَا لِأَنَّهُمْ كَالْأُصُولِ لَهُمْ، فَخَلْقُ أُصُولِهِمْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْعَامِ عَلَى فُرُوعِهِمْ، فَذَكَّرَهُمْ عَظِيمَ إِنْعَامِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُصُولِهِمْ بِالْإِيجَادِ.
وَلَيْسَتْ لَعَلَّ هُنَا بِمَعْنَى كَيْ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنَّهَا لِلتَّرَجِّي وَالْإِطْمَاعِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ التَّرَجِّيَ لَا يَقَعُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ «١»، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا عَبَدْتُمْ رَبَّكُمْ رَجَوْتُمُ التَّقْوَى، وَهِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْوِقَايَةُ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ تَعَلُّقُهَا بِخَلَقَكُمْ لِأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُوجَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَهُوَ بِحَيْثُ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ تَعَلُّقِهَا بِخَلَقَكُمْ، قَالَ: لَعَلَّ وَاقِعَةٌ فِي الْآيَةِ مَوْقِعَ الْمَجَازِ لَا الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ عِبَادَهُ لِيَتَعَبَّدَهُمْ بِالتَّكْلِيفِ، وَرَكَّبَ فِيهِمُ الْعُقُولَ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ فِي أَقْدَارِهِمْ وَتَمْكِينِهِمْ، وَهَدَاهُمُ النَّجْدَيْنِ، وَوَضَعَ فِي أَيْدِيهِمْ زِمَامَ الِاخْتِيَارِ، وَأَرَادَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ وَالتَّقْوَى، فَهُمْ فِي صُورَةِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقُوا لِتَرَجُّحِ أَمْرِهِمْ، وَهُمْ مُخْتَارُونَ بَيْنَ الطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ، كَمَا تَرَجَّحَتْ حَالُ الْمُرْتَجِي بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مُخْتَارٌ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ اللَّهَ مِنْهُ إِلَّا فِعْلَ الْخَيْرِ، وهي مسألة
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٧٣.
155
يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ أَنْ يَكُونَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. فَالَّذِي نُودُوا لِأَجْلِهِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا ذَلِكَ وَأَتَى بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْضِيحِ أَوِ الْمَدْحِ لِلَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْعِبَادَةُ، فَلَمْ يجأ بِالْمَوْصُولِ لِيُحَدِّثَ عَنْهُ بَلْ جَاءَ فِي ضِمْنِ الْمَقْصُودِ بِالْعِبَادَةِ. وَأَمَّا صِلَتُهُ فَلَمْ يجأ بِهَا لِإِسْنَادٍ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ، إِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِتَتْمِيمِ مَا قَبْلَهَا. وَإِذَا كَانَ كذلك فكونها لم يجأ بِهَا لِإِسْنَادٍ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُهْتَمَّ بِهَا فَيَتَعَلَّقُ بِهَا تَرَجٍّ أَوْ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: اعْبُدُوا، فَإِنَّهَا الْجُمْلَةُ الْمُفْتَتَحُ بِهَا أَوَّلًا وَالْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ. وَإِذَا تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا، كَانَ ذَلِكَ مُوَافِقًا، إِذْ قَوْلُهُ:
اعْبُدُوا خِطَابٌ، وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ خِطَابٌ.
وَلَمَّا اخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَعَلُّقَهُ بِالْخَلْقِ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ كَمَا خَلَقَ الْمُخَاطَبِينَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَكَذَلِكَ خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لِذَلِكَ قَصَرَهُ عَلَيْهِمْ دُونَ مَنْ قَبْلَهُمْ، قُلْتُ: لَمْ يَقْصُرْهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ غَلَّبَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْغَائِبِينَ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عَلَى إِرَادَتِهِمْ جَمِيعًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَرْجِيحُ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا، فَيَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ:
لَعَلَّ مُتَّصِلَةٌ بِاعْبُدُوا لَا بِخَلَقَكُمْ، لِأَنَّ مَنْ دَرَأَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجَهَنَّمَ لَمْ يَخْلُقْهُ لِيَتَّقِيَ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: افْعَلُوا ذَلِكَ عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ أَنْ تَتَّقُوا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَمَّا جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْخَلْقِ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا قِيلَ: تَعْبُدُونَ لِأَجْلِ اعْبُدُوا أَوِ اتَّقُوا الْمَكَانَ تَتَّقُونَ لِيَتَجَاوَبَ طَرَفَا النَّظْمِ؟ قُلْتُ: لَيْسَتِ التَّقْوَى غَيْرَ الْعِبَادَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى تَنَافُرِ النَّظْمِ، وَإِنَّمَا التَّقْوَى قُصَارَى أَمْرِ الْعَابِدِ وَمُنْتَهَى جُهْدِهِ، فَإِذَا قَالَ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَقْصَى غَايَاتِ الْعِبَادَةِ كَانَ أَبْعَثُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَأَشَدُّ إِلْزَامًا لَهَا وَأَثْبَتُ لَهَا فِي النُّفُوسِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الْخَلْقَ كَانَ لِأَجْلِ التَّقْوَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِيَتَجَاوَبَ طَرَفَا النَّظْمِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ هُنَا تَجَاوُبُ طَرَفَيِ النَّظْمِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَوِ اتَّقُوا رَبَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْمَعْنَى، إِذْ هُوَ مِثْلُ: اضْرِبْ زَيْدًا لَعَلَّكَ تَضْرِبُهُ، وَاقْصِدْ خَالِدًا لَعَلَّكَ تَقْصِدُهُ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ غَثَاثَةِ اللَّفْظِ وَفَسَادِ الْمَعْنَى، والقرآن متنزه عَنْ ذَلِكَ.
وَالَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، إِذِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْعِبَادَةِ عَلَى رَجَائِهِمْ عِنْدَ حُصُولِهَا حُصُولَ التَّقْوَى لَهُمْ، لِأَنَّ التَّقْوَى مَصْدَرُ اتَّقَى، وَاتَّقَى مَعْنَاهُ اتِّخَاذُ الْوِقَايَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهَذَا مَرْجُوٌّ حُصُولُهُ عِنْدَ حُصُولِ الْعِبَادَةِ. فَعَلَى هَذَا، الْعِبَادَةُ لَيْسَتْ نَفْسَ التَّقْوَى، لِأَنَّ الِاتِّقَاءَ هُوَ الاحتزاز عَنِ الْمَضَارِّ، وَالْعِبَادَةُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ لَيْسَ نَفْسُ
156
الِاحْتِرَازِ بَلْ يُوجِبُ الِاحْتِرَازَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اعْبُدُوهُ فَتَحْتَرِزُوا عَنْ عِقَابِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ اتِّقَاءً فَهُوَ مَجَازٌ، وَمَفْعُولُ يَتَّقُونَ مَحْذُوفٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّرْكُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
النَّارُ، أَوْ مَعْنَاهُ تُطِيعُونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ: وَمَنْ قَالَ الْمَعْنَى الَّذِي خَلَقَكُمْ رَاجِينَ لِلتَّقْوَى. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فِيهِ بُعْدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ خَلَقَهُمْ رَاجِينَ لِلتَّقْوَى كَانُوا مُطِيعِينَ مَجْبُولِينَ عَلَيْهَا، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَعْنِي أَنَّهُمْ لَوْ خُلِقُوا وَهُمْ رَاجُونَ لِلتَّقْوَى لَكَانَ ذَلِكَ مَرْكُوزًا فِي جِبِلَّتِهِمْ، فَكَانَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ غَيْرُ التَّقْوَى وَهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ، بَلِ الْمَعَاصِي هِيَ الْوَاقِعَةُ كَثِيرًا، وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، وَقَدْ يُخْلَقُ الْإِنْسَانُ رَاجِيًا لِشَيْءٍ فَلَا يَقَعُ مَا يَرْجُوهُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ فِيمَا يَفْعَلُهُ أَوْ يَتْرُكُهُ، بَلْ نَجِدُ الْإِنْسَانَ يَعْتَقِدُ رُجْحَانَ التَّرْكِ فِي شَيْءٍ ثُمَّ هُوَ يَفْعَلُهُ، وَلَقَدْ صَدَقَ الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ:
عِلْمِي بِقُبْحِ الْمَعَاصِي حِينَ أَرْكَبُهَا يَقْضِي بِأَنِّي مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَرِ
فَلَا يَلْزَمُ مِنْ رَجَاءِ الْإِنْسَانِ لِشَيْءٍ وُقُوعُ مَا يُرْتَجَى، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ، أَعْنِي تَقْدِيرَ الْحَالِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ لعل للا يشاء، فَهِيَ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَيْسَتْ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً فَيَصِحُّ وُقُوعُهَا حَالًا.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: هذه الآية، يريد: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنَّهُمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. وَالْمَوْصُولُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ: الَّذِي جَعَلَ يَجُوزُ رَفْعُهُ وَنَصْبُهُ، فَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَهُوَ رَفْعٌ عَلَى الْقَطْعِ، إِذْ هُوَ صِفَةُ مَدْحٍ، قَالُوا: أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صِلَةَ الَّذِي وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا قَدْ مَضَيَا، فَلَا يُنَاسِبُ دُخُولَ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، لِأَنَّ مِنَ الرَّوَابِطِ عِنْدَهُ تَكْرَارُ الْمُبْتَدَأِ بِمَعْنَاهُ، فَالَّذِي مُبْتَدَأٌ، وفَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَالرَّابِطُ لَفْظُ اللَّهِ مِنْ لِلَّهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، وَهَذَا مِنْ تَكْرَارِ الْمُبْتَدَأِ بِمَعْنَاهُ.
وَلَا نَعْرِفُ إِجَازَةَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ. أَجَازَ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ قَامَ أَبُو عَمْرٍو، إِذَا كَانَ أَبُو عَمْرٍو كُنْيَةً لِزَيْدٍ، وَنَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ. وَأَمَّا نَصْبُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَطْعِ، إِذْ هُوَ وُصْفُ مَدْحٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِمَا كَانَ لَهُ وَصْفًا الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَهُوَ رَبُّكُمْ، قَالُوا: وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَيَكُونُ نَعْتًا لِلنَّعْتِ وَنَعْتُ النَّعْتِ مِمَّا يُحِيلُ تَكْرَارَ النُّعُوتِ. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ النَّعْتَ لَا يُنْعَتُ، بَلِ النُّعُوتُ كُلُّهَا
157
رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعُوتٍ وَاحِدٍ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّعْتُ لَا يُمْكِنُ تَبَعِيَّتُهُ لِلْمَنْعُوتِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ نَعْتًا لِلنَّعْتِ الْأَوَّلِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: يَا أَيُّهَا الْفَارِسُ ذُو الْجُمَّةِ. وَأَجَازَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ نَصْبَهُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَمَا قَبْلَهُ لَيْسَ بِمُلْتَبِسٍ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مُفَسِّرٍ لَهُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَأَجَازَ أَيْضًا نَصْبَهُ بِتَتَّقُونَ، وَهُوَ إِعْرَابٌ غَثٌّ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ. وَإِنَّمَا أَتَى بِقَوْلِهِ الَّذِي دُونَ وَاوٍ لِتَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ وَمَا قَبْلَهَا رَاجِعِينَ إِلَى مَوْصُوفٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَوْ كَانَتْ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ ذَلِكَ مَوْصُوفًا آخَرَ، لِأَنَّ الْعَطْفَ أَصْلُهُ الْمُغَايَرَةُ.
وَجَعَلَ: بِمَعْنَى صَيَّرَ، لِذَلِكَ نُصِبَتِ الْأَرْضُ. وَفِرَاشًا، وَلَكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلَ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَنْتَصِبَ فِرَاشًا وَبِنَاءً عَلَى الْحَالِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَغَايَرَ اللَّفْظَ كَمَا غَايَرَ فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «١»، لِأَنَّهُ قَصَدَ إِلَى ذِكْرِ جُمْلَتَيْنِ، فَغَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ فِي الْفَصَاحَةِ، كَاخْتِلَافِ اللَّفْظِ وَالْمَدْلُولِ وَاحِدٌ. وَأَدْغَمَ أَبُو عَمْرٍو لَامَ جَعَلَ فِي لَامِ لَكُمْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْأَرْضِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ الْخَاصِّ، فَيَكُونَ الْمُرَادُ أَرْضًا مَخْصُوصَةً، وَهِيَ كُلُّ مَا تَمَهَّدَ وَاسْتَوَى مِنَ الْأَرْضِ وَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ فِرَاشًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَيَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفِرَاشِ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ وَاللُّبْثِ لِكُلِّ حَيَوَانٍ. فَالْوَهْدُ مُسْتَقَرُّ بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَالْجِبَالُ وَالْحُزُونُ مُسْتَقَرٌّ لِبَعْضِ الْآدَمِيِّينَ بُيُوتًا أَوْ حُصُونًا وَمَنَازِلَ، أَوْ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ وَحْشًا وَطَيْرًا يَفْتَرِشُونَ مِنْهَا أَوْكَارًا، وَيَكُونُ الِامْتِنَانُ عَلَى هَذَا مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ لَهُ قَرَارًا. وَغَلَبَ خِطَابُ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى مَنْ لَا يَعْقِلُ، أَوْ يَكُونُ خِطَابُ الِامْتِنَانِ وَقَعَ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّ مَا عَدَاهُمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مُعَدٌّ لِمَنَافِعِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، فَخَلَقَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمِنَّةِ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ. وَقَرَأَ يَزِيدٌ الشَّامِيُّ: بِسَاطًا، وَطَلْحَةُ:
مِهَادًا. وَالْفِرَاشُ، وَالْمِهَادُ، وَالْبِسَاطُ، وَالْقَرَارُ، وَالْوِطَاءُ نَظَائِرُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمُنَجِّمِينَ بِقَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً عَلَى أَنَّ الأرض مبسوطة لا كرية، وبأنها لو كانت كرية مَا اسْتَقَرَّ مَاءُ الْبِحَارِ فِيهَا. أَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ مسطحة ولا كرية، إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّاسَ يَفْتَرِشُونَهَا كَمَا يَتَقَلَّبُونَ بِالْمَفَارِشِ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى شَكْلِ السَّطْحِ أَوْ عَلَى شَكْلِ الْكُرَةِ، وَأَمْكَنَ الِافْتِرَاشُ فِيهَا لِتَبَاعُدِ أَقْطَارِهَا وَاتِّسَاعِ جِرْمِهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا كَانَ يَعْنِي الِافْتِرَاشُ سَهْلًا فِي الْجَبَلِ، وَهُوَ وَتَدٌ مِنْ أَوْتَادِ الْأَرْضِ، فَهُوَ أَسْهَلُ فِي الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّولِ
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١.
158
وَالْعَرْضِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِاسْتِقْرَارِ مَاءِ الْبِحَارِ فِيهَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، قَالُوا: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أن تكون كرية وَيَكُونُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا مُنْسَطَحٌ يَصْلُحُ لِلِاسْتِقْرَارِ، وَمَاءُ الْبَحْرِ مُتَمَاسِكٌ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِمُقْتَضَى الْهَيْئَةِ، انْتَهَى قَوْلُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون بعض الشكل الكري مَقَرًّا لِلْمَاءِ إِذَا كَانَ ذلك الشَّكْلُ ثَابِتًا غَيْرَ دَائِرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ دَائِرًا فَيَسْتَحِيلُ عَادَةً قَرَارُهُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الشكل الكريّ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بِناءً: هُوَ تَشْبِيهٌ بِمَا يُفْهَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ «١»، شُبِّهَتْ بِالْقُبَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُقَالُ لِسَقْفِ الْبَيْتِ بِنَاءٌ، وَالسَّمَاءُ لِلْأَرْضِ كَالسَّقْفِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقِيلَ: سَمَّاهَا بِنَاءً، لِأَنَّ سَمَاءَ الْبَيْتِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً غَيْرَ بِنَاءٍ، كَالْخِيَامِ وَالْمَضَارِبِ وَالْقِبَابِ، لَكِنَّ الْبَنَاءَ أَبْلَغُ فِي الْإِحْكَامِ وَأَتْقَنُ فِي الصَّنْعَةِ وَأَمْنَعُ لِوُصُولِ الْأَذَى إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، فَوَصَفَ السَّمَاءَ بِالْأَبْلَغِ وَالْأَتْقَنِ وَالْأَمْنَعِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِظْهَارِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ حِكْمَتِهِ، إِذِ الْمَعْلُومُ أَنَّ كُلَّ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ لَا يَتَهَيَّأُ إِلَّا بِأَسَاسٍ مُسْتَقِرٍّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ بِعَمْدٍ وَأَطْنَابٍ مَرْكُوزَةٍ فِيهَا، وَالسَّمَاءُ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِظَمِ، وَهِيَ سَبْعُ طِبَاقٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَعَلَيْهَا مِنْ أَثْقَالِ الْأَفْلَاكِ وَأَجْنَاسِ الْأَمْلَاكِ وَأَجْرَامِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي لَا يُعَبَّرُ عَنْ عِظَمِهَا وَلَا يُحْصَى عَدَدُهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَسَاسٍ يُمْسِكُهَا وَلَا عَمَدٍ تُقِلُّهَا وَلَا أَطْنَابَ تَشُدُّهَا، وَهِيَ لَوْ كَانَتْ بِعَمَدٍ وَأَسَاسٍ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَحْكَمِ الْمُبْدِعَاتِ، فَكَيْفَ وَهِيَ عَارِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ مُمْسَكَةٌ بِالْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «٢». وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِنَاءً لِتَمَاسُكِهَا كَمَا يَتَمَاسَكُ الْبِنَاءُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ.
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ السَّحَابُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ السَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنَ السُّمُوِّ، وَلَا يَجُوزُ الْإِضْمَارُ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الثَّانِي فَحُسْنُ الْإِظْهَارِ دُونَ الْإِضْمَارِ هُنَا كَونُ السَّمَاءِ الْأُولَى فِي ضِمْنِ جُمْلَةٍ، وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ بِنَفْسِهَا أَنْ تَكُونَ صِلَةً تَامَّةً لَوْلَا عَطْفُهَا، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَنْزَلَ وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَاءٍ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ نَعْتًا فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَاهَا إِذْ ذَاكَ التَّبْعِيضُ، وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ مضاف محذوف أي من مِيَاهِ السَّمَاءِ وَنَكَّرَ. مَاءً لِأَنَّ الْمَنْزِلَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَإِنَّمَا هُوَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ. فَأُخْرِجَ بِهِ: وَالْهَاءُ فِي بِهِ عَائِدَةٌ إِلَى الْمَاءِ، وَالْبَاءُ معناها
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٤٧.
(٢) سورة فاطر: ٣٥/ ٤١.
159
السَّبَبِيَّةُ. فَالْمَاءُ سَبَبٌ لِلْخُرُوجِ، كَمَا أَنَّ مَاءَ الْفَحْلِ سَبَبٌ فِي خَلْقِ الْوَلَدِ، وَهَذِهِ السَّبَبِيَّةُ مَجَازٌ، إِذِ الْبَارِي تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أن ينشىء الْأَجْنَاسَ، وَقَدْ أَنْشَأَ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وَلَا سَبَبٍ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَدَ خَلْقَهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ أَمْرٍ مَا، أَجْرَى ذَلِكَ الْأَمْرَ مَجْرَى السَّبَبِ لَا أَنَّهُ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ. وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي إِنْشَاءِ الْأُمُورِ مُنْتَقِلَةً مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ حِكَمٌ يُسْتَنْصَرُ بِهَا، لَمْ يَكُنْ فِي إِنْشَائِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ انْتِقَالِ أَطْوَارٍ، لِأَنَّ فِي كُلِّ طَوْرٍ مُشَاهَدَةَ أَمْرٍ مِنْ عَجِيبِ التَّنَقُّلِ وَغَرِيبِ التَّدْرِيجِ تَزِيدُ الْمُتَأَمِّلَ تَعْظِيمًا لِلْبَارِي. مِنَ الثَّمَرَاتِ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الثَّمَرَاتِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ارْتِكَابِ أَنَّ الثَّمَرَاتِ مِنْ بَابِ الْجُمُوعِ الَّتِي يَتَفَاوَتُ بَعْضُهَا مَوْضِعَ بَعْضٍ لِالْتِقَائِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ، نَحْوُ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ «١»، وثَلاثَةَ قُرُوءٍ «٢»، فَقَامَتِ الثَّمَرَاتُ مَقَامَ الثَّمَرِ أَوِ الثِّمَارِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْجَمْعِ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَهُوَ وإن كان جمع قلة، فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الَّتِي لِلْعُمُومِ تَنْقِلُهُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ لِجَمْعِ الْقِلَّةِ لِلْعُمُومِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّمَرَاتِ وَالثِّمَارِ، إِذِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِيهِمَا، وَلِذَلِكَ رَدَّ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَنْ نَقَدَ عَلَى حَسَّانَ قَوْلَهُ:
لَنَا الْجَفَنَاتُ الغر يا معن فِي الضُّحَى وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا
بِأَنَّ هَذَا جَمْعَ قِلَّةٍ، فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى زَعْمِهِ أَنْ يَقُولَ: الْجِفَانُ وَسُيُوفُنَا، وَهُوَ نَقْدٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ يَنْقِلُهُ، وَأَبْعَدُ مَنْ جَعَلَ مِنْ زَائِدَةً، وَجَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زِيَادَةَ مِنْ فِي الْوَاجِبِ، وَقِيلَ مَعْرِفَةً، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ إِلَّا الْأَخْفَشُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الثَّمَرَاتِ الَّتِي أَخْرَجَهَا رِزْقًا لَنَا، وَكَمْ مِنْ شَجَرَةٍ أَثْمَرَتْ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رِزْقًا لَنَا، وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ كَانَ بَعْضُ الثِّمَارِ رِزْقًا لَنَا وَبَعْضُهَا لَا يَكُونُ رِزْقًا لَنَا، وَهُوَ الْوَاقِعُ. وَنَاسَبَ فِي الْآيَةِ تَنْكِيرُ الْمَاءِ وَكَوْنُ مِنْ دَالَّةٍ عَلَى التَّبْعِيضِ وَتَنْكِيرُ الرِّزْقِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ بَعْضَ الْمَاءِ فَأَخْرَجَ بِهِ بَعْضَ الثَّمَرَاتِ بَعْضَ رِزْقٍ لَكُمْ، إِذْ لَيْسَ جَمِيعُ رِزْقِهِمْ هُوَ بَعْضُ الثَّمَرَاتِ، إِنَّمَا ذَلِكَ بَعْضُ رِزْقِهِمْ، وَمِنَ الثَّمَرَاتِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ بِأَخْرَجَ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا رِزْقًا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَرْزُوقُ كَالطَّحْنِ وَالرَّعْيِ، أَوْ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ لَهُ فِيهِ مَوْجُودَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَخْرَجَ، وَيَكُونُ رِزْقًا مَفْعُولًا بِأَخْرَجَ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: مِنَ الثَّمَرَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ، يُرِيدُ به
(١) سورة الدخان: ٤٤/ ٢٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٨.
160
الْجَمْعَ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ أُدْرِكَتْ ثَمَرَةُ بُسْتَانِهِ، يُرِيدُونَ ثِمَارَهُ. وَقَوْلُهُمْ: لِلْقَصِيدَةِ كَلِمَةً، وَلِلْقَرْيَةِ مَدَرَةً، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْإِفْرَادَ. وَلَكُمْ: إِنْ أُرِيدَ بِالرِّزْقِ الْمَصْدَرُ كَانَتِ الْكَافُ مَفْعُولًا بِهِ وَاللَّامُ مَنَوِيَّةً لِتَعَدِّي الْمَصْدَرِ إِلَيْهِ نَحْوَ: ضَرَبْتُ ابْنِي تَأْدِيبًا لَهُ، أَيْ تَأْدِيبَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَرْزُوقَ كَانَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنًا لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ مُتَعَلِّقًا بِأَخْرَجَ، أَيْ فَأَخْرَجَ لَكُمْ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا. وَانْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: رِزْقًا لَكُمْ ذَكَرَ خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ: اثْنَيْنِ مِنَ الْأَنْفُسِ خَلْقَهُمْ وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَثَلَاثَةً مِنْ غَيْرِ الْأَنْفُسِ كَوْنُ الْأَرْضِ فِرَاشًا وَكَوْنُ السَّمَاءِ بِنَاءً، وَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا تَقَدُّمُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَثَنَّى بِخَلْقِ الْآبَاءِ، وَثَلَّثَ بِالْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَدَّمَ السَّمَاءَ عَلَى نُزُولِ الْمَطَرِ وَإِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ، لِأَنَّ هَذَا كَالْأَمْرِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْأَثَرُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمُؤَثِّرِ. وَقِيلَ: قَدَّمَ الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّ خَلْقَهُمْ أَحْيَاءً قَادِرِينَ أَصْلٌ لِجَمِيعِ النِّعَمِ. وَأَمَّا خَلْقُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالثَّمَرِ، فَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِشَرْطِ حُصُولِ الْخَلْقِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْعَقْلِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَمَنْ قَالَ السَّمَاءَ أَفْضَلُ قَالَ: لِأَنَّهَا مُتَعَبَّدُ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ بُقْعَةٍ عصى الله فيها، وَلِأَنَّ آدَمَ لَمَّا عَصَاهُ قَالَ:
لَا تَسْكُنُ جِوَارِي، وَلِتَقْدِيمِ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ، وَلِأَنَّ فِيهَا الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ وَاللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ وَالْقَلَمَ، وَأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ. وَمَنْ قَالَ الْأَرْضُ أَفْضَلُ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ مِنْهَا بِقَاعًا بِالْبَرَكَةِ، وَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَخْلُوقُونَ مِنْهَا، وَلِأَنَّهَا مَسْجِدٌ وَطَهُورٌ.
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ، وَسُمُّوا أَنْدَادًا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ أَشْرَكُوهُمْ مَعَهُ تَعَالَى فِي التَّسْمِيَةِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالْعِبَادَةُ صُورَةٌ لَا حَقِيقَةٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ لِذَوَاتِهِمْ بَلْ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يُسَمُّونَ اللَّهَ إِلَهَ الْآلِهَةِ وَرَبَّ الْأَرْبَابِ، وَمَنْ شَابَهَ شَيْئًا فِي وَصْفِ مَا قِيلَ: هُوَ مِثْلُهُ وَشَبَهُهُ وَنِدُّهُ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ دُونَ بَقِيَّةِ أَوْصَافِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ بِصُورَةِ الْجَمْعِ هُوَ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوا لَهُ تَعَالَى نِدًّا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا جَعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا كَثِيرَةً، فَجَاءَ النَّهْيُ عَلَى مَا كَانُوا اتَّخَذُوهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الْأُمُورُ
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّمَيْفَعِ: نِدًّا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَاحِدًا بَلْ أَنْدَادًا، وَهَذَا
161
النَّهْيُ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، أَيْ فَوَحِّدُوهُ وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، لِأَنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ هُوَ التَّوْحِيدُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُتَعَلِّقٌ بِلَعَلَّ، عَلَى أَنْ يَنْتَصِبَ تَجْعَلُوا انْتِصَابَ فَأَطَّلِعَ فِي قَوْلِهِ: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى «١»، فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، أَيْ خَلَقَكُمْ لِكَيْ تَتَّقُوا وَتَخَافُوا عِقَابَهُ فَلَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ لَا نَاهِيَةً بَلْ نَافِيَةً، وَتَجْعَلُوا مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ التَّرَجِّي، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، أَجْرَوْا لَعَلَّ مَجْرَى هَلْ. فَكَمَا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَنْصِبُ الْفِعْلَ فِي جَوَابِهِ فَكَذَلِكَ التَّرَجِّي. فَهَذَا التَّخْرِيجُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْلِيقُ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بِخَلَقَكُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى تَقْدِيرِهِ أَيْ خَلَقَكُمْ لِكَيْ تَتَّقُوا وَتَخَافُوا عِقَابَهُ؟ فَلَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالَّذِي إِذَا جَعَلْتَهُ خبر مبتدأ محذوف، أي هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ وَالدَّلَائِلِ النَّيِّرَةِ الشَّاهِدَةِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَلَا تَجْعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا. وَالظَّاهِرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَفِيهَا مِنَ التَّحْرِيكِ إِلَى تَرْكِ الْأَنْدَادِ وَإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ مَا لَا يَخْفَى، أَيْ أَنْتُمْ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ وَالْإِدْرَاكِ لِلَطَائِفِ الْأَشْيَاءِ وَالِاسْتِخْرَاجِ لِغَوَامِضِ الدَّلَائِلِ، فِي الرُّتْبَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ لِمَنْ تَحَلَّى بِهَا أَنْ يَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَهُ. إِذْ ذَاكَ فِعْلَ مَنْ كَانَ أَجْهَلَ الْعَالَمِ وَأَبْعَدَهُمْ عَنِ الْفِطْنَةِ وَأَكْثَرَهُمْ تَجْوِيزًا لِلْمُسْتَحِيلَاتِ. وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ.
وَالتَّمْيِيزُ تَخْصِيصُ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، لِأَنَّهُ فَسَّرَ تَعْلَمُونَ بِمَعْنَى تَعْقِلُونَ، وَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خلق السموات وَأَنْزَلَ الْمَاءَ، وَفَعَلَ مَا شَرَحَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. وَمَعْنَى هَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ، أَوْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابَيْكُمُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ سِوَاهُ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَوْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا حِجَارَةٌ، قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ، أَوْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِنَ التَّفَاوُتِ، أَوْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَا تَفْعَلُ مِثْلَ أَفْعَالِهِ كَقَوْلِهِ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ «٢» ؟ قَالَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: فَلَا تَجْعَلُوا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلنَّاسِ الْمَأْمُورِينَ بِاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَقَاوِيلُ السَّلَفِ في ذلك.
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٣٦- ٣٧.
(٢) سورة الروم: ٣٠/ ٤٠.
162
قَالَ ابْنُ فُورَكَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، الْمَعْنَى: فَلَا تَرْتَدُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَتَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا بَعْدَ عِلْمِكُمْ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ نَفْيُ الْجَهْلِ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ، هَذِهِ الْآيَةُ تُعْطِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى الْإِنْسَانَ بِنِعَمِهِ هَذِهِ عَنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ، فَمَنْ أَحْوَجَ نَفْسَهُ إِلَى بِشَرٍ مِثْلِهِ بِسَبَبِ الْحِرْصِ وَالْأَمَلِ وَالرَّغْبَةِ فِي زُخْرُفِ الدُّنْيَا، فَقَدْ أَخَذَ بِطَرَفِ مَنْ جَعَلَ نِدًّا، انْتَهَى. وَقَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ يُعْطِي أَنَّ اللَّهَ أَغْنَى الْإِنْسَانَ، خَطَأٌ فِي التَّرْكِيبِ، لِأَنَّ أَعْطَى لَا تَنُوبُ أَنَّ وَمَعْمُولَاهَا مَنَابَ مَفْعُولَيْهَا، بِخِلَافِ ظَنَّ، فَإِنَّهَا تَنُوبُ مَنَابَ مَفْعُولَيْهَا، وَلِذَلِكَ سِرٌّ ذُكِرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: اخْتَصَّ تَعَالَى بِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ: الْخِلْقَةُ الْبَشَرِيَّةُ، وَالْبِنْيَتَانِ الْأَرْضِيَّةُ وَالسَّمَاوِيَّةُ، لِأَنَّهَا مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ وَمَسْرَحُ الْإِبْصَارِ وَمَوَاطِنُ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَبِهَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَقَدَّمَ الْخِلْقَةَ الْبَشَرِيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْعَالَمِ الْأَصْغَرِ، لِمَا فِيهَا مِنْ بَدَائِعِ الصَّنْعَةِ مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ وَصْفُ لِسَانٍ وَلَا يُحِيطُ بِكُنْهِهِ فِكْرُ جَنَانٍ، وَظُهُورُ حُسْنِ الصَّنْعَةِ فِي الْأَشْيَاءِ اللَّطِيفَةِ الْجِرْمِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْأَجْرَامِ الْعِظَامِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ فِي تَقَلُّبِ أَحْوَالِهِ أَقْرَبُ إِلَى ذِهْنِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «١»، أَوْ لِأَنَّ الْعَرَبَ عَادَتُهَا تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ عِنْدَهَا وَالْمُعْتَنَى بِهِ، قَالَ: وَهُوَ تَعَالَى بِإِصْلَاحِ حَالِ الْبِنْيَةِ الْبَشَرِيَّةِ أَكْثَرُ اهْتِمَامًا مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَكْرَمُهَا عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «٢» الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَنَافِعَ لِبَنِي آدَمَ وَأَعَدَّهَا نِعَمًا يَمْتَنُّ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَذِكْرُ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ يَتَقَدَّمُ عَلَى ذِكْرِ النِّعْمَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَرَّفَهُمْ أَنَّهُ خَالِقُهُمْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ مَكَانًا يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَتْ حِكْمَتُهُ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، فَيَسْتَقِرُّونَ فِيهِ جُلُوسًا وَنَوْمًا وَتَصَرُّفًا فِي مَعَايِشِهِمْ، وَجَعَلَ مِنْهُ سَهْلَا لِلْقَرَارِ وَالزَّرْعِ، وَوَعْرًا لِلِاعْتِصَامِ، وَجِبَالًا لِسُكُونِ الْأَرْضِ مِنَ الِاضْطِرَابِ. ثُمَّ لَمَّا مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْمُسْتَقَرِّ أَخْبَرَهُمْ بِجَعْلِ مَا يَقِيهِمْ وَيُظِلُّهُمْ، وَجَعَلَهُ كَالْخَيْمَةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَشْهَدَهُمْ فِيهَا مِنْ غَرَائِبِ الْحِكْمَةِ بِأَنْ أَمْسَكَهَا فَوْقَهُمْ بِلَا عَمَدٍ وَلَا طَنَبٍ لِتَهْتَدِيَ عُقُولُهُمْ، أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، ثُمَّ نَبَّهْهُمْ عَلَى النِّعْمَةِ الْعُظْمَى، وَهِيَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ وَسَبَبُ اهْتِزَازِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، وَأَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَرْضِ عَلَى السَّمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمُ فِي الْقُدْرَةِ وَأَمْكَنُ فِي الْحِكْمَةِ، وَأَتَمُّ فِي النِّعْمَةِ وأكبر في
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٢١.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٧٠.
163
الْمِقْدَارِ، لِأَنَّ السَّقْفَ وَالْبُنْيَانَ، فِيمَا يُعْهَدُ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَسَاسٍ وَعَمَدٍ مُسْتَقِرٍّ عَلَى الْأَرْضِ، فَبَدَأَ بِذِكْرِهَا، إِذْ عَلَى مَتْنِهَا يُوضَعُ الْأَسَاسُ وَتَسْتَقِرُّ الْقَوَاعِدُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُ السَّقْفِ أَوَّلًا قَبْلَ ذِكْرِ الْأَرْضِ الَّتِي تَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا قَوَاعِدُهُ، أَوْ لِأَنَّ الْأَرْضَ خَلْقَهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ وَمَهَّدَ رَوَاسِيهَا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ «١» إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي بِذِكْرِ الْأَدْنَى إِلَى ذِكْرِ الْأَعْلَى.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مِنْ بَدَائِعِ الصَّنْعَةِ، وَدَقَائِقِ الْحِكْمَةِ، وَظُهُورِ الْبَرَاهِينِ، مَا اقْتَضَى تَعَالَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِيجَادِ، الْمُتَكَفِّلُ لِلْعِبَادِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ، الَّتِي لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ وَلَا لَهَا نَفْعٌ وَلَا ضَرٌّ، أَلَا لِلَّهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ: لَمَّا امْتَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا يُرْشِدُهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِمْ، وَأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُتَوَالِدِينَ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، مَخْلُوقِينَ مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى، هُوَ تَعَالَى خَالِقُهُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمُصَوِّرُهُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَمُخْرِجُهُمْ طِفْلًا، وَمُرَبِّيهِمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ غِذَاءٍ وَشَرَابٍ وَلِبَاسٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَدْعُو حَاجَتَهُمْ إِلَيْهَا فَجَعَلَ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ فِرَاشٌ مِثْلَ الْأُمِّ الَّتِي يَفْتَرِشُهَا الزَّوْجُ، وَهِيَ أَيْضًا تُسَمَّى فِرَاشًا، وَشَبَّهَ السَّمَاءَ الَّتِي عَلَتْ عَلَى الْأَرْضِ بِالْأَبِ الَّذِي يَعْلُو عَلَى الْأُمِّ وَيَغْشَاهَا، وَضَرَبَ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ مَثَلًا لِلنُّطْفَةِ الَّتِي تَنْزِلُ مَنْ صُلْبِ الْأَبِ، وَضَرَبَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِالْوَلَدِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ، يُؤْنِسُ تَعَالَى بِذَلِكَ عُقُولَهُمْ وَيُرْشِدُهَا إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ التَّخْلِيقِ، وَيُعَرِّفُهَا أَنَّهُ الْخَالِقُ لِهَذَا الْوَلَدِ وَالْمُخْرِجُ لَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، كَمَا أَنَّهُ الْخَالِقُ لِلثَّمَرَاتِ وَمُخْرِجُهَا مِنْ بُطُونِ أَشْجَارِهَا، وَمُخْرِجُ أَشْجَارِهَا مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ، فَإِذَا أَوْضَحَ ذَلِكَ لَهُمْ أَفْرَدُوهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَخَصُّوهُ بِالْعِبَادَةِ، وَحَصَلَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ. قَوْلُهُ تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
إِنْ: حَرْفٌ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ يَكُونُ شَرْطًا، وَهُوَ أَصْلُ أَدَوَاتِهِ، وَحَرْفُ نَفْيٍ، وَفِي إِعْمَالِهِ إِعْمَالَ مَا الْحِجَازِيَّةِ خِلَافٌ، وَزَائِدًا مُطَّرِدًا بَعْدَ مَا النَّافِيَةِ، وَقَبْلَ مُدَّةِ الْإِنْكَارِ، وَلَا تَكُونُ
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٩. [.....]
164
بِمَعْنَى إِذْ خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَلَا يُعَدُ مِنْ مَوَاضِعِهِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ لِأَنَّهَا ثُلَاثِيَّةُ الْوَضْعِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُهَا فِي التَّصْغِيرِ. الْعَبْدُ: لُغَةً الْمَمْلُوكُ الذَّكَرُ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهَا. الْإِتْيَانُ: الْمَجِيءُ، وَالْأَمْرُ مِنْهُ: ائْتِ، كَمَا جَاءَ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَشَذَّ حَذْفُ فَائِهِ فِي الْأَمْرِ قِيَاسًا وَاسْتِعْمَالًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
تِ لِي آلَ عَوْفٍ فَانَدُّهُمْ لِي جَمَاعَةً وَسَلْ آلَ عَوْفٍ أَيُّ شَيْءٍ يُضِيرُهَا
وَقَالَ آخَرُ:
فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَنْهَضْ لَكُمْ فَنَبِرُّكُمْ فُتُونًا قِفُوا دُونًا إِذَنْ بِالْجَرَائِمِ
السُّورَةُ: الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً؟ وَسُمِّيَتْ سُورَةُ الْقُرْآنِ بِهَا لِأَنَّ قَارِئَهَا يُشْرِفُ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ، كُسُورِ الْبِنَاءِ. وَقِيلَ: لِتَمَامِهَا وَكَمَالِهَا، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّاقَةِ التَّامَّةِ: سُورَةٌ، أَوْ لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْ أَسْأَرَتْ، وَالسُّؤْرِ فَأَصْلُهَا الْهَمْزُ وَخُفِّفَتْ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْهَمْزُ فِيهَا لُغَةٌ. مِنْ مِثْلِهِ: الْمُمَاثَلَةُ تَقَعُ بِأَدْنَى مُشَابَهَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ: مَرَرْتُ بِرَجُلِ مِثْلِكَ، يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ثَلَاثَةً، وَلَفْظَةُ مَثَلٍ لَازِمَةُ الْإِضَافَةِ لَفْظًا، وَلِذَلِكَ لَحَنَ بَعْضُ الْمُوَلَّدِينَ فِي قَوْلِهِ:
وَمِثْلُكَ مَنْ يَمْلِكُ النَّاسَ طُرًّا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّاسِ مَثَلُ
وَلَا يَكُونُ مَحَلًّا خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ. وَلَهُ فِي بَابِ الصِّفَةِ، إِذَا جَرَى عَلَى مُفْرَدٍ وَمُثَنَّى وَمَجْمُوعٍ، حُكْمٌ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. الدُّعَاءُ: الْهَتْفُ بِاسْمِ الْمَدْعُوِّ. الشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ، لِلْمُبَالَغَةِ، كَعَلِيمٍ وَعُلَمَاءُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَاهِدٍ، كَشَاعِرٍ وَشُعَرَاءَ، وَلَيْسَ فُعَلَاءُ بَابَ فَاعِلٍ، دُونَ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُلَازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الْمَجَازِيَّةِ، وَلَا يتصرف فيه بغير من. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا دُونَكَ فَلَا يُرْفَعُ أَبَدًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَدْ ذَكَرَ دُونَكَ وَظُرُوفًا نَحْوَهَا لَا تُسْتَعْمَلُ أَسْمَاءً مَرْفُوعَةً عَلَى اخْتِيَارٍ، وَرُبَّمَا رَفَعُوا. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْأَخْفَشِ: جَوَازُ تَصَرُّفِهِ، خَرَّجَ قَوْلَهُ تَعَالَى وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَبُنِيَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَبْنِي، وَقَدْ جَاءَ مَرْفُوعًا فِي الشِّعْرِ أَيْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَمْ تَرَنِي أَنِّي حَمَيْتُ حَقِيبَتِي وَبَاشَرْتُ حَدَّ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ دُونَهَا
وَتَجِيءُ دُونَ صِفَةٍ بِمَعْنَى رَدِيءٍ، يُقَالُ: ثَوْبٌ دُونَ، أَيْ رَدِيءٌ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يُعْرَبُ بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ وَيَكُونُ دُونَ مُشْتَرَكًا. الصِّدْقُ: يُقَابِلُهُ الْكَذِبُ، وَهُوَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ. لَنْ: حَرْفُ نَفْيٍ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ بَسِيطٌ، لَا مُرَكَّبٌ مِنْ لا إن خِلَافًا
165
لِلْخَلِيلِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَلَا نُونُهَا بَدَلٌ مِنْ أَلِفٍ، فَيَكُونُ أَصْلُهَا لَا خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ، وَلَا يَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، ولا هِيَ أَقْصَرُ نَفْيًا مِنْ لَا إِذْ لَنْ تَنْفِي مَا قَرُبَ، وَلَا يَمْتَدُّ مَعْنَى النَّفْيِ فِيهَا كَمَا يَمْتَدُّ فِي لَا خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَلَا يَكُونُ دُعَاءً خِلَافًا لِزَاعِمِهِ، وَعَمَلُهَا النَّصْبُ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْجَزْمَ بِهَا لُغَةٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ:
لَنْ يَخِبِ الْآنَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ حَرَّكَ دُونَ بَابِكَ الْحَلَقَةْ
وَلَهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. الْوَقُودُ: اسْمٌ لِمَا يُوقَدُ بِهِ، وَقَدْ سُمِعَ مَصْدَرًا، وَهُوَ أَحَدُ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ، وَهِيَ قَلِيلَةٌ، لَمْ يُحْفَظْ مِنْهَا، فِيمَا ذَكَرَ، الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ سِوَى هَذَا، وَالْوُضُوءُ وَالطَّهُورُ وَالْوُلُوعُ وَالْقَبُولُ، الْحِجَارَةُ: جَمْعُ الْحَجَرِ، وَالتَّاءُ فِيهَا لِتَأْكِيدِ تَأْنِيثِ الْجَمْعِ كَالْفُحُولَةِ. أُعِدَّتْ: هُيِّئَتْ.
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا بِهِ مُحَمَّدٌ لَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا احْتَجَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِمَا يُثْبِتُ الْوَحْدَانِيَّةَ وَيُبْطِلُ الإشراك، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا فَهُوَ بِمَعْزِلٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ، أَخَذَ يَحْتَجُّ عَلَى مَنْ شَكَّ فِي النُّبُوَّةِ بِمَا يُزِيلُ شُبْهَتَهُ، وَهُوَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً، وَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِهِ، بِأَنْ يَأْتُوا هُمْ وَمَنْ يَسْتَعِينُونَ بِهِ بِسُورَةِ هَذَا، وَهُمُ الْفُصَحَاءُ الْبُلَغَاءُ الْمُجِيدُونَ حَوْكَ الْكَلَامِ، مِنَ النِّثَارِ والنظام والمتقلبون فِي أَفَانِينِ الْبَيَانِ، وَالْمَشْهُودُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانُوا فِي رَيْبٍ حَقِيقَةً، وَكَانَتْ إِنِ الشَّرْطِيَّةُ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُمْكِنِ أَوِ الْمُحَقَّقِ الْمُبْهَمِ زَمَانَ وُقُوعِهِ، ادَّعَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ إِنْ هُنَا مَعْنَاهَا: إِذَا، لِأَنَّ إِذَا تُفِيدُ مُضِيَّ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ، وَمَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ إِنْ لَا تَكُونُ بِمَعْنَى إِذَا. وَزَعَمَ الْمُبَرِّدُ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ لِكَانَ الْمَاضِيَةِ النَّاقِصَةِ مَعَانٍ حُكْمًا لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ، فَلِقُوَّةِ كَانَ زَعَمَ أَنَّ إِنْ لَا يُقْلَبُ مَعْنَاهَا إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، بَلْ يَكُونُ عَلَى مَعْنَاهُ مِنَ الْمُضِيِّ إِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ إِنْ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ كَانَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَتَأَوَّلُوا مَا ظَاهِرُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ، إِمَّا عَلَى إِضْمَارٍ يَكُنْ بَعْدَ إِنْ نَحْوَ: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ «١» أَيْ إِنْ يَكُنْ كَانَ قَمِيصُهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّبْيِينُ، أَيْ أَنْ يَتَبَيَّنَ كَوْنُ قَمِيصِهِ قدّ.
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٢٦.
166
فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ كَوْنُهُمْ فِي رَيْبٍ مَاضِيًا، وَيَصِيرُ نَظِيرَ مَا لَوْ جَاءَ إِنْ كُنْتَ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فَقَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، إِذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَمْ يُتَأَوَّلْ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ: جَرَى كَلَامُ اللَّهِ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، مِثَالُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ: إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا تُكِنُّهُ الْقُلُوبُ، قَالَ: وَبَيَّنَ هَذَا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُ الْيَهُودِ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَ بِهِ، وَجَعَلَهَا بِمَعْنَى إِذَا وَكَانَ مَاضِيهِ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، أَوْ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي، فِرَارًا مِنْ جَعْلِ مَا بَعْدَ إِنْ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى وَذَلِكَ مُمْكِنٌ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ إِنْ كَانُوا فِي رَيْبٍ فِيمَا مَضَى وَإِنْ تَعَلَّقَ عَلَى كَوْنِهِمْ فِي رَيْبٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ الْمَاضِيَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُسْتَدَامَ، بِأَنْ يَظْهَرَ لِمُعْتَقَدِ الرَّيْبِ فِيمَا مَضَى خِلَافَ ذَلِكَ فَيَزُولُ عَنْهُ الرَّيْبُ، فَقِيلَ: وَإِنْ كُنْتُمْ، أَيْ: وَإِنْ تَكُونُوا فِي رَيْبٍ، بِاسْتِصْحَابِ الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَكُمْ، فَأَتَوْا، وَهَذَا مِثْلُ مَنْ يَقُولُ لِوَلَدِهِ الْعَاقِّ لَهُ:
إِنْ كُنْتَ تَعْصِينِي فَارْحَلْ عَنِّي، فَمَعْنَاهُ: إِنْ تَكُنْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْصِينِي فَارْحَلْ عَنِّي، لَا يُرِيدُ التَّعْلِيقَ عَلَى الْمَاضِي، وَلَا أَنَّ إِنْ بِمَعْنَى إِذَا، إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْعِصْيَانِ وَتَعْلِيقِ الرَّحِيلِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ مَا يَثْبُتُ حَرْفِيَّتُهُ بِمَعْنَى إِذَا الظَّرْفِيَّةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ. وَفِي رَيْبٍ مِنْ تَنْزِيلِ الْمَعَانِي مَنْزِلَةَ الْأَجْرَامِ. وَمِنْ تَحْتَمِلُ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ وَالسَّبَبِيَّةَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. وَمَا مَوْصُولَةً، أي من الذي نزلنا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ نَزَّلْنَاهُ، وَشَرْطُ حَذْفِهِ مَوْجُودٌ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً موصوفة، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى مَا النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَنَزَّلْنَا التَّضْعِيفَ فِيهِ هُنَا لِلنَّقْلِ، وَهُوَ الْمُرَادِفُ لِهَمْزَةِ النَّقْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى مُرَادِفَتِهِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قِرَاءَةُ يَزِيدَ بْنِ قَطِيبٍ مِمَّا أَنْزَلَنَا بِالْهَمْزَةِ، وَلَيْسَ التَّضْعِيفُ هُنَا دَالًّا عَلَى نُزُولِهِ مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لِمَ قِيلَ: مِمَّا نَزَّلَنَا عَلَى لَفْظِ التَّنْزِيلِ دُونَ الْإِنْزَالِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الْمُرَادَ النُّزُولُ عَلَى التَّدْرِيجِ وَالتَّنْجِيمِ، وَهُوَ مِنْ مَجَازِهِ لِمَكَانِ التَّحَدِّي.
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَضْعِيفِ عَيْنِ الْكَلِمَةِ هُنَا، هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّكْثِيرِ، أَيْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِالتَّضْعِيفِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَثْرَةِ.
وَذَهَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تَكُونُ قَبْلَ التَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيَةً، نَحْوَ: جَرَحْتُ زَيْدًا، وَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَقَطَعْتُ، وَذَبَحْتُ، لَا يُقَالُ: جَلَّسَ زَيْدٌ، وَلَا قعد عمرو، وَلَا صَوَّمَ جَعْفَرٌ، وَنَزَّلْنَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا قَبْلَ التَّضْعِيفِ إِنَّمَا كَانَ لَازِمًا، وَتَعَدِّيهِ إِنَّمَا
167
يُفِيدُهُ التَّضْعِيفُ أَوِ الْهَمْزَةُ، فَإِنْ جَاءَ فِي لَازِمٍ فَهُوَ قَلِيلٌ. قَالُوا: مَاتَ الْمَالُ، وَمَوَّتَ الْمَالَ، إِذَا كَثُرَ ذَلِكَ فِيهِ، وَأَيْضًا، فَالتَّضْعِيفُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ، أَمَّا أَنْ يَجْعَلَ اللَّازِمَ مُتَعَدِّيًا فَلَا، وَنَزَّلْنَا قَبْلَ التَّضْعِيفِ كَانَ لَازِمًا وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا، فَيَكُونُ التَّعَدِّي الْمُسْتَفَادُ مِنَ التَّضْعِيفِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لِلنَّقْلِ لَا لِلتَّكْثِيرِ، إِذْ لَوْ كَانَ لِلتَّكْثِيرِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى اللَّازِمِ، بَقِيَ لَازِمًا نَحْوَ: مَاتَ الْمَالُ، وَمَوَّتَ الْمَالُ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ التَّضْعِيفُ فِي نَزَلَ مُفِيدًا لِلتَّنْجِيمِ لَاحْتَاجَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «١» إِلَى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ دَالٌّ عَلَى التَّنْجِيمِ وَالتَّكْثِيرِ، وَقَوْلُهُ: جُمْلَةً واحِدَةً يُنَافِي ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَالْقِرَاءَاتُ بِالْوَجْهَيْنِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَيْضًا مَجِيءُ نَزَلَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّكْثِيرُ وَالتَّنْجِيمُ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جَدًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ «٢»، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «٣»، لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا تَكْرِيرَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَا أَنَّهُ عَلَّقَ تَكْرِيرَ نُزُولِ مَلَكٍ رَسُولٍ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَلَائِكَةٍ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مُطْلَقُ الْإِنْزَالِ. وَفِي نَزَّلْنَا الْتِفَاتٌ لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّ قبله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وفَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً. فَلَوْ جَرَى الْكَلَامُ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ لَكَانَ مِمَّا نَزَلَ عَلَى عَبْدِهِ، لَكِنَّ فِي هَذَا الِالْتِفَاتِ مِنَ التَّفْخِيمِ لِلْمُنَزَّلِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ مَا لَا يُؤَدِّيهِ ضَمِيرٌ غَائِبٌ، لَا سِيَّمَا كَوْنُهُ أَتَى بنا الْمُشْعِرَةِ بِالتَّعْظِيمِ التَّامِّ وَتَفْخِيمِ الْأَمْرِ وَنَظِيرُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا «٤»، وَتَعَدِّي نَزَّلَ بِعَلَى إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِعْلَاءِ الْمُنَزَّلِ عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالْمُلَابِسِ لَهُ، بِخِلَافِ إِلَى فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الِانْتِهَاءِ وَالْوُصُولِ.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أفادته على تكرار ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَاتٍ، قَالَ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ «٥» طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «٦»، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ «٧». وَفِي إِضَافَةِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ تَعَالَى تَنْبِيهٌ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهِ، وَاخْتِصَاصِهِ بخالص
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٣٢.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٣٧.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٥.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ٩٩.
(٥) سورة آل عمران: ٣/ ٣.
(٦) سورة طه: ٢٠/ ٢٠.
(٧) سورة آل عمران: ٣/ ٧.
168
الْعُبُودِيَّةِ، وَرَفْعِ مَحَلِّهِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ تَعَالَى، وَاسْمُ الْعَبْدِ عَامٌّ وَخَاصٌّ، وَهَذَا مِنَ الْخَاصِّ:
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
وَمَنْ قَرَأَ: عَلَى عِبَادِنَا بِالْجَمْعِ، فَقِيلَ: يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم وأمته، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَصَارَ نَظِيرَ قوله تعالى: أن يقولوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا «١»، لِأَنَّ جَدْوَى الْمُنْزِلِ وَالْهِدَايَةَ الْحَاصِلَةَ بِهِ مِنِ امْتِثَالِ التَّكَالِيفِ، وَالْمَوْعُودِ عَلَى ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمَتْبُوعُونَ وَالتُّبَّاعُ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْمَجَازِ يُجْعَلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يُبَاشِرِ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا بِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ بَاشَرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيَ، وَالْكُتُبَ وَالرَّسُولُ أَوَّلُ مَقْصُودٍ بِذَلِكَ، وَأَسْبَقُ دَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مُعَانِدُوهُ بِالتَّحَدِّي فِي كِتَابِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا لِمُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ بَعْضِهِمْ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ «٢». وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُفْرَدِ الْجَمْعُ. وَتُبَيِّنُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ «٣»، فِي قِرَاءَةِ مَنْ أَفْرَدَ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ لِلْجِنْسِ.
فَأْتُوا بِسُورَةٍ: طَلَبَ مِنْهُمُ الْإِتْيَانَ بِمُطْلَقِ سُورَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّتِي أَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ، فَلَمْ يَقْتَرِحْ عَلَيْهِمُ الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ طويلة فتعنتوا فِي ذَلِكَ، بَلْ سَهَّلَ عَلَيْهِمْ وَأَرَاحَ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مَا، وَهَذَا هُوَ غَايَةُ التَّبْكِيتِ وَالتَّخْجِيلِ لَهُمْ. فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ وَلَا مُعَاضِدُوكُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَكَيْفَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِكُمْ؟ وَكَيْفَ يَلْحَقُكُمْ فِي ذَلِكَ ارْتِيَابٌ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟
وَقَدْ تَعَرَّضَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا لِذِكْرِ فَائِدَةِ تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ وَتَقْطِيعِهِ سُوَرًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَوَائِدِ التَّفْصِيلِ وَالتَّسْوِيرِ. مِنْ مِثْلِهِ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى مَا، أَوْ عَلَى عَبْدِنَا، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَرُجْحَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِارْتِيَابَ أَوَّلًا إِنَّمَا جِيءَ بِهِ مُنْصَبًّا عَلَى الْمُنَزَّلِ لَا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّيْبُ فِي الْمُنَزَّلِ رَيْبًا فِي الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ، فَكَانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي نظير هذه
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٦.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٩١.
(٣) سورة ص: ٣٨/ ٤٥.
169
الْآيَةِ وَهَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ»
عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «٢» الثَّالِثُ: اقْتِضَاءُ ذَلِكَ كَوْنُهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ، سَوَاءٌ اجْتَمَعُوا أَوِ انْفَرَدُوا، وَسَوَاءٌ كَانُوا أُمِّيِّينَ أَمْ كَانُوا غَيْرَ أُمِّيِّينَ، وُعَوْدُهُ عَلَى الْمُنَزَّلِ يَقْتَضِي كَوْنَ آحَادِ الْأُمِّيِّينَ عَاجِزًا عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مِثْلَهُ إِلَّا الشَّخْصَ الْوَاحِدَ الْأُمِّيَّ. فَأَمَّا لَوِ اجْتَمَعُوا أَوْ كَانُوا قَارِئِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِعْجَازَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَقْوَى، فَإِذَا جَعَلْنَا الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، فَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِسُورَةٍ أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ تَنَاقُضٌ فِي مِنْ هَذِهِ قَالَ: مِنْ مِثْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِسُورَةٍ صِفَةٌ لَهَا، أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَقَوْلُهُ مُتَعَلِّقٌ بِسُورَةٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لَهَا، وَقَوْلُهُ صِفَةٌ لَهَا، أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ مَعْمُولًا لَهَا فَتَنَاقَضَ كَلَامُهُ وَدَافَعَ آخِرُهُ أَوَّلَهُ، لكن يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ التَّعَلُّقَ الصِّنَاعِيَّ كَتَعَلُّقِ الْبَاءِ فِي نَحْوِ: مُرُورِي بِزَيْدٍ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ يُرِيدُ التَّعَلُّقَ الْمَعْنَوِيَّ، أَيْ تَعَلُّقُ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ، وَاحْتَرَزَ مِنَ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَأَتَوْا، فَلَا يَكُونُ مِنْ مِثْلِهِ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَبْيِينُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَجَازَ الْمَهْدَوِيُّ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، وَتُفَسَّرُ الْمِثْلِيَّةُ بِنَظْمِهِ وَرَصْفِهِ وَفَصَاحَةِ مَعَانِيهِ الَّتِي تَعْرِفُونَهَا، وَلَا يُعْجِزُهُمْ إِلَّا التَّأْلِيفُ الَّذِي خُصَّ بِهِ الْقُرْآنُ، أَوْ فِي غُيُوبِهِ وَصِدْقِهِ، وَأَجَازَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، وَسَتَأْتِي الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ الْمِثْلِيَّةِ عَلَى عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمُنَزَّلِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى لِمَنْ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّ مِنْ لَا تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهَا لِلتَّبْعِيضِ وَلِبَيَانِ الْجِنْسِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
وَأَمَّا كَوْنُهَا زائدة في هذا الموضع فَلَا يَجُوزُ، عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ. وَفِي الْمِثْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: مِنْ مِثْلِهِ فِي حُسْنِ النَّظْمِ، وَبَدِيعِ الرَّصْفِ، وَعَجِيبِ السَّرْدِ، وَغَرَابَةِ الْأُسْلُوبِ وَإِيجَازِهِ وَإِتْقَانِ مَعَانِيهِ. الثَّانِي: مِنْ مِثْلِهِ فِي غُيُوبِهِ مِنْ إِخْبَارِهِ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ. الثَّالِثُ: فِي احْتِوَائِهِ عَلَى الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَالْقَصَصِ، وَالْحِكَمِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالْأَمْثَالِ. الرَّابِعُ: مِنْ مِثْلِهِ فِي صِدْقِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ. الْخَامِسُ: مِنْ مِثْلِهِ، أَيْ كَلَامِ الْعَرَبِ الَّذِي هُوَ مِنْ جنسه.
(١) سورة هود: ١١/ ١٣.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٨.
170
السَّادِسُ: فِي أَنَّهُ لَا يخلق على كثرة الرد، وَلَا تَمَلُّهُ الْأَسْمَاعُ، وَلَا يَمْحُوهُ الْمَاءُ، وَلَا تُغْنَى عَجَائِبُهُ، وَلَا تَنْتَهِي غَرَائِبُهُ، وَلَا تَزُولُ طَلَاوَتُهُ عَلَى تَوَالِيهِ، وَلَا تَذْهَبُ حَلَاوَتُهُ مِنْ لَهَوَاتِ تَالِيهِ. السَّابِعُ: مِنْ مِثْلِهِ فِي دَوَامِ آيَاتِهِ وَكَثْرَةِ مُعْجِزَاتِهِ. الثَّامِنُ: مِنْ مِثْلِهِ، أَيْ مِثْلِهِ فِي كَوْنِهِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ، تَشْهَدُ لَكُمْ بِأَنَّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «١» وَإِنْ جَعَلْنَا الضَّمِيرَ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، فَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَأَتَوْا مِنْ مِثْلِ الرَّسُولِ بِسُورَةٍ. وَمَعْنَى مِنْ عَلَى هَذَا أوجه ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَهِيَ أَيْضًا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِ الرَّسُولِ، أَيِ ابْتِدَاءِ كَيْنُونَتِهَا مِنْ مِثْلِهِ.
وَفِي الْمِثْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الضَّمِيرِ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ مِثْلِهِ مِنْ أُمِّيٍّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ. الثَّانِي: مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يُدَارِسِ الْعُلَمَاءَ، وَلَمْ يُجَالِسِ الْحُكَمَاءَ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ تَعَاطِي الْأَخْبَارِ، وَلَمْ يَرْحَلْ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْصَارِ. الثَّالِثُ: مِنْ مِثْلِهِ عَلَى زَعْمِكُمْ أَنَّهُ سَاحِرٌ شَاعِرٌ مَجْنُونٌ. الرَّابِعُ: مِنْ مِثْلِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَأَهْلِ مُدْرَتِهِ، وَذِكْرُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ مِثْلِهِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ عَلَى أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي فُسِّرَتْ بِهَا الْمُمَاثَلَةُ، إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ، وَعَلَى بَعْضِهَا لَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمِثْلِ: كَلَامَ الْعَرَبِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، لِوُجُودِ أُمِّيٍّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَلِوُجُودِ مَنْ لَمْ يُدَارِسِ الْعُلَمَاءَ، وَلِوُجُودِ مَنْ هُوَ سَاحِرٌ عَلَى زَعْمِهِمْ ذَلِكَ فِي الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ.
وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ لَا مِثْلَ وَلَا نَظِيرَ. قَالَ بَعْدَ أَنْ فَسَّرَ الْمِثْلَ عَلَى تَقْدِيرِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى المنزل: فائتوا بِسُورَةٍ مِمَّا هُوَ عَلَى صِفَتِهِ فِي الْبَيَانِ الْغَرِيبِ وَعُلُوِّ الطَّبَقَةِ فِي حُسْنِ النَّظْمِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَوْدِهِ عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، أَوْ فَأْتُوا مِمَّنْ هُوَ عَلَى حَالِهِ مِنْ كَوْنِهِ بَشَرًا عَرَبِيًّا أَوْ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَا قَصْدَ إِلَى مِثْلٍ وَنَظِيرٍ هُنَالِكَ، وَلَكِنَّهُ نَحْوُ قَوْلِ الْقَبَعْثَرِيِّ لِلْحَجَّاجِ، وَقَالَ لَهُ: لَأَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْأَدْهَمِ مِثْلَ الْأَمِيرِ حُمِلَ عَلَى الْأَدْهَمِ وَالْأَشْهَبِ. أَرَادَ مَنْ كَانَ عَلَى صِفَةِ الْأَمِيرِ مِنَ السُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ وَبَسْطَةِ الْيَدِ، وَلَمْ يَقْصِدْ أَحَدًا يَجْعَلُهُ مَثَلًا لِلْحَجَّاجِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَعَلَى مَا
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١١. [.....]
171
فُسِّرَتْ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ إِذْ جُعِلَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وُجُودِ الْمَثَلِ، وَعَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَزَّلِ يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي بَعْضِ تَفَاسِيرِ الْمُمَاثَلَةِ. فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ:
لَا مِثْلَ وَلَا نَظِيرَ مَعَ تَفْسِيرِهِ الْمُمَاثَلَةَ فِي كَوْنِهِ بَشَرًا عَرَبِيًّا أَوْ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمُمَاثِلَ فِي هَذَا الشَّيْءِ الْخَاصِّ مَوْجُودٌ.
وَلَمَّا طَلَبَ مِنْهُمُ الْمُعَارَضَةَ بِسُورَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِمْ فِي رَيْبٍ مِنْ كونه من عند الله، لَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، حَتَّى طَلَبَ مِنْهُمْ أن يدعوا شُهَدَاءَهُمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّظَافُرِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ، فَقَالَ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ، وَفَسَّرَ هُنَا ادْعُوَا:
بِاسْتَغِيثُوا. قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: الدُّعَاءُ طَلَبُ الْغَوْثِ، دَعَا: اسْتَغَاثَ وَبِاسْتَحْضِرُوا دَعَا فُلَانٌ فُلَانًا إِلَى الْحَاكِمِ، اسْتَحْضَرَهُ، وَشُهَدَاؤُهُمْ: آلِهَتُهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، أَوْ مَنْ يَشْهَدُهُمْ وَيَحْضَرُهُمْ مِنَ الْأَعْوَانِ وَالْأَنْصَارِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ، أَنَّ مَا تَأْتُونَ بِهِ مِثْلَ الْقُرْآنِ، رُوِيَ عَنْ مجاهد وكونه جمع شهيد أحسن مِنْ جَمْعِ شَاهِدٍ لِجَرَيَانِهِ عَلَى قِيَاسِ جَمْعِ فَعِيلٍ نَحْوَ: هَذَا وَلِمَا فِي فَعِيلٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِشُهَدَاءَ بَالِغِينَ فِي الشَّهَادَةِ يَصْلُحُونَ أَنْ تُقَامَ بِهِمُ الْحُجَّةُ. مِنْ دُونِ اللَّهِ: تَتَعَلَّقُ بِادْعُوا، أَيْ وَادْعُوَا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُهَدَاءَكُمْ، أَيْ لَا تَسْتَشْهِدُوا بِاللَّهِ فَتَقُولُوا: اللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ مَا نَدَّعِيهِ حَقٌّ، كَمَا يَقُولُ الْعَاجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ: بَلِ ادْعُوا مِنَ النَّاسِ الشُّهَدَاءَ الَّذِينَ شَهَادَتُهُمْ تُصَحَّحُ بِهَا الدَّعَاوَى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَادْعُوَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ مَنْ دون الله بشهدائكم.
وَالْمَعْنَى: ادْعُوا مَنِ اتَّخَذْتُمُوهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ أَعْوَانُكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ مِنْ دُونِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ يَسْتَعِينُونَ بِهِمْ دُونَ اللَّهِ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَى مِنْ دُونِ اللَّهِ: بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
تُرِيكَ الْقَذَى مِنْ دُونِهَا وَهْيَ دُونَهُ أَيْ تُرِيكَ الْقَذَى قُدَّامَهَا، وَهِيَ قُدَّامُ الْقَذَى لِرِقَّتِهَا وَصَفَائِهَا. وَأَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ وَبِدُعَاءِ الْأَنْصَارِ وَالْأَعْوَانِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، أَمْرُ تَهَكُّمٍ وَتَعْجِيزٍ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ سِيَّمَا تَفْسِيرُ الشُّهَدَاءِ بِآلِهَتِهِمْ لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا تَنْطِقُ، فَالْأَمْرُ بِأَنْ يَسْتَعِينُوا بِمَا لَا يَنْطِقُ فِي مُعَارَضَةِ الْمُعْجِزِ غَايَةُ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، فَظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مَعْنَاهُ: فِي كَوْنِكُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْمُنَزَّلِ عَلَى عَبْدِنَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِنَا، وَقِيلَ: فِيمَا تَقْتَدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ. وَقَدْ حَكَى عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى: لَوْ نَشاءُ
172
لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا
«١»، لَكِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ الْمُعَارَضَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ كَوْنَهُمْ فِي رَيْبٍ يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ تَمَكُّنُ مُعَارَضَتِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ.
وَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أَمْرَ تَهَكُّمٍ وَتَعْجِيزٍ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، انْتَقَلَ إِلَى إِرْشَادِهِمْ، إِذْ لَيْسُوا بِقَادِرِينَ عَلَى الْمُعَارَضَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِمَنْ كَذَّبَ، وَأَتَى بِإِنْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَوَاضِعِ إِذَا تَهَكُّمًا بِهِمْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنْ غَلَبْتُكَ لَمْ أُبْقِ عَلَيْكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِبٌ، أَوْ أَتَى بِإِنْ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِمْ، وَإِنَّ الْمُعْجِزَ مِنْهُمْ كَانَ قَبْلَ التَّأَمُّلِ، كَالْمَشْكُوكِ فِيهِ عِنْدَهُمْ لِاتِّكَالِهِمْ عَلَى فَصَاحَتِهِمْ. وَمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا، وَعَبَّرَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ، فَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ، وَيُغْنِيكَ عَنْ طُولِ مَا تَكَنَّى عَنْهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ لَفْظِ الْإِتْيَانِ إِلَى لَفْظِ الْفِعْلِ لَاسْتُطِيلَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا وَلَنْ تَأْتُوا، كَانَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذُكِرَ وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا، كَمَا حُذِفَ اخْتِصَارًا مَفْعُولُ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَلَنْ تَفْعَلُوا الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَهُمَا سِيَّانِ فِي الْحَذْفِ؟ وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ تَعْلِيلٌ غَرِيبٌ لِعَمَلِ لَمْ الْجَزْمَ، قَالَ: وَجَزَمَتْ لَمْ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ لَا فِي التَّبْرِئَةِ فِي أَنَّهُمَا يَنْفِيَانِ، فَكَمَا تَحْذِفُ لَا تَنْوِينَ الِاسْمِ، كَذَلِكَ تَحْذِفُ لَمْ الْحَرَكَةَ أَوِ الْعَلَامَةَ مِنَ الْفِعْلِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلَنْ تَفْعَلُوا إِثَارَةٌ لِهِمَمِهِمْ لِيَكُونَ عَجْزُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبْلَغُ وَأَبْدَعُ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ عَلَى إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ. أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ كَوْنِ الْمُتَحَدَّى بِهِ مُعْجِزًا، الثَّانِي: الْإِخْبَارُ بِالْغَيْبِ مِنْ أَنَّهُمْ لا لَنْ يَفْعَلُوا، وَهَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ عَارَضُوهُ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ خُصُوصًا مِنَ الطَّاعِنِينَ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ وَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزُهُ. وَأَمَّا مَا أَتَى بِهِ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ فِي هَذْرِهِ، وَأَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي فِي عِبَرِهِ وَنَحْوُهُمَا، فَلَمْ يَقْصِدُوا بِهِ الْمُعَارَضَةَ، إِنَّمَا ادَّعَوْا أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَحْيٌ بِذَلِكَ، فَأَتَوْا مِنْ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ الْغَثِّ، وَالْمَعْنَى السَّخِيفِ، وَاللُّغَةِ الْمُهْجَنَةِ، وَالْأُسْلُوبِ الرَّذْلِ، وَالْفِقْرَةِ غَيْرِ الْمُتَمَكِّنَةِ، وَالْمَطْلَعِ الْمُسْتَقْبَحِ، وَالْمَقْطَعِ الْمُسْتَوْهَنِ، بِحَيْثُ لَوْ قُرِنَ ذَلِكَ بكلامهم في غير
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٣١.
173
مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ وَحْيٌ، كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالتَّبَايُنِ فِي الْبَلَاغَةِ مَا لَا يَخْفَى عَمَّنْ لَهُ يَسِيرُ تَمْيِيزٍ فِي ذَلِكَ. فَكَيْفَ الْجَهَابِذَةُ النُّقَّادُ وَالْبُلَغَاءُ الْفُصَحَاءُ، فَسَلَبَهُمُ اللَّهُ فَصَاحَتَهُمْ بِادِّعَائِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وَقَوْلُهُ: وَلَنْ تَفْعَلُوا جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَفِيهَا مِنْ تَأْكِيدِ الْمَعْنَى مَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَكَانَ مَعْنَاهُ نَفْيٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُخْرِجًا ذَلِكَ مَخْرَجَ الْمُمْكِنِ، أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ، وَهُوَ إِخْبَارُ صِدْقٍ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَأْكِيدُ أَنَّهُمْ لَا يُعَارِضُونَهُ. وَاقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِلَنْ مُمَيِّزٌ لِجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَالِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا لَنْ، وَكَانَ النَّفْيُ بِلَنْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ لَا، وَإِنْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ فِي نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ فِي لَنْ تَوْكِيدًا وَتَشْدِيدًا، تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: لَا أُقِيمُ غَدًا، فَإِنْ أَنْكَرَ عَلَيْكَ قُلْتَ: لَنْ أُقِيمَ غَدًا، كَمَا تَفْعَلُ فِي: أَنَا مُقِيمٌ، وَإِنَّنِي مُقِيمٌ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مُخَالِفٌ لِمَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ لَنْ تَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ خَطِيبٍ زَمْلَكِيٌّ مِنْ أَنَّ لَنْ تَنْفِي مَا قَرُبَ وَأَنَّ لَا يَمْتَدُّ النَّفْيُ فِيهَا، فَكَادَ يَكُونُ عَكْسَ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ، أَعْنِي التَّوْكِيدَ وَالتَّأْبِيدَ وَنَفْيَ مَا قَرُبَ: أَقَاوِيلُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنَّمَا الْمَرْجُوعُ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَصَرُّفَاتِهَا لِأَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَمَقَانِعِ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَى أَقَاوِيلِهِمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَنْ نَفِيٌ لِقَوْلِهِ: سَيَفْعَلُ، وَقَالَ: وَتَكُونُ لَا نَفْيًا لِقَوْلِهِ:
تَفْعَلُ، وَلَمْ تَفْعَلْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: تَفْعَلُ، وَلَمْ تَفْعَلِ الْمُسْتَقْبَلَ، فَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ أَنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْمُسْتَقْبَلَ إِلَّا أَنَّ لَنْ نَفْيٌ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا نَفْيٌ لِلْمُضَارِعِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ. فَلَنْ أَخَصُّ، إِذْ هِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مَا ظَهَرَ فِيهِ دَلِيلُ الِاسْتِقْبَالِ لَفْظًا.
وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي لَا: هَلْ تَخْتَصُّ بِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، أَمْ يَجُوزُ أَنْ تَنْفِي بِهَا الْحَالَ؟
وَظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، هُنَا أَنَّهَا لَا تَنْفِي الْحَالَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَدَوَاتِهِ لَا يَكُونُ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ النَّفْيِ فِيهِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى إِلَّا، فَهُوَ لِلْإِنْشَاءِ، وَإِذَا كَانَ لِلْإِنْشَاءِ فَهُوَ حَالٌ، فَيُفِيدُ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَتَكُونُ لَا نَفْيًا لِقَوْلِهِ يَفْعَلُ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَوَّلًا: مِنْ أَنَّ فِيهَا تَوْكِيدًا وَتَشْدِيدًا لِأَنَّهَا تَنْفِي مَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِالْأَدَاةِ، بِخِلَافِ لَا، فَإِنَّهَا تَنْفِي الْمُرَادَ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ مِمَّا لَا أَدَاةَ فِيهِ تُخَلِّصُهُ لَهُ، وَلِأَنَّ لَا قَدْ يُنْفَى بِهَا الْحَالُ قَلِيلًا، فَلَنْ أَخَصُّ بِالِاسْتِقْبَالِ وَأَخَصُّ بِالْمُضَارِعِ، وَلِأَنَّ وَلَنْ تَفْعَلُوا أَخْصَرُ مِنْ وَلَا تفعلون، فلهذا كله ترجح النَّفْيِ بِلَنْ عَلَى النَّفْيِ بِلَا.
174
فَاتَّقُوا النَّارَ: جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، وَكَنَّى بِهِ عَنْ تَرْكِ العناد، لأن من عائد بَعْدَ وُضُوحِ الْحَقِّ لَهُ اسْتَوْجَبَ الْعِقَابَ بِالنَّارِ. وَاتِّقَاءُ النَّارِ مِنْ نَتَائِجِ تَرْكِ الْعِنَادِ وَمِنْ لَوَازِمِهِ. وَعَرَّفَ النَّارَ هُنَا لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا نَكِرَةً فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ، وَالَّتِي فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَهَذِهِ بِالْمَدِينَةِ. وَإِذَا كُرِّرَتِ النَّكِرَةُ سَابِقَةً ذُكِرَتْ ثَانِيَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَصَارَتْ مَعْرِفَةً لِتَقَدُّمِهَا فِي الذِّكْرِ وَوُصِفَتْ بِالَّتِي وَصِلَتِهَا. وَالصِّلَةُ مَعْلُومَةٌ لِلسَّامِعِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ قَوْلِهِ: نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «١»، أَوْ لِسَمَاعِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْوَاوِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِاخْتِلَافٍ، وَمُجَاهِدٌ وَطَلْحَةُ وَأَبُو حَيَاةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ الْهَمْدَانِيُّ بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَقَيَّدَهَا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ عُمَيْرٍ هُوَ الْحَطَبُ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الضَّمِّ هُوَ الْمَصْدَرُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذُو وَقُودِهَا لِأَنَّ النَّاسَ وَالْحِجَارَةَ لَيْسَا هُمَا الْوَقُودَ، أَوْ عَلَى أَنْ جُعِلُوا نَفْسَ الْوَقُودِ مُبَالَغَةً، كَمَا يَقُولُ: فُلَانٌ فَخْرُ بَلَدِهِ، وَهَذِهِ النَّارُ مُمْتَازَةٌ عَنْ غَيْرِهَا بِأَنَّهَا تَتَّقِدُ بِالنَّاسِ وَالْحِجَارَةِ، وَهُمَا نَفْسُ مَا يُحْرَقُ، وَظَاهِرُ هَذَا الْوَصْفِ أَنَّهَا نَارٌ وَاحِدَةٌ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نِيرَانٌ شَتَّى. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «٢»، وَلَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى «٣»، لِأَنَّ الْوَصْفَ قَدْ يَكُونُ بِالْوَاقِعِ لَا لِلِامْتِيَازِ عَنْ مُشْتَرَكٍ فِيهِ، وَالنَّاسُ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ دُخُولَهَا، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ عَامًّا، وَالْحِجَارَةُ الْأَصْنَامُ، وَكَانَا وَقُودًا لِلنَّارِ مَقْرُونَيْنِ مَعًا، كَمَا كَانَا فِي الدُّنْيَا حَيْثُ نَحَتُوهَا وَعَبَدُوهَا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «٤»، أَوْ حِجَارَةُ الْكِبْرِيتِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَاخْتَصَّتْ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ سُرْعَةِ الِالْتِهَابِ، وَنَتَنِ الرَّائِحَةِ، وَعِظَمِ الدُّخَانِ، وَشِدَّةِ الِالْتِصَاقِ بِالْبَدَنِ، وَقُوَّةِ حَرِّهَا إِذَا حَمِيَتْ. وَقِيلَ: هُوَ الْكِبْرِيتُ الْأَسْوَدُ، أَوْ حِجَارَةٌ مَخْصُوصَةٌ أُعِدَّتْ لِجَهَنَّمَ، إِذَا اتَّقَدَتْ لَا يَنْقَطِعُ وَقُودُهَا. وَقِيلَ:
إِنَّ أَهْلَ النَّارِ إِذَا عِيلَ صبرهم بكوا وشكوا، فينشىء اللَّهُ سَحَابَةً سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً، فيرجون الفرج، ويرفعون رؤوسهم إِلَيْهَا، فَتُمْطِرُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً عِظَامًا كَحِجَارَةِ الرَّحَى، فَتَزْدَادُ النار إيقادا والتهابا أو الْحِجَارَةُ مَا اكْتَنَزُوهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تُقْذَفُ مَعَهُمْ فِي النَّارِ وَيُكْوَوْنَ بِهَا.
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحِجَارَةِ لِلْعُمُومِ بَلْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ النَّارَ التي
(١) سورة التحريم: ٦٦/ ٦.
(٢) سورة التحريم: ٦٦/ ٦.
(٣) سورة الليل: ٩٢/ ١٤.
(٤) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٨.
175
وُعِدُوا بِهَا صَالِحَةً لِأَنْ تَحْرِقَ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ، فَعَبَّرَ عَنْ صَلَاحِيَتِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا بِالْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ، قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّاسَ وَالْحِجَارَةَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ جَهَنَّمَ وَتَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ وَقُودِهَا، لِيَقَعَ ذَلِكَ مِنَ النُّفُوسِ أَعْظَمَ مَوْقِعٍ، وَيَحْصُلُ بِهِ مِنَ التَّخْوِيفِ مَا لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْحَقِيقَةُ.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الذَّاهِبُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ هُوَ بِالصَّلَاحِيَّةِ لَا بِالْفِعْلِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ بِالْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ الْوَصْفُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ، بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كَوْنِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ فِيهَا، وَقَدَّمَ النَّاسَ عَلَى الْحِجَارَةِ لِأَنَّهُمُ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ يُدْرِكُونَ الْآلَامَ وَالْمُعَذَّبُونَ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ أَكْثَرَ إِيقَادًا لِلنَّارِ مِنَ الْجَمَادِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْجُلُودِ وَاللُّحُومِ وَالشُّحُومِ وَالْعِظَامِ وَالشُّعُورِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ فِي التَّخْوِيفِ. فَإِنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ إِنْسَانًا يُحْرَقُ، اقْشَعَرَّ بَدَنُكَ وَطَاشَ لُبُكَّ، بِخِلَافِ الْحَجَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُعِدَّتْ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ حَتَّى الْآنَ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي سَقَطَ فِيهِ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْإِعْدَادَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْمَوْجُودِ، لِأَنَّ الْإِعْدَادَ هُوَ التَّهْيِئَةُ وَالْإِرْصَادُ لِلشَّيْءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعْدَدْتُ لِلْحَدَثَانِ سَابِغَةً وَعَدَاءً علبدا أَيْ هَيَّأْتُ. قَالُوا: وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمَوْجُودِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَوْجُودِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً «١» وَمُنْذِرٌ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ كَانَ يُعْرَفُ بِالْبَلُّوطِيِّ، وَكَانَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا فِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ ظَاهِرِيًّا فِي الْفُرُوعِ، وَلَهُ ذِكْرٌ وَمَنَاقِبُ فِي التَّوَارِيخِ، وَهُوَ أَحَدُ رِجَالَاتِ الْكَمَالِ بِالْأَنْدَلُسِ.
وَسَرَى إِلَيْهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَهُوَ:
أَنَّ مذهب أهل السنة أن الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالنَّجَاوَمِيَّةِ إِلَى أَنَّهُمَا لَمْ يُخْلَقَا بَعْدُ، وَأَنَّهُمَا سَيُخْلَقَانِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ اعْتَدَّتْ: مِنَ الْعَتَادِ بِمَعْنَى الْعُدَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ، وَلَا يَدُلُّ إِعْدَادُهَا لِلْكَافِرِينَ عَلَى أَنَّهُمْ مَخْصُوصُونَ بِهَا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ مِنْ أَنَّ نَارَ الْعُصَاةِ غَيْرُ نَارِ الْكُفَّارِ، بَلْ إِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْكَافِرِينَ لِانْتِظَامِ الْمُخَاطَبِينَ فِيهِمْ، إِذْ فِعْلُهُمْ كُفْرٌ. وقد ثبت في
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٥.
176
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِدْخَالُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ، لَكِنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ الْكُفَّارِ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ، أو لأن الكافر لن يَشْتَمِلُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَكَفَرَ بِأَنْعُمِهِ، أَوْ لِأَنَّ مَنْ أُخْرِجَ مِنْهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَكُنْ مُعَدَّةً لَهُ دَائِمًا بِخِلَافِ الْكُفَّارِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ النَّارِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا: فَاتَّقُوا، قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ جَعْلَهُ الْجُمْلَةَ حَالًا يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَاتَّقُوا النَّارَ فِي حَالِ إِعْدَادِهَا لِلْكَافِرِينَ، وَهِيَ مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ، اتَّقَوُا النَّارَ أَوْ لَمْ يَتَّقُوهَا، فَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ حَالًا لَازِمَةً. وَالْأَصْلُ فِي الْحَالِ الَّتِي لَيْسَتْ لِلتَّأْكِيدِ أَنْ تَكُونَ مُنْتَقِلَةً، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَكَأَنَّهَا سُؤَالُ جَوَابٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ لَمَّا وُصِفَتْ بِأَنَّ وَقُودَهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ قِيلَ: لِمَنْ أُعِدَّتْ؟ فَقِيلَ: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
الْبِشَارَةُ: أَوَّلُ خَبَرٍ يَرِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ كَانَ أَوْ شَرٍّ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخَيْرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: تَأَوَّلَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «١»، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالنَّقْلِ. قِيلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: هُوَ خَبَرٌ يُؤَثِّرُ فِي الْبَشَرَةِ مِنْ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِذَا يُقَيَّدُ فِي الْحُزْنِ، وَالْبِشَارَةُ: الْجَمَالُ، وَالْبَشِيرُ: الْجَمِيلُ، قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ، وَتَبَاشِيرُ الْفَجْرِ: أَوَائِلُهُ. وَفِي الْفِعْلِ لُغَتَانِ: التَّشْدِيدُ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْعُلْيَا، وَالتَّخْفِيفُ: وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ تِهَامَةَ. وَقَدْ قرىء بِاللُّغَتَيْنِ فِي الْمُضَارِعِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، سَتَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الصَّلَاحُ: يُقَابِلُهُ الْفَسَادُ. الْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ الَّذِي سَتَرَتْ أَشْجَارُهُ أَرْضَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَتَرَ شَيْئًا فَقَدَ أَجَنَّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجِنَّةُ وَالْجَنَّةُ وَالْجِنُّ وَالْمِجَنُّ وَالْجَنِينُ. الْمُفَضَّلُ الْجَنَّةُ: كُلُّ بُسْتَانٍ فِيهِ ظِلٌّ، وَقِيلَ: كُلُّ أَرْضٍ كَانَ فِيهَا شَجَرٌ وَنَخْلٌ فَهِيَ جَنَّةً، فَإِنْ كَانَ فِيهَا كَرْمٌ فَهِيَ: فِرْدَوْسُ. تَحْتَ: ظَرْفُ مَكَانٍ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِغَيْرِ مِنْ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ. قَالَ الْعَرَبُ: تَقُولُ تَحْتَكَ رِجْلَاكَ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي نَصْبِ التَّحْتِ. النَّهْرُ: دُونَ الْبَحْرِ وَفَوْقَ الْجَدْوَلِ، وَهَلْ هُوَ نَفْسُ مَجْرَى الْمَاءِ أَوِ الْمَاءِ فِي الْمَجْرَى الْمُتَّسِعِ قولان، وفيه
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٢١، وسورة التوبة: ٩/ ٢٤، وسورة الانشقاق: ٨٤/ ٢٤.
177
لُغَتَانِ: فَتْحُ الْهَاءَ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ، وَالسُّكُونُ، وَعَلَى الْفَتْحِ جَاءَ الْجَمْعُ أَنْهَارًا قِيَاسًا مُطَّرِدًا إِذْ أَفْعَالٌ في فعل الاسم الصحيح الْعَيْنِ لَا يَطَّرِدُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَتْ مِنْهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، وَسُمِّي نَهْرًا لاتساعه، وأنهر: وَسِعَ، وَالنَّهَارُ لِاتِّسَاعِ ضَوْئِهِ.
التَّشَابُهُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الشَّبَهِ وَالشَّبَهُ الْمَثَلُ. وَتَفَاعُلٌ تَأْتِي لِسِتَّةِ مَعَانٍ: الِاشْتِرَاكُ فِي الْفَاعِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَفِيهَا وَفِي الْمَفْعُولِيَّةِ مِنْ حيث المعنى، والإبهام، وَالرَّوْمُ، وَمُطَاوَعَةُ فَاعَلَ الْمُوَافِقِ أَفْعَلَ، وَلِمُوَافَقَةِ الْمُجَرَّدِ وَلِلْإِغْنَاءِ عَنْهُ. الزَّوْجُ: الْوَاحِدُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ آخَرُ، وَاثْنَانِ: زَوْجَانِ. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: زَوْجٌ، وَلِامْرَأَتِهِ أَيْضًا زَوْجٌ وَزَوْجَةٌ أَقَلُّ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ زَوْجًا الْمُرَادُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ فِيهِ لُغَتَانِ: زَوْجٌ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَزَوْجَةٌ لُغَةُ تَمِيمٍ وَكَثِيرٍ مِنْ قَيْسٍ وَأَهْلِ نَجْدٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ قُرِنَ بِصَاحِبِهِ فَهُوَ زَوْجٌ لَهُ، وَالزَّوْجُ: الصِّنْفُ وَمِنْهُ: زَوْجٌ بَهِيجٌ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا. الطَّهَارَةُ: النَّظَافَةُ، وَالْفِعْلُ طَهَرَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَطَهُرَ بِالضَّمِّ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُمَا طَاهِرٌ. فَعَلَى الْفَتْحِ قِيَاسٌ وَعَلَى الضَّمِّ شَاذٌّ نَحْوَ: حَمُضَ فَهُوَ حَامِضٌ، وَخَثُرَ فَهُوَ خَاثِرٌ. الْخُلُودُ: الْمُكْثُ فِي الْحَيَاةِ أَوِ الْمُلْكِ أَوِ الْمَكَانِ مُدَّةً طَوِيلَةً لَا انْتِهَاءَ لَهَا وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَهَا انْتِهَاءٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ قَوْلَانِ، وَقَالَ زُهَيْرٌ:
فَلَوْ كَانَ حمد يخلد الناس لم تَمُتْ وَلَكِنَّ حَمْدَ النَّاسِ لَيْسَ بِمُخَلِّدِ
وَيُقَالُ: خَلُدَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ، وَأَخْلَدَ إِلَى كَذَا، سَكَنَ إِلَيْهِ، وَالْمُخَلَّدُ: الَّذِي لَمْ يَشِبَّ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى، أَعْنِي مِنَ السُّكُونِ وَالِاطْمِئْنَانِ، سُمِّيَ هَذَا الْحَيَوَانُ اللَّطِيفُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْأَرْضِ خُلْدًا. وَظَاهِرُهُ هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَغَيْرُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلْدَ هُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمُكْثِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ إِلَّا بِقَرِينَةٍ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ: أَنَّهُ الْبَقَاءُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ، تَقْوِيَةً لِمَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا بَلْ يَبْقَى فِيهَا أَبَدًا.
وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ دَلَّتْ عَلَى خُرُوجِ نَاسٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ بِالشَّفَاعَةِ مِنَ النَّارِ، وَمُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرْ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا تَضَمَّنَ ذكر الكفار وما تؤول إِلَيْهِ حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَبْلَغِ التَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ، أَعْقَبَ مَا تَضَمَّنَ ذِكْرُ مُقَابِلِيهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ.
وَهَكَذَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْقُرْآنِ غَالِبًا مَتَى جَرَى ذِكْرُ الْكُفَّارِ وَمَا لَهُمْ أُعْقِبَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَمَا لَهُمْ
178
وَبِالْعَكْسِ، لِتَكُونَ الْمَوْعِظَةُ جَامِعَةً بَيْنَ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ وَاللُّطْفِ وَالْعُنْفِ، لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَجْذِبُهُ التَّخْوِيفُ وَيَجْذِبُهُ اللُّطْفُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِالْعَكْسِ. وَالْمَأْمُورُ بِالتَّبْشِيرِ قِيلَ:
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْبِشَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ وَأَجْزَلُ لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِعِظَمِهِ وَفَخَامَةِ شَأْنِهِ مَحْقُوقٌ بِأَنْ يُبَشِّرَ بِهِ كُلَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبِشَارَةِ بِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى، لِأَنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخُصُوصِيَّتِهِ بِالْبِشَارَةِ أَفْخَمُ وَأَجْزَلُ، وَكَأَنَّهُ مَا اتَّكَلَ عَلَى أَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّ سَامِعٍ، بَلْ نَصَّ عَلَى أَعْظَمِهِمْ وَأَصْدَقِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَوثَقُ عِنْدَهُمْ وَأَقْطَعُ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ الْعَظِيمَةِ، إِذْ تَبْشِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْشِيرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَبَشِّرْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَلَيْسَ الَّذِي اعْتُمِدَ بِالْعَطْفِ هُوَ الْأَمْرُ حَتَّى يُطْلَبَ مُشَاكِلُ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ يُعْطَفُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ بِالْعَطْفِ هُوَ جُمْلَةُ وَصْفِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَصْفِ عِقَابِ الْكَافِرِينَ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ يُعَاقَبُ بِالْقَيْدِ وَالْإِزْهَاقِ، وَبَشِّرْ عَمْرًا بِالْعَفْوِ وَالْإِطْلَاقِ، قَالَ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ فَقَالَ: الْوَاوُ فِي وَبَشِّرْ عُطِفَ بِهَا جُمْلَةُ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى جُمْلَةِ عِقَابِ الْكَافِرِينَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَتُلَخِّصُ مِنْ هَذَا أَنَّ عَطْفَ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ نتفق مَعَانِي الْجُمَلِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ عَطْفُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ غَيْرِ الْخَبَرِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا اخْتِلَافٌ. ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى اشْتِرَاطِ اتِّفَاقِ الْمَعَانِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. فَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ يَتَمَشَّى إِعْرَابُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَأَبِي الْبَقَاءِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا النَّارَ، لِيَكُونَ عَطْفَ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا تَقُولُ يَا بَنِي تَمِيمٍ احْذَرُوا عُقُوبَةَ مَا جَنَيْتُمْ، وَبَشِّرْ يَا فُلَانُ بَنِي أَسَدٍ بِإِحْسَانٍ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ خَطَأٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاتَّقُوا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ وَمَوْضِعُهُ جَزْمٌ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرْ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْبِشَارَةِ وَمُطْلَقًا، لَا عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، بَلْ أَمَرَ أَنْ يُبَشِّرَ الَّذِينَ آمَنُوا أَمْرًا لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: وَبَشِّرْ عَلَى إِعْرَابِهِ مِثْلَ مَا مُثِّلَ بِهِ مِنَ قَوْلِهِ: يَا بَنِي تَمِيمٍ إِلَخْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: احْذَرُوا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا.
فَلِذَلِكَ أَمْكَنَ فِيمَا مُثِّلَ بِهِ الْعَطْفُ وَلَمْ يُمْكِنْ فِي وَبَشِّرْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَبَشِّرْ فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى أُعِدَّتْ انْتَهَى. وَهَذَا الْإِعْرَابُ لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ أُعِدَّتْ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، وَلَا يَتَأَتَّى
179
أَنْ يَكُونَ وَبَشِّرْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَالْأَصَحُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَّفِقْ مَعَانِي الْجُمَلِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تُنَاغِي غَزَالًا عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ وَكَحِّلْ مَآقِيكَ الْحِسَانَ بِإِثْمَدِ
وَبِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ إِنْ سَفَحْتُهَا وَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ: جَاءَنِي زَيْدٌ، وَمَنْ أَخُوكَ الْعَاقِلَانِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ العاقلان خبر ابتداء مضر. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يَخُصُّ الْبِشَارَةَ بِالْخَبَرِ الَّذِي يُظْهِرُ سُرُورَ الْمُخْبَرِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَغْلَبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ مُقَيَّدًا بِهِ مَنْصُوصًا عَلَى الشَّرِّ لِلْمُبَشَّرِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «١». وَمَتَى أَطْلَقَ لَفْظَ الْبِشَارَةِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْخَيْرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقَدَّمَ لَنَا مَا يُخَالِفُ قَوْلَيْهِمَا مِنْ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْبِشَارَةَ أَوَّلُ خَبَرٍ يَرِدُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ كَانَ أَوْ شَرٍّ، قَالُوا: وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَأْثِيرِهِ فِي الْبَشْرَةِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا أَثَّرَ الْمَسَرَّةَ وَالِانْبِسَاطَ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا أَثَّرَ الْقَبْضَ وَالِانْكِمَاشَ. قَالَ تَعَالَى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ «٢»، وَقَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْعَكْسَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ اسْتِهْزَاءُ الزَّائِدِ فِي غَيْظِهِ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ وَتَأَلُّمُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ضَعْ هَذَا مَوْضِعَ الْبِشَارَةِ مِنْهُمْ، قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ غَيْرَ الْبُشْرَةِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا بِشَارَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِ فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفُونِي وَأَنَّ الْوُدَّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ
وَالتَّضْعِيفُ فِي بَشِّرْ مِنَ التَّضْعِيفِ الدَّالِّ عَلَى التَّكْثِيرِ فِيمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَلَا يَتَأَتَّى التَّكْثِيرُ فِي بَشِّرْ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفَاعِيلِ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ أَوَّلُ خَبَرٍ يَسُرُّ أَوْ يُحْزِنُ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَلَا يَتَأَتَّى التَّكْثِيرُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ، فَبِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ يَكُونُ فِعْلٌ فِيهِ مُغْنِيًا عَنْ فِعْلٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ مُشَدَّدًا غَيْرُ الْعَرَبِ الَّذِينَ يَنْطِقُونَ بِهِ مُخَفَّفًا، كَمَا بَيَّنَّا قَبْلُ. وَكَوْنُ مَفْعُولِ بَشِّرْ مَوْصُولًا بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ مَاضِيَةٍ وَلَمْ يَكُنِ اسْمَ فَاعِلٍ، دَلَالَةً عَلَى أن مستحق التبشير
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٢١.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٢١.
180
بِفَضْلِ اللَّهِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَتَحَقَّقَ بِهِ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَالصَّالِحَاتُ: جَمْعُ صَالِحَةٍ، وَهِيَ صِفَةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ فِي إِيلَائِهَا الْعَوَامِلَ، قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا يَنْفَكُّ صَالِحَةً مِنْ آلِ لَامَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي
فَعَلَى هَذَا انْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهَا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الصَّالِحَاتِ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعُمُومِ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ الْمُؤْمِنُ جَمِيعَ الصَّالِحَاتِ، لَكِنْ يَعْمَلُ جُمْلَةً مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ فِي الدِّينِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُؤْمِنِ فِي مَوَاجِبِ التَّكْلِيفِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ لَامِ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُفْرَدِ، وَبَيْنَهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ، أَنَّهَا فِي الْمُفْرَدِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا وَاحِدٌ مِنَ الْجِنْسِ، وَفِي الْجَمْعِ لَا يَحْتَمِلُهُ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ:
الصَّالِحُ مَا أَخْلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: مَا احْتَوَى عَلَى أَرْبَعَةٍ: الْعِلْمُ وَالنِّيَّةُ وَالصَّبْرُ وَالْإِخْلَاصُ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ،
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الصَّلَوَاتُ فِي أَوْقَاتِهَا وَتَعْدِيلُ أَرْكَانِهَا وهيآتها
، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ، وَقِيلَ: التَّوْبَةُ وَالِاخْتِيَارُ، قَوْلُ الْجُمْهُورِ: وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ لَفْظَةَ الْإِيمَانِ بِمَجْرَدِهَا تَقْتَضِي الطَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا أَعَادَهَا، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يُبَشَّرُوا هُمْ مَنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِيمَانِ فَقَطْ دُونَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ لَا يَكُونُ مُبَشَّرًا.
مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَبَشِّرْ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ.
فَقَوْلُهُ: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ هُوَ فِي مَوْضِعِ هَذَا الْمَفْعُولِ، وَجَازَ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنَّ قِيَاسًا مُطَّرِدًا، وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ حَذْفِ الْحَرْفِ، هَلْ مَوْضِعُ أَنَّ وَمَعْمُولَيْهَا جَرٌّ أَمْ نَصْبٌ؟ فَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ: أَنَّ مَوْضِعَهُ جَرٌّ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ: أَنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ، وَالِاسْتِدْلَالُ فِي كتب النحو. وجنات: جُمَعُ جَنَّةٍ، جَمْعُ قِلَّةٍ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا سَبْعُ جَنَّاتٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ ثَمَانِ جَنَّاتٍ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ فِي تَضَاعِيفِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ قَالَ:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ «١»، وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «٢»،
(١) سورة القمر: ٥٤/ ٥٤.
(٢) سورة الرحمن: ٥٥/ ٤٦.
181
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ «١»، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى «٢»، جَنَّاتِ عَدْنٍ «٣».
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»
وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ هَذَا الْمُفَسِّرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَكْثَرُ مِمَّا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْجَنَّةُ اسْمٌ لِدَارِ الثَّوَابِ كُلِّهَا، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جِنَانٍ كَثِيرَةٍ مَرَتَّبَةٍ مَرَاتِبَ عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِينَ، لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ جَنَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْجِنَانِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ دَسَّ فِيهِ مَذْهَبَهُ الِاعْتِزَالِيَّ بِقَوْلِهِ: عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِ الْعَامِلِينَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْجَنَّةِ مُفْرَدَةً وَمَجْمُوعَةً، فَإِذَا كَانَتْ مُفْرَدَةً فَالْمُرَادُ الْجِنْسُ، وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لِلِاخْتِصَاصِ، وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ هُنَا آكَدُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ لِقُرْبِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، فَهُوَ أَسَرُّ لِلسَّامِعِ، وَالشَّائِعُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الِاسْمُ نَكِرَةً تَعَيَّنَ تقديمه أإِنَّ لَنا لَأَجْراً «٤»، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُهُ، وَذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَجَرَى عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ مِنْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ، أَنْ لَا يُحْبِطَهُمَا الْمُكَلَّفُ بِالْكُفْرِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَأَنْ لَا يَنْدَمَ عَلَى مَا أَوْجَدَهُ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَزَعَمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ كَالدَّاخِلِ تَحْتَ الذِّكْرِ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَنْ وَافَى عَلَى الْإِيمَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ مُرْتَكِبًا كَبِيرَةً أَمْ غَيْرَ مُرْتَكِبٍ، تَائِبًا أَوْ غَيْرَ تَائِبٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مِنْ زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ تَجْرِي تَحْتَهَا، أَوْ بِمَعْنَى فِي، أَيْ فِي تَحْتِهَا، فَغَيْرُ جَارٍ عَلَى مَأْلُوفِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَجْرِي، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَإِذَا فَسَّرْنَا الْجَنَّاتِ بِأَنَّهَا الْأَشْجَارُ الْمُلْتَفَّةُ ذَوَاتُ الظِّلِّ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ. وَإِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْأَرْضِ ذَاتِ الْأَشْجَارِ، احْتَاجَ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا أَوْ غُرَفِهَا وَمَنَازِلِهَا. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِتَحْتِهَا عَنْ أَسَافِلِهَا وَأُصُولِهَا.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا: أَيْ بِأَمْرِ سُكَّانِهَا وَاخْتِيَارِهِمْ، فَعَبَّرَ بِتَحْتِهَا عَنْ قَهْرِهِمْ لَهَا وَجَرَيَانِهَا عَلَى حُكْمِهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «٥»، أَيْ بِأَمْرِي وَقَهْرِي. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاسِبُ إِلَّا لَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، فَيَكُونُ نَظِيرَ مِنْ تَحْتِي إِذَا جُعِلَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ من
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٦٢.
(٢) سورة النجم: ٥٣/ ١٥.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٧٢. [.....]
(٤) سورة الشعراء: ٢٦/ ٤١.
(٥) سورة الزخرف: ٤٣/ ٥١.
182
تَحْتِ أَهْلِهَا، اسْتَقَامَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى بِأَمْرِ الْجَنَّاتِ وَاخْتِيَارِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي مِنْ تَحْتِهَا: مِنْ جِهَتِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي غَيْرِ أَخَادِيدَ، وَأَنَّهَا تَجْرِي عَلَى سَطْحِ أَرْضِ الْجَنَّةِ مُنْبَسِطَةً.
وَإِذَا صَحَّ هَذَا النَّقْلُ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي النُّزْهَةِ، وَأَحْلَى فِي الْمَنْظَرِ، وَأَبْهَجُ لِلنَّفْسِ. فَإِنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ يَنْبَسِطُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَوْهَرُهُ فَيَحْسُنُ انْدِفَاعُهُ وَتَكَسُّرُهُ، وَأَحْسَنُ الْبَسَاتِينِ مَا كَانَتْ أَشْجَارُهُ مُلْتَفَّةً وَظِلُّهُ ضَافِيًا وَمَاؤُهُ صَافِيًا مُنْسَابًا عَلَى وَجْهِ أَرْضِهِ، لَا سِيَّمَا الْجَنَّةُ، حَصْبَاؤُهَا الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ، فَتَتَكَسَّرُ تِلْكَ الْمِيَاهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَصَى، وَيَجْلُو صَفَاءُ الْمَاءِ بَهْجَةَ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ، وَتَسْمَعُ لِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُتَكَسِّرِ عَلَى تِلْكَ الْيَوَاقِيتِ وَاللَّآلِئِ لَهُ خَرِيرًا، قَالَ شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الْبَارِعُ أَبُو الْحَكَمِ مَالِكُ بْنُ الْمُرَحَّلِ الْمَالِقِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْ كَلِمَةٍ:
وَتَحَدَّثَ الْمَاءُ الزُّلَالُ مَعَ الْحَصَى فَجَرَى النَّسِيمُ عَلَيْهِ يَسْمَعُ مَا جَرَى
خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَحْرُ الْمَاءِ، وَبَحْرُ الْعَسَلِ، وَبَحْرُ اللَّبَنِ، وَبَحْرُ الْخَمْرِ، ثُمَّ تُشَقَّقُ الْأَنْهَارُ بَعْدَهُ».
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «١» الْآيَةَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْجَنَّةُ لَا تَشُوقُ، وَالرَّوْضُ لَا يَرُوقُ إِلَّا بِالْمَاءِ الَّذِي يَقُومُ لَهَا مَقَامَ الْأَرْوَاحِ لِلْأَشْبَاحِ، مَا كَادَ مَجِيءُ ذِكْرِهَا إِلَّا مَشْفُوعًا بِذِكْرِ الْأَنْهَارِ، مُقَدِّمًا هَذَا الْوَصْفَ فِيهَا عَلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: نُسِبَ الْجَرْيُ إِلَى النَّهْرِ، وَإِنَّمَا يَجْرِي الْمَاءُ وَحْدَهُ تَوَسُّعًا وَتَجَوُّزًا، كَمَا قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٢»، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نُبِّئْتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ
انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَنَاقَضَ قَوْلُهُ هَذَا مَا شَرَحَ بِهِ الْأَنْهَارَ قَبْلَهُ بِنَحْوٍ مِنْ خَمْسَةِ أَسْطُرٍ قَالَ: وَالْأَنْهَارُ الْمِيَاهُ فِي مَجَارِيهَا الْمُتَطَاوِلَةِ الْوَاسِعَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْأَنْهَارِ لِلْجِنْسِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يُرَادُ أَنْهَارُهَا، فَعَوَّضَ التَّعْرِيفَ بِاللَّامِ مِنْ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «٣»، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو أن الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَكُونُ عِوَضًا من الإضافة، ليس مذهب الْبَصْرِيِّينَ، بَلْ شَيْءٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ، وَعَلَيْهِ خَرَّجَ
(١) سورة محمد: ٤٧/ ١٥.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٨٢.
(٣) سورة مريم: ١٩/ ٤.
183
بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ «١» أَيْ أَبْوَابُهَا. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَيَتَأَوَّلُونَ هَذَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَيَجْعَلُونَ الضَّمِيرَ مَحْذُوفًا، أَيِ الْأَبْوَابُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضًا مِنَ الْإِضَافَةِ لَمَا أَتَى بِالضَّمِيرِ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قُطُوبُ رَحِيبِ الْجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ بِجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةَ الْمُتَجَرِّدِ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الثَّابِتِ فِي الذِّهْنِ مِنَ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ. وَجَاءَ هَذَا الْجَمْعُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ إِشَارَةً إِلَى الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ، إِنْ قُلْنَا:
إِنَّ الألف واللام فيها للعهد، أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنْهَارِ الْمَاءِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ، فِي الصَّحِيحِ.
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «نَهْرَانِ بَاطِنَانِ: الْفُرَاتُ وَالنِّيلُ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ: سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ». وَفِي رِوَايَةٍ سَيْحُونَ وَجَيْحُونَ،
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن مَاءِ الْكَوْثَرِ قَالَ: «ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ تَعَالَى، يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» الْحَدِيثَ.
وَإِنْ كَانَتْ أَنْهَارًا كَثِيرَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَجْرَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ، كَمَا جَاءَ الْعَكْسُ عَلَى جِهَةِ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ.
كُلَّما رُزِقُوا، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كُلَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ التَّكْرَارِ فِيهَا عَلَى خِلَافِ مَا يَفْهَمُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَالْأَحْسَنُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ صِفَتُهَا كَذَا، هَجَسَ فِي النُّفُوسِ حَيْثُ ذُكِرَتِ الْجَنَّةُ الْحَدِيثُ عَنْ ثِمَارِ الْجَنَّاتِ، وَتَشَوَّقَتْ إِلَى ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهَا، فَقِيلَ لَهُمْ: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ: نَصْبٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا صِفَةً لِلْجَنَّاتِ، وَرَفْعٌ: عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الْجَنَّاتِ، أَيْ هِيَ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها، أَوْ عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ هُمْ كُلَّمَا رُزِقُوا، وَالْأَوْلَى الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ فِيهِ لِأَنَّهَا فِي الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ تَتَقَدَّرُ بِالْمُفْرَدِ، فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَوْ إِلَى الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تكون حالا من الَّذِينَ آمَنُوا تَقْدِيرُهُ مَرْزُوقِينَ عَلَى الدَّوَامِ، وَلَا يَتِمُ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مَقْدِرَةً، لِأَنَّهُمْ وَقْتَ التَّبْشِيرِ لَمْ يَكُونُوا مَرْزُوقِينَ عَلَى الدَّوَامِ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ جَنَّاتٍ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: تَجْرِي، فَقَرُبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَتُؤَوَّلُ أَيْضًا إِلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ.
وَالْأَصْلُ فِي الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مُصَاحِبَةً، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ غَيْرَ مَا ذكره أبو
(١) سورة ص: ٣٨/ ٥٠.
184
الْبَقَاءِ. وَمِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنْهَا، هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَفِي: مِنْ ثَمَرَةٍ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْهَا، أُعِيدَ مَعَهُ حَرْفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها «١»، عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَكِلْتَاهُمَا تَتَعَلَّقُ بِرُزِقُوا عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقْضِي حَرْفَيْ جَرٍّ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ إِلَّا بِالْعَطْفِ، أَوْ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ، وَهَذَا الْبَدَلُ هُوَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ. وَقَدْ طَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: مِنْ ثَمَرَةٍ، وَلَمْ يُفْصِحْ بِالْبَدَلِ، لَكِنَّ تَمْثِيلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُهُ، وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ثَمَرَةٍ بَيَانًا عَلَى مِنْهَاجِ قَوْلِكَ: رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا، تُرِيدُ أَنْتَ أَسَدٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَوْنُ مِنْ لِلْبَيَانِ لَيْسَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ تَأَوَّلُوا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ، وَلَوْ فَرَضْنَا مَجِيءَ مِنْ لِلْبَيَانِ، لَمَا صَحَّ تَقْدِيرُهَا لِلْبَيَانِ هُنَا، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مِنْ لِلْبَيَانِ قَدَّرُوهَا بِمُضْمَرٍ وَجَعَلُوهُ صَدْرًا لِمَوْصُولِ صِفَةٍ، إِنْ كَانَ قَبْلَهَا مَعْرِفَةٌ، نَحْوُ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «٢»، أَيِ الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا نَكِرَةٌ، فَهُوَ يَعُودُ عَلَى تِلْكَ النَّكِرَةِ نَحْوَ: مَنْ يَضْرِبُ مِنْ رَجُلٍ، أَيْ هُوَ رجل، ومن هَذِهِ لَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لَهُ، لَا نَكِرَةً وَلَا مَعْرِفَةً، إِلَّا إِنْ كَانَ يَتَمَحَّلُ لِذَلِكَ أَنَّهَا بَيَانٌ لِمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا رِزْقًا مِنْ ثَمَرَةٍ، فَتَكُونُ مِنْ مُبَيِّنَةً لِرِزْقًا، أَيْ: رِزْقًا هُوَ ثَمَرَةٌ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْ مِثْلِهِ. وَأَمَّا: رَأَيْتُ مِنْكَ أَسَدًا، فَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَوْ لِلْغَايَةِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، نَحْوُ:
أَخَذْتُهُ مِنْكَ، وَلَا يُرَادُ بِثَمَرَةٍ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مِنَ التُّفَّاحِ أَوِ الرُّمَّانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَلَى هَذَا، أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيَانًا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالثَّمَرَةِ النَّوْعُ مِنَ الثِّمَارِ، وَالْجَنَّاتِ الْوَاحِدَةُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدِ اخْتَرْنَا أَنَّ مِنْ لَا تَكُونُ بَيَانًا فَلَا نَخْتَارُ مَا ابْتَنَى عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالْجَنَّاتُ الْوَاحِدَةُ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ فَهْمُهُ إِلَى تَأَمُّلٍ، وَرِزْقًا هُنَا هُوَ المرزوق، والمصد فيه بَعِيدٌ جِدًّا لِقَوْلِهِ: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُؤْتَى بِهِ مُتَشَابِهًا، إِنَّمَا هَذَا مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمَرْزُوقِ لَا عَنِ الْمَصْدَرِ.
قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، قَالُوا: هُوَ الْعَامِلُ فِي كُلَّمَا، وَهَذَا الَّذِي: مُبْتَدَأٌ مَعْمُولٌ لِلْقَوْلِ. فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ، وَالْمَعْنَى: هَذَا، مِثْلُ: الَّذِي رُزِقْنَا، فَهُوَ من باب أما الْخَبَرُ شُبِّهَ بِهِ الْمُبْتَدَأُ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الَّذِي تَقَدَّمَ أَنْ رُزِقُوهُ، ثُمَّ هَذِهِ الْمِثْلِيَّةُ الْمُقَدَّرَةُ حذفت
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٢٢.
(٢) سورة الحج: ٢٢/ ٣٠.
185
لِاسْتِحْكَامِ الشَّبَهِ، حَتَّى كَأَنَّ هَذِهِ الذَّاتَ هِيَ الذَّاتُ، وَالْعَائِدُ عَلَى الَّذِي مَحْذُوفٌ، أَيْ رُزِقْنَاهُ، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ برزقا، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقِيلَ: مَقْطُوعٌ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مَعْرِفَةٌ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ مِنْ قَبْلِهِ: أَيْ مِنْ قَبْلِ الْمَرْزُوقِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ رِزْقُ الْغَدَاةِ كَرِزْقِ الْعَشِيِّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَأَبُو عَبِيدَ: ثَمَرُ الْجَنَّةِ إِذَا جُنِيَ خَلَفَهُ مِثْلُهُ، فَإِذَا رَأَوْا مَا خَلَفَ الْمَجْنِيَّ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي رُزِقَنَا مِنْ قَبْلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ:
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الصُّورَةِ، فَالْقَبْلِيَّةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي وُعِدْنَا فِي الدُّنْيَا أَنَّ نُرْزَقَهُ فِي الْآخِرَةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ، هُوَ نَفْسُ الْخَبَرِ، وَلَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ مِثْلَ: وَعَبَّرَ عَنِ الْوَعْدِ بِمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الرِّزْقُ، وَهُوَ مَجَازٌ، فَلِصِدْقِ الْوَعْدِ بِهِ صَارَ كَأَنَّهُمْ رُزِقُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَكَوْنُ الْخَبَرِ يَكُونُ غَيْرَ الْمُبْتَدَأِ أَيْضًا مَجَازٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْمَجَازَ أَكْثَرُ وَأَسْوَغُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْقَبْلِيَّةُ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْوَعْدَ وَقَعَ فِيهَا إِلَّا أَنْ كَوْنَ الْقَبْلِيَّةِ فِي الدُّنْيَا يُبْعِدُهُ دُخُولُ مِنْ عَلَى قَبْلُ لِأَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَهَذَا مَوْضِعُ قَبْلُ لَا مَوْضِعُ مِنْ، لِأَنَّ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ تَرَاخِيًا كَثِيرًا، وَمَنْ تُشْعِرُ بِابْتِدَاءِ الْقَبْلِيَّةِ فَتُنَافِي التَّرَاخِيَ وَالِابْتِدَاءَ. وَإِذَا كَانَتِ الْقَبْلِيَّةُ فِي الْآخِرَةِ كَانَ فِي ذَلِكَ إِشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الرِّزْقَ الْأَوَّلَ الَّذِي رُزِقُوهُ لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ رُزِقُوهُ قَبْلُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ أَوَّلُ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ رُزِقُوهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، أَيْ هَذَا مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَيْسَ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْجِنْسِ، بَلْ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الرِّزْقِ. وَكَيْفَ يَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْجِنْسِ وَقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ بَعْدَ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ؟ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَأَنْتَ تَرَى هَذَا التَّرْكِيبَ كَيْفَ هُوَ. وَلَعَلَّ النَّاقِلَ صَحَّفَ مِثْلَ بِمِنْ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ هَذَا الْجِنْسُ مِثْلَ الْجِنْسِ الَّذِي رزقنا من قبل، وإلا ظهر أنه تصحيف، لأن لتقدير مِنَ الْجِنْسِ بَعِيدٌ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ مِنْ إِطْلَاقِ كُلٍّ، وَيُرَادُ بِهِ بَعْضٌ فَتَقُولُ: هَذَا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ تَتَجَوَّزُ فَتَقُولُ: هَذَا بَنُو تَمِيمٍ، تَجْعَلُهُ كُلُّ بَنِي تَمِيمٍ مَجَازًا تَوَسُّعًا. وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ يُخَاطِبُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ، قَالَهُ: جَمَاعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ. قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ الثَّمَرَةَ ثُمَّ يُرْزَقُونَ بَعْدَهَا مِثْلَ صُورَتِهَا، وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ، فَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ لِذَلِكَ وَيُخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
186
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ مِمَّا فِي الدُّنْيَا سِوَى الْأَسْمَاءُ، وَأَمَّا الذَّوَاتُ فَمُتَبَايِنَةٌ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: وَأُتُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ الْخَدَمُ وَالْوِلْدَانُ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ هَارُونَ الْأَعْوَرِ وَالْعَتَكِيِّ. وَأُتُوا بِهِ عَلَى الْجَمْعِ، وَهُوَ إِضْمَارٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ «١» إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ «٢» ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوِلْدَانَ هُمُ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالْفَاكِهَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِهِ، عَائِدٌ عَلَى الرِّزْقِ، أَيْ: وَأُتُوا بِالرِّزْقِ الَّذِي هُوَ مِنَ الثِّمَارِ، كَمَا أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِلَامَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأُتُوا بِهِ؟ قُلْتُ: إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ انْطَوَى تَحْتَهُ ذِكْرُ مَا رُزِقُوهُ فِي الدَّارَيْنِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. أَيْ لَمَّا كَانَ التَّقْدِيرُ هَذَا مِثْلُ الَّذِي رُزِقْنَاهُ كَانَ قَدِ انْطَوَى عَلَى الْمَرْزُوقَيْنِ مَعًا. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قِيلَ: زَيْدٌ مِثْلُ حَاتِمٍ، كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَى ذِكْرِ زَيْدٍ وَحَاتِمٍ؟ وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا على مَرْزُوقِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ وَالْمُشَبَّهُ بِالَّذِي رُزِقُوهُ مِنْ قَبْلُ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا فُسِّرَتِ الْقَبْلِيَّةُ بِمَا فِي الْجَنَّةِ تَعَيَّنَ أَنْ لَا يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَّا إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الْجَنَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأُتُوا بِالْمَرْزُوقِ فِي الْجَنَّةِ مُتَشَابِهًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا أَعْرَبْتَ الْجُمْلَةَ حَالًا، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ قَالُوا: هَذَا مِثْلُ الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ. وَقَدْ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا، أَيْ قَالُوا ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَكَانَ الْحَامِلُ عَلَى الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ كَوْنَهُ أُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا. وَمَجِيءُ الْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِمَاضٍ حَالًا وَمَعَهَا الْوَاوُ عَلَى إِضْمَارٍ قَدْ جَائِزٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ.
قَالَ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «٣» أَيْ وَقَدْ كُنْتُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا، أَيْ وَقَدْ قَعَدُوا. وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «٤» أَيْ وَقَدِ ادَّكَرَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا خُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَسْتَقِيمُ عَوْدُهُ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدَّارَيْنِ إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ إِذْ ذَاكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا مَعْنًى لَازِمًا فِي حَيِّزِ كُلَّمَا، وَالْعَامِلُ فِيهَا يَتَعَيَّنُ هُنَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ مَاضِيَ اللَّفْظِ لِأَنَّهَا لَا تخلوا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مستأنفة تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الَّذِي رُزِقُوهُ مُتَشَابِهًا. وقول
(١) سورة الواقعة: ٥٦/ ١٧- ١٨.
(٢) سورة الواقعة: ٥٦/ ٢٠.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٨.
(٤) سورة يوسف: ١٢/ ٤٥.
187
الزمخشري في عوده الضَّمِيرِ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا يَظْهَرُ أَيْضًا، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ إِنَّمَا جَاءَتْ مُحَدَّثًا بِهَا عَنِ الْجَنَّةِ وَأَحْوَالِهَا، وَكَوْنُهُ يُخْبِرُ عَنِ الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ، لَيْسَ مِنْ حَدِيثِ الْجَنَّةِ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ. فَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ بِهَذَا فَقَطْ، وَانْتَصَبَ مُتَشَابِهًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ، وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ، لِأَنَّ التَّشَابُهَ ثَابِتٌ لَهُ، أُتُوا بِهِ أو لم يؤتوا، وَالتَّشَابُهُ قِيلَ: فِي الْجَوْدَةِ وَالْخِيَارِ، فَإِنَّ فَوَاكِهَ الْجَنَّةِ لَيْسَ فِيهَا رَدِيءٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً «١»، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَأَنَّهُ يُرِيدُ مُتَنَاسِبًا فِي أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ هُوَ أَعْلَى جِنْسِهِ، فَهَذَا تَشَابُهٌ مَا أَوْ فِي اللَّوْنِ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي الطَّعْمِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ، أَوْ فِي الطَّعْمِ وَاللَّذَّةِ وَالشَّهْوَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ، أَوْ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا فِي الِاسْمِ مُخْتَلِفٌ فِي اللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالطَّعْمِ، أَوْ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا فِي الصُّورَةِ لَا فِي الْقَدْرِ وَالطَّعْمِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدِيثًا يَرْفَعُهُ. قَالَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اللَّهَ لَيَنْفَعُنَا بِالْأَعْرَابِ وَمَسَائِلِهِمْ.
أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ يَوْمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً، وَمَا كُنْتُ أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً مُؤْذِيَةً تُؤْذِي صَاحِبَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هِيَ؟» قَالَ: السِّدْرَةُ، فَإِنَّ لَهَا شَوْكًا مُؤْذِيًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أليس يَقُولُ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، خَضَدَ اللَّهُ الشَّوْكَ، فَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةً، فَإِنَّهَا لَتُنْبِتُ ثَمَرًا يُفْتَقُ مِنَ الثَّمَرَةِ مِنْهَا عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لَوْنًا طَعَامًا مَا فِيهِ لَوْنٌ يُشْبِهُ الْآخَرَ؟»
وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ ثَمَرَ الْجَنَّةِ مُتَشَابِهٌ بِثَمَرِ الدُّنْيَا، وَأُطْلِقَ الْقَوْلُ فِي كَوْنِهِ كَانَ مَشَابِهًا لِثَمَرِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَكُنْ أَجْنَاسًا أُخَرَ.
وَمُلَخَّصُ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْنَسُ بِالْمَأْلُوفِ، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ الْمَأْلُوفِ نَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ، وَإِذَا ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِمَّا أَلِفَهُ وَظَهَرَ لَهُ فِيهِ مِزْيَةٌ، وَتَفَاوُتٌ فِي الْجِنْسِ، سُرَّ بِهِ وَاغْتَبَطَ بِحُصُولِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي مِقْدَارِ الرُّمَّانَةِ وَالنَّبْقَةِ وَالشَّجَرَةِ وَكَيْفِيَّةِ نَخْلِ الْجَنَّةِ وَالْعُنْقُودُ وَالْأَنْهَارُ مَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى ثُبُوتُ التَّشَابُهِ لَهُ، وَلَمْ يُقَيِّدِ التَّشَابُهَ بَلْ أَطْلَقَ، فَتَقْيِيدُهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَلَمَّا كَانَتْ مَجَامِعُ اللَّذَّاتِ فِي الْمَسْكَنِ الْبَهِيِّ وَالْمَطْعَمِ الشَّهِيِّ وَالْمَنْكَحِ الْوَضِيِّ، ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا يُبَشَّرُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَدْ بَدَأَ بِالْمَسْكَنِ لِأَنَّ بِهِ الِاسْتِقْرَارَ فِي دَارِ الْمَقَامِ، وَثَنَّى بِالْمَطْعَمِ لأن به قوام
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٢٣.
188
الْأَجْسَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَالِثًا الْأَزْوَاجَ لِأَنَّ بِهَا تَمَامُ الِالْتِئَامِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مستأنفة. كَمَا اخْتَرْنَا فِي قَوْلِهِ: كُلَّما رُزِقُوا لِأَنَّ جَعْلَهَا اسْتِئْنَافًا يَكُونُ فِي ذَلِكَ اعْتِنَاءٌ بِالْجُمْلَةِ، إِذْ سِيقَتْ كَلَامًا تَامًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِبَاطٍ صِنَاعِيٍّ، وَمَنْ جَعَلَهَا صِفَةً فَقَدْ سَلَكَ بها مسلك غَيْرَ مَا هُوَ أَصْلٌ للحمل. وَارْتِفَاعُ أَزْوَاجٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَكَوْنُهُ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعَامِلِ فِي جَنَّاتٍ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ أَيْضًا، وَخَبَرُ أَزْوَاجٍ فِي الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ لَهُمْ وَفِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْعَامِلِ فِي لَهُمْ الَّذِي هُوَ خَبَرٌ. وَالْأَزْوَاجُ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، لِأَنَّ زَوْجًا جُمِعَ عَلَى زَوْجَةٍ نَحْوَ: عَوْدُ وَعَوْدَةٌ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَثِيرِ مِنَ الْكَلَامِ مُسْتَعْمَلًا، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ تَوَسُّعًا وَتَجَوُّزًا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ مِنَ الْحُورِ وَغَيْرِهِمْ. وَأُرِيدَ هُنَا بِالْأَزْوَاجِ: الْقُرَنَاءُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي تَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ. وَمُطَهَّرَةٌ: صِفَةٌ لِلْأَزْوَاجِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى طَهُرَتْ كَالْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُطَهَّرَاتٌ، فَجُمِعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ عَلَى طَهُرْنَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، يُقَالُ: النِّسَاءُ فَعَلْنَ، وَهُنَّ فَاعِلَاتٌ، وَالنِّسَاءُ فَعَلَتْ، وَهِيَ فَاعِلَةٌ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ:
وإذا العذارى بالدخان تقنت وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ الْقُدُورِ فَمَلَّتِ
وَالْمَعْنَى: وَجَمَاعَةُ أَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَفِيهِ تَعَقُّبٌ أَنَّ اللُّغَةَ الْوَاحِدَةَ أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قِلَّةٍ، أَوْ جَمْعَ كَثْرَةٍ إِنْ كَانَ جَمْعَ كَثْرَةٍ فَمَجِيءُ الضَّمِيرِ عَلَى حَدِّ ضَمِيرِ الْوَاحِدَةِ أَوْلَى مِنْ مَجِيئِهِ عَلَى حَدِّ ضَمِيرِ الْغَائِبَاتِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعَ قِلَّةٍ فَالْعَكْسُ، نَحْوُ: الْأَجْذَاعُ انْكَسَرْنَ، وَيَجُوزُ انْكَسَرَتْ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى جَمْعِ الْعَاقِلَاتِ الْأَوْلَى فِيهِ النُّونُ مِنَ التَّاءِ، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ كَمَا فَرَّقُوا فِي جَمْعُ مَا لَا يَعْقِلُ. فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ تَكُونُ قِرَاءَةُ زَيْدٍ الْأَوْلَى إِذْ جَاءَتْ فِي الظَّاهِرِ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى. وَمَجِيءُ هَذِهِ الصِّفَةِ مَبْنِيَّةٌ لِلْمَفْعُولِ، وَلَمْ تَأْتِ ظَاهِرَةً أَوْ ظَاهِرَاتٍ، أَفْخَمُ لِأَنَّهُ أفهم أن لها مظهرا وَلَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقِرَاءَةُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ مُطَهِّرَةٌ، وَأَصْلُهُ مُتَطَهِّرَةٌ، فَأُدْغِمَ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْعَرَبِ مَا أَحْوَجَنِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَأَطَّهَّرُ بِهِ أَطْهُرَةً، أَيْ: فَأَتَطَهَّرُ بِهِ تَطَهُّرَةً، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُنَاسِبَةٌ لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُطَاوِعًا نَحْوَ: طَهَّرْتُهُ فَتَطَهَّرَ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَهَّرَهُنَّ فَتَطَهَّرْنَ. وَهَذِهِ الْأَزْوَاجُ الَّتِي وصفها الله بالتطهيران كُنَّ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. فَمَعْنَى التَّطْهِيرِ:
189
خَلَقَهُنَّ عَلَى الطَّهَارَةِ لَمْ يَعْلُقْ بِهِنَّ دَنَسٌ ذَاتِيٌّ وَلَا خَارِجِيٌّ وَإِنْ كُنَّ مِنْ بَنِي آدَمَ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: عَنْ عجائزكم الرمص العمص يَصِرْنَ شَوَابَّ، فَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ الذَّاتِيَّةِ وَغَيْرِ الذَّاتِيَّةِ، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ وَالطَّبَائِعِ الرَّدِيئَةِ، كَالْغَضَبِ وَالْحِدَّةِ وَالْحِقْدِ وَالْكَيْدِ المكر، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْخَنَا وَالتَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الْأَدْنَاسِ الذَّاتِيَّةِ، مِثْلَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْجَنَابَةِ وَالْبَوْلِ وَالتَّغَوُّطِ وغير ذلك من المقاذير الْحَادِثَةِ عَنِ الْأَعْرَاضِ الْمُنْقَلِبَةِ إِلَى فَسَادٍ: كَالْبَخْرِ وَالذَّفَرِ وَالصُّنَانِ وَالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، أَوْ إِلَى غَيْرِ فَسَادٍ: كَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْبُصَاقِ وَالنُّخَامَةِ.
وَقِيلَ: مُطَهَّرَةٌ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، لَا طَمُحَاتٍ وَلَا مُرُجِاتٍ وَلَا يَغِرْنَ وَلَا يَعُزْنَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْوَلَدُ. وَقَالَ يَمَانٌ: مِنَ الْإِثْمِ وَالْأَذَى، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: مُطَهَّرَةٌ لَكِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّهُنَّ مُطَهَّرَاتٌ مِنْ كُلِّ مَا يَشِينُ، لِأَنَّ مَنْ طَهَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَصَفَهُ بِالتَّطْهِيرِ كَانَ فِي غَايَةِ النَّظَافَةِ وَالْوَضَاءَةِ. ولما ذكر تعاليم سكن الْمُؤْمِنِينَ وَمَطْعَمَهُمْ وَمَنْكَحَهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَلَاذُ لَا تَبْلُغُ دَرَجَةَ الْكَمَالِ مَعَ تَوَقُّعِ خَوْفِ الزَّوَالِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ:
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ ارْتِحَالًا
أَعْقَبَ ذَلِكَ تَعَالَى بِمَا يُزِيلُ تَنْغِيصَ التَّنَعُّمِ بِذِكْرِ الْخُلُودِ فِي دَارِ النَّعِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى:
وَهُمْ فِيها خالِدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي الْخُلُودِ، وَأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ الْبَقَاءُ الطَّوِيلُ، انْقَطَعَ أَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ، وَأَنَّ كَوْنَ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَذَابِ أَهْلِ النَّارِ سَرْمَدِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ، لَيْسَ مُسْتَفَادًا مِنْ لَفْظِ الْخُلُودِ بَلْ مِنْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثَ صِحَاحٍ مِنَ السُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً «١»، وَقَالَ تَعَالَى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «٢».
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ بِلَا مَوْتٍ».
وَفِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: «وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا».
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ من الآي والأحاديث.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
(١) سورة التغابن: ٦٤/ ٩. [.....]
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٤٨.
190
الحياء: تغير وإنكار يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ وَيَذُمُّ، وَمَحَلُّهُ الْوَجْهُ، وَمَنْبَعُهُ مِنَ الْقَلْبِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَيَاةِ، وَضِدُّهُ: الْقَحَةُ، وَالْحَيَاءُ، وَالِاسْتِحْيَاءُ، وَالِانْخِزَالُ، وَالِانْقِمَاعُ، وَالِانْقِلَاعُ، مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، فَتَنُوبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَنَابَ الْأُخْرَى.
أَنْ: حَرْفٌ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ يَنْسَبِكُ مِنْهُ مَعَ الْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهِ مَصْدَرٌ، وَعَمَلُهُ فِي الْمُضَارِعِ النَّصْبَ، إِنْ كَانَ مُعْرَبًا، وَالْجَزْمُ بِهَا لُغَةٌ لِبَنِي صَبَاحٍ، وَتُوصَلُ أَيْضًا بِالْمَاضِي الْمُتَصَرِّفِ، وَذَكَرُوا أَنَّهَا تُوصَلُ بِالْأَمْرِ، وَإِذَا نَصَبَتِ الْمُضَارِعَ فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ الْفَصْلَ بِالظَّرْفِ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْفَصْلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْمُولِهَا بِالشَّرْطِ. وَأَجَازُوا أَيْضًا إِلْغَاءَهَا وَتَسْلِيطُ الشَّرْطِ عَلَى مَا كَانَ يَكُونُ مَعْمُولًا لَهَا لَوْلَاهُ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ مَعْمُولِهَا عَلَيْهَا، وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ. وَأَحْكَامُ أَنْ الْمَوْصُولَةِ كَثِيرَةٌ، وَيَكُونُ أَيْضًا حَرْفَ تَفْسِيرٍ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَأْتِي تَفْسِيرًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى التَّفْسِيرِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ»
، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَكُونُ أَنْ أَيْضًا زَائِدَةً وَتُطَّرَدُ زِيَادَتُهَا بَعْدَ لَمَّا، وَلَا تُفِيدُ إِذْ ذَاكَ غَيْرَ التَّوْكِيدِ، خِلَافًا لِمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُفِيدُ اتِّصَالَ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ جَوَابًا بِالْفِعْلِ الَّذِي زِيدَتْ قَبْلَهُ، وَبَعْدَ الْقَسَمِ قَبْلَ لَوْ وَالْجَوَابِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا إِذْ ذَاكَ رَابِطَةٌ لِجُمْلَةِ الْقَسَمِ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ لَوْ وَالْجَوَابُ، وَلَا تَكُونُ أَنْ لِلْمُجَازَاةِ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَلَا بِمَعْنَى إِنِ الْمَكْسُورَةِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ خِلَافًا لِلْفَارِسِيِّ، وَلَا لِلنَّفْيِ، وَلَا بِمَعْنَى إِذْ، وَلَا بِمَعْنَى لِئَلَّا خِلَافًا لِزَاعِمِي ذَلِكَ. وَأَمَّا أَنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ فَحَرْفٌ ثُلَاثِيُّ الْوَضْعِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَوَّلِ مَا يُذْكَرُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٢٥.
191
وَالضَّرْبُ: إِمْسَاسُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ بِعُنْفٍ وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ السَّفَرِ فِي الْأَرْضِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الصُّنْعِ وَالِاعْتِمَالِ.
وَرُوِيَ اضطرب رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ.
وَالْبَعُوضَةُ: وَاحِدُ الْبَعُوضِ، وَهِيَ طَائِرٌ صَغِيرٌ جِدًّا مَعْرُوفٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ عَلَى فُعُولٍ كَالْقُطُوعِ فَغُلِّبَتْ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْبَعْضِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ. أَمَّا: حَرْفٌ، وَفِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَبَعْضُهُمْ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِحَرْفِ تَفْصِيلٍ، وَبَعْضُهُمْ بِحَرْفِ إِخْبَارٍ، وَأَبْدَلَ بَنُو تَمِيمٍ الْمِيمَ الْأُولَى يَاءً فَقَالُوا: أَيَّمَا. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ أَمَّا: أَنَّ الْمَعْنَى مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ فَزَيْدٌ ذَاهِبٌ، وَالَّذِي يَلِيهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَتَلْزَمُ الْفَاءُ فِيمَا وَلِيَ الْجَزَاءُ الَّذِي وَلِيَهَا، إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ دُعَاءً فَالْفَاءُ فِيمَا يَلِيهَا وَلَا يُفْصَلُ بِغَيْرِهَا مِنَ الْجُمَلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَاءِ، وَإِذَا فُصِلَ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ بِمَعْمُولٍ يَلِي أَمَّا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ أَمَّا وَبَيْنَ الْفَاءِ بِمَعْمُولِ خَبَرِ أَنَّ وِفَاقًا لِسِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُثْمَانَ، وَخِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ وَابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ، وَلَا بِمَعْمُولِ خَبَرِ لَيْتَ وَلَعَلَّ خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ. وَمَسْأَلَةُ أَمَّا عِلْمًا، فَعَالِمٌ يَلْزَمُ أَهْلُ الْحِجَازِ فِيهِ النَّصْبَ وَتَخْتَارُهُ تَمِيمٌ، وَتَوْجِيهُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. الْحَقُّ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ. حَقَّ الْأَمْرُ ثَبَتَ وَوَجَبَ وَمِنْهُ: حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ «١»، وَالْبَاطِلُ مُقَابِلُهُ، وَهُوَ الْمُضْمَحِلُّ الزَّائِلُ، مَاذَا: الْأَصْلُ فِي ذَا أَنَّهَا اسْمُ إِشَارَةٍ، فَمَتَى أُرِيدَ مَوْضُوعُهَا الْأَصْلِيُّ كَانَتْ مَاذَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَتَكُونُ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَذَا خَبَرُهُ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ مَاذَا ثَلَاثَةَ اسْتِعْمَالَاتٍ غَيْرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا وَذَا مَوْصُولًا بِدَلِيلِ وقوع الاسم جوابا لها مَرْفُوعًا فِي الْفَصِيحِ، وَبِدَلِيلِ رَفْعِ الْبَدَلِ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا تَسْأَلَانِ الْمَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ أَنُحِبُّ فَيُقْضَى أَمْ ضَلَالٌ وَبَاطِلُ
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَاذَا كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ: إِنَّ ذَا لَغْوٌ وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ الزِّيَادَةَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهَا رُكِّبَتْ مَعَ مَا وَصَارَتْ كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وقوع الاسم جوابا لها مَنْصُوبًا فِي الْفَصِيحِ، وَقَوْلُ الْعَرَبِ: عَمَّاذَا تَسْأَلُ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ مَا، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَا خُزْرَ تَغْلِبَ مَاذَا بَالُ نِسْوَتِكُمْ لَا يَسْتَفِقْنَ إلى الديرين تحتانا
(١) سورة يونس: ١٠/ ٣٣، وسورة غافر: ٤٠/ ٦.
192
وَلَا يَصِحُّ مَوْصُولِيَّةُ ذَا هُنَا، الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مَا مَعَ ذَا اسْمًا مَوْصُولًا، وَهُوَ قَلِيلٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ سَأَتَّقِيهِ وَلَكِنْ بِالْمَغِيبِ نَبِّئِينِي
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَالْأَوَّلُ يَكُونُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا صِلَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ وَلَا يَتَسَلَّطُ عَلَى مَاذَا: وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَتَسَلَّطُ عَلَى مَاذَا إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَسَلَّطَ. وَأَجَازَ الْفَارِسِيُّ أَنْ تَكُونَ مَاذَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَجَعَلَ مِنْهُ: دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ. الْإِرَادَةُ: طَلَبُ نَفْسِكَ الشَّيْءَ وَمَيْلُ قَلْبِكَ إِلَيْهِ، وهي نقيض الكرهة، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُضَافَةً إلى الله تعالى، إن شَاءَ اللَّهُ. الْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ، فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ: خَرَجَتْ، وَالْفَاسِقُ شَرْعًا: الْخَارِجُ عَنِ الْحَقِّ، وَمُضَارِعُهُ جَاءَ عَلَى يَفْعَلُ وَيَفْعُلُ. النَّقْضُ: فَكُّ تَرْكِيبِ الشَّيْءِ وَرَدُّهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَنَقْضُ الْبِنَاءِ هَدْمُهُ، وَنَقْضُ الْمُبْرَمِ حَلُّهُ. وَالْعَهْدُ: الْمَوْثِقُ، وَعَهَدَ إِلَيْهِ فِي كَذَا: أَوْصَاهُ بِهِ وَوَثَّقَهُ عَلَيْهِ. وَالْعَهْدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى سِتَّةِ مَحَامِلٍ: الْوَصِيَّةُ، وَالضَّمَانُ، وَالْأَمْرُ، وَالِالْتِقَاءُ، وَالرُّؤْيَةُ، وَالْمَنْزِلُ. وَالْمِيثَاقُ: الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ بِالْيَمِينِ. وَالْمِيثَاقُ وَالتَّوْثِقَةُ: كَالْمِيعَادِ بِمَعْنَى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة. الْخَسَارُ: النُّقْصَانُ أَوِ الْهَلَاكُ، كَيْفَ: اسْمٌ، وَدُخُولُ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهَا شَاذٌّ، وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ اسْتِفْهَامًا، وَالشَّرْطُ بِهَا قَلِيلٌ، وَالْجَزْمُ بِهَا غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَا نُجِيزُهُ قِيَاسًا، خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ وَقُطْرُبٍ، وَقَدْ ذُكِرَ خِلَافٌ فِيهَا: أَهِيَ ظَرْفٌ أَمِ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ؟ وَالْأَوَّلُ عَزَوْهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ، والثاني إلى الأخفش والسيرافي، وَالْبَدَلُ مِنْهَا وَالْجَوَابُ إِذَا كَانَتْ مَعَ فِعْلٍ مُسْتَغْنٍ مَنْصُوبَانِ، وَمَعَ مَا لَا يُسْتَغْنَى مَرْفُوعٌ إِنْ كَانَ مُبْتَدَأً، وَمَنْصُوبٌ إِنْ كَانَ نَاسِخًا. أَمْوَاتًا: جَمْعُ مَيِّتٍ، وَهُوَ أَيْضًا جُمَعُ مَيْتَةٍ، وَجَمْعُهُمَا عَلَى أَفْعَالٍ شُذُوذٍ، وَالْقِيَاسُ فِي فَيْعَلٍ إِذَا كُسِرَ فَعَائِلٍ. الِاسْتِوَاءُ: الِاعْتِدَالُ وَالِاسْتِقَامَةُ، اسْتَوَى الْعُودُ وَغَيْرُهُ: إِذَا اسْتَقَامَ وَاعْتَدَلَ، ثُمَّ قِيلَ: اسْتَوَى إِلَيْهِ كَالسَّهْمِ الْمُرْسَلِ، إِذَا قَصَدَهُ قَصْدًا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عَلَى شَيْءٍ، وَالتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ وَالتَّعْدِيلُ.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، الْآيَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْثَالَ فِي كِتَابِهِ بِالْعَنْكَبُوتِ، وَالذُّبَابِ، وَالتُّرَابِ، وَالْحِجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَحْقَرُ وَيُطْرَحُ.
قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَعَزُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُحَقَّرَاتِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، قَالُوا: لَمَّا ضَرَبَ
193
اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ بِالْمُسْتَوْقِدِ وَالصَّيِّبِ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لا بال لها، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، إِذِ اشْتَمَلَتْ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ مِنْ صِفَةِ الْيَهُودِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِوَفَاءِ الْعَهْدِ إِنَّمَا هُوَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَلَى الْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «١»، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ، وَكُلُّهُمْ كَانُوا فِي إيذائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِقِينَ. وَقَدْ نَصَّ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا ذِكْرَ ثَلَاثِ طَوَائِفَ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، قَالَهُ الْقَفَّالُ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَأَنَّ الْبَعُوضَةَ تَحْيَا مَا جَاعَتْ، فَإِذَا شَبِعَتْ وَامْتَلَأَتْ مَاتَتْ. كَذَلِكَ مَثَلُ أهل الدنيا إذا امتلأوا مِنْهَا كَانَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ، وَقِيلَ: ضَرَبَ ذَلِكَ تَعَالَى مَثَلًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَذْكُرَ مَا قَلَّ مِنْهَا أَوْ كثير لِيُجَازِيَ عَلَيْهَا ثَوَابًا أَوْ عقابا، وإلا ظهر فِي سَبَبِ النُّزُولِ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ، إِذْ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذِكْرِ الْمَثَلِ بِالْمُسْتَوْقِدِ وَالصَّيِّبِ، وَنَزَلَ التَّمْثِيلُ بِالْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَهَلَةُ وَأَهْلُ الْعِنَادِ، وَاسْتَغْرَبُوا مَا لَيْسَ بِمُسْتَغْرَبٍ وَلَا مُنْكَرٍ، إِذِ التَّمْثِيلُ يَكْشِفُ الْمَعْنَى وَيُوَضِّحُ الْمَطْلُوبَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَائِدَتِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا «٢»، وَالْعَاقِلُ إِذَا سَمِعَ التَّمْثِيلَ اسْتَبَانَ لَهُ بِهِ الْحَقُّ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ الْأَمْثَالَ بِالْبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ وَالْأَجْنَاسِ وَالْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ، وَلِسَانُ الْعَرَبِ مَلْآنُ مِنْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَأَلْقَى مِنْ ذَوِي الضِّغْنِ مِنْهُمُ وَمَا أَصْبَحَتْ تَشْكُو مِنَ الْوَجْدِ سَاهِرَهُ
كَمَا لَقِيَتْ ذَاتُ الصَّفَا مِنْ حَلِيفِهَا وَمَا انْفَكَّتِ الْأَمْثَالُ فِي النَّاسِ سَائِرَهُ
فَذَكَرَ قِصَّةَ ذَاتِ الصَّفَا، وَهِيَ حَيَّةٌ كَانَتْ قَدْ قُتِلَتْ قُرَابَةَ حَلِيفِهَا، فَتَوَاثَقَا بِاللَّهِ على أنها تدي ذَلِكَ الْقَتِيلِ وَلَا تُؤْذِيهَا، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي ذَلِكَ الشِّعْرِ. وَالْأَمْثَالُ مَضْرُوبَةٌ فِي الْإِنْجِيلِ بِالْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ كَالنُّخَالَةِ وَالدُّودِ وَالزَّنَابِيرِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَرَأْتُ أَمْثَالًا فِي الزَّبُورِ. فَإِنْكَارُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ جَهَالَةٌ مُفْرِطَةٌ أَوْ مُكَابَرَةٌ وَاضِحَةٌ، وَمَسَاقُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُصَدَّرَةٌ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى التَّوْكِيدِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَحْيِي بِيَاءَيْنِ، وَالْمَاضِي: اسْتَحْيَا، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَاسْتَفْعَلَ هُنَا جَاءَ لِلْإِغْنَاءِ عَنِ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ: كَاسْتَنْكَفَ، واستأثر، واستبد، واستعبر،
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ١٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٧.
194
وَهُوَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «١»، وَهَذَا هُنَا مِنَ الْحَيَاءِ. وَفِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنِ اسْتَحْيَا لَيْسَ مُغْنِيًا عَنِ الْمُجَرَّدِ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي أَيْضًا الَّذِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
يُقَالُ حَيِيَ الرَّجُلُ كَمَا يُقَالُ: نَسِيَ وَخَشِيَ وَشَظِيَ الْفَرَسُ، إِذَا اعْتَلَتْ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ جُعِلَ الْحَيِيُّ لِمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الِانْكِسَارِ، وَالتَّغَيُّرِ مُنْكَسِرُ الْقُوَّةِ مُنْتَقِضُ الْحَيَاةِ، كَمَا قَالُوا: فُلَانٌ هَلَكَ حَيَاءً مِنْ كَذَا، وَمَاتَ حَيَاءً، وَرَأَيْتُ الْهِلَالَ فِي وَجْهِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَيَاءِ، وَذَابَ حَيَاءً، وَجَمُدَ فِي مَكَانِهِ خَجَلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُقَالُ: مِنَ الْحَيَاءِ حَيِيَ الرَّجُلُ، فَيَكُونُ اسْتَحْيَا عَلَى ذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ، وَعَلَى مَا نَقَلْنَاهُ قَبْلُ يَكُونُ مُغْنِيًا عَنِ الْمُجَرَّدِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَيَعْقُوبُ: يَسْتَحِي بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، يُجْرُونَهَا مَجْرَى يَسْتَبِي. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا تَسْتَحِي مِنَّا مُلُوكٌ وَتَتَّقِي مَحَارِمُنَا لَا يَبُوءُ الدَّمُ بِالدَّمِ
وَالْمَاضِي: اسْتَحَى، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا استحين الْمَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ كَرِعْنَ بست فِي إِنَاءٍ مِنَ الْوَرْدِ
وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي الْمَحْذُوفَةِ، فَقِيلَ لَامُ الْكَلِمَةِ، فَالْوَزْنُ يَسْتَفِعُ، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْعَيْنِ إِلَى الْفَاءِ وَسَكَنَتِ الْعَيْنُ فَصَارَتْ يَسْتَفِعُ. وَقِيلَ الْمَحْذُوفُ الْعَيْنُ، فَالْوَزْنُ يَسْتَيْفِلُ ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَةُ اللَّامِ إِلَى الْفَاءِ وَسَكَنَتِ اللَّامُ فَصَارَتْ يَسْتَفِلُ. وَأَكْثَرُ نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْعَيْنُ.
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَذْفُ مُخْتَصًّا بِالْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، بَلْ يَكُونُ أَيْضًا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، كَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْفِعْلُ مِمَّا نَقَلُوا أَنَّهُ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفِ جَرٍّ، يُقَالُ: اسْتَحْيَيْتُهُ وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَضْرِبَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ تَعَدَّى إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ تَعَدَّى إِلَيْهِ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَفِي ذَلِكَ الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ «٢»، أَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ أَمْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ؟.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُهُ، فَقِيلَ: المعنى
(١) سورة الفاتحة ١/ ٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥.
195
لَا يَتْرُكُ، فَعَبَّرَ بِالْحَيَاءِ عَنِ التَّرْكِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ التَّرْكَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْحَيَاءِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَحْيَا مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ تَرَكَهُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْمُسَبَّبِ بِاسْمِ السَّبَبِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَخْشَى، وَسُمِّيَتِ الْخَشْيَةُ حَيَاءً لِأَنَّهَا مِنْ ثَمَرَاتِهِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْشَى النَّاسَ «١»، أن معناه تستحيي مِنَ النَّاسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَمْتَنِعُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ هِيَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى التَّأْوِيلَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَوْضُوعُهَا فِي اللُّغَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تَمُرَّ عَلَى مَا جَاءَتْ، وَنُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نَتَأَوَّلُهَا وَنَكِلُ عِلْمَهَا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ صِفَاتَهُ تَعَالَى لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَاهِيَّتِهَا الْخَلْقُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَفِيهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، فَمَا صَحَّ فِي الْعَقْلِ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ نَسَبْنَاهُ إِلَيْهِ، وَمَا اسْتَحَالَ أَوَّلْنَاهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، كَمَا نُؤَوِّلُ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، وَالْحَيَاءُ بِمَوْضُوعِ اللُّغَةِ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ أَوَّلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَقَدْ جَاءَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ مُثْبَتًا فِيمَا
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ يَدَيْهِ أَنْ بردهما صِفْرًا حَتَّى يَضَعَ فِيهِمَا خَيْرًا»
، وَأُوِّلَ بِأَنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ مِثْلُ تَرْكِهِ تَخْيِيبِ الْعَبْدِ مِنْ عَطَائِهِ لِكَرَمِهِ بِتَرْكِ مَنْ تَرَكَ رَدَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ حَيَاءً مِنْهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَيْضًا فِي الِاسْتِحْيَاءِ، فَنُسِبَ إِلَى مَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ بِحَالٍ، كَالْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ قَبْلُ وَهُوَ:
إذا ما استحين الْمَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ قَالَ أبو التمام:
هُوَ اللَّيْثُ لَيْثُ الْغَابِ بَأْسًا وَنَجْدَةً وَإِنْ كَانَ أَحْيَا مِنْهُ وَجْهًا وَأَكْرَمَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْتَحْيِي عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، لِأَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: مَا يستحيي رَبُّ مُحَمَّدٍ أَنْ يَضْرِبَ الْأَمْثَالَ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ
وَمَجِيءُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ مَا قُوبِلَ بِهِ، شَائِعٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «٢»، وَجَاءَ ذِكْرُ الِاسْتِحْيَاءِ مَنْفِيًّا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ إِثْبَاتُهُ بِمَوْضُوعِ اللُّغَةِ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتُهُ، يَصِحُّ أَنْ ينفى
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٧.
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٠.
196
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِذَلِكَ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ «١»، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ «٢» مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ «٣»، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ «٤» ؟ وَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ. فَالْإِخْبَارُ بِانْتِفَاءِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ الصِّدْقُ الْمَحْضُ، وَلَيْسَ انْتِفَاءُ الشَّيْءِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِهِ عَلَى مَنْ نُفِيَ عَنْهُ، وَلَا صِحَّةُ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ. زَعَمَ أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ إِثْبَاتًا يَجِبُ أَنْ لَا يُطْلَقَ عَلَى طَرِيقِ النَّفْيِ، قَالَ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ بِصُورَةِ النَّفْيِ وَلَيْسَ بِنَفْيٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَكَثْرَةِ ذَلِكَ، أَعْنِي نَفْيَ الشَّيْءِ عَمَّا لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهُ، لَهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، بِحَيْثُ لَا يُحْصَرُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ. وَيَضْرِبُ: قِيلَ مَعْنَاهُ: يُبَيِّنُ، وَقِيلَ: يَذْكُرُ، وَقِيلَ: يَضَعُ، مَنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وَضُرِبَ الْبَعْثُ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، وَيَكُونُ يَضْرِبُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَقِيلَ يَضْرِبُ: فِي مَعْنَى يَجْعَلُ وَيَصِيرُ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ الطِّينَ لَبِنًا، وَضَرَبْتُ الْفِضَّةَ خَاتَمًا. فَعَلَى هَذَا يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ضَرَبَ لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَبُطْلَانُ هَذَا الْمَذْهَبِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَمَا: إِذَا نَصَبْتَ بَعُوضَةً زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ صِفَةٌ لِلْمَثَلِ تزيد الكرة شَيَاعًا، كَمَا تَقُولُ: ائْتِنِي بِرَجُلٍ مَا، أَيْ: أَيُّ رَجُلٍ كَانَ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ، وَثَعْلَبٌ، وَالزَّجَّاجُ: أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً، وَيَنْتَصِبُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مَثَلًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ بَعُوضَةً. وَاخْتُلِفَ فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَا، إِذَا جَعَلْنَا ما بدلا من مثل، وَمَثَلًا مَفْعُولٌ بِيَضْرِبُ، وَتَكُونُ مَا إِذْ ذَاكَ قَدْ وُصِفَتْ بِاسْمِ الْجِنْسِ الْمُتَنَكِّرِ لِإِبْهَامِ مَا، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَعُوضَةً عَطْفُ بَيَانٍ، وَمَثَلًا مَفْعُولٌ بِيَضْرِبَ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَثَلَ. الرَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِيَضْرِبَ، وَانْتَصَبَ مَثَلًا حَالًا مِنَ النَّكِرَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهَا. وَالْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا لِيَضْرِبَ ثَانِيًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَثَلُ عَلَى أَنَّ يَضْرِبَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِيَضْرِبَ، وَمَثَلًا الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَالسَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى تَقْدِيرِ إِسْقَاطِ الْجَارِّ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، وَحَكَوْا لَهُ عِشْرُونَ مَا نَاقَةً فَجَمَلًا، وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَنَسَبَهُ الْمَهْدَوِيُّ لِلْكُوفِيِّينَ، وَنَسَبَهُ غَيْرُهُمَا لِلْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، وَيَكُونُ: مَثَلًا مَفْعُولًا بِيَضْرِبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَنْكَرَ هَذَا النَّصْبَ، أَعْنِي نَصْبَ بَعُوضَةٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَبُو الْعَبَّاسِ. وَتَحْرِيرُ نَقْلِ هَذَا المذهب: أن الكوفيين
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٥.
(٢) سورة الإخلاص: ١١٢/ ٣.
(٣) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٩١.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ١٤.
197
يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا تَكُونُ جَزَاءً فِي الْأَصْلِ وَتُحَوُّلُ إِلَى لَفْظِ الَّذِي، فَيَنْتَصِبُ مَا بَعْدَهَا، سَوَاءٌ كَانَ نَكِرَةً أَمْ غَيْرَ نَكِرَةٍ، وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ فَقَطْ، وَتَلْزَمُ وَلَا يَصْلُحُ مَكَانَهَا الْوَاوُ، وَلَا ثُمَّ، وَلَا أَوْ، وَلَا لَا، وَيَجْعَلُونَ النَّصْبَ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ بَيْنَ. فَلَمَّا حَذَفَ بَيْنَ، قَامَ هَذَا مَقَامَهُ فِي الْإِعْرَابِ. وَيُقَدِّرُونَ الْفَاءَ بِإِلَى، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. حَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: مُطِرْنَا مَا زُبَالَةٍ فَالثَّعْلَبِيَّةُ، وَمَا مَنْصُوبَةٌ بِمُطِرْنَا.
وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: هِيَ أحسن الناس ما قرنا، وَانْتِصَابُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَتَقُولُ: هِيَ حَسَنَةٌ مَا قَرَنَهَا إِلَى قَدَمِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْشَدَنَا أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ:
يَا أَحْسَنَ النَّاسِ مَا قَرْنًا إِلَى قَدَمٍ وَلَا حِبَالِ مُحِبٍّ وَاصِلٍ تَصِلِ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا نَظَرَ إِلَى الْهِلَالِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا إِهْلَالُكَ إِلَى سِرَارِكَ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: الشَّنْقُ مَا خُمَّا فَعِشْرِينَ. وَالْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا، وَمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تَسْقُطُ، فَخَطَأٌ أَنْ يَقُولَ: مُطِرْنَا زُبَالَةً فَالثَّعْلَبِيَّةُ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ لَا يَعْرِفُهُ الْبَصْرِيُّونَ، وَرَدُّهُ إِلَى قَوَاعِدِ الْبَصْرِيِّينَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعَارِيبِ أَنَّ ضَرَبَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَذَلِكَ الواحد هُوَ مَثَلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ضُرِبَ مَثَلٌ، وَلِأَنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي التَّرْكِيبِ، وَصَالِحٌ لِأَنْ يَنْتَصِبَ بِيَضْرِبَ.
وَمَا: صِفَةٌ تَزِيدُ النَّكِرَةَ شَيَاعًا، لِأَنَّ زِيَادَتَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا تَنْقَاسُ. وَبَعُوضَةً: بَدَلٌ لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي النَّكِرَاتِ، إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْفَارِسِيُّ، وَلِأَنَّ الصِّفَةَ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ لَا تَنْقَاسُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي عَبْلَةَ، وَرُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ، وَقُطْرُبٌ: بَعُوضَةٌ بِالرَّفْعِ، وَاتَّفَقَ الْمُعْرِبُونَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَكُونُ عَنْهُ خَبَرًا، فَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ بَعُوضَةٌ، وَفِي هَذَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صِلَةٌ لِمَا، وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَحَذْفُ هَذَا الْعَائِدِ وَهَذَا الْإِعْرَابُ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي جَوَازِ حَذْفِ هَذَا الضَّمِيرِ طُولَ الصِّلَةِ. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَإِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ أَيٍّ مِنَ الْمَوْصُولَاتِ، وَعَلَى مَذْهَبِهِمْ تَكُونُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ شَاذَّةٌ، وَيَكُونُ إِعْرَابُ مَا عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ بَدَلًا، التَّقْدِيرُ: مَثَلًا الَّذِي هُوَ بَعُوضَةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَا زَائِدَةٌ أَوْ صِفَةٌ وَهُوَ بَعُوضَةٌ وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ، كَالتَّفْسِيرِ لِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَلْفُوظٌ بِهِ وَهُوَ مَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً.
198
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، لَمَّا اسْتَنْكَفُوا مِنْ تَمْثِيلِ اللَّهِ لِأَصْنَامِهِمْ بِالْمُحَقَّرَاتِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ لِلْأَنْدَادِ مَا شَاءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحَقَّرَةِ بَلْهَ فَمَا فَوْقَهَا، كَمَا يُقَالُ، فُلَانٌ لَا يُبَالِي بِمَا وَهَبَ مَا دِينَارٌ وَدِينَارَانِ، وَالْمُخْتَارُ الْوَجْهُ الثَّانِي لِسُهُولَةِ تَخْرِيجِهِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ فَصِيحًا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالثَّانِي فِيهِ غَرَابَةٌ وَاسْتِبْعَادٌ عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وما مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ بَعُوضَةً إِنْ نصبنا لما مَوْصُولَةٌ وَصِلَتُهَا الظَّرْفُ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَصِفَتُهَا الظَّرْفُ، وَالْمَوْصُوفَةُ أَرْجَحُ. وَإِنْ رَفَعْنَا بَعُوضَةً، وَكَانَتْ مَا مَوْصُولَةً فَعَطَفَ مَا الثَّانِيَةَ عَلَيْهَا أَوِ اسْتِفْهَامًا، فَذَلِكَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، أَوْ كَانَتِ الْبَعُوضَةُ خَبَرًا لِهُوَ مَحْذُوفَةً، وَمَا زَائِدَةٌ، أَوْ صِفَةٌ فَعَطَفَ عَلَى الْبَعُوضَةِ، إِمَّا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَمَا فَوْقَهَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي فِي الْحَجْمِ كَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيَكُونُ ذِكْرُ الْبَعُوضَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الصِّغَرِ، وَمَا فَوْقَهَا تَنْبِيهًا عَلَى الْكِبَرِ، وَبِهِ قَالَ أَيْضًا قَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَمَا فَوْقَهَا فِي الصِّغَرِ، أَيْ وَمَا يَزِيدُ عَلَيْهَا فِي الصِّغَرِ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ أَنْذَلُ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَكَ: هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ، أَيْ أَبْلَغَ وَأَعْرَقَ فِي النَّذَالَةِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْكِسَائِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَوْقَ مَنِ الْأَضْدَادِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ يُحْمَلُ عَلَى مَعَانِيهِ، يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنَ الْبَعُوضَةِ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ.
وَقِيلَ: أَرَادَ مَا فَوْقَهَا وَمَا دُونَهَا، فَاكْتَفَى بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَنِ الْآخَرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، كَمَا اكْتَفَى فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «١» عَنْ قَوْلِهِ: وَالْبَرْدَ، وَرُجِّحَ الْقَوْلُ بِالْفَوْقِيَّةِ فِي الصِّغَرِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّمْثِيلِ تَحْقِيرُ الْأَوْثَانِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَشَدَّ حَقَارَةً كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَكْمَلَ، وَبِأَنَّ الْغَرَضَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يَمْتَنِعُ عَنِ التَّمْثِيلِ بِالشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَبِأَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَانَ أَصْغَرُ كَانَ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِهِ أَصْعَبَ. فَإِذَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الصِّغَرِ لَمْ يُحِطْ بِهِ إِلَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَكَانَ التَّمْثِيلُ بِهِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الْحِكْمَةِ مِنَ التَّمْثِيلِ بِالْكَبِيرِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِجَرَيَانِ فَوْقَ عَلَى مَشْهُورِ مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي أَسْنَدَ اللَّهُ إِلَيْهِ عَدَمُ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ أَجْلِهِ فِي ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهَذِهِ الْمُصَغَّرَاتِ وَالْمُسْتَضْعَفَاتِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَعُوضَةَ قَدْ أَوْجَدَهَا عَلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْإِحْكَامِ وَحُسْنِ التَّأْلِيفِ وَالنِّظَامِ، وَأَظْهَرَ فِيهَا، مَعَ صِغَرِ حَجْمِهَا، مِنْ بَدَائِعِ الْحِكْمَةِ كَمِثْلِ مَا أَظْهَرَهُ فِي النيل الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ وَعِظَمِ الْخِلْقَةِ. وَإِذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ اسْتَوْفَى نِصَابَ حُسْنِ الصَّنْعَةِ وَبَدَائِعِ التَّأْلِيفِ وَالصَّنْعَةِ، فَضَرْبُ المثل بالصغير
(١) سورة النحل: ١٦/ ٨١. [.....]
199
وَالْكَبِيرِ سِيَّانِ عِنْدَهُ إِذَا كَانَا فِي تَوْفِيَةِ الْحِكْمَةِ سَوَاءً. الثَّانِي: أَنَّ الْبَعُوضَةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَصْغَرِ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَصَّهَا بِالذِّكْرِ فِي الْقِلَّةِ، فلا يستحيي أَنْ يَضْرِبَ الْمَثَلَ فِي الشَّيْءِ الْكَبِيرِ بِالْكَبِيرِ وَالْحَقِيرِ بِالْحَقِيرِ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّ فِي الْبَعُوضَةِ، مَعَ صِغَرِ حَجْمِهَا وَضَعْفِ بُنْيَانِهَا، مِنْ حُسْنِ التَّأْلِيفِ وَدَقِيقِ الصُّنْعِ، مِنِ اخْتِصَارِ الْخَصْرِ وَدِقَّةِ الْخُرْطُومِ وَلَطِيفِ تَكْوِينِ الْأَعْضَاءِ وَلِينِ الْبَشَرَةِ، مَا يُعْجِزُ أَنْ يُحَاطَ بِوَصْفِهِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَبْضَعُ بِشَوْكَةِ خُرْطُومِهَا، مَعَ لِينِهَا، جِلْدَ الْجَامُوسِ وَالْفِيلِ، وَتَهْتَدِي إِلَى مُرَاقِ الْبَشَرَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يَسْتَحْيِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَضْرِبَ بِهَا الْمَثَلَ، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهَا وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ «١». الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَثَلَ بِالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَالْعَنْكَبُوتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، أَتَى بِهِ تَعَالَى فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ التَّمْثِيلِ، وَأَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَهَا مَثَلًا لَهُمْ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَقَارَةِ، وَضَعْفِ الْقُوَّةِ، وَخِسَّةِ الذَّاتِ وَالْفِعْلِ، فَلَوْ شَبَّهَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مَا حَسُنَ مَوْقِعُ التَّشْبِيهِ، وَلَا عَذُبَ مَذَاقُ التَّمْثِيلِ، إِذِ الشَّيْءُ لَا يُشَبَّهُ إِلَّا بِمَا يُمَاثِلُهُ وَيُشَاكِلُهُ، وَمَنْ أَتَى بِالشَّيْءِ عَلَى وَجْهِهِ فَلَا يَسْتَحَيَا مِنْهُ. وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَتَيْنِ بِأَمَّا الَّتِي مَعْنَاهَا الشَّرْطُ مُشْعِرٌ بِالتَّوْكِيدِ، إِذْ هِيَ أَبْلَغُ مِنْ: فَالَّذِينَ آمَنُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَقُولُونَ، إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا بَرَزَ فِي حَيِّزِ أَمَّا مِنَ الْخَبَرِ كَانَ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ، وَمَا مُفِيدُ ذَلِكَ وَمُثِيرُهُ إِلَّا تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَثَلِ، وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَضْرِبُ كَأَنَّهُ قَالَ: فَيَعْلَمُونَ أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ من لَا يَسْتَحْيِي، أَيْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ انْتِفَاءَ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ ذكر الحق، وإلا ظهر الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا فَمَيَّزَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا بِالْمَثَلِ. وَالتَّقْسِيمُ وَرَدَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَظَهَرَ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَثَلِ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِلْمِ لِأَنَّهُ الْجَزْمُ الْمُطَابِقُ لِدَلِيلٍ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْكَافِرِينَ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ اللَّفْظُ الْجَارِي عَلَى اللِّسَانِ، وَجَعَلَ مُتَعَلِّقَهُ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ الشَّامِلَةَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَالِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَقْسَامِ مَاذَا، وَهِيَ هَاهُنَا تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي خَبَرٌ عَنْ مَا.
وَأَرَادَ صِلَةً لِذَا الْمَوْصُولَةِ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، إِذْ فِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ ما الذي
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٧٣.
200
أَرَادَهُ اللَّهُ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَاذَا كُلُّهَا اسْتِفْهَامًا، وَتَرْكِيبُ ذَا مَعَ مَا، وَتَكُونُ مَفْعُولًا بِإِرَادَةِ التَّقْدِيرِ، أَيْ شَيْءٌ أَرَادَهُ اللَّهُ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فَصِيحَانِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي مَاذَا فَقِيلَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ اللَّهُ، وقيل: ما اسم وذا اسْمٌ آخَرُ بِمَعْنَى الَّذِي، فَمَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وذا خبره. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَظَاهِرُهُ اخْتِلَافُ النَّحْوِيِّينَ فِي مَاذَا هُنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ هُمَا وَجْهَانِ سَائِغَانِ فَصِيحَانِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَلَيْسَتْ مَسْأَلَةَ خِلَافٍ عِنْدِ النَّحْوِيِّينَ، بَلْ كُلُّ مَنْ شَدَا طَرَفًا مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ يُجَوِّزُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَاذَا هُنَا، وَكَذَا كُلُّ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْرِبِينَ ذَكَرُوا الْوَجْهَيْنِ فِي مَاذَا هُنَا. وَالْإِرَادَةُ بِالتَّفْسِيرِ اللُّغَوِيِّ، وَهِيَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ، يَسْتَحِيلُ نِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْإِرَادَةُ مَاهِيَّةٌ يَجِدُهَا الْعَاقِلُ مِنْ نَفْسِهِ وَيُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ الْبَدِيهِيَّةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَذَّتِهِ وَأَلَمِهِ. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: إِنَّهَا صِفَةٌ تَقْتَضِي رُجْحَانَ طَرَفَيِ الْجَائِزِ عَلَى الْآخَرِ فِي الْإِيقَاعِ، لَا فِي الْوُقُوعِ، وَاحْتَرَزَ بِهَذَا الْقَيْدِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقُدْرَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ أَزَلِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ بِذَاتِهِ، وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالنَّجَّارِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَبَعْضُ الرَّافِضَةِ نَفَوُا الصِّفَاتِ الَّتِي أَثْبَتَهَا أَهْلُ السُّنَّةِ، وَالْبَهْشَمِيَّةُ وَالْبَصْرِيُّونَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي مَحَلٍّ، وَالْكَرَّامِيَّةُ تَقُولُ بِحُدُوثِهَا فِيهِ تَعَالَى، وَإِنَّهَا إِرَادَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَكْثَرُهُمْ زَعَمُوا مَعَ الْقَوْلِ بِالْحُدُوثِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِيهَا الْعَدَمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجُوزُ عَدَمُهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، أَيْ مِنْ مَثَلٍ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ مُتَمَثِّلًا بِهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: لِمَنْ حَمَلَ سِلَاحًا رَدِيئًا، مَاذَا أَرَدْتَ بِهَذَا سِلَاحًا، فَنَصْبُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: التَّمْيِيزُ وَالْحَالُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مُتَمَثِّلًا. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنَّ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْقَطْعِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ بِإِعْرَابِ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِذَا لَمْ تُتْبِعْهُ فِي الْإِعْرَابِ وَقَطَعْتَهُ عَنْهُ نُصِبَ عَلَى الْقَطْعِ، وَجَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ.
وَعَالَيْنَ قُنْوَانًا مِنَ الْبُسْرِ أَحْمَرَا فَأَحْمَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْبُسْرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَطَعْتَهُ عَنْ إِعْرَابِهِ نَصَبْتَهُ عَلَى الْقَطْعِ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْبُسْرِ الْأَحْمَرِ، كَذَلِكَ قَالُوا: مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْمَثَلِ. فَلَمَّا لَمْ يُجَرَّ عَلَى إِعْرَابِ هَذَا، انْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى الْقَطْعِ، وَإِذَا قُلْتَ: عَبْدُ اللَّهِ فِي الْحَمَّامِ عُرْيَانًا، وَيَجِيءُ زَيْدٌ رَاكِبًا، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ. وَفَرَّقَ الْفَرَّاءُ فَزَعَمَ أَنَّ مَا كَانَ فِيمَا قَبْلَهُ دَلِيلٌ
201
عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَنْصُوبُ عَلَى الْقَطْعِ، وَمَا لَا فَمَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يُثْبِتِ الْبَصْرِيُّونَ النَّصْبَ عَلَى الْقَطْعِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ مَذْكُورٌ فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ، وَالْمُخْتَارُ انْتِصَابُ مثل عَلَى التَّمْيِيزِ، وَجَاءَ عَلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أُشِيرَ إِلَيْهِ عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ، فَجَاءَ التَّمْيِيزُ بَعْدَهُ مُؤَكِّدًا لِلِاسْمِ الَّذِي أُشِيرَ إِلَيْهِ.
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً: جُمْلَتَانِ مُسْتَأْنَفَتَانِ جَارِيَتَانِ مَجْرَى الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِلْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ الْمُصَدَّرَتَيْنِ بِإِمَّا، وَوَصَفَ تَعَالَى الْعَالِمِينَ بِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَالسَّائِلِينَ عَنْهُ سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ تَعَالَى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «١»، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «٢» وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ أَمْرَانِ نِسْبِيَّانِ، فَالْمُهْتَدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ كَثِيرٌ، وَإِذَا وُصِفُوا بِالْقِلَّةِ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الضَّلَالِ، أَوْ تَكُونُ الْكَثْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْقِلَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاصِ، فَسُمُّوا كَثِيرًا ذَهَابًا إِلَى الْحَقِيقَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ وَإِنْ قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلُّوا وَإِنْ كَثُرُوا
وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً في موضع الصفة لمثل، وَكَانَ الْمَعْنَى: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُفَرِّقُ بِهِ النَّاسَ إِلَى ضَلَالٍ وَإِلَى هِدَايَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَهَذَا الْوَجْهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْهُ هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ مَا، أَيُّ مَثَلٍ: كَانَ بَعُوضَةً، أَوْ مَا فَوْقَهَا، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا سَأَلُوا سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ وَلَيْسُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ هَذَا الْمَثَلَ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، إِلَّا إِنْ ضُمِّنَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِكُمْ وَزَعْمِكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَيُمْكُنُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَوْنُهُ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ حَقِيقِيٌّ كَمَا أَنَّ إِسْنَادَ الْهِدَايَةِ كَذَلِكَ، فَهُوَ خَالِقُ الضَّلَالِ وَالْهِدَايَةِ، وقد تؤول هُنَا الْإِضْلَالُ بِالْإِضْلَالِ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَالْإِضْلَالُ عَنِ الدِّينِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى تَقْبِيحِ الدِّينِ وَتَرْكِهِ، وَهُوَ الْإِضْلَالُ الْمُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَالْإِضْلَالُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى طَرِيقَتِهِ الِاعْتِزَالِيَّةِ يَقُولُ: إِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِسْنَادٌ إِلَى السَّبَبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ فَضَلَّ بِهِ قَوْمٌ وَاهْتَدَى بِهِ قَوْمٌ تَسَبَّبَ لِضَلَالِهِمْ وَهُدَاهُمْ.
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ١٣.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٢٢٧.
202
وَقِيلَ: يُضِلُّ بِمَعْنَى يُعَذِّبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ «١»، قَالَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَرَدَّ الْقَفَّالُ هَذَا وَقَالَ: بَلِ الْمُرَادُ فِي الشَّاهِدِ فِي ضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الَّذِي جَوَّزَهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّهُ إِلْبَاسٌ فِي التَّرْكِيبِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا أَنْ يَجْرِيَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، أَوْ يَجْرِيَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَأَمَّا أَنْ يَجْرِيَ بَعْضُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ وَبَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ إِلْبَاسًا فِي التَّرْكِيبِ، وَكِتَابُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْهُ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يُضَلُّ بِهِ كَثِيرٌ وَيُهْدَى بِهِ كَثِيرٌ وَمَا يُضَلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقُونَ، فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ، فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ الظَّاهِرِ، مَفْتُوحَ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ: هَذِهِ قِرَاءَةُ الْقَدَرِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: يُضَلُّ بِضَمِّ الْيَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَمَا يَضِلُّ بِهِ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْفَاسِقُونَ بِالْوَاوِ، وَكَذَا أَيْضًا فِي الْقِرَاءَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَاتٌ مُتَّجِهَةٌ إلى أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ فِي الثَّلَاثَةِ عَائِدٌ عَلَى مَثَلًا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ يَضْرِبُ الْمَثَلَ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: يُضِلُّ بِهِ، أَيْ بِالتَّكْذِيبِ فِي بِهِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، أَيْ بِالتَّصْدِيقِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قُوَّةُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ.
وَمَعْنَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ، أَيْ: وَمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلضَّلَالَةِ إِلَّا عِنْدَ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى يُضِلُّ وَيَهْدِي: الزِّيَادَةُ فِي الضَّلَالِ وَالْهُدَى، لَا أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ سَبَبٌ لِلضَّلَالَةِ وَالْهُدَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: نَزِيدُ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهِ وَكَفَرَ ضَلَالًا عَلَى ضَلَالِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ إِيمَانًا عَلَى إِيمَانِهِ. وَالْفَاسِقِينَ: مَفْعُولُ يُضِلُّ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَمَنَعَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ منصوبا على الاستثناء. ويكون مَفْعُولُ يُضِلُّ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَمَا يُضِلُّ بِهِ أَحَدًا إِلَّا الْفَاسِقِينَ، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ بَعْدَ إِلَّا:
إِمَّا أَنْ يُفَرَّغَ لَهُ الْعَامِلُ، فَيَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَامِلِ نَحْوَ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، وَمَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ إِلَّا بِزَيْدٍ، إِذَا جَعَلْتَ زَيْدًا وَبِزَيْدٍ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ قَبْلَ لَا، أَوْ لَا يُفَرَّغُ. وَإِذَا لَمْ يُفَرَّغْ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ طَالِبًا مَرْفُوعًا، فَلَا يَجُوزُ إِلَّا ذِكْرُهُ قَبْلَ إِلَّا، وَإِضْمَارُهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُضْمَرُ، أَوْ مَنْصُوبًا، أَوْ مَجْرُورًا، فَيَجُوزُ حَذْفُهُ لِأَنَّهُ فَضْلَةٌ وَإِثْبَاتُهُ. فَإِنْ حذفته كان الاسم
(١) سورة القمر: ٥٤/ ٤٧.
203
الَّذِي بَعْدَ إِلَّا مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فَتَقُولُ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا، تُرِيدُ ما ضربت أحدا إلا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ إِلَّا عَمْرًا، تُرِيدُ مَا ضَرَبَتْ أَحَدًا إِلَّا زَيْدًا، وَمَا مَرَرْتُ إِلَّا عَمْرًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
نَجَا سَالِمٌ وَالنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ وَمِئْزَرًا
يُرِيدُ وَلَمْ يَنْجُ بِشَيْءٍ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ، وَإِنْ أثبته، ولم يحذفه، فَلَهُ أَحْكَامٌ مَذْكُورَةٌ.
فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَدْ قَعَّدَهُ النَّحْوِيُّونَ يَجُوزُ فِي الْفَاسِقِينَ أن يكون معمولا ليضل، وَيَكُونَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَكُونَ مَعْمُولُ يُضِلُّ قَدْ حُذِفَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَالْفَاسِقُ هُوَ الْخَارِجُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَتَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ بِكُفْرٍ وَتَارَةً يَكُونُ بِعِصْيَانٍ غَيْرِ الْكُفْرِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَاسِقُ فِي الشَّرِيعَةِ: الْخَارِجُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ، وَهُوَ النَّازِلُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، أَيْ بَيْنِ مَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقَالُوا: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ حَدَّ لَهُ هَذَا الْحَدَّ أَبُو حُذَيْفَةَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَشْيَاعِهِ. وَكَوْنُهُ بَيْنَ بَيْنَ، أَيْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُؤْمِنِ فِي أَنَّهُ يُنَاكَحُ، وَيُوَارَثُ، وَيُغَسَّلُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ كَالْكَافِرِ فِي الذَّمِّ، وَاللَّعْنِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَاعْتِقَادِ عَدَاوَتِهِ، وَأَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ. وَمَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالزَّيْدِيَّةِ أَنَّ الصلاة لا تجزي خَلْفَهُ، وَيُقَالُ لِلْخُلَفَاءِ الْمَرَدَةِ مِنَ الْكُفَّارِ الْفَسَقَةِ، وَقَدْ جَاءَ الِاسْتِعْمَالَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ «١»، يُرِيدُ اللَّمْزَ وَالتَّنَابُزَ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ «٢»، انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، وَالَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ: أَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَفَسَقَ بِمَعْصِيَةٍ دُونَ الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ فَاسِقٌ بِفِسْقِهِ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِفِسْقِهِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَلَا بَلَغَ حَدَّ الْكُفْرِ. وَذَهَبَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى أَنَّ مَنْ عَصَى وَأَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَدْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَنْ أَذْنَبَ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَقَدْ أَشْرَكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ نِفَاقٌ، وَإِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بَعْدَ التَّصْدِيقِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ. وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَذُكِرَ أَنَّ لِأَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سُمُّوا مُعْتَزِلَةً، فَإِنَّهُمُ اعْتَزَلُوا قَوْلَ الأمة فيها، فَإِنَّ الْأُمَّةَ كَانُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، فَأَحْدَثُوا قَوْلًا ثَالِثًا فَسُمُّوا مُعْتَزِلَةً لِذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي أُصُولِ الدين.
(١) سورة الحجرات: ٤٩/ ١١.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٦٧.
204
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ: يَحْتَمِلُ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ. فَالنَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الِاتِّبَاعِ، وَإِمَّا عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ أَذُمُّ الَّذِينَ. وَالرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ، وَإِمَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَعَلَى هَذَا الْإِعْرَابِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا إِلَّا عَلَى بُعْدٍ، فَالْأَوْلَى مِنْ هَذَا الْإِعْرَابِ الْأَعَارِيبُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَوْلَاهَا الْإِتْبَاعُ، وَتَكُونُ هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةَ ذَمٍّ، وَهِيَ لَازِمَةٌ، إِذْ كُلُّ فَاسِقٍ يَنْقُضُ الْعَهْدَ وَيَقْطَعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْعَهْدِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَصِيَّةُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ، وَأَمْرُهُ لَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهْيُهُ لَهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلَةِ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ تَرْكُهُمُ الْعَمَلَ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ «١» الْآيَةَ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ كُفْرُ، بَعْضِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَبَعْضِهِمْ بِحُقُوقِ نِعْمَتِهِ. الثَّالِثُ: مَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ وَالتَّصْدِيقِ لأنبيائه ورسله، وبما جاؤوا بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «٢» الْآيَةَ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ نَبْذُهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَتَبْدِيلُ مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الرَّابِعُ: مَا أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَمُتَّبِعِيهِمْ أَنْ لَا يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَلَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَنْصُرُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ «٣» الْآيَةَ، وَنَقْضُهُمْ لَهُ إِنْكَارُهُمْ لِنُبُوَّتِهِ وَتَغْيِيرُهُمْ لِصِفَتِهِ. الْخَامِسُ: إِيمَانُهُمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِسَالَتِهِ قَبْلَ بَعْثِهِ وَنَقْضُهُمْ لَهُ جَحْدُهُمْ لِنُبُوَّتِهِ وَلِصِفَتِهِ. السَّادِسُ: مَا جَعَلَهُ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ، بِالنَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَصِدْقِهِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَنَقْضُهُمْ هُوَ تَرْكُهُمُ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَتَقْلِيدُهُمْ لِآبَائِهِمْ. السَّابِعُ: الْأَمَانَةُ الْمَعْرُوضَةُ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ الَّتِي حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ، وَنَقْضُهُمْ تَرْكُهُمُ الْقِيَامَ بِحُقُوقِهَا. الثَّامِنُ: مَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَلَا يُخْرِجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَنَقْضُهُمْ عَوْدُهُمْ إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ. التَّاسِعُ: هُوَ الْإِيمَانُ وَالْتِزَامُ الشَّرَائِعِ، وَنَقْضُهُ كُفْرُهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ التِّسْعَةُ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ نَاقِضٍ لِلْعَهْدِ، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي وقع في
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٧٢.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٧.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٨١.
205
سَبَبِ النُّزُولِ، وَالْعُمُومِ هُوَ الظَّاهِرُ. فَكُلُّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ أَوْ مُشْرِكٍ أَوْ كِتَابِيٍّ تَنَاوَلَهُ هَذَا الذم، ومن مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يَنْقُضُونَ، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّقْضَ حَصَلَ عَقِيبَ تَوَثُّقِ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِهِمْ بِالْعَهْدِ، فَأَثَرُ مَا اسْتَوْثَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ نَقَضُوهُ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْمِيثَاقُ مَفْعُولٌ مِنَ الْوَثَاقَةِ، وَهُوَ الشَّدُّ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ بِالْيَمِينِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَنَى بِهِ عَنِ الِالْتِزَامِ وَالْقَبُولِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ اسْمٌ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ شُيَيْمٍ:
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرُّتَاعَا
أَرَادَ بَعْدَ إِعْطَائِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ، بَلْ قَدْ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّوْثِقَةِ، كَمَا أَنَّ الْمِيعَادَ بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَالْمِيلَادَ بِمَعْنَى الْوِلَادَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالْأَصْلُ فِي مِفْعَالٍ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا نَحْوَ: مِطْعَامٍ وَمِسْقَامٍ وَمِذْكَارٍ. وَقَدْ طَالَعْتُ كَلَامَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَاجِّ، وَكَلَامَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُمَا مِنْ أَوْعَبِ النَّاسِ لِأَبْنِيَةِ الْمَصَادِرِ، فَلَمْ يَذْكُرَا مِفْعَالًا فِي أَبْنِيَةِ الْمَصَادِرِ. وَالضَّمِيرُ فِي مِيثَاقِهِ عَائِدٌ عَلَى الْعَهْدِ لِأَنَّهُ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ، وَأُجِيزَ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مِنْ تَوْثِيقِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ مِنْ بَعْدِ مَا وَثَّقَ بِهِ عَهْدَهُ عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْمِيثَاقِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: إِنْ أَعَدْتَ الْهَاءَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ كَانَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنْ أَعَدْتَهَا إِلَى الْعَهْدِ كَانَ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ عِنْدَهُ مَصْدَرٌ.
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ: وَمَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَفِيهِ ضَعْفٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَكَانَ مِنْ مَكَانِ مَا. الثَّانِي: الْقَوْلُ: أَمَرَ اللَّهِ أَنْ يُوصَلَ بِالْعَمَلِ فَقَطَعُوا بَيْنَهُمَا، قَالُوا: وَلَمْ يَعْمَلُوا، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ «١». الثَّالِثُ: التَّصْدِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ، أُمِرُوا بِوَصْلِهِ فَقَطَعُوهُ بِتَكْذِيبِ بَعْضٍ وَتَصْدِيقِ بَعْضٍ. الرَّابِعُ: الرَّحِمُ وَالْقَرَابَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ، لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى مَدْلُولِهِ مِنَ الْعُمُومِ، وَلَا دَلِيلَ واضح على الخصوص.
(١) سورة الفتح: ٤٨/ ١١.
206
وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا تَكُونُ مَوْصُوفَةً خُصُوصًا هُنَا، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: وَيَقْطَعُونَ شَيْئًا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يوصل، فَهُوَ مُطْلَقٌ وَلَا يَقَعَ الذَّمُّ الْبَلِيغُ وَالْحُكْمُ بِالْفِسْقِ وَالْخُسْرَانِ بِفِعْلٍ مُطْلَقٍ مَا، وَالْأَمْرُ هُوَ اسْتِدْعَاءُ الْأَعْلَى الْفِعْلَ مِنَ الْأَدْنَى، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبَعْثهُ عَلَيْهِ، وَهِيَ نُكْتَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ لَطِيفَةٌ، قَالَ: وَبِهِ سُمِّيَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ وَاحِدُ الْأُمُورِ، لِأَنَّ الدَّاعِيَ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ لَا يَتَوَلَّاهُ شُبِّهَ بِآمِرٍ يَأْمُرُهُ بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَمْرٌ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، كَمَا قِيلَ لَهُ: شَأْنٌ، وَالشَّأْنُ الطَّلَبُ وَالْقَصْدُ، يُقَالُ شَأَنْتُ شَأْنَهُ، أَيْ قَصَدْتُ قَصْدَهُ، وَأَمْرٌ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَالْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وأن يُوصَلَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ تَقْدِيرُهُ بِهِ وَصْلُهُ، أَيْ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بوصله، نحو قال الشَّاعِرِ:
أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ فَتُقَصِّرُ عَنْهَا حِقْبَةً وَتَبُوصُ
أَيْ أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى نَأْيُهَا.
وَأَجَازَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ أَنْ يُوصَلَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنْ مَا، أَيْ وَصْلُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَقْطَعُونَ وَصْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَأَجَازَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَقَدَّرَهُ الَمَهْدَوِيُّ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُوصَلَ، فَيَكُونُ الْحَامِلُ عَلَى الْقَطْعِ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُوصَلَ. وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ وَجْهَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَقَدَّرَهُ لِئَلَّا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ أَنْ يُوصَلَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ هُوَ أَنْ يُوصَلَ. وَهَذِهِ الْأَعَارِيبُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، وَلَوْلَا شُهْرَةُ قَائِلِهَا لَضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. وَالْأَوَّلُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَسِوَاهُ مِنَ الْأَعَارِيبِ، بَعِيدٌ عَنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ بَلْهَ أَفْصَحِ الْكَلَامِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ.
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: اسْتِدْعَاؤُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ، وَحَمْلُ النَّاسِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: إِخَافَتُهُمُ السَّبِيلَ، وَقَطْعُهُمُ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ هَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ. الثَّالِثُ: نَقْضُ الْعَهْدِ. الرَّابِعُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ تَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى غَيْرِ فَاعِلِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ، وَيُجَوِّزُونَ فِي الْأَفْعَالِ، إِذْ هِيَ بِحَسَبَ شَهَوَاتِهِمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الرَّابِعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا مَعْنَى فِي الْأَرْضِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى ذِكْرِ الْأَرْضِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «١»، فَأَغْنَى عَنْ
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١.
207
إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَبِيرَةُ نَوْعًا مِنَ الْبَدِيعِ يُسَمِّيهِ أَرْبَابُ الْبَيَانِ: بِالطِّبَاقِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَأْتِيَ بِالشَّيْءِ وَضِدِّهِ، وَوَقَعَ هُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعُوضَةً فَما فَوْقَها، فَإِنَّهُمَا دَلِيلَانِ عَلَى الْحَقِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَفِي قَوْلِهِ: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ. وَجَاءَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ مُنَاسَبَةُ الطِّبَاقِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ أَوَّلٍ مِنْهَا كَائِنٌ بَعْدَ مُقَابِلِهِ، فَالضَّلَالُ بَعْدَ الْهِدَايَةِ
لِقَوْلِهِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ
، وَلِدُخُولِ أَوْلَادِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْجَنَّةَ إِذَا مَاتُوا قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَالنَّقْضُ بَعْدَ التَّوْثِقَةِ، وَالْقَطْعُ بَعْدَ الْوَصْلِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ تَنَاسَبَتْ فِي الطِّبَاقِ. وَفِي وَصْلِ الَّذِينَ بِالْمُضَارِعِ وَعَطْفِ الْمُضَارِعَيْنِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى تَجَدُّدِ النَّقْضِ وَالْقَطْعِ وَالْإِفْسَادِ، وَإِشْعَارٌ أَيْضًا بِالدَّيْمُومَةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ، وَبِنَاءُ يُوصَلُ لِلْمَفْعُولِ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ بنائه للفاعل، لأنه يشتمل مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَنْ يَصِلُوهُ أَوْ يَصِلَهُ غَيْرُهُمْ.
وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الصِّلَاتِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، لِأَنَّهُ قَدْ بَدَأَ أَوَّلًا بِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ أَخَصُّ هَذِهِ الثَّلَاثِ، ثُمَّ ثَنَّى بِقَطْعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِالْإِفْسَادِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقَطْعِ، وَكُلُّهَا ثَمَرَاتُ الْفِسْقِ، وَأَتَى بِاسْمِ الْفَاعِلِ صِلَةً لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ لِيَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِهِمْ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَيَكُونُ وَصْفُ الْفِسْقِ لَهُمْ ثَابِتًا، وَتَكُونُ النَّتَائِجُ عَنْهُ مُتَجَدِّدَةً مُتَكَرِّرَةً، فَيَكُونُ الذَّمُّ لَهُمْ أَبْلَغَ لِجَمْعِهِمْ بَيْنَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ وَتَجَدُّدِ فُرُوعِهِ وَنَتَائِجِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ أَوْصَافَ الْفَاسِقِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ، أَيْ: أُولَئِكَ الْجَامِعُونَ لِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ مِنَ النَّقْضِ وَالْقَطْعِ وَالْإِفْسَادِ.
هُمُ الْخاسِرُونَ: وَفُسِّرَ الْخَاسِرُونَ بَالنَّاقِصِينَ حُظُوظَهُمْ وَشَرَفَهُمْ، وَبِالْهَالِكِينَ، وَسَبَبُ خُسْرَانِهِمُ اسْتِبْدَالُهُمُ النَّقْضَ بِالْوَفَاءِ، وَالْقَطْعَ بِالْوَصْلِ، وَالْإِفْسَادَ بِالْإِصْلَاحِ، وَعِقَابَهَا بِالثَّوَابِ، وَقِيلَ: الْخَاسِرُونَ الْمَغْبُونُونَ بِفَوْتِ الْمَثُوبَةِ وَلُزُومِ الْعُقُوبَةِ وَقِيلَ: خَسِرُوا نَعِيمَ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: خَسِرُوا حَسَنَاتِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا، أَحْبَطُوهَا بِكُفْرِهِمْ. وَالْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَلَهُمْ أَعْمَالٌ فِي شَرِيعَتِهِمْ وَفِي الْمُنَافِقِينَ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ فِي الظَّاهِرِ عَمَلَ الْمُخْلِصِينَ. قَالَ الْقَفَّالُ: الْخَاسِرُ اسْمٌ عَامٌّ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا يُجْزَى عَلَيْهِ. كَيْفَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنْ حَالٍ، وَصَحِبَهُ مَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ، فَخَرَجَ عَنْ حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَقِيلَ: صَحِبَهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّعَجُّبُ، أَيْ إِنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنَ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ وَالْمَرْجِعُ إِلَيْهِ آخِرًا فَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، لَا يَلِيقُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ. وَالْإِنْكَارُ بِالْهَمْزَةِ إِنْكَارٌ لِذَاتِ
208
الْفِعْلِ، وَبِكَيْفَ إِنْكَارٌ لِحَالِهِ وَإِنْكَارُ حَالِهِ إِنْكَارٌ لِذَاتِهِ، لِأَنَّ ذَاتَهُ لَا تَخْلُو مِنْ حَالٍ يَقَعُ فِيهَا، فَاسْتَلْزَمَ إِنْكَارُ الْحَالِ إِنْكَارَ الذَّاتِ ضَرُورَةً، وَهُوَ أَبْلَغُ، إِذْ يَصِيرُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ حَيْثُ قُصِدَ إِنْكَارُ الْحَالِ، وَالْمَقْصُودُ إِنْكَارُ وُقُوعِ ذَاتِ الْكُفْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ إِذَا أُنْكِرَ أَنْ يَكُونَ لِكُفْرِهِمْ حَالٌ يُوجَدُ عَلَيْهَا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لَا يَنْفَكُّ مِنْ حَالٍ وَصِفَةٍ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوجَدَ تَغَيُّرُ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ، كَانَ إِنْكَارًا لِوُجُودِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْبُرْهَانِيِّ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا الْخِطَابُ فِيهِ الْتِفَاتٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَبْلُ كَانَ بِصُورَةِ الْغَيْبَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى آخِرِهِ؟ وَفَائِدَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّ الْإِنْكَارَ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْمُخَاطَبِ كَانَ أَبْلَغَ مَنْ تُوَجُّهِهِ إِلَى الْغَائِبِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَصِلَهُ الْإِنْكَارُ، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا، فَإِنَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ أَرْدَعُ لَهُ عَنْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ. والناصب ل كَيْفَ تَكْفُرُونَ. وَأَتَى بِصِيغَةِ تَكْفُرُونَ مُضَارِعًا وَلَمْ يَأْتِ بِهِ مَاضِيًا وَإِنْ كَانَ الْكُفْرُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الَّذِي أُنْكِرَ أَوْ تُعُجِّبَ مِنْهُ الدَّوَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُضَارِعُ هُوَ الْمُشْعِرُ بِهِ وَلِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْكُفْرُ ثُمَّ آمَنَ، إِذْ لَوْ جَاءَ كَيْفَ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ لَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ مَنْ كفرتم آمَنَ كَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالْوَاوُ فِي قوله: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ: وَاوُ الْحَالِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «١»، وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ «٢».
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ فَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَهُوَ مَاضٍ؟ وَلَا يُقَالُ: جِئْتُ وقام الأسير، وَلَكِنْ: وَقَدْ قَامَ، إِلَّا أَنْ يُضْمَرَ قَدْ. قُلْتُ: لَمْ تَدْخُلِ الْوَاوُ عَلَى كُنْتُمْ أَمْوَاتًا وَحْدَهُ، وَلَكِنْ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ أَمْوَاتًا إِلَى تَرْجِعُونَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَقِصَّتُكُمْ هَذِهِ وَحَالُكُمْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا نُطَفًا فِي أَصْلَابِ آبَائِكُمْ فَجَعَلَكُمْ أَحْيَاءً؟ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ يُحَاسِبُكُمْ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، أَيْ وَقَدْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ. وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ عِنْدَنَا فِعْلِيَّةٌ. وَأَمَّا أَنْ نَتَكَلَّفَ وَنَجْعَلَ تِلْكَ الْجُمْلَةَ اسْمِيَّةً حَتَّى نَفِرَّ مِنْ إِضْمَارِ قَدْ، فَلَا نَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيَّ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادُهُ أَنَّ جميع الجمل مندرجة في الْحَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ، بَعْضُ الْقِصَّةِ مَاضٍ وَبَعْضُهَا مُسْتَقْبَلٌ، وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ كِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ حَالًا حَتَّى يَكُونَ فِعْلًا حَاضِرًا وَقْتَ وُجُودِ مَا هُوَ حَالٌ عَنْهُ، فما الحاضر الذي
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٤٥.
(٢) سورة هود: ١١/ ٤٢.
209
وَقَعَ حَالًا؟ قُلْتُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْقِصَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ عَالِمُونَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَبِأَوَّلِهَا وَبِآخِرِهَا؟ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْجُمَلِ مُنْدَرِجَةً فِي الْحَالِ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ قوله: وكنتم أمواتا فأحياكم، وَيَكُونَ الْمَعْنَى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَقَدْ خَلَقَكُمْ فَعَبَّرَ عَنِ الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»
أَيْ أَنَّ مَنْ أَوْجَدَكَ بَعْدَ العدم الصرف حر أَنْ لَا تَكْفُرَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا نِعْمَةَ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الِاخْتِرَاعَ، ثُمَّ نِعْمَةِ الِاصْطِنَاعِ، وَقَدْ شَمِلَ النِّعْمَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ لِأَنَّ بِالْإِحْيَاءِ حَصَلَتَا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ الْإِيجَادَ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْكَ بِالتَّرْبِيَةِ وَالنِّعَمِ إِلَى زَمَانِ أَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْكَ إِنْكَارُ الْكُفْرِ؟ وَلَمَّا كَانَ مَرْكُوزًا فِي الطِّبَاعِ وَمَخْلُوقًا فِي الْعُقُولِ أَنْ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهَ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «١»، كَانَتْ حَالًا تَقْتَضِي أَنْ لَا تُجَامِعَ الْكُفْرَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ. أَنَّ الْحَالَ هُوَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ.
وَعَلَى هَذَا الَّذِي شَرَحْنَاهُ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ جُمَلًا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مُسْتَأْنَفَةً لَا دَاخِلَةً تَحْتَ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ غَايَرَ فِيهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَبِصِيغَةِ الْفِعْلِ عَمَّا قَبْلَهَا مِنَ الْحَرْفِ وَالصِّيغَةِ. وَمَنْ جَعَلَ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمَلِ هُوَ الْحَالَ، جَعَلَ تَمَكُّنَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِحْيَاءِ الثَّانِي وَالرُّجُوعِ لِمَا نُصِبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ حُصُولِ الْعِلْمِ. فَحُصُولُهُ بِالْإِمَاتَتَيْنِ وَالْإِحْيَاءِ الْأَوَّلِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلِمُوا ثُمَّ عَانَدُوا، وَفِي تَرْتِيبِ هَاتَيْنِ الْمَوْتَتَيْنِ وَالْحَيَاتَيْنِ اللَّاتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: الْعَدَمُ السَّابِقُ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ:
الْخَلْقُ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَالْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ: الْبَعْثُ لِلْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: الْمَعْهُودُ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: هُوَ فِي الْقَبْرِ لِلْمَسْأَلَةِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: فِي الْقَبْرِ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ:
الْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو صَالِحٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: كَوْنُهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: الْإِخْرَاجُ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ:
الْبَعْثُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: هُوَ الَّذِي اعْتَقَبَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ نَسَمًا كَالذَّرِّ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: إِخْرَاجُهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ: الْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: مُفَارَقَةُ نطفة الرجل إلى
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٩. [.....]
210
الرَّحِمِ فَهِيَ مَيِّتَةٌ إِلَى نَفْخِ الرُّوحِ فَيُحْيِيهَا بِالنَّفْخِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ هُوَ الْخُمُولُ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: الذِّكْرُ وَالشَّرَفُ بِهَذَا الدِّينِ وَالنَّبِيِّ الَّذِي جَاءَكُمْ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. السَّابِعُ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: كَوْنُ آدَمَ مِنْ طِينٍ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ فَحَيِيتُمْ بِحَيَاتِهِ، وَالْمَوْتَ الثَّانِيَ: الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الثَّانِيَ: الْبَعْثُ.
وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَقَالَ: هُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ، لِأَنَّهُ لَا مَحِيدَ لِلْكُفَّارِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهِ فِي أَوَّلِ تَرْتِيبِهِ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا، وَإِسْنَادَهُ آخِرًا الْإِمَاتَةَ إِلَيْهِ، مِمَّا يُقَوِّي ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَإِذَا أَذْعَنَتْ نُفُوسُ الْكُفَّارِ لِكَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا مَعْدُومِينَ ثُمَّ لِلْإِحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لِلْإِمَاتَةِ فِيهَا، قَوِيَ عَلَيْهِمْ لُزُومُ الْإِحْيَاءِ الْآخَرِ وَجَاءَ جَحْدُهُمْ لَهُ دَعْوَى لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
وَلِلْمَنْسُوبِينَ إِلَى عِلْمِ الْحَقَائِقِ أَقْوَالٌ تُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ: أَحَدُهَا: أَمْوَاتًا بِالشِّرْكِ فَأَحْيَاكُمْ بِالتَّوْحِيدِ. الثَّانِي: أَمْوَاتًا بِالْجَهْلِ فَأَحْيَاكُمْ بِالْعِلْمِ. الثَّالِثُ: أَمْوَاتًا بِالِاخْتِلَافِ فَأَحْيَاكُمْ بِالِائْتِلَافِ. الرَّابِعُ: أَمْوَاتًا بِحَيَاةِ نُفُوسِكُمْ وَإِمَاتَتُكُمْ بِإِمَاتَةِ نُفُوسِكُمْ وَإِحْيَاءِ قُلُوبِكُمْ.
الْخَامِسُ: أَمْوَاتًا عَنْهُ فَأَحْيَاكُمْ بِهِ، قَالَهُ الشِّبْلِيُّ. السَّادِسُ: أَمْوَاتًا بِالظَّوَاهِرِ فَأَحْيَاكُمْ بِمُكَاشَفَةِ السَّرَائِرِ، قَالَهُ ابْنُ عَطَاءٍ. السَّابِعُ: أَمْوَاتًا بِشُهُودِكُمْ فَأَحْيَاكُمْ بِمُشَاهَدَتِهِ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عَنْ شَوَاهِدِكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بِقِيَامِ الْحَقِّ عَنْهُ ثم إليه ترجعون من جَمِيعِ مَا لَكُمْ، قَالَهُ فَارِسٌ.
وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ كَوْنُهُمْ نُطَفًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَجَعَلَهُمْ أَحْيَاءً، ثُمَّ يُمِيتُهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُمْ. وَجَوَّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ الثَّانِي: الْإِحْيَاءَ فِي الْقَبْرِ، وَبِالرُّجُوعِ: النُّشُورَ، وَأَنْ يُرَادَ بِالْإِحْيَاءِ الثَّانِي أَيْضًا النُّشُورُ، وَبِالرُّجُوعِ: الْمَصِيرُ إِلَى الْجَزَاءِ. وَهَذَا الَّذِي جَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِحْيَاءُ فِي الْقَبْرِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَحْيَا لِلْمَسْأَلَةِ فِي الْقَبْرِ، وَلَا لِأَنْ يُنَعَّمَ فِيهِ أَوْ يُعَذَّبَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَهُ، لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَأَتْبَاعَهُمْ أَنْكَرُوا عَذَابَ الْقَبْرِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةُ أَثْبَتُوهُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، إِلَّا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: يَحْيَا الْمَيِّتُ الْكَافِرُ فَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ، وَالْفَاسِقُ يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ فِي قَبْرِهِ، وَالْكَرَّامِيَّةُ تَقُولُ: يُعَذَّبُ وَهُوَ مَيِّتٌ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ قَدِ اسْتَفَاضَتْ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَاعْتِقَادُهُ.
وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: أَمْوَاتًا أَيْ تُرَابًا وَنُطَفًا، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خَلْقِ آدَمَ
211
مِنَ التُّرَابِ، وَخُلِقَ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ، إِلَّا عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، مِنَ النُّطَفِ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَمَادِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَنْ يَحُلُّهُ الْمَوْتُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِصِفَةِ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا فِي الْعَادَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمَادِ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَفْسِيرُهُ الْأَمْوَاتَ بِالتُّرَابِ وَالنُّطَفِ لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي التُّرَابِ، لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنَ التُّرَابِ لَمْ يَتَّصِفْ بِالصِّفَةِ الَّتِي أُنْكِرَتْ أَوْ تُعُجِّبَ مِنْهَا وَقْتًا قَطُّ، فَكَيْفَ يَنْدَرِجُ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً؟ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ كَوْنَهُمْ أمواتا، مِنْ وَقْتِ اسْتِقْرَارِهِمْ نُطَفًا فِي الْأَرْحَامِ إِلَى تَمَامِ الْأَطْوَارِ بَعْدَهَا، وَأَنَّ الْحَيَاةَ الْأُولَى نَفْخُ الرُّوحِ بَعْدَ تِلْكَ الْأَطْوَارِ مِنَ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ وَاكْتِسَاءِ الْعِظَامِ لَحْمًا.
وَالْإِمَاتَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمَعْهُودَةُ، وَالْإِحْيَاءُ هُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَيَكُونُ الْإِحْيَاءُ الْأَوَّلُ وَالْمَوْتُ الْأَوَّلُ، وَالْإِحْيَاءُ الثَّانِي حَقِيقَةً، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أَمْوَاتًا، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْجَمَادَ يُوصَفُ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةً فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ حَقِيقَةً، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْمَجَازِ فَهُوَ مَجَازٌ سَائِغٌ قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَوْجُودٌ، فَقَرُبَ اتِّصَافُهُ بِالْمَوْتِ، بِخِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُهُ مَعْدُومًا وَكَوْنُهُ فِي الصُّلْبِ. أَوْ حِينَ كَانَ آدَمُ طِينًا، فَإِنَّ الْمَجَازَ فِي ذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ عَدَمٌ صِرْفٌ، وَالْعَدَمُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ وُجُودٌ يَبْعُدُ فِيهِ أَنْ يُسَمَّى مَوْتًا، أَلَا تَرَى مَا أَطْلَقَ عليه في اللغة لَفْظُ الْمَوْتِ مِمَّا لَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَيْفَ يَكُونُ مَوْجُودًا لَا عَدَمًا صِرْفًا؟ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ «١»، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ «٢»، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى «٣»، وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «٤»، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: أَرْضٌ مَوَاتٌ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أن الموت الأول: هو الْخُمُولُ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ: هُوَ التَّنْوِيهُ وَالذِّكْرُ، فَمَجَازٌ بَعِيدٌ هُنَا، لِأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ الْقَرِيبِ كَانَ أَوْلَى.
وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ أَكْثَرُ تِلْكَ الْأَقَاوِيلِ يَبْعُدُ فِيهَا التَّعْقِيبُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ:
فَأَحْيَاكُمْ، لِأَنَّ بَيْنَ ذَاكَ الْمَوْتِ وَالْإِحْيَاءِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ تَكُونُ الْفَاءُ دَالَّةً عَلَى مَعْنَاهَا مِنَ التَّعْقِيبِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَوْتَ الْأَوَّلَ: هُوَ الْمَعْهُودُ، وَالْإِحْيَاءَ الْأَوَّلَ هُوَ لِلْمَسْأَلَةِ، فَيَكُونُ فِيهِ الْمَاضِي قَدْ وضع موضع المستقبل مجاز التحقق وُقُوعِهِ، أَيْ وَتَكُونُونَ أَمْوَاتًا فَيُحْيِيكُمْ، كَقَوْلِهِ: أَتى أَمْرُ اللَّهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْمٌ عَلَى نَفْيِ عَذَابِ الْقَبْرِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ تَعَالَى مَوْتَتَيْنِ وَحَيَاتَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَيَاةً بَيْنَ إِحْيَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَإِحْيَائِهِمْ فِي الآخرة.
(١) سورة يس: ٣٦/ ٣٣.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٣٩.
(٣) سورة فصلت: ٤١/ ٣٩.
(٤) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٠.
212
قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ «١»، لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَثْبَتُوا حَيَاةَ الذَّرِّ فِي صُلْبِ آدَمَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ هَذِهِ الْحَيَاةِ لِلْمَسْأَلَةِ عَدَمُهَا قَبْلُ، وَأَيْضًا، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هُوَ لِلْمَسْأَلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَعَطَفَ بِثُمَّ الَّتِي تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ فِي الزَّمَانِ.
وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَاصِلٌ عَقِبَ الْحَيَاةِ الَّتِي لِلْبَعْثِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ لِلْمَسْأَلَةِ.
قَالَ الْحَسَنُ: ذِكْرُ الموت مرتين هذا لِأَكْثَرِ النَّاسِ، وَأَمَّا بَعْضُهُمْ فَقَدْ أَمَاتَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ»
، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «٣»، فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
«٤»، الْآيَاتِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَدَلِيلٌ عَلَى النَّشْرِ وَالْحَشْرِ. وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّ الضَّمَائِرَ السَّابِقَةَ عَائِدَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ إِلَى جَزَائِهِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ. وَقِيلَ: عَائِدَةٌ عَلَى الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: عَائِدَةٌ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَلَّى اللَّهُ الْحُكْمَ بَيْنَكُمْ فِيهِ. وَقِيلَ:
عَائِدَةٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَأَحْيَاكُمْ. وَشَرْحُ هَذَا أَنَّكُمْ تَرْجِعُونَ بَعْدَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْحَالِ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا فِي ابْتِدَاءِ الْحَيَاةِ الْأُولَى، مِنْ كَوْنِكُمْ لَا تَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِكُمْ شَيْئًا. وَاسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي مَكَانٍ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُرْجَعُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ رَجَعَ الْمُتَعَدِّي.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَالْفَيَّاضُ بْنُ غَزْوَانَ، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ رَجَعَ اللَّازِمِ، لِأَنَّ رَجَعَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَفْصَحُ، لِأَنَّ الْإِسْنَادَ فِي الْأَفْعَالِ السَّابِقَةِ هُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، فَكَانَ سِيَاقُ هَذَا الْإِسْنَادِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي الرُّجُوعِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ كَانَ يُفَوِّتُ تَنَاسُبَ الْفَوَاصِلِ وَالْمَقَاطِعِ، إِذْ كَانَ يَكُونُ التَّرْتِيبُ:
ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ «٥»، فَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ حَتَّى لَا يَفُوتَ
(١) سورة غافر: ٤٠/ ١١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٩.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٣.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٠.
(٥) سورة الأنعام: ٦/ ٦٠.
213
التَّنَاسُبُ اللَّفْظِيُّ. وَقَدْ حَصَلَ التَّنَاسُبُ الْمَعْنَوِيُّ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ، إِذْ هُوَ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَإِنَّهُ يَفُوتُ التَّنَاسُبُ الْمَعْنَوِيُّ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رُجُوعِ الشَّخْصِ إِلَى شَيْءٍ أَنَّ غَيْرَهُ رَجَعَهُ إِلَيْهِ، إِذْ قَدْ يَرْجِعُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ رَادٍّ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ بِنِسْبَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ فَاعِلُ الْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ مِنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ مَا يَزِيدُ الْمُسِيءَ خَشْيَةً وَيَرُدُّهُ عَنْ بَعْضِ مَا يَرْتَكِبُهُ، وَيَزِيدُ الْمُحْسِنَ رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ وَيَدْعُوهُ رَجَاؤُهُ إِلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَمُنْكِرِي الْبَعْثِ، إِذْ هُوَ بِيَدِهِ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ وَالْبَعْثُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لما ذكر أن مَنْ كَانَ مُنْشِئًا لَكُمْ بَعْدَ الْعَدَمِ وَمُفْنِيًا لَكُمْ بَعْدَ الْوُجُودِ وَمُوجِدًا لَكُمْ ثَانِيَةً، إِمَّا فِي جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ، كَانَ جَدِيرًا أَنْ يُعْبَدَ وَلَا يجحد، ويشرك وَلَا يُكْفَرَ. ثُمَّ أَخَذَ يُذَكِّرُهُمْ عَظِيمَ إِحْسَانِهِ وَجَزِيلَ امْتِنَانِهِ مِنْ خَلْقِ جَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَأَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالْعَالَمَ السُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ عَلَى السَّوَاءِ، وَأَنَّهُ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَلَفْظَةُ هُوَ مِنَ الْمُضْمَرَاتِ وُضِعَ لِلْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ، وَهُوَ كُلِّيٌّ فِي الْوَضْعِ كَسَائِرِ الْمُضْمَرَاتِ، جَرَى فِي النِّسْبَةِ الْمَخْصُوصَةِ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ، فَمَا مِنْ مُفْرَدٍ مُذَكَّرٍ غَائِبٍ إِلَّا وَيَصِحُّ أَنْ يطلق عليه هو، لكن إِذَا أُسْنِدَ لِهَذَا الِاسْمِ شَيْءٌ تَعَيَّنَ. وَمَشْهُورُ لُغَاتِ الْعَرَبِ تَخْفِيفُ الْوَاوِ مَفْتُوحَةً، وَشَدَّدَتْهَا هَمْدَانُ، وَسَكَّنَتْهَا أَسَدٌ وَقَيْسٌ، وَحَذْفُ الْوَاوِ مُخْتَصٌّ بِالشِّعْرِ. وَلِهَؤُلَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى عِلْمِ الْحَقَائِقِ وَإِلَى التَّصَوُّفِ كَلَامٌ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَعْقُولِنَا، رَأَيْتُ أَنْ أَذْكُرَهُ هُنَا لِيَقَعَ الذِّكْرُ فِيهِ.
قَالُوا: أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُظْهَرَاتٌ، وَمُضْمَرَاتٌ، وَمُسْتَتِرَاتٌ.
فَالْمُظْهَرَاتُ: أَسْمَاءُ ذَاتٍ، وَأَسْمَاءُ صِفَاتٍ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مُشْتَقَّةٌ، وَأَسْمَاءُ الذَّاتِ مُشْتَقَّةٌ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَغَيْرُ الْمُشْتَقِّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ، وَالَّذِي يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَقٍّ، بَلِ اسْمٌ مُرْتَجَلٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ. وَأَمَّا الْمُضْمَرَاتُ فَأَرْبَعَةٌ: أَنَا فِي مِثْلِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا «١»، وأنت فِي مِثْلِ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ «٢»، وهو فِي مِثْلِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ «٣»، ونحن فِي مِثْلِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ «٤». قَالُوا: فَإِذَا تَقَرَّرَ هذا فالله أعظم
(١) سورة النحل: ١٦/ ٢.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٨٧.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٩.
(٤) سورة يوسف: ١٢/ ٣.
214
أَسْمَائِهِ الْمُظْهَرَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّاتِ، وَلَفْظَةُ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْمَائِهِ الْمُظْهَرَاتِ وَالْمُضْمَرَاتِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَاتِهِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ الْمُشْتَقَّةَ كُلَّهَا لَفْظُهَا متضمن جواز الاشتراك لاجتماعها فِي الْوَصْفِ الْخَاصِّ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ حَقِيقَةً وَالْآخَرُ مَجَازًا مِنَ الِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ينبىء عَنْ كُنْهِ حَقِيقَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ الْمُبَرَّأَةِ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ الْكَثْرَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ. فَلَفْظَةُ هُوَ تُوَصِّلُكَ إِلَى الْحَقِّ وَتَقْطَعُكَ عَمَّا سِوَاهُ، فَإِنَّكَ لَا بُدَّ أَنْ يُشْرَكَ مَعَ النَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَهَذَا الِاسْمُ لِأَجْلِ دَلَالَتِهِ عَلَى الذَّاتِ يَنْقَطِعُ مَعَهُ النَّظَرُ إِلَى مَا سِوَاهُ، اخْتَارَهُ الْجِلَّةُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ مَدَارًا لِذِكْرِهِمْ وَمَنَارًا لِكُلِّ أَمْرِهِمْ فَقَالُوا: يَا هُوَ، لِأَنَّ لَفْظَةَ هُوَ إِشَارَةٌ بِعَيْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَحْضُرَ هُنَاكَ شَيْءٌ سِوَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَالْمُقَرَّبُونَ لَا يَخْطُرُ فِي عُقُولِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ مَوْجُودٌ آخَرُ سِوَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ إِشَارَتُهُ، وَهُوَ اسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرْفَيْنِ وَهُمَا:
الْهَاءُ وَالْوَاوُ، وَالْهَاءُ أَصْلٌ وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ بِدَلِيلِ سُقُوطِهَا فِي التَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ فِي هُمَا وَهُمْ، وَالْأَصْلُ حَرْفٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوَاحِدِ الْفَرْدِ. انْتَهَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ عَاصَرْنَاهُ فِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِمَا ذَكَرُوهُ وَمُعْتَقَدًا لِمَا خبروه. وَلَهُمْ فِي لَفْظَةِ أَنَا وَأَنْتَ وَهُوَ كَلَامٌ غَرِيبٌ جِدًّا بَعِيدٌ عَمَّا تَكَلَّمَ عَلَيْهَا بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَحَدِيثُ هَؤُلَاءِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى هَذِهِ الْعُلُومِ لَمْ يُفْتَحْ لِي فِيهِ بِبَارِقَةٍ، وَلَا أَلْمَمْتُ فِيهِ إِلَى الْآنِ بِغَادِيَةٍ وَلَا طَارِقَةٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُنَوِّرَ بَصَائِرَنَا بِأَنْوَارِ الْهِدَايَةِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا مَسَالِكَ الْغِوَايَةِ، وَأَنْ يُلْهِمَنَا إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا اتِّبَاعَ الْأَمْرَيْنِ النَّيِّرَيْنِ: السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ.
ولكم: متعلق بخلق، وَاللَّامُ فِيهِ، قِيلَ: لِلسَّبَبِ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ وَلِانْتِفَاعِكُمْ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ لِاعْتِبَارِكُمْ. وَقِيلَ: لِلتَّمْلِيكِ وَالْإِبَاحَةِ، فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ خَاصًّا، وَهُوَ تَمْلِيكُ مَا يَنْتَفِعُ الْخَلْقُ بِهِ وَتَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: لِلِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّمْلِيكِ، وَالْأَحْسَنُ حَمْلُهَا عَلَى السَّبَبِ فَيَكُونُ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ لِأَنَّهُ بِمَا فِي الْأَرْضِ يَحْصُلُ الِانْتِفَاعُ الدِّينِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ. فَالدِّينِيُّ: النَّظَرُ فِيهِ وَفِيمَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الصُّنْعِ وَلَطَائِفِ الْخَلْقِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ الصَّانِعِ وَحِكْمَتِهِ وَمِنَ التَّذْكِيرِ بِالْآخِرَةِ وَالْجَزَاءِ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيُّ: فَظَاهِرٌ، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَنْكَحِ وَالْمَرْكَبِ وَالْمَنَاظِرِ الْبَهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: خَلَقَ لَكُمْ، مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا، وَإِذَا احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِغَيْرِ التَّمْلِيكِ وَالْإِبَاحَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْحَظْرِ، فَلَا يُقْدَمُ
215
عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِإِذْنٍ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الوقف لنا تَعَارَضَ عِنْدَهُمْ دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ، وَدَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْحَظْرِ قَالُوا بِالْوَقْفِ. وَحَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكٍ عَنِ ابْنِ الصَّائِغِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَخْلُ الْعَقْلُ قَطُّ مِنَ السَّمْعِ، فَلَا نَازِلَةٌ إِلَّا وَفِيهَا سَمْعٌ، أَوْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهِ أَثَرٌ لَهَا حَالٌ تُسْتَصْحَبُ، وَإِذَا جَعَلْنَا اللَّامَ لِلسَّبَبِ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فَعَلَ شَيْئًا لِسَبَبٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَفَعَلَهُ لَسَبَبٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ السَّبَبِ وَانْدَرَجَ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، جَمِيعُ مَا كَانَتِ الْأَرْضُ مُسْتَقَرًّا لَهُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَالْجِبَالِ، وَجَمِيعُ مَا كَانَ بِوَاسِطَةٍ مِنَ الْحِرَفِ وَالْأُمُورِ الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الطِّينِ، قَالَ: لِأَنَّهُ خَلَقَ لَنَا مَا فِي الْأَرْضِ دُونَ نَفْسِ الْأَرْضِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا الِامْتِنَانِ بِجَعْلِ الْأَرْضِ لَنَا فِرَاشًا، وَهُنَا امْتَنَّ بِخَلْقِ مَا فِيهَا لَنَا وَانْتَصَبَ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ لِأَنَّ لَفْظَةَ مَا فِي الْأَرْضِ عَامٌّ، وَمَعْنَى جَمِيعًا الْعُمُومُ. فَهُوَ مُرَادِفٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلَفْظَةِ كُلُّ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا فِي الْأَرْضِ كُلُّهُ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ مَعًا وَجَمِيعًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى مَعَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِقَوْلِهِ: مَا فِي الْأَرْضِ، الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا، فَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، لَكِنَّهُ تَفْسِيرُ مَعْنًى مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً «١»، فَانْتَظَمَ مِنْ هَذَيْنِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا خَلَقَ اللَّهِ ذَلِكَ لَنَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْجِهَاتِ السُّفْلِيَّةَ دُونَ الْغَبْرَاءِ، كَمَا تُذْكَرُ السَّمَاءُ، وَيُرَادُ بِهَا الْجِهَاتُ الْعُلْوِيَّةُ، جَازَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَبْرَاءَ وَمَا فِيهَا وَاقِعَةٌ فِي الْجِهَاتِ السُّفْلِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَنْسُوبِينَ لِلْحَقَائِقِ: خَلَقَ لَكُمْ لِيَعُدَّ نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ، فَتَقْتَضِي الشُّكْرَ مِنْ نَفْسِكَ لِتَطْلُبَ الْمَزِيدَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَهَبَ لَكَ الْكُلَّ وَسَخَّرَهُ لَكَ لِتَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى سِعَةِ جُودِهِ وَتَسْكُنَ إِلَى مَا ضَمِنَهُ لَكَ مِنْ جَزِيلِ الْعَطَاءِ فِي الْمَعَادِ، وَلَا تَسْتَكْثِرَ كَثِيرَ بِرِّهِ عَلَى قَلِيلِ عَمَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدِ ابْتَدَأَكَ بِعَظِيمِ النِّعَمِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَقَبْلَ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: خَلَقَ لَكُمْ لِيَكُونَ الْكَوْنُ كُلُّهُ لَكَ وَتَكُونَ لِلَّهِ فَلَا تَشْتَغِلْ بِمَا لَكَ عَمَّا أَنْتَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ: أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِهَا، فَإِنَّ الْخَلْقَ عَبَدَةُ النِّعَمِ لِاسْتِيلَاءِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ ظَهَرَ لِلْحَضْرَةِ أَسْقَطَ عَنْهُ الْمُنْعِمُ رُؤْيَةَ النِّعَمِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: أَعْلَى مَقَامَاتِ أَهْلِ الْحَقَائِقِ الِانْقِطَاعُ عَنِ العلائق ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ: وَالْعَطْفُ بِثُمَّ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ فِي الزَّمَانِ، وَلَا زَمَانَ إِذْ ذَاكَ، فَقِيلَ: أَشَارَ بِثُمَّ إِلَى التَّفَاوُتِ الْحَاصِلِ بَيْنَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ في القدر، وقيل:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢. [.....]
216
لَمَّا كَانَ بَيْنَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَعْمَالٌ مِنْ جَعْلِ الرَّوَاسِي وَالْبَرَكَةِ فِيهَا وَتَقْدِيرِ الْأَقْوَاتِ عَطَفَ بِثُمَّ، إِذْ بَيْنَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالِاسْتِوَاءِ تَرَاخٍ يَدُلُّ عَلَى ذلك: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «١»، الْآيَةَ. اسْتَوَى أَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى الْفَتْحِ، ونجد على الإمالة.
وقرىء فِي السَّبْعَةِ بِهِمَا، وَفِي الِاسْتِوَاءِ هُنَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَقْبَلَ وَعَمَدَ إِلَى خَلْقِهَا وَقَصَدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِيدَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ خَلْقَ شَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: اسْتَوَى إِلَيْهِ كَالسَّهْمِ الْمُرْسَلِ، إِذَا قَصَدَهُ قَصْدًا مُسْتَوِيًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْوِيَ عَلَى شَيْءٍ، قَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاءُ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَيَّنَ مَا الَّذِي اسْتُعِيرَ مِنْهُ. الثَّانِي: عَلَا وَارْتَفَعَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْدِيدٍ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَا أَمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِلَى بِمَعْنَى عَلَى، أَيِ اسْتَوَى عَلَى السَّمَاءِ، أَيْ تَفَرَّدَ بِمِلْكِهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا كَالْأَرْضِ مِلْكًا لِخَلْقِهِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فلما علونا واستوينا عَلَيْهِمُ تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ
وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِيلَاءِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَعْنَى تَحَوَّلَ أَمْرُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَاسْتَقَرَّ فِيهَا، وَالِاسْتِوَاءُ هُوَ الِاسْتِقْرَارُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ثُمَّ اسْتَوَى أَمْرُهُ إِلَى السَّمَاءِ، أَيِ اسْتَقَرَّ لِأَنَّ أَوَامِرَهُ وَقَضَايَاهُ تَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمَعْنَى اسْتَوَى بِخَلْقِهِ وَاخْتِرَاعِهِ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، ويؤول الْمَعْنَى إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. السَّادِسُ:
أَنَّ الْمَعْنَى كَمُلَ صُنْعُهُ فِيهَا، كَمَا تَقُولُ: اسْتَوَى الْأَمْرُ، وَهَذَا يَنْبُو اللَّفْظُ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.
السَّابِعُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي اسْتَوَى عَائِدٌ عَلَى الدُّخَانِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا يُبْعِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ «٢»، وَاخْتِلَافُ الضَّمَائِرِ وَعَوْدُهُ عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَلَا يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ.
وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا فِرَارٌ عَمَّا تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ مِنْ أَنَّ الله تعالى يستحيل أن يَتَّصِفَ بِالِانْتِقَالِ الْمَعْهُودِ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَحِلَّ فِيهِ حَادِثٌ أَوْ يَحِلَّ هُوَ فِي حَادِثٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَعْنَى التَّسْوِيَةِ: تعديل خلقهن وتقويمه وإحلاؤه مِنَ الْعِوَجِ وَالْفُطُورِ، أَوْ إِتْمَامُ خَلْقِهِنَّ وَتَكْمِيلُهُ مِنْ قولهم: درهم
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٩.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ١١.
217
سَوَاءٌ، أَيْ وَازِنٌ كَامِلٌ تَامٌّ، أَوْ جَعْلُهُنَّ سَوَاءً مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ «١» أَوْ تَسْوِيَةُ سُطُوحِهَا بِالْإِمْلَاسِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَسَوَّاهُنَّ عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ عَلَى أَنَّهَا جَمْعُ سَمَاوَةٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَيَصْدُقُ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمْعِ، وَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ هُنَا الْجَمْعُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالضَّمِيرُ فِي فَسَوَّاهُنَّ ضمير مبهم. وسَبْعَ سَماواتٍ تَفْسِيرُهُ كَقَوْلِهِمْ: رُبَّهُ رَجُلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِهِ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى غَيْرِ مُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ. وَهَذَا الَّذِي يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ: مِنْهُ مَا يُفَسَّرُ بِجُمْلَةٍ، وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ أَوِ الْقِصَّةِ، وَشَرْطُهَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يُصَرَّحَ بِجُزْأَيْهَا، وَمِنْهُ مَا يُفَسَّرُ بِمُفْرِدٍ، أَيْ غَيْرِ جُمْلَةٍ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِنِعْمَ وَبِئْسَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا. وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِرُبَّ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِأَوَّلِ الْمُتَنَازِعَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ خَبَرُهُ مُفَسِّرًا لَهُ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي أبدل منه مفسره في إِثْبَاتِ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ خِلَافٌ، وَذَلِكَ نَحْوَ: ضَرَبْتُهُمْ قَوْمُكَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الضَّمَائِرِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا، إِلَّا أَنْ تَخَيَّلَ فِيهِ أن يكون سبع سموات بَدَلًا مِنْهُ وَمُفَسِّرًا لَهُ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَشْبِيهُ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهُ بِرُبَّهُ رَجُلًا، وَأَنَّهُ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ، لَكِنَّ هَذَا يُضَعَّفُ بِكَوْنِ هَذَا التَّقْدِيرِ يَجْعَلُهُ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِمَا قَبْلَهُ ارْتِبَاطًا كُلِّيًّا، إِذْ يَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَضَمَّنُ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَوَى عَلَى السَّمَاءِ، وَأَنَّهُ سوى سبع سموات عَقِيبَ اسْتِوَائِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ بِإِخْبَارَيْنِ:
أَحَدُهُمَا اسْتِوَاؤُهُ إِلَى السَّمَاءِ والآخر: تسويته سبع سموات.
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الَّذِي اسْتَوَى إِلَيْهِ هُوَ بِعَيْنِهِ المستوي سبع سموات. وَقَدْ أَعْرَبَ بَعْضُهُمْ سَبْعَ سموات بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ إِعْرَابٌ صَحِيحٌ، نَحْوَ: أَخُوكَ مَرَرْتُ بِهِ زَيْدٌ، وَأَجَازُوا فِي سبع سموات أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَسَوَّى منهن سبع سموات، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَإِنَّ سَوَّى لَيْسَ مِنْ بَابِ اخْتَارَ، فَيَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مِنْهُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ يدل على أن السموات كَثِيرَةٌ، فَسَوَّى مِنْهُنَّ سَبْعًا، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، إِذِ المعلوم أن السموات سَبْعٌ. وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِسَوَّى، وَيَكُونُ مَعْنَى سَوَّى: صَيَّرَ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ تَعَدِّي سَوَّى لِوَاحِدٍ هُوَ الْمَعْلُومُ فِي اللُّغَةِ، فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ «٢»، قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ «٣». وَأَمَّا جَعْلُهَا
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٩٨.
(٢) سورة الانفطار: ٨٢/ ٧.
(٣) سورة القيامة: ٧٥/ ٤.
218
بِمَعْنَى صَيَّرَ، فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ. وَأَجَازُوا أَيْضًا النَّصْبَ عَلَى الْحَالِ، فَتَلَخَّصَ فِي نصب سموات أَوْجُهُ الْبَدَلِ بِاعْتِبَارَيْنِ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ، وَمَفْعُولٌ ثَانٍ، وَحَالٌ، وَالْمُخْتَارُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالْحَالُ، وَيَتَرَجَّحُ الْبَدَلُ بِعَدَمِ الِاشْتِقَاقِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَيِّهِمَا خُلِقَ قَبْلُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: السَّمَاءُ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَرْضُ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَكُلٌّ تَعَلَّقَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ خَلْقَ مَا فِي الْأَرْضِ لَنَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَسْوِيَةِ السَّمَاءِ سَبْعًا لَا غَيْرُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ جِرْمَ الْأَرْضِ خُلِقَ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَخُلِقَتِ السَّمَاءُ بَعْدَهَا، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ بَعْدَ خلق السماء، وبهذا يحصل الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ بعضهم: وإنما خلق السموات سَبْعًا، لِأَنَّ السَّبْعَةَ وَالسَبْعِينَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَضَاعِيفِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، كَأَنَّهُ ضُوعِفَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يُبَالِغُوا بِالسَّبْعَةِ وَالسَبْعِينَ مِنَ الْعَدَدِ، لِمَا فِي ذِكْرِهَا مِنْ دَلِيلِ الْمُضَاعَفَةِ. قَالَ تَعَالَى: ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً «١»، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «٢»، وَالسَّبْعَةُ تُذْكَرُ فِي جَلَائِلِ الْأُمُورِ: الأيام سبعة، والسموات سبع، والأرض سَبْعٌ، وَالنُّجُومُ الَّتِي هِيَ أَعْلَامٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا سَبْعَةٌ: زُحَلُ، وَالْمُشْتَرَى، وَعُطَارِدُ، وَالْمِرِّيخُ، وَالزُّهْرَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَالْبِحَارُ سبعة، وأبواب جهنم سبعة. وَتَسْكِينُ الْهَاءِ فِي هُوَ وَهِيَ بَعْدَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَاللَّامِ وَثُمَّ جَائِزٌ، وَقَلَّ بَعْدَ كَافِ الْجَرِّ وَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَنَدُرَ بَعْدَ لَكِنْ، فِي قِرَاءَةِ أَبِي حَمْدُونَ، لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي، وَهُوَ تَشْبِيهٌ بِتَسْكِينِ سَبْعٍ وَكَرْشٍ، شُبِّهَ الْكَلِمَتَانِ بِالْكَلِمَةِ. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
: وَقَرَأَ بِتَسْكِينِ وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَقَالُونُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَوَقَفَ يَعْقُوبُ عَلَى وَهُوَ بِالْهَاءِ نَحْوَ: وَهْوَهْ بِكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: عَلِيمٌ، وَكَانَ الْقِيَاسُ التَّعَدِّي بِاللَّامِ حَالَةَ التَّقْدِيمِ، أَوْ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا حَالَةُ التَّأْخِيرِ فَبِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْثِلَةِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ حَدَثَ فِيهَا بِسَبَبِ الْمُبَالَغَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا لَيْسَ فِي فِعْلِهَا وَلَا فِي اسْمِ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَبْنِيَّ لِلْمُبَالَغَةِ الْمُتَعَدِّيَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِحَرْفِ جَرٍّ تَعَدَّى الْمِثَالُ بِحَرْفِ الْجَرِّ نَحْوَ: زَيْدٌ صَبُورٌ عَلَى الْأَذَى زَهِيدٌ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ صَبَرَ يَتَعَدَّى بِعَلَى، وَزَهَدَ يَتَعَدَّى بِفِي، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا يُفْهِمُ عِلْمًا وَجَهْلًا، أَوْ لَا. إِنْ كَانَ مِمَّا يُفْهِمُ عِلْمًا أَوْ جَهْلًا تَعَدَّى الْمِثَالُ بِالْبَاءِ نَحْوَ: زَيْدٌ عَلِيمٌ بِكَذَا، وَجَهُولٌ بِكَذَا، وَخَبِيرٌ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفْهِمُ عِلْمًا ولا جهلا
(١) سورة الحاقة: ٦٩/ ٣٢.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٨٠.
219
فَيَتَعَدَّى بِاللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «١» وَفِي تَعَدِّيهَا لِمَا بَعْدَهَا بِغَيْرِ الْحَرْفِ وَنَصْبِهَا لَهُ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ، وَإِنَّمَا خَالَفَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ الَّتِي لِلْمُبَالَغَةِ أَفْعَالَهَا الْمُتَعَدِّيَةَ بِنَفْسِهَا، لِأَنَّهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَشْبَهَتْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ حُكْمُهُ هَكَذَا.
قَالَ تَعَالَى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ «٢»، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَعْطَى لِفَارِهَةٍ حُلْوٌ مَرَاتِعُهَا وَقَالَ:
أَكِرُّ وَأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ فَإِنْ جَاءَ بَعْدَهُ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ «٣»، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا أُوِّلَ بِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ.
شَيْءٍ: قَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي مَدْلُولِ شَيْءٍ. فَمَنْ أَطْلَقَهُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ كَانَ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِهِمَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرًا، وَمَنْ خَصَّهُ بِالْمَوْجُودِ فَقَطْ كَانَ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْمَعْدُومِ مُسْتَفَادًا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. عَلِيمٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِعَالِمٍ وَعَلِيمٍ وَعَلَّامٍ، وَهَذَانِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَدْ أَدْخَلَتِ الْعَرَبُ الْهَاءَ لِتَأْكِيدِ الْمُبَالَغَةِ فِي عَلَّامَةٍ، وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِهِ تَعَالَى. وَالْمُبَالَغَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْرِيرِ وُقُوعِ الْوَصْفِ سَوَاءٌ اتَّحَدَ مُتَعَلِّقُهُ أَمْ تَكَثَّرَ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَكْثِيرِ الْمُتَعَلِّقِ لَا تَكْثِيرِ الْوَصْفِ. وَمِنْ هَذَا الثَّانِي الْمُبَالَغَةُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا تَكْثِيرَ فِيهِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ عِلْمُهُ تَعَالَى بِالْجَمِيعِ كُلِّيِّهِ وَجُزْئِيِّهِ دَقِيقِهِ، وَجَلِيلِهِ مَعْدُومِهِ وَمَوْجُودِهِ، وَصَفَ نَفْسَهَ تَعَالَى بِالصِّفَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَنَاسَبَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْوَصْفِ بِمُبَالَغَةِ الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْعِلْمِ الْكَامِلِ التَّامِّ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْعَلِيمُ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَالْعَالِمُ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ مُتَعَدِّيًا مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ نفسه بالعالم، ولم
(١) سورة هود: ١١/ ١٠٧.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٥٤.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ١١٧.
220
يَكُنْ عِلْمُهُ بِتَعَلُّمٍ. وَفِي تَعْمِيمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِالْكُلِّيَّاتِ لَا بِالْجُزْئِيَّاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالُوا: عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى يَتَمَيَّزُ عَلَى عِلْمِ عِبَادِهِ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا يَعْلَمُ بِهِ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ، وَبِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِهَا، وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ حَاسَّةٍ وَلَا فِكْرٍ، وَبِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لِثُبُوتِ امْتِنَاعِ زَوَالِهِ، وَبِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ عِلْمٌ عَنْ عِلْمٍ، وَبِأَنَّ مَعْلُومَاتِهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَفِي قَوْلِهِمْ لَا يَشْغَلُهُ عِلْمٌ عَنْ عِلْمٍ، يُرِيدُونَ، مَعْلُومٌ عَنْ مَعْلُومٍ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَلَا يَشْغَلُهُ تَعَلُّقُ عِلْمِ شَيْءٍ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ.
وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي إِلَى آخِرِ قَوْلِهِ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ:
أَنَّ مَا ضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ فِي كِتَابِهِ: مِنْ مُسْتَوْقِدِ النَّارِ، وَالصَّيِّبِ، وَالذُّبَابِ، وَالْعَنْكَبُوتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، فِيهِ عَجَائِبُ مِنَ الْحِكَمِ الْخَفِيَّةِ، وَالْجَلِيَّةِ، وَبَدَائِعِ الْفَصَاحَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمُوَافَقَةِ الْمَثَلِ لِمَا ضُرِبَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي مثله إلا مثله، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَمَدْحُ مَنْ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، وَذَمُّ مَنْ أَنْكَرَهُ وَعَابَهُ، وَأَنَّ فِي ضَرْبِهِ هُدًى لِمَنْ آمَنَ، وَضَلَالًا لِمَنْ صَدَّ عَنْهُ، وَذَمُّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ وَقَطَعَ مَا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ، وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، وَإِعْلَامُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ خُسْرَانِهِ، وَالْإِعْلَامُ أَنَّ نَاقِضِي عَهْدِهِ هُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِهِمْ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَأَنَّهُ جَامِعُهُمْ وَبَاعِثُهُمْ وَمُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ أَشَدُّ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ. ثُمَّ بَعْدَ التَّخْوِيفِ ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ: مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ الْمُقِلَّةِ، وَالسَّمَاءِ الْمُظِلَّةِ، وَالْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، لِيَجْمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَوْعِظَةُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا ذُو الْعَقْلِ السَّلِيمِ وَالذِّهْنِ الْمُسْتَقِيمِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بالفصل الْأَكْبَرِ مِنْ إِعْلَامِهِمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الابتداء إلى الانتهاء.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
221
إِذْ: اسْمٌ ثُنَائِيُّ الْوَضْعِ مَبْنِيٌّ لِشَبَهِهِ بِالْحَرْفِ وَضْعًا أَوِ افْتِقَارًا، وَهُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ لِلْمَاضِي، وَمَا بَعْدَهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ فِعْلِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَتْ فَعِلْيَةً قَبُحَ تَقْدِيمُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْمُصَدَّرَةِ بِالْمُضَارِعِ، وَعَمَلُ الْمُضَارِعِ فِيهِ مِمَّا يَجْعَلُ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا، وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ إِلَّا أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ زَمَانٌ، وَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، وَلَا حَرْفًا لِلتَّعْلِيلِ أَوِ الْمُفَاجَأَةِ، وَلَا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَلَا زَائِدَةً، خِلَافًا لِزَاعِمِي ذَلِكَ، وَلَهَا أَحْكَامٌ غَيْرُ هَذَا ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ.
الْمَلَكُ: مِيمُهُ أَصْلِيَّةٌ وَهُوَ فَعَلٌ مِنَ الْمَلْكِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَلَا حَذْفَ فِيهِ، وَجُمِعَ عَلَى فَعَائِلَةٍ شُذُوذًا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ مَلَاكٌ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ، وَقَدْ جَمَعُوا فَعَالًا الْمُذَكَّرَ، وَالْمُؤَنَّثَ عَلَى فَعَائِلَ قَلِيلًا. وَقِيلَ وَزْنُهُ فِي الْأَصْلِ فَعْأَلٌ نَحْوَ شَمْأَلٍ ثُمَّ نَقَلُوا الْحَرَكَةَ وَحَذَفُوا، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ مَلْأَكٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَأَ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ زَائِدَةً فِي فَاءِ الْكَلِمَةِ وَعَيْنِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْفَاءُ لَامٌ، وَالْعَيْنُ هَمْزَةٌ، مِنْ لَاكَ إِذَا أَرْسَلَ، وَهِيَ لُغَةٌ مَحْكِيَّةٌ، فَمَلَكٌ أَصْلُهُ مَلْأَكٌ، فَخُفِّفَ بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ وَالْحَذْفِ إِلَى فَعَلٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَسْتَ لَإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
فَجَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْفَتْحِ، وَمَلَائِكَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَفَاعِلَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْفَاءُ هَمْزَةٌ، وَالْعَيْنُ لَامٌ مِنَ الْأَلُوكَةِ، وَهِيَ الرِّسَالَةُ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا أَصُلُهُ مَأْلُكًا، وَيَكُونُ مَلْأَكٌ مَقْلُوبًا، جُعِلَتْ فَاؤُهُ مَكَانَ عَيْنِهِ، وَعَيْنُهُ مَكَانَ فَائِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فِي وَزْنِهِ مَعْلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْفَاءُ لَامٌ، وَالْعَيْنُ وَاوٌ، مِنْ لَاكَ الشَّيْءَ: أَدَارَهُ فِي فِيهِ، وَصَاحِبُ الرِّسَالَةِ يُدِيرُهَا فِي فِيهِ، فَهُوَ مَفَعْلٌ مِنْ ذَلِكَ، نَحْوَ: مَعَاذٌ، ثُمَّ حَذَفُوا الْعَيْنَ تَخْفِيفًا. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ وَزْنُهُ مَعْلًا، وَمَلَائِكَةٌ عَلَى الْقَوْلِ مَفَاعِلَةٌ، وَالْهَمْزَةُ أُبْدِلَتْ مِنْ وَاوٍ كَمَا أُبْدِلَتْ فِي مَصَائِبَ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: الْمَلَكُ لَا تَشْتَقُّ الْعَرَبُ فِعْلَهُ وَلَا تَصْرِفُهُ، وَهُوَ مِمَّا فَاتَ عِلْمُهُ، انْتَهَى. وَالتَّاءُ فِي الْمَلَائِكَةِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَقَدْ وَرَدَ بِغَيْرِ تَاءٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنَا خَالِدٌ صَلَّتْ عَلَيْكَ الْمَلَائِكُ خَلِيفَةً: فَعِيلَةً، وَفَعِيلَةٌ تَأْتِي بِمَعْنَى الْفَاعِلِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَالْعَلِيمِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالنَّطِيحَةِ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ. السَّفْكُ: الصَّبُّ وَالْإِرَاقَةُ، لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الدَّمِ، وَيُقَالُ:
222
سَفَكَ وَسَفَّكَ وَأَسْفَكَ بِمَعْنًى، وَمُضَارِعُ سَفَكَ يَأْتِي عَلَى يَفْعِلُ وَيَفْعُلُ. الدِّمَاءَ: جَمْعُ دَمٍ، وَلَامُهُ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ مَحْذُوفَةٌ لِقَوْلِهِمْ: دَمَيَانِ وَدَمَوَانِ، وَقَصْرُهُ وَتَضْعِيفُهُ مَسْمُوعَانِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَالْمَحْذُوفُ اللَّامُ، قِيلَ: أَصْلُهُ فَعِلَ، وقيل: فعل، التسبح: تَنْزِيهُ اللَّهِ وَتَبْرِئَتُهُ عَنِ السُّوءِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّبْحِ، وَهُوَ الْجَرْيُ. وَالْمُسَبِّحُ جَارٍ فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى، التَّقْدِيسُ: التَّطْهِيرُ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَالْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، وَمِنْهُ الْقَدَسُ:
السَّطْلُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَالْقُدَاسُ: الْجُمَانُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَنَظْمِ قُدَاسٍ سِلْكُهُ مُتَقَطِّعُ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَدَسَ فِي الْأَرْضِ إِذَا ذَهَبَ فِيهَا وَأَبْعَدَ. عَلَّمَ: مَنْقُولٌ مِنْ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ فِي النَّقْلِ، فَعَدُّوا تِلْكَ بِالتَّضْعِيفِ، وَهَذِهِ بِالْهَمْزَةِ، قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الشُّلُوبِينُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّرْحِ. آدَمَ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ كَآزَرَ وَعَابَرَ، مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَفْعَلُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُدْمَةِ، وَهِيَ كَالسُّمْرَةِ، أَوْ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، وَهُوَ وَجْهُهَا، فَغَيْرُ صَوَابٍ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ نَصَّ التَّصْرِيفِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ عِبْرِيٌّ مِنَ الْإِدَامِ، وَهُوَ التُّرَابُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فَاعِلٌ مِنْ أديم الأرض فخطؤه ظاهر لِعَدَمِ صَرْفِهِ، وَأَبْعَدَ الطَّبَرِيُّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ فِعْلٌ رُبَاعِيٌّ سُمِّيَ بِهِ. الْعَرْضُ: إِظْهَارُ الشَّيْءِ حَتَّى تُعْرَفَ جِهَتُهُ. الْإِنْبَاءُ: الْإِخْبَارُ، وَيَتَعَدَّى فِعْلُهُ الْوَاحِدُ بِنَفْسِهِ وَالثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، وَيَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الْحَرْفِ، وَيُضَمَّنُ مَعْنَى أَعْلَمَ فَيَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ. هَؤُلَاءِ: اسْمُ إِشَارَةٍ لِلْقَرِيبِ، وَهَا: لِلتَّنْبِيهِ، وَالِاسْمُ أُولَاءِ: مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَسْرِ، وَقَدْ تُبْدَلُ هَمْزَتُهُ هَاءً فَيُقَالُ:
هلاء، قد يُبْنَى عَلَى الضَّمِّ فَيُقَالُ: أُولَاءُ، وَقَدْ تُشْبَعُ الضَّمَّةُ قَبْلَ اللَّامِ فَيُقَالُ: أُولَاءِ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. وَقَدْ يُقَالُ: هؤلاء بِحَذْفِ أَلِفِ هَا وَهَمْزَةِ أُولَاءِ وَإِقْرَارِ الْوَاوِ الَّتِي بَعْدَ تِلْكَ الْهَمْزَةِ، حَكَاهُ الأستاذ أبو علي الشلوبين، وَأَنْشَدَ قَوْلَهُ:
تَجَلَّدْ لَا تَقُلْ هَوْلَاءِ هَذَا بَكَى لَمَّا بَكَى أَسَفًا عَلَيْكَا
وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ: أَنَّ الْمَدَّ فِي أُولَاءِ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْقَصْرَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَزَادَ غَيْرُهُ أَنَّهَا لُغَةُ بَعْضِ قَيْسٍ وَأَسَدٍ، وَأَنْشَدَ لِلْأَعْشَى:
هؤلاء ثم هؤلاء كُلًّا أَعْطَيْتَ نِعَالًا مَحْذُوَّةً بِنِعَالِ
وَالْهَمْزَةُ عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ لَامُ الْفِعْلِ، فَفَاؤُهُ وَلَامُهُ هَمْزَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ
223
وَقَعَتْ بَعْدَ أَلِفٍ فَقُلِبَتْ هَمْزَةً. سُبْحَانَكَ: مَعْنَاهُ تَنْزِيهُكَ، وَسُبْحَانَ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْتَصِبُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ مَعْنَاهُ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَزِمَتِ النَّصْبَ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَيُضَافُ وَيُفْرَدُ، فَإِذَا أُفْرِدَ كَانَ مُنَوَّنًا، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
سُبْحَانَهُ ثُمَّ سَبْحَانًا نَعُوذُ بِهِ وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجَمَدُ
فَقِيلَ: صَرَفَهُ ضَرُورَةً، وَقِيلَ: لِجَعْلِهِ نَكِرَةً وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أقول لما جاءني فخبره سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ
جَعَلَهُ عَلَمًا فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا أُفْرِدَ كَانَ مَقْطُوعًا عَنِ الْإِضَافَةِ، فَعَادَ إِلَيْهِ التَّنْوِينُ، وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْهُ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْقَوْلُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. الْحَكِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلِ، مِنْ أَحْكَمَ الشَّيْءَ: أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَمَّا يُرِيدُهُ. الْإِبْدَاءُ: الْإِظْهَارُ، وَالْكَتْمُ: الْإِخْفَاءُ.
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: لَمْ يَرِدْ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ شَيْءٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ، وَكَانَ قَبْلَهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَدْءِ خَلْقِهِمْ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِتَشْرِيفِ أَبِيهِمْ وَتَكْرِيمِهِ وَجَعْلِهِ خَلِيفَةً وَإِسْكَانِهِ دَارَ كَرَامَتِهِ، وَإِسْجَادِ الْمَلَائِكَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى مَكَانِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالْعِلْمِ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الذَّاتِ وَتَمَامُ الصِّفَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى الْأَصْلِ إِحْسَانٌ إِلَى الْفَرْعِ، وَشَرَفُ الْفَرْعِ بِشَرَفِ الْأَصْلِ. وَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُونَ فِي إِذْ، فَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إِلَى زِيَادَتِهَا، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ قُتَيْبَةَ ضَعِيفَيْنِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى قَدْ، التَّقْدِيرُ: وَقَدْ قَالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ بِاذْكُرْ، أَيْ وَاذْكُرْ: إِذْ قالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِيهِ إِخْرَاجَهَا عَنْ بَابِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ الظَّرْفِيَّةِ، أَوْ بِإِضَافَةِ ظَرْفِ زَمَانٍ إِلَيْهَا.
وَأَجَازَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَنَاسٌ قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا ظَرْفٌ.
وَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: ابْتِدَاءُ خَلْقِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، التَّقْدِيرُ: وَابْتِدَاءُ خَلْقِكُمْ، إِذْ قَالَ رَبُّكَ. وَنَاسَبَ هَذَا التَّقْدِيرَ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ:
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «١»، وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا تَحْرِيرَ فِيهِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ خَلْقِنَا لَمْ يَكُنْ وقت قول الله لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْعَامِلَ في
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٩.
224
الظَّرْفِ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَمَّا أَنْ يَسْبِقَهُ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ ظَرْفًا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ إِذْ مَنْصُوبٌ يقال بَعْدَهَا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ إِذْ مُضَافَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ نَصْبَهَا بأحياكم، تَقْدِيرُهُ:
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ «١»، إِذْ قالَ رَبُّكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ حَذْفٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَيْسَ وَاقِعًا فِي وقت قول الله للملائكة، وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَإِبْقَاءُ مَعْمُولِ الصِّلَةِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ معمول لخلقكم مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ «٢» إِذْ قالَ رَبُّكَ، فَتَكُونُ الْوَاوُ زَائِدَةً، وَيَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الَّتِي كَادَتْ أَنْ تَكُونَ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ، لِاسْتِبْدَادِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا بِمَا سِيقَتْ لَهُ، وَعَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِمَا قَبْلَهَا التَّعَلُّقَ الْإِعْرَابِيَّ.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهَا. وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ نَصْبُهُ بِقَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ، أَيْ وَقْتَ قَوْلِ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَتَجْعَلُ، كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: إِذْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، أَيْ وَقْتَ مَجِيئِكَ أَكْرَمْتُكَ، وَإِذْ قُلْتَ لِي كَذَا قُلْتُ لَكَ كَذَا. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْوَجْهِ السَّهْلِ الْوَاضِحِ، وَكَيْفَ لَمْ يُوَفَّقْ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَارْتَبَكُوا فِي دَهْيَاءَ وَخَبَطُوا خَبْطَ عَشْوَاءَ. وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى الرَّبِّ فِي غَايَةٍ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالْبَيَانِ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ، كَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لِأَحْوَالِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الرَّبِّ وَإِضَافَتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهِ وَاخْتِصَاصِهِ بِخِطَابِهِ، وَهَزٌّ لِاسْتِمَاعِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَرِيبِ افْتِتَاحِ هَذَا الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ، وَابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَمَآلِهِ. وَهَذَا تَنْوِيعٌ فِي الْخِطَابِ، وَخُرُوجٌ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ إِلَى الْخِطَابِ الْخَاصِّ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُقْبَلَ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ لَهُ الْحَظُّ الْأَعْظَمُ وَالْقِسْمُ الْأَوْفَرُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا، إِذْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْظَمُ خُلَفَائِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ وَدُعَائِهِ وَجَعْلِ أَفْضَلِ أَنْبِيَائِهِ أَمَّ بِهِمْ لَيْلَةَ إِسْرَائِهِ، وَجَعَلَ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ لِوَائِهِ، فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ وَفِي دَارَيْ تَكْلِيفِهِ وَجَزَائِهِ. وَاللَّامُ فِي لِلْمَلَائِكَةِ: لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا اللَّامُ، فَظَاهِرُ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ الْعُمُومُ. وَقَالَ بِذَلِكَ قَوْمٌ، وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ عَامٌّ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ الْجَانِّ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُحَارِبُونَ مَعَ إِبْلِيسَ. وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ إِنِّي جَاعِلٌ، وَكَانَ ذَلِكَ مُصَدَّرًا بأن، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْمُخْبَرِ بِهَا، وَأَنَّ هَذَا واقع لا محالة وإن تُكْسَرُ بَعْدَ الْقَوْلِ، وَلِفَتْحِهَا بعده عند
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٦٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢١.
225
أَكْثَرِ الْعَرَبِ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَبَنُو سُلَيْمٍ يَفْتَحُونَهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ:
إِذَا قلت إني آئب أَهْلَ بَلْدَةٍ نَزَعْتُ بِهَا عَنْهَا الْوَلِيَّةَ بِالْهَجْرِ
جَاعِلٌ: اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَيَجُوزُ إِضَافَتُهُ لِلْمَفْعُولِ إِلَّا إِذَا فُصِلَ بَيْنَهُمَا كَهَذَا، فَلَا يَجُوزُ، وَإِذَا جَازَ إِعْمَالُهُ، فَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْإِضَافَةِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُ: هُمَا سَوَاءٌ، وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ الْإِضَافَةَ أَحْسَنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ اخْتِيَارِنَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَا كَتَبْنَاهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي الْجَعْلِ هُنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَالثَّانِي هُوَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: مُصَيِّرٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ سَائِغٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أَجْوَدُ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها؟
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَلَوْ كَانَ الْجَعْلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَعْنَى التَّصْيِيرِ لَذَكَرَهُ ثَانِيًا، فَكَانَ: أَتَجْعَلُ فِيهَا خَلِيفَةً مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا؟ وَإِذَا لَمْ يَأْتِ كَذَلِكَ، كَانَ مَعْنَى الْخَلْقِ أَرْجَحَ. وَلَا احْتِيَاجَ إِلَى تَقْدِيرِ خَلِيفَةً لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِضْمَارٌ، وَكَلَامٌ بِغَيْرِ إِضْمَارٍ أَحْسَنُ مِنْ كَلَامٍ بِإِضْمَارٍ، وَجُعِلَ الْخَبَرُ اسْمَ فَاعِلٍ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ دُونَ التَّجَدُّدِ شَيْئًا شَيْئًا.
وَالْجَعْلُ: سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ أَوِ التَّصْيِيرِ، وَكَانَ آدَمُ هُوَ الْخَلِيفَةَ عَلَى أَحْسَنِ الْفُهُومِ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَا تَكَرُّرَ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَخْلُقْهُ أَوْ لَمْ يُصَيِّرْهُ خَلِيفَةً إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ: ظَاهِرُهُ الْأَرْضُ كُلُّهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: أَرْضُ مَكَّةَ.
وَرَوَى ابْنُ سَابِطٍ هَذَا التَّفْسِيرَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مَكَّةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ، قِيلَ: وَلِذَلِكَ سُمِّيَ وَسَطُهَا بَكَّةَ، لِأَنَّ الْأَرْضَ بُكَّتْ من تحتها، واختصت بلا ذكر لِأَنَّهَا مَقَرُّ مَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَدُفِنَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ بَيْنَ الْمَقَامِ وَالرُّكْنِ، وَتَكُونُ الألف واللام فيها للعهد نَحْوَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ «١»، وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ «٢» اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «٣»، وقال الشاعر:
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٨٠. [.....]
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٢١.
(٣) سورة القصص: ٢٨/ ٥.
226
يَقُولُونَ لِي أَرْضُ الْحِجَازِ حديثة فَقُلْتُ وَمَا لِي فِي سِوَى الْأَرْضِ مَطْلَبُ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خَلِيفَةً، بِالْفَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَالِفِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَخْلُوفِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَانَ مَعْنَاهُ: الْقَائِمُ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي جُعِلَ إِلَيْهِ. وَالْخَلِيفَةُ، قِيلَ: هُوَ آدَمُ لِأَنَّهُ خَلِيفَةٌ عَنِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ عَنِ الْجِنِّ بَنِي الْجَانِّ، أَوْ عَنْ إِبْلِيسَ فِي مُلْكِ الْأَرْضِ، أَوْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وابن عباس. وَالْأَنْبِيَاءُ هُمْ خَلَائِفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَاقْتُصِرَ عَلَى آدَمَ لِأَنَّهُ أَبُو الْخَلَائِفِ، كَمَا اقْتُصِرَ عَلَى مُضَرٍ وَتَمِيمٍ وَقَيْسٍ، وَالْمُرَادُ الْقَبِيلَةُ. وَقِيلَ: وَلَدُ آدَمَ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: إِذَا هَلَكَتْ أُمَّةٌ خَلَفَتْهَا أُخْرَى، قَالَهُ الْحَسَنُ، فَيَكُونُ مُفْرَدًا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، كَمَا جَاءَ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ «١» لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ «٢». وَقِيلَ: الْخَلِيفَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ تَدْبِيرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمْ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ الرُّومَ: قَيْصَرٌ، وَالْفُرْسَ: كِسْرَى، وَالْيَمَنَ: تُبَّعٌ. وَفِي الْمُسْتَخْلَفِ فِيهِ آدَمُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْحُكْمُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ. الثَّانِي: عِمَارَةُ الْأَرْضِ، يَزْرَعُ وَيَحْصُدُ وَيَبْنِي وَيُجْرِي الْأَنْهَارَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو البرهسم عِمْرَانُ: خَلِيقَةً، بِالْقَافِ وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ.
وَخِطَابُ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِقَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً إِنْ كَانَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَارَبُوا مَعَ إِبْلِيسَ الْجِنَّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَامَّا بِأَنَّهُ رَافِعُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ وَمُسْتَخْلَفٌ فِي الْأَرْضِ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ. وَرُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَ الْمَلَائِكَةَ السَّمَاءَ، وَالْجِنَّ الْأَرْضَ، فَعَبَدُوا دَهْرًا طَوِيلًا ثُمَّ أَفْسَدُوا وَحَسَدُوا، فَاقْتَتَلُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ رَأَسَهُمْ إِبْلِيسُ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ، فَهَبَطُوا الْأَرْضَ وَطَرَدُوا الْجِنَّ إِلَى شَعَفِ الْجِبَالِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَجَزَائِرِ الْبُحُورِ وَسَكَنُوهَا، وَخَفَّفَ عَنْهُمُ الْعِبَادَةَ، وَأَعْطَى اللَّهُ إِبْلِيسَ مُلْكَ الْأَرْضِ وَمُلْكَ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَخِزَانَةَ الْجَنَّةِ، فَكَانَ يَعْبُدُ تَارَةً فِي الْأَرْضِ وَتَارَةً فِي الْجَنَّةِ، فَدَخَلَهُ الْعُجْبُ وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا إِلَّا أَنِّي أَكْرَمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِجُنُودِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً بَدَلًا مِنْكُمْ وَرَافِعُكُمْ إِلَيَّ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْوَنَ الْمَلَائِكَةِ عِبَادَةً، وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ الْآيَةَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَلَائِكَةُ، جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ. فَسَبَبُ الْقَوْلِ: إِرَادَةُ اللَّهِ أَنْ يُطْلِعَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى مَا فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مِنَ الْكِبْرِ وَأَنْ يُظْهِرَ مَا سَبَقَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِهِ.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٥.
(٢) سورة النور: ٢٤/ ٥٥.
227
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَشْيَاخِهِ: وَأَنْ يَبْلُوَ طَاعَةَ الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ عَجْزَهُمْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِعِلْمِهِ، أَوْ أَنْ يُعَظِّمَ آدَمَ بِذِكْرِ الْخِلَافَةِ قَبْلَ وُجُودِهِ، لِيَكُونُوا مُطْمَئِنِّينَ لَهُ إذا وجدوا، أَوْ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِخَلْقِهِ لِيَسْكُنَ الْأَرْضَ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنْ يُعَلِّمَنَا أَنْ نُشَاوِرَ ذَوِي الْأَحْلَامِ مِنَّا وَأَرْبَابَ الْمَعْرِفَةِ إِذِ اسْتَشَارَ الْمَلَائِكَةَ اعْتِبَارًا لَهُمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، أَوْ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْخِطَابَ بِمَا ذُكِرَ فَيَحْصُلُ مِنْهُمُ الِاعْتِرَافُ وَالرُّجُوعُ عَمَّا كَانُوا يَظُنُّونَ مِنْ كَمَالِ الْعِلْمِ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ عُلُوَّ قَدْرِ آدَمَ فِي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ لِآدَمَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، أَوْ أَنْ يُعَلِّمَنَا الْأَدَبَ مَعَهُ وَامْتِثَالَ الْأَمْرِ، عَقَلْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْقِلْهُ، لِتَحْصُلَ بِذَلِكَ الطَّاعَةُ الْمَحْضَةُ أَوْ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُ الْمَلَائِكَةِ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ فَخَافَتْ وَسَأَلَتْ: لِمَنْ خَلَقْتَ هَذَا؟ قَالَ: لِمَنْ عَصَانِي. إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا وُجُودَ خَلْقٍ سِوَاهُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً: سَابِقُ الْعِنَايَةِ، لَا يُؤَثِّرْ فِيهِ حُدُوثُ الْجِنَايَةِ، وَلَا يَحُطُّ عَنْ رُتْبَةِ الْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّبَ آدَمَ خَلِيفَةً عَنْهُ فِي أَرْضِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَا يَحْدُثُ عنه مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُ الْإِخْرَاجَ مِنْ دَارِ الْكَرَامَةِ وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْأَكْدَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْلُبْهُ مَا أَلْبَسَهُ مِنْ خُلَعِ كَرَامَتِهِ، وَلَا حَطَّهُ عَنْ رُتْبَةِ خِلَافَتِهِ، بَلْ أَجْزَلَ لَهُ فِي الْعَطِيَّةِ فَقَالَ: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى «١»، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ
كَانَ عُمَرُ يَنْقُلُ الطَّعَامَ إِلَى الْأَصْنَامِ وَاللَّهُ يُحِبُّهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَتَظُنُّنِي مِنْ زَلَّةٍ أَتَعَتَّبُ قَلْبِي عَلَيْكَ أَرَقُّ مِمَّا تَحْسَبُ
وَيُقَالُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ مَا خَلَقَ وَلَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا قَالَ فِي حَدِيثِ آدَمَ، حَيْثُ قَالَ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَظَاهِرُ هَذَا الْخِطَابِ تَنْبِيهٌ لِشَرَفِ خَلْقِ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا، وَالْعَرْشِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ انْتِظَامِ الْأَجْزَاءِ وَكَمَالِ الصُّورَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي خَالِقٌ عَرْشًا أَوْ جَنَّةً أَوْ مُلْكًا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا لِآدَمَ. قَالُوا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي الْعَامِلِ إِذْ هُوَ، قَالُوا: وَمَعْمُولُهُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أَتَجْعَلُ؟ وَلَمَّا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ لَا تَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا تَسْبِقُ بِالْقَوْلِ، لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها الْآيَةَ، إِلَّا عَنْ نَبَأٍ وَمُقَدَّمَةٍ، فَقِيلَ:
الْهَمْزَةُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا لِلِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ قَدْ صَحِبَهُ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، قَالَهُ مَكِّيٌّ وغيره، كأنهم
(١) سورة طه: ٢٠/ ١٢٢.
228
تَعَجَّبُوا مِنَ اسْتِخْلَافِ اللَّهِ مَنْ يَعْصِيهِ أَوْ مَنْ يعصيان مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ فِي أَرْضِهِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعْظَامِ، وَالْإِكْبَارِ لِلِاسْتِخْلَافِ وَالْعِصْيَانِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ قَدْ سَبَقَ، إِمَّا بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ بِمُشَاهَدَةٍ فِي اللَّوْحِ، أو يكون ومخلوق غَيْرُهُمْ وَهُمْ مَعْصُومُونَ، أَوْ قَالُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى مَنْ سَكَنَ الْأَرْضَ فَأَفْسَدَ قَبْلَ سُكْنَى الْمَلَائِكَةِ، أَوِ اسْتَنْبَطُوا ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ خَلِيفَةً، إِذِ الْخَلِيفَةُ مَنْ يَكُونُ نَائِبًا فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ التَّظَالُمِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَحْضٌ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَقَدَّرَهُ: أَتَجْعَلُ هَذَا الْخَلِيفَةَ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْجِنِّ أَمْ لَا؟ وَفَسَّرَهُ أَبُو الْفَضْلِ التجلي: أَيْ أَمْ تَجْعَلُ مَنْ لَا يُفْسِدُ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُمَا، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أَمْ تتغير؟ فَعَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ لَا مُعَادِلَ لِلِاسْتِفْهَامِ، لِأَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ مَذْهَبَ التَّعَجُّبِ أَوْ الِاسْتِعْظَامِ أَوِ التَّقْرِيرِ. وَعَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ يَكُونُ الْمُعَادِلُ مَفْعُولَ أَتَجْعَلُ، وَهُوَ مَنْ يُفْسِدُ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الْخَامِسِ تَكُونُ الْمُعَادَلَةُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ قوله، ونحن نسبح بحمدك. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَسْفِكُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَرَفْعِ الْكَافِ. وَقَرَأَ أبو حياة وابن أبي عبلة:
بصم الفاء. وقرىء: وَيَسْفِكُ مِنْ أَسْفَكُ وَيُسَفِّكُ مَنْ سَفَّكَ مُشَدَّدُ الْفَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ:
وَيَسْفِكُ بِنَصْبِ الْكَافِ، فَمَنْ رَفَعَ الْكَافَ عَطَفَ عَلَى يُفْسِدُ، وَمَنْ نَصَبَ فَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ:
هُوَ نَصْبٌ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُوبَ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ الْوَاوِ بِإِضْمَارِ أَنْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ تُقَدَّرُ الْوَاوُ بِمَعْنَى مَعَ، فَإِذَا قُلْتَ: أَتَأْتِينَا وَتُحَدِّثَنَا وَنَصَبْتَ، كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتُحَدِّثَنَا، أَيْ وَيَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ مَعَ حَدِيثٍ، وكذلك قوله:
أبيت رَيَّانَ الْجُفُونِ مِنَ الْكَرَى وَأَبِيتُ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ
مَعْنَاهُ: أَيَكُونُ مِنْكَ مَبِيتٌ رَيَّانٌ مَعَ مَبِيتِي مِنْكَ بِكَذَا، وَكَذَلِكَ هَذَا يَكُونُ مِنْكَ جَعْلُ مُفْسِدٍ مَعَ سَفْكِ الدِّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: النَّصْبُ بِوَاوِ الصَّرْفِ قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ مَنْ يَجْمَعُ أَنْ يُفْسِدَ وَأَنْ يَسْفِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالنَّصْبُ بِوَاوِ الصَّرْفِ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَمَعْنَى وَاوِ الصَّرْفِ: أَنَّ الْفِعْلَ كَانَ يَسْتَحِقُّ وَجْهًا مِنَ الْإِعْرَابِ غَيْرَ النَّصْبِ فَيُصْرَفُ بِدُخُولِ الْوَاوِ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَابِ إِلَى النَّصْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
229
يُجادِلُونَ
«١»، فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، وَكَذَلِكَ: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «٢». فَقِيَاسُ الْأَوَّلِ الرَّفْعُ، وَقِيَاسُ الثَّانِي الْجَزْمُ، فَصَرَفَتِ الْوَاوُ الْفِعْلَ إِلَى النَّصْبِ، فَسُمِّيَتْ وَاوَ الصَّرْفِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْوَاوِ. وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ أَوَّلًا وَثَنَّى بِقَوْلِ الَمَهْدَوِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ. وَكَيْفَ يَكُونُ أَحْسَنَ وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَقُولُ بِهِ الْبَصْرِيُّونَ وَفَسَادُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ؟ وَلَمَّا كَانَتِ الصِّلَةُ يُفْسِدُ، وَهُوَ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْفَسَادِ. نَصُّوا عَلَى أَعْظَمِ الْفَسَادِ، وَهُوَ سَفْكُ الدِّمَاءِ، لِأَنَّهُ بِهِ تَلَاشِي الْهَيَاكِلِ الْجُسْمَانِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ، وَلَوْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهِ لَجَازَ أَنْ لَا يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ: يُفْسِدُ، وَكَرَّرَ فِيهَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْعِبَادَةِ وَطَاعَةِ اللَّهِ كَيْفَ يَصِيرُ مَحَلًّا لِلْفَسَادِ؟ كَمَا مَرَّ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «٣» وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَكْرِيرِ فِيهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَسْفِكُ، اكْتِفَاءً بِمَا سَبَقَ وَتَنَكُّبًا أَنْ يكرروا فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ نَقَدُوا عَلَى أَبِي الطِّيبِ قَوْلَهُ:
وَنَهْبُ نُفُوسِ أَهْلِ النَّهْبِ أَوْلَى بِأَهْلِ النَّهْبِ مِنْ نَهْبِ الْقُمَاشِ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالتَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ: أَوْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ: وَالْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوِ الصَّلَاةُ، أَيْ نُصَلِّي لَكَ، مِنَ الْمُسَبِّحِينَ: أَيْ مِنَ الْمُصَلِّينَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ التَّعْظِيمُ، أَيْ وَنَحْنُ نُعَظِّمُكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ تَسْبِيحٌ خَاصٌّ، وَهُوَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ ذِي الْعَظَمَةِ وَالْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. وَيُعْرَفُ هَذَا بِتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ بِقَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ.
وَفِي حَدِيثٍ
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ قَالَ: «مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ سُبْحَانَ اللَّهُ وَبِحَمْدِهِ».
بِحَمْدِكَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْحَالِ، أَيْ نُسَبِّحُ مُلْتَبِسِينَ بِحَمْدِكَ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ بِثِيَابِهِ، وَهِيَ حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ لِأَنَّهَا حَالٌ فِي حَالٍ. وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ حَمْدِكَ، وَالْحَمْدُ هُوَ الثَّنَاءُ، وَالثَّنَاءُ نَاشِيءٌ عَنِ التَّوْفِيقِ لِلْخَيْرِ وَالْإِنْعَامِ عَلَى الْمُثَنَّى، فَنَزَلَ النَّاشِئُ عَنِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ فَقَالَ: وَنَحْنُ نَسْبَحُ بِحَمْدِكَ، أَيْ بِتَوْفِيقِكَ وَإِنْعَامِكَ، والحمد مصدر مضاف
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٣٥.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٤٢.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١١.
230
إِلَى الْمَفْعُولِ نَحْوَ قَوْلِهِ: مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ، أَيْ بِحَمْدِنَا إِيَّاكَ. وَالْفَاعِلُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَحْذُوفٌ فِي بَابِ الْمَصْدَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يحذف وليس ممنوع فِي الْمَصْدَرِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ لَا يُضْمَرُ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَا يُضْمَرُ إِلَّا فِيمَا جَرَى مَجْرَى الْفِعْلِ، إِذِ الْإِضْمَارُ أَصِلٌ فِي الْفِعْلِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَنَحْنُ نَسْبَحُ وَنُقَدِّسُ لَكَ بِحَمْدِكَ، فَاعْتُرِضَ بِحَمْدِكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ مِمَّا يُخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِحَمْدِكَ بَعْدَ نُسَبِّحُ لِاخْتِلَاطِ التَّسْبِيحِ بِالْحَمْدِ. وَجَاءَ قَوْلُهُ بَعْدَ:
وَنُقَدِّسُ لَكَ كَالتَّوْكِيدِ، لِأَنَّ التَّقْدِيسَ هُوَ: التَّطْهِيرُ، وَالتَّسْبِيحُ هُوَ: التَّنْزِيهُ وَالتَّبْرِئَةُ مِنَ السُّوءِ، فَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى. وَمَعْنَى التَّقْدِيسِ كَمَا ذَكَرْنَا التَّطْهِيرُ، وَمَفْعُولُهُ أَنْفُسَنَا لَكَ مِنَ الْأَدْنَاسِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ، أَوْ أَفْعَالَنَا مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ، أَوِ الْمَعْنَى:
نُكَبِّرُكَ وَنُعَظِّمُكَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ، أَوْ نُصَلِّي لَكَ، أَوْ نَتَطَهَّرُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ يَعْنُونَ بَنِي آدَمَ. حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ نُطَهِّرُ قُلُوبَنَا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِكَ، واللام في لك قيل زَائِدَةٌ، أَيْ نُقَدِّسُكَ. وَقِيلَ: لَامُ الْعِلَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِنُقَدِّسُ، قِيلَ: أَوْ بَنُسَبِّحُ وَقِيلَ: معدية للفعل، كهي في سَجَدْتُ لِلَّهِ، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلْبَيَانِ كَاللَّامِ بَعْدَ سَقْيًا لَكَ، فَتَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، أَيْ تَقْدِيسُنَا لَكَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مُعْدِيَةً لِلْفِعْلِ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ «١»، وسَبَّحَ لِلَّهِ»
. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ، أَوْ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أَمْ نَتَغَيَّرُ، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَيَحْذِفُ مُعَادِلَ الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ دُخُولُ الْهَمْزَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَمْ نَتَغَيَّرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ:
لَعَمْرِكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
يُرِيدُ: أَبِسَبْعٍ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَلَّقَ قَبْلَ بِسَبْعٍ وَالْجُزْءَ الْمُعَادِلَ بَعْدَهُ يَدُلَّانِ عَلَى حَذْفِ الْهَمْزَةِ. وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، مِمَّا لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجَاوِبُوا بِهِ اللَّهَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَكَانَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ عِصْمَةُ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالِاعْتِرَاضِ، لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْحَشَوِيَّةِ. وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُتَكَلَّمُ
(١) سورة الجمعة: ٦٢/ ١، وسورة التغابن: ٦٤/ ١.
(٢) سورة الحديد: ٥٧/ ١، وسورة الحشر ٥٩/ ١، وسورة الصف: ٦١/ ١.
231
عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَدَلَائِلُهَا مَبْسُوطَةٌ هُنَاكَ، احْتَاجَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِلَى إِخْرَاجِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَنْ ظَاهِرِهَا وَحَمَلَهَا كُلُّ قَائِلٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَى مَا سَبَّحَ لَهُ، وَقَوِيَ عِنْدَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ سَائِغٌ فِي عِلْمِ اللِّسَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ: الْمَلَائِكَةُ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَهُمْ فِي مَقَامِ الْمَشُورَةِ بِأَنَّ لَهُمْ وَجْهَ الْمُصْلِحَةِ فِي بَقَاءِ الْخِلَافَةِ فِيمَنْ يُسَبِّحُ وَيُقَدِّسُ، وَأَنْ لَا يَنْقُلَهَا إِلَى مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ، فَعَرَضُوا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ النُّصْحِ فِي الِاسْتِشَارَةِ، وَالنُّصْحُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَشَارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْحَكَمُ فِيمَا يَمْضِي مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ.
وَمِنْ أَنْدَرِ مَا وَقَعَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ (كِتَابِ فَكِّ الْأَزْرَارِ)، وَهُوَ الشَّيْخُ صِفِيُّ الدِّينَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحسين ابن الْوَزِيرِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْمَنْصُورِ الْخَزْرَجِيُّ، قال: في ذلك الكتاب ظَاهِرِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ يُشْعَرُ بِنَوْعٍ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، وَهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْبَيَانُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا حِينَ وُرُودِ الْخِطَابِ عَلَيْهِمْ مُجْمَلِينَ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مُنْدَرِجًا فِي جُمْلَتِهِمْ، فَوَرَدَ مِنْهُمُ الْجَوَابُ مُجْمَلًا. فَلَمَّا انْفَصَلَ إِبْلِيسُ عَنْ جُمْلَتِهِمْ بِإِبَائِهِ وَظُهُورِ إِبْلِيسِيَّتِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ، انْفَصَلَ الْجَوَابُ إِلَى نَوْعَيْنِ: فَنَوْعُ الِاعْتِرَاضِ مِنْهُ كَانَ عَنْ إِبْلِيسَ، وَأَنْوَاعُ الطَّاعَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ كَانَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ. فَانْقَسَمَ الْجَوَابُ إِلَى قِسْمَيْنِ، كَانْقِسَامِ الْجِنْسِ إِلَى جِنْسَيْنِ، وَنَاسَبَ كُلُّ جَوَابٍ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، وَصَارَ شَبِيهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا «١»، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ كُلُّهَا مَقُولَةٌ، وَالْقَائِلُ نَوْعَانِ، فَرُدَّ كُلُّ قَوْلٍ لِمَنْ نَاسَبَهُ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ التَّمَدُّحِ إِلَى مَنْ لَهُ الْحُكْمُ فِي التَّوْلِيَةِ مِمَّنْ يَقْصِدُ الْوِلَايَةَ، إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْجَوْرَ وَالْحَيْفَ، وَرَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً.
وَلِذَلِكَ جَازَ لِيُوسُفَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، طَلَبَهُ الْوِلَايَةَ، وَمَدَحَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهَا فَقَالَ:
اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ «٢»، قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ، مُضَارِعُ عَلِمَ وَمَا مَفْعُولَةٌ بِهَا مَوْصُولَةٌ، قِيلَ: أَوْ نكرة موصوفة، وقد تقدم: أَنَا لَا نَخْتَارُ، كَوْنَهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَأَجَازَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنْ تَكُونَ أَعْلَمُ هُنَا اسْمًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ فِي مَا أَنْ تَكُونَ مَجْرُورَةً بِالْإِضَافَةِ، وَأَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يَنْصَرِفُ، وأجاز بعضهم أن تكون أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ:
أَعْلَمُ مِنْكُمْ، وَمَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَعْلَمُ، أَيْ عَلِمْتُ، وَأَعْلَمُ مَا لا تعلمون.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٥.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٥٥.
232
وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَادِّعَاءُ حَذْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَذْفُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْكُمْ. وَالثَّانِي: الْفِعْلُ النَّاصِبُ لِلْمَوْصُولِ، وَأَمَّا مَا أَجَازَهُ مَكِّيُّ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ غَيْرِ صَحِيحَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ادِّعَاءُ أَنَّ أَفْعَلَ تَأْتِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَهَذَا قَالَ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَخَالَفَهُ النَّحْوِيُّونَ وَرَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ، وَقَالُوا: لا يخلو أَفْعَلُ مِنَ التَّفْضِيلِ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يَخْلُو مِنَ التَّفْضِيلِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ جَوَازَ مَسْأَلَةِ يُوسُفُ أَفْضَلُ إِخْوَتِهِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ فِي جَوَازِ اقْتِيَاسِهِ خِلَافًا، تَسْلِيمًا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ مَسْمُوعٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فَقَالَ: وَاسْتِعْمَالُهُ عَارِيًا دُونَ مِنْ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التفضيل، مؤولا بَاسِمِ فَاعِلٍ أَوْ صِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ، مُطَّرِدٌ عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَالْأَصَحُّ قَصْرُهُ عَلَى السَّمَاعِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا سُلِّمَ وُجُودُ أَفْعَلِ عَارِيًا مِنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ، فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ أَمْ لَا وَالْقَائِلُونَ بِوُجُودِ ذَلِكَ لَا يَقُولُونَ بِإِعْمَالِهِ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَّا بَعْضُهُمْ، فَأَجَازَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ كَوْنِ أَفْعَلَ لَا يَخْلُو مِنَ التَّفْضِيلِ، وَلَا مُبَالَاةَ بِخِلَافِ أَبِي عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ كَانَ يُضَعِّفُ فِي النَّحْوِ، وَلَا بِخِلَافِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ بِمَا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، ولو سلمنا إسماع ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَا نُسَلِّمُ اقْتِيَاسَهُ، لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي أُورِدَتْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْقِلَّةِ، مَعَ أَنَّهَا قَدْ تؤولت. ولو سلمنا اقتباس ذَلِكَ، فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ يَعْمَلُ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ. وَكَيْفَ نُثْبِتُ قَانُونًا كُلِّيًّا وَلَمْ نَسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ شَيْئًا مِنْ أَفْرَادِ تَرْكِيبَاتِهِ لَا يُحْفَظُ: هَذَا رَجُلٌ أَضْرَبُ عُمَرًا، بِمَعْنَى ضَارِبٌ عُمَرًا، وَلَا هَذِهِ امْرَأَةٌ أَقْتَلُ خَالِدًا، بِمَعْنَى قَاتِلَةٌ خَالِدًا، وَلَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَكْسَى زَيْدًا جُبَّةً، بِمَعْنَى: كَاسٍ زَيْدًا جُبَّةً. وَهَلْ هَذَا إِلَّا إِحْدَاثُ تَرَاكِيبَ لَمْ تَنْطِقِ الْعَرَبُ بِشَيْءٍ مِنْ نَظِيرِهَا؟ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَكَيْفَ يَعْدِلُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَنِ الشَّيْءِ الظَّاهِرِ الْوَاضِحِ مَنْ كَوْنِ أَعْلَمُ فِعْلًا مُضَارِعًا إِلَى هَذَا الَّذِي هُوَ؟ كَمَا رَأَيْتَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنَّمَا طَوَّلْتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ سَيَأْتِي بَيَانُهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَجَنَّبَ ذَلِكَ. وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ أَفْعَلَ عَارِيَةً مِنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مَشْهُورٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَنَبَّهْتُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ، وَالْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةُ الدلائل. تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: مَا لَا تَعْلَمُونَ الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنُ الْعِلْمِ دُونَهُمْ عِلْمُهُ مَا فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ مَعَ الْبَغْيِ وَالْمَعْصِيَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَوْ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَةِ أَنْبِيَاءٌ وَصَالِحُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوْ عِلْمُهُ بِمَنْ يَمْلَأُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ عِلْمُهُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَيَبْتَلِي مَنْ تَظُنُّونَ أَنَّهُ مُطِيعٌ فَيُؤَدِّيِهِ الِابْتِلَاءُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ،
233
وَمَنْ تَظُنُّونَ أَنَّهُ عَاصٍ فَيُؤَدِّيِهِ الِابْتِلَاءُ إِلَى الطَّاعَةِ فَيُطِيعُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلْمُهُ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَبَاطِنُهَا، جَلِيُّهَا وَدَقِيقُهَا، عَاجِلُهَا وَآجِلُهَا، صَالِحُهَا وَفَاسِدُهَا، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ عِلْمًا حَقِيقِيًّا، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، أَوْ عِلْمُهُ بِغَيْرِ اكْتِسَابٍ وَلَا نَظَرَ وَلَا تَدَبُّرَ وَلَا فِكْرَ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى هَذَا النَّسَقِ. أَوْ عِلْمُهُ بِأَنَّ مَعَهُمْ إِبْلِيسَ، أَوْ عِلْمُهُ بِاسْتِعْظَامِكُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِالْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ أَتُجْعَلُ فِيهَا بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ. وَأَبْهَمَ فِي إِخْبَارِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي يَعْلَمُهَا دُونَهُمْ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ لَهُ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ فِيمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَهُ وَالرِّضَا بِذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِمَا لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ عَالِمٍ، جَلَّ اللَّهُ وَعَزَّ. وَالْأَحْسَنُ أَنَّ يُفَسَّرَ هَذَا الْمُبْهَمُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ.
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها: لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ، فَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِ آدَمَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ لِيُظْهِرَ فَضْلَهُ وَقُصُورَهُمْ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ، فَتَأَكَّدَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ بِالتَّفْضِيلِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَ هَذَا، لِأَنَّهُ بِهَا يَتِمُّ الْمَعْنَى وَيَصِحُّ هَذَا الْعَطْفُ، وَهِيَ: فَجَعَلَ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْخَلِيفَةِ مَحْذُوفًا مَعَ الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ، أَبْرَزَهُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ، نَاصًّا عَلَيْهِ وَمُنَوِّهًا بِذِكْرِهِ بِاسْمِهِ. وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ: وَعَلَّمَ آدَمَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ، قَالَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ. وَهَلِ التَّعْلِيمُ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِي السَّمَاءِ، كَمَا كَلَّمَ مُوسَى فِي الْأَرْضِ، أَوْ بِوَسَاطَةِ مَلَكٍ أَوْ بِالْإِلْهَامِ؟ أَقْوَالٌ أُظْهَرُهَا أَنَّ الْبَارِي تَعَالَى هُوَ الْمُعَلِّمُ، لَا بِوَاسِطَةٍ وَلَا إِلْهَامٍ.
وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ وَيَزِيدُ الْيَزِيدِيُّ: وَعَلَّمَ آدَمَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ به وَالتَّضْعِيفِ فِي عُلِّمَ لِلتَّعْدِيَةِ، إِذْ كَانَ قَبْلَ التَّضْعِيفِ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَعَدَّى بِهِ إِلَى اثْنَيْنِ. وَلَيْسَتِ التَّعْدِيَةُ بِالتَّضْعِيفِ مَقِيسَةً، إِنَّمَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ السَّمَاعِ، سَوَاءً كَانَ الْفِعْلُ قَبْلَ التَّضْعِيفِ لَازِمًا أَمْ كَانَ مُتَعَدِّيًا، نَحْوَ: عَلِمَ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى وَاحِدٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ، فَلَا يُحْفَظُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ التَّعْدِيَةَ بِالتَّضْعِيفِ إِلَى ثَلَاثٍ. وَقَدْ وَهِمَ الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَرِيرِيُّ فِي زَعْمِهِ فِي شَرْحِ الْمُلْحَةِ لَهُ أَنَّ عَلِمَ تَكُونُ مَنْقُولَةً مِنْ عَلِمَ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ فَتَصِيرُ بِالتَّضْعِيفِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَحْفَظُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى اقْتِيَاسِ التَّعْدِيَةِ بِالتَّضْعِيفِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ
234
أَبِي الرَّبِيعِ فِي (كِتَابِ التَّلْخِيصِ) مِنْ تَأْلِيفِهِ: الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ النَّقْلَ بِالتَّضْعِيفِ سَمَاعٌ فِي الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِمِ، وَفِيمَا عَلَّمَهُ أَقْوَالٌ: أَسْمَاءُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، أَوِ اسْمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعُزِيَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، أَوْ جَمِيعُ اللُّغَاتِ، ثُمَّ كَلَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ بِلُغَةٍ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَاخْتَصَّ كُلَّ فِرْقَةٍ بِلُغَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَفَرَّعَ مِنْهَا جَمِيعُ اللُّغَاتِ، أَوْ أَسْمَاءُ النُّجُومِ فَقَطْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، أَوْ أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ فَقَطْ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، أَوْ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زَيْدٍ، أَوْ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ وَالْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَاخْتَارَهُ أَوْ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي خَلَقَهَا، علما أَنَّ هَذَا اسْمُهُ فَرَسٌ، وَهَذَا اسْمُهُ بَعِيرٌ، وَهَذَا اسْمُهُ كَذَا، وَهَذَا اسْمُهُ كَذَا، وَعَلَّمَهُ أَحْوَالَهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ أَسْمَاءُ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، أَوِ الْأَسْمَاءُ بِلُغَةٍ ثُمَّ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي سِوَاهَا، أَوْ عَلَّمَهُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى نَحْوَ سِيبَوَيْهِ، قَالَهُ أَبُو عَلِيُّ الْفَارِسِيُّ، أَوْ أَسْمَاءُ الله عز وجل، قاله الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، أَوْ أَسْمَاءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ الْمَخْزُونَةِ، فَعَلِمَ بِهَا جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ، قَالَهُ الْجَرِيرِيُّ، أَوِ التَّسْمِيَّاتُ. وَمَعْنَى هَذَا عَلَّمَهُ أَنْ يُسَمِّيَ الْأَشْيَاءَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ غَيْرُ الِاسْمِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَحَالَةُ تَعْلِيمِهِ تَعَالَى آدَمَ، هَلْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْمُسَمَّيَاتِ أَوْ وَصَفَهَا لَهُ وَلَمْ يَعْرِضْهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ: قَالَ بَعْضُ مَنْ عَاصَرْنَاهُ: الْمُخْتَارُ أَسْمَاءُ ذُرِّيَّتِهِ، وَعَرَّفَهُ الْعَاصِي وَالْمُطِيعَ لِيَعْرِفَ الْمَلَائِكَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ رَدًّا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا يَحْتَمِلُ أَسْمَاءُ الْمُسَمَّيَاتِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعِوَضٌ مِنْهُ اللَّامُ كَقَوْلِهِ: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «١»، انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ اللَّامَ عِوَضٌ مِنَ الإضافة ليس مذهب البصريين، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مقامه، وَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ تَعْلِيقُ التَّعْلِيمِ بِالْأَسْمَاءِ تَعَلَّقَ الْإِنْبَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، وَالْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَلَمْ يَقِلْ: أَنْبَئُونِي بِهَؤُلَاءِ، وَلَا أَنْبِئْهُمْ بِهِمْ. وَيَتَرَجَّحُ الثَّانِي بِقَوْلِهِ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ إِذَا حَمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تَجْمَعُ كَذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى عُودِهِ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ «٢»، التَّقْدِيرُ: أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ، فَعَادَ الضَّمِيرُ مِنْ يَغْشَاهُ عَلَى ذِي الْمَحْذُوفَةِ، الْقَائِمِ مَقَامَهَا فِي الْإِعْرَابِ ظُلُمَاتٍ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ
(١) سورة مريم: ١٩/ ٤.
(٢) سورة النور: ٢٤/ ٤٠. [.....]
235
اللَّفْظِ أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَسْمَاءً مَخْصُوصَةً، بَلْ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّها عَلَى الشُّمُولِ، وَالْحِكْمَةُ حَاصِلَةٌ بِتَعْلِيمِ الْأَسْمَاءِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ مُسَمَّيَاتُهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ، فَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَيُرَادُ بِهِ مَدْلُولُهُ.
ثُمَّ عَرَضَهُمْ: ثُمَّ: حَرْفُ تَرَاخٍ، وَمَهَلَةٍ عَلَّمَ آدَمَ ثُمَّ أَمْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى أَنْ قَالَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ لِيَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَيَتَحَقَّقُ الْمَعْلُومُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ عَمَّا تَحَقَّقَ بِهِ وَاسْتَيْقَنَهُ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَالَ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ دُونَ مُهْلَةٍ أَنْبِئُونِي، فَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمُ لَهُمْ تَعْرِيفٌ لَمْ يُخْبِرُوا، وَلَمَّا تَقَدَّمَ لِآدَمَ التَّعْلِيمَ أَجَابَ وَأَخْبَرَ وَنَطَقَ إِظْهَارًا لِعِنَايَتِهِ السَّابِقَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ. عَرَضَهُمْ خَلَقَهُمْ وَعَرَضَهَمْ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أَوْ صَوَّرَهُمْ لِقُلُوبِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ عَرَضَهُمْ وَهُمْ كَالذَّرِّ، أَوْ عَرَضَ الْأَسْمَاءَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ جَمْعُهَا بِلَفْظَةِ هُمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ النَّصْبِ فِي عِرَضَهُمْ يَعُودُ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْعُقَلَاءِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْمَعْنِيُ بِالْأَسْمَاءِ أَسْمَاءُ الْعَاقِلِينَ، أَوْ يَكُونَ فِيهِمْ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ، وَغَلَّبَ الْعُقَلَاءَ. وَقَرَأَ أُبَيُّ ثُمَّ عَرَضَهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ عَرَضَهُنَّ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَسْمَاءِ، فَتَكُونُ هِيَ الْمَعْرُوضَةَ، أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُسَمَّيَاتِهَا، فَيَكُونُ الْمَعْرُوضُ الْمُسَمَّيَاتُ لَا الْأَسْمَاءُ. عَلَى الْمَلائِكَةِ: ظَاهَرُهُ الْعُمُومُ، فَقِيلَ: هُوَ مُرَادٌ، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ فِي الْأَرْضِ. فَقالَ: الْفَاءُ: لِلتَّعْقِيبِ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْعَرْضِ وَالْأَمْرِ مُهْلَةٌ بِحَيْثُ يَقَعُ فِيهَا تَرَوٍّ أَوْ فِكْرٍ، وَذَلِكَ أَجْدَرُ بِعَدَمِ الْإِضَافَةِ. أَنْبِئُونِي: أَمْرُ تَعْجِيزٍ لَا تَكْلِيفٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:
أَنْبُونِي، بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: أَنْبَئُونِي عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبْكِيتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بِأَسْماءِ هؤُلاءِ:
ظَاهِرُهُ حُضُورُ أَشْخَاصٍ حَالَةَ الْعَرْضِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنِ الْمَعْرُوضَ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ فَقَطْ، جَعَلَ الْإِشَارَةَ إِلَى أَشْخَاصِ الْأَسْمَاءِ وَهِيَ غَائِبَةٌ، إِذْ قَدْ حَضَرَ مَا هُوَ مِنْهَا بِسَبَبٍ وَذَلِكَ أَسْمَاؤُهَا وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: فِي كُلِّ اسْمٍ لِأَيِّ شَخْصٍ هَذَا الِاسْمَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ وَتَكَلُّفٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرٍ دَاعِيَةٍ إِلَى ذَلِكَ.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: شَرْطُ جَوَابِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ فَأَنْبِئُونِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنْبَئُونِي السَّابِقُ، وَلَا يَكُونُ أَنْبِئُونِي السَّابِقُ هُوَ الْجَوَابُ، هَذَا مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، وَخَالَفَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو زَيْدٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ، فَزَعَمُوا أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هَذَا هُوَ النَّقْلُ الْمُحَقَّقُ، وَقَدْ وَهِمَ الَمَهْدَوِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَزَعَمَا أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ، التَّقْدِيرُ: فَأَنْبِئُونِي، إِلَّا إِنْ كَانَا اطَّلِعَا عَلَى نَقْلٍ آخَرَ غَرِيبٍ عَنِ
236
الْمُبَرِّدِ يُخَالِفُ مَشْهُورَ مَا حكان النَّاسُ، فَيُحْتَمَلُ. وَكَذَلِكَ وَهِمَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ، فَزَعَمَا أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ تَقْدِيمُ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْبِئُونِي الْمُتَقَدِّمِ هُوَ الْجَوَابُ.
وَالصِّدْقُ هُنَا هُوَ الصَّوَابُ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُصِيبِينَ، كَمَا يُطْلَقُ الْكَذِبُ عَلَى الْخَطَأِ، كَذَلِكَ يُطْلَقُ الصِّدْقُ عَلَى الصَّوَابِ. وَمُتَعَلِّقُ الصِّدْقِ فِيهِ أَقْوَالٌ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «١»، إِنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا، لَا كُنْتُمْ أَعْلَمَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ هَجَسٌ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ فِيمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ خُلَفَائِيَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ فِيمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِكُمْ أَنِّي لَا أَخْلُقُ خَلْقًا إِلَّا كُنْتُمْ أَفْضَلَ مِنْهُ، أَوْ بِأُمُورِ مَنْ أَسْتَخْلِفُهُمْ بَعْدَكُمْ، أَوْ إِنِّي إِنِ اسْتَخْلَفْتُكُمْ فِيهَا سَبَّحْتُمُونِي وَقَدَّسْتُمُونِي، وَإِنِ اسْتَخْلَفْتُ غَيْرَكُمْ فِيهَا عَصَانِي، أَوْ فِي قَوْلِكُمْ: إِنَّهُ لَا شَيْءَ مِمَّا يَتَعَبَّدُ بِهِ الْخَلْقُ إِلَّا وَأَنْتُمْ تَصْلُحُونَ لَهُ وَتَقُومُونَ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ فِي ذَلِكَ إِنْبَاءٌ، وَجَوَابُ السُّؤَالِ بِالْأَسْمَاءِ.
رُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ حِينَ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَتْ: يَخْلُقُ رَبُّنَا مَا شَاءَ، فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا أَعْلَمُ مَنًّا وَلَا أَكْرَمُ عَلَيْهِ. فَأَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ مِنْ عِلْمِ آدَمَ وَكَرَامَتِهِ خِلَافَ مَا ظَنُّوا
، قَالُوا: وَلِقَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ، إِذْ لَوْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالصِّدْقِ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ، لَجَازَ الِاجْتِهَادُ، كَمَا جَازَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: كَمْ لَبِثْتَ؟ وَلَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ الْإِصَابَةَ فَلَمْ يُصِبْ وَلَمْ يُعَنَّفْ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصِّدْقَ هُنَا ضِدُّ الْكَذِبِ الْمُتَعَارَفِ لِعِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا أَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ إِنْ بِمَعْنَى إِذْ، فَأَخْرَجَهَا عَنِ الشَّرْطِيَّةِ إِلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَإِذَا الْتَقَتْ هَمْزَتَانِ مَكْسُورَتَانِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ نَحْوَ: هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ، فَوَرْشٌ وَقَنْبُلُ يُبَدِّلَانِ الثَّانِيَةَ يَاءً مَمْدُودَةً، إِلَّا أَنَّ وَرْشًا فِي: هَؤُلَاءِ إن كنتم، وعلى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ، يَجْعَلُ الْيَاءَ مَكْسُورَةً، وَقَالُونَ وَالْبَزِّيَ يَلِينَانِ الْأُولَى وَيُحَقِّقَانِ الثَّانِيَةَ، وَعَنْهُمَا فِي بِالسُّوءِ إِلَّا وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي تَقَرَّرَ لَهُمَا. الثَّانِي: إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَاوًا مَكْسُورَةً وَإِدْغَامُ الْوَاوِ السَّاكِنَةِ قَبْلَهَا فِيهَا وَتَحْقِيقُ الثَّانِيَةِ. الثَّالِثُ: إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ الْأُولَى يَاءً، نَحْوَ: بِالسُّويِ. الرَّابِعُ:
إِبْدَالُهَا وَاوًا مِنْ غَيْرِ إِدْغَامٍ، نَحْوَ: السُّووُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِحَذْفِ الْأُولَى، وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ.
قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا: أَيْ تَنْزِيهُكَ عَنِ الِادِّعَاءِ وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَنْزِيهٌ لَكَ بَعْدَ تَنْزِيهٍ لَفْظُهُ لَفْظُ تَثْنِيَةً، وَالْمَعْنَى كَذَلِكَ كَمَا قَالُوا فِي لَبَّيْكَ، وَمَعْنَاهُ: تَلْبِيَةً بَعْدَ تَلْبِيَةٍ. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ يَلْزَمُ عَنْهُ أَنَّ مُفْرَدَهُ يَكُونُ سُبْحَا، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْصُوبًا بَلْ مَرْفُوعًا، وَأَنَّهُ لَمْ تَسْقُطِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ، وَأَنَّهُ الْتَزَمَ فَتْحَهَا. وَالْكَافُ فِي سُبْحَانَكَ مَفْعُولٌ بِهِ أضيف
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣.
237
إِلَيْهِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى تَنَزَّهْتَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا، حِينَ تكملنا عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ بِفِعْلٍ مِنْ مَعْنَاهُ وَاجِبُ الْحَذْفِ. وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ مُنَادًى مُضَافٌ، وَيُبْطِلُهُ أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ دُخُولَ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُنَادَى لِجَازَ دُخُولُ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ لَنَا. وَلَمَّا سَأَلَ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِالْجَوَابِ، وَكَانُوا قَدْ سَبَقَ مِنْهُمْ قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها الْآيَةَ، أَرَادُوا أَنْ يُجِيبُوا بِعَدَمِ الْعِلْمِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ، فَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الْجَوَابِ تَنْزِيهَ اللَّهِ اعْتِذَارًا وَأَدَبًا مِنْهُمْ فِي الْجَوَابِ، وَإِشْعَارًا بِأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ قَبْلُ يَمْحُوهُ هَذَا التَّنْزِيهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ، ثُمَّ أَجَابُوا بِنَفْيِ الْعِلْمِ بِلَفْظٍ لَا الَّتِي بُنِيَتْ مَعَهَا النَّكِرَةُ، فَاسْتَغْرَقَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ، ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا عَلَّمَهُمْ هُوَ تَعَالَى، فَقَالُوا: إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا، وَهَذَا غَايَةٌ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى وَالِاسْتِسْلَامِ التَّامِّ لِلْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو عُثْمَانُ الْمَغْرِبِيُّ: مَا بَلَاءُ الخلق إلا الدعاوى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَالُوا:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، كَيْفَ رُدُّوا إِلَى الْجَهْلِ حَتَّى قَالُوا: لَا عِلْمَ لَنَا؟ وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ
، وَخَبَرُ: لَا عُلِمَ، فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَلَا عُلِمَ مِثْلُهُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَمَا مَوْصُولَةٌ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع عَلَى الْبَدَلِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّهْرَاوِيِّ: أَنَّ مَوْضِعَ مَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا عَلَّمَتْنَا، نَصْبٌ بِعَلَّمْتَنَا، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ، وَأَنَّ الصِّلَةَ: عَلَّمَتْنَا، وَأَنَّ الصِّلَةَ لَا تَعْمَلُ فِي الموصول ولكن يتكلف له وَجْهٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَيَكُونُ مَعْنَى إِلَّا: لَكِنْ، عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَتَكُونُ مَا شَرْطِيَّةً مَنْصُوبَةً بِعَلَّمْتَنَا، وَيَكُونُ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُمْ نَفَوْا أَوَّلًا سَائِرَ الْعُلُومِ ثُمَّ اسْتَدْرَكُوا أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيَّ شَيْءٍ عَلَّمَهُمْ عَلِمُوهُ، وَيَكُونُ هَذَا أَبْلَغُ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى، إِذْ مَحُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ وَنَفُوا جَمِيعَهَا، فَلَمْ يَسْتَثْنُوا لَهُمْ شيئا سابقا ماضيا تحلوا بِهِ، بَلْ صَارُوا إِلَى الْجَهْلِ الصِّرْفِ وَالتَّبَرِّي مِنْ كُلِّ عِلْمٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ يُنَافِي مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمُهُمْ تَعَالَى، أَوْ عَلِمُوا بِاطِّلَاعٍ مِنَ اللَّوْحِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يُفْسِدُ وَيَسْفِكُ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا كَانُوا قَدْ بَالَغُوا فِي نَفْيِ كُلِّ عِلْمٍ عَنْهُمْ، وَجَعَلُوا هَذَا الْعِلْمَ الْخَاصَّ كَالْمَعْدُومِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ جَعَلَ قَوْلَهُمْ، لَا عِلْمَ لَنَا تَوْبَةً، وَمَنِ اعْتَقَدَ بِعِصْمَتِهِمْ قَالَ: قَالُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلِمُوا، أَوْ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها الْآيَةَ، لِأَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَكَيْفَ
238
يَعْلَمُونَهَا وَمَا أَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ؟ وَلَمَّا نَفُوا الْعِلْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَثْبَتُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَكْمَلِ أَوْصَافِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ، ثُمَّ أَرْدَفُوا الْوَصْفَ بِالْعِلْمِ، الْوَصْفَ بِالْحِكْمَةِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ قَوْلُهُ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. فَلَمَّا صَدَرَ مِنْ هَذَا الْمَجْعُولِ خَلِيفَةً، مَا صَدَرَ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ تَبَيَّنَ لَهُمْ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً.
فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذَا الْجَوَابِ كَيْفَ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ تَنْزِيهَ اللَّهِ، ثُمَّ اعْتَرَفُوا بِالْجَهْلِ، ثُمَّ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ، وَنَاسِبَ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ، لِأَنَّهُ الْمُتَّصِلُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ، أَنْبِئُونِي، لَا عِلْمَ لَنا. فَالَّذِي ظَهَرَتْ بِهِ الْمَزِيَّةُ لآدم والفضيلة هو العلم، فَنَاسَبَ ذِكْرُهُ مُتَّصِلًا بِهِ، وَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِنَّمَا هِيَ آثار العلم وَنَاشِئَةٌ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ. وَلِأَنْ يَكُونَ آخِرُ مَقَالِهِمْ مُخَالِفًا لِأَوَّلِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ رُجُوعَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَكِيمَ هُوَ ذُو الْحِكْمَةِ، يَكُونُ الْحَكِيمُ صِفَةَ ذَاتٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ الْمُحْكِمُ لِصَنْعَتِهِ يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ. وَأَنْتَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلضَّمِيرِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَوْ مُبْتَدَأً فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْعَلِيمُ خَبَرُهُ، أَوْ فَضْلًا فَلَا يَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ. فَعِنْدَ الْفَرَّاءِ مَوْضِعُهُ عَلَى حَسَبِ الِاسْمِ قَبْلَهُ، وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ عَلَى حَسَبِ الِاسْمِ بَعْدَهُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَدْ خَصَّهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الْعَلِيمُ بِمَا أَمَرْتَ وَنَهَيْتَ، الْحَكِيمُ فِيمَا قَدَّرْتَ وَقَضَيْتَ. وَقَالَ آخر: العلم بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْحَكِيمُ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ.
قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ: نَادَى آدَمَ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ، وَهِيَ عَادَةُ اللَّهِ مَعَ أَنْبِيَائِهِ، قَالَ تعالى: يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا «١»، يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ «٢»، يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «٣»، يَا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ «٤»، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ «٥»، وَنَادَى مُحَمَّدًا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْوَصْفِ الشَّرِيفِ مِنَ الْإِرْسَالِ وَالْإِنْبَاءِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ «٦» يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ «٧». فَانْظُرْ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ هَذَا النداء
(١) سورة هود: ١١/ ٤٨.
(٢) سورة هود: ١١/ ٤٦.
(٣) سورة الصافات: ٣٧/ ١٠٤- ١٠٥.
(٤) سورة القصص: ٢٨/ ٣٠.
(٥) سورة المائدة: ٥/ ١١٠.
(٦) سورة المائدة: ٥/ ٤١.
(٧) سورة الأنفال: ٨/ ٦٤ و ٦٥ و ٦٧.
239
وَذَاكَ النِّدَاءِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنْبِئْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَفِي بِأَسْمَائِهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْمَعْرُوضِينَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنْ آثَارِ الْعِنَايَةِ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ:
أَنْبِئُونِي، دَاخَلَهُمْ مِنْ هَيْبَةِ الْخِطَابِ مَا أَخَذَهُمْ عَنْهُمْ، لَا سِيَّمَا حِينَ طَالَبَهُمْ بِإِنْبَائِهِمْ إِيَّاهُ مَا لَمْ تَحِطْ بِهِمْ عُلُومُهُمْ. وَلِمَا كَانَ حَدِيثُ آدَمَ رَدَّهُ فِي الْإِنْبَاءِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، وَمُخَاطَبَةُ آدَمَ لِلْمَلَائِكَةِ لَمْ تُوجِبْ الِاسْتِغْرَاقَ فِي الْهَيْبَةِ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَسْمَاءِ مَا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُهُمْ، ظَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ، يَعْنِي مَا تَقَاصَرَتْ عَنْهُ عُلُومُ الْخَلْقِ وأسلم مَا تَبْدُونَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَكْتُمُونَ مِنَ اعْتِقَادِ الْخَيْرِيَّةِ عَلَى آدَمَ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُشَيْرِيِّ.
وَالْجُمْلَةُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْقَوْلِ إِذَا كَانَتْ مُرَتَّبًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى، فَالْأَصَحُّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا يُؤْتَى فِيهَا بِحَرْفِ تَرَتُّبٍ، اكْتِفَاءً بِالتَّرْتِيبِ الْمَعْنَوِيِّ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها، أَتَى بَعْدَهُ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ، وَنَحْوَ: قالُوا سُبْحانَكَ، قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ، وَنَحْوَ: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ «١»، قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ «٢»، قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ «٣»، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ «٤». وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ مَوْضِعًا فِي قِصَّةِ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فِي إِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمُحَاوَرَتِهِ مَعَهُ، وَمُحَاوَرَةِ السَّحَرَةِ، إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ، دُونَ ثَلَاثَةٍ، جَاءَ مِنْهَا اثْنَانِ جَوَابًا وَوَاحِدٌ كَالْجَوَابِ، وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
أَنْبِئْهُمْ بِالْهَمْزِ وَضَمَّ الْهَاءَ، وَهَذَا الْأَصْلُ كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْبِئْهُمْ بِالْهَمْزِ وَكَسَرِ الْهَاءَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الْهَاءِ لِحَرَكَةِ الْبَاءِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِالْهَمْزَةِ لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ، فَهِيَ حَاجِزٌ غَيْرُ حصين. وقرىء: أنبيهم، بإبدال الهمزة ياء وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَوَّاسِ: أَنْبِهِمْ، عَلَى وَزْنِ أَعْطِهِمْ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا عَلَى إِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، عَلَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَنْبَيْتُ، كَأَعْطَيْتُ، قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ لَا تَخْفِيفٌ. وَالْبَدَلُ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
حَكَى الْأَخْفَشُ فِي الْأَوْسَطِ: أَنَّ الْعَرَبَ تَحَوِّلُ مِنَ الْهَمْزَةِ مَوْضِعَ اللَّامِ يَاءٌ، فيقولون:
(١) سورة المائدة: ٥/ ٢٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٩.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٩.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٠.
240
قُرَيْتُ، وَأُخْطَيْتُ، وَتَوَضَّيْتُ، قَالَ: وَرُبَّمَا حَوَّلُوهُ إِلَى الْوَاوِ، وَهُوَ قَلِيلٌ، نَحْوَ: رَفَوْتُ، وَالْجَيِّدُ: رَفَأْتُ، وَلَمْ أَسْمَعْ: رَفَيْتُ. انْتَهَى كَلَامُ الْأَخْفَشِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ. وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ: جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ: فَأَنْبَئَهُمْ بِهَا، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ حُذِفَتْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْبِئُونِي، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى إِعْلَامِ اللَّهِ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ آدَمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَا لَمْ يُعْلِمْهُمْ مِنْ حَالِهِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَبْلَ النَّفْخِ مُصَوَّرًا، فَلَمْ يَعْلَمُوا مَا هُوَ، وَعَلَى أَنَّهُ رَفَعَ دَرَجَةَ آدَمَ عِنْدَهُمْ، لِكَوْنِهِ قَدْ عَلَّمَ لِآدَمَ مَا لَمْ يُعَلِّمْهُمْ، وَعَلَى إِقَامَتِهِ مَقَامَ الْمُفِيدِ الْمُعَلَّمِ، وَإِقَامَتِهِمْ مَقَامَ الْمُسْتَفِيدِينَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَسْمَاءَ الَّذِينَ عَرَضَهُمْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَدَبِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْأَدَبِ مِنْ حَيْثُ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها، فَإِنَّ الطَّوَاعِيَةَ الْمَحْضَةَ أَنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحِكْمَةِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ، وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ وَمَصْلَحَتِهِ وَمَفْسَدَتِهِ كَهُمْ مَعَ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ. وَكَانَ الِامْتِثَالُ وَالتَّسْلِيمُ، بِغَيْرِ تَعَجُّبٍ وَلَا اسْتِفْهَامٍ، أَلْيَقَ بِمَقَامِهِمْ لِطَهَارَةِ ذَوَاتِهِمْ وَكَمَالِ صِفَاتِهِمْ.
وَفِي كِتَابِ بَعْضِ مَنْ عَاصَرْنَاهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: ظَهَرَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عِلْمِهِ بِالْأَسْمَاءِ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى حَوَّاءَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مَبْعُوثًا إِلَى مَنْ تُوَجِّهُ التَّحَدِّيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا رُسُلًا، فَقَدْ يَجُوزُ الْإِرْسَالُ إِلَى الرَّسُولِ، كَبَعْثِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاحْتَجُّوا بِكَوْنِهِ نَاقِضًا لِلْعَادَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حُصُولُ الْعِلْمِ بِاللُّغَةِ لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ وَعَدَمُ حُصُولِهِ لِمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِلْعَادَةِ. وَأَيْضًا، فَالْمَلَائِكَةُ أَمَّا أَنْ عَلِمُوا وَضْعَ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ للمسميات فلا مزية أو لا، فَكَيْفَ عَلِمُوا إِصَابَتَهُ فِي ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ لُغَةً، ثُمَّ حَضَرَ جَمِيعُهُمْ فَعَرَفَ كُلُّ صِنْفٍ إِصَابَتَهُ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ بِأُسَرِهِمْ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا بِأَسْرِهَا. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهُمُ الدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ، وَلِمَ لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ أَوْ مِنْ بَابِ الْإِرْهَاصِ؟ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: صُدُورُ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ بَعْدُ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى النَّبِيِّ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَبْعُوثًا لَكَانَ إِلَى أَحَدٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّبْلِيغُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمَلَائِكَةَ، لِأَنَّهُمْ أَفْضَلَ، وَلَا حَوَّاءَ، لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِلَا وَاسِطَةٍ بِقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا، وَلَا الْجِنَّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي السَّمَاءِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْتَباهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِبَاءَ كَانَ بَعْدَ الزَّلَّةِ، وَالنَّبِيُّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَبًى وَقْتَ كَوْنِهِ نَبِيًّا.
241
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ جَوَابُ فَلَمَّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي لَمَّا المقتضية للجواب، أهي حَرْفٌ أَمْ ظَرْفٌ؟ وَرَجَّحْنَا الْأَوَّلَ وَذَكَرْنَا أَنَّهُ مَذْهَبُ سيبويه. وألم: أَقُلْ تَقْرِيرٌ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ كَانَ الْكَلَامُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ تَقْرِيرًا نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «١» ؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «٢» ؟ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «٣» ؟ وَلِذَلِكَ جَازَ الْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةٍ إِثْبَاتِيَّةٍ نَحْوَ: وَوَضَعْنَا، وَلَبِثْتَ، وَلَكُمْ فِيهِ، تَنْبِيهُهُمْ بِالْخِطَابِ وَهَزُّهُمْ لِسَمَاعِ الْمَقُولِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً «٤» نَبَّهَهُ فِي الثَّانِيَةِ بِالْخِطَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّامَ فِي نَحْوِ: قُلْتُ لَكَ، أَوْ لِزَيْدٍ، لِلتَّبْلِيغِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِيهَا. إِنِّي أَعْلَمُ: يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُتَحَرِّكِ مَا قَبْلُهَا، إِذَا لَقِيَتْ هَمْزَةَ الْقَطْعِ الْمَفْتُوحَةَ، جَازَ فِيهَا وَجْهَانِ: التَّحْرِيكُ وَالْإِسْكَانُ، وقرىء بِالْوَجْهَيْنِ فِي السَّبْعَةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ. وَسَكَّنُوا فِي السَّبْعَةِ إِجْمَاعًا: تَفْتِنِّي أَلَا، أَرِنِي أَنْظُرْ «٥»، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ «٦» وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ «٧»، وَلَا يَظْهَرُ بِشَيْءٍ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَاتِّفَاقِهِمْ عِلَّةٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الرِّوَايَةِ. وَالْخِلَافُ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي أَعْلَمُ مِنْ كَوْنِهِ منصوبا أو مجرورا جار هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ هُنَاكَ فَلَا نُعِيدُهُ هُنَا.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ مَا نَصُّهُ: قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
أَعْلَمُ اسْمًا بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ فِي الْعِلْمِ، فَتَكُونُ مَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا قُدِّرَ الْأَوَّلُ اسما، فلا بد بعده مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ يَنْصِبُ غَيْبَ، تَقْدِيرُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ كُلٍّ أَعْلَمُ غَيْبَ، وَكَوْنُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِعْلًا مُضَارِعًا أَخْصَرُ وَأَبْلَغُ. انْتَهَى. وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الَمَهْدَوِيِّ وَهْمٌ. وَالَّذِي ذَكَرَ الَمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مَا نَصُّهُ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ، يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ مَا بِأَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَالِمٍ، أَوْ يَكُونُ مَا جَرًّا بِالْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ التَّنْوِينُ فِي أَعْلَمُ إِذَا قَدَّرْتَهُ بِمَعْنَى عَالِمٍ وَتَنْصِبُ مَا بِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى حَوَاجِ بَيْتِ اللَّهِ، انْتَهَى. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى أَنْ أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ وَأَنَّهُ لَمْ يَجُزِ الْجَرُّ فِي مَا وَالنَّصْبُ، وَتَكُونُ أَفْعَلُ اسْمًا إِلَّا إِذَا كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَا أَفْعَلَ تفضيل، ولا
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٧٢.
(٢) سورة الشرح: ٩٤/ ١. [.....]
(٣) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٨.
(٤) سورة الكهف: ١٨/ ٧٥.
(٥) سورة الأعراف: ٧/ ١٤١.
(٦) سورة مريم: ١٩/ ٤٣.
(٧) سورة هود: ١١/ ٤٧.
242
يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَا نقله ابن عطية عن الَمَهْدَوِيِّ مِنْ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمُ أَفْعَلَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَخَفْضُ مَا بِالْإِضَافَةِ أَلْبَتَّةَ.
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْغَيْبِ هُنَا، فَقِيلَ: غَيْبُ السموات: أَكْلُ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ الشَّجَرَةِ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ فِي السَّمَاءِ، وَغَيْبُ الْأَرْضِ: قَتَلُ قَابِيلَ هَابِيلَ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ:
غَيْبُ السموات مَا قَضَاهُ مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، وَغَيْبُ الْأَرْضِ مَا فَعَلُوهُ فِيهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ. وقيل:
غيب السموات مَا غَابَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ الْمُقَرَّبِينَ وَحَمَلَةِ عَرْشِهِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى مِنْ أَسْرَارِ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى، وَغَيْبُ الْأَرْضِ مَا أَخْفَاهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ مِنْ أَسْرَارِ مَلَكُوتِهِ الْأَدْنَى وَأُمُورِ الْآخِرَةِ الأولى.
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ: مَا تُبْدُونَ: الضَّمِيرُ لِلْمَلَائِكَةِ، وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ: يَعْنِي إِبْلِيسَ.
فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْجَمْعِ، وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ نَحْوَ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ «١».
وَرُوِيَ أَنَّ إِبْلِيسَ مَرَّ عَلَى جَسَدِ آدَمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ فَقَالَ: لِأَمْرٍ مَا خُلِقَ هَذَا، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ وَقَالَ: إِنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ لِأَنَّهُ أَجْوَفُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ:
أَرَأَيْتُمْ إِنْ فُضِّلَ هَذَا عَلَيْكُمْ وَأُمِرْتُمْ بِطَاعَتِهِ مَا تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: نُطِيعُ اللَّهَ، فَقَالَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ، وَلَئِنْ سُلِّطَ عَلَيَّ لَأَعْصِيَنَّهَ
، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ الْآيَةَ، يَعْنِي: مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ وَكَتْمِ إِبْلِيسَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مَا أَبْدَوْهُ هُوَ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وَمَا كَتَمُوهُ قَوْلُهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا، وَقِيلَ: مَا أَبْدَوْهُ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها، وما كتموه أَضْمَرُوهُ مِنَ الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَالسُّجُودِ لِآدَمَ. وَقِيلَ: مَا أَبْدَوْهُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْعَجْزِ، وَمَا كَتَمُوهُ الْكَرَاهِيَةُ لِاسْتِخْلَافِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِيمَا أَبْدَوْهُ وَمَا كَتَمُوهُ مِنْ كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَأَبْرَزَ الْفِعْلَ فِي قَوْلِهِ: وَأَعْلَمُ لِيَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ جُمْلَةً مَقْصُودَةً بِالْعَامِلِ، فَلَا يَكُونُ مَعْمُولُهَا مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْإِخْبَارِ، إِذْ جُعِلَ مُفْرَدًا بِعَامِلٍ غَيْرِ الْعَامِلِ، وَعَطْفُ قَوْلِهِ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ هُوَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي فِي الْإِخْبَارِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ، جَهْرًا كَانَ أَوْ سِرًّا، وَوَصْلُ مَا بَكُنْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَتْمَ وَقَعَ فيما
(١) سورة الحجرات: ٤٩/ ٤.
243
مَضَى، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَتَمُوا عَنِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَعْرَفُ بِاللَّهِ وَأَعْلَمُ، فَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ هَجَسَ فِي أَنْفُسِهِمْ شَيْءٌ لَمْ يُظْهِرْهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَلَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنِيُّ إِبْلِيسَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي نَفْسِهِ: ما حكيناه قبل عَنْهُ، فَكَتَمَ ذَلِكَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَ آخِرُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ عِلْمِ الْبَدِيعِ الطِّبَاقَ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قوله:
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٤]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
السُّجُودُ: التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ الْمَيْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَجَدَ وَضَعَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ، وَأَسْجَدَ: مَيَّلَ رَأَسَهُ وَانْحَنَى، وَقَالَ الشاعر:
ترى ألا كم فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ يُرِيدُ أَنَّ الْحَوَافِرَ تَطَأُ الْأُكْمَ، فَجَعَلَ تَأَثُّرَ الْأُكْمِ لِلْحَوَافِرِ سُجُودًا مَجَازًا، وَقَالَ آخَرُ:
كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تُحَنَّفِ وَقَالَ آخَرُ:
سُجُودُ النَّصَارَى لِأَحْبَارِهَا يُرِيدُ الِانْحِنَاءَ.
إِبْلِيسُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَوَزْنُهُ فِعْلِيلُ، وَأَبْعَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبْلَاسِ، وَهُوَ الْإِبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ، وَوَزْنُهُ عَلَى هَذَا، إِفْعِيلٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ أَنَّ الِاشْتِقَاقَ الْعَرَبِيَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَاعْتَذَرَ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِقَاقِ فِيهِ عَنْ مَنْعِ الصَّرْفِ بِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الأسماء، وردّنا: غريض، وَإِزْمِيلٍ، وَإِخْرِيطٍ، وَإِجْفِيلٍ، وَإِعْلِيطٍ، وَإِصْلِيتٍ، وَإِحْلِيلٍ، وَإِكْلِيلٍ، وَإِحْرِيضٍ. وَقَدْ قِيلَ: شُبِّهَ بِالْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَشِبْهِ الْعُجْمَةِ، وَشِبْهُ الْعُجْمَةِ هُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنَ الْإِبْلَاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَصَارَ خَاصًّا بِمَنْ أَطْلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ دَلِيلٌ فِي لِسَانِهِمْ، وَهُوَ عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ. وَقَدْ رُوِيَ اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْإِبْلَاسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ، وَمَا إِخَالُهُ يَصِحُّ. الْإِبَاءُ: الِامْتِنَاعُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
244
وَالْفِعْلُ مِنْهُ: أَبَى يَأْبَى، وَلَمَّا جَاءَ مُضَارِعُهُ عَلَى يَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَلَيْسَ بقياس أحرى، كَأَنَّهُ مُضَارِعُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فَقَالُوا فِيهِ: يِئْبِي بِكَسْرِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ، وَقَدْ سُمِعَ فِيهِ أَبِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَيَكُونُ يَأْبِي عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ قِيَاسًا، وَوَافَقَ مَنْ قَالَ أَبَى بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقَدْ زَعَمَ أَبُو الْقَاسِمِ السعدي أن أبي يأتي بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَقَدْ حَكَى أَبِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ. وَقَدْ جَاءَ يَفْعَلُ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِعْلًا وَمَاضِيهَا فَعَلَ، وَلَيْسَتْ عَيْنُهُ وَلَا لَامُهُ حَرْفَ حَلْقٍ. وَفِي بَعْضِهَا سُمِعَ أَيْضًا فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَفِي بَعْضِ مُضَارِعِهَا سُمِعَ أَيْضًا يَفْعِلُ وَيَفْعُلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا، ذَكَرَهَا التَّصْرِيفِيُّونَ.
الِاسْتِكْبَارُ وَالتَّكَبُّرُ: وَهُوَ مِمَّا جَاءَ فِيهِ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى تَفَعَّلَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الاثنى عشر التي جاءت لَهَا اسْتَفْعَلَ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي شَرْحِ نَسْتَعِينُ.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ لَمْ يُؤْثَرْ فِيهَا سَبَبُ نُزُولٍ سَمْعِيٌّ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا شَرَّفَ آدَمَ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَجَعَلَهُ مُعَلِّمًا لِلْمَلَائِكَةِ وَهُمْ مُسْتَفِيدُونَ مِنْهُ مَعَ قَوْلِهِمُ السَّابِقِ:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُكَرِّمَ هَذَا الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ بِأَنْ يُسْجِدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ مَزِيَّةَ الْعِلْمِ عَلَى مَزِيَّةِ الْعِبَادَةِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: قِصَّةُ إِبْلِيسَ تَقْرِيعٌ لِمَنْ أَشْبَهَهُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، وَمَعَ قِدَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافِهِمْ. وَإِذْ: ظَرْفٌ كَمَا سَبَقَ فَقِيلَ بِزِيَادَتِهَا. وَقِيلَ:
الْعَامِلُ فِيهَا فِعْلٌ مضمر يشيرون إلى ادكر. وَقِيلَ: هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، يَعْنِي قَوْلَهُ:
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ، وَيُضَعَّفُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُزَادُ، وَالثَّانِي أَنَّهَا لَازِمٌ ظَرْفِيَّتُهَا، وَالثَّالِثُ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ فَيَسْتَحِيلُ وُقُوعُ الْعَامِلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي إِذِ الْأُولَى فِي إِذْ هَذِهِ. وَقِيلَ:
الْعَامِلُ فِيهَا أَبَى، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي إذ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَسَجَدُوا، تَقْدِيرُهُ: انْقَادُوا وَأَطَاعُوا، لِأَنَّ السُّجُودَ كَانَ نَاشِئًا عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْأَمْرِ. وَفِي قَوْلِهِ: قُلْنا الْتِفَاتٌ، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، إِذْ كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِصُورَةِ الْغَائِبِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وأتى بنا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وعلوّ القدر وَتَنْزِيلُهُ مَنْزِلَةَ الْجَمْعِ، لِتَعَدُّدِ صِفَاتِهِ الْحَمِيدَةِ وَمَوَاهِبِهِ الْجَزِيلَةِ.
وَحِكْمَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ وَكَوْنُهُ بِنُونِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ الْأَمْرُ لِلْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الِامْتِثَالُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي غَايَةٍ مِنَ التَّعْظِيمِ، لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَدْعَى لِامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ بُطْءٍ وَلَا تَأَوُّلٍ لِشَغْلِ خَاطِرِهِ بِوُرُودِ مَا صَدَرَ
245
مِنَ الْمُعَظَّمِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ لِهَذَا، منها: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ «١»، وَقُلْنَا اهْبِطُوا «٢»، قُلْنا يَا نارُ كُونِي بَرْداً «٣»، وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: اسْكُنُوا الْأَرْضَ «٤»، وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ «٥»، وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا «٦». فَأَنْتَ تَرَى هَذَا الْأَمْرَ وَهَذَا النَّهْيَ كَيْفَ تَقَدَّمَهُمَا الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، لِأَنَّ الْآمِرَ اقْتَضَى الِاسْتِعْلَاءَ عَلَى الْمَأْمُورِ، فَظَهَرَ لِلْمَأْمُورِ بِصِفَةِ الْعَظَمَةِ، وَلَا أَعْظَمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَأْمُورُونَ بِالسُّجُودِ، قَالَ السُّدِّيُّ: عَامَّةُ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ فِي الْأَرْضِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِلْمَلَائِكَةِ بِجَرِّ التَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ: بِضَمِّ التَّاءِ، إِتْبَاعًا لِحَرَكَةِ الْجِيمِ وَنُقِلَ أنها لغة أزدشنوءة. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: هَذَا خَطَأٌ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: لِأَنَّ كَسْرَةَ التَّاءِ كَسْرَةُ إِعْرَابٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ، إِذَا كَانَ مَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ سَاكِنًا صَحِيحًا نَحْوَ:
وَقالَتِ اخْرُجْ «٧». وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَجُوزُ لاستهلاك الْحَرَكَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ بِحَرَكَةِ الْإِتْبَاعِ إِلَّا فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ كَقَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ نقل أنها لغة أزدشنوءة، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَطَّأَ الْقَارِئُ بِهَا وَلَا يُغَلَّطَ، وَالْقَارِئُ بِهَا أَبُو جَعْفَرٍ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقُرْآنَ عَرْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ شَيْخُ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، أَحَدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ عَلَّلَ ضَمَّ التَّاءِ لِشِبْهِهَا بِأَلِفِ الْوَصْلِ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ الْهَمْزَةَ تَسْقُطُ فِي الدَّرَجِ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ بِأَصْلٍ، وَالتَّاءُ فِي الْمَلَائِكَةِ تَسْقُطُ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَصْلٍ. أَلَا تَرَاهُمْ قَالُوا: الْمَلَائِكُ؟ وَقِيلَ: ضُمَّتْ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَكْرَهُ الضَّمَّةَ بَعْدَ الْكَسْرَةِ لِثِقَلِهَا.
اسْجُدُوا: أَمْرٌ، وَتَقْتَضِي هَذِهِ الصِّيغَةُ طَلَبَ إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمُطْلَقِ اسْتِقْبَالُهُ، وَلَا تُدُلُّ بِالْوَضْعِ عَلَى الْفَوْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالرَّازِيُّ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُتَّبِعِيهِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الفقه، وهذ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَا تَدُلُّ قَرِينَةٌ عَلَى فَوْرٍ أَوْ تَأْخِيرٍ.
وَأَمَّا هُنَا فَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى تَعْقِيبِ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، فَتَكُونُ الملائكة قد
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٣٦.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٦٩.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠٤.
(٥) سورة النساء: ٤/ ١٥٠.
(٦) سورة النساء: ٤/ ١٥٤.
(٧) سورة يوسف: ١٢/ ٣١.
246
فَهِمُوا الْفَوْرَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ مَوْضُوعِ اللَّفْظِ، فَلِذَلِكَ بَادَرُوا بِالْفِعْلِ وَلَمْ يَتَأَخَّرُوا. وَالسُّجُودُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَفْعُولُ إِيمَاءٌ وَخُضُوعٌ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ مَعَ التَّذَلُّلِ، أَوْ إِقْرَارُهُمْ لَهُ بِالْفَضْلِ وَاعْتِرَافُهُمْ لَهُ بِالْمَزِيَّةِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى السُّجُودِ اللُّغَوِيِّ، قَالَ: فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ لَكَ بِالْفَضْلِ فَقَدْ خَضَعَ لَكَ. لِآدَمَ: مَنْ قَالَ بِالسُّجُودِ الشَّرْعِيِّ قَالَ:
كَانَ السُّجُودُ تَكْرِمَةً وَتَحِيَّةً لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ: عَلِيٌّ
وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، كَسُجُودِ أَبَوَيْ يُوسُفَ، لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى، وَنَصَبَهُ اللَّهُ قِبْلَةً لِسُجُودِهِمْ كَالْكَعْبَةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِلَى آدَمَ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسَجَدَ وَسَجَدُوا مُؤْتَمِّينَ بِهِ، وَشَرَّفَهُ بِأَنْ جَعَلَهُ إِمَامًا يَقْتَدُونَ بِهِ. وَالْمَعْنَى فِي: لِآدَمَ أَيْ مَعَ آدَمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، فَالسُّجُودُ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالسُّجُودِ لَهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَالْقُرْآنُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ مَرَّتَيْنِ. قِيلَ: وَالْإِجْمَاعُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّجُودَ هُوَ بِالْجَبْهَةِ لِقَوْلِهِ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ»
. وَقِيلَ: لَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْجَاثِيَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاقِعٌ، وَأَنَّ السُّجُودَ كَانَ لِآدَمَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِمَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: السُّجُودُ لِلَّهِ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ، وَلِلْبَشَرِ بِالِانْحِنَاءِ، انْتَهَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْبَشَرِ غَيْرَ مُحَرَّمٍ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ السُّجُودَ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا هُوَ التَّحِيَّةُ، وَنُسِخَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: كَانَ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ جَائِزًا إِلَى زَمَنِ يَعْقُوبَ، ثُمَّ نُسِخَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَمْ يُنْسَخْ إِلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثٍ عَرَضَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»
، وَأَنَّ مُعَاذًا سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: لَمَّا اسْتَعْظَمُوا تَسْبِيحَهُمْ وَتَقْدِيسَهُمْ أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِغَيْرِهِ لِيُرِيَهُمْ بِذَلِكَ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْهُمْ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ.
فَسَجَدُوا، ثَمَّ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَسَجَدُوا لَهُ، أَيْ لِآدَمَ. دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ:
اسْجُدُوا لِآدَمَ، وَاللَّامُ فِي لِآدَمَ لِلتَّبْيِينِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي السَّبْعَةَ عَشَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ شَرْحِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. إِلَّا إِبْلِيسَ: هُوَ مُسْتَثْنًى مِنَ الضَّمِيرِ فِي فَسَجَدُوا، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُوجَبٍ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَتَرَجَّحُ النَّصْبُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وابن المسيب وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَالطَّبَرِيُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَلَكًا ثُمَّ أُبْلِسَ وَغُضِبَ عَلَيْهِ وَلُعِنَ فَصَارَ شَيْطَانًا. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنِ
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٢٩. [.....]
247
ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ: عَزَّازِيلُ، وَقِيلَ: الحرث. وَقِيلَ:
هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَأَنَّهُ أَبُو الْجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ، وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ مَلَكًا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَقَاتَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَسَبَوْهُ صَغِيرًا وَتَعَبَّدَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَخُوطِبَ مَعَهُمْ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «١» فَعَمَّ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْكُفْرُ وَلَا الْفِسْقُ، كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الْبَشَرِ، وَبِقَوْلِهِ:
لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «٢»، وَبِقَوْلِهِ: كانَ مِنَ الْجِنِّ «٣» وَبِأَنَّ لَهُ نَسْلًا، بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَلَوْ لم يكن منهم لَمَا تَوَجَّهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ ذَمٌّ لِتَرْكِهِ فِعْلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ. وَأَمَّا جَاعِلِ الملائكة رسلا، ولا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، فَهُوَ عَامٌ مَخْصُوصٌ، إِذْ عِصْمَتُهُمْ لَيْسَتْ لِذَاتِهِمْ، إِنَّمَا هِيَ بِجَعْلِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَسَلَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى الصِّفَاتِ الْمَلَكِيَّةَ وَأَلْبَسَهُ ثِيَابَ الصِّفَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنَّةُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: سَبْطٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ، وَإِبْلِيسُ مِنْهُمْ، أَوْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِنِّ لِأَنَّهُ لَا يُرَى، كَمَا سَمَّى الْمَلَائِكَةَ جِنَّةً، أَوْ لِأَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ، أَوْ بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَمَّى جِنًّا. قَالَ الْأَعْشَى فِي ذِكْرِ سُلَيْمَانَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ:
وَأَمَّا أَنْ تَقُولُوا قَدْ أَبَيْنَا فَشَرُّ مُوَاطِنِ الْحَسَبِ الْإِبَاءُ
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةً قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ
أَبى: امْتَنَعَ وَأَنِفَ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ. وَاسْتَكْبَرَ: تَكَبَّرَ وَتَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ وَقَدَّمَ الْإِبَاءَ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِكْبَارُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَهُوَ التَّعَاظُمُ، وَيَنْشَأُ عَنْهُ الْإِبَاءُ مِنَ السُّجُودِ اعْتِبَارًا بِمَا ظَهَرَ عَنْهُ أَوَّلًا، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ السُّجُودِ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ السُّجُودُ، فَلَمَّا اسْتَثْنَى إِبْلِيسَ كَانَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ تَرَكَ السُّجُودَ، أَوْ بِأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي نَذْكُرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْمَقْصُودُ:
الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ خَالَفَ حَالُهُ حَالَ الْمَلَائِكَةِ. فَنَاسَبَ أَنْ يَبْدَأَ أَوَّلًا بِتَأْكِيدِ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، أَوْ بِإِنْشَاءِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالْمُخَالَفَةِ، وَالَّذِي يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْإِبَاءُ مِنَ السُّجُودِ. وَالْخِلَافُ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ هُوَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَمَذْهَبُ
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ١.
(٢) سورة التحريم: ٦٦/ ٦.
(٣) سورة الكهف: ١٨/ ٥٠.
248
الْكِسَائِيُّ أَنَّ التَّخْرِيجَ مِنَ الِاسْمِ، وَأَنَّ زَيْدًا غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِقِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَامَ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَائِمٍ. وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْقَوْلِ، وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا، وَهُوَ أَنَّ الِاسْمَ مُسْتَثْنًى مِنَ الِاسْمِ وَأَنَّ الْفِعْلَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْفِعْلِ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَمَفْعُولُ أَبَى مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابَهُ عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ معاقله
وَالتَّقْدِيرُ: أَبَى السُّجُودَ، وَأَبَى مِنَ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا النَّفْيُ، وَلِهَذَا يُفَرَّغُ مَا بَعْدَ إِلَّا كَمَا يُفَرَّغُ لِفِعْلِ الْمَنْفِيِّ، قَالَ تَعَالَى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ «١»، وَلَا يَجُوزُ:
ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا لِأَنَّ إِلَّا لَا تَدْخُلُ فِي الْوَاجِبِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَى اللَّهُ إِلَّا عَدْلَهُ وَوَفَاءَهُ فَلَا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ وَلَا الْعُرْفُ ضَائِعُ
وَأَبَى زَيْدٌ الظُّلْمَ: أَبْلَغُ مِنْ لَمْ يَظْلِمْ، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّخْصِ قَدْ يَكُونُ لِعَجْزٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: أَبَى زَيْدٌ كَذَا، دَلَّ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ عَلَى طَرِيقِ الِامْتِنَاعِ وَالْأَنَفَةِ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبى، لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ إِبْلِيسَ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ تَخَلُّفُهُ عَنِ السُّجُودِ لِأَمْرٍ غَيْرِ الْإِبَاءِ، فَنَصَّ عَلَى سَبَبِ كَوْنِهِ لَمْ يَسْجُدْ وَهُوَ الْإِبَاءُ وَالْأَنَفَةُ.
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قِيلَ: كَانَ بِمَعْنَى صَارَ، وَقِيلَ: عَلَى بَابِهَا أَيْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِاللَّهِ قَبْلَ كُفْرِهِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سَيَكُونُ مِنَ الْكَافِرِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مِنَ الْعَاصِينَ، وَصِلَةُ أَلْ هُنَا ظَاهِرُهَا الْمَاضِي، فَيَكُونُ قَدْ سَبَقَ إِبْلِيسَ كُفَّارٌ، وَهُمُ الْجِنُّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ يَكُونُ إِبْلِيسُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ مُطْلَقًا، إِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَانَ كُفَّارٌ قَبْلَهُ، وَإِنْ صَحَّ، فَيُفِيدُ أَوَّلَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، أَوْ يُرَادُ الْكُفْرُ الَّذِي هُوَ التَّغْطِيَةُ لِلْحَقِّ، وَكَفَرَ إِبْلِيسُ قِيلَ: جَهِلَ سَلَبَهُ اللَّهُ مَا كَانَ وَهَبَهُ مِنَ الْعِلْمِ، فَخَالَفَ الْأَمْرَ وَنَزَعَ يَدَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: كُفْرُ عِنَادٍ وَلَمْ يُسْلَبِ الْعِلْمَ بَلْ كَانَ الْكِبْرُ مَانِعَهُ مِنَ السُّجُودِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْكُفْرُ عِنَادًا مَعَ بَقَاءِ الْعِلْمِ مُسْتَبْعَدٌ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدِي جَائِزٌ لَا يَسْتَحِيلُ مَعَ خَذْلِ اللَّهِ لِمَنْ شَاءَ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَوَازُهُ وَاقِعٌ بِالْفِعْلِ. هَذَا فِرْعَوْنُ كَانَ عَالِمًا بوحدانية الله وربوبيته
(١) سورة التوبة: ٩/ ٣٢.
249
دُونَ غَيْرِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ حَمَلَهُ حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَالْإِعْجَابُ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْمُلْكِ، فَادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ مَعَ عِلْمِهِ. وَأَبُو جَهْلٍ، كَانَ يَتَحَقَّقُ رِسَالَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ، وَأَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ. وَكَذَلِكَ الْأَخْنَسُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ كَفَرَ عِنَادًا، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِ الرُّسُلِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْكُفَّارَ إِلَى كَافِرٍ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، كَالدَّهْرِيَّةِ وَالْمُنْكِرِينَ رِسَالَةَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَكَافِرٌ بِقَلْبِهِ مُؤْمِنٌ بِلِسَانِهِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمُؤْمِنٌ بِقَلْبِهِ كَافِرٌ بِلِسَانِهِ، كَفِرْعَوْنَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فَلَا يُنْكَرُ الْكُفْرُ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُنَافِقٌ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَإِنَّمَا كَفَرَ لِاسْتِكْبَارِهِ وَاعْتِقَادِ كَوْنِهِ مُحِقًّا فِي ذَلِكَ التَّمَرُّدِ، وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ «١». قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ مُدَّةً فِي دَلَالِ طَاعَتِهِ يَخْتَالُ فِي مُرَادِ مُوَافَقَتِهِ، سَلَّمُوا لَهُ رُتْبَةَ التَّقَدُّمِ وَاعْتَقَدُوا فِيهِ اسْتِحْقَاقَ التَّخَصُّصِ، فَصَارَ أَمْرُهُ كَمَا قِيلَ:
وَكَانَ سِرَاجَ الْوَصْلِ أَزْهَرَ بَيْنَنَا فَهَبَّتْ بِهِ رِيحٌ مِنَ الْبَيْنِ فَانْطَفَا
سُئِلَ أَبُو الْفُتُوحِ أَحْمَدُ، أَخُو أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ عَنْ إِبْلِيسَ فَقَالَ: لَمْ يَدْرِ ذَلِكَ الْمِسْكِينُ أَنَّ أَظَافِيرَ الْقَضَاءِ إِذَا حَكَّتْ أَدْمَتْ وَقِسِيَّ الْقَدَرِ إِذَا رَمَتْ أَصَمَّتْ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
وَكُنَّا وَلَيْلَى فِي صُعُودٍ مِنَ الْهَوَى فَلَمَّا تَوَافَيْنَا ثَبَتُّ وَزَلَّتِ
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٥]
وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
اسْكُنْ، أَقِمْ، وَمَصْدَرُهُ السُّكْنَى كَالرُّجْعَى، وَالْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى السُّكُونِ، وَهُوَ عَدَمُ الْحَرَكَةِ. وَكَانَ السَّاكِنُ فِي الْمَكَانِ لِلُبْثِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ فِيهِ غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمَاكِنِ. رَغَدًا: أَيْ وَاسِعًا كثير الاعناء فِيهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمًا يَأْمَنُ الْأَحْدَاثَ فِي عَيْشٍ رَغَدْ
وَتَمِيمٌ تُسَكِّنُ الْغَيْنَ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ ثُلَاثِيٍّ حَلْقِيِّ الْعَيْنِ صَحِيحِ اللَّامِ يَجُوزُ فِيهِ تَحْرِيكُ عَيْنِهِ وَتَسْكِينُهَا، مِثْلَ: بَحْرٍ وَبَحَرٍ، وَنَهْرٍ وَنَهَرٍ، فَأُطْلِقَ هَذَا الْإِطْلَاقُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مَا وُضِعَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فَعَلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّسْكِينُ نَحْوَ: السحر
(١) سورة ص: ٣٨/ ٧٦.
250
لَا يُقَالُ فِيهِ السَّحْرُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي فَعْلٍ الْمَفْتُوحِ الْفَاءِ السَّاكِنِ الْعَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ.
ذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ فَتْحَ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا وُضِعَ عَلَى لُغَتَيْنِ، لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَصْلٌ لِلْآخَرِ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُ ذُو لُغَتَيْنِ، وَبَعْضَهُ أَصْلُهُ التَّسْكِينُ ثُمَّ فُتِحَ. وَقَدِ اخْتَارَ أَبُو الْفَتْحِ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ، وَالِاسْتِدْلَالُ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. حَيْثُ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُبْهَمٍ لَازِمُ الظَّرْفِيَّةِ، وَجَاءَ جَرُّهُ بِمِنْ كَثِيرًا وَبِفِي، وَإِضَافَةُ لَدَى إِلَيْهِ قَلِيلًا، وَلِإِضَافَتِهَا لَا يَنْعَقِدُ مِنْهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا كَلَامٌ، وَلَا يَكُونُ ظَرْفَ زَمَانٍ خِلَافًا لِلْأَخْفَشِ، وَلَا تَرْفَعُ اسْمَيْنِ نَائِبَةً عَنْ ظَرْفَيْنِ، نَحْوَ: زِيدٌ حَيْثُ عُمَرَ، وَخِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، وَلَا يُجْزَمُ بِهَا دُونَ مَا خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ، وَلَا تُضَافُ إِلَى الْمُفْرَدِ خِلَافًا لِلْكِسَائِيِّ، وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ حَكَمْنَا بِشُذُوذِهِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ وَتُعْتَقَبُ عَلَى آخِرِهَا الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ، وَيَجُوزُ: حَوْثَ، بِالْوَاوِ وبالحركات الثلاثة. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ إِعْرَابَهَا لُغَةُ بَنِي فَقْعَسٍ. الْقُرْبَانُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ الدُّنُوُّ مِنَ الشَّيْءِ. هَذِهِ: تُكْسَرُ الْهَاءُ بِاخْتِلَاسٍ وَإِشْبَاعٍ، وَتُسَكَّنُ، وَيُقَالُ: هَذِي بِالْيَاءِ، وَالْهَاءِ فِيمَا ذكروا بدل مِنْهَا، وَقَالُوا: ذِ بِكَسْرِ الذَّالِ بِغَيْرِ يَاءٍ وَلَا هَاءٍ، وَهِيَ تَأْنِيثُ ذَا، وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا التَّاءَ لِتَأْنِيثِ ذَا فَقَالُوا ذَاتِ مَبْنِيَّةً عَلَى الْكَسْرِ. الشَّجَرَةَ: بِفَتْحِ الشِّينِ وَالْجِيمِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ تَكْسِرُ الشِّينَ، وَإِبْدَالُ الْجِيمِ يَاءً مَعَ كَسْرِ الشِّينِ وَفَتْحِهَا مَنْقُولٌ، وَخَالَفَ أَبُو الْفَتْحِ فِي كَوْنِ الْيَاءِ بَدَلًا، وَقَدْ أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي تَأْلِيفِنَا (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ).
وَالشَّجَرُ: مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ، وَالنَّجْمُ: مَا نَجَمَ وَانْبَسَطَ عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ سَاقٌ. الظُّلْمُ:
أَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الشِّرْكِ، وَعَلَى الْجَحْدِ، وَعَلَى النَّقْصِ.
وَالْمَظْلُومَةُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ تُمْطَرْ، وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إلى النقص.
وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ الْآيَةَ: لَمْ يُؤْثَرْ فِيهَا سَبَبُ نُزُولٍ سَمْعِيٌّ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا شَرَّفَ آدَمَ بِرُتْبَةِ الْعِلْمِ وَبِإِسْجَادِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ، امْتَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ أَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ دَارُ النَّعِيمِ. أَبَاحَ لَهُ جَمِيعَ مَا فِيهَا إِلَّا الشَّجَرَةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِيهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقُلْنَا: مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا: لَا عَلَى قُلْنَا وَحْدَهُ لِاخْتِلَافِ زَمَانَيْهِمَا، وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ الْمُنَادَى وَمَا بَعْدَهُ، وَفَائِدَةُ النِّدَاءِ تَنْبِيهُ الْمَأْمُورِ له يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَتَحْرِيكُهُ لِمَا يُخَاطَبُ بِهِ، إِذْ هُوَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ لَهَا الْبَالُ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ. قَالُوا: وَمَعْنَى الْأَمْرِ هُنَا إِبَاحَةُ السُّكْنَى وَالْإِذْنُ فِيهَا، مِثْلُ:
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «١»، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «٢»، لأن الاستقرار
(١) سورة المائدة: ٥/ ٢.
(٢) سورة الجمعة: ٦٢/ ١٠.
251
فِي الْمَوَاضِعِ الطَّيِّبَةِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ التَّعَبُّدِ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرُ وُجُوبٍ وَتَكْلِيفٍ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ، وَبِأَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَنَهَاهُ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّكْنَى وَمَا بَعْدَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ إِبَاحَةٌ، وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِجَمِيعِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى مَا هُوَ تَكْلِيفٌ، وَهُوَ مَنْعُهُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا نُهِى عَنْهُ. وَأَنْتَ: تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اسْكُنْ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَسْتَكِنُ فِيهَا الضَّمِيرُ وُجُوبًا. وَزَوْجُكَ: مَعْطُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ، وَحَسَّنَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ تَأْكِيدُهُ بِأَنْتَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ دُونَ تَأْكِيدٍ أَوْ فَصْلٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّأْكِيدِ، أَوْ فَصْلٍ بِلَا بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ، وَمَا سوى ذلك ضرورة وشاذ. وَقَدْ رُوِيَ: قُمْ وَزَيْدٌ، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ الْعَطْفَ عَلَى ذَلِكَ الضَّمِيرِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ وَلَا فَصْلٍ.
وَتَظَافَرَتْ نُصُوصُ النَّحْوِيِّينَ وَالْمُعْرِبِينَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ وَزَوْجُكَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي اسْكُنْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، التَّقْدِيرُ: وَلْتُسْكِنْ زَوْجَكَ، وَحَذَفَ: وَلْتُسْكِنْ، لِدَلَالَةِ اسْكُنْ عَلَيْهِ، وَأَتَى بِنَظَائِرَ مِنْ هَذَا الْبَابِ نَحْوَ: لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَنَحْوَ: تَقُومُ أَنْتَ وَزَيْدٌ، وَنَحْوَ: ادْخُلُوا أَوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ، وَقَوْلُهُ:
نَطُوفُ مَا نَطُوفُ ثُمَّ يَأْوِي ذَوُو الْأَمْوَالِ مِنَّا وَالْعَدِيمُ
إِذَا أَعْرَبْنَاهُ بَدَلًا لَا تَوْكِيدًا، هُوَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، فَتَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ، وَلَا تُخْلِفُهُ أَنْتَ، وَيَقُومُ زَيْدٌ، وَلْيَدْخُلْ أَوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ، وَيَأْوِي ذَوُو الْأَمْوَالِ. وَزَعَمَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ ذَلِكَ مِنْ نَصِّ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ بَلْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْعَطْفِ فِي كِتَابِهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا مَا يَقْبُحُ أَنْ يُشْرِكَهُ الْمُظْهَرُ فَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ، وَذَلِكَ فَعَلْتُ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأَفْعَلُ وَعَبْدُ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعْلِيلَ الْخَلِيلِ لِقُبْحِهِ، ثم قال: فإن نَعْتُهُ حَسَنٌ أَنْ يُشْرِكَهُ الْمُظْهَرُ، وَذَلِكَ قَوْلُكَ: ذَهَبْتَ أَنْتَ وَزَيْدٌ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «١» واسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، انْتَهَى.
فَهَذَا نَصٌّ مِنْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ عَطَفَ الْمُظْهَرَ عَلَى الْمُضْمَرِ، وَقَدْ أَجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى جَوَازِ: تَقُومُ عَائِشَةٌ وَزَيْدٌ، وَلَا يُمْكِنُ لِزَيْدٍ أَنْ يُبَاشِرَ الْعَامِلَ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ هَذَا مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ. وَلِتَكْمِيلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَكَانٌ غَيْرُ هَذَا، وَتَوَجُّهُ الْأَمْرِ بِالسُّكْنَى عَلَى زَوْجِ آدَمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ
(١) سورة المائدة: ٥/ ٢٤.
252
وَقْتِ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْأَسْمَاءَ وَأَنْبَأَهُمْ هُوَ إِيَّاهَا. نَامَ نَوْمَةً فَخُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَقْصَرِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَأَكْثَرُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ أَنَّهَا خُلِقَتْ بَعْدَ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ. اسْتَوْحَشَ بَعْدَ لَعْنِ إِبْلِيسَ وَإِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ فَوَجَدَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ قَدْ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَيْسَرِ، فَسَأَلَهَا: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: امْرَأَةٌ، قَالَ: وَلِمَ خُلِقْتِ؟ قَالَتْ: تَسْكُنُ إِلَيَّ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ، يَنْظُرُونَ مَبْلَغَ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا؟ قَالَ: حَوَّاءُ. قَالُوا: لَمْ سُمِّيَتْ حَوَّاءَ؟ قَالَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ زِيَادَاتٌ ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا مَدْلُولُ الْآيَةِ وَلَا تَفْسِيرُهَا.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ عَلَى الْمَعْدُومِ، لِأَنَّهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مَوْجُودٌ، وَيَكُونُ آدَمُ قَدْ سَكَنَ الْجَنَّةَ لَمَّا خُلِقَتْ أُمِرَا مَعًا بِالسُّكْنَى، لِتَسْكُنَ قُلُوبُهُمْ وتطمئن بالقرآن فِي الْجَنَّةِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَحْكَامِ السُّكْنَى، وَالْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى، وَذُكِرَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَاخْتِلَافُهُمْ حِينَ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ.
الْجَنَّةَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: كَانَتْ فِي الْأَرْضِ، قِيلَ:
بِأَرْضِ عَدْنٍ. وَالْهُبُوطُ: الِانْتِقَالُ مِنْ بُقْعَةٍ إِلَى بُقْعَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً «١»، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَارَ الْخُلْدِ لَمَا لَحِقَهُ الْغُرُورُ مِنْ إِبْلِيسَ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ «٢»، وَلِأَنَّ مَنْ دَخَلَ هَذِهِ الْجَنَّةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «٣»، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ مَلْعُونٌ، فَلَا يَصِلُ إِلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ، وَلِأَنَّ دَارَ الثَّوَابَ لَا يَفْنَى نَعِيمُهَا لِقَوْلِهِ: أُكُلُها دائِمٌ «٤»، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يبتدىء الخلق في جنة يخلدهم، وَلِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ فِي الْأَرْضِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ. وَلَوْ كَانَ نَقَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ لَكَانَ أَوْلَى بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: كَانَتْ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ لِقَوْلِهِ:
اهْبِطُوا، ثُمَّ الْهُبُوطُ الْأَوَّلُ كَانَ مِنْ تِلْكَ السَّمَاءِ إِلَى السَّمَاءِ الْأُولَى، وَالْهُبُوطُ الثَّانِي كَانَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَتِ الْجُمْهُورُ: هِيَ فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ دَارُ الثَّوَابِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْجَنَّةِ لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، لِأَنَّ سُكْنَى جَمِيعِ الْجِنَانِ مُحَالٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَالْمَعْهُودُ دَارُ الثَّوَابُ، وَلِأَنَّهُ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي مَحَاجَّةِ آدَمَ مُوسَى فَقَالَ لَهُ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَشْقَيْتَ بَنِيكَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَلَمْ يُنَازِعْهُ آدَمُ فِي ذَلِكَ.
وَقِيلَ: هِيَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٦١.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ١٢٠.
(٣) سورة الحجر: ١٥/ ٤٨.
(٤) سورة الرعد: ١٣/ ٣٥.
253
السَّمَاءُ وَلَيْسَتْ دَارَ الثَّوَابِ، بَلْ هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ. وَقِيلَ: فِي السَّمَاءِ جَنَّةٌ غَيْرُ دَارِ الثَّوَابِ وَغَيْرُ جَنَّةِ الْخُلْدِ. وَرُدَّ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا بُسْتَانٌ فِي السَّمَاءِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ فِي السَّمَاءِ بَسَاتِينَ غَيْرَ بَسَاتِينِ الْجَنَّةِ. وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا فِي الْأَرْضِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «١» ولا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «٢»، وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «٣». وَقَدْ لَغَا إِبْلِيسُ فِيهَا وَكَذَبَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَارَ الْخُلْدِ لَمَا وَصَلَ إِلَيْهَا إِبْلِيسُ وَوَسْوَسَ لَهُمَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا، وَلِأَنَّ جَنَّةَ الْخُلْدِ دَارُ نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ وَلَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ. وَقَدْ تكلف آدَمُ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ نَارِ السَّمُومِ. وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ الْكُفَّارِ الَّذِينَ طُرِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَتْ جنة الخلد لما دخلتها، وَلِأَنَّهَا مَحَلُّ تَطْهِيرٍ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا الْعِصْيَانُ وَالْمُخَالَفَةُ وَيَحِلَّ بِهَا غَيْرُ الْمُطَهَّرِينَ؟.
وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَاتِ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالِهِمْ بَعْدَ دُخُولِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْخُلُودِ، لَا عَلَى دُخُولِهِمْ على سبيل المرور والجوار. فَقَدْ صَحَّ دُخُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَنَّةَ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ وَفِي غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ رَآهَا فِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ. وَأَمَّا دُخُولُ إِبْلِيسَ إِلَيْهَا فدخول تسليط تَكْرِيمٍ، وَذَلِكَ إِنْ صَحَّ قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ بَلْ وَقَفَ عَلَى بَابِهَا وَكَلَّمَهُمَا، وَأَرَادَ الدُّخُولَ فَرَدَّتْهُ الْخَزَنَةُ، وَقِيلَ: دَخَلَ فِي جَوْفِ الْحَيَّةِ مُسْتَتِرًا. وَأَمَّا كَوْنُهَا لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ، فَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهَا لِلْإِقَامَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ وَالْجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَأَمَّا الدُّخُولُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْخُرُوجُ بِسَبَبِ الْمُخَالَفَةِ، فَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ بَلْ لَا يَكُونُ خَالِيًا مِنْهُ.
وَكُلا: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لَهُمَا بَعْدَ وُجُودِ حَوَّاءَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ لِلْمَعْدُومِ فِيهِ بُعْدٌ، إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، وَالْأَصْلُ فِي: كُلْ أُؤْكُلْ. الْهَمْزَةُ الْأُولَى هِيَ الْمُجْتَلَبَةُ لِلْوَصْلِ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، فَحُذِفَتِ الثَّانِيَةُ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ حَذْفَ شُذُوذٍ، فَوَلِيَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ الْكَافَ، وَهِيَ مُتَحَرِّكَةٌ، وَإِنَّمَا اجْتُلِبَتْ لِلسَّاكِنِ، فَلَمَّا زَالَ مُوجِبُ اجْتِلَابِهَا زَالَتْ هِيَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: وَحُذِفَتِ النُّونُ مِنْ كُلَا لِلْأَمْرِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَيْسَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّ فِعْلَ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرٌ بَارِزٌ كَانَتْ حَرَكَةُ آخِرِهِ مُنَاسِبَةٌ لِلضَّمِيرِ، فَتَقُولُ: كُلِي، وَكُلَا، وَكُلُوا، وَفِي الْإِنَاثِ
(١) سورة الواقعة: ٥٦/ ٢٥- ٢٦.
(٢) سورة الطور: ٥٢/ ٢٣. [.....]
(٣) سورة الحجر: ١٥/ ٤٨.
254
يَبْقَى سَاكِنًا نَحْوَ: كُلْنَ. وَلِلْمُعْتَلِّ حُكْمٌ غَيْرُ هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَقَوْلُهُ: وَكُلَا، لَمْ تَكُنْ فِيهِ نُونٌ فَتُحْذَفُ لِلْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ فِعْلَ الْأَمْرِ مُعْرَبٌ، وَأَنَّ أَصْلَ: كُلْ لِتَأْكُلَ، ثُمَّ عَرَضَ فِيهِ مِنَ الْحَذْفِ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ صَارَ: كُلْ.
فَأَصْلُ كُلَا: لِتَأْكُلَا، وَكَانَ قَبْلَ دُخُولِ لَامِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ فِيهِ نُونٌ، إِذْ كَانَ أَصْلُهُ: تَأْكُلَانِ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ يَتِمُّ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إِنَّ النُّونَ مِنْ كُلَا حُذِفَتْ لِلْأَمْرِ.
مِنْها: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ، وَالْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ مَطَاعِمِهَا، مِنْ ثِمَارِهَا وَغَيْرِهَا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَكْلِ لَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْسِعَةِ، إِذْ لَمْ يُحْظَرُ عَلَيْهِمَا أَكْلٌ مَا، إِذْ قَالَ: رَغَداً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ الْغَيْنِ. وقرأ إبراهيم النخعي وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: بِسُكُونِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَانْتِصَابُ رَغَدًا، قَالُوا: عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ محذوف تقديره أَكْلًا رَغَدًا. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَفِي كِلَا الْإِعْرَابَيْنِ نَظَرٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ يُخَالِفُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ، وَمَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ جَعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّغَدُ الْكَثِيرُ الَّذِي لا يعنيك، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْوَاسِعُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الَّذِي لَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: السَّالِمُ مِنَ الْإِنْكَارِ الْهَنِيُّ، يُقَالُ: رَغِدَ عَيْشُ الْقَوْمِ، وَرَغُدَ، بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا، إِذَا كَانُوا فِي رِزْقٍ وَاسِعٍ كَثِيرٍ، وَأَرْغَدَ الْقَوْمُ: أَخْصَبُوا وَصَارُوا فِي رَغَدٍ مِنَ الْعَيْشِ. وَقَالُوا عِيشَةٌ رَغْدٌ بِالسُّكُونِ أَيْضًا.
حَيْثُ شِئْتُما: أَبَاحَ لَهُمَا الْأَكْلَ حَيْثُ شَاءَا فَلَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِمَا مَكَانًا مِنْ أَمَاكِنِ الْجَنَّةِ، كَمَا لَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِمَا مَأْكُولًا إِلَّا مَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ. وشاء فِي وَزْنِهِ خِلَافٌ، فَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ وَزْنَهُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الشِّينِ فَسُكِّنَتْ، وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ لِلضَّمِيرِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ، فَحُذِفَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَكُسِرَتِ الشِّينُ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ يَاءٌ، كَمَا صُنِعَتْ فِي بِعْتُ.
وَلا تَقْرَبا: نَهَاهُمَا عَنِ الْقُرْبَانِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الْأَكْلِ، لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنِ الْقُرْبَانِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَكْلُ مِنْهَا؟ وَالْمَعْنَى: لَا تَقْرَبَاهَا بِالْأَكْلِ، لَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَقَعَتْ فِي الْأَكْلِ. وَحَكَى بَعْضُ مَنْ عَاصَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، يَعْنِي الماضي أَبَا بَكْرٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ يَقُولُ: إِذَا قُلْتَ: لَا تَقْرَبْ، بِفَتْحِ الراء معناه:
لا تلبس بِالْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ معنى: لا تقرب زيد:
ألا تَدْنُ مِنْهُ. وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ التَّخْلِيطِ مَا يُتَعَجَّبُ مِنْ حَاكِيهَا، وَهُوَ
255
قَوْلُهُ: سَمِعْتُ الشَّاشِيَّ فِي مَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ، وَبَيْنَ النَّضْرِ وَالشَّاشِيِّ مِنَ السِّنِينَ مِئُونٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ ثَمَّ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بِمَجْلِسِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ فيمكن. وقرىء: وَلَا تِقْرَبَا بِكَسْرِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ عَنِ الْحِجَازِيِّينَ فِي فَعَلَ يَفْعَلُ، يَكْسِرُونَ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ التَّاءَ وَالْهَمْزَةَ وَالنُّونَ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَكْسِرُ الْيَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْسِرُهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ: يوحل، وكاسر، وَفَاتِحٌ، مَعَ إِقْرَارِ الْوَاوِ وَقَلْبِهَا أَلِفًا. هذِهِ: إِشَارَةٌ لِلْحَاضِرِ الْقَرِيبِ مِنَ الْمُخَاطَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: هَذِيِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْهَاءِ.
الشَّجَرَةَ: نَعْتٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيُحْتَمَلُ الْإِشَارَةُ أَنْ تَكُونَ إِلَى جِنْسٍ مِنَ الشَّجَرِ مَعْلُومٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ إِلَى شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِنْسِ الْمَعْلُومِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لِشَخْصِ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس وابن جُبَيْرٍ وَجَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ: هِيَ الْكَرْمُ، وَلِذَلِكَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ: السُّنْبُلَةُ، وَكَانَ حَبُّهَا كَكُلَى الْبَقَرِ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ وَهْبٍ. وَلَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ جَعَلَهَا غِذَاءً لِبَنِيهِ. قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَقَتَادَةُ: التِّينُ،
وَقَالَ عَلِيٌّ: شَجَرَةُ الْكَافُورِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: شَجَرَةُ الْعِلْمِ، عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا عَلِمَ الْخَيْرِ وَالشَّرَّ. وَقَالَ وَهْبٌ:
شَجَرَةُ الْخُلْدِ، تَأْكُلُ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: شَجَرَةٌ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ: شَجَرَةُ الْحَنْظَلِ. وقال أبو مالك: النخلة. وَقِيلَ: شَجَرَةُ الْمِحْنَةِ.
وَقِيلَ: شَجَرَةٌ لَمْ يُعْلِمْنَا اللَّهُ مَا هِيَ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِعِرْفَانِهَا كَبِيرُ أَمْرٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ إِعْلَامُنَا أَنَّ فِعْلَ ما نهينا عنه سبب للعقوبة. وقرىء: الشِّجَرَةَ بِكَسْرِ الشِّينِ، حَكَاهَا هَارُونُ الْأَعْوَرُ عَنْ بَعْضِ القراء. وقرىء أَيْضًا الشِّيَرَةَ، بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا، وَكَرِهَ أَبُو عَمْرٍو هَذِهِ الْقِرَاءَةَ وَقَالَ: يَقْرَأُ بِهَا بَرَابِرُ مَكَّةَ وَسُودَانُهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْرَهَهَا، لِأَنَّهَا لُغَةٌ مَنْقُولَةٌ، فِيهَا قَالَ الرِّيَاشِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا زَيْدٍ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ الْمُفَضَّلِ وَعِنْدَهُ أَعْرَابٌ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ شِيَرَةٌ، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ لَهُمْ يُصَغِّرُونَهَا، فَقَالُوا شُيَيْرَةٌ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ:
نَحْسَبُهُ بَيْنَ الْأَنَامِ شِيَرَهْ وَفِي نَهْيِ اللَّهِ آدَمَ وَزَوْجَهُ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُكْنَاهُمَا فِي الْجَنَّةِ لَا تَدُومُ، لِأَنَّ الْمُخَلَّدَ لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى وَلَا يُمْنَعُ مِنْ شَيْءٍ. فَتَكُونَا مَنْصُوبُ جَوَابِ النَّهْيِ، وَنَصْبُهُ عِنْدَ سيبويه والبصريين بأن مُضْمَرَةٍ بَعْدَ الْفَاءِ، وَعِنْدَ الْجَرْمِيِّ بِالْفَاءِ نَفْسِهَا، وَعِنْدَ
256
الْكُوفِيِّينَ بِالْخِلَافِ. وَتَحْرِيرُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ يُذْكَرُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ فَتَكُونَا مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى تَقْرَبَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَقُلْتُ لَهُ صَوِّبْ وَلَا تَجْهَدَنَّهُ فَيَذَرْكَ مِنْ أَعْلَى الْقَطَاةِ فَتَزْلَقِ
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِظُهُورِ السَّبَبِيَّةِ، وَالْعَطْفُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، مِنَ الظَّالِمِينَ: قِيلَ لِأَنْفُسِكُمَا بِإِخْرَاجِكُمَا مِنْ دَارِ النَّعِيمِ إِلَى دَارِ الشَّقَاءِ، أَوْ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيتُمَا عَنْهَا، أَوْ بِالْفَضِيحَةِ بَيْنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، أَوْ بِمُتَابَعَةِ إِبْلِيسَ، أَوْ بِفِعْلِ الْكَبِيرَةِ، قَالَهُ الْحَشَوِيَّةُ، أَوْ بِفِعْلِ الصَّغِيرَةِ، قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ بِإِلْزَامِهَا مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّلَافِي، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، أَوْ بِحَطِّ بَعْضِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ، قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ، أَوْ بِتَرْكِ الْأَوْلَى، قَالَ قَوْمٌ: هُمَا أَوَّلُ مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ قَبْلَهُمْ ظَالِمُونَ شُبِّهُوا بِهِمْ وَنُسِبُوا إِلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ لَا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، لِأَنَّ تَارِكَهُ لَا يُسَمَّى ظَالِمًا. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ: الَّذِي يَلِيقُ بِالْخَلْقِ عَدَمُ السُّكُونِ إِلَى الْخَلْقِ، وَمَا زَالَ آدَمُ وَحْدَهُ بِكُلِّ خَيْرٍ وَبِكُلِّ عَافِيَةٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ الشَّكْلُ وَالزَّوْجُ، ظَهَرَ إِتْيَانُ الْفِتْنَةِ وَافْتِتَاحُ بَابِ الْمِحْنَةِ، وَحِينَ سَاكَنَ حَوَّاءَ أَطَاعَهَا فِيمَا أَشَارَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ، فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ. وَلَقَدْ قِيلَ:
دَاءٌ قَدِيمٌ فِي بَنِي آدَمَ صَبْوَةُ إِنْسَانٍ بِإِنْسَانٍ
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: كُلُّ مَا مُنِعَ مِنْهُ تَوَفَّرَتْ دَوَاعِي ابْنِ آدَمَ لِلِاقْتِرَابِ مِنْهُ. هَذَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُبِيحَ لَهُ الْجَنَّةُ بِجُمْلَتِهَا، وَنُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَيْسَ فِي الْمَنْقُولِ أَنَّهُ مَدَّ يَدَهُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُبِيحَ لَهُ، وَكَأَنَّهُ عِيلَ صَبْرُهُ حَتَّى ذَاقَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، هَكَذَا صِفَةُ الْخَلْقِ.
وَقَالَ: نَبَّهَ عَلَى عَاقِبَةِ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ مِنِ ارْتِكَابِهِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَإِذَا أَخْبَرَ تَعَالَى بِجَعْلِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ فِي الْجَنَّةِ؟ كَانَ آدَمُ لَا أَحَدَ يُوَفِّيهِ فِي الرُّتْبَةِ يَتَوَالَى عَلَيْهِ النِّدَاءُ: يَا آدَمُ! وَيَا آدَمُ! فَأَمْسَى وَقَدْ نُزِعَ عَنْهُ لِبَاسُهُ وَسُلِبَ اسْتِئْنَاسُهُ، وَالْقُدْرَةُ لَا تُكَابَرُ، وَحُكْمُ اللَّهِ لَا يُعَارَضُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لِلَّهِ دَرِّهِمْ مِنْ فِتْيَةٍ بَكَّرُوا مِثْلَ الْمُلُوكِ وَرَاحُوا كالمساكين
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
257
أَزَلَّ: مِنَ الزَّلَلِ، وَهُوَ عُثُورُ الْقَدَمِ. يُقَالُ: زَلَّتْ قَدَمُهُ، وَزَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ. وَالزَّلَلُ فِي الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ مَجَازٌ، وَأَزَالَ: مِنَ الزَّوَالِ، وَأَصْلُهُ التَّنْحِيَةُ. وَالْهَمْزَةُ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ لِلتَّعْدِيَةِ.
الْهُبُوطُ: هُوَ النُّزُولُ، مَصْدَرُ هَبَطَ، وَمُضَارِعُهُ يَهْبِطُ وَيَهْبُطُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا، وَالْهَبُوطُ بِالْفَتْحِ: مَوْضِعُ النُّزُولِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: الْهَبُوطُ: الْخُرُوجُ عَنِ الْبَلْدَةِ، وَهُوَ أَيْضًا الدُّخُولُ فِيهَا مِنَ الْأَضْدَادِ، وَيُقَالُ فِي انْحِطَاطِ الْمَنْزِلَةِ مَجَازًا، وَلِهَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَبُوطُ: الذُّلُّ، قال لبيد:
إن يقنطوا يُهْبَطُوا يَوْمًا وَإِنْ أَمِرُوا بَعْضٌ: أَصْلُهُ مَصْدَرُ بَعَضَ يَبْعَضُ بَعْضًا، أَيْ قَطَعَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْجُزْءِ، وَيُقَابِلُهُ كُلُّ، وَهُمَا مَعْرِفَتَانِ لِصُدُورِ الْحَالِ مِنْهُمَا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، قَالُوا: مَرَرْتُ بِبَعْضٍ قَائِمًا، وَبِكُلٍّ جَالِسًا، وَيُنْوَى فِيهِمَا الْإِضَافَةُ، فَلِذَلِكَ لَا تَدْخُلَ عَلَيْهِمَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ، ولذلك خطئوا أَبَا الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيَّ فِي قَوْلِهِ: وَيُبْدَلُ الْبَعْضُ مِنَ الْكُلِّ، وَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضٍ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ جَمْعٌ مُفْرَدًا وَمَجْمُوعًا. وَكَذَلِكَ الْخَبَرُ وَالْحَالُ وَالْوَصْفُ يَجُوزُ إِفْرَادُهُ إِذْ ذَاكَ وَجَمْعُهُ.
الْعَدُوُّ: مِنَ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، يُقَالُ: عَدَا فُلَانٌ طَوْرَهُ إِذَا جَاوَزَهُ، وَقِيلَ:
الْعَدَاوَةُ، التَّبَاعُدُ بِالْقُلُوبِ مِنْ عُدْوَيِ الْجَبَلِ، وَهُمَا طَرَفَاهُ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: مِنْ عَدَا: أَيْ ظَلَمَ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. وَالْعَدُوُّ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَقَدْ جُمِعَ فَقِيلَ: أَعْدَاءٌ، وَقَدْ أُنِّثَ فقالوا: غدوة، وَمِنْهُ: أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَتِ الْعَرَبُ لِلْمَرْأَةِ: عَدُوَّةُ اللَّهِ، وَطَرَحَ بَعْضُهُمُ الْهَاءَ.
الْمُسْتَقَرُّ: مُسْتَفْعَلٌ مِنَ الْقَرَارِ، وَهُوَ اللُّبْثُ وَالْإِقَامَةُ، وَيَكُونُ مَصْدَرًا وَزَمَانًا وَمَكَانًا لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلٍ زَائِدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفِ، فَيَكُونُ لِمَا ذُكِرَ بِصُورَةِ الْمَفْعُولَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْأَرْضُ:
الْقَرَارَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ
وَاسْتَفْعَلَ فِيهِ: بِمَعْنَى فَعَلَ اسْتَقَرَّ وَقَرَّ بِمَعْنًى. الْمَتَاعُ: الْبُلْغَةُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَتَعَ
258
النَّهَارُ إِذَا ارْتَفَعَ، فَيَنْطَلِقُ عَلَى مَا يَتَحَصَّلُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الزَّادِ وَعَلَى الِانْتِفَاعِ بِالنِّسَاءِ، وَمِنْهُ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ «١»، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ، وَعَلَى الْكُسْوَةِ، وَمَتِّعُوهُنَّ «٢»، وَعَلَى التَّعْمِيرِ، يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً «٣»، قَالُوا: وَمِنْهُ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ، أَيْ أَطَالَ اللَّهُ الْإِينَاسَ بِكَ، وَكُلُّهُ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْبُلْغَةِ، الْحِينُ: الْوَقْتُ وَالزَّمَانُ، وَلَا يَتَخَصَّصُ بِمُدَّةٍ، بَلْ وُضِعَ الْمُطْلَقُ مِنْهُ. تلقى: تفعل من اللقاء، نَحْوَ تَعَدَّى مِنَ الْعَدْوِ، قَالُوا: أَوْ بِمَعْنَى اسْتَقْبَلَ، وَمِنْهُ: تَلَقَّى فُلَانٌ فُلَانًا اسْتَقْبَلَهُ. وَيَتَلَقَّى الْوَحْيَ: أَيْ يَسْتَقْبِلُهُ وَيَأْخُذُهُ وَيَتَلَقَّفُهُ، وَخَرَجْنَا نَتَلَقَّى الْحَجِيجَ: نَسْتَقْبِلُهُمْ، وَقَالَ الشَّمَّاخُ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِالْيَمِينِ
وَقَالَ الْقَفَّالُ: التَّلَقِّي التَّعَرُّضُ لِلِّقَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْقَبُولِ وَالْأَخْذِ، وَمِنْهُ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ، تَلَقَّيْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ فُلَانٍ: أَخَذْتُهَا مِنْهُ. الْكَلِمَةُ: اللَّفْظَةُ الموضوعة المعنى، وَالْكَلِمَةُ: الْكَلَامُ، وَالْكَلِمَةُ: الْقَصِيدَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ، وَيُجْمَعُ بِحَذْفِ التَّاءِ فَيَكُونُ اسْمَ جِنْسٍ، نَحْوَ: نَبْقَةٍ وَنَبْقٍ. التَّوْبَةُ: الرُّجُوعُ، تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا وَتَوْبَةً وَمَتَابًا، فَإِذَا عُدِّيَ بِعَلَى ضُمِّنَ مَعْنَى الْعَطْفِ. تَبِعَ: بِمَعْنَى لَحِقَ، وَبِمَعْنَى تَلَا، وَبِمَعْنَى اقْتَدَى. وَالْخَوْفُ: الْفَزَعُ، خَافَ، يَخَافُ خَوْفًا وتخوف تخوفا، فزع، وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزِ وَبِالتَّضْعِيفِ، وَيَكُونُ لِلْأَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَصْلُ الْحُزْنِ: غِلَظُ الْهَمِّ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُزْنِ: وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الْأَرْضِ، يُقَالُ: حَزِنَ يَحْزَنُ حُزْنًا وَحَزَنًا، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَبِالْفُتْحَةِ، نَحْوَ: شُتِرَتْ عَيْنُ الرَّجُلِ، وَشَتَرَهَا اللَّهُ، وَفِي التَّعْدِيَةِ بِالْفَتْحَةِ خِلَافٌ، وَيَكُونُ لِلْأَمْرِ الْمَاضِي. الْآيَةُ: العلامة، ويجمع آيات وَآيَاتٍ، قَالَ النَّابِغَةُ:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
وَوَزْنُهَا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ: فَعْلَةٌ، فَأُعِلَّتِ الْعَيْنُ وَسَلِمَتِ اللَّامُ شُذُوذًا وَالْقِيَاسُ الْعَكْسُ. وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ: فَاعِلَةٌ، حُذِفَتِ الْعَيْنُ لِئَلَّا يَلْزَمُ فِيهِ مِنَ الْإِدْغَامِ مَا لَزِمَ فِي دَابَّةٍ، فَتَثْقُلُ، وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ: فَعْلَةٌ، فَأُبْدِلَتِ الْعَيْنُ أَلِفًا اسْتِثْقَالًا لِلتَّضْعِيفِ، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي قِيرَاطٍ وَدِيوَانٍ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ: فِعْلَةٌ: اسْتُثْقِلَ التَّضْعِيفُ فَقُلِبَتِ الْفَاءُ الْأُولَى أَلِفًا لِانْكِسَارِهَا وَتَحَرُّكِ مَا قَبْلَهَا، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُنْهَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. الصُّحْبَةُ: الِاقْتِرَانُ،
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٤.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٦.
(٣) سورة هود: ١١/ ٣.
259
صَحِبَ يَصْحَبُ، وَالْأَصْحَابُ: جَمْعُ صَاحِبٍ، وَجَمْعُ فَاعِلٍ: عَلَى أَفْعَالٍ شَاذٌّ، وَالصُّحْبَةُ وَالصَّحَابَةُ: أَسْمَاءُ جُمُوعٍ، وَكَذَا صَحِبَ عَلَى الْأَصَحِّ خِلَافًا لِلْأَخْفَشِ، وَهِيَ لِمُطْلَقِ الِاقْتِرَانِ فِي زَمَانٍ مَا.
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها: الْهَمْزَةُ: كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَزَلَّ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى: جَعَلَهُمَا زَلَّا بِإِغْوَائِهِ وَحَمَلَهَمَا عَلَى أَنْ زَلَّا وَحَصَلَا فِي الزَّلَّةِ، هَذَا أَصْلُ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ. وَقَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى جَعَلَ أَسْبَابَ الْفِعْلِ، فَلَا يَقَعُ إِذْ ذَاكَ الْفِعْلُ. تَقُولُ: أَضْحَكْتُ زَيْدًا فَمَا ضَحِكَ وَأَبْكَيْتُهُ فَمَا بَكَى، أَيْ جَعَلْتُ لَهُ أسباب الضحك وأسباب البقاء فَمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ ضَحِكُهُ وَلَا بُكَاؤُهُ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالْمُتَنَزِّلِ
مَعْنَاهُ: فِيمَا يَشْرَحُ الشُّرَّاحُ، يَزِلُّ اللِّبْدُ: يَزْلِقُهُ عَنْ وَسَطِ ظَهْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَزِلُّ الْغُلَامُ الْخُفَّ عَنْ صَهَوَاتِهِ: أَيْ يَزْلِقُهُ. وَقِيلَ أَزَلَّهُمَا: أَبْعَدَهُمَا. تَقُولُ: زَلَّ عَنْ مَرْتَبَتِهِ، وَزَلَّ عَنِّي ذَاكَ، وَزَلَّ مِنَ الشَّهْرِ كَذَا: أَيْ ذَهَبَ وَسَقَطَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الزَّلَّةَ هِيَ سُقُوطٌ فِي الْمَعْنَى، إِذْ فِيهَا خُرُوجُ فَاعِلِهَا عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ، وَبُعْدُهُ عَنْهَا. فَهَذَا جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ تَعْدِيَةِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَحَمْزَةُ: فَأَزَالَهُمَا، وَمَعْنَى الْإِزَالَةِ:
التَّنْحِيَةُ. وَرُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ إِمَالَةُ فَأَزَالَهُمَا. وَالشَّيْطَانُ: هُوَ إِبْلِيسُ بِلَا خِلَافٍ هُنَا.
وَحَكَوْا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَرَأَ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا، وَكَذَا مَا وَرَدَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّا خَالَفَ سَوَادَ الْمُصْحَفِ. وَأَكْثَرُ قِرَاءَاتِ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّمَا تُنْسَبُ لِلشِّيعَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّهُ صَحَّ عِنْدَنَا بِالتَّوَاتُرِ قِرَاءَةُ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ مَا يُنْقَلُ عَنْهُ مِمَّا وَافَقَ السَّوَادَ، فَتِلْكَ إِنَّمَا هِيَ آحَادٌ، وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا، فَلَا تُعَارِضُ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوَصُّلِ إِبْلِيسَ إِلَى إِغْوَائِهِمَا حَتَّى أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ أَقَاوِيلُ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس وَالْجُمْهُورُ: شَافَهَهُمَا بِدَلِيلِ، وَقَاسَمَهُمَا، قِيلَ: فَدَخَلَ إِبْلِيسُ الْجَنَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ ابْتِلَاءً لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَقِيلَ: دَخَلَ فِي جَوْفِ الْحَيَّةِ. وَذَكَرُوا كَيْفَ كَانَتْ خِلْقَةُ الْحَيَّةِ وَمَا صَارَتْ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ مُكَالَمَةُ إِبْلِيسَ لِآدَمَ. وَقَدْ قَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى أَحْسَنَ الْقَصَصِ وَأَصْدَقَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: لَمْ يَدْخُلْ إِبْلِيسُ الْجَنَّةَ، بَلْ كَانَ يَدْنُو مِنَ السَّمَاءِ فَيُكَلِّمُهُمَا. وَقِيلَ: قَامَ عِنْدَ الْبَابِ فَنَادَى. وَقِيلَ: لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِسُلْطَانِهِ الَّذِي
260
ابْتُلِيَ بِهِ آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ،
كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ».
وَقِيلَ: خَاطَبَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَلَمْ يَصْعَدْ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ الطَّرْدِ وَاللَّعْنِ، وَكَانَ خِطَابُهُ وَسْوَسَةً، وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي نَقْلِ قَصَصٍ كَثِيرٍ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَالْحَيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَتَكَلَّمُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَالِهِ حِينَ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، أَكَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ التَّعَمُّدِ، أَمْ فِي حَالِ غَفْلَةِ الذِّهْنِ عَنِ النَّهْيِ بِنِسْيَانٍ، أَمْ بِسُكْرٍ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ، كَمَا ذَكَرُوا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ، لِأَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ «١» إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْجَنَّةُ فِي الْأَرْضِ، عَلَى مَا فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ، فَيُمْكِنُ أن يكون خمرها يسكر. وَالَّذِينَ قَالُوا: بِالْعَمْدِ، قَالُوا: كَانَ النَّهْيُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، وَقِيلَ: كَانَ مَعَهُ مِنَ الْفَزَعِ عِنْدَ إِقْدَامِهِ مَا صَيَّرَ هَذَا الْفِعْلَ صَغِيرَةً. وَقِيلَ: فَعَلَهُ اجْتِهَادًا، وَخَالَفَ لأنه تقدم الْإِشَارَةَ إِلَى الشَّخْصِ لَا إِلَى النَّوْعِ، فَتَرَكَهَا وَأَكَلَ أُخْرَى. وَالِاجْتِهَادُ فِي الْفُرُوعِ لَا يُوجِبُ الْعِقَابَ. وَقِيلَ كَانَ الْأَكْلُ كَبِيرَةً، وَقِيلَ: أَتَاهُمَا إِبْلِيسُ فِي غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفَانِهَا، فَلَمْ يَعْرِفَاهُ، وَحَلِفَ لَهُمَا أَنَّهُ نَاصِحٌ. وَقِيلَ: نَسِيَ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ آدَمُ وَلا تَقْرَبا أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْقُرْبَانِ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَقْرَبَ، وَالَّذِي يُسْلَكُ فِيمَا اقْتَضَى ظَاهِرُهُ بَعْضَ مُخَالَفَةٍ تَأْوِيلُهُ عَلَى أَحْسَنِ مَحْمَلٍ، وَتَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ النَّقَائِصِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ على ما يرد من ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنُ أبي الفضل المرسي مَا مُلَخَّصُهُ:
مَنَعَتِ الْأُمَّةُ وُقُوعَ الْكُفْرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَّا الْفَضِيلِيَّةَ مِنَ الْخَوَارِجِ، قَالُوا: وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ، وَالذَّنْبُ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ، وَأَجَازَ الْإِمَامِيَّةُ إِظْهَارَ الْكُفْرِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ، وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ، فَلَا يَجُوزُ عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ جَوَّزَ ذَلِكَ سَهْوًا وَأَجْمَعُوا عَلَى امْتِنَاعِ خَطَئِهِمْ فِي الْفُتْيَا عَمْدًا وَاخْتَلَفُوا فِي السَّهْوِ. وَأَمَّا أَفْعَالُهُمْ فَقَالَتِ الْحَشَوِيَّةُ: يَجُوزُ وُقُوعُ الْكَبَائِرِ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الْعَمْدِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ: بِجَوَازِ الصَّغَائِرِ عَمْدًا إِلَّا فِي الْقَوْلِ، كَالْكَذِبِ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ. وَقِيلَ: يَمْتَنِعَانِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ، وَهُمْ مَأْخُوذُونَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا عَنْ أُمَّتِهِمْ. وَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ جِهَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ الْعِصْمَةِ فَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: مِنْ وَقْتِ مَوْلِدِهِمْ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: مِنْ وَقْتِ النُّبُوَّةِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ ذَنْبٌ حَالَةَ النُّبُوَّةِ أَلْبَتَّةَ، لا
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ٤٧.
261
الْكَبِيرَةَ وَلَا الصَّغِيرَةَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ صَدَرَ عَنْهُمُ الذَّنْبُ لَكَانُوا أَقَلَّ دَرَجَةٍ مِنْ عُصَاةِ الْأُمَّةِ، لِعَظِيمِ شَرَفِهِمْ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَلِئَلَّا يَكُونُوا غَيْرَ مَقْبُولِي الشَّهَادَةِ، وَلِئَلَّا يَجِبُ زَجْرُهُمْ وَإِيذَاؤُهُمْ، وَلِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلِئَلَّا يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ، وَلِئَلَّا يَفْعَلُونَ ضِدَّ مَا آمرون بِهِ، لِأَنَّهُمْ مُصْطَفَوْنَ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ اسْتَثْنَاهُمْ فِي الْإِغْوَاءِ. انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ الْمُنْتَخَبِ.
وَالْقَوْلُ فِي الدَّلَائِلِ لِهَذِهِ الْمَذَاهِبِ، وَفِي إِبْطَالِ مَا يَنْبَغِي إِبْطَالُهُ مِنْهَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ. عَنْهَا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الشَّجَرَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ.
وَالْمَعْنَى: فَحَمَلَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَى الزَّلَّةِ بِسَبَبِهَا. وَتَكُونُ عَنْ إِذْ ذَاكَ لِلسَّبَبِ، أَيْ أَصْدَرَ الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُمَا عَنِ الشَّجَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي «١»، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «٢». وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْجَنَّةِ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَذْكُورٍ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَغَيْرِهِ: فَأَزَالَهُمَا، إِذْ يَبْعُدُ فَأَزَالَهُمَا الشَّيْطَانُ عَنِ الشَّجَرَةِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الطَّاعَةِ، قَالُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ «٣»، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، إِلَّا عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا «٤» لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَطِيعَانِي بِعَدَمِ قُرْبَانِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مِنَ التَّفَكُّهِ وَالرَّفَاهِيَةِ وَالتَّبَوُّءِ مِنَ الْجَنَّةِ، حَيْثُ شَاءَا، وَمَتَى شَاءَا، وَكَيْفَ شَاءَا، بِدَلِيلِ، وَكُلا مِنْها رَغَداً «٥». وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ مِنْ نِعْمَةِ الْجَنَّةِ إِلَى شَقَاءِ الدُّنْيَا، أَوْ مِنْ رِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ إِلَى سُفْلِ مَكَانَةِ الذَّنْبِ، أَوْ رِضْوَانِ اللَّهِ، أَوْ جِوَارِهِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: إِذَا جُعِلَ أَزَلَّهُمَا مِنْ زَلَّ عَنِ الْمَكَانِ، فَقَوْلُهُ: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ تَوْكِيدٌ. إِذْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَزُولَا عَنْ مَكَانٍ كَانَا فِيهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ مِنَ الْجَنَّةِ، انْتَهَى. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَسْبِهِمَا الزَّلَّةَ لَا يَكُونُ بِإِلْقَاءٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُنَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ تَقْدِيرُهُ: فَأَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ، وَيَعْنِي أَنَّ الْمَحْذُوفَ يَتَقَدَّرُ قَبْلَ قَوْلِهِ:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ، وَنَسَبَ الْإِزْلَالَ وَالْإِزَالَةَ وَالْإِخْرَاجَ لِإِبْلِيسَ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَالْفَاعِلُ لِلْأَشْيَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقُلْنَا اهْبِطُوا: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ أبو حياة: اهْبُطُوا بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ. وَالْقَوْلُ فِي: وَقُلْنَا اهْبِطُوا مِثْلُ القول في: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ «٦».
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٨٢.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١١٤.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ١٢١.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٣٥.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ٣٥.
(٦) سورة البقرة: ٢/ ٣٥.
262
وَلَمَّا كَانَ أَمْرًا بِالْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ انْحِطَاطُ رُتْبَةِ الْمَأْمُورِ، لَمْ يُؤْنِسْهُ بِالنِّدَاءِ، وَلَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِتَنْوِيهِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ. وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالنِّدَاءِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ، وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْحَيَّةُ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عباس، أو هَؤُلَاءِ وَإِبْلِيسُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ آدَمُ وَإِبْلِيسُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ هُمَا وَحَوَّاءُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ فَحَسْبُ. وَيَكُونُ الْخِطَابُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى التَّثْنِيَةِ نَحْوَ:
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «١»، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْوَسْوَسَةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَذُرِّيَّتُهُمَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، أَوْ آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَالْمُرَادُ هُمَا وَذُرِّيَّتُهُمَا، وَرَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَصْلَ الْأِنْسِ وَمُتَشَعَّبَهُمْ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا الْأِنْسُ كُلُّهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «٢»، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الْآيَةَ، وَمَا هُوَ إِلَّا حُكْمٌ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ، انْتَهَى. وَفِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ خِطَابُ مَنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، لِأَنَّ ذُرِّيَّتَهُمَا كَانَتْ إِذْ ذَاكَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ. وَفِي قَوْلِ مَنْ أَدْخَلَ إِبْلِيسَ مَعَهُمَا فِي الْأَمْرِ ضَعْفٌ، لِأَنَّهُ كَانَ خَرَجَ قَبْلَهُمَا، وَيَجُوزُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ. قَالَ كَعْبٌ وَوَهْبٌ:
أُهْبِطُوا جُمْلَةً وَنَزَلُوا فِي بِلَادٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وَقَالَ مُقَاتِلُ: أُهْبِطُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَهَبَطَ إِبْلِيسُ، قِيلَ بِالْأُبُلَّةِ، وَحَوَّاءُ بِجَدَّةَ، وَآدَمُ بِالْهِنْدِ، وَقِيلَ: بِسَرَنْدِيبَ بِجَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: وَاسِمٌ. وَقِيلَ: كَانَ غِذَاؤُهُ جَوْزَ الْهِنْدِ، وَكَانَ السَّحَابُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ فَأَوْرَثَ وَلَدَهُ الصَّلَعَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ صُلْعًا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحَيَّةَ أُهْبِطَتْ بِنَصِيبِينَ. وَرَوَى الثَّعْلَبِيُّ: بِأَصْبَهَانَ، وَالْمَسْعُودِيُّ: بِسِجِسْتَانَ، وَهِيَ أَكْثَرُ بِلَادِ اللَّهِ حَيَّاتٍ. وَقِيلَ: بِبِيسَانَ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الْهُبُوطَ الأول من الجنة إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ آدَمُ بِسَرَنْدِيبَ مِنَ الْهِنْدِ وَمَعَهُ رِيحُ الْجَنَّةِ، عَلِقَ بِشَجَرِهَا وَأَوْدِيَتِهَا، فَامْتَلَأَ مَا هُنَاكَ طِيبًا، فَمِنْ ثَمَّ يُؤْتَى بِالطِّيبِ مِنْ رِيحِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي إِخْرَاجِهِ كَيْفِيَّةً ضَرَبْنَا صَفْحًا عَنْ ذِكْرِهَا، قَالَ:
وَأُدْخِلَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ ضَحْوَةً، وَأُخْرِجَ مِنْهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَمَكَثَ فِيهَا نِصْفَ يَوْمٍ، وَالنِّصْفُ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، مِمَّا يَعُدُّ أَهْلُ الدُّنْيَا، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ قَوْلَهُ: اهْبِطُوا أَمْرُ تَكْلِيفٍ، لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً بِسَبَبِ مَا كَانَا فِيهِ مِنَ الْجَنَّةِ، إِلَى مَكَانٍ لَا تَحْصُلُ فِيهِ الْمَعِيشَةُ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ، وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِي التَّكْلِيفِ يَكُونُ بِسَبَبِ الثَّوَابِ. فَكَيْفَ يَكُونُ عِقَابًا مَعَ مَا فِي هُبُوطِهِ وَسُكْنَاهُ الْأَرْضَ مِنْ ظُهُورِ حِكْمَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ نشر
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٧٨.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ١٢٣.
263
نَسْلِهِ فِيهَا لِيُكَلِّفَهُمْ وَيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ فِي جَنَّةٍ وَنَارٍ. وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَكْلَةُ سَبَبَ هُبُوطِهِ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَأَمَرَهُ بِالْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ لقوله ثانية: قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، إِنْ كَانَ الْمُخَاطِبُونَ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتَهُمَا، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، فَالْمُرَادُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ التَّعَادِي وَتَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْبَعْضِيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّهُمْ يُعَادِي كُلَّهُمْ، بَلِ الْبَعْضُ يُعَادِي الْبَعْضَ. وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا إِبْلِيسُ أَوِ الْحَيَّةُ، كَمَا قَالَهُ مُقَاتِلُ، فَلَيْسَ بَعْضُ ذُرِّيَّتِهِمَا يُعَادِي ذُرِّيَّةَ آدَمَ، بَلْ كُلُّهُمْ أَعْدَاءٌ لِكُلِّ بَنِي آدَمَ. ولكن بتحقق هَذَا بِأَنْ جَعَلَ الْمَأْمُورُونَ بالهبوط شيئا واحدا وجزّؤوا أَجْزَاءً، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا جُزْءٌ مِنَ الَّذِينَ هَبَطُوا، وَالْجُزْءُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْبَعْضُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: كُلُّ جِنْسٍ مِنْكُمْ مُعَادٍ لِلْجِنْسِ الْمُبَايِنِ لَهُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِبْلِيسُ عَدُوٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ أَعْدَاؤُهُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: عَدَاوَةُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ لَهُ وَجَوَارِحُهُ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ اهْبِطُوا مُتَعَادِينَ، وَالْعَامِلُ فِيهَا اهْبِطُوا. فَصَاحِبُ الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي اهْبِطُوا، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْوَاوِ لِإِغْنَاءِ الرَّابِطِ عَنْهَا، وَاجْتِمَاعُ الْوَاوِ وَالضَّمِيرِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ حَالًا أَكْثَرُ مِنَ انْفِرَادِ الضَّمِيرِ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «١»، وَلَيْسَ مَجِيئَهَا بِالضَّمِيرِ دُونَ الْوَاوِ شَاذًّا، خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَدْ رَوَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ كَلِمَتَهُ: فُوهُ إِلَى فِيَّ، وَرَجَعَ عُودُهُ عَلَى بَدْئِهِ، وَخَرَّجَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُودُهُ مبتدأ وعلى بَدْئِهِ خَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، نُظْمُهَا وَنَثْرُهَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ شَاذًّا. وَأَجَازَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أن تكون الجملة مستأنفة إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَكَأَنَّهُ فَرَّ مِنَ الْحَالِ، لِأَنَّهُ تَخَيَّلَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْقَيْدِ فِي الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ، أَوْ كَالْمَأْمُورِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ قُمْ ضَاحِكًا كَانَ الْمَعْنَى الْأَمْرُ بِإِيقَاعِ الْقِيَامِ مَصْحُوبًا بِالْحَالِ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهَا أَوْ كَالْمَأْمُورِ، لِأَنَّكَ لَمْ تُسَوِّغْ لَهُ الْقِيَامَ إِلَّا فِي حَالِ الضَّحِكِ وَمَا يُتَوَصَّلُ إِلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ إِلَّا بِهِ مَأْمُورٌ بِهِ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْعَدَاوَةِ وَلَا يَلْزَمُ مَا يُتَخَيَّلُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْحَالُ مَأْمُورًا بِهَا، لِأَنَّ النِّسْبَةَ الْحَالِيَّةَ هِيَ لَنِسْبَةٍ تَقْيِيدِيَّةٍ لَا نِسْبَةٍ إِسْنَادِيَّةٍ. فَلَوْ كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا إِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَلَا يُسَوَّغُ ذَلِكَ هُنَا، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِذَا كَانَ لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِذَلِكَ الْقَيْدِ، وَلَا يُمْكِنُ خِلَافُهُ، لم يكن ذلك
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٦٠. [.....]
264
الْقَيْدُ مَأْمُورًا بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ التَّكْلِيفِ، وَهَذِهِ الْحَالُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَمَرَ بِهَا، وَهَذِهِ الْحَالُ مِنَ الْأَحْوَالِ اللَّازِمَةِ. وَقَوْلُهُ: لِبَعْضٍ مُتَعَلِّقٌ بُقُولِهِ عَدُوٌّ، وَاللَّامُ مُقَوِّيَةٌ لِوُصُولِ عَدُوٌّ إِلَيْهِ، وَأَفْرَدَ عَدُوٌّ عَلَى لَفْظِ بَعْضُ أَوْ لِأَنَّهُ يُصْلِحُ لِلْجَمْعِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضُ وَعَلَى عَدُوٌّ حَالَةَ الْإِفْرَادِ.
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. لَكُمْ هُوَ الْخَبَرُ، وَفِي الْأَرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مَعْمُولٌ لِلْعَامِلِ فِي الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ هُنَا مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بمستقر، سَوَاءً كَانَ يُرَادُ بِهِ مَكَانُ اسْتِقْرَارٍ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ زَيْدٍ، أَوِ الْمَصْدَرُ، أَيْ اسْتِقْرَارٌ، كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ، لِأَنَّ اسْمَ الْمَكَانِ لَا يَعْمَلُ، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمَوْصُولَ لَا يُجَوِّزُ بَعْضُهُمْ تَقْدِيمَ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، ولكم متعلق بمستقرّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مُسْتَقَرٌّ، لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذْ ذَاكَ فِيهَا يَكُونُ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَامِلٌ مَعْنَوِيٌّ، وَالْحَالُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَصَارَ نَظِيرَ: قَائِمًا زَيْدٌ فِي الدَّارِ، أَوْ قَائِمًا فِي الدَّارِ زَيْدٌ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ.
مُسْتَقَرٌّ: أَيْ مَكَانُ اسْتِقْرَارِكُمْ حَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَبْرُ، أَوِ اسْتِقْرَارٌ، كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.
وَمَتاعٌ: الْمَتَاعُ مَا اسْتُمْتِعَ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، أَوِ الزَّادِ، أَوِ الزَّمَانِ الطَّوِيلِ، أَوِ التَّعْمِيرِ. إِلى حِينٍ: إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، أَوْ إِلَى أَجَلٍ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَيَتَعَلَّقُ إِلَى بِمَحْذُوفٍ، أَيْ وَمَتَاعٌ كَائِنٌ إِلَى حِينٍ، أَوْ بِمَتَاعٍ، أَيْ وَاسْتِمْتَاعٍ إِلَى حِينٍ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، أُعْمِلُ فِيهِ الثَّانِي وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِضْمَارٍ فِي الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مُتَعَلِّقَهُ فَضْلَةٌ، فَالْأَوْلَى حَذْفُهُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُحْذَفَ مِنَ الثَّانِي وَالْأَحْسَنُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَوْلَى. وَالْأَفْصَحُ لَا يُقَالُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ يَقْتَضِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِسَبَبِ أَنَّ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ إِلَى حِينٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ بِالْمَعْطُوفِ، وَالْمَصْدَرُ مَوْصُولٌ فلا يفصل بينه وبن مَعْمُولِهِ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا لَا يَكُونُ مَوْصُولًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَصْدَرَ مِنْهُ مَا يُلْحَظُ فِيهِ الْحُدُوثُ فَيُتَقَدَّرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ مَعَ الْفِعْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْصُولُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَوْصُولًا بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِهِ بِذَلِكَ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ مَوْصُولٌ بِالْفِعْلِ، وَإِلَّا فَالْمَصْدَرُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَصْدَرٌ لَا يَكُونُ مَوْصُولًا، وَمِنْهُ مَا لَا يُلْحَظُ فِيهِ الْحُدُوثُ، نَحْوَ قَوْلِهِ: لِزَيْدٍ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ، وَبَصَرٌ بِالطِّبِّ، وَلَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ. فَمِثْلَ هَذَا لَا يُتَقَدَّرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، حَتَّى ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ هَذَا
265
الْمَصْدَرَ إِذَا أُضِيفَ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الِاسْمِ بَعْدَهُ، لَا بِرَفْعٍ وَلَا بِنَصْبٍ، قَالُوا: فَإِذَا قُلْتَ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ، فَزَيْدٌ فَاعِلُ الْقِيَامِ تَأْوِيلُهُ يُعْجِبُنِي أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، وَمُمْكِنٌ أَنَّ زَيْدًا يَعْرَا مِنْهُ الْقِيَامُ، وَلَا يُقْصَدُ فِيهِ إِلَى إِفَادَةِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ فَعَلَ الْقِيَامَ فِيمَا مَضَى، أَوْ يَفْعَلُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، بَلْ تَكُونُ النِّيَّةُ فِي الْإِخْبَارِ كَالنِّيَّةِ فِي: يُعْجِبُنِي خَاتَمُ زَيْدٍ الْمَحْدُودُ الْمَعْرُوفُ بِصَاحِبِهِ وَالْمَخْفُوضُ بِالْمَصْدَرِ. عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِرَفْعٍ، وَلَا يُؤَكَّدُ، وَلَا يُنْعَتُ، وَلَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمِثْلٍ مَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ الْمَخْفُوضَاتِ الصِّحَاحِ، انْتَهَى.
فَأَنْتَ تَرَى تَجْوِيزَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْصُولًا مَعَ الْمَصْدَرِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ، فَكَيْفَ مَعَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا نَحْوَ: مَا مَثَّلْنَا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ ذَكَاءٌ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ، وَبَصَرٌ بِالطِّبِّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَكُونُ مَوْصُولًا. وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا، كَمَا مَثَّلْنَا فِي قَوْلِهِ: لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ وَالْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ يَعْمَلُ فِيهِمَا رَوَائِحُ الْأَفْعَالِ، حَتَّى الْأَسْمَاءُ الْأَعْلَامُ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ، وَأَنَا ابْنُ مَاوِيَّةَ إِذْ جَدَّ النَّقْرُ. وَأَمَّا أَنْ تَعْمَلَ فِي الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ بِهِ فَلَا. وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا نُوِّنَ، أَوْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، تَحَقَّقَتْ لَهُ الِاسْمِيَّةُ وَزَالَ عَنْهُ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ، فَانْقَطَعَ عَنْ أَنْ يُحْدِثَ إِعْرَابًا، وَكَانَتْ قِصَّتُهُ قِصَّةَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَالرَّجُلِ وَالثَّوْبِ، فَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، وَلَا يَبْعُدُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَعَلُّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ يَتَّسِعُ فِيهِمَا مَا لَا يَتَّسِعُ فِي غَيْرِهِمَا، وَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ إِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ بِأَبْعَدَ فِي الْعَمَلِ فِي الظَّرْفِ أَوِ الْمَجْرُورِ مِنَ الِاسْمِ الْعَلَمِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ: مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ بِقَوْلِهِ: قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ «١»، وَفِي قَوْلِهِ: إِلى حِينٍ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْبَقَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَدَلِيلٌ عَلَى الْمَعَادِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّحْذِيرُ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ بِقَصْدٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، وَأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تُزِيلُ عَنْ مَقَامِ الْوِلَايَةِ.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، تلقى: تفعل من اللقاء، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى التَّجَرُّدِ، أَيْ لَقِيَ آدَمُ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: تَعَدَّاكَ هَذَا الْأَمْرُ، بِمَعْنَى عَدَّاكَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا تَفَعَّلَ، وَهِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى مُطَاوِعَةً فَعَّلَ، نَحْوَ: كَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، وَالتَّكَلُّفُ نَحْوَ: تَحَلَّمَ، وَالتَّجَنُّبُ نَحْوَ: تَجَنَّبَ، وَالصَّيْرُورَةُ نَحْوَ: تَأَلَّمَ، وَالتَّلَبُّسُ بِالْمُسَمَّى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ نَحْوَ:
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٢٥.
266
تَقَمَّصَ، وَالْعَمَلُ فِيهِ نَحْوَ: تَسَحَّرَ، وَالِاتِّخَاذُ نَحْوَ: تَبَنَّيْتُ الصَّبِيَّ، وَمُوَاصَلَةُ الْعَمَلِ فِي مَهَلَةٍ نَحْوَ: تَفَهَّمَ، وَمُوَافَقَةُ اسْتَفْعَلَ نَحْوَ: تَكَبَّرَ، وَمُوَافَقَةُ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ: تَعَدَّى الشَّيْءَ، أَيْ عَدَّاهُ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْهُ نَحْوَ: تَكَلَّمَ، وَالْإِغْنَاءُ عَنْ فِعْلٍ نَحْوَ: تَوْبَلَ، وَمُوَافَقَةُ فَعَّلَ نَحْوَ: تَوَلَّى، أَيْ وَلَّى، وَالْخِتْلُ، نَحْوَ: تَعَقَّلْتُهُ، وَالتَّوَقُّعُ نَحْوَ: تَخَوَّفَهُ، وَالطَّلَبُ نَحْوَ: تُنْجَزُ حَوَائِجُهُ، وَالتَّكْثِيرُ نَحْوَ: تُعْطِينَا. وَمَعْنَى تَلَقِّي الْكَلِمَاتِ: أَخْذُهَا وَقَبُولُهَا، أَوِ الْفَهْمُ، أَوِ الْفَطَانَةُ، أَوِ الْإِلْهَامُ أَوِ التَّعَلُّمُ وَالْعَمَلُ بِهَا، أَوْ الِاسْتِغْفَارُ وَالِاسْتِقَالَةُ مِنَ الذَّنْبِ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ: تَلَقَّنَ، فَأُبْدِلَتِ النُّونُ أَلِفًا ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّا كَانَ عَيْنُهُ وَلَامُهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ نَحْوَ: تَظَنَّى، وَتَقَضَّى، وَتَسَرَّى، أَصْلُهُ: تَظَنَّنَ، وَتَقَضَّضَ، وَتَسَرَّرَ.
وَلَا يُقَالُ فِي تَقَبَّلَ: تَقَبَّى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ آدَمُ وَنَصْبِ الْكَلِمَاتِ، وَعَكَسَ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَمَعْنَى تَلَقِّي الْكَلِمَاتِ لِآدَمَ: وُصُولُهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ مَنْ تَلَقَّاكَ فَقَدْ تَلَقَّيْتَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَجَاءَتْ آدم من ربه كلمات. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كَلِمَاتٍ، أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَلِمٍ، أَوْ جُمَلٌ مِنَ الْكَلَامِ قَالَهَا آدَمُ، فَلِذَلِكَ قَدَّرُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: كَلِمَاتٍ، جُمْلَةً مَحْذُوفَةً وَهِيَ فَقَالَهَا فَتَابَ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَقَدْ طَوَّلُوا بِذِكْرِهَا، وَلَمْ يُخْبِرْنَا اللَّهُ بِهَا إِلَّا مُبْهَمَةً، وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا كَمَا ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ كَعْبٍ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا «١»، الْآيَةَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى الله ما قاله أبو ناحين: «اقْتَرَفَ الْخَطِيئَةَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ». وَسُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ الْمُذْنِبُ فَقَالَ: يَقُولُ مَا قَالَهُ أَبَوَاهُ: «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي» وَمَا قَالَهُ يُونُسُ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبٍ أَنَّهَا: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ».
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ هِيَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
وَحَكَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ تَنْفُخْ فِيَّ مَنْ رُوحِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:
أَلَمْ تَسْبِقْ رَحْمَتُكَ غَضَبُكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: رب إن
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٢٣.
267
تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ». وَزَادَ قَتَادَةُ فِي هَذَا: «وَسَبَقَتْ رَحْمَتُكَ إِلَيَّ قَبْلَ غَضَبِكَ؟ قِيلَ لَهُ بَلَى، قَالَ: رَبِّ هَلْ كَتَبْتَ هَذَا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي؟ قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، فَقَالَ: رَبِّ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قِيلَ لَهُ: «نَعَمْ».
وَقَالَ قَتَادَةُ هِيَ: «أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، قَالَ: «يَا رَبِّ خَطِيئَتِي الَّتِي أَخْطَأَتُهَا أَشَيْءٌ كَتَبْتَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ تَخْلُقَنِي؟ أَوْ شَيْءٌ ابْتَدَعْتُهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي؟
قَالَ: بَلْ شَيْءٌ كَتَبْتُهُ عَلَيْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكَ، قَالَ: «فَكَمَا كَتَبْتَ عَلَيَّ فَاغْفِرْ لِي»
.
وَقِيلَ إِنَّهَا:
«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ».
وَقِيلَ: رَأَى مَكْتُوبًا عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَتَشَفَّعَ بِذَلِكَ فَهِيَ الْكَلِمَاتُ.
وَقِيلَ: قَوْلُهُ حِينَ عَطَسَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ».
وَقِيلَ: هِيَ الدُّعَاءُ وَالْحَيَاءُ وَالْبُكَاءُ. وَقِيلَ: الِاسْتِغْفَارُ وَالنَّدَمُ وَالْحُزْنُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَسَمَّاهَا كَلِمَاتٍ، مَجَازًا لِمَا هِيَ فِي خَلْقِهَا صَادِرَةٌ عَنْ كَلِمَاتٍ، وَهِيَ: «كُنْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ»، وَهَذَا قَوْلٌ يَقْتَضِي أَنَّ آدَمَ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا إِلَّا الِاسْتِغْفَارَ الْمَعْهُودَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَتابَ عَلَيْهِ: أَيُّ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ وَأَفْرَدَهُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ مُشَارِكَةً لَهُ فِي الْأَمْرِ بِالسُّكْنَى وَالنَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ الشَّجَرَةِ وَتَلَقِّي الْكَلِمَاتِ وَالتَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوَاجَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَكَمُلَتِ الْقِصَّةُ بِذِكْرِهِ وَحْدَهُ، كَمَا جَاءَ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخِضْرِ، إِذْ جَاءَ حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ «١»، فحملاهما بِغَيْرِ نَوْلٍ، وَكَانَ مَعَ مُوسَى يُوشَعُ، لَكِنَّهُ كَانَ تَابِعًا لِمُوسَى فَلَمْ يُذْكُرْهُ وَلَمْ يُجْمَعْ مَعَهُمَا فِي الضَّمِيرِ، أَوِ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، إِذْ كَانَ فِعْلُهُمَا وَاحِدًا، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ»
، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى «٣»، أَوْ طَوَى ذَكَرَهَا كَمَا طَوَاهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَعْصِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «٤».
وَقَدْ جَاءَ طَيُّ ذِكْرِ النِّسَاءِ فِي أَكْثَرَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ: قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «٥»، وَإِنَّمَا لَمْ يُرَاعِ هَذَا السَّتْرَ فِي امْرَأَتَيْ نوح ولوط لأنهما كانتا كَافِرَتَيْنِ، وَقَدْ ضَرَبَ بِهِمَا الْمَثَلَ لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ ذُنُوبَهُمَا كَانَتْ غَايَةً فِي الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ. وَالْكَافِرُ لَا يُنَاسِبُ السَّتْرَ عَلَيْهِ وَلَا الْإِغْضَاءَ عَنْ ذَنْبِهِ، بَلْ يُنَادِي عَلَيْهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَخْزَى له وأحط
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٧١.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٦٢.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ١١٧.
(٤) سورة طه: ٢٠/ ١٢١.
(٥) سورة الأعراف: ٧/ ٢٣.
268
لِدَرَجَتِهِ. وَحَوَّاءُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَعْصِيَتَهُمَا تَكَرَّرَتْ وَاسْتَمَرَّ مِنْهُمَا الْكُفْرُ وَالْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّوْبَةُ مُتَعَذِّرَةٌ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمَا لَا يَتُوبَانِ، وَلَيْسَتْ حَوَّاءُ كَذَلِكَ لِخِفَّةِ مَا وَقَعَ مِنْهَا، أَوْ لِرُجُوعِهَا إِلَى رَبِّهَا، وَلِأَنَّ التَّبْكِيتَ لِلْمُذْنِبِ شَرْعُ رَجَاءِ الْإِقْلَاعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْقُودٌ فِيهِمَا، وَذِكْرُهُمَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى زَوْجَيْهِمَا فِيهِ مِنَ الشُّهْرَةِ مَا لَا يَكُونُ فِي ذِكْرِ اسْمَيْهِمَا غَيْرَ مُضَافَيْنِ إِلَيْهِمَا. وَتَوْبَةُ الْعَبْدِ: رُجُوعُهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ: رُجُوعُهُ عَلَيْهِ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي التَّوْبَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْعَبْدِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ النَّدَمُ، أَخْذًا بِظَاهِرِ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»
وَقَالَ قَوْمٌ: شُرُوطُهَا ثَلَاثَةٌ: النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ، وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ. وَتَأَوَّلُوا: النَّدَمَ تَوْبَةً عَلَى مُعْظَمِ التَّوْبَةِ نَحْوَ: الْحَجُّ عَرَفَةٌ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي الشُّرُوطِ، يرد الْمَظَالِمِ إِذَا قَدَرَ عَلَى رَدِّهَا، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الْمَطْعَمُ الْحَلَّالُ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا بُدَّ مَعَ تِلْكَ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِشْفَاقِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ أَتَى بِهَا كَمَا لَزِمَهُ، فَيَكُونُ خَائِفًا. وَلِهَذَا جَاءَ يُحَذِّرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ بَكَيَا عَلَى مَا فَاتَهُمَا مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ مِائَتَيْ سَنَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي كَثْرَةِ دُمُوعِ آدَمَ وَدَاوُدَ شَيْئًا يَفُوتُ الْحَصْرَ كَثْرَةً. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: بَلَغَنِي أَنَّ آدَمَ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ مَكَثَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَ عَلَى آدَمَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّهُ: بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ نَوْفَلُ بْنُ أَبِي عَقْرَبٍ: أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ فَتَحَ عَلَى التَّعْلِيلِ، التَّقْدِيرُ: لِأَنَّهُ، فَالْمَفْتُوحَةُ مَعَ مَا بَعْدَهَا فَضْلَةٌ، إِذْ هِيَ فِي تَقْدِيرٍ مُفْرَدٍ ثَابِتٍ وَاقِعٍ مَفْرُوغٍ مِنْ ثُبُوتِهِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ نِزَاعُ مُنَازِعٍ، وَأَمَّا الْكَسْرُ فَهِيَ جُمْلَةٌ ثَابِتَةٌ تَامَّةٌ أُخْرِجَتْ مَخْرَجِ الْإِخْبَارِ الْمُسْتَقِلِّ الثَّابِتِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهَا رَبْطٌ مَعْنَوِيٌّ بِمَا قَبْلَهَا، كَمَا جَاءَتْ فِي: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ «١»، اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ «٢»، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ «٣»، حَتَّى لَوْ وُضِعَتِ الْفَاءُ الَّتِي تُعْطِي الرَّبْطَ مَكَانَهَا أَغْنَتْ عَنْهَا، وَقَالُوا: إِنَّ إِنَّ إِنَّمَا تَجِيءُ لِتَثْبِيتِ مَا يَتَرَدَّدُ الْمُخَاطَبُ فِي ثُبُوتِهِ وَنَفْيِهِ، فَإِنْ قُطِعَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَيْسَ مِنْ مَظَانِّهَا، فَإِنْ وُجِدَتْ دَاخِلَةً عَلَى مَا قُطِعَ فِيهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٥٣.
(٢) سورة الحج: ٢٢/ ١.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ١٠٣.
269
الْمُتَرَدِّدِ فِيهِ لِأَمْرٍ مَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي نحو: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَلَمَّا دَخَلَتْ لِلتَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، قَوِيَ التَّأْكِيدُ بِتَأْكِيدٍ آخَرَ، وَهُوَ لَفْظُهُ: هُوَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَتَهُ فِي قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «٢». وَبُولِغَ أَيْضًا فِي الصِّفَتَيْنِ بَعْدَهُ، فَجَاءَ التَّوَّابُ: عَلَى وَزْنِ فَعَّالٍ، وَالرَّحِيمُ: عَلَى وَزْنٍ فَعِيلٍ، وَهُمَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي صِيغَتْ لِلْمُبَالَغَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ تَرْغِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ فِي التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَإِطْمَاعٌ فِي عَفْوِهِ تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ. وَالتَّوَّابُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْقَبُولُ لِتَوْبَةِ الْعَبْدِ، أَوِ الْكَثِيرِ الْإِعَانَةِ عَلَيْهَا. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الِاسْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا، وَوَصَفَ بِهِ تَعَالَى نَفْسَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا تَجَوُّزًا، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُوصَفُ تَعَالَى بتائب ولا آئب وَلَا رَجَّاعٍ وَلَا مُنِيبٍ، وَفُرِّقَ بَيْنَ إِطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى الْعَبْدِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ صِلَتَيْهِمَا.
أَلَا تَرَى: فَتَابَ عَلَيْهِ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ؟ فَالتَّوْبَةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ هِيَ الْعَطْفُ وَالتَّفَضُّلُ عَلَيْهِ، وَمِنَ الْعَبْدِ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى طَاعَتِهِ تَعَالَى، لِطَلَبِ ثَوَابٍ، أَوْ خَشْيَةِ عِقَابٍ، أَوْ رَفْعِ دَرَجَاتٍ. وَأَعْقَبَ الصِّفَةَ الْأَوْلَى بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ سَبَبُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ، وَتَقَدُّمُ التَّوَّابِ لِمُنَاسَبَةِ فَتَابَ عَلَيْهِ، وَلِحُسْنِ خَتْمِ الْفَاصِلَةِ بِقَوْلِهِ: الرَّحِيمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْبَسْمَلَةِ عَلَى لَفْظَةِ الرَّحِيمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ.
قُلْنَا اهْبِطُوا، كَرَّرَ الْقَوْلَ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ الْمَحْضِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْهُبُوطَ كَانَ أَوَّلَ مُخَالَفَةٍ، فَكَرَّرَ تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَيْهِمَا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ عُلِّقَ بِهِ الْعَدَاوَةُ، وَالثَّانِي عُلِّقَ بِإِتْيَانِ الْهُدَى. وَأَمَّا لَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، بَلْ هُمَا هُبُوطَانِ حَقِيقَةً، الْأَوَّلُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ، وَالثَّانِي مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْوَجْهُ بِقَوْلِهِ فِي الْهُبُوطِ الْأَوَّلِ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ، وَلَمْ يَحْصُلْ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ إِلَّا بِالْهُبُوطِ الثَّانِي، فَكَانَ يَنْبَغِي الِاسْتِقْرَارُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ وَبِقَوْلِهِ فِي الْهُبُوطِ الثَّانِي مِنْهَا، وَظَاهِرُ الضَّمِيرِ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْهُبُوطَ الثَّانِي منها.
جَمِيعاً: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي اهْبِطُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَفْظَةِ جَمِيعًا وَأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ فِي الْحُكْمِ، لَا الْمُقَارَنَةَ فِي الزَّمَانِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٥.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٨٨.
270
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «١»، فَهُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ خُوطِبُوا بِالْهُبُوطِ، فَقَدْ دَلَّا عَلَى اتِّحَادِ زَمَانِ الْهُبُوطِ. وَأَبْعَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ: كَأَنَّهُ قَالَ هبوطا جميعا، أو هابطين جَمِيعًا، فَجَعَلَهُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ لِاسْمِ فَاعِلٍ مَحْذُوفٍ، كُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ. قَالَ: لِأَنَّ جَمِيعًا لَيْسَ بِمَصْدَرٍ وَلَا اسْمَ فَاعِلٍ، مَعَ مُنَافَاةِ مَا قَدَّرَهُ لِلْحُكْمِ الَّذِي صَدَّرَهُ، لِأَنَّهُ قَالَ: أَوَّلًا وَجَمِيعًا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي اهْبِطُوا. فَإِذَا كَانَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي اهْبِطُوا عَلَى مَا قَرَّرَ أَوَّلًا، فَكَيْفَ يُقَدَّرُ ثَانِيًا؟ كَأَنَّهُ قَالَ: هُبُوطًا جَمِيعًا، أَوْ هَابِطِينَ جَمِيعًا.
فَكَلَامُهُ أَخِيرًا يُعَارِضُ حُكْمَهُ أَوَّلًا، وَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ وَلَا اسْمَ فَاعِلٍ وُقُوعُهُ حَالًا حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ. وَأَبْعَدَ غَيْرَهُ أَيْضًا فِي زَعْمِهِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا مُجْتَمِعِينَ، فَهَبَطُوا جَمِيعًا، فَجَعَلَ ثُمَّ حَالًا مَحْذُوفَةً لِدِلَالَةِ جَمِيعًا عَلَيْهَا، وَعَامِلًا مَحْذُوفًا لِدِلَالَةِ اهْبِطُوا عَلَيْهِ. وَلَا يَلْتَئِمُ هَذَا التَّقْدِيرُ مَعَ مَا بَعْدَهُ إِلَّا عَلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ: أَيْ فَقُلْنَا: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَأْمُورِينَ بِالْهُبُوطِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هُبُوطًا ثَانِيًا، فَقِيلَ يَخُصُّ آدَمَ وَحَوَّاءَ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَا يَأْتِيهِ هُدًى، وَخُصَّا بِخِطَابِ الْجَمْعِ تَشْرِيفًا لَهُمَا. وَقِيلَ:
يَنْدَرِجُ فِي الْخِطَابِ لِأَنَّ إِبْلِيسَ مُخَاطَبٌ بِالْإِيمَانِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ وَمَا زَائِدَةٌ بَعْدَهَا لِلتَّوْكِيدِ، وَالنُّونُ فِي يَأْتِيَنَّكُمْ نُونُ التَّوْكِيدِ، وَكَثُرَ مَجِيءُ هَذَا النَّحْوِ فِي الْقُرْآنِ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ «٢»، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ «٣»، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ «٤». قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الَمَهْدَوِيِّ: إِنَّ: هِيَ، الَّتِي لِلشَّرْطِ زِيدَتْ عَلَيْهَا مَا لِلتَّأْكِيدِ لِيَصِحَّ دُخُولُ النُّونِ لِلتَّوْكِيدِ فِي الْفِعْلِ، وَلَوْ سَقَطَتْ، يَعْنِي مَا لَمْ تَدْخُلِ النُّونُ، فَمَا تُؤَكَّدْ أَوَّلَ الْكَلَامِ، وَالنُّونُ تُؤَكَّدُ آخِرَهُ. وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذَا فَقَالَ: فَإِنْ هِيَ لِلشَّرْطِ، دَخَلَتْ مَا عَلَيْهَا مُؤَكِّدَةً لِيَصِحَّ دُخُولُ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ، فَهِيَ بِمَثَابَةِ لَامِ الْقَسَمِ الَّتِي تَجِيءُ لِمَجِيءِ النُّونِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ النُّونَ لَازِمَةٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ إِذَا وصلت إن بما، هُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ، زَعَمَا أَنَّهَا تَلْزَمُ تَشْبِيهًا بِمَا زِيدَتْ لِلتَّأْكِيدِ فِي لَامِ الْيَمِينِ نَحْوَ: وَاللَّهِ لَأَخْرُجَنَّ. وَزَعَمُوا أَنَّ حَذْفَ النُّونِ إِذَا زِيدَتْ مَا بَعْدَ إِنَّ ضَرُورَةٌ. وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَارِسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا، وَإِنْ كَانَ الْإِثْبَاتُ أَحْسَنَ. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ حَذْفُ مَا وَإِثْبَاتُ النُّونِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تُقْحِمِ النُّونَ، كَمَا أَنَّكَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٩.
(٢) سورة مريم: ٢٩/ ٢٩. [.....]
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ٢٠٠.
(٤) سورة الزخرف: ٤٣/ ٤١.
271
إن شئت لم تجىء بما، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ كَثُرَ السَّمَاعُ بِعَدَمِ النُّونِ بَعْدَ إِمَّا، قَالَ الشَّنْفَرَى:
فَإِمَّا تَرَيْنِي كَابْنَةِ الرَّمْلِ ضَاحِيًا عَلَى رِقَّةٍ أَحْفَى وَلَا أَتَنَعَّلُ
وَقَالَ آخَرُ:
يَا صَاحِ إِمَّا تَجِدْنِي غَيْرَ ذِي جَدَّةٍ فَمَا التَّخَلِّي عَنِ الْإِخْوَانِ مِنْ شِيَمِي
وَقَالَ آخَرُ:
زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أنني إما أمت تسددا بينوها الْأَصَاغِرُ خُلَّتِي
وَالْقِيَاسُ يَقْبَلُهُ، لِأَنَّ مَا زِيدَتْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ دُخُولُ النُّونِ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِمَّا أَقَمْتُ وَإِمَّا كُنْتُ مُرْتَحِلًا فَاللَّهُ يَحْفَظُ مَا تُبْقِي وَمَا تَذَرُ
فَكَمَا جَاءَتْ هُنَا زَائِدَةً بَعْدَ إِنَّ، فَكَذَلِكَ فِي نَحْوِ: إِمَّا تَقُمْ يَأْتِيَنَّكُمْ، مَبْنِيٌّ مَفْتُوحُ الْآخِرِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْفَتْحَةِ أَهِيَ لِلْبِنَاءِ، أَمْ بُنِيَ عَلَى السُّكُونِ وَحُرِّكَ بِالْفَتْحَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بِالتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ). مِنِّي: مُتَعَلِّقٌ بِيَأْتِيَنَّكُمْ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِالِالْتِفَاتِ، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَوْضُوعِ لِلْجَمْعِ، أَوِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ، إِلَى الضَّمِيرِ الْخَاصِّ بِالْمُتَكَلِّمِ الْمُفْرَدِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا حِكْمَةَ ذَاكَ الضَّمِيرِ فِي: قُلْنَا، عِنْدَ شرح قوله: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ «١»، وَحِكْمَةُ هَذَا الِانْتِقَالِ هُنَا أَنَّ الْهُدَى لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُ وَحْدَهُ تَعَالَى، فَنَاسَبَ الضَّمِيرُ الْخَاصُّ كَوْنَهُ لَا هَادِيَ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَأَعْطَى الْخَاصَّ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ الضَّمِيرَ الْخَاصَّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ تَعَالَى. وَفِي قَوْلِهِ: مِنِّي، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ «٢»، وقَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ «٣»، فَأَتَى بِكَلِمَةِ: مِنْ، الدَّالَّةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي الْأَشْيَاءِ، لِيُنَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَادِرٌ مِنْهُ وَمُبْتَدَأٌ مِنْ جِهَتِهِ تَعَالَى، وَأَتَى بِأَدَاةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى مَا يُتَرَدَّدُ فِي وُقُوعِهِ، وَالَّذِي أنبهم زَمَانُ وُقُوعِهِ، وَإِتْيَانُ الْهُدَى وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُ أنبهم وَقْتَ الْإِتْيَانِ، أَوْ لِأَنَّهُ آذَنَ ذَلِكَ بِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ إِتْيَانُ رُسُلٍ مِنْهُ، وَلَا إِنْزَالُ كُتُبٍ بِذَلِكَ، بَلْ لَوْ لَمْ يَبْعَثْ رُسُلًا، وَلَا أَنْزَلَ كُتُبًا، لَكَانَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا، وَذَلِكَ لِمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعَقْلِ، وَنَصَّبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَمَكَّنَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، كَمَا قَالَ:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٧٤.
(٣) سورة يونس: ١٠/ ٥٧.
272
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ إِنْشَادِ الشِّعْرِ، هُدىً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْهُدَى فِي قَوْلِهِ:
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «١»، وَنَكَّرَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمُطْلَقُ، وَلَمْ يَسْبِقْ عَهْدٌ فِيهِ فَيُعَرَّفَ. وَالْهُدَى.
الْمَذْكُورُ هُنَا: الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، أَوِ الرُّسُلُ، أَوِ الْبِيَانُ، أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّاعَةِ، أَوْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْوَالٌ. فَمَنْ تَبِعَ: الْفَاءُ مَعَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ.
وَقَالَ السَّجَاوِنْدِي: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَاتَّبِعُوهُ، انْتَهَى. فَكَأَنَّهُ عَلَى رَأْيِهِ حُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ. وَتَظَافَرَتْ نُصُوصُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْرِبِينَ عَلَى أَنَّ: مَنْ، فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ، شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَّ جَوَابَ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ، فَتَكُونُ الْآيَةُ فِيهَا شَرْطَانِ. وَحُكِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا خَوْفٌ جَوَابٌ لِلشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ أَتْقَنَّا مَسْأَلَةَ اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ)، وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرْطِيَّةً، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، بَلْ يَتَرَجَّحُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ فِي قَسِيمِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا «٢»، فَأَتَى بِهِ مَوْصُولًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَأَمَّا دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا، فَإِنَّ الشُّرُوطَ الْمُسَوِّغَةَ لِذَلِكَ مَوْجُودَةٌ هُنَا.
وَفِي قوله: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ، تَنْزِيلُ الْهُدَى مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ الْمُتَّبَعِ الْمُقْتَدَى بِهِ، فَتَكُونُ حَرَكَاتُ التَّابِعِ وَسَكَنَاتُهُ مُوَافَقَةً لِمَتْبُوعِهِ، وَهُوَ الْهُدَى، فَحِينَئِذٍ يَذْهَبُ عَنْهُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ.
وَفِي إِضَافَةِ الْهُدَى إِلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْهُدَى مَا لَا يَكُونُ فِيهِ لَوْ كَانَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَإِنْ كَانَ سَبِيلُ مِثْلِ هَذَا أَنْ يَعُودَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ: إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «٣»، وَالْإِضَافَةُ تُؤَدِّي مَعْنَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ التَّعْرِيفِ، وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِمَزِيَّةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: هُدَايْ بِسُكُونِ الْيَاءِ، وَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَمَحْيَايْ، وَذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ أَبِي عمر: هديّ، بِقَلْبِ الْأَلِفِ يَاءً وَإِدْغَامِهَا فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، إِذْ لَمْ يُمْكِنْ كَسْرُ مَا قَبْلَ الْيَاءِ، لِأَنَّهُ حَرْفٌ لَا يَقْبَلُ الْحَرَكَةَ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، يَقْلِبُونَ أَلِفَ الْمَقْصُورِ يَاءً وَيُدْغِمُونَهَا فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ:
سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ فَتَخَرَّمُوا وَلِكُلِّ قَوْمٍ مَصْرَعُ
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ الزهري وعيسى الثقفي
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٩.
(٣) سورة المزمل: ٧٣/ ١٥- ١٦.
273
وَيَعْقُوبُ بِالْفَتْحِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ بِالرَّفْعِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ وَجْهُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مُرَاعَاةُ الرَّفْعِ فِي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، فَرَفَعُوا لِلتَّعَادُلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالرَّفْعُ عَلَى إِعْمَالِهَا إِعْمَالَ لَيْسَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِعْمَالَ لَا عَمَلَ لَيْسَ قَلِيلٌ جِدًّا، وَيُمْكِنُ النِّزَاعُ فِي صِحَّتِهِ، وَإِنْ صَحَّ فَيُمْكِنُ النِّزَاعُ فِي اقْتِيَاسِهِ. وَالثَّانِي: حُصُولُ التَّعَادُلِ بَيْنَهُمَا، إِذْ تَكُونُ لَا قَدْ دَخَلَتْ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى مُبْتَدَأٍ وَلَمْ تَعْمَلْ فِيهِمَا. وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ ذَلِكَ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ، فَيَنْفِي كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ مَدْلُولِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَيُجَوِّزُهُ وَلَيْسَ نَصًّا، فَرَاعَوْا مَا دَلَّ عَلَى الْعُمُومِ بِالنَّصِّ دُونَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالظَّاهِرِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ فَخَرَّجَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ إِعْمَالِ لَا عَمَلَ لَيْسَ، وَأَنَّهُ حَذَفَ التَّنْوِينَ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي إعمال لا عمل ليس، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، إِذَا كَانَ مَرْفُوعًا مُنَوَّنًا، وَحُذِفَ تَنْوِينُهُ كَمَا قَالَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُرِّيَ مِنَ التَّنْوِينِ لِأَنَّهُ عَلَى نِيَّةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَلَا الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ مِثْلَ مَا حَكَى الْأَخْفَشُ عَنِ الْعَرَبِ: سَلَامُ عَلَيْكُمْ، بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. قَالُوا: يُرِيدُونَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ هَذَا التَّخْرِيجُ أَوْلَى، إِذْ يَحْصُلُ التَّعَادُلُ فِي كَوْنِ لَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَعَارِفِ لَمْ تُجْرَ مَجْرَى لَيْسَ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْ ذَلِكَ بَيْتٌ لِلنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ، وَتَأَوَّلَهُ النُّحَاةُ وَهُوَ:
وَحَلَّتْ سَوَادَ الْقَلْبِ لَا أَنَا بَاغِيًا سِوَاهَا وَلَا فِي حُبِّهَا مُتَرَاخِيًا
وَقَدْ لَحَّنُوا أَبَا الطِّيبِ فِي قَوْلِهِ:
فَلَا الْحَمْدُ مَكْسُوبًا وَلَا الْمَالُ بَاقِيًا وَكَنَّى بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ عَنِ الِاسْتِيلَاءِ وَالْإِحَاطَةِ، وَنَزَلَ الْمَعْنَى مَنْزِلَةَ الْجُرْمِ، وَنَفَى كَوْنَهُ مُعْتَلِيًا مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهِمْ. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَوْفَ لَا يَنْتَفِي بِالْكُلِّيَّةِ، أَلَا تَرَى إِلَى انْصِبَابِ النَّفْيِ عَلَى كَيْنُونَةِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَيْنُونَةِ اسْتِعْلَاءِ الْخَوْفِ انْتِفَاءُ الْخَوْفِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَخَوْفِهَا عَنِ الْمُطِيعِينَ لِمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْ شَدَائِدِ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ عَنِ الْمُطِيعِينَ. فَإِذَا صَارُوا إِلَى رَحْمَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا، وَقَدَّمَ عَدَمَ الْخَوْفِ عَلَى عَدَمِ الْحُزْنِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ فِيمَا هُوَ آتٍ آكَدُ مِنِ انْتِفَاءِ الْحُزْنِ
274
عَلَى مَا فَاتَ، وَلِذَلِكَ أُبْرِزَتْ جُمْلَتُهُ مُصَدَّرَةً بِالنَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ أَوْغَلُ فِي بَابِ النَّفْيِ، وَأُبْرِزَتِ الثَّانِيَةُ مُصَدَّرَةً بِالْمَعْرِفَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِصَاصِهِمْ بِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ يَحْزَنُ، وَلَوْ لَمْ يُشِرْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ: وَلَا يَحْزَنُونَ، كَافِيًا. وَلِذَلِكَ أَوْرَدَ نَفْيَ الْحُزْنِ عَنْهُمْ وَإِذْهَابَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ «١» إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «٢». وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَمَا قَبْلَهُمَا مِنَ الْخَبَرِ مُخْتَصٌّ بِالَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَفِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «٣»، فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ يُحْزِنُهُ الْفَزَعُ، وَلَا يَذْهَبُ عَنْهُمُ الْحَزَنُ.
وَحُكِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَلَا يَحْزَنُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ. الثَّانِي: لَا يَتَوَقَّعُونَ مَكْرُوهًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ لِفَوَاتِ الْمَرْغُوبِ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ. الثَّالِثُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فِيمَا خَلْفَهُ. الرَّابِعُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا. الْخَامِسُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عِقَابٍ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى فَوَاتِ ثَوَابٍ. السَّادِسُ: إِنَّ الْخَوْفَ اسْتِشْعَارُ غَمٍّ لِفَقْدِ مَطْلُوبٍ، وَالْحُزْنَ اسْتِشْعَارُ غَمٍّ لِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ. السَّابِعُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْهَا. الثَّامِنُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فِيهَا. التَّاسِعُ: أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ دَارُ السُّرُورِ وَالْأَمْنِ، لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيهَا وَلَا حُزْنٌ. الْعَاشِرُ: مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَمَامَهُمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ فِي صَدْرِ الَّذِي يَمُوتُ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَأَمَّنَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، ثُمَّ سَلَّاهُمْ عَنِ الدُّنْيَا، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. الْحَادِي عَشَرَ: لَا خَوْفٌ حِينَ أَطْبَقَتِ النَّارُ، وَلَا حُزْنٌ حِينَ ذُبِحَ الْمَوْتُ فِي صُورَةِ كَبْشٍ عَلَى الصِّرَاطِ، فَقِيلَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ: خلود لا مَوْتٌ.
الثَّانِي عَشَرَ: لَا خَوْفٌ وَلَا حُزْنٌ عَلَى الدَّوَامِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ عُمُومُ نَفْيِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ، لَكِنْ يُخَصُّ بِمَا بَعْدَ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا قَدْ يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا من العموم لذلك.
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠١.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠٣.
(٣) سورة فاطر: ٣٥/ ٣٤.
275
وَالَّذِينَ كَفَرُوا: قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ، وَهُوَ أبلغ من قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ «١»، وَإِنْ كَانَ التَّقْسِيمُ اللَّفْظِيُّ يَقْتَضِيهِ، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ يَكُونُ بِوُجُوهٍ، مِنْهَا: عَدَمُ الْقَابِلِيَّةِ بِخِلْقَةٍ أَوْ غَفْلَةٍ، وَمِنْهَا تَعَمُّدُ تَرْكِ الشَّيْءِ، فَأُبْرِزَ الْقَسِيمُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فِي صُورَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ لِيَكُونَ مُزِيلًا لِلِاحْتِمَالِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّفْيُ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ قَدْ يَعْنِي كُفْرَ النِّعْمَةِ وَكُفْرَ الْمَعْصِيَةِ بَيَّنَ: أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الشِّرْكُ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، وَبِآيَاتِنَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا، وَهُوَ مِنْ إِعْمَالِ الثَّانِي، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ كَفَرُوا، يَطْلُبُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَطْلُبُهُ، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْإِعْمَالِ، وَيَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَالْآيَاتُ هُنَا:
الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، أَوْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وأو الْقُرْآنُ، أَوْ دَلَائِلُ اللَّهِ فِي مَصْنُوعَاتِهِ، أَقْوَالٌ. وأُولئِكَ: مُبْتَدَأٌ، وأَصْحابُ: خَبَرٌ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ بَدَلًا وَعَطْفَ بَيَانٍ، فَيَكُونُ أَصْحَابُ النَّارِ، إِذْ ذَاكَ، خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَفِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِ مَنْ كَفَرَ وَكَذَّبَ بِالنَّارِ. فَيُفْهَمُ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ.
وَكَانَ التَّقْسِيمُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى لَا خَوْفٌ وَلَا حَزْنٌ يَلْحَقُهُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ، وَمَنْ كَذَّبَ يَلْحَقُهُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ، وَهُوَ صَاحِبُ النَّارِ. فَكَأَنَّهُ حُذِفَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى شَيْءٌ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذَاكِرٍ فَتْرَةٌ كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ
وَفِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى الذَّوَاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَكَأَنَّ فِيهَا تَكْرِيرًا وَتَوْكِيدًا لِذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ السَّابِقِ. وَالصُّحْبَةُ مَعْنَاهَا: الِاقْتِرَانُ بِالشَّيْءِ، وَالْغَالِبُ فِي الْعُرْفِ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَى الْمُلَازَمَةِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: أَنْ تَنْطَلِقَ عَلَى مُطْلَقِ الِاقْتِرَانِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْمُلَازَمَةُ الدَّائِمَةُ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً، كَمَا جَاءَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها «٢»، فَيَكُونُ، إِذْ ذَاكَ، لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ نَصْبٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُفَسِّرَةً لِمَا أَنَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ، فَفَسَّرَ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الصُّحْبَةَ لَا يُرَادُ بِهَا مُطْلَقُ الِاقْتِرَانِ، بَلِ الْخُلُودُ، فَلَا يَكُونُ لَهَا إِذْ ذَاكَ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثانيا للمبتدأ
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٣٤.
(٢) سورة الأحقاف: ٤٦/ ١٤.
276
الَّذِي هُوَ: أُولَئِكَ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِخِبْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُفْرَدٌ، وَالْآخَرُ جُمْلَةٌ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْخُلُودِ، وَهَلْ هُوَ الْمُكْثُ زَمَانًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، أَوْ زَمَانًا له نهاية؟
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
ابْنُ: مَحْذُوفُ اللَّامِ، وَقِيلَ: الْيَاءُ خِلَافٌ، وَفِي وَزْنِهِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ خِلَافٌ، فَقِيلَ: فِعْلٌ، وَقِيلَ: فَعِلٍ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ يَاءٌ جَعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ الْبِنَاءِ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ. وَالِابْنُ فَرْعٌ عَنِ الْأَبِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَلَيْهِ، وَجُعِلَ قَوْلُهُمْ: الْبُنُوَّةُ شَاذٌّ كَالْفُتُوَّةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ وَاوٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَخْفَشُ، جَعَلَ الْبُنُوَّةَ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ، وَلِكَوْنِ اللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ وَاوًا أَكْثَرَ مِنْهَا يَاءٌ. وَجَمْعُ ابْنٍ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَقَالُوا: أَبْنَاءٌ، وَجَمْعُ سَلَامَةٍ، فَقَالُوا:
بَنُونَ، وَهُوَ جَمْعٌ شَاذٌّ، إِذْ لَمْ يَسْلَمْ فِيهِ بِنَاءُ الْوَاحِدِ، فَلَمْ يَقُولُوا: ابْنُونَ، وَلِذَلِكَ عَامَلَتِ الْعَرَبُ هَذَا الْجَمْعَ فِي بَعْضِ كَلَامِهَا مُعَامَلَةَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، فَأُلْحِقَتِ التَّاءُ فِي فِعْلِهِ، كَمَا أُلْحِقَتْ فِي فِعْلِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُو بَنِي أَسَدٍ يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّارًا لِأَقْوَامِ
وَقَدْ سُمِعَ الْجَمْعُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِيهِ مُصَغَّرًا، قَالَ يُسَدِّدُ:
أَبَيْنُوهَا الْأَصَاغِرَ خُلَّتِي وَهُوَ شَاذٌّ أَيْضًا.
إِسْرَائِيلَ: اسْمٌ عَجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ إِسْرَا: وَهُوَ الْعَبْدُ، وَإِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَذَلِكَ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ، فَيَكُونُ مِثْلَ: جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَعِزْرَائِيلَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَى إِسْرَا: صَفْوَةٌ، وَإِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى، فَمَعْنَاهُ: صَفْوَةُ اللَّهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِسْرَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَسْرِ، وَهُوَ الشَّدُّ، فَكَأَنَّ إِسْرَائِيلَ مَعْنَاهُ: الَّذِي
277
شَدَّهُ اللَّهُ وَأَتْقَنَ خَلْقَهُ. وَقِيلَ: أَسْرَى بِاللَّيْلِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَسُمِّيَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: أَسَرَ جِنِّيًّا كان يطفىء سُرُجَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ اسْمُ الْجِنِّيِّ: إِيلَ، فَسُمِّيَ إِسْرَائِيلُ، وَكَانَ يَخْدُمُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ، وَآخِرَ مَنْ يَخْرُجُ، قَالَهُ كَعْبٌ. وَقِيلَ: أَسْرَى بِاللَّيْلِ هَارِبًا مِنْ أَخِيهِ عَيْصُو إِلَى خَالِهِ، فِي حِكَايَةٍ طَوِيلَةٍ ذَكَرُوهَا، فَأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ أَقَاوِيلٌ ضِعَافٌ، وَفِيهِ تَصَرُّفَاتٌ لِلْعَرَبِ بقوله: إِسْرَائِيلُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ وياء بعدها، وهي قراءة الْجُمْهُورِ. وَإِسْرَايِيلُ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَالْأَعْشَى وَعِيسَى بْنُ عمر. وإسرائيل بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ ثُمَّ لَامٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ وَرْشٍ. وَإِسْرَاءَلُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ وَلَامٌ، وَإِسْرِئِلُ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَإِسْرَالُ بِأَلِفٍ مُمَالَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ خَفِيفَةٌ، وَإِسْرَالُ بِأَلِفٍ غَيْرِ مُمَالَةٍ، قَالَ أُمَيَّةَ:
لَا أَرَى مَنْ يُعَيِّشُنِي فِي حَيَاتِي غَيْرَ نَفْسِي إِلَّا بَنِي إِسْرَالَا
وَهِيَ رِوَايَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ نَافِعٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وغيرهم:
وإسرائين بَنُونٍ بَدَلَ اللَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
يَقُولُ أَهْلُ السُّوءِ لَمَّا جِينَا هَذَا وَرَبِّ الْبَيْتِ إِسْرَائِينَا
كَمَا قَالُوا: سِجِّيلٌ، وَسِجِّينٌ، وَرَفْلٌ، وَرَفْنٌ، وَجِبْرِيلُ، وَجِبْرِينُ، أُبْدِلَتْ بِالنُّونِ كَمَا أُبْدِلَتِ النُّونُ بِهَا فِي أَصِيلَانِ قَالُوا: أَصِيلَالِ، وَإِذَا جَمَعْتَهُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ قُلْتَ: أَسَارِيلُ، وَحُكِيَ:
أَسَارِلَةٌ وَأَسَارِلٌ. الذِّكْرُ: بِكَسْرِ الذَّالِ وَضَمِّهَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَالذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَبِالْكَسْرِ ضِدُّهُ: الصَّمْتُ، وَبِالضَّمِّ ضِدُّهُ: النِّسْيَانُ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّيَقُّظِ وَالتَّنَبُّهِ، وَيُقَالُ: اجْعَلْهُ مِنْكَ عَلَى ذِكْرٍ. النِّعْمَةُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُنْعَمِ بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ: كالذبح، والنقض، وَالرَّعْيِ، وَالطَّحْنِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْقَاسُ.
أَوْفَى، وَوَفَى، وَوَفَّى: لُغًى ثَلَاثٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَتَأْتِي أَوْفَى بِمَعْنَى: ارْتَفَعَ، قَالَ:
رُبَّمَا أَوْفَيْتُ فِي عِلْمٍ تَرْفَعْنَ ثَوْبِي شَمَالَاتٍ
وَالْمِيفَاتُ: مَكَانٌ مُرْتَفِعٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: أَوْفَيْتُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: وَفَّيْتُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَفَى بِالْعَهْدِ، وَأَوْفَى بِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ كَمَا وَفَّى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ وَفَّيْتُ بِالْعَهْدِ، وَأَوْفَيْتُ بِهِ، وَأَوْفَيْتُ الْكَيْلَ لَا غَيْرُ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ. وَفَى الشَّيْءُ: تَمَّ، وَوَفَّى الْكَيْلَ وَأَوْفَيْتُهُ: أَتْمَمْتَهُ، وَوَفَّى رِيشُ الطَّائِرِ: بَلَغَ التَّمَامَ،
278
وَدِرْهَمٌ وَافٍ: أَيْ تَامٌّ كَامِلٌ. الرَّهَبُ، وَالرُّهْبُ، وَالرَّهْبُ، وَالرَّهْبَةُ: الْخَوْفُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّهَابَةِ، وَهُوَ عَظْمُ الصَّدْرِ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْخَوْفُ. وَالرَّهَبُ: النَّصْلُ، لِأَنَّهُ يُرْهَبُ مِنْهُ، وَالرَّهْبَةُ وَالْخَشْيَةُ وَالْمَخَافَةُ نَظَائِرُ. التَّصْدِيقُ: اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، وَالتَّكْذِيبُ يُقَابِلُهُ.
أَوَّلُ: عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: أَفْعَلُ، وَفَاؤُهُ وَعَيْنُهُ وَاوَانِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ فِعْلٌ لِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ، فَهُوَ مِمَّا فَاؤُهُ وَعَيْنُهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لَمْ يُحْفَظْ مِنْهُ إِلَّا: ددن، وقفس، وَبُبَنٌ، وَبَابُوسٌ. وَقِيلَ: إِنَّ بَابُوسًا أَعْجَمِيٌّ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ أَفْعَلُ مِنْ وَأَلَ إِذَا لَجَأَ، فَأَصْلُهُ أَوْأَلُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، ثُمَّ بِالْإِدْغَامِ، وَهَذَا تَخْفِيفٌ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ، إِذْ تَخْفِيفُ مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ أَفْعَلُ من آل يؤل، فَأَصْلُهُ أَأُولُ، ثُمَّ قُلِبَ فَصَارَ أَوْأَلُ أَعْفَلُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ وَاوًا، ثُمَّ بِالْإِدْغَامِ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، وَيُسْتَعْمَلُ أَوَّلُ اسْتِعْمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، فَيَكُونَ مَصْرُوفًا، وَتَلِيهِ الْعَوَامِلُ نَحْوَ: أَفْكَلُ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَدِيمٍ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْعَرَبِ: ما تَرَكْتُ لَهُ أَوَّلًا وَلَا آخِرًا، أَيْ مَا تَرَكْتُ لَهُ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا. وَالِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي:
أَنْ يُجْرَى مَجْرَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَيُسْتَعْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَائِهِ مِنْ كَوْنِهِ بِمَنْ مَلْفُوظًا بِهَا، أَوْ مُقَدَّرَةً، وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَبِالْإِضَافَةِ. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: ابْدَأْ بِهَذَا أَوَّلُ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ بِاتِّفَاقٍ، وَالْخِلَافُ فِي عِلَّةِ بِنَائِهِ ذَلِكَ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَّلُ الْأَشْيَاءِ، أَمْ لِشِبْهِ الْقَطْعِ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَّلُ مَنْ كَذَا. وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْقَطْعَ عَنِ الْإِضَافَةِ، وَالْخِلَافُ إِذَا بُنِيَ، أَهْوَ ظَرْفٌ أَوِ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ؟ وَهُوَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُبْنَى لِلْقَطْعِ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهِ، وَكُلُّ هَذَا مُسْتَوْفًى فِي عِلْمِ النَّحْوِ. الثَّمَنُ:
الْعِوَضُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ، وَقَالَ:
إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ دُنْيَا أَوْ ظَفِرْتَ بِهَا فَمَا أَصَبْتَ بِتَرْكِ الْحَجِّ مِنْ ثَمَنِ
أَيْ مِنْ عِوَضٍ.
الْقَلِيلُ: يُقَابِلُهُ الْكَثِيرُ، وَاتَّفَقَا فِي زِنَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَاخْتَلَفَا فِي زِنَةِ الْفِعْلِ، فَمَاضِي الْقَلِيلِ فَعَلَ، وَمَاضِي الْكَثِيرِ فَعُلَ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَنْ قَلَّ عَلَى فَاعِلٍ نَحْوَ: شَذَّ يَشِذُّ، فَهُوَ شَاذٌّ، لَكِنْ حُمِلَ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَمِثْلُ قَلَّ فَهُوَ قَلِيلٌ، صَحَّ فَهُوَ صَحِيحٌ.
اللَّبْسُ: الْخَلْطُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَبَسْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: خَلَطْتَهُ، وَالْتَبَسَ بِهِ: اخْتَلَطَ، وَقَالَ الْعَجَّاجُ:
279
لِمَا لَبِسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي وَجَاءَ أَلْبَسَ بِمَعْنَى لَبَّسَ.
وَقَالَ آخَرُ:
وَكَتِيبَةٍ أَلْبَسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
الْكَتْمُ، وَالْكِتْمَانُ: الْإِخْفَاءُ، وَضِدُّهُ: الْإِظْهَارُ، وَمِنْهُ الْكَتْمُ: وَرَقٌ يُصْبَغُ بِهِ الشَّيْبُ.
الرُّكُوعُ: لَهُ مَعْنَيَانِ فِي اللُّغَةِ: أَحَدُهُمَا: التّطَامُنُ وَالِانْحِنَاءُ، وَهَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَأَبِي زَيْدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
أُخَبِّرُ أَخْبَارَ الْقُرُونِ الَّتِي مَضَتْ أَدُبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ
وَالثَّانِي: الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُفَضَّلِ وَالْأَصْمَعِيِّ، قَالَ الْأَضْبَطُ السَّعْدِيُّ:
لَا تُهِينُ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أَنْ تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ هَذَا افْتِتَاحُ الْكَلَامِ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمُنَاسَبَةُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ هُنَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ فِيهِ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ الْمَخْتُومِ عَلَيْهِمْ بِالشَّقَاوَةِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَذِكْرِ جُمَلٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ قَاطِبَةً بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ بِذِكْرِ أَصْلِهِمْ آدَمَ، وَمَا جَرَى لَهُ مِنْ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ إِبْلِيسُ. وَكَانَتْ هَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ: أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىَ، أَهْلَ كِتَابٍ، مُظْهِرِينَ اتِّبَاعَ الرُّسُلِ وَالِاقْتِدَاءَ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدِ انْدَرَجَ ذِكْرُهُمْ عُمُومًا فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا «١»، فَجَرَّدَ ذِكْرَهُمْ هُنَا خُصُوصًا، إِذْ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَتَكَلَّمَ مَعَهُمْ هُنَا، وَذَكَرُوا مَا يَقْتَضِي لَهُمُ الْإِيمَانَ بِهَذَا الْكِتَابِ، كَمَا آمَنُوا بِكُتُبِهِمُ السَّابِقَةِ، إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ عَلَى مَا سَيَأْتِي جُمْلَةً مُفَصَّلَةً. وَنَاسَبَ الْكَلَامَ مَعَهُمْ قِصَّةَ آدَمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصلاة والسلام، لأنهم بعد ما أُوتُوا مِنَ الْبَيَانِ الْوَاضِحِ وَالدَّلِيلِ اللَّائِحِ، الْمَذْكُورِ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مِنْ الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، ظَهَرَ مِنْهُمْ ضِدُّ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالنِّدَاءِ لِيُحَرِّكَهُمْ لِسَمَاعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، نَحْوَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا، وَيا آدَمُ اسْكُنْ «٢».
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٢١. [.....]
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٣٥.
280
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَضَافَهُمْ إِلَى لَفْظِ إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ يَعْقُوبُ، وَلَمْ يَقُلْ:
يَا بَنِي يَعْقُوبَ، لِمَا فِي لَفْظِ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ صَفْوَةُ اللَّهِ، وَذَلِكَ عَلَى أَحْسَنِ تَفَاسِيرِهِ، فَهَزَّهُمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ يَا بَنِي صَفْوَةِ اللَّهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ أَبِيهِمْ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ: يَا ابْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ أَطِعِ اللَّهَ، فَتُضِيفُهُ إِلَى مَا يُحَرِّكُهُ لِطَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ أَنْ يَقْتَفِيَ أَثَرَ آبَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مَحْمُودًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَحْمُودًا؟ أَلَا تَرَى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «١»، بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا «٢»، وَفِي قَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ انْتَمَى إِلَى شَخْصٍ، وَلَوْ بِوَسَائِطَ كَثِيرَةٍ، يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَعَلَيْهِ يَا بَنِي آدَمَ «٣» وَيُسَمَّى ذَلِكَ أَبًا. قَالَ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ «٤»، وَفِي إِضَافَتِهِمْ إِلَى إِسْرَائِيلَ تَشْرِيفٌ لَهُمْ بِذِكْرِ نِسْبَتِهِمْ لِهَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ، وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خليل الرحمن. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَ نبينا محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَانِ إِلَّا يَعْقُوبُ، فَإِنَّهُ يَعْقُوبُ، وَهُوَ إِسْرَائِيلُ. وَنَقَلَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: أَنَّ الْمَسِيحَ اسْمُ عَلَمٍ لِعِيسَى، لَا اشْتِقَاقَ لَهُ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ خَمْسَةً من الأنبياء ذو واسمين: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِيسَى وَالْمَسِيحُ، وَإِسْرَائِيلُ وَيَعْقُوبُ، وَيُونُسُ وَذُو النُّونِ، وَإِلْيَاسُ وَذُو الْكِفْلِ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا وَالَاهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ وَآمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَسْلَافُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُدَمَاؤُهُمْ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ لَا يُقَالُ لَهُ:
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، إِلَّا عَلَى ضَرْبٍ بَعِيدٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَلِأَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ لَا يُقَالُ لَهُ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، إِلَّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: اذْكُرُوا الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَالذِّكْرَ بِالْقَلْبِ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى:
أَمِرُّوا النِّعَمَ عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهَا، فَإِنَّ إِمْرَارَهَا عَلَى اللِّسَانِ وَمُدَارَسَتَهَا سَبَبٌ فِي أَنْ لَا تُنْسَى. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى: تَنَبَّهُوا لِلنِّعَمِ وَلَا تَغْفُلُوا عَنْ شُكْرِهَا. وَفِي النِّعْمَةِ الْمَأْمُورِ بِشُكْرِهَا أَوْ بِحِفْظِهَا أَقْوَالٌ: مَا اسْتُودِعُوا مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى أَسْلَافِهِمْ مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ وَإِيتَائِهِمُ التَّوْرَاةَ ونحو
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٢٢ و ٢٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٧٠.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ٢٦ و ٢٧ و ٣١ و ٣٥.
(٤) سورة الحج: ٢٢/ ٧٨.
281
ذَلِكَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالزَّجَّاجُ، أَوْ إِدْرَاكُهُمْ مُدَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أَوْ عِلْمُ التَّوْرَاةِ، أَوْ جَمِيعُ النِّعَمِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ وَعَلَى سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى تَصَارِيفِ الْأَحْوَالِ. وَأَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا اخْتَصَّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ النِّعَمِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَنِعَمُ اللَّهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَةٌ: اسْتَنْقَذَهُمْ مِنْ بَلَاءِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ الْمُعَظَّمَةَ، وَظَلَّلَ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ الْغَمَامَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطَاهُمْ عَمُودًا مِنَ النُّورِ لِيُضِيءَ لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لَا تَتَشَعَّثُ، وَثِيَابُهُمْ لَا تَبْلَى. وَإِنَّمَا ذُكِّرُوا بِهَذِهِ النِّعَمِ لِأَنَّ فِي جُمْلَتِهَا مَا شَهِدَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَهُوَ:
التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ، ولئن يَحْذَرُوا مُخَالَفَةَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ تَذْكِيرَ النِّعَمِ السَّالِفَةِ يُطْمِعُ فِي النِّعَمِ الْخَالِفَةِ، وَذَلِكَ الطَّمَعُ يَمْنَعُ مِنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ.
وَهَذِهِ النِّعَمُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى آبَائِهِمْ، فَهِيَ أَيْضًا نِعَمٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ حَصَلَ بِهَا النَّسْلُ، وَلِأَنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى آبَاءٍ شُرِّفُوا بِنِعَمٍ تَعْظِيمٌ فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ:
عَبِيدُ النِّعَمِ كَثِيرُونَ، وَعَبِيدُ الْمُنْعِمِ قَلِيلُونَ، فَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ذكر المنعم فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «١»، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَفِي قَوْلِهِ: نِعْمَتِيَ، نَوْعُ الْتِفَاتٍ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: بِآياتِنا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ. وَفِي إِضَافَةِ النِّعْمَةِ إِلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى عِظَمِ قَدْرِهَا وَسَعَةِ بَرِّهَا وَحُسْنِ مَوْقِعِهَا، وَيَجُوزُ فِي الْيَاءِ مِنْ نِعْمَتِي الْإِسْكَانُ وَالْفَتْحُ، وَالْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَتْحِ. وَأَنْعَمْتُ: صِلَةُ الَّتِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: أَنْعَمْتُهَا عَلَيْكُمْ.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. الْعَهْدُ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ لُغَةً فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ «٢»، وَيَحْتَمِلُ الْعَهْدُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى الْمُعَاهِدِ وَإِلَى الْمُعَاهَدِ. وَفِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْعَهْدَيْنِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرُسُلِهِ، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. الثَّانِي: مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ: مَا ذُكِرَ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الرَّابِعُ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَعَهْدُهُمْ قَبُولُهَا وَالْمُجَازَاةُ عَلَيْهَا. الْخَامِسُ: تَرْكُ الْكَبَائِرِ وَعَهْدُهُمْ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ. السَّادِسُ: إِصْلَاحُ الدِّينِ وَعَهْدُهُمْ إِصْلَاحُ آخِرَتِهِمْ. السَّابِعُ: مُجَاهَدَةُ النُّفُوسِ وَعَهْدُهُمُ الْمَعُونَةُ عَلَى ذَلِكَ. الثَّامِنُ: إِصْلَاحُ
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٥٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٧.
282
السَّرَائِرِ وَعَهْدُهُمْ إِصْلَاحُ الظَّوَاهِرِ. التَّاسِعُ: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ»
، قَالَهُ الْحَسَنُ.
الْعَاشِرُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «٢». الْحَادِي عَشَرَ: الْإِخْلَاصُ فِي الْعِبَادَاتِ وَعَهْدُهُمْ إِيصَالُهُمْ إِلَى مَنَازِلِ الرِّعَايَاتِ. الثَّانِي عَشَرَ:
الْإِيمَانُ بِهِ وَطَاعَتُهُ، وَعَهْدُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الثَّوَابِ عَلَى الْحَسَنَاتِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: حِفْظُ آدَابِ الظَّوَاهِرِ وَعَهْدُهُمْ فِي السَّرَائِرِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: عَهْدُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنِّي بَاعِثٌ من بني إسماعيل نَبِيًّا فَمَنِ اتَّبَعَهُ وَصَدَّقَ بِالنُّورِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ غَفَرْتُ لَهُ وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلْتُ لَهُ أَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: شَرْطُ الْعُبُودِيَّةِ وَعَهْدُهُمْ شَرْطُ الرُّبُوبِيَّةِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَوْفُوا فِي دَارِ مِحْنَتِي عَلَى بِسَاطِ خِدْمَتِي بِحِفْظِ حُرْمَتِي، أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فِي دَارِ نِعْمَتِي عَلَى بِسَاطِ كَرَامَتِي بِقُرْبِي وَرُؤْيَتِي، قَالَهُ الثَّوْرِيُّ. السَّابِعَ عَشَرَ: لَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ أُدْخِلْكُمُ الْجَنَّةَ، قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ. الثَّامِنَ عَشَرَ: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا «٣» الْآيَةَ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَعَهْدُهُمْ إِدْخَالُهُمُ الْجَنَّةَ. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَوَصَايَاهُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِي التَّوْرَاةِ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. الْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي فِي التَّوَكُّلِ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فِي كِفَايَةِ الْمُهِمَّاتِ، قَالَهُ أَبُو عُثْمَانَ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي فِي حِفْظِ حُدُودِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بِحِفْظِ أَسْرَارِكُمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ غَيْرِي. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ:
عَهْدُهُ حِفْظُ الْمَعْرِفَةِ وَعَهْدُنَا إِيصَالُ الْمَعْرِفَةِ، قاله القشيري. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي الَّذِي قَبِلْتُمْ يَوْمَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ أُوفِ بِعَهْدِكُمُ الَّذِي ضَمِنْتُ لَكُمْ يَوْمَ التَّلَاقِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَوْفُوا بِعَهْدِي اكْتَفُوا مِنِّي بِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أَرْضَ عَنْكُمْ بِكُمْ. فَهَذِهِ أَقْوَالُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ هَذَيْنِ الْعَهْدَيْنِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ الْمَعْنَى طَلَبُ الْإِيفَاءِ بِمَا الْتَزَمُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَرْتِيبُ إِنْجَازِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ عَهْدًا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، أَوْ إِبْرَازًا لِمَا تَفَضَّلَ بِهِ تَعَالَى فِي صُورَةِ الْمَشْرُوطِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ فَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى الْإِيفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ «٤»، إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «٥»،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ لَهُ عَهْدًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ».
وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: أُوَفِّ بِعَهْدِكُمْ مُشَدَّدًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩٣.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٧.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ١٢.
(٤) سورة التوبة: ٩/ ١١١.
(٥) سورة مريم: ١٩/ ٨٧.
283
التَّكْثِيرُ، وَأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْمُجَرَّدِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّكْثِيرُ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ عَلَى لَفْظِ أُوفِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُبَالِغْ فِي إِيفَائِكُمْ، فَضَمِنَ تَعَالَى إِعْطَاءَ الْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «١». وَانْجِزَامُ الْمُضَارِعِ بَعْدَ الْأَمْرِ نَحْوَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى شَرْطٍ سَابِقٍ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْأَمْرِ وَهُوَ طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا آخَرَ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فَتَقُولُ: اضْرِبْ زَيْدًا، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّلَبِ بِمَا هُوَ طَلَبُ شَيْءٍ أَصْلًا، لَكِنْ إِذَا لُوحِظَ مَعْنَى شَرْطٍ سَابِقٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَإِذَا قُلْتَ: اضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ضُمِّنَ اضْرِبْ مَعْنَى: إِنْ تَضْرِبْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جُمْلَةَ الْأَمْرِ نَابَتْ مَنَابَ الشَّرْطِ، وَمَعْنَى النِّيَابَةِ أَنَّهُ كَانَ التَّقْدِيرُ: اضْرِبْ زَيْدًا، إِنْ تَضْرِبْ زَيْدًا يَغْضَبْ، ثُمَّ حُذِفَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَأُنِيبَتْ جُمْلَةُ الْأَمْرِ مَنَابَهَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، بَلْ عَمِلَتِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى الْجَزْمَ لِتَضَمُّنِ الشَّرْطِ، كَمَا عَمِلَتْ مِنْ الشَّرْطِيَّةِ الْجَزْمَ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى إِنْ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عَمِلَتِ الْجَزْمَ لِنِيَابَتِهَا مَنَابَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ، الْعَمَلُ إِنَّمَا هُوَ لِلشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَارِسِيِّ وَالسِّيرَافِيِّ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. إِيَّايَ: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرًا بَعْدَهُ لِانْفِصَالِ الضَّمِيرِ، وَإِيَّايَ ارْهَبُوا، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ قَبْلَهُ، وَهُمْ مِنَ السَّجَاوِنْدِيِّ، إِذْ قَدَّرَهُ وَارْهَبُوا إِيَّايَ، وَفِي مَجِيئِهِ ضَمِيرُ نَصْبٍ مُنَاسَبَةً لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ أَمْرٌ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَأْكِيدًا، إِذِ الْكَلَامُ مَفْرُوغٌ فِي قَالَبِ جُمْلَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَ ضَمِيرَ رَفْعٍ لَجَازَ، لَكِنْ يَفُوتُ هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ.
وَحُذِفَتِ الْيَاءُ ضَمِيرُ النَّصْبِ مِنْ فَارْهَبُونِ لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ أَوْكَدُ فِي إِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ مِنْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ فِي التَّقْدِيرِ، وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ، جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَفَادٌ عِنْدَهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ عَلَى الْعَامِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّا لَا نَذْهَبُ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَارْهَبُونِ، دَخَلَتْ فِي جَوَابِ أَمْرٍ مُقَدَّرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: تَنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ. وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ مَا نَصُّهُ: تَقُولُ: كُلُّ رَجُلٍ يَأْتِيكَ فَاضْرِبْ، لِأَنَّ يَأْتِيكَ صفة هاهنا، كَأَنَّكَ قُلْتَ: كُلُّ رَجُلٍ صَالِحٍ فَاضْرِبْ، انْتَهَى. قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: قَوْلُهُ كُلَّ رجل
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٠.
284
يَأْتِيكَ فَاضْرِبْ، بِمَنْزِلَةِ زَيْدًا فَاضْرِبْ، إِلَّا أَنَّ هُنَا مَعْنَى الشَّرْطِ لِأَجْلِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْفِعْلِ، فَانْتَصَبَ كُلَّ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ: زَيْدًا فَاضْرِبْ، انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ لِي وجه إلا حسنية الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ خَرُوفٍ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ، أَعْنِي: زَيْدًا فَاضْرِبْ، تَرْكِيبٌ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ «١»، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الَّذِي ظَهَرَ فِيهَا بَعْدَ الْبَحْثِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي: زَيْدًا فَاضْرِبْ، تَنَبَّهْ:
فَاضْرِبْ زَيْدًا، ثُمَّ حُذِفَ تَنَبَّهْ فَصَارَ: فَاضْرِبْ زَيْدًا. فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفَاءُ صَدْرًا قَدَّمُوا الِاسْمَ إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ الْفَاءُ هُنَا لِتَرْبِطَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، انْتَهَى مَا لُخِّصَ مِنْ كَلَامِهِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَتَحْتَمِلُ الْآيَةُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَإِيَّايَ ارْهَبُوا، تَنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ، فَتَكُونُ الْفَاءُ دَخَلَتْ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَتْ مُؤَخَّرَةً مِنْ تَقْدِيمٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَتُنَبَّهُوا فَارْهَبُونِ، ثُمَّ قُدِّمَ الْمَفْعُولُ فَانْفَصَلَ، وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ حِينَ قُدِّمِ الْمَفْعُولُ وَفِعْلُ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ تَنَبَّهُوا مَحْذُوفٌ، فَالْتَقَى بَعْدَ حَذْفِهِ حَرْفَانِ: الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ وَالْفَاءُ، الَّتِي هِيَ جَوَابُ أَمْرٍ، فَتَصَدَّرَتِ الْفَاءُ، فَقُدِّمَ الْمَفْعُولَ وَأُخِّرَتِ الْفَاءُ إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ، ثُمَّ أُعِيدَ الْمَفْعُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَلِتَكْمِيلِ الْفَاصِلَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْأَخِيرِ لَا يَكُونُ إِيَّايَ مَعْمُولًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، بَلْ مَعْمُولًا لِهَذَا الْفِعْلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ، وَلَا يَبْعُدُ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ بِالضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، كَمَا أُكِّدَ الْمُتَّصِلُ بِالْمُنْفَصِلِ فِي نَحْوِ: ضَرَبْتُكَ إِيَّاكَ، وَالْمَعْنَى: ارْهَبُونِ أَنْ أُنْزِلَ بِكُمْ مَا أَنْزَلَتُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنَ النِّقْمَاتِ الَّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنَ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ مَعْنَى فَارْهَبُونِ: أَنْ لَا تَنْقُضُوا عَهْدِي، وَفِي الْأَمْرِ بِالرَّهْبَةِ وَعِيدٌ بَالِغٌ، وَلَيْسَ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ وَالتَّهْوِيلُ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «٢»، تَشْدِيدٌ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَطْلُوبٌ، وَاعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ غَيْرُ مَطْلُوبٍ فَافْتَرَقَا. وَقِيلَ: الْخَوْفُ خَوْفَانِ، خَوْفُ الْعُقَابِ، وَهُوَ نَصِيبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَيَزُولُ، وَخَوْفُ جَلَالٍ، وَهُوَ نَصِيبُ أَهْلِ الْقَلْبِ، وَلَا يَزُولُ. وَقَالَ السُّلَمِيُّ: الرَّهْبَةُ: خَشْيَةُ الْقَلْبِ مِنْ رَدِيءِ خَوَاطِرِهِ. وَقَالَ سَهْلٌ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، مَوْضِعُ الْيَقِينِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، مَوْضِعُ الْعِلْمِ السَّابِقِ وَمَوْضِعُ الْمَكْرِ وَالِاسْتِدْرَاجِ.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَفْرِدُونِي بِالْخَشْيَةِ لِانْفِرَادِي بِالْقُدْرَةِ عَلَى الإيجاد.
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٦٦. [.....]
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٤٠.
285
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ الْمَأْمُورِينَ قَبْلُ هُمْ، وَهَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَظَاهِرُهُ اتِّحَادُ الْمَأْمُورِ. وَقِيلَ: أُنْزِلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ، عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ كَعْبٌ وَمَنْ معه. وما فِي قَوْلِهِ: بِما أَنْزَلْتُ مَوْصُولَةٌ، أَيْ بِالَّذِي أَنْزَلْتُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْزَلْتُهُ، وَشُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، وَالَّذِي أَنْزَلَ تَعَالَى هُوَ الْقُرْآنُ، وَالَّذِي مَعَهُمْ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ بِما أَنْزَلْتُ: مِنْ كِتَابٍ وَرَسُولٍ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَآمِنُوا بِإِنْزَالِي لِمَا مَعَكُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَتَكُونُ اللَّامُ فِي لِمَا مِنْ تَمَامِ الْمَصْدَرِ لَا مِنْ تَمَامِ. مُصَدِّقاً. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ لِما مَعَكُمْ مِنْ تَمَامِ مُصَدِّقاً، وَاللَّامُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فِي لِمَا مُقَوِّيَةٌ لِلتَّعْدِيَةِ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «١». وَإِعْرَابُ مُصَدِّقًا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ مَا مَصْدَرِيَّةً حَالٌ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: لِما مَعَكُمْ. وَلَا نَقُولُ: يَبْعُدُ ذَلِكَ لِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى ذِي الْحَالِ، لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ مُقَوٍّ لِلتَّعْدِيَةِ، فَهُوَ كَالْحَرْفِ الزَّائِدِ، وَصَارَ نَظِيرَ: زَيْدٌ ضَارِبٌ، مُجَرَّدَةً لِهِنْدٍ، التَّقْدِيرُ: ضَارِبٌ هِنْدًا مُجَرَّدَةً، ثُمَّ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْحَالُ، وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْفَصْلُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمَعْمُولِهِ الْحَالُ الْمُصَدَّرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْعُدُ وَصْفُ الْإِنْزَالِ بِالتَّصْدِيقِ إِلَّا أَنَّ يُتَجَوَّزَ بِهِ، وَيُرَادُ بِهِ الْمُنَزَّلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ لِمَا مَعَكُمْ مِنْ تَمَامِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُنَزَّلُ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا لِلْمَفْعُولِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُصَدِّقًا حال مِنَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ الْمَحْذُوفِ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أَنْزَلْتُ. وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: بِمَا أَنْزَلْتُ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ أَيْضًا.
وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى نَكِرَةٍ غَيْرِ صِفَةٍ، فَإِنَّهُ يَبْقَى مُفْرَدًا مُذَكَّرًا، وَالنَّكِرَةُ تُطَابِقُ مَا قَبْلَهَا، فَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَانَ مُفْرَدًا، وَإِنْ كَانَ تَثْنِيَةً كَانَ تَثْنِيَةً، وَإِنْ كَانَ جَمْعًا كَانَ جَمْعًا، فَتَقُولُ: زَيْدٌ أَفْضَلُ رَجُلٍ، وَهِنْدٌ أَفْضَلُ امْرَأَةٍ، وَالزَّيْدَانِ أَفْضَلُ رَجُلَيْنِ، وَالزَّيْدُونَ أَفْضَلُ رِجَالٍ. وَلَا تَخْلُو تِلْكَ النَّكِرَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنْ أَنْ تَكُونَ صِفَةً أَوْ غَيْرَ صِفَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صِفَةٍ فَالْمُطَابَقَةُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَجَازَ أَبُو الْعَبَّاسِ:
إِخْوَتُكَ أَفْضَلُ رَجُلٍ، بِالْإِفْرَادِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ. وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ جَمْعٌ جَازَتِ الْمُطَابَقَةُ وَجَازَ الْإِفْرَادُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أنشده الفراء:
(١) سورة هود: ١١/ ١٠٧.
286
وَإِذَا هُمْ طَعِمُوا فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ وَإِذَا هُمْ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ
فَأَفْرَدَ بِقَوْلِهِ: طَاعِمٍ، وَجَمَعَ بُقُولِهِ: جِيَاعِ. وَإِذَا أُفْرِدَتِ النَّكِرَةُ الصِّفَةُ، وَقَبْلَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ جَمْعٌ، فَهُوَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مُتَأَوَّلٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُهُ مَنْ طَعِمَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَدَّرُ وَصْفًا لِمُفْرَدٍ يُؤَدِّي مَعْنَى جَمْعٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَلْأَمُ طَاعِمٍ، وَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ، وَقَامَتِ الصِّفَةُ مَقَامَهُ، فَيَكُونُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ فِي التَّقْدِيرِ وَفْقَ مَا تَقَدَّمَهُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَكُونُ التَّجَوُّزُ فِي الْجَمْعِ، فَإِذَا قِيلَ مَثَلًا الزَّيْدُونَ أَفْضَلُ عَالِمٍ، فَالْمَعْنَى: كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّيْدِينَ أَفْضَلُ عَالِمٍ. وَهَذِهِ النَّكِرَةُ أَصْلُهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ التَّعْرِيفُ وَالْجَمْعُ، فَاخْتَصَرُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَبِنَاءَ الْجَمْعِ. وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ هُوَ النَّكِرَةُ فِي الْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْتَ: أَبُوكَ أَفْضَلُ عَالِمٍ، فَتَقْدِيرُهُ: عِنْدَهُمْ أَبُوكَ الْأَفْضَلُ الْعَالِمُ، وَأُضِيفَ أَفْضَلُ إِلَى مَا هُوَ هُوَ فِي الْمَعْنَى.
وَجَمِيعُ أَحْكَامِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ تَأَوَّلُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِمَنْ كَفَرَ، أَوْ أَوَّلَ حِزْبٍ كَفَرَ، أَوْ لَا يَكُنْ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أَوَّلَ كَافِرٍ. وَالنَّهْيُ عَنْ أَنْ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْكُفْرِ لَهُمْ ثَانِيًا أَوْ آخِرًا، فَمَفْهُومُ الصِّفَةِ هُنَا غَيْرُ مُرَادٍ. وَلَمَّا أُشْكِلَتِ الْأَوَّلِيَّةُ هُنَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَوَّلَ صِلَةٌ يَعْنِي زَائِدَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَكُونُوا كَافِرِينَ بِهِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا مَعْطُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا آخِرَ كَافِرٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَخَصَّ الْأَوَّلِيَّةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَفْحَشُ، لِمَا فِيهَا مِنَ الِابْتِدَاءِ بِهَا، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مِنْ أُنَاسٍ لَيْسَ فِي أَخْلَاقِهِمْ عَاجِلُ الْفُحْشِ وَلَا سُوءُ جَزَعْ
لَا يُرِيدُ أَنَّ فِيهِمْ فُحْشًا آجِلًا، بَلْ أَرَادَ لَا فُحْشَ عِنْدَهُمْ، لَا عَاجِلًا، وَلَا آجِلًا، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَلَا تَكُونُوا مِثْلَ أَوَّلِ كَافِرٍ بِهِ، أَيْ وَلَا تَكُونُوا وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَهُ مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ مَوْصُوفًا مِثْلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ لَا كِتَابَ لَهُ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى صِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ أَوَّلُ كَافِرٍ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِذْ هُمْ مَنْظُورٌ إِلَيْهِمْ فِي هَذَا مَظْنُونٌ بِهِمْ عِلْمٌ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفِ صِلَةٍ يَصِحُّ بِهَا الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، لِأَنَّ كُفْرَ قُرَيْشٍ كَانَ مَعَ الْجَهْلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ شَبِيهٌ بِالَّذِي قَبْلَهُ. وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَ صِلَةً غَيْرَ هَذِهِ، أَيْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِكُمْ لِذِكْرِهِ، بَلْ تَثَبَّتُوا فِيهِ وَرَاجِعُوا عُقُولَكُمْ فِيهِ. وَقِيلَ:
ذِكْرُ الْأَوَّلِيَّةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلَ مُؤْمِنٍ بِهِ، لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ وَبِصِفَتِهِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمُبَشِّرِينَ بِزَمَانِهِ وَالْمُسْتَفْتِحِينَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَانَ أَمْرُهُمْ عَلَى
287
الْعَكْسِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «١»، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَا تَسُنُّوا الْكُفْرَ سُنَّةً، فَإِنَّ وِزْرَ الْمُبْتَدِئِينَ فِيمَا يَسُنُّونَ أَعْظَمُ مِنْ وِزْرِ الْمُقْتَدِينَ فِيمَا يَتَّبِعُونَ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي بِمَا أَنْزَلْتُ، وَهُوَ القرآن، قاله ابن جريج، أَوْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُنَزَّلِ يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ عَلَى النِّعْمَةِ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ، وَلِذَلِكَ ذَكَّرَ الضَّمِيرَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ عَلَى الْمَوْصُولِ فِي لِمَا مَعَكُمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَفَرُوا بِمَا يُصَدِّقُهُ، فَقَدْ كَفَرُوا بِهِ، وَالْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، وَهُوَ مَنْطُوقٌ بِهِ مَقْصُودٌ لِلْحَدِيثِ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ.
وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا. الِاشْتِرَاءُ هُنَا مَجَازٌ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِبْدَالُ، كَمَا قَالَ:
كَمَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا وَقَالَ آخَرُ:
فَإِنِّي شَرَيْتُ الْحُلْمَ بَعْدَكَ بِالْجَهْلِ وَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِبْدَالِ، جَازَ أَنْ تَدْخُلَ الْبَاءُ عَلَى الْآيَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى مَا كَانَ ثَمَنًا، لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ حَقِيقَتُهُ أَنْ يُشْتَرَى بِهِ، لَكِنْ لَمَّا دَخَلَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ جَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ يَكُونُ الْمَنْصُوبُ فِيهِ هُوَ الْحَاصِلَ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الزَّائِلُ، بِخِلَافِ مَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قَوْلَكَ: بَدَّلْتُ أَوْ أَبْدَلْتُ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ مَعْنَاهُ: أَخَذْتُ الدِّينَارَ بَدَلًا عَنِ الدِّرْهَمِ، وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: وَلَا تَسْتَبْدِلُوا بِآيَاتِي الْعَظِيمَةِ أَشْيَاءَ حَقِيرَةً خَسِيسَةً. وَلَوْ أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى الثَّمَنِ دُونَ الْآيَاتِ لَانْعَكَسَ هَذَا الْمَعْنَى، إِذْ كَانَ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ هُمْ بَذَلُوا ثَمَنًا قَلِيلًا وَأَخَذُوا الْآيَاتِ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ:
وَدُخُولُ الْبَاءِ عَلَى الْآيَاتِ كَدُخُولِهَا عَلَى الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَا عَيْنَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ دَخَلَتِ الْبَاءُ عَلَى الثَّمَنِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. انْتَهَى كَلَامُ الَمَهْدَوِيِّ وَمَعْنَاهُ:
أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَنَانِيرُ وَلَا دَرَاهِمُ فِي الْبَيْعِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَبْذُولِ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا، لَكِنْ يَخْتَلِفُ دُخُولُ الْبَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ نَسَبَ الشِّرَاءَ إِلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمُتَعَاقِدِينَ جَعَلَ مَا حَصَّلَ هُوَ الْمُثَمَّنَ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْبَاءُ، وَجَعْلَ مَا بَذَلَ هُوَ الثَّمَنَ فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ، وَنَفْسُ الْآيَاتِ لَا يُشْتَرَى بِهَا، فَاحْتِيجَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَقِيلَ تَقْدِيرُهُ: بِتَعْلِيمِ آيَاتِي، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقِيلَ: بِتَغْيِيرِ آيَاتِي، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: بِكِتْمَانِ آيَاتِي، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، بَلْ كَنَى بِالْآيَاتِ عَنِ الْأَوَامِرِ والنواهي.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨٩.
288
وَعَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَاتُ، مَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ، أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ مَا أَوْضَحَ مِنَ الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ، أَوِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْأَمْرَ بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى الْأَقَاوِيلِ فِي ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ، وَالْقَوْلِ بَعْدَهَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: ثَمَنًا قَلِيلًا. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُضَافَ هُوَ التَّعْلِيمُ، قَالَ:
الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ الْأُجْرَةُ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي شَرِيعَتِهِمْ، أَوِ الرَّاتِبُ الْمُرْصَدُ لَهُمْ عَلَى التَّعْلِيمِ، فَنُهُوا عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ التَّغْيِيرُ، قَالَ الثَّمَنُ الْقَلِيلُ هُوَ الرِّيَاسَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِهِمْ خَافُوا فَوَاتَهَا لَوْ صَارُوا أَتْبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ كِنَايَةً عَنِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، جَعَلَ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ هُوَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا الَّتِي اشْتَغَلُوا بِهَا عَنْ إِيقَاعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَوَصَفَ الثَّمَنَ بِالْقَلِيلِ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ عِوَضًا عَنْ آيَاتِ اللَّهِ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا، وَإِنْ بَلَغَ مَا بَلَغَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «١»، فَلَيْسَ وَصْفُ الثَّمَنِ بِالْقِلَّةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تُخَصِّصُ النَّكِرَاتِ، بَلْ مِنَ الْأَوْصَافِ اللَّازِمَةِ لِلثَّمَنِ الْمُحَصَّلِ بِالْآيَاتِ، إِذْ لَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَعْطُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ثَمَنًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا عَلَى مَنْعِ جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ وَالْعِلْمِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تَصِحُّ، وَقَدْ صَحَّ
أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَأْخُذُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا، فَقَالَ: «إِنَّ خَيْرَ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ».
وَقَدْ تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْكَرَاهَةُ، لِكَوْنِ ذَلِكَ عِبَادَةً بَدَنِيَّةً، وَلَا دَلِيلَ لِذَلِكَ الذَّاهِبِ فِي الْآيَةِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا.
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ: الْكَلَامُ عَلَيْهِ إِعْرَابًا، كَالْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَيَقْرُبُ مَعْنَى التَّقْوَى مِنْ مَعْنَى الرَّهْبَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْبَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الِاتِّقَاءُ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْجَزْمِ بِحُصُولِ مَا يُتَّقَى مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالرَّهْبَةِ لِأَجْلِ أَنَّ جَوَازَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْعِقَابِ قَائِمٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَى جَوَازِ الْعِقَابِ هُنَاكَ وَتَعْيِينِهِ هُنَا: أَنَّ تَرْكَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُجَوِّزُ الْعِقَابَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَرْكُ الْإِيمَانِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَشِرَاءُ الثَّمَنِ الْيَسِيرِ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُحَتِّمُ العقاب وتعينه، إذ
(١) سورة النساء: ٤/ ٧٧.
289
لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ فِي ذَلِكَ: فَارْهَبُونِ، وَقِيلَ فِي هَذَا: فَاتَّقُونِ، أَيِ اتَّخِذُوا وِقَايَةً مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَمْتَثِلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يُقَيَّدَ ارْهَبُونِ وَاتَقُونِ بِشَيْءٍ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ بِخَوْفِ اللَّهِ وَاتِّقَائِهِ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا سِيقَ الْأَمْرُ عَقِيبَهُ دُخُولًا وَاضِحًا، فَكَانَ الْمَعْنَى: ارْهَبُونِ، إِنْ لَمْ تَذْكُرُوا نِعْمَتِي وَلَمْ تُوفُوا بِعَهْدِي، وَاتَّقَوْنِ، إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ وَإِنِ اشْتَرَيْتُمْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ: أَيِ الصِّدْقَ بِالْكَذِبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِالْإِسْلَامِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ التَّوْرَاةَ بِمَا كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ بِمَا بَدَّلُوا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوِ الْأَمَانَةَ بِالْخِيَانَةِ لِأَنَّهُمُ ائْتُمِنُوا عَلَى إِبْدَاءِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، فَخَانُوا فِي ذَلِكَ بِكِتْمَانِهِ وَتَبْدِيلِهِ، أَوِ الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَيْرِهِمْ وَجَحْدِهِمْ أَنَّهُ مَا بُعِثَ إِلَيْهِمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ إِيمَانَ مُنَافِقِي الْيَهُودِ بِإِبْطَانِ كُفْرِهِمْ، أَوْ صفة النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ الدَّجَّالِ. وَظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِالْبَاطِلِ لِلْإِلْصَاقِ، كَقَوْلِكَ: خَلَطْتُ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ، فَكَأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ أَنْ يَخْلِطُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، فلا يتيمز الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، كَهِيَ فِي كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، قَالَ: كَأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا تَجْعَلُوا الْحَقَّ مُلْتَبِسًا مُشْتَبِهًا بِبَاطِلِكُمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ عَنْ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَصَرْفٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ.
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ: مَجْزُومٌ عَطْفًا عَلَى تَلْبِسُوا، وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، كَمَا قَالُوا: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، بِالْجَزْمِ نَهْيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، وَجُوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا على إِضْمَارِ أَنْ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَيُسَمَّى عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ النَّصْبُ عَلَى الصَّرْفِ. وَالْجَرْمِيُّ يَرَى أَنَّ النَّصْبَ بِنَفْسِ الْوَاوِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَمَا جَوَّزُوهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ النَّهْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، مَعْنَاهُ: النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ بِالْمَفْهُومِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِالْتِبَاسِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ رُجِّحَ الْجَزْمُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَاتِمِينَ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُثْبَتَةَ الْمُصَدَّرَةَ بِمُضَارِعٍ، إِذَا وَقَعَتْ حَالًا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ، وَالتَّقْدِيرُ الْإِعْرَابِيُّ هُوَ أَنْ تُضْمِرَ قَبْلَ
290
الْمُضَارِعِ هُنَا مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ: وَأَنْتُمْ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَلَا يَظْهَرُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهُمْ قَدْ نُهُوا عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالْحَالِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْحَالُ لَازِمَةً، وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَقَعُ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ إِلَّا وَيَكُونُ الْحَقُّ مَكْتُومًا، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ نَعَى عَلَيْهِمْ كَتْمَهُمُ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ حَقٌّ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ، عَلَى مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ سِيبَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّنَاسُبُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، وَكِلَا التَّخْرِيجَيْنِ تَخْرِيجُ شُذُوذٍ. وَالْحَقُّ الَّذِي كَتَمُوهُ هُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، أَوِ الْإِسْلَامُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ يَكُونُ الْحَقُّ عَامًّا فَيَنْدَرِجُ فِيهِ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ، وَمَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتْمَانُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيُظْهِرُونَ خِلَافَهُ.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَمَفْعُولُ تَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ اقْتِصَارًا، إِذِ الْمَقْصُودُ:
وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ، فَلَا يُنَاسِبُ مَنْ كَانَ عَالِمًا أَنْ يَكْتُمَ الْحَقَّ وَيُلْبِسَهُ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ قَدَّرُوا حَذْفَهُ حَذْفَ اخْتِصَارٍ، وَفِيهِ أَقَاوِيلُ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ هُوَ وَصِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. الثَّالِثُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ لِلنَّاسِ قَاطِبَةً. الرَّابِعُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي حَالِ عِلْمِكُمْ أَنَّكُمْ لَابِسُونَ كَاتِمُونَ، فَجَعَلَ مَفْعُولَ الْعِلْمِ اللَّبْسَ وَالْكَتْمَ الْمَفْهُومَيْنِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، قَالَ: وَهُوَ أَقْبَحُ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْقَبِيحِ رُبَّمَا عُذِرَ رَاكِبُهُ، انْتَهَى. فَكَانَ مَا قَدَّرَهُ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قُبْحَ أَوْ تَحْرِيمَ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَلَمْ يَشْهَدْ تَعَالَى لَهُمْ بِعِلْمٍ، وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ كِتْمَانِ مَا عَلِمُوا، انْتَهَى.
وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ مَفْعُولَ تَعْلَمُونَ هُوَ الْحَقَّ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَهُ، لِأَنَّ الْمَكْتُومَ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَغَيْرَ حَقٍّ، فَإِذَا كَانَ حَقًّا وَعَلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ، كَانَ كِتْمَانُهُ لَهُ أشد معصية وَأَعْظَمَ ذَنْبًا، لِأَنَّ الْعَاصِيَ عَلَى عِلْمٍ أَعْصَى مِنَ الْجَاهِلِ الْعَاصِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ بِعِلْمِ حَقٍّ مَخْصُوصٍ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُمْ بِعِلْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، قَالَ:
وَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الْجُمْلَةَ تَكُونُ مَعْطُوفَةً، وَإِنْ كَانَتْ ثُبُوتِيَّةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ جُمْلَةِ النَّهْيِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنَاسِبَةً فِي الْإِخْبَارِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي تَخْرِيجِنَا لِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَتَكْتُمُونَ.
وَالْأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ كَوْنِ الْعِلْمِ حُذِفَ مَفْعُولُهُ حَذْفَ اقْتِصَارٍ،
291
إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، لَا يَصْلُحُ لَهُ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَلَا كِتْمَانُهُ. وَهَذِهِ الْحَالُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا أَنَّهَا قَيْدٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ، فَلَا تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى جَوَازِ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ حَالَةَ الْجَهْلِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِحَالِ الشَّيْءِ لَا يَدْرِي كَوْنَهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا: أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْقَبِيحَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا أَفْحَشُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا مَعَ الْجَهْلِ بِهَا. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَا تَتَوَهَّمُوا، أَنْ يَلْتَئِمَ لَكُمْ جَمْعُ الضِّدَّيْنِ وَالْكَوْنُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَحَلَّيْنِ، فَإِمَّا مَبْسُوطَةٌ بِحَقٍّ، وَإِمَّا مَرْبُوطَةٌ بِحَطٍّ، وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، تَدْلِيسٌ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ تَلْبِيسٌ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَقَّ الْحَقِّ تَقْدِيسٌ، انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كِتْمَانُهُ.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ «١»، وَيَعْنِي بِذَلِكَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَزَكَاتَهُمْ، فَقِيلَ: هِيَ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقِيلَ: جِنْسُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. قِيلَ: أَرَادَ الْمَفْرُوضَةَ، وَقِيلَ:
صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ: احْفَظُوا أَدَبَ الْحَضْرَةِ، فَحِفْظُ الْأَدَبِ لِلْخِدْمَةِ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَآتُوا الزَّكَاةَ، زَكَاةَ الْهِمَمِ، كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النِّعَمِ، قَالَ قَائِلُهُمْ:
كُلُّ شَيْءٍ لَهُ زَكَاةٌ تُؤَدَّى وَزَكَاةُ الْجَمَالِ رَحْمَةُ مِثْلِي.
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ: خِطَابٌ لِلْيَهُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ: الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الرُّكُوعُ الْمَعْرُوفُ فِي الصَّلَاةِ، وَأُمِرُوا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوعُ مُنْدَرِجًا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي أُمِرُوا بِإِقَامَتِهَا، لِأَنَّهُ رُكُوعٌ فِي صَلَاتِهِمْ، فَنَبَّهَ بِالْأَمْرِ بِهِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِي صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: كَنَى بِالرُّكُوعِ عَنِ الصَّلَاةِ: أَيْ وَصَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ، كَمَا يُكْنَى عَنْهَا بِالسَّجْدَةِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِالْجُزْءِ، وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ مَعَ دَلَالَةٌ عَلَى إِيقَاعِهَا فِي جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِيقَاعُهَا فِي جَمَاعَةٍ.
وَالرَّاكِعُونَ: قِيلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْجِنْسَ مِنَ الرَّاكِعِينَ.
وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَاتٍ بِالْوَاوِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي فِي الْوَضْعِ تَرْتِيبًا ترتيب
(١) سورة التوبة: ٩/ ٧١.
292
عَجِيبٌ، مِنْ حَيْثُ الْفَصَاحَةِ وَبِنَاءِ الْكَلَامِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِذِكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ، إِذْ فِي ذَلِكَ مَا يَدْعُو إِلَى مَحَبَّةِ الْمُنْعِمِ وَوُجُوبِ إِطَاعَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِيفَاءِ الْعَهْدِ الَّذِي الْتَزَمُوهُ لِلْمُنْعِمِ، ثُمَّ رَغَّبَهُمْ بِتَرْتِيبِ إِيفَائِهِ هُوَ تَعَالَى بِعَهْدِهِمْ فِي الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْخَوْفِ مِنْ نِقْمَاتِهِ إِنْ لَمْ يُوفُوا، فَاكْتَنَفَ الْأَمْرَ بِالْإِيفَاءِ أَمْرٌ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَأَمْرٌ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعِصْيَانِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِإِيمَانٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَرَغَّبَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ، فَلَيْسَ أَمْرًا مُخَالِفًا لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ إِلَى الْمُوَافِقِ أَقْرَبُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُخَالِفِ. ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنِ اسْتِبْدَالِ الْخَسِيسِ بِالنَّفِيسِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِاتِّقَائِهِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَعَنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ أَمْرًا بِتَرْكِ الضَّلَالِ، وَالنَّهْيُ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَكِتْمَانِ الْحَقِّ تَرْكًا لِلْإِضْلَالِ. وَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ نَاشِئًا عَنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَمْوِيهُ الْبَاطِلِ حَقًّا إِنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ قَدْ بَلَغَتِ الْمُسْتَتْبِعَ، وَإِمَّا عَنْ كِتْمَانِ الدَّلَائِلِ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْهُ، أَشَارَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِلَا تَلْبِسُوا وَتَكْتُمُوا، ثُمَّ قَبَّحَ عَلَيْهِمْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، إِذِ الصَّلَاةُ آكَدُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالزَّكَاةُ آكَدُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى مَعَ جُمْلَةِ الْخَاضِعِينَ الطَّائِعِينَ.
فَكَانَ افْتِتَاحُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ النِّعَمِ وَاخْتِتَامُهَا بِالِانْقِيَادِ لِلْمُنْعِمِ، وَمَا بَيْنَهُمَا تَكَالِيفٌ اعْتِقَادِيَّةٌ وَأَفْعَالٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ. وَبِنَحْوِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الِافْتِتَاحِ وَالْإِرْدَافِ وَالِاخْتِتَامِ يَظْهَرُ فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ، وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً فِي الصُّورَةِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَا هِيَ عَامَّةٌ فِي الْمَعْنَى، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ ذِكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَالْإِيفَاءُ بِالْعَهْدِ وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
الْأَمْرُ: طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّأْنِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: أَمَرَ يَأْمُرُ، عَلَى:
فَعَلَ يَفْعُلُ، وَتُحْذَفُ فَاؤُهُ فِي الْأَمْرِ مِنْهُ بِغَيْرِ لَامٍ، فَتَقُولُ: مُرْ زَيْدًا وَإِتْمَامُهُ قَلِيلٌ، أَوْ مُرْ زَيْدًا،
293
فَإِنْ تَقَدَّمَ الْأَمْرَ وَاوٌ أَوْ فَاءٌ، فَإِثْبَاتُ الْهَمْزَةِ أَجْوَدُ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ بِحَرْفِ جَرٍّ. وَيَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الْحَرْفِ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالٍ مَحْصُورَةٍ تُحْذَفُ مِنْ ثَانِي مَفْعُولَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ جَوَازًا تُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا. الْبِرُّ: الصِّلَةُ، وَأَيْضًا: الطَّاعَةُ.
قَالَ الرَّاجِزُ:
لا همّ رَبِّ إِنَّ بَكْرًا دُونَكَا يَبَرُّكُ النَّاسُ وَيَفْخَرُونَكَا
وَالْبِرُّ: الْفُؤَادُ، وَوَلَدُ الثَّعْلَبِ وَالْهِرُّ، وَبَرَّ وَالِدَهُ: أَجَلَّهُ وَأَعْظَمَهُ. يَبَرُّهُ: عَلَى وَزْنِ فَعَلَ يَفَعْلُ، وَرَجُلٌ بَارٌّ، وَبَرٌّ، وَبَرَّتْ يَمِينُهُ، وَبَرَّ حَجُّهُ: أَجَلَّهَا وَجَمَعَ أَنْوَاعًا مِنَ الْخَيْرِ، وَالْبِرُّ سَعَةُ الْمَعْرُوفِ وَالْخَيْرِ، وَمِنْهُ: الْبَرُّ وَالْبَرِّيَّةُ لِلسَّعَةِ. وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ خَيْرٍ، وَالْإِبْرَارُ: الْغَلَبَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَبَرُّونَ عَلَى الْآبِي الْمُبِرِّ النِّسْيَانُ: ضِدُّ الذِّكْرِ، وَهُوَ السَّهْوُ الْحَادِثُ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّرْكِ، وَضِدُّهُ الْفِعْلُ، وَالْفِعْلُ: نَسِيَ يَنْسَى عَلَى فَعِلَ يَفْعَلُ، وَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَقَدْ يُعَلَّقُ نَسِيَ حَمْلًا عَلَى عَلِمَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ انْتُمُ وَرِيحُكُمُ مِنْ أَيِّ رِيحِ الْأَعَاصِرِ
وَفِي الْبَيْتِ احْتِمَالٌ، التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ الْآيَاتِ أَوِ الْكَلِمَاتِ أَوِ الْحُرُوفَ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الذِّكْرِ. والتلو: التبع، وناقة مثل: يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا. الْعَقْلُ:
الْإِدْرَاكُ الْمَانِعُ مِنَ الْخَطَأِ، وَمِنْهُ عِقَالُ الْبَعِيرِ، يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَالْمَعْقِلُ: مَكَانٌ يُمْتَنَعُ فِيهِ، وَالْعَقْلُ: الدِّيَةُ لِأَنَّ جِنْسَهَا إِبِلٌ تُعْقَلُ فِي فِنَاءِ الْوَلِيِّ، أَوْ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ قَتْلِ الْجَانِي، وَالْعَقْلُ: ثَوْبٌ مُوَشًّى، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَقْلًا وَرَقْمًا تَظَلُّ الطَّيْرُ تَتْبَعُهُ كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الْأَجْوَافِ مَدْمُومُ
وَالْعِقَالُ: زَكَاةُ الْعَامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ
وَرَمْلٌ عَقَنْقَلٌ: مُتَمَاسِكٌ عَنِ الِانْهِيَارِ. الصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَالْفِعْلُ:
صَبَرَ يَصْبِرُ عَلَى فَعَلَ يَفْعِلُ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ
وَقَدْ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِهِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. الكبيرة: مِنْ كَبُرَ يَكْبُرُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ
294
فِي الْجِرْمِ وَفِي الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَبُرَ عَلَيَّ كَذَا، أَيْ شَقَّ، وَكَبُرَ يَكْبُرُ، فَهُوَ كَبِيرٌ مِنَ السِّنِّ. قَالَ الشَّاعِرُ:
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر وَلَمْ يَكْبُرِ الْبَهْمُ
الْخُشُوعُ: قَرِيبٌ مِنَ الْخُضُوعِ، وَأَصْلُهُ: اللِّينُ وَالسُّهُولَةُ، وَقِيلَ: الِاسْتِكَانَةُ وَالتَّذَلُّلُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: الْخُضُوعُ فِي الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعُ فِي الْبَدَنِ وَالْبَصَرِ وَالصَّوْتِ، وَالْخُشْعَةُ: الرَّمْلَةُ الْمُتَطَامِنَةُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَتِ الْكَعْبَةُ خُشْعَةً عَلَى الْمَاءِ».
الظَّنُّ: تَرْجِيحُ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ النَّحْوِيُّونَ بِالشَّكِّ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى التَّيَقُّنِ. وَفِي كِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ يَدْخُلُ عَلَى مَا أَصْلُهُ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، خِلَافًا لِأَبِي زَيْدٍ السُّهَيْلِيِّ، إِذْ زَعَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نَوَاسِخِ الِابْتِدَاءِ. وَالظَّنُّ أَيْضًا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى:
التُّهْمَةِ، فَيَتَعَدَّى إِذْ ذَاكَ لِوَاحِدٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الظَّنُّ يَقَعُ بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ.
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الْهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ وَضْعًا، وَشَابَهَا هُنَا التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ لِأَنَّ الْمَعْنَى: الْإِنْكَارُ، وعليهم توبيخهم عَلَى أَنْ يَأْمُرَ الشَّخْصُ بِخَيْرٍ، وَيَتْرُكَ نَفْسَهُ وَنَظِيرُهُ فِي النَّهْيِ، قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِنِ انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَيَقْبُحُ فِي الْعُقُولِ أَنْ يَأْمُرَ الْإِنْسَانُ بِخَيْرٍ وَهُوَ لَا يَأْتِيهِ، وَأَنْ يَنْهَى عَنْ سُوءٍ وَهُوَ يَفْعَلُهُ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْبِرِّ هُنَا أَقْوَالٌ: الثَّبَاتُ عَلَى دِينِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ، أَوِ اتِّبَاعُ التَّوْرَاةِ وَهُمْ يُخَالِفُونَهَا فِي جَحْدِهُمْ صِفَتَهُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيِّ: أَوْ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَبْخَلُونَ، أَوْ عَلَى الصِّدْقِ وَهُمْ لَا يَصْدُقُونَ، أَوْ حَضُّ أَصْحَابِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَلَا يَأْتُونَهُمَا. وَقَالَ السُّلَمِيُّ: أَتُطَالِبُونَ النَّاسَ بِحَقَائِقِ الْمَعَانِي وَأَنْتُمْ قُلُوبُكُمْ خَالِيَةٌ عَنْ ظَوَاهِرِ رُسُومِهَا؟ وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَتُحَرِّضُونَ النَّاسَ عَلَى الْبِدَارِ وَتَرْضَوْنَ بِالتَّخَلُّفِ؟ وَقَالَ: أَتَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَيْنَا وَتَقْعُدُونَ عَنَّا؟ وَأَلْفَاظًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَأَتَى بِالْمُضَارِعِ فِي: أَتَأْمُرُونَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ: الدَّيْمُومَةُ وَكَثْرَةُ التَّلَبُّسِ بِالْفِعْلِ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَعَبَّرَ عَنْ تَرْكِ فِعْلِهِمْ بِالنِّسْيَانِ مُبَالَغَةً فِي
295
التَّرْكِ، فَكَأَنَّهُ لَا يَجْرِي لَهُمْ عَلَى بَالٍ، وَعَلَّقَ النساء بِالْأَنْفُسِ تَوْكِيدًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْغَفْلَةِ الْمُفْرِطَةِ.
وَتَنْسَوْنَ: مَعْطُوفٌ عَلَى تَأْمُرُونَ، وَالْمَنْعِيُّ عَلَيْهِمْ جَمْعُهُمْ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ بِالْبِرِّ الَّذِي فِي فِعْلِهِ النَّجَاةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَتَرْكِ فِعْلِهِ حَتَّى صَارَ نَسْيًا مَنْسِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ. أَنْفُسَكُمْ، وَالْأَنْفُسُ هُنَا: ذَوَاتُهُمْ، وَقِيلَ: جَمَاعَتُهُمْ وَأَهْلُ مِلَّتِهِمْ، ثُمَّ قُيِّدَ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ: أَيْ أَنَّكُمْ مُبَاشِرُو الْكِتَابِ وَقَارِئُوهُ، وَعَالِمُونَ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ، فَكَيْفَ امْتَثَلْتُمُوهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِكُمْ؟ وخالفتموه أَنْفُسِكُمْ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ «١». وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَلَا يَخْفَى مَا فِي تَصْدِيرِهَا بِقَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ
، مِنَ التَّبْكِيتِ لَهُمْ وَالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبَةِ بِخِلَافِهَا لَوْ كَانَتِ اسْمًا مُفْرَدًا. وَالْكِتَابُ هُنَا: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَفِيهِمَا النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ الذَّمِيمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا الْقُرْآنُ، قَالُوا: وَيَكُونُ قَدِ انْصَرَفَ مِنْ خِطَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ «٢»، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ بُعْدٌ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ خِطَابٌ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
أَفَلا تَعْقِلُونَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ: أَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ كَانَ تَقْدِيمَ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى الْهَمْزَةِ فِي مِثْلِ هَذَا وَمِثْلِ أَوَلَمْ يَسِيرُوا أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْهَمْزَةُ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، قُدِّمَتْ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ هَلْ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْوَاوَ وَالْفَاءَ وَثُمَّ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَهَا، وَلَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ، وَيَجْعَلُ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ جُمْلَةً مُقَدَّرَةً يَصِحُّ الْعَطْفُ عَلَيْهَا، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحَذْفَ أَوْلَى مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِنَا لِكِتَابِ التَّسْهِيلِ. فَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَأَلَا تَعْقِلُونَ، وَعَلَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَتَعْقِلُونَ فَلَا تَعْقِلُونَ، أَمَكَثُوا فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، أَوْ مَا كَانَ شِبْهَ هَذَا الْفِعْلِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَنَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَفَلا تَعْقِلُونَ، عَلَى أَنَّ فِيهِمْ إِدْرَاكًا شَرِيفًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ قَبِيحِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِمْ بِالْخَيْرِ وَنِسْيَانِ أَنْفُسِهِمْ عَنْهُ، وَإِنَّ هَذِهِ حَالَةُ مَنْ سُلِبَ الْعَقْلَ، إِذِ الْعَاقِلُ سَاعٍ فِي
(١) سورة البقرة: ٢/ ٤٢.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٢٩.
296
تَحْصِيلِ مَا فِيهِ نَجَاتُهُ وَخَلَاصُهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي خَلَاصِ غَيْرِهِ، ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ. وَمَرْكُوزٌ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يُحَصِّلْ لِنَفْسِهِ مَصْلَحَةً، فَكَيْفَ يُحَصِّلُهَا لِغَيْرِهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْزِنْ عَلَيْهِ لِسَانَهُ فَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ بِخَزَّانِ
فَإِذَا صَدَرَ مِنَ الْإِنْسَانِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ لِغَيْرِهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، كَانَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ، خُصُوصًا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُرْجَى بِسُلُوكِهَا النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَالْفَوْزُ بِالنَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ. وَقَدْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: أَفَلا تَعْقِلُونَ بِأَقْوَالٍ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ: أَفَلَا تَمْنَعُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ مُوَاقَعَةِ هَذِهِ الْحَالِ الْمُرْدِيَةِ بِكُمْ، أَوْ أَفَلَا تَفْهَمُونَ قُبْحَ مَا تَأْتُونَ مِنْ مَعْصِيَةِ رَبِّكُمْ فِي اتِّبَاعِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ، أَوْ أَفَلَا تَنْتَهُونَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَنْهَى عَنِ الْقَبِيحِ، أَوْ أَفَلَا تَرْجِعُونَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يُرَادُ إِلَى الْأَحْسَنِ، أَوْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّهُ حَقٌّ فَتَتَّبِعُونَهُ، أَوْ أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ رَاجِعٌ، أَوْ أَفَلَا تَمْتَنِعُونَ مِنَ الْمَعَاصِي، أَوْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، إِذْ لَيْسَ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ أَنْ تَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا تَأْتِيَهُ، أَوْ أَفَلَا تَفْطِنُونَ لِقُبْحِ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَصُدَّكُمُ اسْتِقْبَاحُهُ عَنِ ارْتِكَابِهِ، وَكَأَنَّكُمْ فِي ذَلِكَ مَسْلُوبُو الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعُقُولَ تَأْبَاهُ وَتَدْفَعُهُ. وَشَبِيهٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ «١» الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: الْإِرْشَادُ إِلَى الْمَنْفَعَةِ وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الْمَفْسَدَةِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِشَوَاهِدِ الْعَقْلِ، فَمَنْ وَعَظَ وَلَمْ يَتَّعِظْ فَكَأَنَّهُ أَتَى بِفِعْلٍ مُتَنَاقِضٍ لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْوَعْظُ سَبَبًا لِلرَّغْبَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ:
لَوْلَا اطِّلَاعُ الْوَاعِظِ عَلَى أَنْ لَا أَصْلَ لِهَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَتَكُونُ النَّفْسُ نَافِرَةً عَنْ قَبُولِ وَعْظِ مَنْ لَمْ يَتَّعِظْ، وَأَنْشَدُوا:
مَوَاعِظُ الْوَاعِظِ لَنْ تُقْبَلَا حَتَّى يعيها قبله أَوَّلَا
وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلَانِ: عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ، وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ.
وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَاصِي أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَلَا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: التَّوْبِيخُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا إِذَا كَانُوا فَاعِلِي أَفْعَالِهِمْ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَهَذَا الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهُوَ عَامٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسْعٍ: بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعُوا عَلَى
(١) سورة الصف: ٦١/ ٢.
297
نَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا لَهُمْ: قَدْ كُنْتُمْ تَأْمُرُونَنَا بِأَشْيَاءَ عَمِلْنَاهَا فَدَخَلْنَا الْجَنَّةَ، قَالُوا: كُنَّا نَأْمُرُكُمْ بِهَا وَنُخَالِفُ إِلَى غَيْرِهَا.
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَادَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «١»، وَأَنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الطَّلَبَ، وَأَنَّ اسْتَعَانَ مَعْنَاهُ طَلَبَ الْمَعُونَةَ، وَظَاهِرُ الصَّبْرِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ: الصَّوْمُ، وَالصَّوْمُ: صَبْرٌ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الطَّعَامِ، وَسُمِّيَ رَمَضَانُ: شَهْرَ الصَّبْرِ. وَالصَّلَاةُ: هِيَ الْمَفْرُوضَةُ مَعَ مَا يَتْبَعُهَا مِنَ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ الدُّعَاءُ وَقَدْ أضمر، والصبر صِلَةً تُقَيِّدُهُ، فَقِيلَ: بِالصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُهُ نُفُوسُكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ، أَوْ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عَنِ الْمَعَاصِي، أَوْ عَلَى تَرْكِ الرِّيَاسَةِ، أَوْ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعَنِ الشَّهَوَاتِ، أَوْ عَلَى حَوَائِجِكُمْ إِلَى اللَّهِ، أَوْ عَلَى الصَّلَاةِ. وَلَمَّا قُدِّرَ هَذَا التَّقْدِيرُ، أَعْنِي بِالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ، تَوَهَّمَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْقُرْآنِ، أَنَّ الْوَاوَ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ هُنَا بِمَعْنَى عَلَى، وَإِنَّمَا يُرِيدُ قَائِلُ هَذَا: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وبالصلاة، لِأَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى عَلَى، وَيَكُونُ يَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «٢» وَأُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يُتْلَى فِيهَا مَا يُرَغِّبُ فِي الْآخِرَةِ وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنْ تَمْحِيصِ الذُّنُوبِ وَتَرْقِيقِ الْقُلُوبِ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنْ إِزَالَةِ الْهُمُومِ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حز به أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ».
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نُعِيَ إِلَيْهِ قُثَمٌ أَخُوهُ، فَقَامَ يُصَلِّي، وَتَلَا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ ذَكَرُوهَا. وَقُدِّمَ الصَّبْرُ عَلَى الصَّلَاةِ، قِيلَ: لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّبْرِ فِي إِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَتَأْثِيرَ الصَّلَاةِ فِي حُصُولِ مَا يَنْبَغِي، وَالنَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ قَدَّمَ الِاسْتِعَانَةَ بِهِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ تَكَالِيفٍ عَظِيمَةٍ شَاقٍّ فِرَاقُهَا عَلَى مَنْ أَلِفَهَا وَاعْتَادَهَا مِنْ ذِكْرِ مَا نَسُوهُ وَالْإِيفَاءِ بِمَا أَخْلَفُوهُ وَالْإِيمَانِ بِكِتَابٍ مُتَجَدِّدٍ وَتَرْكِ أَخْذِهِمُ الرِّشَا عَلَى آيَاتِ اللَّهِ وَتَرْكِهِمْ إِلْبَاسَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكَتْمِ الْحَقِّ الَّذِي لَهُمْ بِذَلِكَ الرِّيَاسَةُ فِي الدُّنْيَا وَالِاسْتِتْبَاعُ لِعَوَامِّهِمْ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، فَكَانَتِ الْبَدَاءَةُ بِالصَّبْرِ لِذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ هُوَ الصَّلَاةَ، وَبِهَا يَتَمَيَّزُ الْمُسْلِمُ مِنَ الْمُشْرِكِ، أَتْبَعَ الصَّبْرَ بِهَا، إِذْ يَحْصُلُ بِهَا الِاشْتِغَالُ عَنِ الدُّنْيَا، وَبِالتِّلَاوَةِ فِيهَا الْوُقُوفُ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ، وَمَصِيرُ الخلق
(١) سورة الفاتحة: ١/ ٥.
(٢) سورة طه: ٢٠- ١٣٢.
298
إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ، فَيَرْغَبُ الْمُشْتَغِلُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيَرْغَبُ عَنِ الدُّنْيَا. وَنَاهِيكَ مِنْ عِبَادَةٍ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَيَسْتَغْفِرُ ذَنْبَهُ. وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ فِي أَنْ أُمِرُوا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَيَبْعُدُ دَعْوَى مَنْ قَالَ:
إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لِأَنَّ مَنْ يُنْكِرُهُ لَا يَكَادُ يُقَالُ لَهُ اسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ أَوَّلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ يَقَعُ بَعْدُ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ صَرْفَ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِهِمْ لِغَيْرِ مُوجِبٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ نَظْمِ الْفَصَاحَةِ.
وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الصَّلَاةِ. هَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْقَاعِدَةُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ ضَمِيرَ الْغَائِبِ لَا يَعُودُ عَلَى غَيْرِ الْأَقْرَبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ، وَهُوَ الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا، فَيَكُونُ مِثْلَ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «١»، أَيْ الْعَدْلُ أَقْرَبُ، قَالَهُ الْبَجَلِيُّ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى إِجَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ مِمَّا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: عَلَى الْعِبَادَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا بِالْمَعْنَى ذِكْرُ الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ إِلَيْهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ الَّتِي أُمِرَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنُهُوا عَنْهَا، مِنْ قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إِلَى وَاسْتَعِينُوا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَاكْتَفَى بِعَوْدِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّهُمَا كَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «٢» فِي بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ، وَكَقَوْلِهِ:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنْ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الأسود مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ فِيمَا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرُهَا مَا بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا، قَالَ مُؤَرِّجٌ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَهَمُّ وَأَغْلَبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: انْفَضُّوا إِلَيْها «٣»، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ مَيْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ انْصَرَفُوا فِي الْجُمُعَةِ إِلَى التِّجَارَةِ أَهَمُّ وَأَغْلَبُ مِنْ مَيْلِهِمْ إِلَى اللَّهْوِ، فَلِذَلِكَ كَانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ يَعْنِي أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْعَوْدِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يُخَالِفُ الْعَطْفَ بَأَوْ، فَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ مُطَابَقَةُ الضَّمِيرِ لِمَا قَبْلَهُ فِي تَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ، وَأَمَّا الْعَطْفُ بَأَوْ فَلَا يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ إِلَّا عَلَى أَحَدِ مَا سَبَقَ. وَمَعْنَى كِبَرِ الصَّلَاةِ: ثِقَلُهَا وصعوبتها
(١) سورة المائدة: ٥/ ٨.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٣٤.
(٣) سورة الجمعة: ٦٢/ ١١.
299
عَلَى مَنْ يَفْعَلُهَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ «١»، أَيْ شَقَّ ذَلِكَ وَثَقُلَ.
إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ: اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، وَهُمُ الْمُتَوَاضِعُونَ الْمُسْتَكِينُونَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ، لِأَنَّهَا مُنْطَوِيَةٌ عَلَى أَوْصَافٍ هُمْ مُتَحَلُّونَ بِهَا لِخُشُوعِهِمْ مِنَ الْقِيَامِ لِلَّهِ وَالرُّكُوعِ لَهُ وَالسُّجُودِ لَهُ وَالرَّجَاءِ لِمَا عِنْدَهُ مِنَ الثَّوَابِ. فَلَمَّا كَانَ مَآلُ أَعْمَالِهِمْ إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، سَهُلَ عَلَيْهِمْ مَا صَعُبَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهِمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لَهَا نَفْعًا. وَيَجُوزُ فِي الَّذِينَ الْإِتْبَاعُ وَالْقَطْعُ إِلَى الرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ، وَذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ، فَالْقَطْعُ أَوْلَى بِهَا.
ويَظُنُّونَ مَعْنَاهُ: يُوقِنُونَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّ مَنْ وُصِفَ بِالْخُشُوعِ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ مُلَاقٍ رَبَّهُ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: الْحُسْبَانُ، فَيُحْتَاجُ إِلَى مُصَحِّحٍ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مَا قَدَّرُوهُ مِنَ الْحَذْفِ، وَهُوَ بِذُنُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَ رَبِّهِمْ مُذْنِبِينَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمِثْلُهُ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ «٢»، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا. وَقَالَ دُرَيْدُ:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ سُرَاتُهُمْ فِي السَّائِرِيِّ الْمُسْرَدِ
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدْ يُوقَعُ الظَّنُّ مَوْقِعَ الْيَقِينِ فِي الْأُمُورِ الْمُتَحَقِّقَةِ، لَكِنَّهُ لَا يُوقَعُ فِيمَا قَدْ خَرَجَ إِلَى الْحِسِّ. لَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي رَجُلٍ مَرْئِيٍّ حَاضِرٍ: أَظُنُّ هَذَا إِنْسَانًا، وَإِنَّمَا نَجِدُ الِاسْتِعْمَالَ فِيمَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِسِّ، انْتَهَى. وَالظَّنُّ فِي كِلَا اسْتِعْمَالَيْهِ مِنَ الْيَقِينِ، أَوِ الشَّكِّ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَتَأْتِي بَعْدَ الظَّنِّ أن الناصبة للفعل وإنّ النَّاصِبَةُ لِلِاسْمِ الرَّافِعَةُ لِلْخَبَرِ فَتَقُولُ: ظَنَنْتُ أَنْ تَقُومَ، وَظَنَنْتُ أَنَّكَ تَقُومُ. وَفِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ خِلَافٌ. مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ:
أَنَّ أَنْ وَإِنَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَعَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ تَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَذَلِكَ بِجَرَيَانِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ. وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ: أَنَّ أَنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ أَوَّلٍ، وَالثَّانِي مُقَدَّرٌ، فَإِذَا قُلْتَ: ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، فَتَقْدِيرُهُ: ظَنَنْتُ قِيَامَ زَيْدٍ كَائِنًا أَوْ وَاقِعًا. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، الْمُلَاقَاةُ: مُفَاعَلَةٌ تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ لَاقَاكَ فَقَدْ لَاقَيْتَهُ.
وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْمُلَاقَاةُ هُنَا، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهَا تقتضي التشريك،
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ١٣. [.....]
(٢) سورة الحاقة: ٦٩/ ٢٠.
300
فَهِيَ مِنَ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِمْ: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَعَافَاكَ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ لَقِيَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى لَاقَى، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا، بَلْ فَعَلَ خِلَافٌ فِي الْمَعْنَى لِفَاعَلَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ مِنْ حَيْثُ أن مادة لقي تتضمن مَعْنَى الْمُلَاقَاةِ، بِمَعْنَى أَنَّ وَضْعَ هَذَا الْفِعْلِ، سَوَاءٌ كَانَ مُجَرَّدًا أَوْ عَلَى فَاعِلٍ، مَعْنَاهُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَنْ لَقِيَكَ فَقَدْ لَقِيتَهُ، فَهُوَ لِخُصُوصِ مادته يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةِ، وَيَسْتَحِيلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاعَلَ يَكُونُ لِمُوَافَقَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي فَاعَلَ، وَهُوَ أَنْ يُوَافِقَ الْفِعْلَ الْمُجَرَّدَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، أَيْ لَيْسَتِ الْأَفْعَالُ مُجَرَّدُهَا بِمَعْنَى فَاعَلَ، بَلْ فَاعَلَ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ. وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَ خِلَافُ فَاعَلَ يَعْنِي بَلِ الْمُجَرَّدُ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهُوَ خِلَافُ فاعل، لأنه يدل على الِاشْتِرَاكِ، فَضُعِّفَ بِأَنْ يَكُونَ فَاعَلَ مِنَ اللِّقَاءِ مِنْ بَابِ: عَاقَبْتُ اللِّصَّ، حَيْثُ إِنَّ مَادَّةَ اللِّقَاءِ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، سَوَاءٌ كَانَ بِصِيغَةِ الْمُجَرَّدِ أَوْ بِصِيغَةِ فَاعَلَ.
وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ، لِأَنَّهَا إِضَافَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ، أَوْ الِاسْتِقْبَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِعْمَالِهِ فِي الْمَفْعُولِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّبِّ، وَإِضَافَةُ الرَّبِّ إِلَيْهِمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّبَّ عَلَى أَيِّ مَحَامِلِهِ حَمَلْتَهُ فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى الْإِحْسَانِ لِمَنْ يَرُبُّهُ، وَتَعَطُّفٌ بَيِّنٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُ لَفْظِ الرَّبِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى مُلَاقَاةِ رَبِّهِمْ، فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ وَلَا كِنَايَةٍ بِأَنَّ اللِّقَاءَ هُوَ رُؤْيَةُ الْبَارِي تَعَالَى، وَلَا لِقَاءَ أَعْظَمَ وَلَا أَشْرَفَ مِنْهَا، وَقَدْ جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَإِلَى اعْتِقَادِهَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ جَزَاءُ رَبِّهِمْ، لِأَنَّ الْمُلَاقَاةَ بِالذَّوَاتِ مُسْتَحِيلَةٌ فِي غَيْرِ الرُّؤْيَةِ، وَقِيلَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ انْقِضَاءِ أَجْلِهِمْ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّهْ مُحَمَّدًا وَصَحْبَهْ
وَكَنَى بِالْمُلَاقَاةِ عَنِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ ملاقات اللَّهِ مُتَسَبِّبٌ عَنِ الْمَوْتِ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُسَبَّبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ السَّبَبُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَظُنُّ الْمَوْتَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ لَا يُفَارِقُ قَلْبَهُ الْخُشُوعُ، وَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَخَصَّ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الثَّوَابُ، أَيْ ثَوَابُ رَبِّهِمْ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ مِنْ كَوْنِهِ يُرَادُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْجَزَاءِ، أَوْ كَوْنِ الْمُلَاقَاةِ يُرَادُ بِهَا انْقِضَاءُ الْأَجَلِ، يَكُونُ الظَّنُّ يُرَادُ بِهِ التَّيَقُّنُ. وَقَدْ نَازَعَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي كَوْنِ لَفْظِ اللِّقَاءِ لَا يُرَادُ بِهِ الرُّؤْيَةُ وَلَا يُفِيدُهَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
301
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ «١» وَالْمُنَافِقُ لَا يَرَى رَبَّهُ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ؟ «٢» وَيَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ؟
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرُوهُ. وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا. وَمَسْأَلَةُ الرُّؤْيَةِ يُتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ.
وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ: اخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي إِلَيْهِ عَلَى مَنْ يَعُودُ، فَظَاهِرُ الْكَلَامِ وَالتَّرْكِيبِ الْفَصِيحِ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الرَّبِّ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَلْفُوظٍ بِهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللِّقَاءِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ مُلَاقُو رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَوْتِ.
وَقِيلَ: عَلَى الْإِعَادَةِ، وَكِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُلَاقُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الرُّجُوعِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقِيلَ: بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الرَّبِّ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ، فَيُحْتَاجُ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: إِلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. وَقِيلَ: الْمَعْنِيُّ بِالرُّجُوعِ:
الْمَوْتُ. وَقِيلَ: رَاجِعُونَ بِالْإِعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: رَاجِعُونَ إِلَى أَنْ لَا يَمْلِكَ أَحَدُهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا لِغَيْرِهِ، كَمَا كَانُوا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: رَاجِعُونَ، فَيَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ دَلَالَةٌ لِلْمُجَسِّمَةِ وَالتَّنَاسُخِيَّةِ عَلَى كَوْنِ الْأَرْوَاحِ قَدِيمَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ. قَالُوا: لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الشَّيْءِ الْمَسْبُوقِ بِالْكَوْنِ عِنْدَهُ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
الْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْخَيْرِ، وَفِعْلُهُ فَعَلَ يفعل، وأصله أن يتعدى بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ عَلَى ثُمَّ بِحَذْفِ عَلَى، عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ:
وَجَدْنَا نهشلا فضلت فقيما كفضل ابْنِ الْمَخَاضِ عَلَى الْفَصِيلِ
وَأَمَّا فِي الْفَضْلَةِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهِيَ الْبَقِيَّةُ، فَيُقَالُ: فَضَلَ يَفْضُلُ، كَالَّذِي قَدَّمْنَاهُ،
(١) سورة التوبة: ٩/ ٧٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٣.
302
وَفَضِلَ يَفْضَلُ، نَحْوَ: سَمِعَ يَسْمَعُ، وَفَضِلَ يَفْضُلُ، بِكَسْرِهَا مِنَ الْمَاضِي، وَضَمِّهَا مِنَ الْمُضَارِعِ، وَقَدْ أُولِعَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ بِإِجَازَةِ فَتْحِ ضَادِ فَضَلْتُ فِي الْبَيْتِ وَكَسْرِهَا، وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ. الْجَزَاءُ: الْقَضَاءُ عَنِ الْمُفَضَّلِ وَالْمُكَافَأَةُ، قَالَ الرَّاجِزُ:
يَجْزِيِهِ رَبُّ الْعَرْشِ عَنِّي إِذْ جَزَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي الْعَلَالِيِّ الْعُلَا
وَالْإِجْزَاءُ: الْإِغْنَاءُ. قَبُولُ الشَّيْءِ: التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ، وَالْفِعْلُ قَبِلَ يَقْبَلُ، وَالْقِبَلُ: مَا وَاجَهَكَ، قَالَ الْقُطَامِيُّ:
فَقُلْتُ لِلرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلَا بِهِمُ مِنْ عَنْ يَمِينِ الْحُبَيَّا نَظْرَةٌ قَبَلُ
الشَّفَاعَةُ: ضَمُّ غَيْرِهِ إِلَى وَسِيلَتِهِ، وَالشُّفْعَةُ: ضَمُّ الْمِلْكِ، الشَّفْعُ: الزَّوْجُ، وَالشَّفَاعَةُ مِنْهُ، لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ: شَفْعٌ، وَقَالَ الْأَحْوَصُ:
كَانَ مَنْ لَامَنِي لِأَصْرِمَهَا كَانُوا لِلَيْلَى بِلَوْمِهِمْ شَفَعُوا
وَنَاقَةٌ شَفُوعٌ: خَلْفُهَا وَلَدٌ. وَقِيلَ: خَلْفُهَا وَلَدٌ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ. الْأَخْذُ: ضِدُّ التَّرْكِ، وَالْأَخْذُ: الْقَبْضُ وَالْإِمْسَاكُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ: أَخِيذٌ، وَتُحْذَفُ فَاؤُهُ فِي الْأَمْرِ مِنْهُ بِغَيْرِ لَامٍ، وَقَلَّ الْإِتْمَامُ. الْعَدْلُ: الْفِدَاءُ، وَالْعَدْلُ: مَا يُسَاوِيهِ قِيمَةً وَقَدَرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ، وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ: الْمُسَاوِي فِي الْجِنْسِ وَالْجِرْمِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَكْسِرُ الْعَيْنَ مِنْ مَعْنَى الْفِدْيَةِ، وَوَاحِدُ الْأَعْدَالِ بِالْكَسْرِ لَا غَيْرُ، وَالْعَدْلُ: الْمَقْبُولُ الْقَوْلِ مِنَ النَّاسِ، وَحُكِيَ فِيهِ أَيْضًا كَسْرُ الْعَيْنِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْعَدْلُ: الْكَفِيلُ وَالرَّشْوَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يَقْبَلُ الصَّرْفَ فِيهَا نَهَابُ الْعَدْلَا النَّصْرُ: الْعَوْنُ، أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ: مَمْدُودَةٌ بِالْمَطَرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبُوكَ الَّذِي أَجْدَى عَلَيَّ بِنَصْرِهِ وَأَمْسَكَ عَنِّي بَعْدَهُ كُلُّ قَاتِلِ
وَقَالَ الْآخَرُ:
إِذَا وَدَّعَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَوَدِّعِي بِلَادَ تَمِيمٍ وانصري أرض عامر
والصبر: الْعَطَاءُ، وَالِانْتِصَارُ: الِانْتِقَامُ. النَّجَاةُ: التَّنْجِيَةُ مِنَ الْهَلَكَةِ بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهَا، وَالْأَصْلُ: الْإِلْقَاءُ بِنَجْوَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَمْ تَرَ لِلنُّعْمَانِ كَانَ بِنَجْوَةٍ مِنَ الشَّرِّ لَوْ أَنَّ امْرَأً كَانَ نَاجِيَا
الْآلُ: قِيلَ بِمَعْنَى الْأَهْلِ، وَزُعِمَ أَنَّ أَلِفَهُ بَدَلٌ عَنْ هَاءٍ، وَأَنَّ تَصْغِيرَهُ أُهَيْلٌ، وَبَعْضُهُمْ
303
ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَلِفَهُ بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَتِلْكَ الْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنْ هَاءٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَهْلِ لِأَنَّ الْأَهْلَ الْقَرَابَةُ، والآل من يؤول مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلِيٍّ أَوْ مَذْهَبٍ، فَأَلِفُهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ.
وَلِذَلِكَ قَالَ يُونُسُ: فِي تَصْغِيرِهِ أُوَيْلٌ، وَنَقَلَهُ الْكِسَائِيُّ نَصًّا عَنِ الْعَرَبِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْبَاذِشِ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الْبَدَلِ أَنَّ الْهَاءَ تُبْدَلُ هَمْزَةً، كَمَا ذَكَرَ أَنَّ الْهَمْزَةَ تُبْدَلُ هَاءً فِي: هَرَقْتُ، وَهَيَا، وَهَرَحْتُ، وَهِيَّاكَ. وقد خصوا آلا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْعَلَمِ ذِي الْخَطَرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ غَالِبًا، فَلَا يُقَالُ: آلُ الْإِسْكَافِ وَالْحَجَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
نَحْنُ آلُ اللَّهِ فِي بَلْدَتِنَا لَمْ نَزَلْ آلًا عَلَى عَهْدِ إِرَمَ
قَالَ الْأَخْفَشُ: لا يضاف آل إِلَى الرَّئِيسِ الْأَعْظَمِ، نَحْوَ: آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ رَئِيسُهُمْ فِي الضَّلَالَةِ، قِيلَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ قَدْ سُمِعَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي الْبُلْدَانِ فَقَالُوا: آلُ الْمَدِينَةِ، وَآلُ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ مِنْ آلِ الْبَصْرَةِ، وَلَا مِنْ آلِ الْكُوفَةِ، بَلْ يُقَالُ: مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، انْتَهَى قَوْلُهُ. وَقَدْ سُمِعَ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ الْجِنْسِ وَإِلَى الضَّمِيرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيبِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكَ وَقَالَ هُدْبَةُ:
أَنَا الْفَارِسُ الْحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي وَآلِي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اقْتِبَاسِ جَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُضْمَرِ، فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَأَبُو بَكْرٍ الزَّبِيدِيُّ، وَأَجَازَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. وَجُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ رَفْعًا وَبِالْيَاءِ وَالنُّونِ جَرًّا وَنَصْبًا، كَمَا جُمِعَ أَهْلُ فَقَالُوا: آلُونَ. وَالْآلُ: السَّرَابُ، يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ، قَالُوا: أَأْوَالٌ، وَالْآلُ: عَمُودُ الْخَيْمَةِ، وَالْآلُ: الشَّخْصُ، وَالْآلَةُ: الْحَالَةُ الشَّدِيدَةُ. فِرْعَوْنُ:
لَا يَنْصَرِفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. سَامَهُ: كَلَّفَهُ الْعَمَلَ الشَّاقَّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا الْمَلِكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الْخَسْفَ فِينَا
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُعَلِّمُونَكُمْ مِنَ السِّيمَاءِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَمِنْهُ: تَسْوِيمُ الْخَيْلِ. وَقِيلَ:
يُطَالِبُونَكُمْ مِنْ مُسَاوَمَةِ الْبَيْعِ. وَقِيلَ: يُرْسِلُونَ عَلَيْكُمْ مِنْ إِرْسَالِ الْإِبِلِ لِلرَّعْيِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُوَلُّونَكُمْ، يُقَالُ سَامَهُ خُطَّةَ خَسْفٍ: أَيْ أَوْلَاهُ إِيَّاهَا. السُّوءُ: مَصْدَرُ أَسَاءَ، يُقَالُ: سَاءَ يَسُوءُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَأَسَاءَ الرَّجُلُ: أَيْ صَارَ ذَا سُوءٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
304
لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتِنِي بمساءة لقد سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكِ
وَمَعْنَى سَاءَهُ: أَحْزَنَهُ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ مَا يُسْتَقْبَحُ، وَيُقَالُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ وَسُوءِ الْفِعْلِ: يُرَادُ قُبْحُهُمَا. الذَّبْحُ: أَصْلُهُ الشِّقُّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا وَالْفَكِّ فَأْرَةُ مِسْكٍ ذُبِحَتْ فِي سَكِّ
وَقَالَ:
كَأَنَّمَا الصَّابُ فِي عَيْنَيْكَ مَذْبُوحُ وَالذَّبْحَةُ: دَاءٌ فِي الْحَلْقِ، يُقَالُ مِنْهُ: ذَبَحَهُ يَذْبَحُهُ ذَبْحًا، وَالذِّبْحُ: الْمَذْبُوحُ.
الِاسْتِحْيَاءُ: هُنَا الْإِبْقَاءُ حَيًّا، وَاسْتَفْعَلَ فِيهِ بِمَعْنَى أَفْعَلَ: اسْتَحْيَاهُ وَأَحْيَاهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: أَبَلَّ وَاسْتَبَلَّ، أَوْ طَلَبَ الْحَيَاءَ، وَهُوَ الْفَرْجُ، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ، نَحْوَ:
اسْتَغْفَرَ، أَيْ تَطَلَّبَ الْغُفْرَانَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اسْتَحْيَا مِنَ الْحَيَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا «١» النِّسَاءُ: اسْمٌ يَقَعُ لِلصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، وَهُوَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ لِنِسْوَةٍ، وَنِسْوَةٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ، وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ، خِلَافًا لِابْنِ السَّرَّاجِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ فِعْلَةً اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُلْفَظْ لَهُ بِوَاحِدٍ مِنْ لَفْظِهِ. وَالْوَاحِدَةُ: امْرَأَةٌ. الْبَلَاءُ:
الِاخْتِبَارُ، بَلَاهَ يَبْلُوهُ بَلَاءً: اخْتَبَرَهُ، ثُمَّ صَارَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَالشِّدَّةِ، يُقَالُ: أَصَابَ فُلَانًا بَلَاءٌ: أَيْ شِدَّةٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْبِلَى، كَأَنَّ الْمُبْتَلَى يؤول حَالُهُ إِلَى الْبِلَى، وَهُوَ الْهَلَاكُ وَالْفَنَاءُ. وَيُقَالُ: أَبْلَاهُ بِالنِّعْمَةِ، وَبَلَاهُ بِالشِّدَّةِ. وَقَدْ يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيُقَالُ: بَلَاهُ بِالْخَيْرِ، وَأَبْلَاهُ بِالشَّرِّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ فَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو
فَاسْتَعْمَلَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيُبْنَى مِنْهُ افْتُعِلَ فَيُقَالُ: ابْتُلِيَ.
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي شَرْحِ هَذَا، وَأُعِيدَ نِدَاؤُهُمْ ثَانِيًا عَلَى طَرِيقِ التَّوْكِيدِ، وَلِيُنَبَّهُوا لِسَمَاعِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَتَفْصِيلِهَا نِعْمَةً نِعْمَةً، فَالنِّدَاءُ الْأَوَّلُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَالنِّدَاءُ الثَّانِي لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شُكْرِ النِّعَمِ. وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ: ثُمَّ عُطِفَ التَّفْضِيلُ عَلَى النِّعْمَةِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ النِّعْمَةَ انْدَرَجَ تَحْتَهَا التَّفْضِيلُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ مَا انْفَرَدَتْ بِهِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦.
305
الْوَاوُ دُونَ سَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَكَانَ أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم بن الزبير الثقفي يَذْكُرُ لَنَا هَذَا النَّحْوَ مِنَ الْعَطْفِ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ، كَأَنَّهُ جُرِّدَ مِنَ الْجُمْلَةِ وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلَجًا وَلَبَانُهُ إِذَا مَا اشْتَكَى وَقْعَ الْقَنَاةِ تَحَمْحَمَا
دَعْلَجٌ: هُنَا اسْمُ فُرْسٍ، وَلَبَانُهُ: صَدْرُهُ، وَلِأَبِي الْفَتْحِ بْنِ جِنِّي كَلَامٌ فِي ذَلِكَ يَكْشِفُ مِنْ سِرِّ الصِّنَاعَةِ لَهُ. عَلَى الْعالَمِينَ: أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، أَوْ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَعَلَهُمْ مُلُوكًا وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ خَاصَّةً لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. فَيَكُونُ عَامًّا وَالنِّعْمَةُ مَخْصُوصَةٌ. قَالُوا: وَيَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «١»، أَوْ عَلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ النَّاسِ، يُقَالُ: رَأَيْتُ عَالَمًا مِنَ النَّاسِ، يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ. وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّفْضِيلُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِالْعُمُومِ خَصَّ النِّعْمَةَ، وَلَا يَلْزَمُ التَّفْضِيلُ عَلَى كُلِّ عَالَمٍ بِشَيْءٍ خَاصٍّ التَّفْضِيلَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْخُصُوصِ فَوَجْهُ عَدَمِ التَّفْضِيلِ مُطْلَقًا ظَاهِرٌ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَشْهَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَضْلَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، وَأَشْهَدَ الْمُسْلِمِينَ فَضْلَ نَفْسِهِ فَقَالَ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا «٢»، فَشَتَّانَ بَيْنَ مَنْ مَشْهُودُهُ فَضْلُ رَبِّهِ، وَمَنْ مَشْهُودُهُ فَضْلُ نَفْسِهِ. فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي الثَّنَاءَ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي الْإِعْجَابَ، انْتَهَى. وَآخِرُهُ مُلَخَّصٌ مِنْ كَلَامِهِ.
وَاتَّقُوا يَوْماً أَمْرٌ بِالِاتِّقَاءِ، وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِذِكْرِ النِّعَمِ وَتَفْضِيلِهِمْ نَاسَبَ أَنَّ مَنْ أُنْعِمَ عَلَيْهِ وَفُضِّلَ يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلتَّقْوَى. فَأُمِرُوا بِالْإِدَامَةِ عَلَى التَّقْوَى، أَوْ بِتَحْصِيلِ التَّقْوَى، إِنْ عَرَضَ لَهُمْ خَلَلٌ وَانْتِصَابٌ يَوْمًا، إِمَّا عَلَى الظَّرْفِ وَالْمُتَّقَى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا الْعَذَابَ يَوْمًا، وَإِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ اتِّسَاعًا أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عَذَابَ يَوْمٍ، أَوْ هَوْلَ يَوْمٍ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: جِيئُوا مُتَّقِينَ، وَكَأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَلْحَظْ مُتَعَلِّقَ الِاتِّقَاءِ، فَإِذْ ذَاكَ يَنْتَصِبُ يَوْمًا عَلَى الظَّرْفِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْعَوَامُّ خَوَّفَهُمْ بِعَذَابِهِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْماً، وَاتَّقُوا النَّارَ «٣». وَالْخَوَاصُّ خَوَّفَهُمْ بِصِفَاتِهِ، فَقَالَ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ «٤»، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ الْآيَةَ. وَخَوَاصُّ الْخَوَاصِّ خَوَّفَهُمْ بنفسه، فقال:
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١١٠.
(٢) سورة يونس: ١٠/ ٥٨.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٤٨.
(٤) سورة التوبة: ٩/ ١٠٥.
306
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «١» وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَّاكِ الْعَدَوِيُّ لَا تَجْزِي مِنْ أَجْزَأَ، أَيْ أَغْنَى، وَقِيلَ جَزَا، وَأَجْزَأَ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْيَوْمِ، وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لَا تَجْزِي فِيهِ، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ بِالْفِعْلِ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ، فَيَكُونُ الْحَذْفُ بِتَدْرِيجٍ أَوْ عَدَّاهُ إِلَى الضَّمِيرِ أَوَّلًا اتِّسَاعًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ، وَإِيَّاهُ نَخْتَارُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَالْوَجْهَانِ، يَعْنِي تَقْدِيرَهُ: لَا تَجْزِي فِيهِ وَلَا تَجْزِيهِ جَائِزَانِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَا يَكُونُ الْمَحْذُوفُ إِلَّا لهاء، قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: هَذَا رَجُلٌ قَصَدْتُ، وَلَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَرْغَبُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ قَصَدْتُ إِلَيْهِ وَأَرْغَبُ فِيهِ، انْتَهَى. وَحَذْفُ الضَّمِيرِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً جَائِزٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
فَمَا أَدْرِي أَغَيْرُهُمْ تَنَاءَ وَطُولُ الْعَهْدِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا
يُرِيدُ: أَصَابُوهُ، وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ تَعْيِينِ الرَّبْطِ أَنَّهُ فِيهِ، أَوِ الضَّمِيرُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ يَجُوزُ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ رَابِطٌ، وَلَا تَكُونَ الْجُمْلَةُ صِفَةً، بَلْ مُضَافٌ إِلَيْهَا يَوْمَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَاتَّقُوا يَوْمًا يَوْمَ لَا تَجْزِي، فَحُذِفَ يَوْمُ لِدَلَالَةِ يَوْمًا عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمَحْذُوفُ فِي الْإِضَافَةِ نَظِيرُ الْمَلْفُوظِ بِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ «٢»، وَنَظِيرُ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ، لَا تَحْتَاجُ الْجُمْلَةُ إِلَى ضَمِيرٍ، وَيَكُونُ إِعْرَابُ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ بَدَلًا، وَهُوَ بَدَلُ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُمًا دَفَنُوهَا بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ
فِي رِوَايَةِ مَنْ خَفَضَ التَّقْدِيرُ أَعْظُمِ طَلْحَةَ. وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: يُعْجِبُنِي الْإِكْرَامُ عِنْدَكَ سَعْدٌ، بِنِيَّةِ: يُعْجِبُنِي الْإِكْرَامُ إِكْرَامُ سَعْدٍ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْعَرَبِ: أَطْعَمُونَا لَحْمًا سَمِينًا شَاةً ذَبَحُوهَا، أَيْ لَحْمَ شَاةٍ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ الْعِلْمَ الْكَبِيرَةَ سِنُّهُ، الدَّقِيقَ عَظْمُهُ، على تقديره: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْكَبِيرَةِ سِنُّهُ، فَحُذِفَ الثَّانِي اعْتِمَادًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُجِزِ الْبَصْرِيُّونَ مَا أَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَتَرْكِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى خَفْضِهِ فِي: يُعْجِبُنِي الْقِيَامُ زَيْدٍ، وَلَا يَبْعُدُ تَرْجِيحُ حَذْفِ يَوْمَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْمَسْمُوعِ الَّذِي حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ. وَيُحَسِّنُ هَذَا التَّخْرِيجَ كَوْنُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ جُمْلَةً، فَلَا يَظْهَرُ فِيهَا إِعْرَابٌ، فَيَتَنَافَرُ مَعَ إِعْرَابِ مَا قَبْلَهُ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي نَثْرِهِمْ مَعَ التَّنَافُرِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ مَعَ عَدَمِ التَّنَافُرِ أَوْلَى. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٢٨.
(٢) سورة المرسلات: ٧٧/ ٣٥.
307
خَرَّجُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ هَذَا التَّخْرِيجَ، بَلْ هُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ صِفَةٌ لِيَوْمٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الرَّابِطِ أَيْضًا مِنَ الْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى لَا تَجْزِي، أَيْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ فِيهِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فِيهِ، وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ فِيهِ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّخْرِيجِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ هَذِهِ الرَّوَابِطِ.
نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً كِلَاهُمَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ. وَمَعْنَى التَّنْكِيرِ: أَنَّ نَفْسًا مِنَ الْأَنْفُسِ لَا تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ مِنَ الْأَنْفُسِ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ إِقْنَاطٌ كُلِّيٌّ قَاطِعٌ مِنَ الْمَطَامِعِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنْ لَا شَفَاعَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّقْدِيرُ عَنْ نَفْسٍ كَافِرَةٍ، فَقَيَّدَهَا بِالْكُفْرِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، وَذَلِكَ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ. وَقَرَأَ أَبُو السِّرَارِ الْغَنَوِيُّ: لَا تَجْزِي نَسَمَةٌ عَنْ نَسَمَةٍ، وَانْتِصَابُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ لَا يَقْضِي شَيْئًا، أَيْ حَقًّا مِنَ الْحُقُوقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَلَا تَجْزِي شَيْئًا مِنَ الْجَزَاءِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقِلَّةِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ شَيْئًا مِنَ الضَّرْبِ.
وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: وَلَا تُقْبَلُ بِالتَّاءِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَالْأَكْثَرُ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ فَصِيحٌ لِمَجَازِ التَّأْنِيثِ، وَحَسَّنَهُ أَيْضًا الْفَصْلُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ. وَقَرَأَ سُفْيَانُ: وَلَا يَقْبَلُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَنَصْبِ شَفَاعَةً عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَفِي ذَلِكَ الْتِفَاتٌ وَخُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ وأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ، وَبِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ فِي اللَّفْظِ أَعَمُّ، وَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ أَنَّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى نَفْسٍ الْمُتَأَخِّرَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، أَيْ لَا يَقْبَلُ مِنَ النَّفْسِ الْمُسْتَشْفِعَةِ شَفَاعَةَ شَافِعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى نَفْسٍ الْأُولَى، أَيْ وَلَا يَقْبَلُ مِنَ النَّفْسِ الَّتِي لَا تَجْزِي عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا شَفَاعَةً، هِيَ بِصَدَدِ أَنْ لَوْ شَفَعَتْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا، وَقَدْ يَظْهَرُ تَرْجِيحُ عَوْدِهَا إِلَى النَّفْسِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا هِيَ الْمُحَدَّثُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ، وَالنَّفْسُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلَةِ لَا الْعُمْدَةِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ نَفْيُ الْقَبُولِ وَوُجُودِ الشَّفَاعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ نَفَى الْقَبُولَ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الشَّفَاعَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا شَفَاعَةَ، فَتُقْبَلُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ
308
الْمُفَسِّرُونَ فِي فَهْمِ هَذَا عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ لِمَعْنًى خَاصٍّ، وَالْمُرَادُ:
الَّذِينَ قَالُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ، وَأَبْنَاءُ أَنْبِيَائِهِ، وَأَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَرُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأُويِسُوا مِنْهُ لِكُفْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ النَّفْسُ الْأَوْلَى مُؤْمِنَةً، وَالثَّانِيَةُ كَافِرَةً، وَالْكَافِرُ لَا تَنْفَعُهُ شَفَاعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ «١». الثَّانِي: مَعْنَاهُ لَا يَجِدُونَ شَفِيعًا تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ، لِعَجْزِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ لَا يُجِيبُ الشَّافِعُ الْمَشْفُوعَ فِيهِ إِلَى الشَّفَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ شَفَعَ لَشُفِّعَ. الرَّابِعُ: مَعْنَاهُ حَيْثُ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِي الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِذَنٍ مِنَ اللَّهِ بِتَقَدُّمِ الشَّافِعِ بِالشَّفَاعَةِ لِقَوْلِهِ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ»
، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «٣». الْخَامِسُ:
مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا شَفَاعَةٌ، فَيَكُونُ لَهَا قَبُولٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْقَوْلُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ نَفْيٌ عَامٌّ، أَيْ لَا يُقْبَلُ فِي غَيْرِهَا، لَا مُؤْمِنَةً وَلَا كَافِرَةً، فِي مُؤْمِنَةٍ وَلَا كَافِرَةٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَأَجْمَعُ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ شَفَاعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ تُقْبَلُ فِي الْعُصَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، قَالُوا: الْكَبِيرَةُ تُخَلِّدُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ، وَأَنْكَرُوا الشَّفَاعَةَ، وَهُمْ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
طَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الشَّفَاعَةَ إِنْكَارًا كُلِّيًّا وَقَالُوا: لَا تُقْبَلُ شَفَاعَةُ أَحَدٍ فِي أَحَدٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ، وَخَصَّ تِلْكَ الظَّوَاهِرَ أَصْحَابُنَا بِالْكُفَّارِ لِثُبُوتِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الشَّفَاعَةِ.
وَطَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الشَّفَاعَةَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ، قَالُوا: وَإِنَّمَا تُقْبَلُ فِي الصَّغَائِرِ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَةً فِي الْآخِرَةِ، وَاخْتَلَفُوا لِمَنْ تَكُونُ.
فَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ الثَّوَابَ، وَتَأْثِيرُهَا فِي أَنْ تُحَصِّلَ زِيَادَةً مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى قَدْرِ مَا اسْتَحَقُّوهُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَأْثِيرُهَا فِي إِسْقَاطِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ، إِمَّا بِأَنْ لَا يَدْخُلُوا النَّارَ، وَإِمَّا فِي أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا بَعْدَ دُخُولِهَا ويدخلون الْجَنَّةَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْكُفَّارِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوًا مِنْ سِتِّ أَوْرَاقٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِلطَّائِفَتَيْنِ، وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ.
وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ الْعَدْلُ: الْفِدْيَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَسُمِّيتْ عَدْلًا لِأَنَّ الْمُفْدَى يُعْدَلُ بِهَا: أَيْ يُسَاوِيهَا، أَوِ الْبَدَلُ: أَيْ رَجُلٌ مَكَانَ رَجُلٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ حَسَنَةٌ مَعَ الشِّرْكِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: أَتَى بِالضَّمِيرِ مجموعا على معنى
(١) سورة المدثر: ٧٤/ ٤٨.
(٢) سورة سبأ: ٣٤/ ٢٣.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٨.
309
نَفْسٍ، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «١»، وَأَتَى بِهِ مُذَكَّرًا لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالنُّفُوسِ الْأَشْخَاصُ كَقَوْلِهِمْ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ، وَجُعِلَ حَرْفُ النَّفْيِ مُنْسَحِبًا عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ لِيَكُونَ الضَّمِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ، فَيَتَأَكَّدُ ذِكْرُ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ النَّصْرُ بِذِكْرِهِ مَرَّتَيْنِ، وَحَسَّنَ الْحَمْلَ عَلَى الْمَعْنَى كَوْنُ ذَلِكَ فِي آخِرِ فَاصِلَةٍ، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّنَاسُبُ فِي الْفَوَاصِلِ، بِخِلَافِ أَنْ لَوْ جَاءَ وَلَا تُنْصَرُ، إِذْ كَانَ يَفُوتُ التَّنَاسُبُ.
وَيَحْتَمِلُ رَفْعُ هَذَا الضَّمِيرِ وَجْهَيْنِ مِنَ الْإِعْرَابِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْخَبَرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَغْمَضُ الْوَجْهَيْنِ وَأَغْرَبُهُمَا أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، يُفَسِّرُ فِعْلَهُ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَا هِيَ مِنَ الْأَدَوَاتِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى بِالْفِعْلِ، كَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. فَكَمَا يَجُوزُ فِي: أَزْيَدٌ قَائِمٌ، وَأَزْيَدٌ يَضْرِبُ، الرَّفْعُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً.
وَالْحُكْمُ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَتْ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَعُطِف عَلَيْهَا بِشَرْطِ الْعَطْفِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، فَالْأَفْصَحُ الْحَمْلُ عَلَى الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا، وَيُقَوِّي عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى نَفْسٍ الثَّانِيَةِ بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، إِذْ لَوْ كَانَ عَائِدًا عَلَى نَفْسٍ الْأُولَى لَكَانَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَجْزِي. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي وَلَا هُمْ عَائِدًا عَلَى النَّفْسَيْنِ مَعًا، قَالَ: لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ قَالُوا، وَفِي مَعْنَى النَّصْرِ لِلْمُفَسِّرِينَ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. الثَّانِي: لَا يَجِدُونَ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ وَلَا شَافِعًا يَشْفَعُ لَهُمْ. الثَّالِثُ: لَا يُعَاوَنُونَ عَلَى خَلَاصِهِمْ وَفِكَاكِهِمْ مِنْ مُوبِقَاتِ أَعْمَالِهِمْ.
وَثَلَاثَةُ الْأَقْوَالِ هَذِهِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَجَاءَ النَّفْيُ لِهَذِهِ الْجُمَلِ هنا بلا الْمُسْتَعْمَلَةِ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْأَكْثَرِ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مُسْتَقْبَلَةٌ، لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ.
وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، وَهِيَ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِحَقٍّ، إِمَّا أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ الْحَقُّ فَيَخْلُصُ، أَوْ لَا يُقْضَى عَنْهُ فَيُشْفَعُ فِيهِ، أَوْ لَا يُشْفَعُ فِيهِ فَيُفْدَى، أَوْ لَا يُفْدَى فَيُتَعَاوَنُ بِالْإِخْوَانِ عَلَى تَخْلِيصِهِ.
فَهَذِهِ مَرَاتِبٌ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا. فَلِهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، جَاءَتْ مُتَرَتِّبَةً فِي الذِّكْرِ هَكَذَا.
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ مُخْتَلِفًا عِنْدَ النَّاسِ فِي الشَّفَاعَةِ وَالْفِدْيَةِ، فَمَنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ قَدَّمَ الشَّفَاعَةَ عَلَى الْفِدْيَةِ، وَمَنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ حُبُّ الْمَالِ قَدَّمَ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّفَاعَةِ، جاءت هذه
(١) سورة الحاقة: ٦٩/ ٤٧. [.....]
310
الْجُمَلُ هُنَا مُقَدَّمًا فِيهَا الشَّفَاعَةُ، وَجَاءَتِ الْفِدْيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى اختلاف الأمرين. وبدىء هُنَا بِالشَّفَاعَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِعُلُوِّ النَّفْسِ، وَجَاءَ هُنَا بِلَفْظِ الْقَبُولِ، وَهُنَاكَ بِلَفْظِ النَّفْعِ، إِشَارَةٌ إِلَى انْتِفَاءِ أَصْلِ الشَّيْءَ، وَانْتِفَاءِ ما يترتب عليه.
وبدىء هُنَا بِالْقَبُولِ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ لِلشَّيْءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ، فَأَعْطَى الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرَ الْمُتَقَدَّمِ وُجُودًا، وَأَخَّرَ هُنَاكَ النَّفْعَ إِعْطَاءً لِلْمُتَأَخِّرِ ذِكْرَ الْمُتَأَخَّرِ وُجُودًا.
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِذْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ «١». وَمَنْ أَجَازَ نَصْبَ إِذْ هُنَاكَ مَفْعُولًا بِهِ بإضمار اذكر أو ادّعى زِيَادَتَهَا، فَقِيَاسُ قَوْلِهِ هُنَاكَ إِجَازَتُهُ هُنَا، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ تَعْطِفُهُ عَلَيْهِ إِلَّا إِنِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ إِذْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَعْمُولِ اذْكُرُوا، كَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرُوا نِعْمَتِي وَتَفْضِيلِي إِيَّاكُمْ، وَوَقْتَ تَنْجِيَتِكُمْ وَيَكُونُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ الَّتِي هِيَ: وَاتَّقُوا يَوْماً. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّا لَا نَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ بِاذْكُرْ، لَا ظَاهِرَةً وَلَا مُقَدَّرَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِيهَا، وَهِيَ عِنْدَنَا مِنَ الظُّرُوفِ الَّتِي لَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا إِلَّا بِإِضَافَةِ اسْمِ زَمَانٍ إِلَيْهَا عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلًا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ، تَقْدِيرُهُ: وَأَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَتَقْدِيرُ هَذَا الْفِعْلِ أَوْلَى مَنْ كُلِّ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: أَنْجَيْنَاكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمٍ فِي قَوْلِهِ: نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ، لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الْإِنْجَاءُ مِنْ عَدُوِّهِمْ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ، أَوْ أَعْظَمُ النِّعَمِ، فَنَاسَبَ الْأَعْظَمَ نِسْبَتُهُ لِلْمُعَظِّمِ نفسه. وقرىء: بأنجيناكم، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ، كالتضعيف في نجيناكم. ونسبة هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لِلنَّخَعِيِّ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَرَأَ: أَنْجَيْتُكُمْ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ مُوَافِقًا لِلضَّمِيرِ فِي نِعْمَتِي، وَالْمَعْنَى: خَلَّصْتُكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَجَعَلَ التَّخْلِيصَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُبَاشِرُونَهُمْ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ، وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ، وَآلُ فِرْعَوْنَ هُنَا أَهْلُ مِصْرَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ أَهْلُ بَيْتِهِ خَاصَّةً، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، أَوْ أَتْبَاعُهُ عَلَى ذَنْبِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَمِنْهُ: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ «٢»، وَهُمْ أَتْبَاعُهُ عَلَى ذَنْبِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ، وَلَا بِنْتٌ، وَلَا ابْنٌ، وَلَا عَمٌّ، وَلَا أَخٌ، وَلَا عَصَبَةٌ، وَأَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ آلُكَ؟ فَقَالَ: «كُلُّ تَقِيٍّ».
وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي:
لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ. وَالْمُرَادُ بِالْآلِ هُنَا: آلُ عَقِيلٍ، وَآلُ عباس، وآل
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٥٠، وسورة الأنفال: ٨/ ٥٤.
311
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَوَالِيهِمْ. وَوَرَدَ أَيْضًا أَنَّ آلَهُ: أَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم آلٌ عَامٌّ وَآلٌ خَاصٌّ.
وَفِرْعَوْنُ: عَلَمٌ لِمَنْ مَلَكَ الْعَمَالِقَةَ، كَمَا قِيلَ: قَيْصَرُ لِمَنْ مَلَكَ الرُّومَ، وَكِسْرَى لِمَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وَالنَّجَاشِيُّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَتُبَّعٌ لِمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ اسْمٌ لِكُلَّ مَنْ مَلَكَ الْقِبْطَ وَمِصْرَ، وَقَدِ اشْتُقَّ مِنْهُ: تَفَرْعَنَ الرَّجُلُ، إِذَا تَجَبَّرَ وَعَتَا، وَاسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، أَوْ فُنْطُوسُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوْ مُصْعَبُ بْنُ الرَّيَّانِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، أَوْ مُغِيثٌ، ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، أَوْ قَابُوسُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُرَّةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِيَ عَمْلِيقَ بْنِ لَاوِذَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ، وَرُدَّ إِلَى مِصْرَ فَصَارَ بِهَا مَلِكًا، لَا يُعْرَفُ لِفِرْعَوْنَ تَفْسِيرٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، قَالَهُ الْمَسْعُودِيُّ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: فِرْعَوْنُ مُوسَى هُوَ فِرْعَوْنُ يُوسُفَ، قَالُوا: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ بَيْنَ دُخُولِ يُوسُفَ مِصْرَ وَدُخُولِ مُوسَى أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: كَانَ اسْمُ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ.
يَسُومُونَكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وَهِيَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الحال: أي سَائِمِيكُمْ، وَهِيَ حَالٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. وسُوءَ الْعَذابِ: أَشَقُّهُ وَأَصْعَبُهُ وَانْتِصَابُهُ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُرَادِ بِيَسُومُونَكُمْ، وَفِيهِ لِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ:
السَّوْمُ: بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ أَوِ الْإِبْلَاءِ، فَيَكُونُ سُوءَ الْعَذَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِسَامَ، أَيْ يُكَلِّفُونَكُمْ، أَوْ يُوَلُّونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، أَوْ بِمَعْنَى: الْإِرْسَالِ، أَوِ الْإِدَامَةِ، أَوِ التَّصْرِيفِ، أَيْ: يُرْسِلُونَكُمْ، أَوْ يُدِيمُونَكُمْ، أَوْ يَصْرِفُونَكُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، أَوْ بِمَعْنَى الرَّفْعِ، أَيْ يَرْفَعُونَكُمْ إِلَى سُوءِ الْعَذَابِ، أَوِ الْوَسْمِ، أَيْ: يُعَلِّمُونَكُمْ مِنَ الْعَلَامَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ لِكَثْرَةِ مُزَاوَلَتِهَا تَصِيرُ عَلَيْهِمْ عَلَامَةً بِتَأْثِيرِهَا فِي جُلُودِهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ، كَالْحِدَادَةِ وَالنِّجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ وَسْمًا لَهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: يُعَلِّمُونَكُمْ بِسُوءِ الْعَذَابِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَسِمُونَكُمْ، وَهَذَا التَّضْعِيفُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَسْمِ، وَهُوَ مِنَ السيمياء، والسيماء مسوّمين فِي أَحَدِ تَفَاسِيرِهِ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَأُصُولُ هَذَا سِينٌ وَوَاوٌ وَمِيمٌ، وَهِيَ أُصُولُ يَسُومُونَكُمْ، وَيَكُونُ فَعَلَ الْمُجَرَّدُ بِمَعْنَى فَعِلَ، وَهُوَ مَعَ الْوَسْمِ مِمَّا اتَّفَقَ مَعْنَاهُ وَاخْتَلَفَتْ أُصُولُهُ: كَدَمِثَ، وَدَمْثَرَ، وَسَبِطَ، وَسَبْطَرَ، أَوْ بِمَعْنَى الطَّلَبِ بِالزِّيَادَةِ مِنَ السَّوْمِ فِي الْبَيْعِ، أَيْ: يَطْلُبُونَكُمْ بِازْدِيَادِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ.
312
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَكُونُ سُوءَ الْعَذابِ مَفْعُولًا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَنْتَصِبُ سُوءَ الْعَذَابِ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، ثُمَّ قَدَّرَهُ سَوْمًا شَدِيدًا. وَسُوءُ الْعَذَابِ: الْأَعْمَالُ الْقَذِرَةُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوِ الْحَرْثُ وَالزِّرَاعَةُ وَالْبِنَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ. قَالَ: وَكَانَ قَوْمُهُ جُنْدًا مُلُوكًا، أَوِ الذَّبْحُ، أَوْ الِاسْتِحْيَاءُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَرُدَّ ذَلِكَ بِثُبُوتِ الْوَاوِ فِي إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: وَيُذَبِّحُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِالذَّبْحِ وَبِغَيْرِ الذَّبْحِ. وَحُكِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ جَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدَمًا فِي الْأَعْمَالِ مِنَ الْبِنَاءِ وَالتَّخْرِيبِ وَالزِّرَاعَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَمَنْ لَا يَعْمَلُ فَالْجِزْيَةُ، فَذَوُو الْقُوَّةِ يَنْحِتُونَ السَّوَارِيَ مِنَ الْجِبَالِ حَتَّى قُرِّحَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَدُبِّرَتْ ظُهُورُهُمْ مِنْ قَطْعِهَا وَنَقْلِهَا، وَطَائِفَةٌ يَنْقُلُونَ لَهُ الْحِجَارَةَ وَالطِّينَ وَيَبْنُونَ لَهُ الْقُصُورَ، وَطَائِفَةٌ يَضْرِبُونَ اللَّبِنَ وَيَطْبُخُونَ الْآجُرَّ، وَطَائِفَةٌ نَجَّارُونَ وَحَدَّادُونَ، وَالضَّعَفَةُ جُعِلَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجُ ضَرِيبَةً يُؤَدُّونَهَا كُلَّ يَوْمٍ. فَمَنْ غَرُبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا غُلَّتْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ شَهْرًا. وَالنِّسَاءُ يَغْزِلْنَ الْكَتَّانَ وَيَنْسِجْنَ. وَأَصْلُ نَشْأَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمِصْرَ نُزُولُ إِسْرَائِيلَ بِهَا زَمَانَ ابْنِهِ يُوسُفَ بها عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ أَوْلَى لِظُهُورِ تَكْرَارِ الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِهِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: يَذْبَحُونَ خَفِيفًا مِنْ ذَبَحَ الْمُجَرَّدِ اكْتِفَاءً بِمُطْلَقِ الْفِعْلِ، وَلِلْعِلْمِ بِتَكْرِيرِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: يُقَتِّلُونَ بِالتَّشْدِيدِ مَكَانَ يُذَبِّحُونَ، وَالذَّبْحُ قَتْلٌ، وَيُذَبِّحُونَ بَدَلٌ مَنْ يَسُومُونَكُمْ، بَدَلُ الْفِعْلِ مِنَ الفعل، نحو: قوله تعالى:
يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «١»، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَتَّى تَأْتِنَا تُلَمِّمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ الْعَطْفِ لِثُبُوتِهِ فِي إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ لِحَذْفِهَا هُنَا ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي حُذِفَتْ فِيهِ الْوَاوُ تَفْسِيرٌ لِصِفَاتِ الْعَذَابِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْوَاوُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَدْ مَسَّهُمُ الْعَذَابُ، غَيْرُ الذَّبْحِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُذَبِّحُونَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، مِنَ ضَمِيرِ الرَّفْعِ فِي: يَسُومُونَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأَنَفًا. وَفِي سَبَبِ الذَّبْحِ وَالِاسْتِحْيَاءِ أَقْوَالٌ وَحِكَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَمُعْظَمُهَا يَدُلُّ عَلَى خَوْفِ فِرْعَوْنَ مِنْ ذَهَابِ مُلْكِهِ عَلَى يَدِ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْأَبْنَاءُ:
الْأَطْفَالُ الذُّكُورُ، يُقَالُ: إِنَّهُ قَتَلَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَبْنَاءِ: الرّجال، وسموا
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٨ و ٦٩.
313
أَبْنَاءً بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا قَبْلُ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. وَالنِّسَاءُ هُنَا: الْبَنَاتُ، وَسُمُّوا نِسَاءً بِاعْتِبَارٍ مَا يَؤُلْنَ إِلَيْهِ، أَوْ بِالِاسْمِ الَّذِي فِي وَقْتِهِ يُسْتَخْدَمْنَ وَيُمْتَهَنَّ، وَقِيلَ: أَرَادَ: النِّسَاءَ الْكِبَارَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ.
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ: وَفُسِّرَ الِاسْتِحْيَاءُ بِالْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا عِنْدَ كَلَامِنَا عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَتْرُكُونَ بَنَاتَكُمْ أَحْيَاءً لِلْخِدْمَةِ، أَوْ يُفَتِّشُونَ أَرْحَامَ نِسَائِكُمْ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُهُ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ هُمُ الْمُبَاشِرُونَ لِذَلِكَ، ذُكِرَ أَنَّهُ وَكَّلَ بِكُلِّ عَشْرِ نِسَاءٍ رَجُلًا يَحْفَظُ مَنْ تَحْمِلُ مِنْهُنَّ. وَقِيلَ: وَكَّلَ بِذَلِكَ الْقَوَابِلَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ هُنَا مِنَ الْحَيَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقِحَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ النِّسَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْهُ الْحَيَاءُ، وَقُدِّمَ الذَّبْحُ عَلَى الِاسْتِحْيَاءِ لِأَنَّهُ أَصْعَبُ الْأُمُورِ وَأَشَقُّهَا، وَهُوَ أَنْ يُذْبَحَ وَلَدُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اللَّذَيْنِ كَانَا يَرْجُوَانِ النَّسْلَ مِنْهُ، وَالذَّبْحُ أَشَقُّ الْآلَامِ. وَاسْتِحْيَاءُ النِّسَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِعَذَابٍ، لَكِنَّهُ يَقَعُ الْعَذَابُ بِسَبَبِهِ مِنْ جِهَةِ إِبْقَائِهِنَّ خَدَمًا وَإِذَاقَتِهِنَّ حَسْرَةَ ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ، إِنْ أُرِيدَ بِالنِّسَاءِ الْكِبَارُ، أَوْ ذَبْحُ الْإِخْوَةِ، إِنْ أُرِيدَ الْأَطْفَالُ، وَتَعَلُّقُ الْعَارِ بِهِنَّ، إِذْ يَبْقَيْنَ نِسَاءً بِلَا رِجَالٍ فَيَصِرْنَ مُفْتَرَشَاتٍ لِأَعْدَائِهِنَّ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْآمِرَ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْمُبَاشِرَ لَهُ شَرِيكَانِ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ الْآمِرُ، وَآلَهُ وَهُمُ الْمُبَاشِرُونَ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْفِقْهِ، وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ «١»، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبَلَاءِ: الشِّدَّةُ وَالْمَكْرُوهُ. وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ يَسُومُونَكُمْ مَعَ مَا بَعْدَهُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْبَلَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى التَّنْجِيَةِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: نَجَّيْنَاكُمْ، فَيَكُونُ الْبَلَاءُ هُنَا: النِّعْمَةُ وَيَكُونُ ذَلِكُمْ قَدْ أُشِيرَ بِهِ إِلَى أَبْعَدِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ وَالْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ هو الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُهُمَا. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرَّ مِنَ الشَّيْطَانِ وَوَصْفُهُ بِعَظِيمٍ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكُمْ إِشَارَةً إِلَى التَّنْجِيَةِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَلَا يَخْفَى مَا في ذلك
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٣.
314
مِنْ عِظَمِ النِّعْمَةِ وَكَثْرَةِ الْمِنَّةِ، وَإِنْ كَانَ إِشَارَةً إِلَى مَا بَعْدَ التَّنْجِيَةِ مِنَ السَّوْمِ، أَوِ الذَّبْحِ، وَالِاسْتِحْيَاءِ، فَذَلِكَ ابْتِلَاءٌ عَظِيمٌ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ، يُقَالُ إِنَّهُ سَخَّرَهُمْ فَبَنَوْا سَبْعَةَ حَوَائِطَ جَائِعَةً أَكْبَادُهُمْ عَارِيَةً أَجْسَادُهُمْ، وَذَبَحَ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفِ صَبِيٍّ. فَأَيُّ ابْتِلَاءٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَكَوْنُهُ عَظِيمًا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ اتِّصَافُهُ بِالِاسْتِعْظَامِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ صَبَرَ فِي اللَّهِ عَلَى بَلَاءِ اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ صُحْبَةَ أَوْلِيَائِهِ. هَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ صَبَرُوا عَلَى مُقَاسَاةِ الضُّرِّ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَجَعَلَ مِنْهُمْ مُلُوكًا، وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، انْتَهَى. وَلَمْ تَزَلِ النِّعَمُ تَمْحُو آثَارَ النِّقَمِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
نَأْسُوا بِأَمْوَالِنَا آثار رائدينا وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِذِكْرِ النِّعَمِ مُجْمَلَةً فِيمَا سَبَقَ، أَمَرَهُمْ بِذِكْرِهَا ثَانِيَةً مُفَصَّلَةً، فَبَدَأَ مِنْهَا بِالتَّفْضِيلِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ يَوْمٍ لَا خَلَاصَ فِيهِ، لَا بِقَاضٍ حَقٍّ، وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا فِدْيَةٍ، وَلَا نَصْرٍ، لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ نِعَمَهُ، وَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَجْتَنِبْ نَهْيَهُ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاتِّقَاءِ مُهِمًّا هُنَا، لِأَنَّ مَنْ أُخْبِرَ بِأَنَّهُ فُضِّلَ عَلَى الْعَالَمِينَ رُبَّمَا اسْتَنَامَ إِلَى هَذَا التَّفْضِيلِ، فَأُعْلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ تَحْصِيلِ التَّقْوَى وَعَدَمِ الِاتِّكَالِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ مَنِ ابْتَدَأَكَ بِسَوَابِقِ نِعَمِهِ، يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَّقِيَ لَوَاحِقَ نِقَمِهِ. ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الْإِنْجَاءِ الَّذِي بِهِ كَانَ سَبَبُ الْبَقَاءِ بَعْدَ شِدَّةِ اللَّأْوَاءِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ تَفَاصِيلَ النَّعْمَاءِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ «١»، فَكَانَ تَعْدَادُ الْآلَاءِ مِمَّا يُوجِبُ جَمِيلَ الذِّكْرِ وَجَلِيلَ الثَّنَاءِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ النِّعَمِ، نِعْمَةً نِعْمَةً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
الْفَرْقُ: الْفَصْلُ، فَرَقَ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا: فَصَلَ، وَفَرَّقَ كَذَا: فَصَلَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ: الْفَرْقُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ، وَالْفَرِيقُ، وَالْفُرْقَانُ، وَالتَّفَرُّقُ، وَالْفَرْقُ، الْمَفْرُوقُ،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٦١.
315
كَالطَّحْنِ. وَالْفَرْقُ ضِدُّهُ: الْجَمْعُ، وَنَظَائِرُهُ: الْفَصْلُ، وَضِدُّهُ: الْوَصْلُ، وَالشِّقُّ وَالصَّدْعُ:
وَضِدُّهُمَا اللَّأْمُ، وَالتَّمْيِيزُ: وَضِدُّهُ الِاخْتِلَاطُ. وَقِيلَ: يُقَالُ فَرَقَ فِي الْمَعَانِي، وَفَرَّقَ فِي الْأَجْسَامِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. الْبَحْرُ: مَكَانٌ مُطَمْئِنٌّ مِنَ الْأَرْضِ يَجْمَعُ الْمِيَاهَ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى أَبْحُرٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى بُحُورٍ وَبِحَارٍ، وَأَصْلُهُ قِيلَ: الشِّقُّ، وَقِيلَ: السَّعَةُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ:
الْبَحِيرَةُ، وَهِيَ الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُهَا، وَمِنَ الثَّانِي: الْبُحَيْرَةُ، الْمَدِينَةُ الْمُتَّسِعَةُ، وَفَرَسٌ بَحْرٌ:
وَاسْعُ الْعَدْوِ، وَتَبَحَّرَ فِي الْعِلْمِ: أَيِ اتَّسَعَ، وَقَالَ:
انْعِقْ بِضَأْنِكَ فِي بَقْلٍ تُبَحِّرُهُ مِنَ الْأَبَاطِحِ وأحبسها بخلدان
وَجَاءَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ الْحُلْوِ وَالْمَاءِ الْمِلْحِ، قَالَ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ «١»، وَجَاءَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْمِلْحِ، وَيُقَالُ: هُوَ الْأَصْلُ، فِيهِ أَنْشَدَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى:
وَقَدْ عَادَ عَذْبُ الْمَاءِ بَحْرًا فَزَادَنِي عَلَى مَرَضٍ أَنْ أَبْحَرَ الْمَشْرَبُ الْعَذْبُ
أَيْ صَارَ مِلْحًا. الْغَرَقُ: مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَفْعَلُ بِالْفَتْحِ، قَالَ:
وَتَارَاتٍ يَجِمُّ فَيَغْرَقُ وَالتَّغْرِيقُ، وَالتَّعْوِيصُ، وَالتَّرْسِيبُ، وَالتَّغْيِيبُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. النَّظَرُ: تَصْوِيبُ الْمُقْلَةِ إلى المرثيّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِإِلَى، وَيُعَلَّقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا، وَنَظَرَهُ وَانْتَظَرَهُ وَأَنْظَرَهُ: أَخَّرَهُ، وَالنَّظِرَةُ: التَّأْخِيرُ. وَعَدَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْوَعْدُ فِي الْخَيْرِ، وَأَوْعَدَ فِي الشَّرِّ، وَالْإِيعَادُ وَالْوَعِيدُ فِي الشَّرِّ. مُوسَى: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ. يُقَالُ: هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ مُو: وهو الماء، وشاو: هو الشَّجَرُ. فَلَمَّا عُرِّبَ أَبْدَلُوا شِينَهُ سِينًا، وَإِذَا كَانَ أَعْجَمِيًّا فَلَا يَدْخُلُهُ اشْتِقَاقٌ عَرَبِيٌّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ، فَقَالَ مَكِّيٌّ: مُوسَى مُفْعَلٌ مَنْ أَوْسَيْتُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ مَاسَ يَمِيسُ، وَوَزْنُهُ: فُعْلًى، فأبدلت الياء واو الضمة مَا قَبْلَهَا، كَمَا قَالُوا: طُوبَى، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، لِأَنَّهَا مِنْ طَابَ يَطِيبُ. وَكَوْنُ وَزْنِهُ فُعْلًى هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْرِبِينَ. وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ وَزْنَ مُوسَى مُفْعَلٌ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَنْصَرِفُ. وَاحْتَجَّ سِيبَوَيْهِ فِي الْأَبْنِيَةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ زِيَادَةَ الْمِيمِ أَوَّلًا أَكْثَرُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَلِفِ آخِرًا، وَاحْتَجَّ الْفَارِسِيُّ عَلَى كَوْنِهِ مُفْعَلًا لَا فُعْلًى، بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صَرْفِهِ نَكِرَةً، وَلَوْ كَانَ فُعْلًى لَمْ يَنْصَرِفْ نَكِرَةً لِأَنَّ الْأَلِفَ كَانَتْ تَكُونُ لِلتَّأْنِيثِ، وألف
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ١٢.
316
التَّأْنِيثِ وَحْدَهَا تَمْنَعُ الصَّرْفَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالنَّكِرَةِ. الْأَرْبَعُونَ: لَيْسَ بِجَمْعِ سَلَامَةٍ، بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ الَّذِي هُوَ اسْمُ جَمْعٍ، وَمَدْلُولُهُ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ أُعْرِبَ إِعْرَابَ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ.
اللَّيْلَةُ: مَدْلُولُهَا مَعْرُوفٌ، وَتُكْسَرُ شَاذًّا عَلَى فَعَالِى، فَيُقَالُ: اللَّيَالِي، وَنَظِيرُهُ: الْكَيْكَةَ وَالْكَيَاكِي، كَأَنَّهُ جَمْعُ لَيْلَاهُ وَكَيْكَاهُ، وَأَهْلٍ وَالْأَهَالِي. وَقَدْ شَذُّوا فِي التَّصْغِيرِ كَمَا شَذُّوا فِي التَّكْسِيرِ، قَالُوا: لُيَيْلَةٌ. الِاتِّخَاذُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَخْذِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُبْدَلَ الْهَمْزَةُ إِلَّا يَاءً، فَتَقُولُ: إِيتَخَذَ كَهَمْزَةِ إِيمَانٍ إذ أصله: إئمان، وَكَقَوْلِهِمْ: ائْتَزَرَ: افْتَعَلَ مِنَ الْإِزَارِ، فَمَتَّى كَانَتْ فَاءُ الْكَلِمَةِ وَاوًا أَوْ يَاءً، وَبُنِيَتِ افْتَعَلَ مِنْهَا، فَاللُّغَةُ الْفُصْحَى إِبْدَالُهَا تَاءً وَإِدْغَامُهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ، فَتَقُولُ: اتَّصَلَ وَاتَّسَرَ مِنَ الْوَصْلِ وَالْيُسْرِ، فَإِنْ كَانَتْ فَاءُ الْكَلِمَةِ هَمْزَةً، وَبَنَيْتَ افْتَعَلَ، أَبْدَلْتَ تِلْكَ الْهَمْزَةَ يَاءً وَأَقْرَرْتَهَا. هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ تُبْدَلُ هَذِهِ الْيَاءُ تَاءً فَتُدْغَمُ، قَالُوا: اتَّمَنَ، وَأَصْلُهُ: ائْتَمَنَ. وَعَلَى هَذَا جَاءَ: اتَّخَذَ. وَمِمَّا عَلِقَ بِذِهْنِي مِنْ فَوَائِدِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بن أَبِي نَصْرٍ الْحَلَبِيِّ، عُرِفَ بِابْنِ النَّحَّاسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ كَانَ الْمُشْتَهِرَ بِعِلْمِ النَّحْوِ فِي دِيَارِ مِصْرَ: أَنَّ اتَّخَذَ مِمَّا أُبْدِلَ فِيهِ الْوَاوُ تَاءً عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى، لِأَنَّ فِيهِ لُغَةً أَنَّهُ يُقَالُ: وَخَذَ بِالْوَاوِ، فَجَاءَ هَذَا عَلَى الْأَصْلِ فِي الْبَدَلِ، وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى اللُّغَةِ الْقَلِيلَةِ، وَهَذَا أَحْسَنُ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ اتَّمَنَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُغْرِبُ بِنَقْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقَدْ خَرَّجَ الْفَارِسِيُّ مَسْأَلَةَ اتَّخَذَ عَلَى أَنَّ التاء الأولى أصلية، إذ قُلْتَ: قَالَتِ الْعَرَبُ تَخِذَ بِكَسْرِ الْخَاءِ، بِمَعْنَى: أَخَذَ، قال: تعالى:
لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً «١»، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ كَذَلِكَ، وَأَنْشَدَ الْفَارِسِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إِلَى جَنْبِ غَرْزِهَا نَسِيفًا كَأُفْحُوصِ الْقَطَاةِ الْمُطَوَّقِ
فَعَلَى قَوْلِهِ: التَّاءُ أَصْلٌ، وَبَنَيْتَ مِنْهُ افْتَعَلَ، فَقُلْتَ: اتَّخَذَ، كَمَا تَقُولُ: اتَّبَعَ، مَبْنِيًّا مِنْ تَبِعَ، وَقَدْ نَازَعَ أَبُو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ فِي تَخِذَ، فَزَعَمَ أَنَّ أَصْلَهُ: اتَّخَذَ، وَحُذِفَ كَمَا حُذِفَ اتَّقَى، فَقَالُوا: تَقَيَ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: تَخِذَ بِفَتْحِ التَّاءِ مُخَفَّفَةً، كَمَا قَالُوا: يَتَّقِي وَيَتَّسِعُ بِحَذْفِ التَّاءِ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ فَاءِ الْكَلِمَةِ. وَرَدَّ السِّيرَافِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: لَوْ كَانَ مَحْذُوفًا مِنْهُ مَا كُسِرَتِ الْخَاءُ، بَلْ كَانَتْ تَكُونُ مَفْتُوحَةً، كَقَافِ تَقَيَ، وَأَمَّا يَتَّخِذُ فَمَحْذُوفٌ مِثْلَ: يَتَّسِعُ، حُذِفَ مِنَ الْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي، وَتَخِذَ بِنَاءٌ أَصْلِيٌّ، انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٧٧.
317
الْفَارِسِيُّ وَالسِّيرَافِيُّ مِنْ أَنَّهُ بِنَاءٌ أَصْلِيٌّ عَلَى حَدِّهِ هُوَ الصَّحِيحُ، بِدَلِيلِ مَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ وَهُوَ:
تَخِذَ يَتْخَذُ تَخْذًا، قَالَ الشاعر:
ولا تكثرن اتخذ العشار فإنها تريد مباآت فَسِيحًا بِنَاؤُهَا
وَذَكَرَ الَمَهْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: أَنَّ الْأَصْلَ وَاوٌ مُبْدَلَةٌ مِنْ هَمْزَةٍ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي التَّاءِ، فَصَارَ فِي اتَّخَذَ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: التَّاءُ الْأُولَى أَصْلٌ. الثَّانِي: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ أَصْلِيَّةٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ تَاءٍ أُبْدِلَتْ مِنْ هَمْزَةٍ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ أُبْدِلَتْ مِنْ هَمْزَةٍ، وَاتَّخَذَ تَارَةً يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذَتْ بَيْتاً «١»، وَتَارَةً لِاثْنَيْنِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «٢» : بِمَعْنَى صَيَّرَ. الْعِجْلُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ وَلَدُ الْبَقَرَةِ الصَّغِيرُ الذَّكَرُ. بَعْدَ: ظَرْفُ زَمَانٍ، وَأَصْلُهُ الْوَصْفُ، كَقَبْلَ، وَحُكْمُهُ حُكْمُهُ فِي كَوْنِهِ يُبْنَى عَلَى الضَّمِّ إِذَا قُطِعَ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَيُعْرَبُ بِحَرَكَتَيْنِ، فَإِذَا قُلْتَ: جِئْتُ بَعْدَ زَيْدٍ، فَالتَّقْدِيرُ: جِئْتُ زَمَانًا بَعْدَ زَمَانِ مَجِيءِ زَيْدٍ، وَلَا يُحْفَظُ جَرُّهُ إِلَّا بِمِنْ وَحْدَهَا.
عَفَا: بِمَعْنَى كَثُرَ، فَلَا يَتَعَدَّى حَتَّى عَفَوْا، وَقَالُوا: وَبِمَعْنَى دَرَسَ، فَيَكُونُ لَازِمًا مُتَعَدِّيًا نَحْوَ:
عَفَتِ الدِّيَارُ، وَنَحْوَ: عَفَاهَا الريح، وعفى عَنْ زَيْدٍ: لَمْ يُؤَاخِذْهُ بِجَرِيمَتِهِ، وَاعْفُوا عَنِ اللِّحَى، أَيِ اتْرُكُوهَا وَلَا تَأْخُذُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَرَجُلٌ عَفُوٌّ، وَالْجَمْعُ عُفْوٌ عَلَى فُعْلٍ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، وَهُوَ جَمْعٌ شَاذٌّ، وَالْعِفَاءُ: الشَّعَرُ الْكَثِيرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عِفَاءٌ وَيُقَالُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الشَّخْصِ: عَلَيْهِ الْعَفَاءُ، قَالَ:
عَلَى آثَارِ مَنْ ذَهَبَ الْعَفَاءُ يُرِيدُ الدُّرُوسَ، وَتَأْتِي عَفَا: بِمَعْنَى سَهُلَ مِنْ قَوْلِهِمْ: خُذْ مَا عَفَا وَصَفَا، وَأَخَذْتُ عَفْوَهُ: أَيْ مَا سَهُلَ عَلَيْهِ، مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «٣» : أَيِ الْفَضْلَ الَّذِي يَسْهُلُ إِعْطَاؤُهُ، وَمِنْهُ: خُذِ العفو، وأي السَّهْلَ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَالْعَافِيَةُ: الْحَالَةُ السَّهْلَةُ السَّمْحَةُ.
الشُّكْرُ: الثَّنَاءُ عَلَى إِسْدَاءِ النِّعَمِ، وَفِعْلُهُ: شَكَرَ يَشْكُرُ شُكْرًا وَشُكُورًا، وَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَلْفَاظٍ مَسْمُوعَةٍ تُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَهُوَ قِسْمٌ بِرَأْسِهِ، تَارَةً يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ استحالة ذلك. وكان
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤١.
(٢) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٣.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢١٩.
318
شَيْخُنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ شَكَرَ أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ، ثُمَّ أُسْقِطَ اتِّسَاعًا. وَقِيلَ: الشُّكْرُ: إِظْهَارُ النِّعْمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَكَرَتِ الرَّمْكَةُ مُهْرَهَا إِذَا أَظْهَرَتْهُ، وَالشَّكِيرُ: صِغَارُ الْوَرَقِ يَظْهَرُ مِنْ أَثَرِ الْمَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَبَيْنَا الْفَتَى يَهْتَزُّ لِلْعَيْشِ نَاضِرًا كَعُسْلُوجَةٍ يَهْتَزُّ مِنْهَا شَكِيرُهَا
وَأَوَّلُ الشَّيْبِ، قَالَ الرَّاجِزُ:
أَلَانَ ادِّلَاجٌ بِكَ الْعَتِيرُ وَالرَّأْسُ إِذْ صَارَ لَهُ شَكِيرُ
وناقة شكور تذر أَكْثَرَ مِمَّا رَعَتْ الْفُرْقَانُ: مَصْدَرُ فَرَّقَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي فَرَقَ.
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ: مَعْطُوفٌ عَلَى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ فَالْعَامِلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ الْعَامِلُ فِي إِذْ تِلْكَ بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: فَرَّقْنَا بِالتَّشْدِيدِ، وَيُفِيدُ التَّكْثِيرُ لِأَنَّ الْمَسَالِكَ كَانَتِ اثْنَيْ عَشَرَ مَسْلَكًا عَلَى عَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَمَنْ قَرَأَ: فَرَقْنَا مُجَرَّدًا، اكْتَفَى بِالْمُطْلَقِ، وَفُهِمَ التَّكْثِيرُ مِنْ تَعْدَادِ الْأَسْبَاطِ. بِكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِفَرَقْنَا، وَالْبَاءُ مَعْنَاهَا: السَّبَبُ، أَيْ بِسَبَبِ دُخُولِكُمْ، أَوِ الْمُصَاحَبَةِ: أَيْ مُلْتَبِسًا، كَمَا قَالَ:
تَدُوسُ بِنَا الْجَمَاجِمَ وَالتَّرِيبَا أَيْ مُلْتَبِسَةً بِنَا، أَوْ: أَيْ جَعَلْنَاهُ فَرْقًا بِكُمْ كَمَا يُفْرَقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ، أَوْ مَعْنَاهَا اللَّامُ، أَيْ فَرَقْنَا لَكُمُ الْبَحْرَ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ، وَمَعْنَاهَا رَاجِعٌ لِلسَّبَبِ. وَيَحْتَمِلُ الْفَرْقُ أَنْ يَكُونَ عَرْضًا مِنْ ضَفَّةٍ إِلَى ضَفَّةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طُولًا، وَنُقِلَ كُلٌّ: وَعَلَى هَذَا الثَّانِي قَالُوا: كَانَ ذَلِكَ بِقُرْبٍ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاةِ، وَلَا يُلْحَقُ فِي الْبِرِّ إِلَّا فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ بِسَبَبِ جِبَالٍ وَأَوْعَارٍ حَائِلَةٍ. وَذَكَرَ الْعَامِرِيُّ: أَنَّ مَوْضِعَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ بَرِيَّةِ فَلَسْطِينَ، وَهِيَ كَانَتْ طَرِيقَهُمْ. الْبَحْرُ: قِيلَ هُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ مِنْ بِحَارِ فَارِسَ، وَكَانَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ أَرْبَعَةُ فراسخ، وقيل: بَحْرٍ مِنْ بِحَارِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ أَسَافُ، وَيُعْرَفُ الْآنَ بِبَحْرِ الْقُلْزُمِ، قِيلَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنْ فَرْقَ الْبَحْرِ كَانَ بِعَدَدِ الْأَسْبَاطِ، اثَّنَي عَشَرَ مَسْلَكًا. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْمَفْرُوقِ بِهِمْ، وَعَدَدِ آلِ فِرْعَوْنَ، عَلَى أَقْوَالٍ يُضَادُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَحَكَوْا فِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَعَنُّتِهِمْ وَهُمْ فِي الْبَحْرِ مُقْتَحِمُونَ، وَفِي كَيْفِيَّةِ خُرُوجِ فِرْعَوْنَ بِجُنُودِهِ، حِكَايَاتٍ مُطَوَّلَةٍ جِدًّا لَمْ يَدُلَّ الْقُرْآنُ وَلَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَيْهَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا.
319
فَأَنْجَيْناكُمْ: يَعْنِي مِنَ الْغَرَقِ، وَمِنْ إِدْرَاكِ فِرْعَوْنَ لَكُمْ وَالْيَوْمُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْفَرْقُ وَالنَّجَاةُ وَالْغَرَقُ كَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ؟ وَاسْتَطْرَدُوا إِلَى الْكَلَامِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَفِي صَوْمِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي الْفِقْهِ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأَنْجَيْناكُمْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ وَتَبِعَكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فِي تَقَحُّمِهِ فَأَنْجَيْنَاكُمْ. وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَالْهَمْزَةُ فِي أَغْرَقْنَا لِلتَّعْدِيَةِ، وَيُعَدَّى أَيْضًا بِالتَّضْعِيفِ.
وَلَمْ يُذْكَرْ فِرْعَوْنُ فِيمَنْ غَرَقَ، لِأَنَّ وُجُودَهُ مَعَهُمْ مُسْتَقِرٌّ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْآلِ هُنَا، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذِهِ، وَنَسَبَ تِلْكَ الصِّفَةَ الْقَبِيحَةَ إِلَيْهِمْ مَنْ سَوْمِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعَذَابَ، وَذَبْحِهِمْ أَبْنَاءَهُمْ، وَاسْتِحْيَائِهِمْ نِسَاءَهُمْ، فَنَاسَبَ هَذَا إِفْرَادَهُمْ بِالْغَرَقِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى غَرَقَ فِرْعَوْنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، مِنْهَا: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «١»، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ «٢»، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ «٣». وَنَاسَبَ نَجَاتُهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ بِإِلْقَائِهِمْ فِي الْبَحْرِ وَخُرُوجِهِمْ مِنْهُ سَالِمِينَ، نَجَاةَ نَبِيِّهِمْ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الذَّبْحِ، بِإِلْقَائِهِ وَهُوَ طِفْلٌ فِي الْبَحْرِ، وَخُرُوجِهِ مِنْهُ سَالِمًا. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ نَصِيبٌ مِنْ نَبِيِّهَا. وَنَاسَبَ هَلَاكُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِالْغَرَقِ، هَلَاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِالذَّبْحِ، لِأَنَّ الذَّبْحَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْمَوْتِ بِإِنْهَارِ الدَّمِ، وَالْغَرَقُ فِيهِ إِبْطَاءُ الْمَوْتِ، وَلَا دَمَ خَارِجٌ، وَكَانَ مَا بِهِ الْحَيَاةُ وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «٤» سَبَبًا لِإِعْدَامِهِمْ مِنَ الْوُجُودِ. وَلَمَّا كَانَ الْغَرَقُ مِنْ أَعْسَرِ الْمَوْتَاتِ وَأَعْظَمِهَا شِدَّةً، جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَكَالًا لِمَنِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «٥»، إِذْ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ يَكُونُ الْعِقَابُ، وَيُنَاسِبُ دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالِاعْتِلَاءِ انْحِطَاطُ الْمُدَّعِي وَتَغْيِيبُهُ فِي قَعْرِ الْمَاءِ.
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ مِنَ النَّظَرِ: بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ. وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ الْعَظِيمَةَ مِنْ فَرْقِ الْبَحْرِ بِكُمْ، وَإِنْجَائِكُمْ مِنَ الْغَرَقِ، وَمِنْ أَعْدَائِكُمْ، وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِكُمْ بِالْغَرَقِ، وَقَعَ وَأَنْتُمْ تُعَايِنُونَ ذَلِكَ وَتُشَاهِدُونَهُ، لَمْ يَصِلْ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ بِنَقْلٍ، بَلْ بِالْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ ذَلِكَ خَارِقٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَدِ النَّبِيِّ الَّذِي جَاءَكُمْ. وَقِيلَ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ لِقُرْبِ بَعْضٍ مِنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ: إِلَى طَفْوِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ غَرْقَى. وَقِيلَ: إِلَيْهِمْ وَقَدْ لَفِظَهُمُ الْبَحْرُ وَهُمُ الْعَدَدُ الَّذِي لَا يَكَادُ
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٤٠، وسورة الذاريات: ٥١/ ٤٠.
(٢) سورة يونس: ١٠/ ٩٠.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ٧٨.
(٤) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٠. [.....]
(٥) سورة النازعات: ٧٩/ ٢٤.
320
يَنْحَصِرُ، لَمْ يَتْرُكِ الْبَحْرُ فِي جَوْفِهِ مِنْهُمْ وَاحِدًا. وَقِيلَ: تَنْظُرُونَ أَيْ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ أَنَّ بَعْضَ قَوْمِ مُوسَى قَالُوا لَهُ: أَيْنَ أَصْحَابُنَا؟ فَقَالَ:
سِيرُوا، فَإِنَّهُمْ عَلَى طَرِيقٍ مِثْلِ طَرِيقِكُمْ، قَالُوا: لَا نَرْضَى حَتَّى نَرَاهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ قُلْ بِعَصَاكَ هَكَذَا، فَقَالَ بِهَا عَلَى الْحِيطَانِ، فَصَارَ بِهَا كُوًى، فَتَرَاءَوْا وَتَسَامَعُوا كَلَامَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْخَمْسَةُ النَّظَرُ فِيهَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ، وَقِيلَ: النَّظَرُ تَجَوَّزَ بِهِ عَنِ الْقُرْبِ، أَيْ وَأَنْتُمْ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، أَيْ بِحَالٍ لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَيْهِمْ لَرَأَيْتُمُوهُمْ كَقَوْلِهِمْ: أَنْتَ مِنِّي بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ، أَيْ قَرِيبٌ بِحَيْثُ أَرَاكَ وَأَسْمَعُكَ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ نَظَرِ الْبَصِيرَةِ وَالْعَقْلِ، وَمَعْنَاهُ: وَأَنْتُمْ تَعْتَبِرُونَ بِمَصْرَعِهِمْ وَتَتَّعِظُونَ بِمَوَاقِعِ النِّقْمَةِ الَّتِي أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: النَّظَرُ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ عَنِ النَّظَرِ، فَكَنَى بِهِ عَنْهُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَاعَدْنَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: وَعَدْنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ هُنَا، وَفِي الْأَعْرَافِ وَطَهَ، وَيَحْتَمِلُ وَاعَدْنَا، أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى وَعَدْنَا، وَيَكُونُ صَدَرَ مِنْ وَاحِدٍ، ويحتمل أن يكون من اثْنَيْنِ عَلَى أَصْلِ الْمُفَاعَلَةِ، فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ وَعَدَ مُوسَى الْوَحْيَ، وَيَكُونُ مُوسَى وَعَدَ اللَّهَ الْمَجِيءَ لِلْمِيقَاتِ، أَوْ يَكُونُ الْوَعْدُ مِنَ اللَّهِ وَقَبُولُهُ كَانَ مِنْ مُوسَى، وَقَبُولُ الْوَعْدِ يُشْبِهُ الْوَعْدَ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْآدَمِيُّ يَعِدُ اللَّهَ بِمَعْنَى يُعَاهِدُهُ.
وَقِيلَ: وَعَدَ إِذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ طَلَبٍ، وَوَاعَدَ إِذَا كَانَ عَنْ طَلَبٍ. وَقَدْ رَجَّحَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: وَعَدْنَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَأَنْكَرَ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: وَاعَدْنَا بِالْأَلِفِ، وافقه عَلَى مَعْنَى مَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَمَكِّيٌّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُوَاعَدَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَكْثَرُ مَا تَكُونُ الْمُوَاعَدَةُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الْمُتَكَافِئِينَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعِدُ صَاحِبَهُ، وَقَدْ مَرَّ تَخْرِيجُ وَاعَدَ عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ السَّابِقَةِ، وَلَا وَجْهَ لِتَرْجِيحِ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَوَاتِرٌ، فَهُمَا فِي الصِّحَّةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ. وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِأَلِفٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَالْأَعْرَجِ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَنَافِعٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ. مُوسَى: هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثَ بن لاوي بن يعقوب بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ. وَذَكَرَ الشَّرِيفُ أَبُو الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْعَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِوَّانِيُّ النَّسَّابَةُ: أَنَّ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ: مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بن قَاهِثَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَفْظِ مُوسَى الْعَلَمِ. وَأَمَّا مُوسَى الْحَدِيدَةُ، الَّتِي يُحْلَقُ بِهَا الشَّعَرُ، فَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ عَرَبِيَّةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ: أَسَوْتُ الشَّيْءَ، إِذَا أَصْلَحْتَهُ، وَوَزْنُهَا مُفْعَلٌ، وَأَصْلُهَا الْهَمْزُ، وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ: أَوْسَيْتُ إِذَا حَلَقْتُ، وَهَذَا الِاشْتِقَاقُ أَشْبَهُ بِهَا، وَلَا أَصْلَ لِلْوَاوِ فِي الْهَمْزِ عَلَى هَذَا. أَرْبَعِينَ لَيْلَةً: ذُو
321
الْحِجَّةِ وَعَشْرٌ مِنَ الْمُحَرَّمِ، أَوْ ذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: بِكَسْرِ بَاءِ أَرْبِعِينَ شَاذًّا اتِّبَاعًا، وَنُصِبَ أَرْبَعِينَ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِوَاعَدْنَا، عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمَوْعُودَةُ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ تَمَامَ، أَوِ انْقِضَاءَ أَرْبَعِينَ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ فَأُعْرِبَ إِعْرَابَهُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، فَيَكُونُ مِثْلَ قوله:
فواعديه سر حتى مَالِكِ أَوِ النَّقَا بَيْنَهُمَا أسهلا
أي إتيان سر حتى مَالِكٍ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ أَرْبَعِينَ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ مَعْدُودٌ، فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الْعَامِلِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَالْمُوَاعَدَةُ لَمْ تَقَعْ كَذَلِكَ. وَلَيْلَةً: مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ الْجَائِي بَعْدَ تَمَامِ الِاسْمِ، وَالْعَامِلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّمْيِيزِ اسْمُ الْعَدَدِ قَبْلَهُ شَبَّهَ أَرْبَعِينَ بِضَارِبِينَ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّمْيِيزِ عَلَى اسْمِ الْعَدَدِ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالْمَجْرُورِ إِلَّا ضَرُورَةً، نَحْوَ:
على أنني بعد ما قَدْ مَضَى ثَلَاثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلًا كَمِيلَا
وَعِشْرِينَ مِنْهَا أُصْبُعًا مِنْ وَرَائِنَا وَلَا تَعْرِيفَ لِلتَّمْيِيزِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ وَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الطَّرَاوَةِ. وَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا مَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدِ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَا فَعَلَتِ الْعِشْرُونَ الدِّرْهَمَ، وَمَا جَاءَ نَحْوَ: هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّعْرِيفِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَكَانَ تَفْسِيرُ الْأَرْبَعِينَ بِلَيْلَةٍ دُونَ يَوْمٍ، لِأَنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ لَيْلَةُ الْهِلَالِ، وَلِهَذَا أُرِّخَ بِاللَّيَالِي، وَاعْتِمَادُ الْعَرَبِ عَلَى الْأَهِلَّةِ، فَصَارَتِ الْأَيَّامُ تَبَعًا لِلَّيَالِي، أَوْ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ أَقْدَمُ مِنَ الضَّوْءِ بِدَلِيلِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «١»، أَوْ دَلَالَةً عَلَى مُوَاصَلَتِهِ الصَّوْمَ لَيْلًا وَنَهَارًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّفْسِيرُ بِالْيَوْمِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ كَانَ يُفْطِرُ بِاللَّيْلِ، فَلَمَّا نَصَّ عَلَى اللَّيَالِي اقْتَضَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ وَاصَلَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بِأَيَّامِهَا. وَهَذِهِ الْمُوَاعَدَةُ لِلتَّكَلُّمِ، أَوْ لِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ جَاوَزَ الْبَحْرَ، وَسَأَلَهُ قَوْمُهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَخَرَجَ إِلَى الطُّورِ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَصَعِدَ الْجَبَلَ وَوَاعَدَهُمْ إِلَى تَمَامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَعَدُوا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ عِشْرِينَ يَوْمًا وَعَشَرَةَ لَيَالٍ، فَقَالُوا: قَدْ أَخْلَفَنَا مَوْعِدَهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِصْرَ، بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ، وَعَدَ اللَّهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةَ، وَضَرَبَ لَهُ مِيقَاتًا، انتهى.
(١) سورة يس: ٣٦/ ٣٧.
322
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ: الْجُمْهُورُ عَلَى إِدْغَامِ الذَّالِ فِي التَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ مِنَ السَّبْعَةِ: بِالْإِظْهَارِ، وَيَحْتَمِلُ اتَّخَذَ هُنَا أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً لِوَاحِدٍ، أَيْ صَنَعْتُمْ عِجْلًا، كَمَا قَالَ: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ «١»، عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى، وَتَقْدِيرُهَا:
وَعَبَدْتُمُوهُ إِلَهًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا، وَالْأَرْجَحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، إِذْ لَوْ كَانَ مِمَّا يَتَعَدَّى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ لِاثْنَيْنِ لَصَرَّحَ بِالثَّانِي، وَلَوْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ إِلَى اثْنَيْنِ بَلْ إِلَى وَاحِدٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى، وَفِي: اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ «٢»، وَفِي: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ «٣»، وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا:
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ «٤»، لَكِنَّهُ يُرَجَّحُ الْقَوْلُ الثَّانِي لِاسْتِلْزَامِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَذْفَ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الثَّانِي إِلَّا حَذْفَ الْمَفْعُولِ، وَحَذْفُ الْمُفْرَدِ أَسْهَلُ مِنْ حَذْفِ الْجُمْلَةِ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِيهِ ذَمُّ الْجَمَاعَةِ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الَّذِي عَمِلَ الْعِجْلَ هُوَ السَّامِرِيُّ، وَسَيَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، الْكَلَامُ فِيهِ وَفِي اسْمِهِ وَحِكَايَةِ إِضْلَالِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ «٥»، وَذَلِكَ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ الْقَبِيلَةَ بِمَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِهَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِيهِ ذَمُّهُمْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْعِجْلِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَهْدٌ فِيهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لِلْعَهْدِ السَّابِقِ، إِذْ كَانُوا قَدْ صَنَعُوا عِجْلًا ثُمَّ اتَّخَذُوا ذَلِكَ الْعِجْلَ إِلَهًا، وَكَوْنُهُ عِجْلًا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا، فَيَكُونُ عِجْلًا حَقِيقَةً وَيَكُونُ نِسْبَةُ الْخُوَارِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ:
هُوَ مَجَازٌ، أَيْ عِجْلًا فِي الصُّورَةِ وَالشَّكْلِ، لِأَنَّ السَّامِرِيَّ صَاغَهُ عَلَى شَكْلِ الْعِجْلِ، وَكَانَ فِيمَا ذَكَرُوا صَائِغًا، وَيَكُونُ نِسْبَةُ الْخُوَارِ إِلَيْهِ مَجَازًا، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِنْ أَغْرَبِ مَا ذُهِبَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْعِجْلِ أَنَّهُ سُمِّيَ عِجْلًا لِأَنَّهُمْ عَجَّلُوا بِهِ قَبْلَ قُدُومِ مُوسَى، فَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ سُمِّي هَذَا عِجْلًا، لِقِصَرِ مُدَّتِهِ.
مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ: تُفِيدُ ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ، وَيَتَعَارَضُ مَدْلُولُهَا مَعَ مَدْلُولِ ثُمَّ، لِأَنَّ ثُمَّ
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٤٨.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٤٨.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٢.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٥٤.
(٥) سورة طه: ٢٠/ ٨٥.
323
تَقْتَضِي وُقُوعَ الِاتِّخَاذِ بَعْدَ مهلة من المواعدة، ومن تَقْتَضِي ابْتِدَاءَ الْغَايَةِ فِي التَّعْدِيَةِ الَّتِي تَلِي الْمُوَاعَدَةَ، إِذِ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مُوسَى، وَلَا تُتَصَوَّرُ التَّعْدِيَةُ فِي الذَّاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ، وَأَقْرَبُ مَا يُحْذَفُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ وَاعَدْنَا، أَيْ مِنْ بَعْدِ مُوَاعَدَتِهِ، فَلَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَجَازِ فِي أَحَدِ الْحَرْفَيْنِ، إِلَّا إِنْ قُدِّرَ مَحْذُوفٌ غَيْرُ الْمُوَاعَدَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مِنْ بَعْدِ ذَهَابِهِ إِلَى الطُّورِ، فَيَزُولُ التَّعَارُضُ، إِذِ الْمُهْلَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْمُوَاعَدَةِ وَالِاتِّخَاذِ. وَيُبَيِّنُ الْمُهْلَةَ قِصَّةُ الْأَعْرَافِ، إِذْ بَيْنَ الْمُوَاعَدَةِ وَالِاتِّخَاذِ هُنَاكَ جُمَلٌ كَثِيرَةٌ، وَابْتِدَاءُ الْغَايَةِ يَكُونُ عَقِيبَ الذَّهَابِ إِلَى الطُّورِ، فَلَمْ تَتَوَارَدِ الْمُهْلَةُ وَالِابْتِدَاءُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَزَالَ التَّعَارُضُ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَعْدِهِ يَعُودُ عَلَى الذَّهَابِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ الذَّهَابِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ تَقْتَضِي الذَّهَابَ، فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، بَلْ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «١»، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً «٢» أَيْ تَوَارَتِ الشَّمْسُ، إِذْ يَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: بِالْعَشِيِّ، وَأَيْ فَأَثَرْنَ بِالْمَكَانِ، إِذْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْعادِياتِ «٣» فَالْمُورِياتِ
«٤»، فَالْمُغِيراتِ «٥»، إِذْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي مَكَانٍ فَاقْتَضَتْهُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْإِنْجَاءِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ الْإِنْجَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى الْهُدَى، أَيْ مِنْ بَعْدِ الْهُدَى، وَكِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ.
وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَمُتَعَلِّقُ الظُّلْمِ. قِيلَ: ظَالِمُونَ بِوَضْعِ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَقِيلَ: بِتَعَاطِي أَسْبَابِ هَلَاكِهَا، وَقِيلَ: بِرِضَاكُمْ فِعْلَ السَّامِرِيِّ فِي اتِّخَاذِهِ الْعِجْلَ، وَلَمْ تُنْكِرُوا عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ غَيْرَ حَالٍ، بَلْ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ: أَيْ سَجِيَّتُهُمُ الظُّلْمُ، وَهُوَ وَضْعُ الْأَشْيَاءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا. وَكَانَ الْمَعْنَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَكُنْتُمْ ظَالِمِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ. وَأَبْرَزَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي صُورَةِ ابْتِدَاءٍ وَخَبَرٍ، لِأَنَّهَا أَبْلَغُ وَآكَدُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَلِمُوَافَقَةِ الْفَوَاصِلِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعُمُومُ، وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ إِلَّا هَارُونَ، وَقِيلَ: الَّذِينَ عَكَفُوا عَلَى عِبَادَتِهِ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ثَمَانِيَةُ آلَافِ رَجُلٍ، وَقِيلَ: كُلُّهُمْ عَبَدُوهُ إِلَّا هَارُونَ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، قِيلَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: إِلَّا هَارُونَ وَالسَّبْعِينَ رَجُلًا الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى. وَاتِّخَاذُ السَّامِرِيِّ الْعِجْلَ دُونَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ يعكفون
(١) سورة ص: ٣٨/ ٣٢.
(٢) سورة العاديات: ١٠٠/ ٤.
(٣) سورة العاديات: ١٠٠/ ١.
(٤) سورة العاديات: ١٠٠/ ٢.
(٥) سورة العاديات: ١٠٠/ ٣.
324
عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ وَكَانَتْ عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ، فَقَالُوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً، فَهَجَسَ فِي نَفْسِ السَّامِرِيِّ أَنْ يَفْتِنَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَاتَّخَذَ لَهُمُ الْعِجْلَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، وَكَانَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِمُوسَى، فَاتَّخَذَ عِجْلًا مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَعْبُدُهُ، وَفِي اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ إِلَهًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُجَسِّمَةً أَوْ حُلُولِيَّةً، إِذْ مَنِ اعْتَقَدَ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ وَاسْتِحَالَةَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ، تَبَيَّنَ لَهُ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ فَسَادُ دَعْوَى أَنَّ الْعِجْلَ إِلَهٌ. وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وغيرهما قَصَصًا كَثِيرًا مُخْتَلِفًا فِي سَبَبِ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ، وَكَيْفِيَّةِ اتِّخَاذِهِ، وَانْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، إِذْ لَمْ يَشْهَدْ بِصِحَّتِهَا كِتَابٌ وَلَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَتَرَكْنَا نَقْلَ ذَلِكَ عَلَى عَادَتِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ.
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ: تَقَدَّمَتْ مَعَانِي عَفَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَفَا عَنْهُ مِنْ بَابِ الْمَحْوِ وَالْإِذْهَابِ، أَوْ مِنْ بَابِ التَّرْكِ، أَوْ مِنْ بَابِ السُّهُولَةِ، وَالْعَفْوُ وَالصَّفْحُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُسْتَعْمَلُ الْعَفْوُ بِمَعْنَى الصَّفْحِ إِلَّا فِي الذَّنْبِ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ هُنَا بِمَعْنَى التَّرْكِ أَوِ التَّسْهِيلِ، فَيَكُونُ عَنْكُمْ عَامُّ اللَّفْظِ خَاصُّ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا كَانَ عَمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَحْوِ، كَانَ عَامًّا لَفْظًا وَمَعْنًى، فَإِنَّهُ تَعَالَى تَابَ عَلَى مَنْ قُتِلَ، وَعَلَى مَنْ بَقِيَ، قَالَ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ «١».
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى بَعْدَ قَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَنِّي قَبِلْتُ تَوْبَتَهُمْ فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ لَمْ يُقْتَلْ فَقَدْ تُبْتُ عَلَيْهِ وَغَفَرْتُ لَهُ.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: عَفَوْنَا عَنْكُمْ، أَيْ بِسَبَبِ إِتْيَانِكُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَهِيَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى اتِّخَاذِ الْعِجْلِ، وَقِيلَ: إِلَى قَتْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. لَعَلَّكُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، لُغَةً وَدَلَالَةَ مَعْنًى بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. تَشْكُرُونَ: أَيْ تُثْنُونَ عَلَيْهِ تَعَالَى بِإِسْدَائِهِ نِعَمَهُ إِلَيْكُمْ، وَتُظْهِرُونَ النِّعْمَةَ بِالثَّنَاءِ، وَقَالُوا: الشُّكْرُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ بِنِعْمَةِ الْمُنْعِمِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَبِالْقَلْبِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ حَقِّ الْمُنْعِمِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، وَبِالْعَمَلِ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «٢»، وَبِاللَّهِ أَيْ شُكْرًا لِلَّهِ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَشْكُرُهُ حَقَّ شُكْرِهُ إِلَّا هُوَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
وَشُكْرُ ذَوِي الْإِحْسَانِ بِالْقَوْلِ تَارَةً وَبِالْقَلْبِ أُخْرَى ثُمَّ بِالْعَمَلِ الْأَسَنَّى
وَشُكْرِي لِرَبِّي لَا بِقَلْبِي وَطَاعَتِي وَلَا بِلِسَانِي بَلْ بِهِ شُكْرُهُ عنا
(١) سورة البقرة: ٢/ ٥٤.
(٢) سورة سبأ: ٣٤/ ١٣. [.....]
325
وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: أَيْ عَفْوَ اللَّهِ عَنْكُمْ، لِأَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي الشُّكْرَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ تُظْهِرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي الْعَفْوِ، أَوْ تَعْتَرِفُونَ بِنِعْمَتِي، أَوْ تُدِيمُونَ طَاعَتِي، أَوْ تُقِرُّونَ بِعَجْزِكُمْ عَنْ شُكْرِي أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشُّكْرُ طَاعَةُ الْجَوَارِحِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الشُّكْرُ هُوَ الْعَجْزُ عَنِ الشُّكْرِ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: التَّوَاضُعُ تَحْتَ رُؤْيَةِ الْمِنَّةِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَنْ لَا تَعْصِيَ اللَّهَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ أَنْ تَعْرِفَ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ:
الشُّكْرُ لِمَنْ فَوْقَكَ بِالطَّاعَةِ، وَلِنَظِيرِكَ بِالْمُكَافَأَةِ، وَلِمَنْ دُونَكَ بِالْإِحْسَانِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
سُرْعَةُ الْعَفْوِ عَنْ عَظِيمِ الْجُرْمِ دَالَّةٌ عَلَى حَقَارَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ «١»، وَهُؤَلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ»
، وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «٣»، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَاسَبَ تَرَجِّي الشُّكْرِ إِثْرَ ذِكْرِ الْعَفْوِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الزَّلَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ اتِّخَاذُ الْعِجْلِ إِلَهًا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ، أَوْ أَعْظَمُ إِسْدَاءِ النِّعَمِ، فَلِذَلِكَ قَالَ:
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: هُوَ التَّوْرَاةُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْفُرْقانَ: هُوَ التَّوْرَاةُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ آتَاهُ جَامِعًا بَيْنَ كَوْنِهِ كِتَابًا وَفُرْقَانَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ: الْمَكْتُوبُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِذِكْرِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: كَرَّرَ الْمَعْنَى لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، وَلِأَنَّهُ زَادَ مَعْنَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَفْظَةُ كِتَابٍ لَا تُعْطِي ذَلِكَ، أَوِ الْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، أَيْ زَائِدَةٌ، وَهُوَ نَعْتٌ لِلْكِتَابِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرِمِ وَابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ
قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ، وَابْنِ الْهُمَامِ، وَلَيْثِ: مِنْ بَابِ عَطْفِ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَلِذَلِكَ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةَ الْمَعَانِي، أَوِ النَّصْرُ، لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَدُوِّ وَالْوَلِيِّ فِي الْغَرَقِ وَالنَّجَاةِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِيَوْمِ بَدْرٍ: يَوْمَ الْفُرْقَانِ، قاله ابن عباس، أو سَائِرُ الْآيَاتِ الَّتِي أُوتِيَ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْعَصَا وَالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ، أَوِ الشَّرْعُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَوِ الْبُرْهَانُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ،
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٥٢.
(٣) سورة الزلزلة: ٩٩/ ٨.
326
قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ وَابْنُ زيد، أو الفرح مِنَ الْكُرَبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ مَعَ الْقِبْطِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «١»، أَيْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ لِمَعْنَى النَّصْرِ أَوِ الْقُرْآنِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ آتَى مُوسَى ذِكْرَ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى آمَنَ بِهِ، حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوِ الْقُرْآنُ عَلَى حَذْفِ مَفْعُولٍ، التَّقْدِيرُ: وَمُحَمَّدًا الْفُرْقَانَ، وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الْفَرَّاءِ وَقُطْرُبٍ وَثَعْلَبٍ، وَقَالُوا: هُوَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا التَّقْدِيرُ: وَكَحَّلْنَ الْعُيُونَ. وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ مَكِّيٌّ وَالنَّحَّاسُ وَجَمَاعَةٌ، لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ، وَيَصِيرُ نَظِيرَ: أَطْعَمْتُ زَيْدًا خُبْزًا وَلَحْمًا، وَيَكُونُ: اللَّحْمُ أَطْعَمْتَهُ غَيْرَ زَيْدٍ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ أَنَّهُ يُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ، إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْحُرُوفِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِثْلَ مَا مَثَّلُوا بِهِ مِنْ: وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَ، لِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ جَاءَ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً «٢»، وَذَكَرُوا جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى لِأَنَّهَا فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوِ انْفِرَاقُ الْبَحْرِ، قَالَهُ يَمَانٌ وَقُطْرُبٌ، وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ بِسَبْقِ ذِكْرِ فَرْقِ الْبَحْرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ فَرَقْنا «٣»، وَبِذِكْرِ تَرْجِيَةِ الْهِدَايَةِ عَقِيبَ الْفُرْقَانِ، وَلَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكِتَابِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ، وَإِنْ سَبَقَ ذِكْرُ الِانْفِلَاقِ، فَأُعِيدَ هُنَا وَنُصَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ آيَةٌ لِمُوسَى مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَنَاسَبَ ذِكْرَ الْهِدَايَةِ بَعْدَ فَرْقِ الْبَحْرِ لِأَنَّهُ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِدْقِ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ هُوَ الْهِدَايَةُ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهِدَايَةِ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ، وَبِفَرْقِ الْبَحْرِ حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ لَهُمْ نِعْمَةَ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّيَانَاتِ لَهُمْ، وَنِعْمَةَ النَّجَاةِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ. فَهَذِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَقَالَةً لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِالْفُرْقَانِ هُنَا.
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ: تَرْجِيَةٌ لِهِدَايَتِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَعَلَّ. وَفِي لَفْظِ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي لَعَلَّ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ قَبْلُ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَنَّهُ تَوَقُّعٌ، وَالَّذِي تَقَرَّرَ فِي النَّحْوِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَعَلِّقُ لَعَلَّ مَحْبُوبًا، كَانَتْ لِلتَّرَجِّي، فَإِنْ كَانَ مَحْذُورًا، كَانَتْ لِلتَّوَقُّعِ، كَقَوْلِكَ: لَعَلَّ الْعَدُوَّ يُقْدِمُ. وَالشُّكْرُ وَالْهِدَايَةُ مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَبَّرَ عَنْ مَعْنَى لَعَلَّ هُنَا إِلَّا بِالتَّرَجِّي. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فُرْقَانُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي اخْتُصُّوا بِهِ نُورٌ فِي قُلُوبِهِمْ، يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٢٩.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٨.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٥٠.
327
الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، اتَّقُوا فَرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً «١»، وَذَلِكَ الْفُرْقَانُ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الْإِحْسَانِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَاسَبَ تَرَجِّي الْهِدَايَةِ إِثْرَ ذِكْرِ إِتْيَانِ مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ، لِأَنَّ الْكِتَابَ بِهِ تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «٢»، ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً «٣»، وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ «٤». وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ذِكْرِ الِامْتِنَانِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فُصُولًا مِنْهَا:
فَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ كَوْنِهِ صَارَ اثْنَيْ عَشَرَ مَسْلَكًا عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ وَبَيْنَ كُلِّ سِبْطٍ حَاجِزٌ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الِازْدِحَامِ دُونَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ فِي ذَلِكَ اسْتِيحَاشٌ، لِأَنَّهُ صَارَ فِي كُلِّ حَاجِزٍ كُوًى بِحَيْثُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى مَا نُقِلَ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا الْفَرْقُ هُوَ النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ، لِأَنَّ الْأُولَى هِيَ التَّفْضِيلُ، وَالثَّانِيَةَ هِيَ الْإِنْجَاءُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَالثَّالِثَةَ هِيَ هَذَا الْفَرْقُ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ وَإِغْرَاقِ أَعْدَائِهِمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّونَ فِي هَلَاكِهِمْ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى ذِكْرِ النِّعْمَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ الْعَفْوُ عَنِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ اتَّفَقَ ذَلِكَ لِغَيْبَةِ مُوسَى عَنْهُمْ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ، وَأَنَّهُمْ عَلَى قِصَرِ مُدَّةِ غَيْبَتِهِ انْخَدَعُوا بِمَا فَعَلَهُ السَّامِرِيُّ هَذَا، وَلَمْ يَطُلْ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَخَلِيفَةُ مُوسَى فِيهِمْ أَخُوهُ هَارُونُ يَنْهَاهُمْ فَلَا يَنْتَهُونَ، وَمَعَ هَذِهِ الزَّلَّةِ الْعَظِيمَةِ عَفَا عَنْهُمْ وَتَابَ عَلَيْهِمْ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ النِّعْمَةَ الْخَامِسَةَ، وَهِيَ ثَمَرَةُ الْوَعْدِ، وَهُوَ إِتْيَانُ مُوسَى التَّوْرَاةَ الَّتِي بِهَا هِدَايَتُهُمْ، وَفِيهَا مَصَالِحُ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ. وَجَاءَ تَرْتِيبُ هَذِهِ النِّعَمِ مُتَنَاسِقًا يَأْخُذُ بَعْضُهُ بِعُنُقِ بَعْضٍ، وَهُوَ تَرْتِيبٌ زَمَانِيٌّ، وَهُوَ أَحَدُ التَّرْتِيبَاتِ الخمس الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ، فَهُوَ أَوَّلٌ ثُمَّ وَقَعَتِ النِّعَمُ بَعْدَهُ، وَهِيَ أَفْعَالٌ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا. فَأَوَّلُهَا الْإِنْجَاءُ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ، ذَبْحِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ بِإِخْرَاجِ مُوسَى إِيَّاهُمْ مِنْ مِصْرَ، بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِفِرْعَوْنَ وَلَا لِقَوْمِهِ عَلَيْهِمْ تَسْلِيطٌ بَعْدَ هَذَا الْخُرُوجِ، وَالْإِنْجَاءِ، ثُمَّ فَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ وَإِرَائِهِمْ عِيَانًا هَذَا الْخَارِقَ الْعَظِيمَ، ثُمَّ وَعْدُ اللَّهُ لِمُوسَى بِمُنَاجَاتِهِ وَذَهَابُهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ اتِّخَاذُهُمُ الْعِجْلَ، ثُمَّ الْعَفْوُ عَنْهُمْ، ثُمَّ إِيتَاءُ مُوسَى التَّوْرَاةَ. فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ هَذِهِ الْفُصُولِ الَّتِي انْتَظَمَتِ انْتِظَامَ الدُّرِّ فِي أَسْلَاكِهَا، وَالزَّهْرِ فِي أَفْلَاكِهَا، كُلُّ فَصْلٍ مِنْهَا قَدْ ختم
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٢٩.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٤٤.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢.
(٤) سورة المائدة: ٥/ ٤٦.
328
بِمُنَاسِبِهِ، وَارْتَقَى فِي ذُرْوَةِ الفصاحة إلى أعلا مَنَاصِبِهِ، وَارِدًا مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ أَمِينِهِ لِسَانِ مَنْ لَمْ يَتْلُ مِنْ قَبْلُ كِتَابًا وَلَا خطه بيمينه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٤ الى ٥٧]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
الْقَوْمُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا وَاحِدُهُ امْرُؤٌ، وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يُجْمَعَ، وَشَذَّ جَمْعُهُ، قَالُوا: أَقْوَامٌ، وَجَمْعُ جَمْعِهِ قَالُوا: أَقَاوِيمٌ فَقِيلَ يُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ. قَالَ تَعَالَى:
لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ «١»، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ «٢». وَقَالَ زُهَيْرٌ:
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَقَالَ آخَرُ:
قَوْمِي هُمْ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي
وَقَالَ آخَرُ:
لَا يَبْعُدُنَّ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزُرِ
وَقِيلَ: لَا يُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ بَلْ يَنْطَلِقُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ «٣»، وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ «٤». كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: أَمَّا إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى التَّخْصِيصِ فَيَبْطُلُ الْعُمُومُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُخَصَّصَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَيَكُونُ انْدِرَاجُ النِّسَاءِ فِي الْقَوْمِ على سبيل الاستتباع
(١) سورة الحجرات: ٤٩/ ١١.
(٢) سورة الحجرات: ٤٩/ ١١.
(٣) سورة نوح: ٧١/ ١.
(٤) سورة غافر: ٤٠/ ٤١. [.....]
329
وَتَغْلِيبِ الرِّجَالِ، وَالْمَجَازُ خَيْرٌ مِنَ الِاشْتِرَاكِ. وَسُمِّيَ الرِّجَالُ قَوْمًا لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِالْأُمُورِ.
الْبَارِئُ: الْخَالِقُ، بَرَأَ يَبْرَأُ: خَلَقَ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْبَارِئِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «١»، مَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَايُنِ، إِلَّا إِنْ حُمِلَ عَلَى التَّوْكِيدِ. وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: الْبَارِئُ هُوَ الْمُبْدِعُ الْمُحْدِثُ، وَالْخَالِقُ هُوَ الْمُقَدِّرُ النَّاقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بَرَأَ وَأَنْشَأَ وَأَبْدَعَ نَظَائِرُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ تَبَرَّى الشَّيْءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُوَ انْفِصَالُهُ مِنْهُ، فَالْخَلْقُ قَدْ فُصِلُوا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، انْتَهَى. وَقَالَ أُمَيَّةُ: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فِي الْأَرْحَامِ مَاءً حَتَّى يَصِيرَ دَمًا. الْقَتْلُ:
إِزْهَاقُ الرُّوحِ بِفِعْلِ أَحَدٍ، مِنْ طَعْنٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ ذَبْحٍ أَوْ خَنْقٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ فَهُوَ مَوْتُ هَلَاكٍ، وَالْمُقَتَّلُ: الْمُذَلَّلُ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِسَهْمَيْكَ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ شَرَحُوهُ: بِالْمُذَلَّلِ.
خَيْرٌ: هِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهَا شُذُوذًا فِي الْكَلَامِ فَنَقَصَ بِنَاؤُهَا فَانْصَرَفَتْ، كَمَا حَذَفُوهَا شُذُوذًا فِي الشِّعْرِ مِنْ أحب للتي لِلتَّفْضِيلِ، وَقَالَ الْأَحْوَصُ:
وَزَادَنِي كَلَفًا بِالْحُبِّ أَنْ مُنِعْتُ وَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ مَا مُنِعَا
وَقَدْ نَطَقُوا بِالْهَمْزَةِ فِي الشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
بِلَالٌ خَيْرُ النَّاسِ وَابْنُ الْأَخْيَرِ وَتَأْتِي خَيْرٌ أَيْضًا لَا، بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ، تَقُولُ: فِي زَيْدٍ خَيْرٌ، تُرِيدُ بِذَلِكَ خَصْلَةً جَمِيلَةً، وَمُخَفَّفًا مِنْ خَيِّرٍ: رَجُلٌ خَيْرٌ، أَيْ فِيهِ خَيْرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ. حَتَّى: حَرْفٌ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ، فِيهِ الْغَايَةُ، وَتَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِبْدَالُ حَائِهَا عَيْنًا لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَسُمِعَ فِيهَا الْإِمَالَةُ قَلِيلًا، وَأَحْكَامُهَا مُسْتَوْفَاةٌ فِي النَّحْوِ. الرُّؤْيَةُ الْإِبْصَارُ، وَالْمَاضِي رَأَى، عَيْنُهُ هَمْزَةٌ تُحْذَفُ فِي مُضَارِعِهِ، وَالْأَمْرِ مِنْهُ وَبِنَاءِ أَفْعَلَ، وَالْأَمْرِ مِنْهُ، وَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، تَقُولُ: يَرَى وَتَرَى وَنَرَى وَأَرَى زَيْدًا، وَأَرَيْتُ زَيْدًا، وَرِ زَيْدًا، وَمَرِ زَيْدًا، وَمَرِيَ. وَتَثْبُتُ فِي الرُّؤْيَةِ وَالرَّأْيِ وَالرُّؤْيَا وَالْمَرْأَى وَالْمَرْئِيِّ وَالْمَرْأَةُ وَاسْتَرْأَى وَأَرْأَى مِنْ كَذَا، وَفِي مَا أَرْأَهُ وَأَرْئِهِ فِي التَّعَجُّبِ. وَهَذَا الْحَذْفُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ إِذَا كَانَ مَدْلُولُ رَأَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِبْصَارِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ الِاعْتِقَادِ، فَإِنْ كَانَتْ رَأَى بِمَعْنَى أَصَابَ رِئَتَهُ، فلا تحذف
(١) سورة الحشر: ٥٩/ ٢٤.
330
الْهَمْزَةُ، بَلْ تَقُولُ: رَآهُ يَرْآهُ: أَيْ أَصَابَ رِئَتَهُ، نَقَلَهُ صَاحِبُ كِتَابِ الْأَمْرِ. وَلُغَةُ تَمِيمٍ إِثْبَاتُ الْهَمْزِ فِيمَا حَذَفَ مِنْهُ غَيْرُهُمْ، فَيَقُولُونَ: يَرْأَى وَأَرْئَى؟ وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: فَجَمَعَ بَيْنَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ وَالْإِثْبَاتِ:
أَلَمْ تَرَ مَا لَاقَيْتُ وَالدَّهْرُ أَعْصَرُ وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْأَى وَيَسْمَعُ
الْجَهْرَةُ: الْعَلَانِيَةُ، وَمِنْهُ الْجَهْرُ: ضِدُّ السِّرِّ، وَفَتْحُ عَيْنِ هَذَا النَّحْوِ مَسْمُوعٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، مَقِيسٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَيُقَالُ: جَهَرَ الرَّجُلُ الْأَمْرَ:
كَشَفَهُ، وَجَهَرَتِ الرَّكْيَةُ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْحَمْأَةِ وَأَظْهَرَتِ الْمَاءَ، قَالَ:
إِذَا وَرَدْنَا آجنا جهرنا أو حاليا من أهله عمزنا
والجمهوري: الْعَالِي الصَّوْتِ، وَصَوْتٌ جَهِيرٌ: عَالٍ، وَوَجْهٌ جَهِيرٌ: ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ، وَالْأَجْهَرُ: الْأَعْمَى، سُمِّيَ عَلَى الضِّدِّ. الْبَعْثُ: الْإِحْيَاءُ، وَأَصْلُهُ الْإِثَارَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أُنِيخُهَا مَا بَدَا لِي ثُمَّ أَبْعَثُهَا كَأَنَّهَا كَاسِرٌ فِي الْجَوِّ فَتْخَاءُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَفِتْيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحرَةٍ فَقَامُوا جَمِيعًا بين عان وَنَشْوَانِ
وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْإِرْسَالُ، وَمِنْهُ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا «١»، وَتَأْتِي بِمَعْنَى الْإِفَاقَةِ مِنَ الْغَشْيِ أَوِ النَّوْمِ، وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ «٢»، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي هُوَ إِزَالَةُ مَا يَمْنَعُ عَنِ التَّصَرُّفِ. ظَلَّلَ: فَعَّلَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظِّلِّ، وَالظِّلُّ أَصْلُهُ الْمَنْفَعَةُ، وَالسَّحَابَةُ ظُلَّةٌ لِمَا يَحْصُلُ تَحْتَهَا مِنَ الظِّلِّ، وَمِنْهُ قِيلَ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ كُنْتَ مَوْلَى الظل أَوْ فِي ظِلَالِهِ ظَلَمْتَ وَلَكِنْ لَا يَدَيْ لَكَ بِالظُّلْمِ
الْغَمَامُ: اسْمُ جِنْسٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ هَاءُ التَّأْنِيثِ، تَقُولُ: غَمَامَةٌ وَغَمَامٌ، نَحْوَ: حَمَامَةٍ وَحَمَامٍ، وَهُوَ السَّحَابُ. وَقِيلَ: مَا ابْيَضَّ مِنَ السَّحَابِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَبْرَدُ مِنَ السَّحَابِ وَأَرَقُّ، وَسُمِّيَ غَمَامًا لِأَنَّهُ يَغُمُّ وَجْهَ السَّمَاءِ: أَيْ يَسْتُرُهُ، وَمِنْهُ: الْغَمُّ وَالْغَمَمُ وَالْأَغَمُّ وَالْغُمَّةُ وَالْغُمَّى وَالْغَمَّاءُ، وَغُمَّ الْهِلَالُ: سُتِرَ، وَالنَّبْتُ الْغَمِيمُ: هُوَ الَّذِي يَسْتُرُ مَا يُسَامِتُهُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ.
الْمَنُّ: مَصْدَرُ مَنَنْتُ، أَيْ قَطَعْتُ، وَالْمَنُّ: الْإِحْسَانُ، وَالْمَنُّ: صَمْغَةٌ تَنْزِلُ عَلَى الشجر حلوة،
(١) سورة النحل: ١٦/ ٣٦.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ١٩.
331
وَفِي الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ سَتَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّلْوَى: اسْمُ جِنْسٍ، وَاحِدُهَا سَلْوَاةٌ، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَالْأَلِفُ فِيهَا لِلْإِلْحَاقِ لَا لِلتَّأْنِيثِ نَحْوَ: عَلْقَى وَعَلْقَاةٌ، إِذْ لَوْ كَانَتْ لِلتَّأْنِيثِ لَمَا أُنِّثَ بِالْهَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ سَلْوَةٌ كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى وَاحِدَةٌ، وَجَمْعُهَا سَلَاوًى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَمْعُهُ وَوَاحِدُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وقال مؤرح السُّدُوسِيُّ: السَّلْوَى هُوَ الْعَسَلُ بِلُغَةِ كِنَانَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ طَائِرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ غَلِطَ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ:
أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا فَظَنَّ السَّلْوَى الْعَسَلَ. وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ يُبَيِّنَانِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ غَلَطًا: أَحَدُهُمَا: مَا نَقَلْنَاهُ عَنْ مُؤَرِّجٍ مِنْ كَوْنِهِ الْعَسَلَ بِلُغَةِ كِنَانَةَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: نَشُورُهَا لِأَجْلِ الْقَافِيَةِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَكْلِ بِالشَّوْرِ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، قَالُوا: وَاشْتِقَاقُ السَّلْوَى مِنَ السَّلْوَةِ، لِأَنَّهُ لِطِيبِهِ يُسْلِي عَنْ غَيْرِهِ. الطَّيِّبُ: فَيْعَلٌ مِنْ طَابَ يَطِيبُ، وَهُوَ اللَّذِيذُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اخْتِصَاصِ هَذَا الْوَزْنِ بِالْمُعْتَلِّ، إِلَّا مَا شَذَّ، وَفِي تَخْفِيفِ هَذَا النَّوْعِ وَبِالْمُخَفَّفِ مِنْهُ سُمِّيَتْ مَدِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْبَةَ.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: عَدَّ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ هَذَا إِنْعَامًا خَامِسًا، وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا مُنْقَطِعَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ لَا يَكُونُ نِعْمَةً، وَضُعِّفَ بِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا بِهِ يَتَخَلَّصُونَ مِنْ عِقَابِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ هُوَ التَّوْبَةُ. وَإِذَا كَانَ قَدْ عَدَّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ، فَلَأَنْ يُعَدِّدَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الدِّينِيَّةَ أَوْلَى. وَلَمَّا لَمْ يَكْمُلْ وَصْفُ هَذِهِ النِّعْمَةِ إِلَّا بِمُقَدَّمَةِ مَا تَسَبَّبَتْ عَنْهُ، قَدَّمَ ذِكْرَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْخِطَابُ هُوَ مُحَاوَرَةُ مُوسَى لِقَوْمِهِ حِينَ رَجَعَ مِنَ الْمِيقَاتِ وَوَجَدَهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْلَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِقَوْمِهِ، لِلتَّبْلِيغِ، وَإِقْبَالِ مُوسَى عَلَيْهِ بِالنِّدَاءِ، وَنِدَاؤُهُ بِلَفْظِ يَا قَوْمِ، مُشْعِرٌ بِالتَّحَنُّنِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ مِنْهُمْ، وَهُمْ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: يَا أَخِي، وَيَا صَدِيقِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِقَبُولِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِ، بِخِلَافِ أَنْ لَوْ نَادَاهُ بِاسْمِهِ، أَوْ بِالْوَصْفِ الْقَبِيحِ الصَّادِرِ مِنْهُ. وَفِي ذَلِكَ أيضا هزلهم لِقَبُولِهِمُ
332
الْأَمْرَ بِالتَّوْبَةِ، بَعْدَ تَقْرِيعِهِمْ بِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَيُّ ظُلْمٍ أَعْظَمُ مِنِ اتِّخَاذِ إِلَهٍ غَيْرِهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «١». وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَفْحَشُ الظُّلْمِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْإِنْسَانِ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، فَإِذَا ظَلَمَهَا، كَانَ ذَلِكَ أَفْحَشَ مِنْ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ. وَيَا قَوْمِ:
مُنَادًى مُضَافٌ إِلَى يَاءِ المتكلم، وقد حذفت واجتزى بِالْكَسْرَةِ عَنْهَا، وَهَذِهِ اللُّغَةُ أَكْثَرُ مَا فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ جَاءَ إِثْبَاتُهَا كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: يَا عِبَادِي فَاتَّقُونِ، بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ سَاكِنَةً، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، فَتَقُولُ: يَا غُلَامِيَ، وَفَتْحُ مَا قَبْلَهَا وَقَلْبُ الْيَاءِ أَلِفًا، فَتَقُولُ: يَا غُلَامًا. وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ حَذْفَ الْأَلِفِ وَالِاجْتِزَاءَ بِالْفَتْحَةِ عَنْهَا، فَتَقُولُ: يَا غُلَامَ، وأجازوا ضَمَّهُ وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْإِضَافَةِ فَتَقُولُ: يَا غُلَامُ، تُرِيدُ: يَا غُلَامِي. وَعَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: قُلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ «٢»، قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ «٣»، هَكَذَا أَطْلَقُوا، وَفَصَلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا أَوِ اسْمًا، إِنْ كَانَ فِعْلًا فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَى الضَّمِّ، وَمَثَّلَ الْفِعْلَ بِمِثْلِ:
يَا ضَارِبِيَّ، فَلَا يُجِيزُ فِي هَذَا يَا ضَارِبُ، وَظَاهِرُ الْخِطَابِ اخْتِصَاصُهُ بِمُتَّخِذِي الْعِجْلَ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: مَنْ عَبَدَ وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْ جُعِلُوا ظَالِمِينَ، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَمْنَعُوهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ. وَالْبَاءُ فِي بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ سَبَبِيَّةٌ، وَاحْتِمَالُ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي قَوْلِهِ:
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ «٤» جَاءَ هُنَا أَيْ بِعَمَلِكُمُ الْعِجْلَ وَعِبَادَتِهِ، أَوْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا. قَالَ السُّلَمِيُّ: عِجْلُ كُلِّ وَاحِدٍ نَفْسُهُ، فَمَنْ أَسْقَطَ مُرَادَهُ وَخَالَفَ هواه فقد برىء مِنْ ظُلْمِهِ.
فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ الْفَاءُ فِي فَتُوبُوا مَعَهَا التَّسْبِيبُ، لِأَنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ لِلتَّوْبَةِ، وَلَمَّا كَانَ السَّامِرِيُّ قَدْ عَمِلَ لَهُمْ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا، قِيلَ لَهُمْ: تُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ، أَيْ مُنْشِئِكُمْ وَمُوجِدِكُمْ مِنَ الْعَدَمِ، إِذْ مُوجِدُ الْأَعْيَانِ هُوَ الْمُوجِدُ حَقِيقَةً. وَأَمَّا عَمَلُ الْعِجْلِ وَاتِّخَاذُهُ فَلَيْسَ فِيهِ إِبْرَازُ الذَّوَاتِ مِنَ الْعَدَمِ، إِنَّمَا ذَلِكَ تَأْلِيفٌ تَرْكِيبِيٌّ لَا خَلْقَ أَعْيَانٍ، فَنُبِّهُوا بِلَفْظِ الْبَارِي عَلَى الصَّانِعِ، أَيِ الَّذِي أَوْجَدَكُمْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، لَا الَّذِي صَنَعَهُ، مَصْنُوعٌ مِثْلَهُ، فَلِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَانَ ذِكْرُ الْبَارِي هُنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِظُهُورِ حَرَكَةِ الْإِعْرَابِ فِي بَارِئِكُمْ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: الِاخْتِلَاسُ، رَوَيَ ذَلِكَ عَنْهُ سِيبَوَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ:
الْإِسْكَانُ، وَذَلِكَ إِجْرَاءٌ لِلْمُنْفَصِلِ مِنْ كَلِمَتَيْنِ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ مِنْ كَلِمَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَسْكِينُ مِثْلَ إِبِلٍ، فَأَجْرَى الْمَكْسُورَانِ فِي بَارِئِكُمْ مَجْرَى إِبِلٍ، وَمَنَعَ الْمُبَرِّدُ التسكين في حركة
(١) سورة لقمان: ٣١/ ١٣.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ١١٢.
(٣) سورة يوسف: ١٢/ ٣٣.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٩٢.
333
الْإِعْرَابِ، وَزَعَمَ أَنَّ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو لَحْنٌ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ أَبَا عَمْرٍو لَمْ يَقْرَأْ إِلَّا بِأَثَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلُغَةُ الْعَرَبِ تُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْكَارُ الْمُبَرِّدِ لِذَلِكَ مُنْكَرٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ
وَقَالَ آخَرُ:
رُحْتَ وَفِي رِجْلَيْكَ مَا فِيهِمَا وَقَدْ بَدَا هَنُكَ مِنَ الْمِئْزَرِ
وَقَالَ آخَرُ:
أَوْ نَهْرُ تَيْرَى فَمَا تَعْرِفْكُمُ الْعَرَبُ وَقَدْ خَلَطَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، فَأَنْشَدُوا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْكِينِ مِمَّا لَيْسَتْ حَرَكَتُهُ حَرَكَةَ إِعْرَابٍ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: أَمَّا حَرَكَةُ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَخْتَلِفِ النُّحَاةُ فِي جَوَازِ تَسْكِينِهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو مَا حَكَاهُ أَبُو زَيْدٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ «١». وَقِرَاءَةُ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ «٢».
وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو: أَنَّ لُغَةَ تَمِيمٍ تَسْكِينُ الْمَرْفُوعِ مِنْ يَعْلَمُهُ وَنَحْوِهِ، وَمِثْلُ تَسْكِينِ بَارِئِكُمْ، قِرَاءَةُ حَمْزَةَ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ «٣». وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: بَارِيِكُمْ، بِكَسْرِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَلِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَخْرِيجَانِ أَحَدُهُمَا: أن الأصل الهمز، وَأَنَّهُ مِنْ بَرَأَ، فَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِالْإِبْدَالِ الْمَحْضِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، إِذْ قِيَاسُ هَذَا التَّخْفِيفِ جَعْلُهَا بَيْنَ بَيْنٍ. وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ بَارِيكُمْ، بِالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَيَكُونُ مَأْخُوذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرَيْتُ الْقَلَمَ، إِذَا أَصْلَحْتَهُ، أَوْ مِنَ الْبَرِيِّ: وَهُوَ التُّرَابُ، ثُمَّ حُرِّكَ حَرْفُ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسُهُ تَقْدِيرًا لِحَرَكَةٍ فِي مِثْلِ هَذَا رَفْعًا وَجَرًّا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَوْمًا تَوَافَيْنَا الْهَوَى غَيْرَ مَاضِي وَقَالَ آخَرُ:
وَلَمْ تُخْتَضَبْ سُمُرُ الْعَوَالِي بِالدَّمِ وَقَالَ آخر:
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٨٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٨.
(٣) سورة فاطر: ٣٥/ ٤٣.
334
خَبِيثُ الثَّرَى كَأَبِي الْأَزِيدِ وَهَذَا كُلُّهُ تَعْلِيلُ شُذُوذٍ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي اخْتِصَاصِ ذِكْرِ الْبَارِئِ هُنَا كَلَامًا حَسَنًا هَذَا نَصُّهُ. فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيْنَ اخْتُصَّ هَذَا الْمَوْضِعُ بِذِكْرِ الْبَارِئِ؟ قُلْتُ: الْبَارِئُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بَرِيئًا مِنَ التَّفَاوُتِ، مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ «١»، وَمُتَمَيِّزًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ بِالْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالصُّوَرِ الْمُتَبَايِنَةِ، فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيعٌ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ تَرْكِ عِبَادَةِ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ الَّذِي بَرَأَهُمْ بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ عَلَى الْأَشْكَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، أَبْرِيَاءٌ مِنَ التَّفَاوُتِ وَالتَّنَافُرِ إِلَى عِبَادَةِ الْبَقَرِ الَّتِي هِيَ مَثَلٌ فِي الْغَبَاوَةِ وَالْبَلَادَةِ. فِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ: أَبْلَدُ مِنْ ثَوْرٍ، حَتَّى عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِسَخَطِ اللَّهِ وَنُزُولِ أَمْرِهِ بِأَنْ يَفُكَّ مَا رَكَّبَهُ مِنْ خَلْقِهِمْ وَيَنْثُرَ مَا نَظَمَ مِنْ صُوَرِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ حِينَ لَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ فِي ذَلِكَ وَغَبَطُوهَا بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ الْقَتْلُ الْمَعْرُوفُ مِنْ إِزْهَاقِ الرُّوحِ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ يُبَاشِرُونَ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ. وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ مِنْ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا بِكَوْنِهِ كَانَتِ التَّوْرَاةُ فِي شَرِيعَتِهِ مُتَقَرِّرَةً بِقَتْلِ النَّفْسِ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ أَمَرَ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مُتَجَدِّدٍ عُقُوبَةً لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَالْمَأْمُورُ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ عُبَّادُ الْعِجْلِ، أَوْ مَنْ عَبَدَ وَمَنْ لَمْ يَعْبُدْ. وَالْمَعْنَى: اقْتُلُوا الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ مَنْ أَهْلِكُمْ، كَقَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «٢»، أَيْ مِنْ أَهْلِكُمْ وَجِلْدَتِكُمْ، أَوِ الْجَمِيعُ مَأْمُورُونَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أُمِرُوا بِأَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْقَتْلِ، وَسُمِّيَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَتْلِ قَتْلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: ذَلِّلُوا أَهْوَاءَكُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّقْتِيلَ بِمَعْنَى التَّذْلِيلِ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ حَسَّانَ:
إِنَّ الَّتِي عَاطَيْتَنِي فَرَدَدْتُهَا قُتِلَتْ قُتِلْتَ فَهَاتِهَا لَمْ تَقْتُلْ
فَتَلَخَّصَ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ. الثَّانِي:
الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَتْلِ. وَالثَّالِثُ: التَّذْلِيلُ لِلْأَهْوَاءِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَأْمُورُونَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، فَقِيلَ: وَقَعَ الْقَتْلُ هَكَذَا قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ. وَقِيلَ: قتل بعضهم بعضا من غَيْرِ تَعْيِينِ قَاتِلٍ وَلَا مَقْتُولٍ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُونَ هُمُ الَّذِينَ اعْتَزَلُوا مَعَ هَارُونَ، وَالْمَقْتُولُونَ عُبَّادُ الْعِجْلِ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُونَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مع
(١) سورة الملك: ٦٧/ ٣.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١٢٨.
335
مُوسَى فِي الْمُنَاجَاةِ بِطُورِ سَيْنَاءَ، وَالْمَقْتُولُونَ مَنْ عَدَاهُمْ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ بَعْضَهُمْ قَتَلَ بَعْضًا، فَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ، فَقِيلَ: اصْطَفُّوا صَفَّيْنِ، فَاجْتَلَدُوا بِالسُّيُوفِ وَالْخَنَاجِرِ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا، فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ، وَتَوْبَةً لِلْقَاتِلِ، وَقِيلَ:
أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ظَلَامًا فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: وَقَفَ عُبَّادُ الْعِجْلِ صَفًّا، وَدَخَلَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ عَلَيْهِمْ بِالسِّلَاحِ فَقَتَلُوهُمْ. وَقِيلَ: احْتَبَى عُبَّادُ الْعِجْلِ فِي أَفَنِيَةِ دُورِهِمْ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِهِ، وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَهُمْ مُحْتَبُونَ فَقَالَ: مَلْعُونٌ مَنْ حَلَّ حَبْوَتَهُ، أَوْ مَدَّ طَرْفَهُ إِلَى قَاتِلِهِ، أَوِ اتَّقَاهُ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، فَيَقُولُونَ: آمِينَ. فَمَا حَلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَبْوَتَهُ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا.
وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ لَهُمْ: مَنْ حَلَّ حَبْوَتَهُ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ
، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّعْنَةَ. وَقِيلَ:
إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُبْصِرُ وَلَدَهُ وَوَالِدَهُ وَجَارَهُ وَقَرِيبَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْمُضِيُّ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ ضَبَابَةً وَسَحَابَةً سَوْدَاءَ لَا يَتَبَاصَرُونَ تَحْتَهَا، وَأُمِرُوا أَنْ يَحْتَبُوا بِأَفْنِيَةِ بُيُوتِهِمْ، وَيَأْخُذَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ سُيُوفَهُمْ، وَقِيلَ لَهُمْ: اصْبِرُوا، فَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ مَدَّ طَرْفَهُ، أَوْ حَلَّ حَبْوَتَهُ، أَوِ اتَّقَى بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، فَيَقُولُونَ: آمِينَ، فَقَتَّلُوهُمْ إِلَى الْمَسَاءِ، حَتَّى دَعَا مُوسَى وَهَارُونُ، قَالَا:
يَا رَبِّ! هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَقِيَّةَ الْبَقِيَّةَ، فَكُشِفَتِ السَّحَابَةُ وَنَزَلَتِ التَّوْبَةُ، فَسَقَطَتِ الشِّفَارُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَتِ الْقَتْلَى سَبْعِينَ أَلْفًا. انْتَهَى مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ بَعْضِ مَا أَوْرَدَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَتْلِ وَفِي الْقَاتِلِينَ وَالْمَقْتُولِينَ. وَفِي ذَلِكَ مِنَ الِاتِّعَاظِ وَالِاعْتِبَارِ مَا يُوجِبُ مُبَادَرَةَ الِازْدِجَارِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْمَلِكِ الْقَهَّارِ. وَانْظُرْ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ بِهَذِهِ الْمِلَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، إِذْ جَعَلَ تَوْبَتَهَا فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْمُعَاوَدَةِ إِلَيْهِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّوْبَةَ هِيَ نَفْسُ الْقَتْلِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَوْبَتُهَمْ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ، فَتُوبُوا، وَالْفَاءُ كَهِيَ فِي فَتُوبُوا مَعَهَا السَّبَبِيَّةُ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنِ الْقَتْلَ هُوَ تَمَامُ تَوْبَتِهِمْ، فَتَكُونُ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالْمَعْنَى فَأَتْبِعُوا التَّوْبَةَ الْقَتْلَ، تَتِمَّةً لِتَوْبَتِكُمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ فِي الْمُنْتَخَبِ كَوْنَ الْقَتْلِ يَكُونُ تَوْبَةً وَجَعَلَ الْقَتْلَ شَرْطًا فِي التَّوْبَةِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ مَجَازًا، كَمَا يُقَالُ لِلْغَاصِبِ إِذَا قَصَدَ التَّوْبَةَ: تَوْبَتُكَ رَدُّ مَا غَصَبْتَ، يَعْنِي أَنَّهُ لا تنم تَوْبَتُكَ إِلَّا بِهِ، فَكَذَلِكَ هنا. وتعدية التوبة بإلى مَعْنَاهُ الِانْتِهَاءُ بِهَا إِلَى اللَّهِ، فَتَكُونُ بَرِيئَةً مِنَ الرِّيَاءِ فِي التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُمْ إِنْ رَاءَوْا بِهَا لَمْ تَكُنْ إِلَى اللَّهِ. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الْمُنْتَخَبِ مِنْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، إِذْ قَدْ نَقَلْنَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ. وَأَمَّا مَنْعُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، بِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ نَقْضُ الْبِنْيَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، يَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ إِنَّمَا
336
يُسَمَّى قَتِيلًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، قَالَ: وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ لِكَوْنِهَا مَصَالِحُ لِذَلِكَ الْمُكَلَّفِ، وَلَا يَكُونُ مَصْلَحَةً إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْقَتْلِ حَالُ تَكْلِيفٍ حَتَّى يَكُونَ الْقَتْلُ مَصْلَحَةً فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ مِنَ الْإِمَاتَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَحْسُنُ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا كَانَ صَلَاحًا لِمُكَلَّفٍ آخَرَ، وَبِخِلَافِ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِأَنْ يَجْرَحَ نَفْسَهُ أَوْ يَقْطَعَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَلَا يَحْصُلَ الْمَوْتُ عَقِيبَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَيًّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ صَلَاحًا فِي الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي الِاعْتِزَالِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ.
وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هُنَا بِالْمَصْلَحَةِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ وَالرَّوَادِعِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ اعْتِبَارُ حَالِ الْمُكَلَّفِ، بَلْ يَصْنَعُ الزَّوَاجِرَ لِازْدِجَارِ غَيْرِهِ. وَإِذَا فَعَلَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ بِمَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ، اتَّعَظَ بِهِ غَيْرُهُ وَانْكَفَّ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَكُونُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالْقَتْلِ.
وَقَرَأَ قَتَادَةُ فِيمَا نَقَلَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالتَّبْرِيزِيُّ وَغَيْرُهُمْ: فَأَقِيلُوا أَنْفُسَكُمْ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَرَأَ قَتَادَةُ: فاقتلوا أَنْفُسَكُمْ. فَأَمَّا فَأَقِيلُوا، فَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْإِقَالَةِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ أَنْفُسَكُمْ قَدْ تَوَرَّطَتْ فِي عَذَابِ اللَّهِ بِهَذَا الْفِعْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَعَاطَيْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَقَدْ هَلَكَتْ فَأَقِيلُوهَا بِالتَّوْبَةِ وَالْتِزَامِ الطَّاعَةِ، وَأَزِيلُوا آثَارَ تِلْكَ الْمَعَاصِي بِإِظْهَارِ الطَّاعَاتِ.
وَأَمَّا فَاقْتَالُوا أَنْفُسَكُمْ، فَقَالُوا: هُوَ افْتَعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، أَيْ فَاسْتَقِيلُوهَا، وَالْمَشْهُورُ اسْتَقَالَ لَا اقْتَالَ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: يَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ عَيْنُهَا وَاوًا كَاقْتَادُوا، وَيُحْتَمَلُ أْنَ تَكُونَ يَاءً كَأَقْيَاسٍ، وَالتَّصْرِيفُ يَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاسْتِقَالَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ جِنِّي، فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا شَكَّ مَسْمُوعَةٌ بِدَلِيلِ نَقْلِ قَتَادَةَ لَهَا وَيَكُونُ مِمَّا جَاءَتْ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ، وَذَلِكَ نَحْوَ: اعْتَصَمَ وَاسْتَعْصَمَ. قَالَ السُّلَمِيُّ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ. ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِأَسْرَارِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالتَّبَرِّي مِنْهَا، فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِبِسَاطِ الْأُنْسِ. وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: كَانَتْ تَوْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَشَدُّ، وَهُوَ إِفْنَاءُ نُفُوسِهِمْ عَنْ مُرَادِهَا مَعَ بَقَاءِ رُسُومِ الْهَيَاكِلِ. وَقَالَ فَارِسٌ: التَّوْبَةُ مَحْوُ الْبَشَرِيَّةِ بِمُبَايَنَاتِ الْإِلَهِيَّةِ. وَقِيلَ: تُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ وَطَاعَاتِكُمْ، وَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فِي طَاعَاتِهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ عَمَّا دُونَ اللَّهِ وَعَنِ اللَّهِ بِالْفَرَاغِ مِنْ طَلَبِ الْجَزَاءِ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى أَصْلِ الْعَدَمِ، وَيَبْقَى الْحَقُّ كَمَا لَمْ يَزَلْ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللَّطَائِفِ: التَّوْبَةُ بِقَتْلِ النَّفْسِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ لَهُمْ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ جَهْرًا، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ فِي
337
أَنْفُسِهِمْ، وَأَوَّلُ قَدَمٍ فِي الْقَصْدِ إِلَى اللَّهِ الْخُرُوجُ عَنِ النَّفْسِ تَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّ تَوْبَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ أَشَقَّ، وَلَا كَمَا تَوَهَّمُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُقَاسَاةَ الْقَتْلِ مَرَّةً، وَأَمَّا أَهْلُ الْخُصُوصِ فَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ قَتْلٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بميت إنما الميت ميت الْأَحْيَاءِ
ذلِكُمْ: إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، أَيِ الْقَتْلُ: خَيْرٌ لَكُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَصْدَرَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَتُوبُوا وَاقْتُلُوا، فَأَوْقَعَ الْمُفْرَدَ مَوْقِعَ التَّثْنِيَةِ، أَيْ فَالتَّوْبَةُ وَالْقَتْلُ خَيْرٌ لَكُمْ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «١» أَيْ بَيْنَ ذَيْنِكَ أَيِ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقُبُلُ
أَيْ: وَكِلَا ذَيْنِكَ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَاقْتُلُوا، هَلْ هُوَ تَفْسِيرٌ لِلتَّوْبَةِ؟ فَتَكُونُ التَّوْبَةُ هِيَ الْقَتْلَ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمْ مُفْرَدًا أُشِيرَ بِهِ إِلَى مُفْرَدٍ، وَهُوَ الْقَتْلُ، أَوْ يَكُونُ الْقَتْلُ مُغَايِرًا لِلتَّوْبَةِ، فَيَحْتَمِلُ هَذَا الَّذِي قاله هذا الْقَائِلُ، وَلَكِنَّ الْأَرْجَحَ خَيْرٌ، إِنْ كَانَتْ لِلتَّفْضِيلِ فَقِيلَ: الْمَعْنَى خَيْرٌ مِنَ الْعِصْيَانِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ. وَقِيلَ: خَيْرٌ مِنْ ثَمَرَةِ الْعِصْيَانِ، وَهُوَ الْهَلَاكُ الَّذِي لَهُمْ، إِذِ الْهَلَاكُ الْمُتَنَاهِي خَيْرٌ مِنَ الْهَلَاكِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِي، إِذِ الْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ. وَكِلَا هَذَيْنِ التَّوْجِيهَيْنِ لَيْسَ التَّفْضِيلُ عَلَى بَابِهِ، إِذِ الْعِصْيَانُ وَالْهَلَاكُ غَيْرُ الْمُتَنَاهِي لَا خَيْرَ فِيهِ، فَيُوصَفُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ أَزْيَدُ فِي الْخَيْرِيَّةِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَكُونُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ بَلْ أُرِيدَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ. لَكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِخَيْرٍ إِنْ كَانَ لِلتَّفْضِيلِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنَّهَا خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ خير كَائِنٌ لَكُمْ. وَالتَّخْرِيجَانِ يَجْرِيَانِ فِي نَصْبِ قَوْلِهِ: عِنْدَ بارِئِكُمْ. وَالْعِنْدِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ، إِذْ هِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ وَتُجُوِّزَ بِهِ عَنْ مَعْنَى حُصُولِ ثَوَابِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرَّرَ الْبَارِئَ بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ تَوْكِيدًا، وَلِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَنَاسَبَ الْإِظْهَارُ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ هُوَ رَاجِحٌ عِنْدَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ، فَكَمَا رَأَى أَنَّ إِنْشَاءَكُمْ رَاجِحٌ، رَأَى أَنَّ إِعْدَامَكُمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنَ الْقَتْلِ رَاجِحٌ، فَيَنْبَغِي التَّسْلِيمُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَتَلَقِّي مَا يَرِدُ مِنْ قبله بالقبول والامتثال.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٦٨.
338
فَتابَ عَلَيْكُمْ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ عُطِفَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، أَيْ فَامْتَثَلْتُمْ ذَلِكَ فَتَابَ عَلَيْكُمْ. وَتَكُونُ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ مُنْدَرِجَتَيْنِ تَحْتَ الْإِضَافَةِ إِلَى الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ: إِذْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ.
وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ قَوْلِ مُوسَى عَلَى تَقْدِيرِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قَالَ:
فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ تَابَ عَلَيْكُمْ، فَتَكُونُ الْفَاءُ إِذْ ذَاكَ رَابِطَةً لِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفَةِ، هِيَ وَحَرْفُ الشَّرْطِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَوَابَ يَجُوزُ حَذْفُهُ كَثِيرًا لِلدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِعْلُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ دُونَ الْأَدَاةِ فَيَجُوزُ حَذْفُهُ إِذَا كان منفيا بلا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَطَلِّقْهَا فَلَسْتَ لَهَا بِكُفْؤٍ وَإِنْ لَا يَعْلُ مِفْرَقَكَ الْحُسَامُ
التَّقْدِيرُ: وَإِنْ لَا تُطَلِّقْهَا يَعْلُ، فَإِنْ كان غير منفي بلا، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
سَقَتْهُ الرَّوَاعِدُ مِنْ صَيْفٍ وَإِنْ مِنْ خَرِيفٍ فَلَنْ يُعْدَمَا
التَّقْدِيرُ: وَإِنْ سَقَتْهُ مِنْ خَرِيفٍ فَلَنْ يُعْدَمَ الرِّيَّ، وَذَلِكَ عَلَى أَحَدِ التَّخْرِيجَيْنِ فِي الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ حَذْفُ فِعْلِ الشَّرْطِ وَفِعْلِ الْجَوَابِ دُونَ أَنْ يَجُوزَ فِي الضَّرُورَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ كَانَ عَيِيًّا مُعْدِمًا قَالَتْ وَإِنْ
التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كَانَ عَيِيًّا مُعْدِمًا أَتَزَوَّجُهُ. وَأَمَّا حَذْفُ فِعْلِ الشَّرْطِ وَأَدَاةِ الشَّرْطِ مَعًا، وَإِبْقَاءُ الْجَوَابِ، فَلَا يَجُوزُ إذا لَمْ يَثْبُتُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا جَزْمُ الْفِعْلِ بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَخَوَاتِهِمَا فَلَهُ. وَلِتَعْلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ مَكَانٌ آخَرُ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ كَمَا قُلْنَا: إِخْبَارٌ عَنِ الْمَأْمُورِينَ بِالْقَتْلِ الْمُمْتَثِلِينَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ عَلَى الْبَاقِينَ، وَجَعَلَ اللَّهُ الْقَتْلَ لِمَنْ قُتِلَ شَهَادَةً، وَتَابَ عَلَى الْبَاقِينَ وَعَفَا عَنْهُمْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ آدَمَ: فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «١»، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى: هَذِهِ مُحَاوَرَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى، وَذَلِكَ بَعْدَ مُحَاوَرَتِهِ لَهُمْ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذَا. وَالضَّمِيرُ فِي قُلْتُمْ قِيلَ لِلسَّبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ، وَذُكِرَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٧. [.....]
339
فِي اخْتِيَارِ السَّبْعِينَ كَيْفِيَّةٌ سَتَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي مَكَانِهَا فِي الْأَعْرَافِ. وَقِيلَ:
الضَّمِيرُ لِسَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ: الَّذِينَ انْفَرَدُوا مَعَ هَارُونَ وَلَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ: تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَصَابَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ هُمُ السَّبْعُونَ رَجُلًا الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى وَمَضَى بِهِمْ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ وَمُنَاجَاتِهِ، وَمَا ذُكِرَ لَا يُمْكِنُ مَعَ ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْتُمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، وَهُوَ هُنَا بَعِيدٌ. وَفِي نِدَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِنَبِيِّهِمْ بِاسْمِهِ سُوءُ أَدَبٍ مِنْهُمْ مَعَهُ، إِذْ لَمْ يَقُولُوا:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْ يَا كَلِيمَ اللَّهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُشْعِرُ بِصِفَاتِ التَّعْظِيمِ، وَهِيَ كَانَتْ عادتهم معه: يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ على طعام واحد، يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلها، يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا..
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ: قِيلَ مَعْنَاهُ: لَنْ نُصَدِّقَكَ فِيمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يُرِيدُوا نَفْيَ الْإِيمَانِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ لَكَ، وَلَمْ يَقُولُوا بِكَ نَحْوَ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «١»، أَيْ بِمُصَدِّقٍ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَنْ نُقِرَّ لَكَ، فَعَبَّرَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ وَعَدَّاهُ بِاللَّامِ، وَقَدْ جَاءَ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قَالَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي «٢»، قَالُوا: أَقْرَرْنَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى:
لَنْ نُقِرَّ لَكَ بِأَنَّ التَّوْرَاةَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لَنْ نُؤْمِنَ لِأَجْلِ قَوْلِكَ بِالتَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ الْكَمَالِ، أَيْ لَا يَكْمُلُ إِيمَانُنَا لَكَ، كَمَا قِيلَ فِي
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً حَتَّى: هُنَا حَرْفُ غَايَةٍ، أَخْبَرُوا بِنَفْيِ إِيمَانِهِمْ مُسْتَصْحَبًا إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وَمَفْهُومُهَا أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوُا اللَّهَ جَهْرَةً آمَنُوا، وَالرُّؤْيَةُ هُنَا: هِيَ الْبَصَرِيَّةُ، وَهِيَ الَّتِي لَا حِجَابَ دُونَهَا وَلَا سَاتِرَ، وَانْتِصَابُ جَهْرَةً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ مُزِيلٌ لِاحْتِمَالِ الرُّؤْيَةِ أَنْ تَكُونَ مَنَامًا أَوْ عِلْمًا بِالْقَلْبِ. وَالْمَعْنَى حَتَّى نَرَى اللَّهَ عِيَانًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ وَبِالدُّعَاءِ، أَيْ أَعْلَنَ بِهَا فَأُرِيدَ بِهَا نَوْعٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، فَانْتِصَابُهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ، وَفِي: نَصْبِ هَذَا النَّوْعِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَالْأَصَحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِالْفِعْلِ السَّابِقِ يُعَدَّى إِلَى النَّوْعِ، كَمَا تَعَدَّى إِلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ الْمُلَاقَى مَعَ الْفِعْلِ فِي الِاشْتِقَاقِ، وَقِيلَ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحَذْفِ، أَيْ ذوي
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١٧.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٨١.
340
جَهْرَةٍ، أَوْ عَلَى مَعْنَى جَاهِرِينَ بِالرُّؤْيَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ نَحْوَ: رَجُلٌ صَوْمٌ، لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ لَا تُرَادُ هُنَا. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْجَهْرَةُ مِنْ صِفَاتِ الرُّؤْيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الرَّائِينَ، وَثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا لِمَعْنَى الْقَوْلِ، أَوِ الْقَائِلِينَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَإِذْ قُلْتُمْ كَذَا قَوْلًا جَهْرَةً أَوْ جَاهِرِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، لَمْ يُسِرُّوهُ وَلَمْ يَتَكَاتَمُوا بِهِ، بَلْ صَرَّحُوا بِهِ وَجَهَرُوا بِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ مغيابا لرؤية. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَهْرَةَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُهُ بِالرُّؤْيَةِ لَا بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: جَهَرَةً، بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَهَرَةً مَصْدَرًا كَالْغَلَبَةِ، فَتَكُونُ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى جَهْرَةً الْمُسَكَّنَةِ الْهَاءِ سَوَاءً، وَيَجْرِي فِيهَا مِنَ الْإِعْرَابِ الْوُجُوهُ الَّتِي سَبَقَتْ فِي جَهْرَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لَجَاهِرٍ، كَمَا تَقُولُ: فَاسِقٌ وَفَسَقَةٌ، فَيَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ جَاهِرِينَ بِالرُّؤْيَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَادَّهُمْ، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ رُؤْيَةَ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ مُحَالٌ، وَأَنَّ مَنِ اسْتَجَازَ عَلَى اللَّهِ الرُّؤْيَةَ، فَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْسَامِ أَوِ الْإِعْرَاضِ، فَرَادُّوهُ بَعْدَ بَيَانِ الْحُجَّةِ وَوُضُوحِ الْبُرْهَانِ، وَلَجُّوا فَكَانُوا فِي الْكُفْرِ كَعَبَدَةِ الْعِجْلِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الصَّاعِقَةَ، كَمَا سَلَّطَ عَلَى أُولَئِكَ الْقَتْلَ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْكُفْرَيْنِ، وَدَلَالَةً عَلَى عِظَمِهَا بِعِظَمِ الْمِحْنَةِ. اهـ. كَلَامُهُ. وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِاسْتِحَالَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
ذَهَبَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالنَّجَّارِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ شَارَكَهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى إِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ. فَقَالَ الْكَرَّامِيَّةُ: يُرَى فِي جِهَةِ فَوْقَ وَلَهُ تَحْتٌ، وَيُرَى جِسْمًا، وَقَالَتِ الْمُشَبِّهَةُ: يُرَى عَلَى صُورَةٍ، وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَا مُقَابِلًا، وَلَا مُحَاذِيًا، وَلَا مُتَمَكِّنًا، وَلَا مُتَحَيِّزًا، وَلَا مُتَلَوِّنًا، وَلَا عَلَى صُورَةٍ وَلَا هَيْئَةٍ، وَلَا عَلَى اجْتِمَاعٍ وَجِسْمِيَّةٍ، بَلْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ، يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا عَلِمُوهُ كَذَلِكَ قَبْلُ. وَقَدِ اسْتَفَاضَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَدْ رَأَيْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ مِنْ فُضَلَاءِ الْإِمَامِيَّةِ فِيهَا مُجَلَّدَةً كَبِيرَةً، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ اسْتِحَالَةِ الرُّؤْيَةِ، لَكِنَّ عَادَتَهُ تَحْمِيلُ الْأَلْفَاظِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، خُصُوصًا مَا يَجُرُّ إِلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ، نُعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي. وَكَذَلِكَ
341
اخْتَلَفُوا فِي رُؤْيَةِ الْحَقِّ نَفْسَهُ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرَى نَفْسَهُ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ، وَذَهَبَ الْكَعْبِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرَى نَفْسَهُ وَلَا غَيْرَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ النَّجَّارِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ.
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ: أَيِ اسْتَوْلَتْ عَلَيْكُمْ وَأَحَاطَتْ بِكُمْ. وَأَصْلُ الْأَخْذِ: الْقَبْضُ بِالْيَدِ. وَالصَّاعِقَةُ هُنَا: هَلْ هِيَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ أَحْرَقَتْهُمْ، أَوِ الْمَوْتُ، أَوْ جُنْدٌ سَمَاوِيٌّ سَمِعُوا حِسَّهُمْ فَمَاتُوا، أَوِ الْفَزَعُ فَدَامَ حَتَّى مَاتُوا، أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِمْ، أَوِ الْعَذَابُ الَّذِي يَمُوتُونَ مِنْهُ، أَوْ صَيْحَةٌ سَمَاوِيَّةٌ؟ أَقْوَالٌ، أَصَحُّهَا: أَنَّهَا سَبَبُ الْمَوْتِ، لَا الْمَوْتُ، وَإِنْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ، قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ «١». وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُدَّةَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الصَّعْقِ كَانَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقِيلَ: أَصَابَ مُوسَى مَا أَصَابَهُمْ، وَقِيلَ صُعِقَ وَلَمْ يَمُتْ، قَالُوا: وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ جَاءَ، فَلَمَّا أَفَاقَ فِي حَقِّ مُوسَى وَجَاءَ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ في حقهم، وأكثر استعماله الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ بَعْثُ الْأَمْوَاتِ. وَقِيلَ: غُشِيَ عَلَيْهِمْ كَهُوَ وَلَمْ يَمُوتُوا، وَالصَّعْقُ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْمَوْتِ، وَقَالَ جَرِيرٌ:
وَهَلْ كَانَ الْفَرَزْدَقُ غَيْرَ قِرْدٍ أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ فَاسْتَدَارَا
وَالظَّاهِرُ أَنَّ سبب أخذ الصاعقة إياهم قَوْلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، إِذْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَيَسْأَلُوا الرُّؤْيَةَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَقِيلَ: سَبَبُ أخذ الصعقة إِيَّاهُمْ هُوَ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُوسَى، أَوْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ لَمَّا جَاءَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ أَوْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ.
وَقَرَأَ عَمْرٌو عَلَى الصَّعْقَةِ، وَاسْتَعْظَمَ سُؤَالَ الرُّؤْيَةِ حَيْثُ وَقَعَ، لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، فَطَلَبُهَا فِي الدُّنْيَا هُوَ مُسْتَنْكَرٌ، أَوْ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ أَنْ يُزِيلَ التَّكْلِيفَ عَنِ الْعَبْدِ حَالَ مَا يَرَاهُ، فَكَانَ طَلَبُهَا طَلَبًا لِإِزَالَةِ التَّكْلِيفِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي كَانَ طَلَبُ الدَّلَائِلِ الزَّائِدَةِ تَعَنُّتًا وَلِأَنَّ فِي مَنْعِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا ضَرْبًا مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمُهِمَّةِ لِلْخَلْقِ، فَلِذَلِكَ اسْتُنْكِرَ.
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَمُتَعَلِّقُ النَّظَرِ: أَخْذُ الصَّعْقَةِ إِيَّاكُمْ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى مَا حَلَّ بِكُمْ مِنْهَا أَوْ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَخِرُّ مَيِّتًا، أَوْ إِلَى الْأَحْيَاءِ، أَوْ تَعْلَمُونَ أَنَّهَا تَأْخُذُكُمْ. فَعَبَّرَ بِالنَّظَرِ عَنِ الْعِلْمِ، أَوْ إِلَى آثَارِ الصَّاعِقَةِ فِي أَجْسَامِكُمْ بَعْدَ أَنْ بُعِثْتُمْ، أَوْ يَنْظُرَ كُلٌّ مِنْكُمْ إِلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الْعُزَيْرِ، قَالُوا: حَيِيَ عُضْوًا بعد
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٥.
342
عُضْوٍ، أَوْ إِلَى أَوَائِلِ مَا كَانَ يَنْزِلُ مِنَ الصَّاعِقَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ، أَوْ أَنْتُمْ يُقَابِلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ دُورُ آلِ فُلَانٍ تَتَرَاءَى، أَيْ يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِجَابَةُ السُّؤَالِ فِي حُصُولِ الرُّؤْيَةِ لَهُمْ، لَكَانَ وَجْهًا مِنْ قَوْلِهِمْ: نَظَرْتُ الرَّجُلَ، أَيِ انْتَظَرْتُهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فإنكما إن تنظراني ساعة مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ
لَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَيْسَ بِمَنْقُولٍ، فَلَا أَجْسُرُ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ. وَقَدْ عَدَّ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ هَذَا إِنْعَامًا سَادِسًا، وَذَكَرَ فِي كَوْنِهِ إِنْعَامًا وُجُوهًا: مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِ ذَلِكَ إِنْعَامًا، وَهُوَ أَنَّ إِحْيَاءَهُمْ لِأَنْ يَتُوبُوا عَنِ التَّعَنُّتِ، وَلِأَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَيَفُوزُوا بِجَزِيلِ الثَّوَابِ مَنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَلَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا بَعْدَ أَنْ كُلِّفَ عَبَدَةُ الْعِجْلِ بِالْقَتْلِ وَلَا قَبْلَهُ. وَقَدْ قِيلَ بِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ، وَالْوَاوُ لَا تَدُلُّ بِوَضْعِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا أَحَلَّهُمُ اللَّهُ مَحَلَّ مُنَاجَاتِهِ، وَأَسْمَعَهُمْ لَذِيذَ خِطَابِهِ، اشْرَأَبَّتْ نُفُوسُهُمْ لِلْفَخْرِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ، فَعَامَلَهُمُ اللَّهُ بِنَقِيضِ مَا حَصَلَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالصَّعْقَةِ الَّتِي هِيَ خُضُوعٌ وَتَذَلُّلٌ تَأْدِيبًا لَهُمْ وَعِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ. «١»
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ، وَدَلَّ الْعَطْفُ بِثُمَّ عَلَى أَنَّ بَيْنَ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ وَالْبَعْثِ زَمَانًا تُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُهْلَةُ وَالتَّأْخِيرُ، هُوَ زَمَانُ مَا نَشَأَ عَنِ الصَّاعِقَةِ مِنَ الْمَوْتِ، أَوِ الْغَشْيِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي مَرَّ. وَالْبَعْثُ هُنَا: الْإِحْيَاءُ، ذُكِرَ أَنَّهُمْ لَمَّا مَاتُوا لَمْ يَزَلْ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ فِي إَحْيَائِهِمْ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُولُونَ قَتَلْتَ خِيَارَنَا حَتَّى أَحْيَاهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا رَجُلًا بَعْدَ رَجُلٍ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ كَيْفَ يَحْيَوْنَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْبَعْثِ الْإِرْسَالُ، أَيْ أَرْسَلْنَاكُمْ.
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَحْيَاهُمُ اللَّهُ سَأَلُوا أَنْ يَبْعَثَهُمْ أَنْبِيَاءَ فَبَعَثَهُمْ أَنْبِيَاءَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الْبَعْثِ: الْإِفَاقَةُ مِنَ الْغَشْيَةِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنهم صُعِقُوا وَلَمْ يَمُوتُوا. وَقِيلَ: الْبَعْثُ هُنَا: الْقِيَامُ بِسُرْعَةٍ مِنْ مَصَارِعِهِمْ، وَمِنْهُ قَالُوا:
يَا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «٢» ؟ وَقِيلَ مَعْنَى الْبَعْثِ هُنَا، التَّعْلِيمُ، أَيْ ثُمَّ عَلَّمْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ جَهْلِكُمْ، وَالْمَوْتُ هُنَا ظَاهِرُهُ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْجَسَدَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَكَانَ إِحْيَاؤُهُمْ لِأَجْلِ اسْتِيفَاءِ أَعْمَارِهِمْ. وَمَنْ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ غَشْيًا وَهُمُودًا كَانَ الْمَوْتُ مَجَازًا، قَالَ تَعَالَى:
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٣.
(٢) سورة يس: ٣٦/ ٥٢.
343
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ»
، وَالَّذِي أَتَاهُ مُقَدِّمَاتُهُ سُمِّيَتْ مَوْتًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
جَعَلَ نَفْسَهُ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حُمِلَ الْمَوْتُ عَلَى الْجَهْلِ كَانَ مَجَازًا، وَقَدْ كَنَى عَنِ الْعِلْمِ بِالْحَيَاةِ، وَعَنِ الْجَهْلِ بِالْمَوْتِ. قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «٢»، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحْمَةُ اللَّهِ:
إنما النفس كالزجاجة والعلم سِرَاجٌ وَحِكْمَةُ اللَّهِ زَيْتُ
فَإِذَا أَبْصَرْتَ فَإِنَّكَ حَيٌّ وَإِذَا أَظْلَمْتَ فَإِنَّكَ مَيْتُ
وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ:
أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ
وَذُو الْجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ مَاشٍ عَلَى الثَّرَى يُظَنُّ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَهُوَ عَدِيمُ
وَلَا يَدْخُلُ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خِطَابِ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ، لِأَنَّهُ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ لِلَّذِينِ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، وَلِقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَفاقَ «٣»، وَلَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا فِي الْمَوْتِ. وَأَخْطَأَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ مُوسَى قَدْ مَاتَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: وَفِي مُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ أَقْوَالٌ يَنْبَنِي أَكْثَرُهَا عَلَى الْمُرَادِ بِالْبَعْثِ وَالْمَوْتِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ قَالَ: الْمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعْمَتَهُ بِالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَسَائِرِ نِعَمِهِ الَّتِي أَسْدَاهَا إِلَيْهِمْ، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مَجَازًا عَنْ إِرْسَالِهِمْ أَنْبِيَاءَ، أَوْ إِثَارَتِهِمْ مِنَ الْغَشْيِ، أَوْ تَعْلِيمِهِمْ بَعْدَ الْجَهْلِ، جَعَلَ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ أَحَدَ هَذِهِ الْمَجَازَاتِ. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ إِنْزَالَ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ تَوْبَتِهِ عَلَيْهِمْ وَتَفْصِيلِ شَرَائِعِهِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَرَائِعُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نِعْمَةَ الله بعد ما كَفَرْتُمُوهَا إِذَا رَأَيْتُمْ بَأْسَ اللَّهِ فِي رَمْيِكُمْ بِالصَّاعِقَةِ وَإِذَاقَتِكُمُ الْمَوْتَ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي دَارِ الدُّنْيَا لِيُكَلِّفَهُمْ وَلِيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْإِيمَانِ وَمِنْ تَلَافِي مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَرَائِمِ. أَمَّا أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ، فَلِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَلَفْظُ الشُّكْرِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ لِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «٤»، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ تَكْلِيفِ مَنْ أعيد بعد موته،
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ١٧.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٢٢.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٤٣.
(٤) سورة سبأ: ٣٤/ ١٣.
344
وَمُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ الَّتِي تَضْطَرُّهُ وَتُلْجِئُهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بَعْدَ الِاقْتِرَافِ. فَقَالَ قَوْمٌ: سَقَطَ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ لِيَكُونَ تَكْلِيفُهُمْ مُعْتَبَرًا بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَبْقَى تَكْلِيفُهُمْ لِئَلَّا يَخْلُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ مِنْ تَعَبُّدٍ، وَلَا يُمْنَعُ حُكْمُ التَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ «١»، وَذَلِكَ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا التَّوْرَاةَ، فَلَمَّا نَتَقَ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ آمَنُوا وَقَبِلُوهَا، فَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِهَا إِيمَانَ اضْطِرَارٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمُ التَّكْلِيفُ، وَمِثْلُهُمْ قَوْمُ يُونُسَ فِي إِيمَانِهِمْ. اه كَلَامُهُ.
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ: مَفْعُولٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِالْغَمَامِ، كَمَا تَقُولُ:
ظَلَّلْتُ عَلَى فلان بالرداء، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ لَا عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى جَعَلْنَاهُ عَلَيْكُمْ ظُلَلًا. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ فَعَّلَ فِيهِ، بِجَعْلِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ كَقَوْلِهِمْ:
عَدَلْتُ زَيْدًا، أَيْ جَعَلْتُهُ عَدْلًا، فَكَذَلِكَ هَذَا مَعْنَاهُ: جَعَلْنَا الْغَمَامَ عَلَيْكُمْ ظُلَّةً، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ فَعَّلَ فِيهِ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، فَيَكُونُ التَّضْعِيفُ أَصْلُهُ لِلتَّعْدِيَةِ، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ يُعَدَّى بِعَلَى، فَكَانَ الْأَصْلُ: وَظَلَّلْنَاكُمْ، أَيْ أَظْلَلْنَاكُمْ بِالْغَمَامِ، نَحْوَ مَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ»
، ثُمَّ ضُمِّنَ ظَلَّلَ مَعْنَى كَلَّلَ أَوْ شِبْهَهُ مِمَّا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى، فَعَدَّاهُ بِعَلَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعَانِي فَعَّلَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، إِذْ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أن الغمام ظلل علينا، فَيَكُونُ قَدْ جُعِلَ عَلَى الْغَمَامِ شَيْءٌ يَكُونُ ظُلَّةً لِلْغَمَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغَمَامِ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ الْغَمَامُ الَّذِي أَتَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي تَأْتِي فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ «٢»، وَلَيْسَ بِغَمَامٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ غَمَامًا لِكَوْنِهِ يُشْبِهُ الْغَمَامَ. وَقِيلَ: الَّذِينَ ظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يُحْدِثُ فِيهَا ذَنْبًا أَظَلَّتْهُ غَمَامَةٌ.
وَحُكِيَ أَنَّ شَخْصًا عَبَدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَلَمْ تُظِلُّهُ غَمَامَةٌ، فَجَاءَ إِلَى أَصْحَابِ الْغَمَائِمِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ فَقَالُوا: لَعَلَّكَ أَحْدَثْتَ ذَنْبًا، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنِّي رَفَعْتُ طَرْفِي إِلَى السَّمَاءِ وَأَعَدْتُهُ بِغَيْرِ فِكْرٍ، فَقَالُوا لَهُ: ذَلِكَ ذَنْبُكَ، وَكَانَتْ فِيهِمْ جَمَاعَةٌ يُسَمَّوْنَ أَصْحَابَ الْغَمَائِمِ، فَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ فِيهِمْ مَنْ لَهُ هَذِهِ الْكَرَامَةُ الظَّاهِرَةُ الْبَاهِرَةُ. وَالْمَكَانُ الَّذِي أَظَلَّتْهُمْ فِيهِ الْغَمَامَةُ كَانَ فِي التِّيهِ بَيْنَ الشَّامِ وَمِصْرَ لَمَّا شَكَوْا حَرَّ الشَّمْسِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٧١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢١٠.
345
قِصَّتِهِمْ. وَقِيلَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ عَفْرَاءُ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ وَلَا ظِلٌّ، وَقَعُوا فِيهَا حِينَ خَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَأَظَلَّهُمُ اللَّهُ بِالْغَمَامِ، وَوَقَاهُمْ حَرَّ الشَّمْسِ.
وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى الْمَنُّ: اسْمُ جِنْسٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَفِي الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْوَالٌ: مَا يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ، أَوْ صَمْغَةٌ طَيِّبَةٌ حُلْوَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَوْ شَرَابٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ يَشْرَبُونَهُ بَعْدَ مَزْجِهِ بِالْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةَ أَوْ عَسَلٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ أَوِ الرُّقَاقُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الذُّرَةِ أَوْ مِنَ النِّقْيِ، وَهُوَ قَوْلُ وَهْبٍ أَوِ الزَّنْجَبِيلُ، وَهُوَ قو السُّدِّيُّ، أَوِ التَّرَنْجَبِينُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ عَسَلٌ حَامِضٌ، قَالَهُ عَمْرُو بْنُ عِيسَى أَوْ جَمِيعُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ وَجَاءَهُمْ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَدَلِيلُهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ».
وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى مُوسَى.
وَفِي السَّلْوَى الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْوَالٌ: طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى، أَوْ هُوَ السُّمَانَى نَفْسُهُ، أَوْ طُيُورٌ حُمْرٌ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا سَحَابَةً فَمُطِرَتْ فِي عَرْضِ مِيلٍ وَطُولِ رُمْحٍ فِي السَّمَاءِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ أَوْ طَيْرٌ يَكُونُ بِالْهِنْدِ أَكْبَرُ مِنَ الْعُصْفُورِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ أَوْ طَيْرٌ سَمِينٌ مِثْلُ الْحَمَامِ أَوِ الْعَسَلُ بِلُغَةِ كِنَانَةَ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِمُ السَّلْوَى مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ، فَيَخْتَارُونَ مِنْهَا السَّمِينَ وَيَتْرُكُونَ الْهَزِيلَ وَقِيلَ: كَانَتْ رِيحُ الْجَنُوبِ تَسُوقُهَا إِلَيْهِمْ فَيَخْتَارُونَ مِنْهَا حَاجَتَهُمْ وَيَذْهَبُ الْبَاقِي. وَقِيلَ: كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى الشَّجَرِ فَيَنْطَبِخُ نِصْفُهَا وَيَنْشَوِي نِصْفُهَا. وَكَانَ الْمَنُّ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالسَّلْوَى بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَقِيلَ: دَائِمًا، وَقِيلَ: كُلَّمَا أَحَبُّوا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ حِكَايَاتٍ فِي التَّظْلِيلِ وَنُزُولِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَتَظَافَرَتْ أَقَاوِيلُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي فَحْصِ التِّيهِ، وَسَتَأْتِي قِصَّتُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ لَنَا من حر الشَّمْسِ؟ فَظُلِّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ، وَقَالُوا: مَنْ لَنَا بِالطَّعَامِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَقَالُوا: مَنْ لَنَا بِالْمَاءِ؟ فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِضَرْبِ الْحَجَرِ، وَهَذِهِ دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ. وَزِيدَ فِي تِلْكَ الْحِكَايَاتِ أَنَّهُمْ قَالُوا: بِمَ نَسْتَصْبِحُ؟ فَضُرِبَ لَهُمْ عَمُودٌ مِنْ نُورٍ فِي وَسَطِ مَحَلَّتِهِمْ، وَقِيلَ: مِنْ نَارٍ، وَقَالُوا: مَنْ لَنَا بِاللِّبَاسِ؟ فَأُعْطُوا أَنْ لَا يَبْلَى لَهُمْ ثَوْبٌ، وَلَا يَخْلَقَ، وَلَا يَدْرَنَ، وَأَنْ تَنْمُوَ صِغَارُهَا حَسَبَ نُمُوِّ الصِّبْيَانِ. كُلُوا: أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَإِذْنٍ كَقَوْلِهِ: فَاصْطادُوا «١»، فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «٢»، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن الأصل
(١) سورة المائدة: ٥/ ٢.
(٢) سورة الجمعة: ٦٢/ ١٠.
346
فِي الْأَشْيَاءِ الْحَظْرُ، أَوْ دُومُوا عَلَى الْأَكْلِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْأَصْلُ فيها الإباحة، وهاهنا قَوْلٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ وَقُلْنَا: كُلُوا، وَالْقَوْلُ يُحْذَفُ كَثِيرًا وَيَبْقَى الْمَقُولُ، وَذَلِكَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ: أَكَفَرْتُمْ؟ أَيْ فَيُقَالُ: أَكَفَرْتُمْ؟ وَحَذْفُ الْمَقُولِ وَإِبْقَاءُ الْقَوْلِ قَلِيلٌ، وَذَلِكَ أَيْضًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَنَحْنُ الْأُلَى قُلْتُمْ فَأَنَّى مُلِئْتُمْ بِرُؤْيَتِنَا قَبْلَ اهْتِمَامٍ بِكُمْ رُعْبًا
التَّقْدِيرُ: قُلْتُمْ نُقَاتِلُهُمْ. مِنْ طَيِّباتِ: مِنْ: لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا زَائِدَةٌ، وَلَا يَتَخَرَّجُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ، وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا لِلْجِنْسِ، لِأَنَّ الَّتِي لِلْجِنْسِ فِي إِثْبَاتِهَا خِلَافٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَدَّرَ بَعْدَهُ مَوْصُولٌ يَكُونُ صِفَةً لَهُ. وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا لِلْبَدَلِ، إِذْ هُوَ مَعْنًى مُخْتَلَفٌ فِي إِثْبَاتِهِ، وَلَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ هُنَا مَا يُرَجِّحُ ذَلِكَ. وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا قِيلَ: الْحَلَالُ، وَقِيلَ:
اللَّذِيذُ الْمُشْتَهَى. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ كُلُوا مِنْ عِوَضِ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، عَوَّضَهُمْ عَنْ جَمِيعِ مَآكِلِهِمْ الْمُسْتَلَذَّةِ بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، فَكَانَا بَدَلًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ أَنَّهُ لَا يَكْفِي وَضْعُ الْمَالِكِ الطَّعَامَ بَيْنَ يَدَيِ الْإِنْسَانِ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ، بَلْ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَهُوَ قَوْلٌ. وَقِيلَ: يُمْلَكُ بِالْوَضْعِ فَقَطْ، وَقِيلَ: بِالْأَخْذِ وَالتَّنَاوُلِ، وَقِيلَ: لَا يُمْلَكُ بِحَالٍ، بَلْ يُنْتَفَعُ بِهِ وَهُوَ عَلَى ملك المالك. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا رَزَقْناكُمْ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا رَزَقْنَاكُمُوهُ، وَشُرُوطُ الْحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجَوِّزَ مُجَوِّزٌ فِيهَا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ، وَيَكُونُ يُطْلَقُ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَالْأَوَّلُ أَسْبَقُ إِلَى الذِّهْنِ.
وَما ظَلَمُونا نَفْيٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَقَعْ منهم ظلم لله تَعَالَى، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أنه ليس من شرط نَفْيَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ إِمْكَانُ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ ظُلْمَ الْإِنْسَانِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ أَلْبَتَّةَ.
قِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا ظَلَمُونَا بِقَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا قَابَلْنَاهُمْ بِهِ مِنَ الصَّاعِقَةِ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِادِّخَارِهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِفَسَادِ طَعَامِهِمْ وَتَقْلِيصِ أَرْزَاقِهِمْ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِإِبَائِهِمْ عَلَى مُوسَى أَنْ يَدْخُلُوا قَرْيَةَ الْجَبَّارِينَ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِاسْتِحْبَابِهِمُ الْعَذَابَ وَقَطْعِهِمْ مَادَّةَ الرِّزْقِ عَنْهُمْ، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِكُفْرِ النِّعَمِ، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِحُلُولِ النِّقَمِ. وَقِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، بَلْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
347
وَاتَّفَقَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَعَصَوْا وَلَمْ يُقَابِلُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ، قَالَ: وَالْمَعْنَى وَمَا وَضَعُوا فِعْلَهُمْ فِي مَوْضِعِ مَضَرَّةٍ لَنَا، وَلَكِنْ وَضَعُوهُ فِي مَوْضِعِ مَضَرَّةٍ لَهُمْ حَيْثُ لَا يَجِبُ. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَظَلَمُوا بِأَنْ كَفَرُوا هَذِهِ النِّعَمَ، وَمَا ظَلَمُونَا، قَالَ: فَاخْتَصَرَ الْكَلَامَ بِحَذْفِهِ لِدَلَالَةِ وَمَا ظَلَمُونَا عَلَيْهِ، انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ، كَمَا زَعَمَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَ مِنْهُمُ ارْتِكَابُ قَبَائِحَ مِنِ اتِّخَاذِ الْعِجْلِ إِلَهًا، وَمِنْ سُؤَالِ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُقَصَّ هُنَا. فَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما ظَلَمُونا جُمْلَةٌ مَنْفِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِحِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا بِذَلِكَ نَقْصٌ وَلَا ضَرَرٌ، بَلْ وَبَالُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَمُخْتَصٌّ بِهِمْ، لَا يَصِلُ إِلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٌ.
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ: لَكِنْ هُنَا وَقَعَتْ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا نَفْيٌ وَجَاءَ بَعْدَهَا إِيجَابٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ «١»، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لَا يَعْلَمُونَ «٢»، أَعْنِي أَنْ يَتَقَدَّمَ إِيجَابٌ ثُمَّ يَجِيءُ بَعْدَهَا نَفْيٌ، لِأَنَّ الِاسْتِدْرَاكَ الْحَاصِلَ بِهَا إنما يكون يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلِهَا بِوَجْهٍ مَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ، فَلَمَّا نُفِيَ ذَلِكَ الظُّلْمُ أَنْ يَصِلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَقِيَتِ النَّفْسُ مُتَشَوِّفَةً وَمُتَطَلِّعَةً إِلَى ذِكْرِ مَنْ وَقَعَ بِهِ الظُّلْمُ، فَاسْتُدْرِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ الظُّلْمَ الْحَاصِلَ مِنْهُمْ إِنَّمَا كَانَ وَاقِعًا بِهِمْ، وَأَحْسَنُ مَوَاقِعِهَا أَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ، وَيَلِيهِ أَنْ تَقَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَيَلِيهِ أَنْ تَقَعَ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ، وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ خِلَافٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ. أَذَلِكَ تَرْكِيبٌ عَرَبِيٌّ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِكَ: مَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَلَكِنْ هُوَ ضَاحِكٌ، وَقَدْ تُكُلِّمَ عَلَى ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ نَحْوَ: مَا خَرَجَ زَيْدٌ وَلَكِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَمْرٌو. وَطِبَاقُ الْكَلَامِ أَنْ يُثْبَتَ مَا بَعْدَ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ مَا نُفِيَ قَبْلَهَا، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، لَكِنْ دَخَلَتْ كَانُوا هُنَا مُشْعِرَةً بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَمِنْ طَرِيقَتِهِمْ، وَلِأَنَّهَا أَيْضًا تَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَكُونُ الْمُسْنَدُ لَا يَنْقَطِعُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً «٣» فَكَانَ الْمَعْنَى: وَلَكِنْ لَمْ يَزَالُوا ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ بِكَثْرَةِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنِ المخالفات. ويظلمون: صُورَتُهُ صُورَةُ الْمُضَارِعِ، وَهُوَ مَاضٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمُضَارِعُ بِمَعْنَى الماضي.
(١) سورة هود: ١١/ ١٠١. [.....]
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٣.
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٠.
348
وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ وَلَا فِيمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِهِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَقُدِّمَ مَعْمُولُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْفُسَهُمْ، لِيَحْصُلَ بذلك توافق رؤوس الْآيِ وَالْفَوَاصِلِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْإِخْبَارِ عَمَّنْ حَلَّ بِهِ الْفِعْلُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى صَارَ الْعَامِلُ فِي الْمَفْعُولِ تَوْكِيدًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ. فَلَيْسَ ذِكْرُهُ ضَرُورِيًّا، وَبِأَنَّ التوكيد أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمُؤَكَّدِ، وَذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا وَلَكِنْ ضَرَبْتُ عَمْرًا، فَذِكْرُ ضَرَبْتُ الثَّانِيَةِ أَفَادَتِ التَّأْكِيدَ، لِأَنَّ لَكِنْ مَوْضُوعُهَا أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُنَافِيًا لِمَا قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا وَلَكِنْ عَمْرًا، فَلَسْتَ مُضْطَرًّا لِذِكْرِ الْعَامِلِ. فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى قَوْلُهُ:
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فِي مَعْنَى: وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، كَانَ ذِكْرُ الْعَامِلِ فِي الْمَفْعُولِ لَيْسَ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ قِيلَ: وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ، لَكَانَ كَلَامًا عَرَبِيًّا، وَيُكْتَفَى بِدَلَالَةِ لَكِنْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُنَافٍ لِمَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْمُحَسِّنَاتُ لِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ كَانَ تَقْدِيمُهُ هُنَا الْأَفْصَحَ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ذِكْرِ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فُصُولًا مِنْهَا: أَمْرُ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، إِيَّاهُمْ بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ مِنْ مُقَارَفَةِ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الْعِجْلِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَالتَّلَطُّفُ بِهِمْ فِي نِدَائِهِمْ بِيَا قَوْمِ، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى عِلَّةِ الظُّلْمِ الَّذِي كَانَ وَبَالُهُ رَاجِعًا عَلَيْهِمْ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِسَابِقِ رَحْمَتِهِ، ثُمَّ التَّوْبِيخُ لَهُمْ بِسُؤَالِهِمْ مَا كَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ، وَهُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ عِيَانًا، لِأَنَّهُ كَانَ سُؤَالَ تَعَنُّتٍ. ثُمَّ ذِكْرُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ مِنْ أَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِيَّاهُمْ. ثُمَّ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِالْبَعْثِ، وَهُوَ مِنَ الْخَوَارِقِ الْعَظِيمَةِ أَنْ يُحْيَى الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ أَنْ مَاتَ. ثُمَّ إِسْعَافُهُمْ بِمَا سَأَلُوهُ، إِذْ وَقَعُوا فِي التِّيهِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى مَا يُزِيلُ ضَرَرَهُمْ وَحَاجَتَهُمْ مَنْ لَفْحِ الشَّمْسِ، وَتَغْذِيَةِ أَجْسَادِهِمْ بِمَا يَصْلُحُ لَهَا، فَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ وَأَكْبَرِ الْمُعْجِزَاتِ حَيْثُ يُسَخَّرُ الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِ، فَكَانَ عَلَى مَا قِيلَ: تُظِلُّهُمْ بِالنَّهَارِ وَتَذْهَبُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُنَوِّرَ عَلَيْهِمُ الْقَمَرُ. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَهَذَا مِنْ أَشْرَفِ الْمَأْكُولِ، إِذْ جَمَعَ بَيْنَ الْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ، بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَلَاوَةِ الَّتِي فِي الْمَنِّ وَالدَّسَمِ الَّذِي فِي السَّلْوَى، وَهُمَا مُقْمِعَا الْحَرَارَةِ وَمُثِيرَا الْقُوَّةِ لِلْبَدَنِ. ثُمَّ الْأَمْرُ لَهُمْ بِتَنَاوُلِ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مُطْلَقٌ. ثُمَّ التَّنْصِيصُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَبِحَقِّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. ثُمَّ ذِكْرُ أَنَّهُ رِزْقٌ مِنْهُ لَهُمْ لَمْ يَتْعَبُوا فِي تَحْصِيلِهِ
349
وَلَا اسْتِخْرَاجِهِ وَلَا تَنْمِيَتِهِ، بَلْ جَاءَ رِزْقًا مُهَنَّأً لَا تَعَبَ فِيهِ ثُمَّ إِرْدَافُ هَذِهِ الْجُمَلِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، إِذْ هِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِافْتِتَاحِ هَذِهِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَخَتَمَهَا بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. فَجَاءَتْ هَذِهِ الجمل في غاية الفصاحة لَفْظًا وَالْبَلَاغَةِ مَعْنًى، إِذْ جَمَعَتِ الْأَلْفَاظَ الْمُخْتَارَةَ وَالْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ مُتَعَلِّقًا أَوَائِلُ أَوَاخِرِهَا بِأَوَاخِرِ أَوَائِلِهَا، مَعَ لُطْفِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ. فَحَيْثُ ذَكَرَ النِّعَمَ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ، وَقَالَ: وَظَلَّلْنَا وَأَنْزَلْنَا، وَحَيْثُ ذَكَرَ النِّقَمَ لَمْ يَنْسُبْهَا إِلَيْهِ تَعَالَى فَقَالَ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ. وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّهُ مَوْضِعُ تَعْدَادٍ لِلنِّعَمِ، فَنَاسَبَ نِسْبَةَ ذَلِكَ إِلَيْهِ لِيُذَكِّرَهُمْ آلَاءَهُ، وَلَمْ يَنْسُبِ النِّقَمَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُ حَقِيقَةً، لِأَنَّ فِي نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ تَخْوِيفًا عَظِيمًا رُبَّمَا عَادَلَ ذَلِكَ الْفَرَحَ بِالنِّعَمِ. وَالْمَقْصُودُ: انْبِسَاطُ نُفُوسِهِمْ بِذِكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ قَدِ انْطَوَى عَلَى تَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ، فَالتَّرْغِيبُ أغلب عليه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٨ الى ٦١]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
الدُّخُولُ: مَعْرُوفٌ، وَفِعْلُهُ: دَخَلَ يَدْخُلُ، وَهُوَ مِمَّا جَاءَ عَلَى يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَكَانَ
350
الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُفْتَحَ، لِأَنَّ وَسَطَهُ حَرْفُ حَلْقٍ، كَمَا جَاءَ الْكَسْرُ فِي يَنْزِعُ وَقِيَاسُهُ أَيْضًا الْفَتْحُ.
الْقَرْيَةُ: الْمَدِينَةُ، مِنْ قَرَيْتُ: أَيْ جَمَعْتُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُجْتَمَعُ النَّاسِ عَلَى طَرِيقِ الْمُسَاكَنَةِ. وَقِيلَ: إِنْ قَلُّوا قِيلَ لَهَا قَرْيَةٌ، وَإِنْ كَثُرُوا قِيلَ لَهَا مَدِينَةٌ. وَقِيلَ: أَقَلُّ الْعَدَدِ الَّذِي تُسَمَّى بِهِ قَرْيَةٌ ثَلَاثَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، وَمِنْهُ، قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، وَالْمَقْرَاةُ: الْحَوْضُ، وَمِنْهُ الْقِرَى: وَهُوَ الضِّيَافَةُ، وَالْقَرِيُّ: الْمَجْرَى، وَالْقَرَى: الظَّهْرُ. وَلُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ: الْقِرْيَةُ، بِكَسْرِ الْقَافِ، وَيَجْمَعُونَهَا عَلَى قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ نَحْوَ: رِشْوَةٍ وَرِشًا. وأما قرية بالفتح فجمت عَلَى قُرًى بِضَمِّ الْقَافِ، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. قِيلَ: وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ فِعْلِهِ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ إِلَّا قَرْيَةً وَقُرًى، وَتُرْوَةً وَتُرًى، وَشَهْوَةً وَشُهًى. الْبَابُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُدْخَلُ مِنْهُ، وَجَمْعُهُ أَبْوَابٌ، وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ، وَجَاءَ جَمْعُهُ عَلَى أَبْوِبَةٍ فِي قَوْلِهِ:
هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلَّاجُ أَبْوِبَةٍ لِتَشَاكُلِ أَخْبِيَةٍ، كَمَا قَالُوا: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، وَأَصْلُهُ تَلَوْتَ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِتُشَاكِلَ دَرَيْتَ. سُجَّدًا: جَمْعُ سَاجِدٍ، وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي فَاعِلٍ وَفَاعِلَةٍ الْوَصْفَيْنِ الصَّحِيحَيِ اللَّامِ. وَقُولُوا: كُلُّ أَمْرٍ مِنْ ثُلَاثِيٍّ اعْتَلَّتْ عَيْنُهُ فَانْقَلَبَتْ أَلِفًا فِي الْمَاضِي، تَسْقُطُ تِلْكَ الْعَيْنُ مِنْهُ إِذَا أُسْنِدَ لِمُفْرَدٍ مُذَكَّرٍ نَحْوَ: قُلْ وَبِعْ، أَوْ لِضَمِيرٍ مُؤَنَّثٍ نَحْوَ: قُلْنَ وَبِعْنَ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ ضَمِيرُ الْوَاحِدَةِ نَحْوَ: قُولِي، أَوْ ضَمِيرُ الِاثْنَيْنِ نَحْوَ: قُولَا، أَوْ ضَمِيرُ الذُّكُورِ نَحْوَ: قُولُوا، ثَبَتَتْ تِلْكَ الْعَيْنُ، وَعِلَّةُ الْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ جَاءَ حَذْفُهَا فِي الشِّعْرِ، فَجَاءَ قَوْلُهُ: قُلَى وَعِشَا. حِطَّةٌ: عَلَى وَزْنِ فِعْلَةٍ مِنَ الْحَطِّ، وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْحَطِّ، وَقِيلَ: هُوَ هَيْئَةٌ وَحَالٌ: كَالْجِلْسَةِ وَالْقِعْدَةِ، وَالْحَطُّ: الْإِزَالَةُ، حَطَطْتُ عَنْهُ الْخَرَاجَ: أَزَلْتُهُ عَنْهُ.
وَالنُّزُولُ: حَطَطْتُ. وَحُكِيَ: بِفِنَاءِ زَيْدٍ نَزَلْتُ بِهِ، وَالنَّقْلُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَمِنْهُ انْحِطَاطُ الْقَدْرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، الْحِطَّةُ: التَّوْبَةُ. وَأَنْشَدُوا:
فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ بِهَا ذَنْبَ عَبْدِهِ مَغْفُورًا
أَيْ فَازَ بِالتَّوْبَةِ، وَتَفْسِيرُهُمَا الْحِطَّةَ بِالتَّوْبَةِ إِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ لَا بِالْمُرَادِفِ، لِأَنَّ مَنْ حُطَّ عَنْهُ الذَّنْبُ فَقَدْ تِيبَ عَلَيْهِ. الْغَفْرُ وَالْغُفْرَانُ: السَّتْرُ، وَفِعْلُهُ غَفَرَ يَغْفِرُ، بِفَتْحِ الْغَيْنِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ. والغيرة: الْمَغْفِرَةُ، وَالْغِفَارَةُ: السَّحَابُ وَمَا يُلْبَسُ بِهِ سِيَةُ الْقَوْسِ، وَخِرْقَةٌ تُلْبَسُ تَحْتَ الْخِمَارِ، وَمِثْلُهُ الْمِغْفَرُ وَالْجَمَّاءُ، الْغَفِيرُ: أَيْ جَمَاعَةٌ يَسْتُرُ بَعْضُهُمْ بعضا من الكثرة. وقوله عُمَرَ لِمَنْ قَالَ لَهُ: لَمْ حَصَّبْتَ الْمَسْجِدَ؟ هُوَ أَغْفَرُ لِلنُّخَامَةِ، كُلُّ هَذَا رَاجِعٌ لِمَعْنَى السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ. الْخَطِيئَةُ: فَعِيلَةٌ مِنَ الْخَطَأِ، وَالْخَطَأُ: الْعُدُولُ عَنِ
351
القصد، يقال خطىء الشَّيْءَ: أَصَابَهُ بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَأَخْطَأَ: إِذَا تَعَمَّدَ، وَأَمَّا خَطَايَا: فَجَمْعُ خَطِيَّةٍ مُشَدَّدَةً عِنْدَ الْفَرَّاءِ، كَهَدِيَّةٍ وَهَدَايَا، وَجَمْعُ خَطِيئَةٍ الْمَهْمُوزِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ. فَعِنْدَ سِيبَوَيْهِ: أَصْلُهُ خَطَائِيُّ، مِثْلُ: صَحَائِفُ، وَزْنُهُ، فَعَائِلٌ، ثُمَّ أُعِلَّتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ بِقَلْبِهَا يَاءً، ثُمَّ فُتِحَتِ الْأُولَى الَّتِي كَانَ أَصْلُهَا يَاءَ الْمَدِّ فِي خَطِيئَةٍ فَصَارَ: خَطَأَى، فَتَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا، فَصَارَ: خَطَآءَ، فَوَقَعَتْ هَمْزَةٌ بَيْنَ أَلِفَيْنِ، وَالْهَمْزَةُ شَبِيهَةٌ بِالْأَلِفِ فَصَارَ: كَأَنَّهُ اجْتَمَعَ ثَلَاثَةُ أَمْثَالٍ، فَأَبْدَلُوا مِنْهَا يَاءً فَصَارَ خَطَايَا، كَهَدَايَا وَمَطَايَا. وَعِنْدَ الْخَلِيلِ أصله: خطايىء، ثُمَّ قُلِبَ فَصَارَ خَطَائِي عَلَى وَزْنِ فَعَالِي، الْمَقْلُوبِ مِنْ فَعَائِلَ، ثُمَّ عُمِلَ فِيهِ الْعَمَلُ السَّابِقُ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ.
وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ: أَنَّ الْيَاءَ فِي خَطَايَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْهَمْزَةِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ الْيَاءِ بَعْدَ أَلِفِ الْجَمْعِ الَّتِي كَانَتْ مَدَّةً زَائِدَةً فِي خَطِيئَةٍ، عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، وَالْأَلِفُ بَعْدَهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْيَاءِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ الْهَمْزَةِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ، وَمُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْهَمْزَةِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ فِي الْجَمْعِ وَالْمُفْرَدِ، وَالْأَلِفُ بَعْدَهَا هِيَ الْيَاءُ الَّتِي كَانَتْ يَاءً بَعْدَ أَلِفِ الْجَمْعِ الَّتِي كَانَتْ مَدَّةً فِي الْمُفْرَدِ، عَلَى رَأْيِ الْخَلِيلِ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا. الْإِحْسَانُ وَالْإِنْعَامُ وَالْإِفْضَالُ: نَظَائِرُ، أَحْسَنَ الرَّجُلُ: أَتَى بِالْحَسَنِ، وَأَحْسَنَ الشَّيْءَ: أَتَى بِهِ حَسَنًا: وَأَحْسَنَ إِلَى عَمْرٍو أَسْدَى إِلَيْهِ خَيْرًا. التَّبْدِيلُ: تَغْيِيرُ الشَّيْءِ بِآخَرَ.
تَقُولُ: هَذَا بَدَلُ هَذَا: أَيْ عِوَضُهُ، وَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، الثَّانِي أَصْلُهُ حَرْفُ جَرٍّ: بَدَّلْتُ دِينَارًا بِدِرْهَمٍ: أَيْ جَعَلْتُ دِينَارًا عِوَضَ الدِّرْهَمِ، وَقَدْ يَتَعَدَّى لِثَلَاثَةٍ فَتَقُولُ: بَدَّلْتُ زَيْدًا دِينَارًا بِدِرْهَمٍ: أَيْ حَصَّلْتُ لَهُ دِينَارًا عِوَضًا مِنْ الدرهم، وَقَدْ يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، قَالَ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ «١»، أَيْ يُجْعَلُ لَهُمْ حَسَنَاتٍ عِوَضَ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ وَهِمَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَجَعَلُوا مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الْحَاصِلُ، وَالْمَنْصُوبُ هُوَ الذَّاهِبُ، حَتَّى قَالُوا: وَلَوْ أَبْدَلَ ضَادًا بِظَاءٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَصَوَابُهُ: لَوْ أُبْدِلَ ظَاءٌ بِضَادٍ. الرِّجْزُ:
الْعَذَابُ، وَتُكْسَرُ رَاؤُهُ وَتُضَمُّ، وَالضَّمُّ لُغَةُ بَنِي الصعدات، وقد قرىء بِهِمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، قَالَ رُؤْبَةُ:
كَمْ رَامَنَا مِنْ ذِي عَدِيدٍ مُبْزِي حَتَّى وُقِينَا كَيْدَهُ بِالرُّجْزِ
وَالرُّجْزُ، بِالضَّمِّ: اسْمُ صَنَمٍ مَشْهُورٍ، وَالرَّجْزَاءُ: نَاقَةٌ أَصَابَ عَجُزَهَا دَاءٌ، فَإِذَا نَهَضَتِ ارْتَعَشَتْ أَفْخَاذُهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٧٠.
352
هَمَمْتَ بِخَيْرٍ ثُمَّ قَصَّرْتَ دُونَهُ كَمَا نَاءَتِ الرَّجْزَاءُ شُدَّ عِقَالُهَا
قِيلَ: الرِّجْزُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّجَازَةِ، وَهِيَ صُوفٌ تُزَيَّنُ بِهِ الْهَوَادِجُ، كَأَنَّهُ وَسَمَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَوْ ثَقِفَاهَا ضُرِّجَتْ بِدِمَائِهَا كَمَا ضُرِّجَتْ نِضْوُ الْقِرَامِ الرَّجَائِزُ
الِاسْتِسْقَاءُ: طَلَبُ السَّقْيِ، وَالطَّلَبُ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي الِاسْتِفْعَالِ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «١». الْعَصَا: مُؤَنَّثٌ، وَالْأَلِفُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، قَالُوا: عَصَوَانِ، وَعَصَوْتُهُ: أَيْ ضَرَبْتُهُ بِالْعَصَا، وَيُجْمَعُ عَلَى أَفْعِلٍ شُذُوذًا، قَالُوا: أَعْصٍ، أَصْلُهُ أعْصُوٍ، وَعَلَى فِعِوْلٍ قِيَاسًا، قَالُوا: عِصِيٌّ، أَصْلُهُ عِصِوْوٌ، وَيَتْبَعُ حَرَكَةَ الْعَيْنِ حَرَكَةُ الصَّادِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا إِنْ لَا تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى كَأَنَّ قُرُونَ جُلَّتِهَا الْعِصِيُّ
الْحَجَرُ: هُوَ هَذَا الْجِسْمُ الصُّلْبُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ، وَجُمِعَ عَلَى أَحْجَارٍ وَحِجَارٍ، وَهُمَا جَمْعَانِ مَقِيسَانِ فِيهِ، وَقَالُوا: حِجَارَةٌ بِالتَّاءِ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ، قَالُوا: اسْتَحْجَرَ الطِّينُ، وَالِاشْتِقَاقُ مِنَ الْأَعْيَانِ قَلِيلٌ جِدًّا. الِانْفِجَارُ: انْصِدَاعُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَمِنْهُ انْفَجَرَ، وَالْفُجُورُ: وَهُوَ الِانْبِعَاثُ فِي الْمَعْصِيَةِ كَالْمَاءِ، وَهُوَ مُطَاوِعُ فِعْلِ فَجَرَهُ فَانْفَجَرَ، وَالْمُطَاوَعَةُ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا انْفَعَلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. اثْنَتَا: تَأْنِيثُ اثْنَيْنِ، وَكِلَاهُمَا لَهُ إِعْرَابُ الْمُثَنَّى، وَلَيْسَ بِمُثْنًى حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا يُفْرَدُ، فَيُقَالُ: اثْنُ، ولا اثنة، ولا مهما مَحْذُوفَةٌ، وَهِيَ يَاءٌ، لِأَنَّهُ مِنْ ثَنَّيْتُ. الْعَشْرَةَ، بِإِسْكَانِ الشِّينِ، لُغَةُ الْحِجَازِ، وَبِكَسْرِهَا لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْفَتْحُ فِيهَا شَاذٌّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ أَوَّلُ الْعُقُودِ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ فَقَالُوا: عَشَّرَهُمْ يُعَشِّرُهُمْ، وَمِنْهُ الْعَشْرُ وَالْعَشَرُ، وَالْعَشْرُ: شَجَرٌ لَيِّنٌ، وَالْأَعْشَارُ: الْقِطَعُ لَا وَاحِدَ لَهَا، وَوُصِلَ بِهَا الْمُفْرَدُ، قَالُوا:
بِرْمَةُ أَعْشَارٍ. الْعَيْنُ: لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَنْبَعِ الْمَاءِ وَالْعُضْوِ الْبَاصِرِ، وَالسَّحَابَةُ تُقْبِلُ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْمَطَرُ يُمْطِرُ خَمْسًا أَوْ سِتًّا، لَا يُقْلِعُ، وَمَنْ لَهُ شَرَفٌ فِي النَّاسِ، وَالثُّقْبُ فِي الْمَزَادَةِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجُمِعَ عَلَى أَعْيُنٍ شَاذٌّ، أَوْ غيون قِيَاسًا، وَقَالُوا: فِي الْأَشْرَافِ مِنَ النَّاسِ: أَعْيَانٌ، وَجَاءَ ذَلِكَ قَلِيلًا فِي الْعُضْوِ الْبَاصِرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَسْمَلُ أعيانا لها ومآقيا
(١) سورة الفاتحة: ١/ ٥.
353
أُنَاسٌ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَإِذَا سُمِّيَ بِهِ مُذَكَّرٌ صُرِفَ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِلَى ابْنِ أُمِّ أُنَاسَ أُرَحِّلُ نَاقَتِي مَنَعَ صَرْفَهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى مُؤَنَّثٍ، وَإِمَّا ضَرُورَةً عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ. مَشْرَبٌ:
مَفْعَلٌ مِنَ الشَّرَابِ يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَيَطَّرِدُ مِنْ كُلِّ ثُلَاثِيٍّ مُتَصَرِّفٍ مُجَرَّدٍ، لَمْ تُكْسَرْ عَيْنُ مُضَارِعِهِ سَوَاءٌ صَحَّتْ لَامُهُ: كَسِرْتَ وَدَخَلَ، أَوْ أُعِلَّتْ: كَرَمَى وَغَزَا. وَشَذَّ مِنْ ذَلِكَ أَلْفَاظٌ ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ. الْعُثُوُّ، وَالْعَثْيُ: أَشَدُّ الْفَسَادِ، يُقَالُ: عَثَا يَعْثُو عُثُوًّا، وَعَثَى يَعْثِي عِثِيًّا، وَعَثَا يَعْثِي عَثْيًا: لُغَةٌ شَاذَّةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْلَا الْحَيَاءُ وَأَنَّ رَأْسِي قَدْ عَثَا فِيهِ الْمَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ الْقَاسِمِ
وَثُبُوتُ الْعَثْيِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ عَثَى لَيْسَ أَصْلُهَا عَثَوَ، كَرَضِيَ الَّذِي أَصْلُهُ رَضَوَ، خِلَافًا لِزَاعِمِهِ. وَعَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا وَمَعَاثًا، وَعَثَّ يَعِثُّ كَذَلِكَ، وَمِنْهُ عُثَّةُ الصُّوفِ: وَهِيَ السُّوسَةُ الَّتِي تَلْحَسُهُ. الطَّعَامُ: اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ، كَالْعَطَاءِ، اسْمٌ لِمَا يُعْطَى، وَهُوَ جِنْسٌ. الْوَاحِدُ: هُوَ الَّذِي لَا يَتَبَعَّضُ، وَالَّذِي لَا يُضَمُّ إِلَيْهِ ثَانٍ. يُقَالُ: وَحَدَ يَحِدُ وَحْدًا وَحِدَةً إِذَا انْفَرَدَ. الدُّعَاءُ:
التَّصْوِيتُ بِاسْمِ الْمَدْعُوِّ عَلَى سَبِيلِ النِّدَاءِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ دَعَا يَدْعُو دُعَاءً. الْإِنْبَاتُ: الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ، وَهُوَ: الْإِخْرَاجُ لِمَا شَأْنُهُ النُّمُوُّ. الْبَقْلُ: جِنْسٌ يَنْدَرِجُ فِيهِ النَّبَاتُ الرَّطْبُ مِمَّا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ، يُقَالُ مِنْهُ بِقَلَتِ الْأَرْضُ وَأَبْقَلَتْ: أَيْ صَارَتْ ذَاتَ بَقْلٍ، وَمِنْهُ: الْبَاقِلَاءُ، قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ. الْقِثَّاءُ: اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ قِثَّاءَةُ، بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا، وَهُوَ هَذَا الْمَعْرُوفُ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ الْخِيَارُ، وَيُقَالُ: أَرْضٌ مَقْثَأَةٌ: أَيْ كَثِيرَةُ الْقِثَّاءِ. الْفُومُ، قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أمية بن وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الثُّومُ، أُبْدِلَتِ الثَّاءُ فَاءً، كَمَا قَالُوا، فِي مَغْفُورٍ: مَغْثُورٍ، وَفِي جَدَّثَ: جَدَّفَ، وَفِي عَاثُورٍ: عَافُورٍ. قَالَ الصَّلْتُ:
كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرَةً فِيهَا الْقَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ
وَأَنْشَدَ مُؤَرِّجٌ لِحَسَّانَ:
وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الْأُصُولِ طَعَامُكُمُ الفول وَالْحَوْقَلُ
يَعْنِي: الْفُومَ وَالْبَصَلَ، وَهَذَا كَمَا أَبْدَلُوا بِالْفَاءِ الثَّاءَ، قَالُوا فِي الْأَثَافِيِّ: الْأَثَاثِيُّ، وَكِلَا الْبَدَلَيْنِ لَا يَنْقَاسُ، أَعْنِي إِبْدَالَ الثَّاءِ فَاءً وَالْفَاءِ ثَاءً. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ: الْفُومُ:
الْحِنْطَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ:
354
قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي كَأَغْنَى وَاحِدٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ
قِيلَ: وَهِيَ لُغَةُ مِصْرَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُبَرِّدِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَهِيَ لُغَةٌ قَدِيمَةٌ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ: هِيَ الْحُبُوبُ التي توكل. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ دُرَيْدٍ: هِيَ السُّنْبُلَةُ، زَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِلُغَةِ أَسَدٍ. وَقِيلَ: الْحُبُوبُ الَّتِي تُخْبَزُ. وَقِيلَ: الْخُبْزُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فُومُوا لَنَا، أَيِ اخْبِزُوا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ:
تَلْتَقِمُ الْفَالِحَ لَمْ يُفَوِّمِ تَقَمُّمًا زَادَ عَلَى التَّقَمُّمِ
وَقَالَ قُطْرُبٌ: الْفُومُ: كُلُّ عُقْدَةٍ فِي الْبَصَلِ، وَكُلُّ قِطْعَةٍ عَظِيمَةٍ فِي اللَّحْمِ، وَكُلُّ لُقْمَةٍ كَبِيرَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْحِمَّصُ، وَهِيَ لُغَةٌ شَامِيَّةٌ، وَيُقَالُ لِبَائِعِهِ: فَامِيٌّ، مُغَيَّرٌ عَنْ فُومِيٍّ لِلنَّسَبِ، كَمَا قَالُوا: شَهْلِيٌّ وَدَهْرِيٌّ. الْعَدَسُ: مَعْرُوفٌ، وَعُدَسٌ وَعُدُسٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَعَدَسْ: زَجْرٌ لِلْبَغْلِ. الْبَصَلُ: مَعْرُوفٌ. أَدْنَى: أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ مِنَ الدُّنُوِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ، يُقَالُ: مِنْهُ دَنَا يَدْنُو دُنُوًّا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشُ: هُوَ أَفْعَلُ مِنَ الدَّنَاءَةِ، وَهِيَ:
الْخِسَّةُ وَالرَّدَاءَةُ، خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي الْمَهْمُوزِ: دَنُؤَ الرَّجُلُ، يَدْنَأُ دَنَاءَةً وَدِنَاءً، وَدَنَأَ يَدْنَأُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَفْعَلُ مِنَ الدُّونِ، أَيْ أَحَطُّ فِي الْمَنْزِلَةِ، وَأَصْلُهُ أَدْوَنُ، فَصَارَ وَزْنُهُ: أَفْلَعُ، نَحْوَ: أَوْلَى لَكَ، هُوَ أَفْعَلُ مِنَ الْوَيْلِ، أَصْلُهُ أَوْيَلُ فَقُلِبَ.
الْمِصْرُ: الْبَلَدُ، مُشْتَقٌّ مَنْ مَصَرْتُ الشَّاةَ، أَمْصُرُهَا مَصْرًا: حَلَبْتُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ضَرْعِهَا، وَقِيلَ الْمِصْرُ: الْحَدُّ بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، وَهَجَرٌ يَكْتُبُونَ: اشْتَرَى الدَّارَ بِمُصُورِهَا: أَيْ بِحُدُودِهَا.
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلَا
السُّؤَالُ: الطَّلَبُ، وَيُقَالُ: سَأَلَ يَسْأَلُ سُؤَالًا، وَالسُّؤْلُ: الْمَطْلُوبُ، وَسَالَ يَسَالُ:
عَلَى وَزْنِ خَافَ يَخَافُ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ فِعْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ. سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ، قَالُوا: لِأَنَّ السُّؤَالَ سَبَبٌ إِلَى الْعِلْمِ فَأُجْرِيَ مَجْرَى الْعِلْمِ. الذِّلَّةُ: مَصْدَرُ ذَلَّ يَذِلُّ ذِلَّةً وَذُلًّا، وَقِيلَ: الذِّلَّةُ كَأَنَّهَا هَيْئَةٌ مِنَ الذُّلِّ، كَالْجِلْسَةِ، وَالذُّلُّ: الْخُضُوعُ وَذَهَابُ الصُّعُوبَةِ. الْمَسْكَنَةُ: مَفْعَلَةٌ مِنَ السُّكُونِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمِسْكِينُ لِقِلَّةِ حَرَكَاتِهِ وَفُتُورِ نَشَاطِهِ، وَقَدْ بُنِيَ مِنْ لَفْظِهِ فَعَّلَ، قَالُوا: تَمَسْكَنَ، كَمَا قَالُوا: تَمَدْرَعَ مِنَ الْمَدْرَعَةِ، وَقَدْ طُعِنَ عَلَى هَذَا النَّقْلِ وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ وَإِنَّمَا الَّذِي صَحَّ تَسَكَّنَ وَتَدَرَّعَ. بَاءَ بِكَذَا: أَيْ رَجَعَ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ: أَوِ اعْتَرَفَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةُ، وَاسْتَحَقَّ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ أَوْ نَزَلَ وَتَمَكَّنَ، قَالَهُ
355
الْمُبَرِّدُ أَوْ تَسَاوَى، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَأَنْشَدُوا لِكُلِّ قَوْلٍ ما يستدل به أمن كَلَامِ الْعَرَبِ، وَحَذَفْنَا نَحْنُ ذَلِكَ. النَّبِيءُ: مَهْمُوزٌ مِنْ أنبأ، فعيل: بمعنى فعل، كَسَمِيعٍ مِنْ أَسْمَعَ، وَجُمِعَ عَلَى النُّبَآءِ، وَمَصْدَرُهُ النُّبُوءَةُ، وَتَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ، كُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّامَ هَمْزَةٌ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ: نَبُؤَ، إِذَا ظَهَرَ فَهُوَ نَبِيءٌ، وَبِذَلِكَ سُمِّيَ الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ: نَبِيئًا. فَعَلَى هَذَا هُوَ فَعِيلٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ فَعُلَ، كَشَرِيفٍ مِنْ شَرُفَ، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ فَقِيلَ أَصْلُهُ الْهَمْزُ، ثُمَّ سُهِّلَ. وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ نَبَا يَنْبُو، إِذَا ظَهَرَ وَارْتَفَعَ، قَالُوا: وَالنَّبِيُّ: الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَمَّا وَرَدْنَ نَبِيًّا وَاسْتَتَبَّ بِنَا مُسْحَنْفِرٌ لِخُطُوطِ الْمَسْحِ مُنْسَحِلُ
قَالَ الْكِسَائِيُّ: النَّبِيُّ: الطَّرِيقُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ، قَالُوا: وَبِهِ سُمِّيَ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. الْعِصْيَانُ: عَدَمُ الِانْقِيَادِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْفِعْلُ، مِنْهُ: عَصَى يَعْصِي، وَقَدْ جَاءَ الْعَصْيُ فِي معنى العصيان. أنشد بن حَمَّادٍ فِي تَعْلِيقِهِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْبَاذِشِ مِمَّا أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ:
فِي طَاعَةِ الرَّبِّ وَعَصْيِ الشَّيْطَانِ الِاعْتِدَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْعَدْوِ، وَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «١».
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ. الْقَائِلُ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَلْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى أَوْ يُوشَعَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَوْلَانِ: وَانْتِصَابُ هَذِهِ عَلَى ظَرْفِ الْمَكَانِ، لِأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى ظَرْفِ الْمَكَانِ، كَمَا تَنْتَصِبُ أَسْمَاءُ الْإِشَارَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَعَلَى ظَرْفِ الزَّمَانِ إِذَا كُنَّ إِشَارَةً إِلَيْهِمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ هَذَا الضَّرْبَ، وَصُمْتُ هَذَا الْيَوْمَ. هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي دَخَلَ، أنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى الْمُخْتَصِّ مِنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ بِغَيْرِ وَسَاطَةِ فِي، فَإِنْ كَانَ الظَّرْفُ مَجَازِيًّا تَعَدَّتْ بِفِي، نَحْوَ: دَخَلْتُ فِي غِمَارِ النَّاسِ، وَدَخَلْتُ فِي الْأَمْرِ الْمُشْكَلِ. وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْجَرْمِيِّ أَنَّ مِثْلَ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ، مَفْعُولٌ بِهِ لَا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْقَرْيَةَ لِلْحُضُورِ، وَانْتِصَابُ الْقَرْيَةَ عَلَى النَّعْتِ، أَوْ عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ، كَمَا مَرَّ فِي إِعْرَابِ الشَّجَرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ «٢»، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا الْإِعْرَابِ فِي هَذِهِ، فَهِيَ فِي: وَلا تَقْرَبا هذِهِ مَفْعُولٌ بِهِ، وَهِيَ هُنَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَالْقَرْيَةُ هُنَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٣٥.
356
وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ. وَقِيلَ: أَرِيحَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَهِيَ بِأَرْضِ الْمَقْدِسِ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ النَّمَرِيُّ: كَانَتْ قَاعِدَةً وَمَسْكَنَ مُلُوكٍ، وَفِيهَا مَسْجِدٌ هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَفِي الْمَسْجِدِ بَيْتٌ يُسَمَّى إِيلِيَا. وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: أَرِيحَا قَرْيَةُ الْجَبَّارِينَ، كَانُوا مِنْ بَقَايَا عَادٍ، يُقَالُ لَهُمُ: العمالية وَرَأْسُهُمْ: عَوْجُ بْنُ عُنُقٍ، وَقِيلَ: الرَّمْلَةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَقِيلَ: أَيْلَةُ وَقِيلَ: الْأُرْدُنُّ وَقِيلَ: فَلَسْطِينُ وَقِيلَ: الْبَلْقَاءُ وَقِيلَ: تَدْمُرُ، وَقِيلَ: مِصْرُ وَقِيلَ: قَرْيَةٌ بِقُرْبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ أُمِرُوا بِدُخُولِهَا وَقِيلَ: الشَّامُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَيْسَانَ، وَقَدْ رُجِّحَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ فِي الْمَائِدَةِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ «١». قِيلَ: وَلَا خِلَافَ، أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِقَوْلِهِ: فَبَدَّلَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فِي حَيَاةِ مُوسَى، لَكِنَّهُ مَاتَ فِي أَرْضِ التِّيهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَأَجَابَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ كَانَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى، وَهَذَا الْجَوَابُ وَهْمٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ وَاحِدٌ، وَالْقَائِلُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ قَطْعًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَقَوْلِهِمْ: قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ «٢» ؟ قَالَ وَهْبٌ:
كَانُوا قَدِ ارْتَكَبُوا ذُنُوبًا، فَقِيلَ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْآيَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَلُّوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، فَقِيلَ لَهُمْ: اهْبِطُوا مِصْرًا، وَكَانَ أَوَّلَ مَا لَقُوا أَرِيحَا. وَفِي قَوْلِهِ: هذِهِ الْقَرْيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَارَبُوهَا وَعَايَنُوهَا، لِأَنَّ هَذِهِ إِشَارَةٌ لِحَاضِرٍ قَرِيبٍ. قِيلَ: وَالَّذِي قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ إِلَّا بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى مَعَهُمْ حِينَ دَخَلُوهَا، فَإِنَّهُ مَاتَ هُوَ وَأَخُوهُ فِي التِّيهِ. وَقِيلَ: لَمْ يَدْخُلَا التِّيهَ لِأَنَّهُ عَذَابٌ، وَاللَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَنْبِيَاءَهُ.
فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ فِي قَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ وَهُنَا بِالْفَاءِ، وَهُنَاكَ تَقْدِيمُ الرَّغَدِ عَلَى الظَّرْفِ، وَهُنَا تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى الرَّغَدِ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الْوَاوَ هُنَاكَ جَاءَتْ بِمَعْنَى الْفَاءِ، قِيلَ: وَهُوَ الْمَعْنَى الْكَثِيرُ فِيهَا، أَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ الْمُتَقَدِّمَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَعْطُوفُ بِهَا هُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي الزَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَرِدُ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ قَلِيلٌ.
وَلِلْمَعِيَّةِ وَالزَّمَانِ، وَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ، وَيَدُلُّ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْفَاءِ مَا جَاءَ فِي الْأَعْرَافِ مِنْ قَوْلِهِ:
فَكُلا بِالْفَاءِ، وَالْقَضِيَّةُ وَاحِدَةٌ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الرَّغَدِ هُنَاكَ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ مِنْ صفات الأكل أو
(١) سورة المائدة: ٥/ ٢٥.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٢٢.
357
الْآكِلِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنَ الْعَامِلِ فِيهِ وَلَا يُؤَخَّرُ عَنْهُ، وَيُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِظَرْفٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاصِلًا مُؤَثِّرًا الْمَنْعَ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْمَعْمُولِيَّةِ لِعَامِلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّهُ أُخِّرَ لِمُنَاسَبَةِ الْفَاصِلَةِ بَعْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَقَوْلَهُ: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، فَهُمَا سَجْعَتَانِ مُتَنَاسِبَتَانِ؟ فَلِهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَانَ هَذَانِ التَّرْكِيبَانِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَضْعَيْنِ.
وَادْخُلُوا الْبابَ: الْخِلَافُ فِي نَصْبِ الْبَابَ كَالْخِلَافِ فِي نَصْبِ الْقَرْيَةَ، وَالْبَابُ أَحَدُ أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيُدْعَى الْآنَ: بَابُ حِطَّةَ، قاله ابن عباس أو الثَّامِنُ، مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيُدْعَى بَابُ التَّوْبَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ أَوْ بَابُ الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِدُخُولِهَا، أَوْ بَابُ الْقُبَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُوسَى وَهَارُونُ يَتَعَبَّدَانِ، أَوْ بَابٌ فِي الْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى. سُجَّداً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي ادْخُلُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَعْنَاهُ رُكَّعًا، وَعُبِّرَ عَنِ الرُّكُوعِ بِالسُّجُودِ، كَمَا يُعَبَّرُ عَنِ السُّجُودِ بِالرُّكُوعِ، قِيلَ: لِأَنَّ الْبَابَ كَانَ صَغِيرًا ضَيِّقًا يَحْتَاجُ الدَّاخِلُ فِيهِ إِلَى الِانْحِنَاءِ، وَبَعُدَ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ضَيِّقًا لَكَانُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى دُخُولِهِ رُكَّعًا، فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْأَمْرِ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْحَالُ لَازِمَةً بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الدُّخُولُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَالْحَالُ اللَّازِمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خُضَّعًا مُتَوَاضِعِينَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن أبي الفضل فِي الْمُنْتَخَبِ، وَنَذْكُرُ وَجْهَ اخْتِيَارِهِ لِذَلِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ السُّجُودُ الْمَعْرُوفُ مِنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمَعْنَى: ادْخُلُوا سَاجِدِينَ شُكْرًا لِلَّهِ تعالى، إذ ردهم إِلَيْهَا.
وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الدُّخُولِ حَالَ السُّجُودِ، فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَامْتَنَعَ ذَلِكَ، فَلَمَّا تعذر حمله عَلَى حَقِيقَةِ السُّجُودِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّوَاضُعِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَخَذُوا فِي التَّوْبَةِ، فَالتَّائِبُ عَنِ الذَّنْبِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَاشِعًا مُسْتَكِينًا، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ أَخْذَ الْحَالِ مُقَارَنَةٌ، فَتَعَذَّرَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ بِمُتَعَذِّرٍ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ أُمِرُوا بِالدُّخُولِ وَهُمْ سَاجِدُونَ، فَيَضَعُونَ جِبَاهَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَهُمْ دَاخِلُونَ. وَتَصْدُقُ الْحَالُ الْمُقَارِنَةُ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ إِذَا دَخَلُوا. وَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْحَالَ مُقَدَّرَةً فَيَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ السُّجُودَ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ مُتَرَاخِيًا عَنِ الدُّخُولِ، وَالْحَالُ الْمُقَدَّرَةُ مَوْجُودَةٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. مِنْ ذَلِكَ مَا فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ غَدًا. وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ السُّجُودِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِيهِ كَثِيرًا، وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ يَكُونُ الْحَالُ مُقَارِنَةً أَوْ مَقَدَّرَةً، كَانَ أَوْلَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمِرُوا بِالسُّجُودِ عِنْدَ
358
الِانْتِهَاءِ إِلَى الْبَابِ، شُكْرًا لِلَّهِ وَتَوَاضُعًا، وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مَدْلُولَ الْآيَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالسُّجُودِ فِي الْآيَةِ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْبَابِ، بَلْ أُمِرُوا بِالدُّخُولِ فِي حَالِ السُّجُودِ. فَالسُّجُودُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، بَلْ هُوَ قَيْدٌ فِي وُقُوعِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ الدُّخُولُ، وَالْأَحْوَالُ نِسَبٌ تَقْيِيدِيَّةٌ، وَالْأَوَامِرُ نِسَبٌ إِسْنَادِيَّةٌ، فَتَنَاقَضَتَا، إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ تَقْيِيدِيًّا إِسْنَادِيًّا، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ التَّقْيِيدِ لَا يَكْتَفِي كَلَامًا وَمِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادِ يَكْتَفِي، فَظَهَرَ التَّنَاقُضُ. وَفِي كَيْفِيَّةِ دُخُولِهِمُ الْبَابَ أَقْوَالٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: دَخَلُوا مِنْ قِبَلِ أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: دَخَلُوا مقنعي رؤوسهم، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دَخَلُوا عَلَى حُرُوفِ أَعْيُنِهِمْ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: دَخَلُوا مُسْتَلْقِينَ، وَقِيلَ: دَخَلُوا مُنْزَحِفِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ عِنَادًا وَكِبْرًا، وَالَّذِي ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ. فَاضْمَحَلَّتْ هَذِهِ التَّفَاسِيرُ، وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى تَفْسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: وَقُولُوا حِطَّةٌ، حطة: مفرد، وَمَحْكِيُّ الْقَوْلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً، فَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرٍ مُصَحِّحٍ لِلْجُمْلَةِ، فَقُدِّرَ مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ هَذَا تقديرا لحسن بْنِ أَبِي الْحَسَنِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: التَّقْدِيرُ دُخُولُنَا الْبَابَ كَمَا أُمِرْنَا حِطَّةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: التَّقْدِيرُ أَمْرُكَ حِطَّةٌ. وَقِيلَ:
التَّقْدِيرُ أَمْرُنَا حِطَّةٌ، أَيْ أَنْ نَحُطَّ فِي هذه القرية ونستقر فيها. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَصْلُ النَّصْبُ بِمَعْنَى حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا حِطَّةً، وَإِنَّمَا رُفِعَتْ لِتُعْطِيَ مَعْنَى الثَّبَاتَ كَقَوْلِهِ:
صَبْرٌ جَمِيلٌ فَكِلَانَا مُبْتَلَى وَالْأَصْلُ صَبْرًا. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَيُؤَكِّدُ هَذَا التَّخْرِيجَ قِرَاءَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ:
حِطَّةً بِالنَّصْبِ، كَمَا رُوِيَ:
صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى بِالنَّصْبِ. وَالْأَظْهَرُ مِنَ التَّقَادِيرِ السَّابِقَةِ فِي إِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ فِي تَعْلِيقِ الْغُفْرَانِ عَلَيْهِ هُوَ سُؤَالُ حَطِّ الذُّنُوبِ لَا شَيْءَ مِنْ تِلْكَ التَّقَادِيرِ الْأُخَرِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْإِضْمَارِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا ذُقْتُ فَاهًا قُلْتُ طَعْمُ مُدَامَةٍ مُعَتَّقَةٍ مِمَّا تَجِيءُ بِهِ التُّجُرُ
رُوِيَ بِرَفْعِ طَعْمُ عَلَى تَقْدِيرِ: هَذَا طَعْمُ مُدَامَةٍ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: ذُقْتُ طَعْمَ مذامة. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ حِطَّةٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ نصبها بقولوا عَلَى مَعْنَى قُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ؟ قُلْتُ: لَا يَبْعُدُ، انْتَهَى. وَمَا جَوَّزَهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ لِأَنَّ الْقَوْلَ
359
لَا يَعْمَلُ فِي الْمُفْرَدَاتِ، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى الْجُمَلِ لِلْحِكَايَةِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ، إلا إن كَانَ الْمُفْرَدُ مَصْدَرًا نَحْوَ: قُلْتُ قَوْلًا، أَوْ صِفَةً لِمَصْدَرٍ نَحْوَ: قُلْتُ حَقًّا، أَوْ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ جُمْلَةٍ نَحْوَ: قُلْتُ شِعْرًا وَقُلْتُ خُطْبَةً، عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ الشِّعْرَ وَالْخُطْبَةَ نَوْعَانِ مِنَ الْقَوْلِ، فَصَارَ كَالْقَهْقَرَى مِنَ الرُّجُوعِ، وَحِطَّةٌ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ. وَلِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ حِطَّةٌ مَنْصُوبَةً بِلَفْظِ قُولُوا، كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ وَعُرِّيَ مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَعْنَوِيِّ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْإِسْنَادُ الْمَعْنَوِيُّ. وَإِذَا كَانَ مِنَ الْإِسْنَادِ اللَّفْظِيِّ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى النُّطْقِ بِهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا إِلَّا مُجَرَّدُ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ بِالنُّطْقِ بِلَفْظٍ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْغُفْلِ الَّتِي لَمْ تُوضَعْ لِدَلَالَةٍ عَلَى مَعْنَى. وَيَبْعُدُ أَنْ يُرَتَّبَ الْغُفْرَانُ لِلْخَطَايَا عَلَى النُّطْقِ بِمُجَرَّدِ لَفْظٍ مُفْرَدٍ لَمْ يَدُلَّ بِهِ عَلَى مَعْنَى كَلَامٍ. أَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ حِطَّةٌ مُفْرَدٌ، وَأَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْحِكَايَةِ وَلَيْسَ مُقْتَطَعًا مِنْ جُمْلَةٍ، بَلْ أُمِرُوا بِقَوْلِهَا هَكَذَا مَرْفُوعَةً، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ لِأَنَّهُ يُبْقِي حِطَّةٌ مَرْفُوعًا بِغَيْرِ رَافِعٍ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ إِنَّمَا وُضِعَ فِي بَابِ الْحِكَايَةِ لِيُحْكَى بِهِ الْجُمَلُ لَا الْمُفْرَدَاتُ، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ النَّحْوِيُّونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ «١» إِلَى تَأْوِيلٍ، وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ:
سَمِعْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيْثًا
وَجَدْنَا فِي كِتَابِ بَنِي تَمِيمٍ أَحَقُّ الْخَيْلِ بِالرَّكْضِ الْمُعَارِ
فَلَيْسَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ سَمِعَ وَوَجَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ، لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ وَالْمَوْجُودَ فِي الْكِتَابِ قَدْ يَكُونُ مُفْرَدًا وَقَدْ يَكُونُ جُمْلَةً. وَأَمَّا الْقَوْلُ فَلَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى الْجُمَلِ، وَلَا يَقَعُ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ إِلَّا فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَلَيْسَ حِطَّةٌ مِنْهَا. وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي حِطَّةٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَوَهْبٌ: أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ وَقُولُوا هَذَا الْأَمْرَ الْحَقَّ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نَحْنُ لَا نَزَالُ تَحْتَ حُكْمِكَ مُمْتَثِلُونَ لِأَمْرِكَ، كَمَا يُقَالُ قَدْ حَطَطْتُ فِي فِنَائِكَ رَحْلِي. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ التَّقَادِيرُ فِي إِضْمَارِ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ قَبْلَ حِطَّةٌ وَهِيَ أَقَاوِيلُ لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ بِعَيْنِهَا، قِيلَ: وَالْأَقْرَبُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَرَبِيَّةٌ وَهُمْ مَا كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا، وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَقُولُوا قَوْلًا دَالًّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالْخُضُوعِ، حَتَّى لَوْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إليك، لكان
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٦٠.
360
الْخُضُوعُ حَاصِلًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّوْبَةِ أَمَّا بِالْقَلْبِ فَبِالنَّدَمِ وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَبِذِكْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ النَّدَمِ فِي الْقَلْبِ، وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذِكْرِ لَفْظَةٍ بِعَيْنِهَا.
يَغْفِرُ، نَافِعٌ: بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً، ابْنُ عَامِرٍ: بِالتَّاءِ، أَبُو بَكْرٍ مِنْ طَرِيقِ الْجُعْفِيِّ:
يَغْفِرْ، الْبَاقُونَ: نَغْفِرْ. فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً فَلِأَنَّ الْخَطَايَا مُؤَنَّثٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ وَإِذْ قُلْنَا ثُمَّ قَالَ: يَغْفِرْ، فَانْتَقَلَ مِنْ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ مُعَظِّمٍ نَفْسَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَقُولُوا، أَيْ نَغْفِرُ الْقَوْلَ وَنَسَبَ الْغُفْرَانَ إِلَيْهِ مَجَازًا لِمَا كَانَ سَبَبًا لِلْغُفْرَانِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالنُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ بَاقِي السَّبْعَةِ، فَهُوَ الْجَارِي عَلَى نِظَامِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنَا، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَسَنَزِيدُ، فَالْكَلَامُ بِهِ فِي أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ مِنَ السَّبْعَةِ إِلَّا بِلَفْظِ خَطاياكُمْ، وَأَمَالَهَا الْكِسَائِيُّ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ:
تَغْفِرْ بِفَتْحِ التَّاءِ، قِيلَ: كَأَنَّ الْحِطَّةَ تَكُونُ سَبَبَ الْغُفْرَانِ، يَعْنِي قَائِلُ هَذَا وَهُوَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ لِلْحِطَّةِ وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ نَفْسَ اللَّفْظَةِ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلْغُفْرَانِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ قَبْلُ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمَقَالَةِ الْمَفْهُومَةِ مَنْ: وَقُولُوا، وَنُسِبَ الْغُفْرَانُ إِلَيْهَا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَتْ سَبَبًا لِلْغُفْرَانِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَقَتَادَةُ: تُغْفَرْ بِضَمِّ التَّاءِ وَإِفْرَادِ الْخَطِيئَةِ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: يُغْفَرْ بِالْيَاءِ مَضْمُومَةً. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يَغْفِرْ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً وَإِفْرَادُ الْخَطِيئَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يَغْفِرْ بِالْيَاءِ مَفْتُوحَةً وَالْجَمْعِ الْمُسَلَّمِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: تُغْفَرْ بِالتَّاءِ مَضْمُومَةً وَبِالْجَمْعِ الْمُسَلَّمِ. وَحَكَى الْأَهْوَازِيُّ أَنَّهُ قَرَأَ: خَطَأْيَاكُمْ بِهَمْزِ الْأَلِفِ وَسُكُونِ الْأَلِفِ الْأَخِيرَةِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا الْعَكْسُ. وَتَوْجِيهُ هَذَا الْهَمْزِ أَنَّهُ اسْتَثْقَلَ النُّطْقَ بِأَلِفَيْنِ مَعَ أَنَّ الْحَاجِزَ حَرْفٌ مَفْتُوحٌ وَالْفَتْحَةُ تَنْشَأُ عَنْهَا الْأَلِفُ، فَكَأَنَّهُ اجْتَمَعَ ثَلَاثُ أَلِفَاتٍ، فَهَمَزَ إِحْدَى الْأَلِفَيْنِ لِيَزُولَ هَذَا الِاسْتِثْقَالُ، وَإِذْ كَانُوا قَدْ هَمَزُوا الْأَلِفَ الْمُفْرَدَةَ بَعْدَ فَتْحِهِ فِي قَوْلِهِ:
وَخِنْدِفٍ هَامَةُ هَذَا الْعَأْلَمِ فَلَأَنْ يَهْمِزُوا هَذَا أَوْلَى، وَهَذَا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْيَاءِ أَوِ التَّاءِ كَانَ:
خَطَايَاكُمْ، أَوْ خَطِيَّاتِكُمْ، أَوْ خَطِيَّتِكُمْ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ التَّاءِ أَوِ الْيَاءِ أَوْ بِالنُّونِ، كَانَ ذَلِكَ مَفْعُولًا، وَجُزِمَ هَذَا الْفِعْلُ لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «١»، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَهُنَا تقدمت
(١) سورة البقرة: ٢/ ٤٠.
361
أَوَامِرُ أَرْبَعَةٌ: ادْخُلُوا، فَكُلُوا، وَادْخُلُوا الْبابَ، وَقُولُوا حِطَّةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ جَوَابًا إِلَّا لِلْآخِرَيْنِ، وَعَلَيْهِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ تَرَتُّبَ الْغُفْرَانِ لَا يَكُونُ عَلَى دُخُولِ الْقَرْيَةِ وَلَا عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى دُخُولِ الْبَابِ لِتَقْيِيدِهِ بِالْحَالِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ وَهِيَ السُّجُودُ، وَبِقَوْلِهِ: وَقُولُوا حِطَّةٌ لِأَنَّ فِيهِ السُّؤَالَ بِحَطِّ الذُّنُوبِ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ الْمُنَاسَبَةِ وَلِلْمُجَاوَرَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى تَرَتُّبِ ذَلِكَ عَلَيْهَا مَا فِي الْأَعْرَافِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، نَغْفِرْ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ. فَرَتَّبَ الْغُفْرَانَ هُنَاكَ عَلَى قَوْلِهِمْ حِطَّةٌ، وَعَلَى دُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا، لِمَا تَضَمَّنَهُ الدُّخُولُ مِنَ السُّجُودِ. وَفِي تَخَالُفِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ وَأَنَّهَا لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ مِنَ الْجُمْهُورِ: بِإِظْهَارِ الرَّاءِ مِنْ نَغْفِرْ عِنْدَ اللَّامِ، وَأَدْغَمَهَا قَوْمٌ قَالُوا وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَسَنَزِيدُ: هُنَا بِالْوَاوِ، وَفِي الْأَعْرَافِ سَنَزِيدُ، وَالَّتِي فِي الْأَعْرَافِ مُخْتَصَرَةٌ. أَلَا تَرَى إِلَى سُقُوطِ رَغَدًا؟ وَالْوَاوُ مِنْ: وَسَنَزِيدُ، وَقَوْلُهُ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ «١»، بَدَلُ، فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ هُنَا، وَنَاسَبَ الْإِسْهَابَ هُنَا وَالِاخْتِصَارَ هُنَاكَ.
وَالزِّيَادَةُ ارْتِفَاعٌ عَنِ الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ، وَضِدُّهُ النَّقْصُ. الْمُحْسِنِينَ، قِيلَ: الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ، وَقِيلَ: الْمُحْسِنِينَ مِنْهُمْ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ من أحسن منهم بعد ذَلِكَ زِدْنَاهُ ثَوَابًا وَدَرَجَاتٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا مِنْهُمْ زِدْنَا فِي إِحْسَانِهِ، وَمَنْ كَانَ مُسِيئًا بَعْدَ ذَلِكَ زِدْنَاهُ ثَوَابًا وَدَرَجَاتٍ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا مِنْهُمْ زِدْنَا فِي إِحْسَانِهِ، وَمَنْ كَانَ مُسِيئًا مُخْطِئًا نَغْفِرُ لَهُ خَطِيئَتَهُ، وَكَانُوا عَلَى هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ دُخُولِهِمُ الْبَابَ سُجَّدًا وَقَوْلِهِمْ حِطَّةً يَغْفِرُ وَيُضَاعِفُ ثَوَابَ مُحْسِنِهِمْ. وَقِيلَ:
الْمُحْسِنُونَ مَنْ دَخَلَ، كَمَا أُمِرَ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْمُحْسِنِينَ إِمَّا مِنْ غَيْرِهِمْ أَوْ مِنْهُمْ. فَمِنْهُمْ إِمَّا مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْمَاضِي، أَيْ كَانَ مُحْسِنًا، أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ من أحسن منهم بعد، أَوْ فِي الْحَالِ، أَيْ وَسَنَزِيدُكُمْ بِإِحْسَانِكُمْ فِي امْتِثَالِكُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ دُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا وَالْقَوْلِ حِطَّةً. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ، وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى نَغْفِرْ فَتَكُونُ جَوَابًا، أَلَا تَرَاهَا جَاءَتْ مُنْقَطِعَةً عَنِ الْعَطْفِ فِي الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ سَنَزِيدُ؟ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةِ الإعرابية ترتيب عَلَى دُخُولِ الْبَابِ سُجَّدًا. وَالْقَوْلِ حِطَّةً، لَكِنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْإِخْبَارِ الْمَحْضِ الَّذِي لَمْ يُرَتَّبْ عَلَى شَيْءٍ قبله.
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٣٣ و ١٦٢، وسورة فصلت: ٤١/ ١٦.
362
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا: ظَاهِرُهُ انْقِسَامُهُمْ إِلَى ظَالِمِينَ وَغَيْرِ ظَالِمِينَ، وَأَنَّ الظَّالِمِينَ هُمُ الَّذِينَ بَدَّلُوا، فَإِنْ كَانَ كُلُّهُمْ بَدَّلُوا، كَانَ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِشْعَارًا بِالْعِلَّةِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَبَدَّلُوا، لَكِنَّهُ أَظْهَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى عِلَّةِ التَّبْدِيلِ، وَهُوَ الظُّلْمُ، أَيْ لَوْلَا ظُلْمُهُمْ مَا بَدَّلُوا، وَالْمُبْدَلُ بِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِقَوْلِهِمْ حِطَّةً. قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ: وَلَمَّا كَانَ مَحْذُوفًا نَاسَبَ إِضَافَةُ غَيْرَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ بَعْدَهَا. وَالَّذِي قِيلَ لَهُمْ هُوَ أَنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ، فَلَوْ لَمْ يُحْذَفْ لَكَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِقَوْلِهِمْ حِطَّةً قَوْلًا غَيْرَهُ، لَكِنَّهُ لَمَّا حُذِفَ أَظْهَرَ مُضَافًا إِلَيْهِ غَيْرَ لِيَدُلَّ، عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ هَذَا الْمُظْهَرُ، وَهُوَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ هُوَ عَلَى وَضْعِ بَدَلٍ إِذِ الْمَجْرُورُ هُوَ الزَّائِلُ، وَالْمَنْصُوبُ هُوَ الْحَاصِلُ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْقَوْلِ الَّذِي قَالُوهُ بَدَلَ أَنْ يَقُولُوا:
حِطَّةٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَوَهْبٌ وَابْنُ زَيْدٍ: حِنْطَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ، وَقِيلَ: حِنْطَةٌ بَيْضَاءُ مَثْقُوبَةٌ فِيهَا شَعْرَةٌ سَوْدَاءُ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ:
سُنْبُلَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: هَطَا شمهاثا، وَقِيلَ: حَطَى شمعاثا، وَمَعْنَاهَا فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ، وَقِيلَ: حِنْطَةٌ بَيْضَاءُ مَثْقُوبَةٌ فِيهَا شَعْرَةٌ. وَقِيلَ: حَبَّةٌ فِي شَعِيرَةٍ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ فِيهَا شَعِيرٌ،
وَقِيلَ: حِنْطَةٌ فِي شَعِيرٍ، رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: حَبَّةُ حِنْطَةٍ مَقْلُوَّةٍ فِي شَعْرَةٍ، وَقِيلَ: تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ النِّبَطِيَّةِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِخْفَافِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ غَيَّرُوا مَا شُرِعَ لَهُمْ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَالَّذِي
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ
، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَاطِّرَاحُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، وَلَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ لَحُمِلَ اخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ، فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ قَالَ: كَذَا، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: كَذَا، فَلَا يَكُونُ فِيهَا تَضَادٌّ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ وَضَعُوا مَكَانَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ قَوْلًا مُغَايِرًا لَهُ مُشْعِرًا بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا أُمِرُوا بِهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا يَكُونُ عنه غفران خطيآتهم. كُلُّ ذَلِكَ عَدَمُ مُبَالَاةٍ بِأَوَامِرِ اللَّهِ، فَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ النَّكَالَ.
فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً: كَرَّرَ الظَّاهِرَ السَّابِقَ زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ حَالِهِمْ وَإِشْعَارًا بِعِلِّيَّةِ نُزُولِ الرِّجْزِ. وَقَدْ أُضْمِرَ ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ فَقَالَ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ، لِأَنَّ الْمُضْمَرَ هُوَ الْمُظْهَرُ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: رُجْزًا بِضَمِّ الرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ فِي الرِّجْزِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الرِّجْزِ هُنَا، فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: طَاعُونٌ أَهْلَكَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَقَالَ وَهْبٌ: طَاعُونٌ عُذِّبُوا بِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ مَاتُوا بَعْدَ
363
ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ثَلْجٌ هَلَكَ بِهِ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظُلْمَةٌ وَمَوْتٌ مَاتَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَهَلَكَ سَبْعُونَ أَلْفًا عُقُوبَةً. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ وَلَمْ يُبَيَّنْ نَوْعُهُ، إِذْ لَا كَبِيرَ فَائِدَةٍ فِي تَعْلِيقِ النَّوْعِ. مِنَ السَّماءِ: إِنْ فُسِّرَ الرِّجْزُ بِالثَّلْجِ كَانَ كَوْنُهُ مِنَ السَّمَاءِ ظَاهِرًا، وَإِنْ فُسِّرَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا الْقَضَاءُ عَلَيْهِمْ، أَوْ مُبَالَغَةٌ فِي عُلُوِّهِ بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ. بِما كانُوا، مَا:
مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ بِكَوْنِهِمْ. يَفْسُقُونَ. وأجاز بعضهم أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَغَيْرُهُمَا بِكَسْرِ السِّينِ، وَهِيَ لُغَةٌ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا الْفِسْقُ هُوَ الظُّلْمُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَفَائِدَةُ التَّكْرَارِ التَّأْكِيدُ، لِأَنَّ الْوَصْفَ دَالٌّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّبْدِيلَ سَبَبُهُ الظُّلْمُ، وَأَنَّ إِنْزَالَ الرِّجْزِ سَبَبُهُ الظُّلْمُ أَيْضًا. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي مُسْلِمٍ: لَيْسَ مُكَرَّرَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظُّلْمَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الصَّغَائِرِ، رَبَّنا ظَلَمْنا «١»، وَمِنَ الْكَبَائِرِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «٢» وَالْفِسْقُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ الْكَبَائِرِ.
فَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِالظُّلْمِ أَوَّلًا وَصَفَهُمْ بِالْفِسْقِ الَّذِي هُوَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا اسْمَ الظُّلْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ وَنُزُولِ الرِّجْزِ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، لَا بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ بَلْ بِالْفِسْقِ الَّذِي فَعَلُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ، وَعَلَى هَذَا يَزُولُ التَّكْرَارُ.
انْتَهَى.
وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَتَرْتِيبُ الْعَذَابِ عَلَى هَذَا التَّبْدِيلِ عَلَى أَنَّ مَا وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ مِنَ الْأَقْوَالِ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا كانت الكلمة تسدّ سدّها، وَعَلَى هَذَا جَرَى الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى، وَفِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي تَجْوِيزِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ، وَفِي نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى. وَذَكَرُوا أَنَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ هُنَا، وَإِذْ قُلْنَا، وَفِي الْأَعْرَافِ: وَإِذْ قِيلَ «٣». وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ صُرِّحَ بِالْفَاعِلِ فِي الْبَقَرَةِ لِإِزَالَةِ الْإِبْهَامِ، وَحُذِفَ فِي الْأَعْرَافِ لِلْعِلْمِ بِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. الثَّانِي: قَالَ هُنَا: ادْخُلُوا، وَهُنَاكَ اسْكُنُوا. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الدُّخُولَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّكْنَى، فَذَكَرَ الدُّخُولَ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالسُّكْنَى فِي الْمُتَأَخِّرَةِ.
الثَّالِثُ: هُنَا خَطَايَاكُمْ، وَهُنَاكَ: خطيئتكم. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْخَطَايَا جَمْعُ كَثْرَةٍ، فَنَاسَبَ حَيْثُ قَرَنَ بِهِ مَا يَلِيقُ بِجُودِهِ، وَهُوَ غُفْرَانُ الْكَثِيرِ. وَالْخَطِيئَاتُ جَمْعُ قِلَّةٍ لَمَّا لَمْ يضف ذلك إلى
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٢٣.
(٢) سورة لقمان: ٣١/ ١٣.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٦١. [.....]
364
نَفْسِهِ. الرَّابِعُ: ذُكِرَ هُنَا: رَغَدًا وَهُنَاكَ: حُذِفَ. وَأُجِيبَ بِالْجَوَابِ قَبْلُ. الْخَامِسُ: هُنَا قُدِّمَ دُخُولَ الْبَابِ عَلَى الْقَوْلِ، وَهُنَاكَ عُكِسَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَالْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا مُذْنِبُونَ. فَاشْتِغَالُهُ بِحَطِّ الذَّنْبِ مُقَدَّمٌ عَلَى اشْتِغَالِهِ بِالْعِبَادَةِ، فَكُلِّفُوا بِقَوْلِ حِطَّةٍ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالدُّخُولِ وَغَيْرُ مُذْنِبِينَ. فَاشْتِغَالُهُ أَوَّلًا بِالْعِبَادَةِ ثُمَّ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ ثَانِيًا عَلَى سَبِيلِ هَضْمِ النَّفْسِ وَإِزَالَةِ الْعَجَبِ، فَلَمَّا احْتَمَلَ الِانْقِسَامَ ذُكِرَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سُورَةٍ بِأَيِّهِمَا بَدَأَ.
السَّادِسُ: إِثْبَاتُ الْوَاوِ فِي وَسَنَزِيدُ هُنَا، وَحَذْفُهَا هُنَاكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ أَمْرَانِ كَانَ الْمَجِيءُ بِالْوَاوِ مُؤْذِنًا بِأَنَّ مَجْمُوعَ الْغُفْرَانِ وَالزِّيَادَةِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَحَيْثُ تُرِكَتْ أَفَادَ تَوَزُّعَ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَالْغُفْرَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوْلِ، وَالزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ ادْخُلُوا. السَّابِعُ: لَمْ يَذْكُرْ هَاهُنَا مِنْهُمْ وَذَكَرَ هُنَاكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَوَّلَ الْقِصَّةِ فِي الْأَعْرَافِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْصِيصِ بِلَفْظِ مِنْ قَالَ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ «١»، فَذَكَرَ لَفْظَ مِنْ آخِرًا لِيُطَابِقَ آخِرُهُ أَوَّلَهُ، وَهُنَا لَمْ تُبْنَ الْقِصَّةُ عَلَى التَّخْصِيصِ. الثَّامِنُ: هُنَا فَأَنْزَلْنَا، وَهُنَاكَ:
فَأَرْسَلْنَا. وَأُجِيبَ بأن الإنزال مفيد حُدُوثَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَالْإِرْسَالَ يُفِيدُ تَسَلُّطَهُ عَلَيْهِمْ وَاسْتِئْصَالَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْدُثُ بِالْآخِرِ. التَّاسِعُ: هُنَا: يَفْسُقُونَ، وَهُنَاكَ: يَظْلِمُونَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ هُنَا كَوْنَ ذَلِكَ الظُّلْمِ فِسْقًا اكْتَفَى بِذِكْرِ الظُّلْمِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ هُنَا. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: بَنُو إِسْرَائِيلَ خَالَفُوا اللَّهَ فِي قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِالْمُجَازَاةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ، وَهُوَ امْتِنَاعُهُمْ عَنِ الدُّخُولِ بِصِفَةِ السُّجُودِ.
وَأَجَابَ بِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِأَمْرٍ، وَالْأَمْرُ قَوْلٌ فَحَصَلَ بِالْمُجَازَاةِ عَنِ الْقَوْلِ الْمُجَازَاةُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَالْجَزَاءُ هُنَا إِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ الْخَاصَّةِ، فَيَفْسُقُونَ يَحْتَمِلُ الْحَالَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي فَسَقُوا بِهَا، فَهُوَ مُضَارِعٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفَصِيحِ الْكَلَامِ.
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ: هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ التَّاسِعُ، وَهُوَ جَامِعٌ لِنِعَمِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِأَنَّهُ أَزَالَ عَنْهُمُ الْحَاجَةَ الشَّدِيدَةَ إِلَى الْمَاءِ، وَلَوْلَا هُوَ لَهَلَكُوا فِي التِّيهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْمَاءِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُمْ فِي مَفَازَةٍ مُنْقَطِعَةٍ. وَأَمَّا فِي الدِّينِ فَلِأَنَّهُ مَنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالِاسْتِسْقَاءُ طَلَبُ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَقِلَّتِهِ. وَقِيلَ: مَفْعُولُ اسْتَسْقَى مَحْذُوفٌ، أَيِ اسْتَسْقَى مُوسَى رَبَّهُ، فَيَكُونُ الْمُسْتَسْقَى مِنْهُ هُوَ الْمَحْذُوفُ، وَقَدْ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ كَمَا تَعَدَّى إليه في
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٩.
365
قَوْلِهِ: إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ «١»، أَيْ طَلَبُوا مِنْهُ السُّقْيَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: وَحَذْفُ الْمَفْعُولِ تَقْدِيرُهُ اسْتَسْقَى مَاءً، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْمُسْتَسْقَى، وَيَكُونُ الْفِعْلُ قَدْ تَعَدَّى إِلَيْهِ كَمَا تَعَدَّى إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:
«وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ».
وَيَحْتَاجُ إِثْبَاتُ تَعَدِّيهِ إِلَى اثْنَيْنِ إِلَى شَاهِدٍ من كلام العرب، كأن يُسْمَعُ مِنْ كَلَامِهِمْ:
اسْتُسْقَى زيد ربه الْمَاءَ، وَقَدْ ثَبَتَ تَعَدِّيهِ مَرَّةً إِلَى الْمُسْتَسْقَى مِنْهُ وَمَرَّةً إِلَى الْمُسْتَسْقَى، فَيَحْتَاجُ تَعَدِّيهِ إِلَيْهِمَا إِلَى ثَبْتٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنَ الِاسْتِسْقَاءِ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِمَكَانٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ إِذَا قُحِطُوا، وَمَا فَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَفْجِيرِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ فَوْقَ الْإِجَابَةِ بِالسُّقْيَاءِ وَإِنْزَالِ الْغَيْثِ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ هَذَا الِاسْتِسْقَاءُ فِي التِّيهِ حِينَ قَالُوا: مَنْ لَنَا بِكَذَا، إِلَى أَنْ قَالُوا:
مَنْ لَنَا بِالْمَاءِ، فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِضَرْبِ الْحَجَرِ. وَقِيلَ ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ الَّذِي انْفَلَقَ، وَقَعُوا فِي أَرْضٍ بَيْضَاءَ لَيْسَ فِيهَا ظِلٌّ وَلَا مَاءٌ، فَسَأَلُوا أَنْ يَسْتَسْقِيَ لهم، واللام في لِقَوْمِهِ لَامُ السَّبَبِ، أَيْ لِأَجْلِ قَوْمِهِ وَثَمَّ مَحْذُوفٌ يَتِمُّ بِهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، أَيْ لِقَوْمِهِ إِذْ عَطِشُوا، أَوْ مَا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَمَحْذُوفٌ آخَرُ: أَيْ فَأَجَبْنَاهُ. فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ قَالُوا: وَهَذِهِ الْعَصَا هِيَ الْمَسْئُولُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى «٢»، وَكَانَتْ فِيهَا خَصَائِصُ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهَا. قِيلَ: كَانَتْ نَبْعَةً، وَقِيلَ: عُلَّيْقِيُّ، وَهُوَ شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ، وَقِيلَ: مِنْ آسِ الْجَنَّةِ طُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، طُولُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَهَا شُعْبَتَانِ يَتَّقِدَانِ فِي الظُّلْمَةِ، وَكَانَ آدَمُ حَمَلَهَا مَعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَوَارَثَهَا أَصَاغِرُ عَنْ أَكَابِرَ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى شُعَيْبٍ، فَأَعْطَاهَا مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَرْعَاهُ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَخُذْ عَصًا، فَذَهَبَ إِلَى الْبَيْتِ، فَطَارَتْ هَذِهِ إِلَى يَدِهِ، فَأَمَرَهُ بِرَدِّهَا، فَأَخَذَ غَيْرَهَا، فَطَارَتْ إِلَى يَدِهِ، فَتَرَكَهَا لَهُ. وَقِيلَ: دَفَعَهَا إِلَيْهِ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي طَرِيقٍ مَدْيَنَ.
الْحَجَرَ: قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ حَجَرًا مُعَيَّنًا بَلْ أَيُّ حَجَرٍ ضَرَبَ انْفَجَرَ مِنْهُ الْمَاءُ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ، حَيْثُ يَنْفَجِرُ الْمَاءُ مِنْ أَيِّ حَجَرٍ ضَرَبَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ فَقَدَ مُوسَى عَصَاهُ مُتْنَا عَطَشًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: لَا تَقْرَعِ الْحِجَارَةَ، وكلمها تطعك لعلهم
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٦٠.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ١٧.
366
يَعْتَبِرُونَ، فَكَانَتْ تُطِيعُهُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا.
وَقَالِ وَهْبٌ: كَانَ يَقْرَعُ لَهُمْ أَقْرَبَ حَجَرٍ فَيَنْفَجِرُ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحَجَرِ لِلْجِنْسِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ حَجَرٌ مُعَيَّنٌ حَمَلَهُ مَعَهُ مِنَ الطُّورِ مُرَبَّعٌ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، يَنْبُعُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ، لِكُلِّ سبط عين تسبل فِي جَدْوَلٍ إِلَى السِّبْطِ الَّذِي أُمِرْتَ أَنْ تَسْقِيَهُمْ، وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ خَارِجًا عَنْ دَوَابِّهِمْ، وَسِعَةُ الْعَسْكَرِ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا. وَقِيلَ: حَجَرٌ أَهْبَطَهُ مَعَهُ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَوَارَثُوهُ حَتَّى وَقَعَ لِشُعَيْبٍ، فَدَفَعَهُ إِلَى مُوسَى مَعَ الْعَصَا. وَقِيلَ: هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ مُوسَى عَلَيْهِ ثَوْبَهُ حِينَ اغْتَسَلَ، إِذْ رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ، ففز، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بِأَمْرِ اللَّهِ ارْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ، فَإِنَّ لِي فِيهِ قُدْرَةً وَلَكَ فِيهِ مُعْجِزَةً، فَحَمَلَهُ فِي مِخْلَاةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: حَجَرٌ أَخَذَهُ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ خَفِيفٌ مُرَبَّعٌ مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ، لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، يَنْبُعُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثُ أَعْيُنٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ تَسِيلُ فِي جَدْوَلٍ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَضَعُهُ فِي مِخْلَاتِهِ، فَإِذَا احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ وَضَعَهُ وَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ. وَقِيلَ: كَانَ رُخَامًا فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ حُفْرَةٍ، تَنْبُعُ مِنْ كُلِّ حُفْرَةٍ عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ يَأْخُذُونَهُ، فَإِذَا فَرَغُوا ضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ فَذَهَبَ الْمَاءُ. وَقِيلَ: حَجَرٌ أَخَذَهُ مِنْ جَبَلِ زَبِيدٍ، طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: حَجَرٌ مِثْلُ رَأْسِ الشَّاةِ، يُلْقُونَهُ فِي جَانِبِ الْجَوَالِقِ إِذَا ارْتَحَلُوا، فِيهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثُ عُيُونٍ بَعْدَ أَنْ يَسْتَمْسِكَ مَاؤُهَا بَعْدَ رحلتهم، فإذا نزلوا قرعه مُوسَى بِعَصَاهُ فَعَادَتِ الْعُيُونُ بِحَسَبِهَا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقِيلَ حَجَرٌ يَحْمِلُهُ فِي مِخْلَاتِهِ، أَخَذَهُ، إِذْ قَالُوا: كَيْفَ بِنَا إِذَا أَفَضْنَا إِلَى أَرْضٍ لَيْسَتْ فِيهَا حجارة؟ فحيثما أنزلوا لقاه فَيَنْفَجِرُ مَاءً. وَقِيلَ: حَجَرٌ مِنَ الْكَذَّانِ فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، يَسْقِي كُلَّ يَوْمٍ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ، وَقِيلَ: حَجَرٌ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: حَجَرٌ مِثْلُ رَأْسِ الثَّوْرِ. وَقِيلَ:
حَجَرٌ كَانَ يَنْفَجِرُ لَهُمْ مِنْهُ الْمَاءُ، لَمْ يَكُونُوا يَحْمِلُونَهُ، بَلْ كَانُوا أَيَّ مَكَانٍ نَزَلُوا وَجَدُوهُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ فِي الْإِعْجَازِ وَأَبْلَغُ فِي الْخَارِقِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا قَضَوْا حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ انْدَرَسَتْ تِلْكَ الْعُيُونُ، فَإِذَا احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ انْفَجَرَتْ.
فَهَذِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْحَجَرِ، وَظَاهِرُهَا أَوْ ظَاهِرُ أَكْثَرِهَا التَّعَارُضُ. قَالَ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ: الْأَلْيَقُ أَنَّهُ الْحَجَرُ الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِيهِ حَرَكَةَ التَّنَقُّلِ وَالسَّعْيِ، أَوْ وَكَّلَ بِهِ مَلَكًا يَحْمِلُهُ وَلَا يُسْتَنْكَرُ ذَلِكَ. فَقَدْ صَحَّ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ».
وَقَدْ رَامَ هَذَا الرَّجُلُ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِأَنْ يَكُونَ الْحَجَرُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، بَلْ أَيُّ حَجَرٍ وَجَدَهُ ضَرَبَهُ، فَوَجَدَ مَرَّةً مُرَبَّعًا، وَمَرَّةً كَذَّانًا، وَمَرَّةً رخاما، وكذا باقيها. قَالَ: فَرَوَى الرَّاوِي صِفَةَ ذَلِكَ الْحَجَرِ الَّذِي ضَرَبَهُ فِي تِلْكَ
367
الْمَنْزِلَةِ قَالَ: فَيَزُولُ التَّغَايُرُ فِي الْكَيْفِيَّاتِ، وَيَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. وَهَذَا الْكَلَامُ كَمَا تَرَى. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْحَجَرَ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ حَجَرٍ فَيَكُونُ هَذَا مَعْهُودًا، وَأَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ لَمْ يَتَكَرَّرْ، لَا هُوَ وَلَا الضَّرْبُ وَلَا الِانْفِجَارُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَكَرِّرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْوَاحِدَةُ هِيَ الْمُتَحَقِّقَةُ.
فَانْفَجَرَتْ: الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «١» أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ وُجُودُ الِانْفِجَارِ مُرَتَّبًا عَلَى ضَرْبِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ يَتَفَجَّرُ دُونَ ضَرْبٍ، لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ فَائِدَةٌ، وَلَكَانَ تَرْكُهُ عِصْيَانًا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْفَاءَ فِي مِثْلِ: فَانْفَلَقَ، هِيَ الْفَاءُ الَّتِي فِي ضَرَبَ، وَأَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ، وَحَرْفُ الْعَطْفِ مِنَ الْمَعْطُوفِ حَتَّى يَكُونَ الْمَحْذُوفُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، إِذْ قَدْ أُبْقِيَتْ فَاؤُهُ وَحُذِفَتْ فَاءُ فَانْفَلَقَ، وَاتَّصَلَتْ بَانْفَلَقَ فَاءُ فَضَرَبَ تَكَلُّفٌ وَتَخَرُّصٌ عَلَى الْعَرَبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ الْفَاءُ حَيْثُ لَا مَعْطُوفَ بِالْفَاءِ مَوْجُودٌ، قَالَ تعالى: فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ «٢»، التَّقْدِيرُ:
فَأَرْسَلُوهُ فَقَالَ: فَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفُ، وَإِذَا جَازَ حَذْفُهُمَا مَعًا، فَلَأَنْ يَجُوزَ حَذْفُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَحْدَهُ أَوْلَى. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْفَاءَ لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ، بَلْ هِيَ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، قَالَ: فَإِنْ ضَرَبْتَ فَقَدِ انْفَجَرَتْ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ «٣»، وَهِيَ عَلَى هَذَا فَاءٌ فَصِيحَةٌ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي كَلَامٍ بَلِيغٍ، اه كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الرَّدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ، بِأَنَّ إِضْمَارَ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ هُنَاكَ، وَفِي قَوْلِهِ أَيْضًا إِضْمَارُ قَدْ: إِذْ يُقَدَّرُ، فَقَدْ تَابَ عَلَيْكُمْ، وَقَدِ انْفَجَرَتْ، وَلَا يَكَادُ يُحْفَظُ مِنْ لِسَانِهِمْ ذَلِكَ، إِنَّمَا تَكُونُ بِغَيْرِ فَاءٍ، أَوْ إِنْ دَخَلَتِ الْفَاءُ فَلَا بُدَّ مِنْ إِظْهَارِ قَدْ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَدْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا لَفْظًا وَمَعْنًى، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «٤»، وَإِذَا كَانَ مَاضِيًا لَفْظًا وَمَعْنًى، اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ بِنَفْسِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ، فَاحْتِيجَ إِلَى تَأْوِيلٍ وَإِضْمَارِ جَوَابِ شَرْطٍ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِانْفِجَارَ عَلَى مَا قُدِّرَ يَكُونُ مُتَرَتِّبًا عَلَى أَنْ يُضْرَبَ، وَإِذَا كَانَ مُتَرَتِّبًا على مستقبل، وجب
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٦٣.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٤٥ و ٤٦.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٥٤.
(٤) سورة فاطر: ٣٥/ ٤.
368
أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، وَإِذَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا امْتَنَعَ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ قَدِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ لَا تَدْخُلَ فِي شِبْهِ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى الْمَاضِي إِلَّا وَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَاضِيًا نَحْوَ الْآيَةِ، وَنَحْوَ قَوْلِهِمْ: إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ فَقَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَيْسَ هَذَا الْفِعْلُ بِدُعَاءٍ فَتَدْخُلُهُ الْفَاءُ فَقَطْ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْمَاضِي نَحْوَ: إِنْ زُرْتَنِي فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ.
وَأَيْضًا فَالَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الِانْفِجَارَ قَدْ وَقَعَ وَتَحَقَّقَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا «١»، وَجَعْلُهُ جَوَابَ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ يَجْعَلْهُ غَيْرَ وَاقِعٍ، إِذْ يَصِيرُ مُسْتَقْبَلًا لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ مُسْتَقْبَلٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ مُسْتَقْبَلٍ لَا يَقْتَضِي إِمْكَانَهُ فَضْلًا عَنْ وُجُودِهِ، فَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فَاسِدٌ فِي التَّرْكِيبِ الْعَرَبِيِّ، وَفَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَوَجَبَ طَرْحُهُ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: وَهِيَ عَلَى هَذَا فَاءٌ فَصِيحَةٌ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي كَلَامٍ بَلِيغٍ؟ وَجَاءَ هُنَا: انفجرت وفي الأعراف: فَانْبَجَسَتْ «٢»، فَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، انْفَجَرَ وَانْبَجَسَ وَانْشَقَّ مُتَرَادِفَاتٌ. وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَهُوَ أَنَّ الِانْبِجَاسَ هُوَ أَوَّلُ خُرُوجِ الْمَاءِ، وَالِانْفِجَارَ اتِّسَاعُهُ وَكَثْرَتُهُ. وَقِيلَ: الِانْبِجَاسُ خُرُوجُهُ مِنَ الصُّلْبِ، وَالِانْفِجَارُ خُرُوجُهُ مِنَ اللَّيِّنِ. وَقِيلَ: الِانْبِجَاسُ هُوَ الرَّشْحُ، وَالِانْفِجَارُ هُوَ السَّيَلَانُ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ.
مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَانْفَجَرَتْ، وَمِنْ هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَجَرِ الْمَضْرُوبِ، فَانْفِجَارُ الْمَاءِ كَانَ مِنَ الْحَجَرِ لَا مِنَ الْمَكَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ
، وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَأَمْكَنَ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الضَّرْبِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَهُ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ لِلسَّبَبِ، أَيْ فَانْفَجَرَتْ بِسَبَبِ الضَّرْبِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرْتَكَبَ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ إِلَّا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فِي التَّرْكِيبِ وَفِي الْمَعْنَى، إِذْ هُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ.
وَفِي هَذَا الِانْفِجَارِ مِنَ الْإِعْجَازِ ظُهُورُ نَفْسِ الْمَاءِ مَنْ حَجَرٍ لَا اتِّصَالَ لَهُ بِالْأَرْضِ، فَتَكُونُ مَادَّتُهُ مِنْهَا، وَخُرُوجُهُ كَثِيرًا مِنْ حَجَرٍ صَغِيرٍ، وَخُرُوجُهُ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ، وَخُرُوجُهُ عِنْدَ الضَّرْبِ بِالْعَصَا، وَانْقِطَاعُهُ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ.
اثْنَتا عَشْرَةَ: التَّاءُ فِي اثْنَتَا لِلتَّأْنِيثِ، وَفِي ثِنْتَا لِلْإِلْحَاقِ، وَهَذِهِ نَظِيرُ ابْنَةٍ وَبِنْتٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَشْرَةَ بِسُكُونِ الشِّينِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى، ويحيى بن وثاب،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٦٠.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٦٠.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٧٤.
369
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَيَزِيدُ: بِكَسْرِ الشِّينِ. وَرَوَى ذَلِكَ نُعَيْمٌ السَّعِيدِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْإِسْكَانُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ، وَكَسْرُهُمْ لَهَا نَادِرٌ فِي قِيَاسِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُخَفِّفُونَ فَعِلًا، يَقُولُونَ فِي نَمِرٍ: نِمْرٌ. وَقَرَأَ ابْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ، وَالْأَعْمَشُ: بِفَتْحِ الشِّينِ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ: الْإِسْكَانُ، وَالْكَسْرُ أَيْضًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَتْحُ لُغَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: فَتْحُ الشِّينِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لُغَةً، وَقَدْ نَصَّ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ فَتْحَ الشين شاذ، وعشرة فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالْإِضَافَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ النُّونِ، فَهُوَ مِمَّا أُعْرِبَ فِيهِ الصَّدْرُ وَبُنِيَ الْعَجُزُ. أَلَا تَرَى أَنَّ اثْنَتَيْ مُعْرَبٌ إِعْرَابَ الْمُثَنَّى لِثُبُوتِ أَلِفِهِ رَفْعًا وَانْقِلَابِهَا نَصْبًا وَجَرًّا، وَأَنَّ عَشْرَةَ مَبْنِيٌّ؟ وَلَمَّا تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ نُونِ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ إِضَافَتُهَا، فَلَا يُقَالُ: اثْنَتَا عَشْرَتَكَ. وَفِي مَحْفُوظِي أَنَّ ابْنَ دَرَسْتَوَيْهِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اثْنَا وَاثْنَتَا وَثِنْتَا مَعَ عَشْرٍ مَبْنِيٌّ، وَلَمْ يَجْعَلْ الِانْقِلَابَ دَلِيلَ الْإِعْرَابِ.
عَيْناً: مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَإِفْرَادُ التَّمْيِيزِ الْمَنْصُوبِ فِي بَابِ الْعَدَدِ لَازِمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنَّ يَكُونَ جَمْعًا، وَكَانَ هَذَا الْعَدَدُ دُونَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا، وَكَانَ بَيْنَهُمْ تَضَاغُنٌ وَتَنَافُسٌ، فَأَجْرَى اللَّهُ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنًا يَرِدُهُ، لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ السِّبْطِ الْآخَرِ، وَذِكْرُ هَذَا الْعَدَدِ دُونَ غَيْرِهِ يُسَمَّى التَّخْصِيصَ عِنْدَ أَهْلِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ لِمَعْنًى فِيهِ لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى «١»، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ فِيهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي مَوْضِعِهَا، وَقَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
يُذَكِّرُنِي طُلُوعُ الشَّمْسِ صَخْرًا وَأَنْدُبُهُ بِكُلِّ مَغِيبِ شَمْسِ
اخْتَصَّتْهُمَا مِنْ دُونِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ لِلْغَارَةِ وَالْقِرَى. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللَّطَائِفِ: خَلَقَ اللَّهُ الْحِجَارَةَ وَأَوْدَعَهَا صَلَابَةً يُفَرَّقُ بِهَا أَجْزَاءٌ كَثِيرَةٌ مِمَّا صَلُبَ مِنَ الْجَوَامِدِ، وَخَلَقَ الْأَشْجَارَ رَطْبَةَ الْغُصُونِ، لَيْسَتْ لَهَا قُوَّةُ الْأَحْجَارِ، فَتُؤَثِّرُ فِيهَا تَفْرِيقًا بأجزائها ولا تفجيرا لعيون مائها، بَلِ الْأَحْجَارُ تُؤَثِّرُ فِيهَا. فَلَمَّا أُيِّدَتْ بِقُوَّةِ النُّبُوَّةِ، انْفَلَقَتْ بِهَا الْبِحَارُ، وَتَفَرَّقَتْ بِهَا أَجْزَاءُ الْأَحْجَارِ، وَسَالَتْ بِهَا الْأَنْهَارُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ «٢».
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ: جُمْلَةُ اسْتِئْنَافٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنْهُمْ قَدْ صَارَ لَهُ مَشْرَبٌ يَعْرِفُهُ فَلَا يَتَعَدَّاهُ لِمَشْرَبِ غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِحِكْمَةِ الِانْقِسَامِ إِلَى اثْنَتَيْ عشرة
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٤٩.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٣، وسورة النور: ٢٤/ ٤٤.
370
عينا، وتنبيه عليها. وعلم هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ لِوَاحِدٍ أُجْرِيَتْ مَجْرَى عَرَفَ، وَاسْتِعْمَالُهَا كَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَلِسَانِ العرب. وكل أُنَاسٍ مَخْصُوصٌ بِصِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ اسْتَسْقَى لَهُمْ. وَالْمَشْرَبُ هُنَا مَكَانُ الشُّرْبِ وَجِهَتُهُ الَّتِي يَجْرِي مِنْهَا الْمَاءُ. وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَشْرُوبِ وَهُوَ الْمَاءُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَكَانِ بِالْوَضْعِ، وَدَلَالَتَهُ عَلَى الْمَاءِ بِالْمَجَازِ، وَهُوَ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِهِ وَإِضَافَةُ الْمَشْرَبِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَخَصَّصَ كُلُّ مَشْرَبٍ بِمَنْ تَخَصَّصَ بِهِ صَارَ كَأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ فِي مَشْرَبِهِمْ عَلَى مَعْنَى كُلُّ لَا عَلَى لَفْظِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى لَفْظِهَا، فَيُقَالُ: مَشْرَبَهُ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعْنَى هُنَا لَازِمَةٌ، لِأَنَّ كُلُّ قَدْ أُضِيفَتْ إِلَى نَكِرَةٍ، وَمَتَى أُضِيفَتْ إِلَى نَكِرَةٍ وَجَبَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى، فَتُطَابِقُ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ فِي عَوْدِ ضَمِيرٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «١»، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ وَنَحْنُ حَلَلْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ
وَقَالَ:
وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ دُوَيْهِيَّةُ تَصْفَرُّ مِنْهَا الْأَنَامِلُ
وَقَالَ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «٢»، وَتَقُولُ: كُلُّ رَجُلَيْنِ يَقُولَانِ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مُرَاعَاةُ لَفْظِ كُلُّ، وَثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَشْرَبُهُمْ مِنْهَا: أَيْ مِنَ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا. وَنُصَّ عَلَى الْمَشْرَبِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانَ سَرْدُ الْكَلَامِ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ عَيْنَهُمْ، لَكِنْ فِي ذِكْرِ الْمَشْرَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَسْوِيغِ الشُّرْبِ لَهُمْ مِنْهَا أُنْشِئَ لَهُمُ الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالشُّرْبِ مِنْ هَذِهِ الْعُيُونِ، أَوْ أُمِرُوا بِالدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ غَيْرِ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ بِالْوَاقِعِ أَمْرٌ بِدَوَامِهِ، كَقَوْلِكَ لِلْقَائِمِ: قُمْ. كُلُوا وَاشْرَبُوا: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ، أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ، وَهَذَا الْأَمْرُ أَمْرُ إِبَاحَةٍ. قَالَ السُّلَمِيُّ: مَشْرَبُ كُلِّ أَحَدٍ حَيْثُ أَنْزَلَهُ رَائِدُهُ، فَمَنْ رَائِدُهُ نَفْسُهُ مَشْرَبُهُ الدُّنْيَا، أَوْ قَلْبُهُ فَمَشْرَبُهُ الْآخِرَةُ، أَوْ سِرُّهُ فَمَشْرَبُهُ الْجَنَّةُ، أَوْ رُوحُهُ فَمَشْرَبُهُ السَّلْسَبِيلُ، أَوْ رَبُّهُ فَمَشْرَبُهُ الْحَضْرَةُ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ حَيْثُ يَقُولُ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «٣»، طَهَّرَهُمْ بِهِ عَنْ كُلِّ مَا سواه، وبدىء بِالْأَكْلِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ أَوَّلًا، وَثَنَّى بِالشُّرْبِ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَيْهِ حَاصِلٌ عَنِ الْأَكْلِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى مُتَقَدِّمٌ عَلَى انْفِجَارِ الْمَاءِ.
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٧١.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٥. [.....]
(٣) سورة الإنسان: ٧٦/ ٢١.
371
مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، مِنْ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. وَلَمَّا كَانَ مَأْكُولُهُمْ وَمَشْرُوبُهُمْ حَاصِلَيْنِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ مِنْهُمْ وَلَا تَكَلُّفٍ، أُضِيفَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْتِفَاتٌ، إِذْ تَقَدَّمَ فَقُلْنَا: اضْرِبْ، وَلَوْ جَرَى عَلَى نَظْمٍ وَاحِدٍ لَقَالَ: مِنْ رِزْقِنَا، إِلَّا إِنْ جَعَلْتَ الْإِضْمَارَ قَبْلَ كُلُوا مُسْنَدًا إِلَى مُوسَى، أَيْ وَقَالَ مُوسَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا فَلَا يَكُونُ فيه التفات، ومن رِزْقِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاشْرَبُوا، وَهُوَ مِنْ إِعْمَالِ الثَّانِي عَلَى طَرِيقَةِ اخْتِيَارِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ إِعْمَالِ الْأَوَّلِ لَأُضْمِرَ فِي الثَّانِي مَا يَحْتَاجُهُ، فَكَانَ يَكُونُ: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْهُ، مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ مِنْهُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ عَلَى مَا نَصَّ بَعْضُهُمْ، وَالضَّرُورَةُ وَالْقَلِيلُ لَا يُحْمَلُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَالرِّزْقُ هُنَا هُوَ الْمَرْزُوقُ، وَهُوَ الطَّعَامُ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالْمَشْرُوبُ مِنْ مَاءِ الْعُيُونِ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَاءُ يَنْبُتُ مِنْهُ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَهُوَ رِزْقٌ يُؤْكَلُ مِنْهُ وَيُشْرَبُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَكُونُ فِيهِ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِأَنَّ الشُّرْبَ مِنَ الْمَاءِ حَقِيقَةٌ، وَالْأَكْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّا نَشَأَ مِنَ الْمَاءِ، لَا أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْمَاءِ حَقِيقَةٌ، فَحَمْلُ الرِّزْقِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْقَوْلِ.
وَلَمَّا كَانَ مَطْعُومُهُمْ وَمَشْرُوبُهُمْ لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا تَعَبَ فِي تَحْصِيلِهِ حَسُنَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيعُ الْأَرْزَاقِ مَنْسُوبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تَسَبَّبَ الْعَبْدُ فِي كَسْبِهَا أَمْ لَا، وَاخْتُصَّ بِالْإِضَافَةِ لِلَفْظِ اللَّهِ، إِذْ هُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ الَّذِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، الْجَامِعُ لِسَائِرِ الْأَسْمَاءِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ «١»، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ «٢»، أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «٣»، ومَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «٤»، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ «٥» ؟ وَاحْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ هُوَ الْحَلَالُ، لِأَنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْإِبَاحَةِ، وَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الرِّزْقُ مُبَاحًا، فَلَوْ وُجِدَ رِزْقٌ حَرَامٌ لَكَانَ الرِّزْقُ مُبَاحًا وَحَرَامًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَالْجَوَابُ: إِنَّ الرِّزْقَ هُنَا لَيْسَ بِعَامٍّ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى وَالْمَاءُ الْمُنْفَجِرُ مِنَ الْحَجَرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّيَّةِ مُعَيَّنٍ مَا مِنْ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ حِلِّيَّةُ جَمِيعِ الرِّزْقِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ على جَوَازِ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الطَّعَامِ، وَشُرْبِ الْمُسْتَلَذِّ مِنَ الشَّرَابِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ اللَّوْنَيْنِ وَالْمَطْعُومَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِشَرْطِ الْحِلِّ.
وَقَدْ صَحَّ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ
، وَأَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ الْعَذْبَ، وَكَانَتْ تُنْبَذُ لَهُ فِيهِ التَّمَرَاتِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْقِثَّاءِ وَالرُّطَبِ، وَسَقَى بَعْضَ نِسَائِهِ الْمَاءَ. وقد نقل
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٤٠.
(٢) سورة سبأ: ٣٤/ ٢٤.
(٣) سورة النمل: ٢٧/ ٦٤.
(٤) سورة يونس: ١٠/ ٣١.
(٥) سورة النمل: ٢٧/ ٦٠- ٦٤.
372
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَ اللَّذِيذَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّهِيَّ مِنَ الشَّرَابِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ: لَمَّا أُمِرُوا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، وَلَمْ يُقَيَّدْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ وَلَا مِقْدَارٍ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ، كَانَ ذَلِكَ إِنْعَامًا وَإِحْسَانًا جَزِيلًا إِلَيْهِمْ، وَاسْتَدْعَى ذَلِكَ التَّبَسُّطَ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ، وَالْقُوَّةُ الِاسْتِعْلَائِيَّةُ. نَهَاهُمْ عَمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَنْشَأَ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْفَسَادُ، حَتَّى لَا يُقَابِلُوا تِلْكَ النِّعَمَ بِمَا يُكْفِرُهَا، وَهُوَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: مَعْنَاهُ وَلَا تَسْعَوْا. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَا تَسِيرُوا. وَقِيلَ: لَا تَتَظَالَمُوا الشُّرْبَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، لِأَنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنْكُمْ قَدْ جُعِلَ لَهُ شِرْبٌ مَعْلُومٌ. وَقِيلَ: معناه: لا تؤخروا الغذاء، فَكَانُوا إِذَا أَخَّرُوهُ فَسَدَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تُخَالِطُوا الْمُفْسِدِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَتَمَادَوْا فِي فَسَادِكُمْ. وَقِيلَ: لَا تَطْغَوْا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. فِي الْأَرْضِ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا أَرْضُ التِّيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَهَا وَغَيْرَهَا مِمَّا قدر أن يوصلوا إِلَيْهَا فَيَنَالَهَا فَسَادُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْأَرَضِينَ كُلَّهَا. وأل: لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ. وَيَكُونُ فَسَادُهُمْ فِيهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كَثْرَةَ الْعِصْيَانِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ وَالْبَطَرَ يُؤْذِنُ بِانْقِطَاعِ الْغَيْثِ وَقَحْطِ الْبِلَادِ وَنَزْعِ الْبَرَكَاتِ، وَذَلِكَ انْتِقَامٌ يَعُمُّ الْأَرْضَ بِالْفَسَادِ. مُفْسِدِينَ: حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ اسْتَسْقى الْآيَةَ أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَاءِ مِنَ الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ كَانَ قَادِرًا عَلَى إَرْوَائِهِمْ بِغَيْرِ مَاءٍ، وَلَكِنْ لِإِظْهَارِ أَثَرِ الْمُعْجِزَةِ فِيهِ، وَاتِّصَالِ مَحَلِّ الِاسْتِعَانَةِ إِلَيْهِ، وَلِيَكُونَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي فَضْلِ الْحَجَرِ مَعَ نَفْسِهِ شُغْلٌ، وَلِتَكْلِيفِهِ أَنْ يَضْرِبَ بِالْعَصَا، نَوْعٌ مِنَ الْمُعَالَجَةِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ سِبْطٍ جَارِيًا عَلَى سُنَنِهِ، غَيْرَ مُزَاحِمٍ لِصَاحِبِهِ، وَحِينَ كَفَاهُمْ مَا طَلَبُوهُ أَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ وَحِفْظِ الْأَمْرِ وَتَرْكِ احْتِقَابِ الْوِزْرِ، فَقَالَ: وَلا تَعْثَوْا. وَالْمَنَاهِلُ مُخْتَلِفَةٌ، وَكُلٌّ يَرِدُ مَشْرَبَهُ: فَمَشْرَبٌ فُرَاتٌ، وَمَشْرَبٌ أُجَاجٌ، وَمَشْرَبٌ صَافٍ، وَمَشْرَبٌ رَنْقٌ، وَسِيَاقُ كُلِّ قَوْمٍ يَقُودُهُمْ، فَالنُّفُوسُ تَرِدُ مَنَاهِلَ الْمُنَى، وَالْقُلُوبُ تَرِدُ مَشَارِبَ التُّقَى، وَالْأَرْوَاحُ تَرِدُ مَنَاهِلَ الْكَشْفِ، وَالْمُشَاهَدَاتُ وَالْأَسْرَارُ تَرِدُ مَنَاهِلَ الْحَقَائِقِ بِالِاخْتِطَافِ مِنْ حَقِيقَةِ الْوَحْدَةِ وَالذَّاتِ. انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا.
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ: لَمَّا سَئِمُوا مِنَ الْإِقَامَةِ فِي التِّيهِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى مَأْكُولٍ وَاحِدٍ، لِبُعْدِهِمْ عَنِ الْأَرْضِ الَّتِي أَلِفُوهَا، وَعَنِ الْعَوَائِدِ الَّتِي عَهِدُوهَا،
373
أَخْبَرُوا عَمَّا وَجَدُوهُ مِنْ عَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَتَشَوُّفِهِمْ إِلَى مَا كَانُوا يَأْلَفُونَ، وَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُمْ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الظَّاهِرِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ كَانَ مَعْصِيَةً، قَالُوا:
لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا إِنْزَالَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَتِلْكَ الْكَرَاهَةُ مَعْصِيَةٌ، وَلِأَنَّ مُوسَى وَصَفَ مَا سَأَلُوهُ بِأَنَّهُ أَدْنَى وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: أَتَسْتَبْدِلُونَ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَالْجَوَابُ، أَنَّ قولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِهِ فَقَطْ، بَلِ اشْتَهَوْا أَشْيَاءَ أُخَرَ. وَأَمَّا الْإِنْكَارُ فَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْأَنْفَعِ فِي الدُّنْيَا، أَوِ الْأَنْفَعِ فِي الْآخِرَةِ.
وَأَمَّا الْخَيْرِيَّةُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَانَ سُؤَالًا مُبَاحًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، عِنْدَ إِنْزَالِ الْمَنِّ وَتَفْجِيرِ الْعَيْنِ لَيْسَ بِإِيجَابٍ بَلْ هُوَ إِبَاحَةٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ مَعْصِيَةً لِأَنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ صُنُوفٌ مِنَ الطَّعَامِ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَسْأَلَ غَيْرَهَا، إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ. وَلَمَّا كَانَ سُؤَالُ النَّبِيِّ أقرب للإجابة، سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ النَّوْعَ الْوَاحِدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُمَلُّ وَيُشْتَهَى إِذْ ذَاكَ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّهُمْ مَا تَعَوَّدُوا ذَلِكَ النَّوْعَ. وَرَغْبَةُ الْإِنْسَانِ فِيمَا اعْتَادَهُ، وَإِنْ كَانَ خَسِيسًا، فَوْقَ رَغْبَةِ مَا لَمْ يَعْتَدْهُ، وَإِنْ كَانَ شَرِيفًا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِانْتِقَالِهِمْ عَنِ التِّيهِ الَّذِي مَلُّوهُ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَطْعِمَةَ لَا تُوجَدُ فِيهِ، فَأَرَادُوا الْحُلُولَ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ سَبَبٌ لِنَقْصِ الشَّهْوَةِ وَضَعْفِ الْهَضْمِ وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ، وَالِاسْتِكْثَارُ مِنَ الْأَنْوَاعِ بِعَكْسِ ذَلِكَ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ تَبْدِيلَ نَوْعٍ بِنَوْعٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ هُوَ كَالْإِجَابَةِ لِمَا طَلَبُوا. وَلَوْ كَانُوا عَاصِينَ فِي ذَلِكَ السُّؤَالِ لَكَانَتِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مَعْصِيَةً، وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَوَصَفَ الطَّعَامَ بِوَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ طَعَامَيْنِ، لِأَنَّهُ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى اللَّذَانِ رُزِقُوهُمَا فِي التِّيهِ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْوَاحِدِ مَا لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَبَدَّلُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَائِدَةِ الرَّجُلِ أَلْوَانٌ عَدِيدَةٌ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ لَا يُبَدِّلُهَا قِيلَ: لَا يَأْكُلُ فُلَانٌ إِلَّا طَعَامًا وَاحِدًا، يُرَادُ بِالْوَحْدَةِ نَفْيُ التَّبَدُّلِ وَالِاخْتِلَافِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُوا أَنَّهُمَا ضَرْبٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا مَعًا مِنْ طَعَامِ أَهْلِ التَّلَذُّذِ وَالسَّرَفِ، وَنَحْنُ قَوْمُ فِلَاحَةٍ أَهْلُ زِرَاعَاتٍ، فَمَا نُرِيدُ إِلَّا مَا أَلِفْنَاهُ وَضَرَيْنَا بِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ، كَالْحُبُوبِ وَالْبُقُولِ وَنَحْوِهِمَا. ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَعْنَى الْوَاحِدِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ:
أَعَادَ عَلَى لَفْظِ الطَّعَامِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ لَا عَلَى مَعْنَاهُ. وَقِيلَ: كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى مُخْتَلِطَيْنِ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ اللَّوْنِ الَّذِي يَجْمَعُ أَشْيَاءَ وَيُسَمَّى لَوْنًا وَاحِدًا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ: وَقِيلَ:
374
كَانَ طَعَامُهُمْ يَأْتِيهِمْ بِصِفَةِ الْوَحْدَةِ، نَزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنُّ فَأَكَلُوا مِنْهُ مُدَّةً حَتَّى سَئِمُوهُ وَمَلُّوهُ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ السَّلْوَى فَأَكَلُوهَا مُدَّةً وَحْدَهَا. وَقِيلَ: أَرَادُوا بِالطَّعَامِ الْوَاحِدِ السَّلْوَى، لِأَنَّ الْمَنَّ كَانَ شَرَابًا، أَوْ شَيْئًا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ، وَمَا كَانُوا يَعُدُّونَ طَعَامًا إِلَّا السَّلْوَى.
وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنْهُمَا بِالْوَاحِدِ، كَمَا عَبَّرَ بِالْاثْنَيْنِ عَنِ الْوَاحِدِ نَحْوَ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «١»، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمِلْحُ دُونَ الْعَذْبِ. وَقِيلَ: قَالُوا ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ أَحَدِهِمَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى أَنَّنَا كُلَّنَا أَغْنِيَاءُ، فَلَا يَسْتَعِينُ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، وَيَكُونُ قَدْ كَنَى بِالطَّعَامِ الْوَاحِدِ عَنْ كَوْنِهِمْ نَوْعًا وَاحِدًا، وَهُوَ كَوْنُهُمْ ذَوِي غِنًى، فَلَا يَخْدُمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَذَلِكَ كَانُوا فِي التِّيهِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهُ عَادُوا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَقْرِ بَعْضٍ وَغِنَى بَعْضٍ. فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلى طَعامٍ واحِدٍ.
فَادْعُ لَنا رَبَّكَ: مَعْنَاهُ: اسْأَلْهُ لَنَا، وَمُتَعَلِّقُ الدُّعَاءِ مَحْذُوفٌ، أَيِ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِأَنْ يُخْرِجَ كَذَا وَكَذَا. وَلُغَةُ بَنِي عَامِرٍ: فَادْعِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، جَعَلُوا دَعَا مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، كَرَمَى يَرْمِي، وَإِنَّمَا سَأَلُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوهُ وَلَمْ يدعوا هم، لِأَنَّ إِجَابَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَقْرَبُ مِنْ إِجَابَةِ غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: رَبَّكَ، وَلَمْ يَقُولُوا: رَبَّنَا، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِصَاصِ بِهِ مَا لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ مُنَاجَاتِهِ وَتَكْلِيمِهِ وَإِتْيَانِهِ التَّوْرَاةَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: ادْعُ لَنَا الَّذِي هُوَ مُحْسِنٌ لَكَ، فَكَمَا أَحْسَنَ إِلَيْكَ فِي أَشْيَاءَ، كَذَلِكَ نَرْجُو أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْنَا فِي إِجَابَةِ دُعَائِكَ. يُخْرِجْ لَنا: جَزْمُهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ادْعُ، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «٢». وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَقُلْ لَهُ أَخْرِجْ فَيُخْرِجْ، مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ أَخْرِجْ. وَقِيلَ: جُزِمَ يُخْرِجْ بِلَامٍ مُضْمَرَةٍ، وَهِيَ لَامُ الطَّلَبِ، أَيْ لِيُخْرِجْ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ: مَفْعُولُ يخرج محذوف ومن تَبْعِيضِيَّةٌ: أَيْ مَأْكُولًا مِمَّا تُنْبِتُ، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ زَائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: مَا تُنْبِتُ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، تُنْبِتُهُ، وَفِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً تَقْدِيرُهُ: مِنْ إِنْبَاتِ الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُقَدَّرَ لَا يُوصَفُ بِالْإِنْبَاتِ، لِأَنَّ الْإِنْبَاتَ مَصْدَرٌ، وَالْمَحْذُوفَ جَوْهَرٌ، وَإِضَافَةَ الْإِنْبَاتِ إِلَى الْأَرْضِ مَجَازٌ، إِذِ الْمُنْبِتُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ فِيهَا قَابِلِيَّةَ الْإِنْبَاتِ نَسَبَ الْإِنْبَاتَ إِلَيْهَا.
مِنْ بَقْلِها: هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، عَلَى إِعَادَةِ حَرْفِ الجرّ،
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٤٠.
375
وَهُوَ فَصِيحٌ فِي الْكَلَامِ، أَعْنِي أَنْ يُعَادَ حَرْفُ الجرّ في البدل. فمن عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَبْعِيضِيَّةٌ، كَهِيَ فِي مِمَّا تُنْبِتُ، ويتعلق بيخرج، إِمَّا الْأُولَى، وَإِمَّا أُخْرَى مُقَدَّرَةٌ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْعَامِلِ فِي الْبَدَلِ، هَلْ هُوَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ، أَوْ ذَلِكَ عَلَى تَكْرَارِ الْعَامِلِ؟ وَالْمَشْهُورُ هَذَا الثَّانِي، وَأَجَازَ الَمَهْدَوِيُّ أَيْضًا، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَقْلِها لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا الَمَهْدَوِيُّ بِأَنَّهَا لِلتَّخْصِيصِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
مَوْضِعُهَا نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ كَائِنًا مِنْ بَقْلِهَا، وَقَدَّمَ ذِكْرَ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا الْأَوْلَى بِإِعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَأَمَّا الَمَهْدَوِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ فَزَعَمَا مَعَ قَوْلِهِمَا: إِنَّ مِنْ فِي مِنْ بَقْلِها بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِمَّا تُنْبِتُ لِلتَّبْعِيضِ، ومن في قوله مِنْ بَقْلِها عَلَى زَعْمِهِمَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ مَدْلُولُ الْحَرْفَيْنِ، وَاخْتِلَافُ ذَلِكَ كَاخْتِلَافِ الْحَرْفَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ الْبَدَلُ إِلَّا إِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّعَ الْقَوْلُ بِالْبَدَلِ عَلَى كَوْنِهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَالْمُخْتَارُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَوْنِ مِنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَمَّا أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَقَدْ أَبَاهُ أَصْحَابُنَا وَتَأَوَّلُوا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مُثْبِتُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَقْلِ هُنَا: أَطَايِبُ الْبُقُولِ الَّتِي يَأْكُلُهَا النَّاسُ، كَالنَّعْنَاعِ، وَالْكَرَفْسِ، وَالْكُرَّاثِ، وَأَشْبَاهِهَا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَغَيْرُهُمَا:
وَقُثَّائِهَا بِضَمِّ الْقَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ.
وَفُومِها: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقَاوِيلُ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الثُّومُ، وَبَيَّنَتْهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَثَوْمِهَا بِالثَّاءِ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْبَقْلِ وَالْعَدَسِ وَالْبَصَلِ. الثَّانِي: قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَنَّهُ الْحِنْطَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْحُبُوبُ كُلُّهَا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْخُبْزُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ عَطَاءٍ وَابْنُ زَيْدٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْحِمَّصُ. السَّادِسُ: أَنَّهُ السُّنْبُلَةُ.
وَعَدَسِها وَبَصَلِها: وَأَحْوَالُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَذَكَرُوا، أَوَّلًا: مَا هُوَ جَامِعٌ لِلْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالرُّطُوبَةِ وَالْيُبُوسَةِ، إِذِ الْبَقْلُ مِنْهُ مَا هُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ كَالْهِنْدَبَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ حَارٌّ يَابِسٌ كَالْكَرَفْسِ وَالسَّدَابِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ حَارٌّ وَفِيهِ رُطُوبَةٌ عَرْضِيَّةٌ كَالنَّعْنَاعِ. وَثَانِيًا الْقِثَّاءُ، وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ. وَثَالِثًا: الثُّومُ، وَهُوَ حَارٌّ يَابِسٌ. وَرَابِعًا: الْعَدَسُ، وَهُوَ بَارِدٌ يَابِسٌ.
وَخَامِسًا: الْبَصَلُ، وَهُوَ حَارٌّ رَطْبٌ، وَإِذَا طُبِخَ صَارَ بَارِدًا رَطْبًا، فَعَلَى هَذَا جَاءَ تَرْتِيبُ ذِكْرِ هَذِهِ الْخَمْسَةِ.
قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ: الضَّمِيرُ فِي قَالَ ظَاهِرٌ عَوْدُهُ عَلَى مُوسَى، وَيُحْتَمَلُ عُودُهُ عَلَى
376
الرَّبِّ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُهُ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَتَسْتَبْدِلُونَ لِلْإِنْكَارِ، وَالِاسْتِبْدَالُ: الِاعْتِيَاضُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَتُبَدِّلُونَ، وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ لَيْسَ لَهُمْ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يَحْصُلُ التَّبْدِيلُ بِسُؤَالِهِمْ جُعِلُوا مُبَدِّلِينَ، وَكَانَ الْمَعْنَى: أَتَسْأَلُونَ تَبْدِيلَ. الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَالَّذِي: مَفْعُولُ أَتَسْتَبْدِلُونَ، وَهُوَ الْحَاصِلُ، وَالَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ هُوَ الزَّائِلُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي غَيْرِ مَكَانٍ. هُوَ أَدْنَى:
صِلَةٌ لِلَّذِي، وَهُوَ هُنَا وَاجِبُ الْإِثْبَاتِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، إِذْ لَا طُولَ فِي الصِّلَةِ، وَأَدْنَى:
خَبَرٌ عَنْ هُوَ، وَهُوَ: أفعل التفضيل، ومن وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ حَذْفًا لِلْعِلْمِ، وَحَسَّنَ حَذْفَهُمَا كَوْنُ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ خَبَرًا، فَإِنْ وَقَعَ غَيْرَ خَبَرٍ مِثْلَ كَوْنِهِ حَالًا أَوْ صِفَةً قَلَّ الْحَذْفُ وَتَقْدِيرُهُ: أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ الْوَاحِدِ، وَحَسَّنَ حَذْفَهُمَا أَيْضًا كَوْنُ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ مَذْكُورًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَأَفْرَدَ: الَّذِي هُوَ أَدْنى لِأَنَّهُ أَحَالَ بِهِ عَلَى الْمَأْكُولِ الَّذِي هُوَ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَعَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ، فَيَكُونُ قَدْ رَاعَى الْمُبْدَلَ مِنْهُ، إِذْ لَوْ رَاعَى الْبَدَلَ لَقَالَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ اللَّاتِي هِيَ أَدْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَدْنَى عِنْدِ الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَذَكَرْنَا الْأَقَاوِيلَ الثَّلَاثَةَ فِيهَا. وَقَرَأَ زُهَيْرٌ الْفُرْقُبِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ زُهَيْرٌ الْكِسَائِيُّ: أدنأ بالهمز، ووقع البعض مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ، وَهْمٌ فِي نِسْبَةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِلْكِسَائِيِّ، فَقَالَ:
وَقَرَأَ زُهَيْرٌ وَالْكِسَائِيُّ شَاذًّا: أَدْنَأُ، فَظَنَّ أَنَّ هَذِهِ قِرَاءَةُ الْكِسَائِيُّ، وَجَعَلَ زُهَيْرًا وَالْكِسَائِيَّ شَخْصَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ زُهَيْرٌ الْكِسَائِيُّ يُعْرَفُ بِذَلِكَ، وَبِالْفُرْقُبِيِّ، فَهُوَ رَجُلٌ وَاحِدٌ. فَأَمَّا تَفْسِيرُ:
الْأَدْنَى وَالْخَيْرِ هُنَا فَفِيهِ أَقَاوِيلُ: أَحَدُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: تَفَاضُلُ الْأَشْيَاءِ بِالْقِيَمِ، وَهَذِهِ الْبُقُولُ لَا خَطَرَ فِيهَا وَلَا عُلُوَّ قِيمَةٍ، والمنّ والسلوى هما أعلا قِيمَةً وَأَعْظَمُ خَطَرًا، وَاخْتَارَ هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: أَقْرَبُ مَنْزِلَةً وَأَهْوَنُ مِقْدَارًا، وَالدُّنُوُّ وَالْقُرْبُ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ قِلَّةِ الْمِقْدَارِ فَيُقَالُ: هُوَ أَدْنَى الْمَحَلِّ وَقَرِيبُ الْمَنْزِلَةِ، كما يعبر بالعبد عَنْ عَكْسِ ذَلِكَ فَيُقَالُ: بَعِيدُ الْمَحَلِّ بَعِيدُ الْمَنْزِلَةِ، يُرِيدُونَ الرِّفْعَةَ وَالْعُلُوَّ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الزَّجَّاجِ. وَالثَّانِي:
أَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى هُوَ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ وَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ، وَفِي اسْتِدَامَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ أَجْرٌ وَذُخْرٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالَّذِي طَلَبُوهُ عَارٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَكَانَ أَدْنَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ التَّفْضِيلَ يَقَعُ مِنْ جِهَةِ الطِّيبِ وَاللَّذَّةِ، وَالْمَنُّ وَالسَّلْوَى لَا شَكَّ أَنَّهُمَا أَطْيَبُ مِنَ الْبُقُولِ الَّتِي طَلَبُوهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لَا كُلْفَةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَلَا تَعَبَ وَلَا مَشَقَّةَ، وَالْبُقُولُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ مَشَقَّةِ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ وَالْخِدْمَةِ وَالسَّقْيِ، وَمَا حَصَلَ بِلَا مَشَقَّةٍ خَيْرٌ مِمَّا حَصَلَ بِمَشَقَّةٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لَا شَكَّ فِي حِلِّهِ وَخُلُوصِهِ لِنُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ
377
اللَّهِ، وَالْحُبُوبُ وَالْأَرْضُ يَتَخَلَّلُهَا الْعُيُوبُ وَالْغُصُوبُ وَيَدْخُلُهَا الْحَرَامُ وَالشُّبْهَةُ، وَمَا كَانَ حِلًّا خَالِصًا أَفْضَلُ مِمَّا يَدْخُلُهُ الْحَرَامُ وَالشُّبْهَةُ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى يَفْضُلَانِ مَا سَأَلُوهُ مِنْ جِنْسِ الْغِذَاءِ وَنَفْعِهِ. وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: هَلِ الْأَدْنَوِيَّةُ وَالْخَيْرِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقِيمَةِ، أَوِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، أَوِ اللَّذَّةُ، أَوِ الْكُلْفَةُ، أَوِ الْحِلُّ، أَوِ الْجِنْسُ؟ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ زهير فهي من الدناءة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَدْنَى غَيْرَ الْمَهْمُوزِ قِيلَ إِنَّ أصلها الهمز فَسَهَّلَ كَهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَمَنْ قَالَ بِالْقَلْبِ وَإِنَّ أَصْلَهُ أَدْوَنُ، فَالدَّنَاءَةُ وَالدُّونُ رَاجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الخسة، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَحْسَنُ مُقَابَلَةً لِقَوْلِهِ: بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَمَنْ جَعَلَ أَدْنَى بِمَعْنَى أَقْرَبَ، لِأَنَّ الْأَدْوَنَ وَالْأَدْنَأَ يُقَابِلُهُمَا الْخَيْرُ، وَالْأَدْنَى بِمَعْنَى الْأَقْرَبِ يُقَابِلُهُ الْأَبْعَدُ، وَحُذِفَ مِنْ وَمَعْمُولُهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: هُوَ خَيْرٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: هُوَ أَدْنَى، مِنْ وُقُوعِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ خَبَرًا وَتَقْدِيرُهُ: مِنْهُ، أَيْ مِنْ: الَّذِي هُوَ أَدْنى. وَكَانَتْ هَاتَانِ الصِّلَتَانِ جُمْلَتَيْنِ اسْمِيَّتَيْنِ لِثُبُوتِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَكَانَ الْخَيْرُ أفعل التفضيل، لأنه لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى تَعْيِينِ زَمَانٍ، بَلْ فِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْأَدْنَوِّيَةِ وَالْخَيْرِيَّةَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ، بِخِلَافِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ، أَوْ يَتَجَوَّزُ فِي ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّعْيِينَ، فَكَانَ الْوَصْلُ بِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي عَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْيِينِ أَفْصَحَ، وَكَانَتْ صِلَةُ مَا فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تُنْبِتُ، جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، لِأَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَهُمْ يُشْعِرُ بِالتَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، وَالْإِنْبَاتُ مُتَجَدِّدٌ دَائِمًا، فَنَاسَبَ كُلُّ مَكَانٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصِّلَةِ.
اهْبِطُوا مِصْراً «١» : فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْقَائِلَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ هُوَ مُوسَى، وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ، فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَجَابَهُ، قالَ اهْبِطُوا. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُبُوطِ، وَيُقَالُ: هَبَطَ الْوَادِيَ: حَلَّ بِهِ، وَهَبَطَ مِنْهُ: خَرَجَ، وَكَأَنَّ الْقَادِمَ عَلَى بَلَدٍ يَنْصَبُّ عَلَيْهِ.
وقرىء اهْبُطُوا، بِضَمِّ الْبَاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْأَفْصَحُ الْكَسْرُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى صَرْفِ مِصْرًا هُنَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَبَيِّنٌ كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبَعْضِ مَصَاحِفِ عُثْمَانَ. فَأَمَّا مَنْ صَرَفَ فَإِنَّهُ يَعْنِي مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْأَمْرِ بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ، وَبِأَنَّهُمْ سَكَنُوا الشَّامَ بَعْدَ التِّيهِ، وَبِأَنَّ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْبَقْلِ وَغَيْرِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَمْصَارِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: هُوَ مِصْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَكِنَّهُ مِنْ أَمْصَارِ الْأَرْضِ المقدسة، بدليل:
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٢٤.
378
ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مِصْرًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِصْرَ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ النَّكِرَةِ، وَيُرَادُ بِهَا الْمُعَيَّنُ، كَمَا تَقُولُ: ائْتِنِي بِرَجُلٍ، وَأَنْتَ تَعْنِي بِهِ زَيْدًا. قَالَ أَشْهَبُ، قَالَ لِي مَالِكٌ: هِيَ مِصْرُ قَرْيَتُكَ مَسْكَنُ فِرْعَوْنَ. وَأَجَازَ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ تَكُونَ مِصْرُ هَذِهِ الْمُنَوَّنَةُ هِيَ الِاسْمَ الْعَلَمَ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً «١»، قَالُوا: وَصُرِفَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْعَلَمِيَّةُ وَالتَّأْنِيثُ، كَمَا صُرِفَ هِنْدٌ وَدَعْدٌ لِمُعَادَلَةِ أَحَدِ السَّبَبَيْنِ، لِخِفَّةِ الِاسْمِ لِسُكُونِ وَسَطِهِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوْ صُرِفَ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِاللَّفْظِ مَذْهَبَ الْمَكَانِ، فَذَكَّرَهُ فَبَقِيَ فِيهِ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَانْصَرَفَ. وَشَبَّهَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ، وَهُوَ عَلَمٌ بِنُوحٍ وَلُوطٍ حَيْثُ صُرِفَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ لِخِفَّةِ الِاسْمِ بِكَوْنِهِ ثُلَاثِيًّا سَاكِنَ الْوَسَطِ، وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ مُشْبِهٌ لِهِنْدٍ، أَوْ مُشْبِهٌ لِنُوحٍ، لِأَنَّ مِصْرَ اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ وَهِيَ: التَّأْنِيثُ وَالْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ. فَهُوَ يَتَحَتَّمُ مَنْعُ صَرْفِهِ بِخِلَافِ هِنْدٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سِوَى الْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، عَلَى أَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ خَالَفَ فِي هِنْدٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا مَنْعُ الصَّرْفِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى مَا ادَّعَى النَّحْوِيُّونَ مِنَ الصَّرْفِ فِي قَوْلِهِ:
لم تتلفع بفضل ميزرها دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعْدٌ فِي الْعُلَبِ
وَبِخِلَافِ نُوحٍ، فَإِنَّ الْعُجْمَةَ لَمْ تُعْتَبَرْ إِلَّا فِي غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ السَّاكِنِ الْوَسَطِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ثُلَاثِيًّا سَاكِنَ الْوَسَطِ فَالصَّرْفُ. وَقَدْ أَجَازَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ مَنْعَ صَرْفِهِ قِيَاسًا عَلَى هِنْدٍ، وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا مَصْرُوفًا، فَهُوَ قِيَاسٌ عَلَى مُخْتَلَفٍ فِيهِ مُخَالِفٌ لِنُطْقِ الْعَرَبِ، فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ بَحْرٍ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِصْرًا، الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ، يَعْنِي أَنَّ اللَّفْظَ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً، فَالْمُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ، كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً مِصْرَ الْمُعَيَّنَةَ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ مِصْرَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَالْمُرَادُ مِصْرُ الْعَلَمُ، وَهِيَ دَارُ فِرْعَوْنَ.
وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مِصْرُ فِرْعَوْنَ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ مِنْ مِصْرَ خَرَجُوا، وَأُمِرُوا بِالْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ لِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ فَأَبَوْا، فَعُذِّبُوا بِالتِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِتَخَلُّفِهِمْ عَنْ قتال الجبارين، ولقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «٢»، فَمَاتُوا جَمِيعًا فِي التِّيهِ، وَبَقِيَ أَبْنَاؤُهُمْ، فَامْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ، وَهَبَطُوا إِلَى الشَّامِ، وَقَاتَلُوا الْجَبَّارِينَ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ. وَلَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ أَنَّهُمْ هَبَطُوا من التيه إلى
(١) سورة يونس: ١٠/ ٨٧.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٢٤.
379
مِصْرَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَتَلَخَّصَ مِنْ قِرَاءَةِ التَّنْوِينِ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِصْرًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَا مِنَ الشَّامِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ مِصْرًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ أَمْصَارِ الشَّامِ، أَوْ مُعَيَّنًا، وهو بيت المقدس، أو مِصْرَ فِرْعَوْنَ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ.
فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِلْأَمْرِ، كَمَا يُجَابُ بِالْفِعْلِ الْمَجْزُومِ، وَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الْجَارِي فِيهِ: هَلْ ضُمِّنَ اهْبِطُوا مِصْرًا مَعْنَى أَنْ تهبطوا أَوْ أُضْمِرَ الشَّرْطُ؟
وَفِعْلُهُ بَعْدَ فِعْلِ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ تَهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، وَفِي ذَلِكَ مَحْذُوفَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَرْبِطُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِمَا قَبْلَهَا، وَتَقْدِيرُهُ: فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا مَا سَأَلْتُمْ. وَالثَّانِي:
الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى مَا، تَقْدِيرُهُ: مَا سَأَلْتُمُوهُ، وَشُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ. وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: سِأَلْتُمْ: بِكَسْرِ السِّينِ، وَهَذَا مِنْ تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي سَأَلَ لُغَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ هَمْزَةً فَوَزْنُهُ فَعَلَ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ وَاوًا تَقُولُ: سَأَلَ يَسْأَلُ، فَتَكُونُ الْأَلِفُ مُنْقَلِبَةً عَنْ وَاوٍ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَاوِ، وقولهم:
هُمَا يَتَسَاوَلَانِ، كَمَا تَقُولُ: يَتَجَاوَبَانِ، وَحِينَ كَسَرَ السِّينَ تَوَهَّمَ أَنَّهُ فَتَحَهَا، فَأَتَى بِالْعَيْنِ هَمْزَةً، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا جِئْتَهُمْ وَسَأْيَلْتَهُمْ وَجَدَتْ بِهِمْ عِلَّةً حَاضِرَهْ
الْأَصْلُ سَاءَلْتَهُمْ، وَالْمَعْرُوفُ إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ يَاءً، فَتَقُولُ: سَايَلْتَهُمْ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْعِوَضِ وَهُوَ الْيَاءُ، وَبَيْنَ الْمُعَوَّضِ مِنْهُ وَهُوَ الْهَمْزَةُ لَكِنَّهُ لَمَّا اضْطُرَّ قَدَّمَ الْهَمْزَةَ قَبْلَ أَلِفِ فَاعِلٍ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ فِي سَأَلْتُمْ يَاءً، كَمَا أُبْدِلَتْ أَلِفًا فِي قَوْلِهِ:
سَأَلَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحِشَةً فَانْكَسَرَ السِّينُ قَبْلَ الْيَاءِ، ثُمَّ تَنَبَّهَ لِلْهَمْزِ فَهَمَزَ. وَالْمَعْنَى: مَا سَأَلْتُمْ مِنَ الْبُقُولِ وَالْحُبُوبِ الَّتِي اخْتَرْتُمُوهَا عَلَى الْمَنِّ وَالسَّلْوَى. وَقِيلَ: مَا سَأَلْتُمْ مِنَ اتِّكَالِكُمْ عَلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسِكُمْ فِي مَصَالِحِ مَعَاشِكُمْ وَأَحْوَالِ أَقْوَاتِكُمْ.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ: مَعْنَى الضَّرْبِ هُنَا: الْإِلْزَامُ وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِمْ، مِنْ ضَرَبَ الْأَمِيرُ الْبَعْثَ عَلَى الْجَيْشِ، وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: ضربة لازم، وَيُقَالُ: ضَرَبَ الْحَاكِمُ عَلَى الْيَدِ، وَضَرَبَ الدَّهْرُ ضَرَبَاتِهِ، أَيْ أَلْزَمَ إِلْزَامَاتِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْإِحَاطَةُ بِهِمْ وَالِاشْتِمَالُ عَلَيْهِمْ مَأْخُوذٌ مِنْ ضَرَبَ الْقِبَابَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
380
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْتَصَقَتْ بِهِمْ، مَنْ ضَرَبْتُ الْحَائِطَ بِالطِّينِ: أَلْصَقْتُهُ بِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جُعِلَتْ مِنْ ضَرَبْتُ الطِّينَ خَزَفًا، أَيْ جُعِلَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ. أَمَّا الذِّلَّةُ فَقِيلَ: هِيَ هَوَانُهُمْ بِمَا ضُرِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجِزْيَةِ الَّتِي يُؤَدُّونَهَا عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَقِيلَ: هِيَ مَا أُلْزِمُوا بِهِ مِنْ إِظْهَارِ الزِّيِّ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمْ يَهُودُ، وَلَا يَلْتَبِسُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: فَقْرُ النَّفْسِ وَشُحُّهَا، فَلَا تَرَى مِلَّةً مِنَ الْمِلَلِ أَذَلُّ وَأَحْرَصُ مِنَ الْيَهُودِ. وَأَمَّا الْمَسْكَنَةُ: فَالْخُشُوعُ، فَلَا يُرَى يَهُودِيٌّ إِلَّا وَهُوَ بَادِي الْخُشُوعِ، أَوِ الْخَرَاجُ، وَهُوَ الْجِزْيَةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، أَوِ الْفَاقَةُ وَالْحَاجَةُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، أَوْ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ مَخَافَةَ أَنْ تُضَاعَفَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، أَوِ الضَّعْفُ، فَتَرَاهُ سَاكِنَ الْحَرَكَاتِ قَلِيلَ النُّهُوضِ. وَاسْتَبْعَدَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ قَوْلَ مَنْ فَسَّرَ الذِّلَّةَ بِالْجِزْيَةِ، لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تَكُنْ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ، وَالْمَضْرُوبُ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ الْيَهُودُ الْمُعَاصِرُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ، أَوِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. والقائلون: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ «١»، وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ.
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ بَاءَ، فَعَلَى مَنْ قَالَ: بَاءَ: رَجَعَ، تَكُونُ الْبَاءُ لِلْحَالِ، أَيْ مَصْحُوبِينَ بِغَضَبٍ، وَمَنْ قَالَ: اسْتَحَقَّ، فَالْبَاءُ صِلَةٌ نَحْوَ: لَا يُقْرَأَنَّ بِالسُّورِ:
أَيِ اسْتَحَقُّوا غَضَبًا، وَمَنْ قَالَ: نَزَلَ وَتَمَكَّنَ أَوْ تَسَاوَوْا، وَالْبَاءُ ظَرْفِيَّةٌ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَعَلَى الثَّانِي لَا تَتَعَلَّقُ، وَعَلَى الثَّالِثِ بِنَفْسِ بَاءَ. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِغَضَبٍ لِلسَّبَبِ، فَعَلَى هَذَا تتعلق بباء، وَيَكُونُ مَفْعُولُ بَاءَ مَحْذُوفًا، أَيِ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ بِسَبَبِ غضب الله عليهم. وباء يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «٢»، وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ «٣»، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ «٤». وَفِي الشَّرِّ:
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ «٥»، أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ «٦»، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ «٧». وَقَدْ جَاءَ اسْتِعْمَالُ الْمَعْنَيَيْنِ
فِي الْحَدِيثِ: «أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي».
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: بَاءَ لَا تَجِيءُ إِلَّا فِي الشَّرِّ. وَالْغَضَبُ هُنَا مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالنِّقَمِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الآخرة. ويكون باؤوا في معنى يبوؤون، نحو
(١) سورة البقرة: ٢/ ٦٨- ٧٠، وسورة الأعراف: ٧/ ١٣٤.
(٢) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٥٨.
(٣) سورة يونس: ١٠/ ٩٣. [.....]
(٤) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٢٩.
(٥) سورة آل عمران: ٣/ ١١٢.
(٦) سورة المائدة: ٥/ ٢٩.
(٧) سورة البقرة: ٢/ ٩٠.
381
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «١»، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «٢». مِنَ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِبَاءُوا إِذَا كَانَ بَاءَ بِمَعْنَى رَجَعَ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مُقْبِلِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَبِعِصْيَانِهِمْ رَجَعُوا مِنْهُ، أَيْ مِنْ عِنْدِهِ بِغَضَبٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ بِغَضَبٍ كَائِنٍ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ظَاهِرٌ إِذَا كَانَ بَاءَ بِمَعْنَى اسْتَحَقَّ، أَوْ بِمَعْنَى نَزَلَ وَتَمَكَّنَ، وَيَبْعُدُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَفِي وَصْفِ الْغَضَبِ بِكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ تَعْظِيمٌ لِلْغَضَبِ، وَتَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَبَاءَةِ بِالْغَضَبِ، أَوِ الْمَبَاءَةِ. وَالضَّرْبِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ بَعْدَهُ خَبَرٌ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ، أَيْ ذَلِكَ كَائِنٌ بِكُفْرِهِمْ وَقَتْلِهِمْ.
كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ: الْآيَاتُ الْمُعْجِزَاتُ التِّسْعُ وَغَيْرُهَا الَّتِي أَتَى بِهَا مُوسَى، أَوِ التَّوْرَاةُ، أَوْ آيَاتٌ مِنْهَا، كَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِيهَا الرَّجْمُ، أَوِ الْقُرْآنُ، أَوْ جَمِيعُ آيَاتِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، وَإِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ: قَتَلُوا يَحْيَى وَشَعِيَا وَزَكَرِيَّا.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَتَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ نَبِيًّا، وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَقَامَتْ سُوقُ قَتْلِهِمْ فِي آخِرِهِ.
وَعَلَى هَذَا يَتَوَجَّهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: يُقَتِّلُونَ بِالتَّشْدِيدِ لِظُهُورِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقَتْلِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَتَقْتُلُونَ بِالتَّاءِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِفَاتِ. وَرُوِيَ عَنْهُ بِالْيَاءِ كَالْجَمَاعَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي الدَّلَالَةِ بَيْنَ النَّبِيِّينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ الْجَمْعَيْنِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِمَا الْ تَسَاوِيَا بِخِلَافِ حَالِهِمَا إِذَا كَانَا نَكِرَتَيْنِ، لِأَنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرٌ فِي الْقِلَّةِ، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ عَلَى أَفْعِلَاءِ ظَاهِرٌ فِي الْكَثْرَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِهَمْزِ النَّبِيِّينَ وَالنَّبِيءِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالنُّبُوءَةِ، إِلَّا أَنَّ قَالُونَ أَبْدَلَ وَأَدْغَمَ فِي الْأَحْزَابِ فِي: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ «٣» إِنْ أَرَادَ وَفِي لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ «٤»، فِي الْوَصْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْمُفْرَدَاتِ.
بِغَيْرِ الْحَقِّ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَتَقْتُلُونَ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَقْتُلُونَ، أَيْ تَقْتُلُونَهُمْ مُبَالَغَةً. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَعَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ هُوَ تَوْكِيدٌ، وَلَمْ يَرِدْ هَذَا عَلَى أَنَّ قَتْلَ النَّبِيِّينَ يَنْقَسِمُ إِلَى قَتْلٍ بِحَقٍّ وَقَتْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، بَلْ مَا وَقَعَ مِنْ قَتْلِهِمْ إِنَّمَا وَقَعَ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ مَعْصُومٌ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَمْرًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِيهِ الْقَتْلَ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْقَيْدُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْنِيعِ لِقَتْلِهِمْ، وَالتَّقْبِيحِ
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٥٧.
(٢) سورة القمر: ٥٤/ ١.
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٥٠.
(٤) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٥٣.
382
لِفِعْلِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، أَيْ بِغَيْرِ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ، أَيْ لَمْ يَدَّعُوا فِي قَتْلِهِمْ وَجْهًا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْقَتْلَ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ: جَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «١»، إِذْ لَا يَقَعُ قَتْلُ نَبِيٍّ إِلَّا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ يَأْتِ نَبِيٌّ قَطُّ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، وَإِنَّمَا قُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ كَرَاهَةً لَهُ وَزِيَادَةً فِي مَنْزِلَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ قَطُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالٍ، وَكُلُّ مَنْ أُمِرَ بِقِتَالٍ نُصِرَ. قِيلَ: وَعُرِّفَ الْحَقُّ هُنَا لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْمَعْهُودِ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ.
وَأَمَّا الْمُنَكَّرُ فَالْمُرَادُ بِهِ تَأْكِيدُ الْعُمُومِ، أَيْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَقٌّ لَا مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا غَيْرُهُ.
ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ، ذَلِكَ: رَدٌّ عَلَى الْأَوَّلِ وَتَكْرِيرٌ لَهُ، فَأُشِيرَ بِهِ لِمَا أُشِيرَ بذلك الأول، ويجوز أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَلَا يَكُونُ تَكْرِيرًا وَلَا تَوْكِيدًا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى جُحُودِ آيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا هُوَ تَقَدُّمُ عِصْيَانِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ، فَجَسَّرَهَمْ هَذَا عَلَى ذَلِكَ، إِذِ الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ. بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ «٢»
، وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ «٣»، وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ «٤». وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعِصْيَانِ وَالِاعْتِدَاءِ لُغَةً، وَقَدْ فُسِّرَ الِاعْتِدَاءُ هُنَا أَنَّهُ تَجَاوُزُهُمْ مَا حَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ. وَقِيلَ: التَّمَادِي عَلَى الْمُخَالَفَةِ وَقَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: الْعِصْيَانُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَالِاعْتِدَاءُ بِكَثْرَةِ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ:
الِاعْتِدَاءُ بِسَبَبِ الْمُخَالَفَةِ وَالْإِقَامَةُ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ أُثِرَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اخْتَلَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ موسى بخمسائة سنة حين كثير فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا، وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ عِيسَى بِمِائَةِ سَنَةٍ».
وَقِيلَ: هُوَ الِاعْتِدَاءُ فِي السَّبْتِ، قَالَ تَعَالَى: وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ «٥». وما: فِي قَوْلِهِ بِما عَصَوْا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ ذَلِكَ بِعِصْيَانِهِمْ، وَلَمْ يُعْطَفْ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْعِصْيَانِ لِئَلَّا يَفُوتَ تَنَاسُبُ مَقَاطِعِ الْآيِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِدَاءَ صَارَ كَالشَّيْءِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ دَائِمًا. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حُلُولَ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ مِنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمسكنة والمباءة بالغضب، بين عِلَّةَ ذَلِكَ، فَبَدَأَ بِأَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. ثُمَّ ثَنَّى بِمَا يَتْلُو ذَلِكَ فِي الْعِظَمِ وَهُوَ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يَكُونُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَمَا يَتَعَدَّى مِنَ الظُّلْمِ. قَالَ مَعْنَى هَذَا صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ ذلك
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٤٦.
(٢) سورة المطففين: ٨٣/ ١٤.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٨٨.
(٤) سورة النساء: ٤/ ١٥٥.
(٥) سورة النساء: ٤/ ١٥٤.
383
بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ وَيَقْتُلُونَ، تَعْلِيلٌ لِضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْمَبَاءَةِ بِالْغَضَبِ، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ ذلِكَ بِما عَصَوْا إشارة إلى الكفر والقتل، وَبِمَا تَعْلِيلٌ لَهُمَا فَيَعُودُ الْعِصْيَانُ إِلَى الْكُفْرِ، وَيَعُودُ الِاعْتِدَاءُ إِلَى الْقَتْلِ، فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَقَابَلَهُمَا بِشَيْئَيْنِ. كَمَا ذَكَرَ أَوَّلًا شَيْئَيْنِ وَهُمَا: الضَّرْبُ وَالْمَبَاءَةُ، وَقَابَلَهُمَا بِشَيْئَيْنِ وَهُمَا: الْكُفْرُ وَالْقَتْلُ، فَجَاءَ هَذَا لَفًّا ونشرا في المؤمنين، وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَجَوْدَةِ تَرْكِيبِهِ، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ التَّأْكِيدِ الَّذِي لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأْسِيسِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ لَطَائِفِ الِامْتِنَانِ وَغَرَائِبِ الْإِحْسَانِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فُصُولًا، مِنْهَا: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِدُخُولِ الْقَرْيَةِ الَّتِي بِهَا يَتَحَصَّنُونَ، وَالْأَكْلُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا مَا يَشْتَهُونَ، ثُمَّ كُلِّفُوا النَّزْرَ مِنَ الْعَمَلِ وَالْقَوْلِ، وَهُوَ دُخُولُ بَابِهَا سَاجِدِينَ، وَنُطْقُهُمْ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ تَائِبِينَ، وَرُتِّبَ عَلَى هَذَا النَّزْرِ غُفْرَانُ جَرَائِمِهُمُ الْعَظِيمَةِ وَخَطَايَاهُمُ الْجَسِيمَةِ، فَخَالَفُوا فِي الْأَمْرَيْنِ فِعْلًا وَقَوْلًا، جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي عَدَمِ الِامْتِثَالِ، فَعَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَشَدِّ النَّكَالِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَيْهِمْ وَسُؤَالِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ دَعَا اللَّهَ لَهُمْ بِالسُّقْيَا، فَأَحَالَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ بِأَنْ أَنْشَأَ لَهُمْ، مِنْ قَرْعِ الصَّفَا بِالْعَصَا، عُيُونًا يَجْرِي بِهَا مَا يَكْفِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ، مَعِينًا عَلَى الْوَصْفِ الذي ذكره تعالى من كَوْنِ تِلْكَ الْعُيُونِ عَلَى عَدَدِ الْأَسْبَاطِ، حَتَّى لَا يَقَعَ مِنْهُمْ مُشَاحَّةٌ وَلَا مُغَالَبَةٌ، وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ رِزْقٌ، وَأُمِرُوا بِالْأَكْلِ مِنْهُ وَالشُّرْبِ، ثُمَّ نُهُوا عَنِ الْفَسَادِ، إِذْ هُوَ سَبَبٌ لِقَطْعِ الرِّزْقِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى تَبَرُّمَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَلَجُّوا فِي طَلَبِ مَا كَانَ مَأْلَوفَهُمْ إِلَى نبيهم فقالوا: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ، وَذَلِكَ جَرْيٌ عَلَى عَادَتِهِ مَعَهُمْ، إِذْ كَانَ يُنَاجِي رَبَّهُ فِيمَا كَانَ عَائِدًا عَلَيْهِمْ بِصَلَاحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَذَكَرَ تَوْبِيخَهُ لَهُمْ عَلَى مَا سَأَلُوهُ مِنِ اسْتِبْدَالِ الْخَسِيسِ بِالنَّفِيسِ، وَبِمَا لَا نَصَبٌ فِي اكْتِسَابِهِ مَا فِيهِ الْعَنَاءُ الشَّاقُّ، إِذْ مَا طَلَبُوهُ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِفْرَاغِ أَوْقَاتِهِمُ الْمُعَدَّةِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ فِي تَحْصِيلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَصَارَتْ أَغْذِيَةً مُضِرَّةً مُؤْذِيَةً جَالِبَةً أَخْلَاطًا رَدِيئَةً، يَنْشَأُ عَنْهَا طَمْسُ أَنْوَارِ الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، بِخِلَافِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، إِذْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ جَيِّدٌ، يَنْشَأُ عَنْهُ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَجَوْدَةُ الْإِدْرَاكِ.
كَانَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَسْتَفُّ دَقِيقَ الشَّعِيرِ، وَيَشْرَبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْعَذْبَ، وَكَانَ ذِهْنُهُ أَشْرَقَ أَذْهَانِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَكَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ يَغْزُو سَنَةً وَيَحُجُّ أُخْرَى. ثُمَّ أُمِرُوا بِالْحُلُولِ فِيمَا فِيهِ مَطْلَبُهُمْ وَالْهُبُوطِ إِلَى مَعْدِنِ مَا سَأَلُوهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِمَا عَاقَبَهُمْ بِهِ مِنْ جَعْلِهِمْ أذلاء مساكين ومبائتهم بِغَضَبِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَسَبِّبٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ
384
الْإِيمَانِ، لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْإِنْسَ وَالْجَانَّ، وَعَنْ قَتْلِهِمْ مَنْ كَانَ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِمْ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، إِذْ بِاتِّبَاعِهِمْ يَحْصُلُ الْعِزُّ فِي الدُّنْيَا وَالْفَوْزُ فِي الْأُخْرَى، وَأَنَّ الَّذِي جَرَّ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ إِلَيْهِمْ هُوَ الْعِصْيَانُ وَالِاعْتِدَاءُ اللَّذَانِ كَانَا سَبَقَا مِنْهُمْ قَبْلَ تَعَاطِي الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ.
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا وَقَضَى عَلَيْكَ بِهَا الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ
إِنَّ الْأُمُورَ صَغِيرَهَا مِمَّا يَهِيجُ لَهُ الْعَظِيمُ
وَقَالَ:
وَالشَّرُ تُحَقِّرُهُ وَقَدْ يَنْمَى
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٢ الى ٦٦]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
هَادَ: أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، وَالْمُضَارِعُ يَهُودُ، وَمَعْنَاهُ: تَابَ، أَوْ عَنْ يَاءٍ وَالْمُضَارِعُ يَهِيدُ، إِذَا تَحَرَّكَ. وَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ»
. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِةِ الْيَهُودِ حَيْثُ انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالنَّصَارَى: جَمْعُ نَصْرَانٍ وَنَصْرَانَةٍ، مِثْلُ نَدْمَانٍ وَنَدْمَانَةٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ وَأَنْشَدَ:
وَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأُسْجِدَ رَأْسُهَا كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحْنَفِ
وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ:
يَظَلُّ إِذَا دَارَ الْعَشِيُّ مُحَنَّفًا وَيَضْحَى لَدَيْهِ وَهُوَ نَصْرَانُ شامس
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٦. [.....]
385
مَنَعَ نَصْرَانًا الصَّرْفَ ضَرُورَةً، وَهُوَ مَصْرُوفٌ لِأَنَّ مُؤَنَّثَهُ عَلَى نَصْرَانَةٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا بِيَاءِ النَّسَبِ، فَيَكُونُ: كَلِحْيَانٍ وَلِحْيَانِيٍّ وَكَأَحْمَرِيٍّ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاحِدُ النَّصَارَى نَصْرِيٌّ، كَمَهْرِيٍّ وَمَهَارَى. قِيلَ: وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى نَصْرَةَ، قَرْيَةٍ نَزَلَ بِهَا عِيسَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: نُسِبُوا إِلَى نَاصِرَةَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ نَزَلُوهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ تَغْيِيرَاتِ النَّسَبِ. وَالصَّابِئِينَ: الصَّائِبُونَ، قِيلَ: الْخَارِجُونَ مِنْ دِينٍ مَشْهُورٍ إِلَى غَيْرِهِ، مِنْ صُبُوءِ السِّنِّ وَالنَّجْمِ، يُقَالُ: صَبَأَتِ النُّجُومُ: طَلَعَتْ، وَصَبَأَتْ ثَنِيَّةُ الْغُلَامِ: خَرَجَتْ، وَصَبَأَتْ عَلَى الْقَوْمِ بِمَعْنَى: طَرَأَتْ، قَالَ:
إِذَا صَبَأَتْ هَوَادِي الْخَيْلِ عَنَّا حَسِبْتُ بِنَحْرِهَا شَرْقَ الْبَعِيرِ
وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ هَمْزٍ فَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى قِرَاءَتِهِ. قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: هُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَىِ، يحلقون أوساط رؤوسهم وَيَجُبُّونَ مَذَاكِيرَهُمْ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُمْ أَشْبَاهُ النَّصَارَى، قِبْلَتُهُمْ مَهَبُّ الْجَنُوبِ، يُقِرُّونَ بِنُوحٍ، ويقرؤون الزَّبُورَ، وَيَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: لَا عَيْنَ مِنْهُمْ وَلَا أَثَرَ. وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ، عَنِ الصَّابِي صَاحِبِ الرَّسَائِلِ: هُمْ قَرِيبٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، يَقُولُونَ بِتَدْبِيرِ الْكَوَاكِبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ قَوْمٌ لَا دِينَ لَهُمْ، لَيْسُوا بِيَهُودَ وَلَا نَصَارَى. قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: قَوْمٌ تَرَكَّبَ دِينُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَوْمٌ يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلَا كِتَابٌ، كَانُوا بِالْجَزِيرَةِ وَالْمُوصِلِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَيْضًا أَنَّهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، ويصلون الخمس للقبلة، ويقرؤون الزَّبُورَ، رَآهُمْ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَرَادَ وَضْعَ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ حَتَّى عَرَفَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قوم من أهل الكتاب، ذَبَائِحُهُمْ كَذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، يقرؤون الزَّبُورَ، وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي بَقِيَّةِ أَفْعَالِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ: قَوْمٌ كَالْمَجُوسِ. وَقِيلَ: قَوْمٌ مُوَحِّدُونَ يَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ، وَأَنَّهَا فَعَّالَةٌ. وَأَفْتَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ الْقَادِرَ بِاللَّهِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ بِكُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، ثُمَّ لَهُمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِتَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّخَاذِهَا قِبْلَةً لِلصَّلَاةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالدُّعَاءِ. الثَّانِي: أنه تعالى خالق الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِمَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، فَيَجِبُ عَلَى الْبَشَرِ تَعْظِيمُهَا لِأَنَّهَا هِيَ الْآلِهَةُ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَعْبُدُ اللَّهَ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْمَنْسُوبُ لِلَّذِينِ جَاءَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَادًّا عَلَيْهِمْ.
386
الْأَجْرُ: مَصْدَرُ أَجَرَ يَأْجُرُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَأْجُورِ بِهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ. وَالْأُجُورُ: جَبْرُ كَسْرٍ مُعْوَجٍّ، وَالْإِجَّارُ: السَّطْحُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
تَبْدُو هَوَادِيهَا مِنَ الْغُبَارِ كَالْجَيْشِ الصَّفِّ عَلَى الْإِجَّارِ
الرَّفْعُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَعْلَى الشَّيْءِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ رَفَعَ يَرْفَعُ، الطُّورُ: اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. أَوِ الْجَبَلُ الْمُنْبِتُ دُونَ غَيْرِ الْمُنْبِتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ، أَوِ الْجَبَلُ الَّذِي نَاجَى اللَّهَ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقَالَ الْعَجَّاجُ:
دَانِي جناحيه من الطور فر تَقَضَّى الْبَازِيُّ إِذَا الْبَازِيُّ كَسَرْ
وَقَالَ آخَرُ:
وَإِنْ تَرَ سَلْمَى الْجِنُّ يَسْتَأْنِسُوا بِهَا وَإِنْ يَرَ سَلْمَى صَاحِبُ الطُّورِ يَنْزِلِ
وَأَصْلُهُ النَّاحِيَةُ، وَمِنْهُ طَوَارُ الدَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ جِنْسُ الْجَبَلِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. الْقُوَّةُ:
الشِّدَّةُ، وَهِيَ مَصْدَرُ قَوِيَ يَقْوَى، وطيء تَقُولُ: قَوَى، يَفْتَحُونَ الْعَيْنَ والتاء مَفْتُوحَةٌ فَتَنْقَلِبُ أَلِفًا، يَقُولُونَ فِي بَقِيَ: بَقَى، وَفِي زَهِيَ: زَهَا، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ فِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ. قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ التَّمِيمِيُّ:
زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظل إنسان عينه يفيض بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأَفِ
وَهَذِهِ الْمَادَّةُ قَلِيلَةٌ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ وَاللَّامُ وَاوَيْنِ. التَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ بَعْدَ الْإِقْبَالِ. لَوْلَا: لِلتَّحْضِيضِ بِمَنْزِلَةِ هَلَّا، فَيَلِيهَا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا، وَحَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ فَيَكُونُ لَهَا جَوَابٌ، وَيَجِيءُ بَعْدَهَا اسْمٌ مَرْفُوعٌ بِهَا عِنْدَ الْفَرَّاءِ، وَبِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ، وَبِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ فِيهِ تَفْصِيلٌ ذَكَرْنَاهُ فِي (مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ الْخَبَرَ، خِلَافًا لِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الطَّرَاوَةِ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا مُضْمَرٌ فَيَكُونُ ضَمِيرَ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهَا ضَمِيرُ الْجَرِّ فَتَقُولُ: لَوْلَانِي وَلَوْلَاكَ وَلَوْلَاهُ، إِلَى آخِرِهَا، وَهُوَ في موضع جر بلو لا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عِنْدَ الْأَخْفَشِ، اسْتُعِيرَ ضَمِيرُ الْجَرِّ لِلرَّفْعِ، كَمَا اسْتَعَارُوا ضَمِيرَ الرَّفْعِ لِلْجَرِّ فِي قَوْلِهِمْ: مَا أَنَا كَانَتْ، وَلَا أَنْتَ كَانَا. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لَوْلَا نَافِيَةٌ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ «١»،
(١) سورة يونس: ١٠/ ٩٨.
387
فَبَعِيدٌ قَوْلُهُ عَنِ الصَّوَابِ. السَّبْتَ: اسْمٌ لِيَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبْتِ الَّذِي هُوَ الْقَطْعُ، أَوْ مِنَ السُّبَاتِ، وَهُوَ الدَّعَةُ وَالرَّاحَةُ، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا خَطَأٌ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ سَبَتَ بِمَعْنَى اسْتَرَاحَ، وَالسَّبْتُ: الْحَلْقُ وَالسَّيْرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
بِمُقْوَرَّةِ الْأَلْيَاطِ أَمَّا نَهَارُهَا فَسَبْتٌ وَأَمَّا لَيْلُهَا فَذَمِيلُ
وَالسَّبْتُ: النَّعْلُ، لِأَنَّهُ يُقْطَعُ كَالطَّحْنِ وَالرَّعْيِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سُمِّيَ يَوْمُ السَّبْتَ لِأَنَّهُ قِطْعَةُ زَمَانٍ، قَالَ لَبِيدُ:
وَغَنَيْتُ سَبْتًا قَبْلَ مَجْرَى دَاحِسٍ لَوْ كان للنفس اللحوح خُلُودُ
الْقِرْدُ: مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ فِعْلُ الِاسْمِ قِيَاسًا عَلَى فُعُولٍ نَحْوَ: قِرْدٍ وَقُرُودٍ، وَجِسْمٍ وَجُسُومٍ، وَقَلِيلًا عَلَى فِعَلَةٍ نَحْوَ: قِرْدٍ وَقِرَدَةٍ، وَحِسْلٍ وَحِسَلَةٍ. الْخَسْءُ: الصَّغَارُ وَالطَّرْدُ، وَالْفِعْلُ: خَسَأَ، وَيَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، يُقَالُ: خَسَأَ الْكَلْبُ خُسُوًّا: ذَلَّ وَبُعِدَ، وَخَسَأْتُهُ:
طَرَدْتُهُ وَأَبْعَدْتُهُ، خَسَأَ: كَرَجَعَ رُجُوعًا، وَرَجَعْتُهُ رَجْعًا. النَّكَالُ: الْعِبْرَةُ، وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ، وَالنَّكْلُ: الْقَيْدُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: النَّكَالُ: الْعُقُوبَةُ. الْيَدُ: عُضْوٌ مَعْرُوفٌ أَصْلُهُ يَدَيَّ، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَقَدْ أَبْدَلُوا يَاءَهُ هَمْزَةً قَالُوا: قَطَعَ اللَّهُ أَدَيْهِ: يُرِيدُونَ يَدَيْهِ، وَجُمِعَتْ عَلَى أَفْعِلٍ، قَالُوا: أَيْدٍ، أَصْلُهُ: أَيْدِي، وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ لِلنِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ. وَأَمَّا الْأَيَادِي فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَمْعُ جَمْعٍ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي النِّعْمَةِ أَكْثَرُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ لِلْجَارِحَةِ، كَمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْأَيْدِي فِي الْجَارِحَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي النِّعْمَةِ. خَلْفَ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُبْهَمٍ، وَهُوَ مُتَوَسِّطُ التَّصَرُّفِ، وَيَكُونُ أَيْضًا وَصْفًا، يُقَالُ رَجُلٌ خَلْفٌ: بِمَعْنَى رَدِيءٍ، وَسَكَتَ أَلْفًا وَنَطَقَ خَلْفًا: أَيْ نُطْقًا رَدِيئًا. مَوْعِظَةٌ: مَفْعِلَةٌ، مِنَ الْوَعْظِ، وَالْوَعْظُ: الْإِذْكَارُ بِالْخَيْرِ بِمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ، وَكَسْرُ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِيمَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ وَعَلَى مُفْعِلٍ هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ شَذَّ: مُوءَلَةٌ وَكَلِمٌ، ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ جَاءَتْ مَفْتُوحَةَ الْعَيْنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الْآيَةَ. نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ سَلْمَانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَحِبَ عُبَّادًا مِنَ النَّصَارَى، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ: إِنْ زَمَانَ نَبِيٍّ قَدْ أَظَلَّ، فَإِنْ لَحِقْتَهُ فَآمِنْ بِهِ. وَرَأَى مِنْهُمْ عِبَادَةً عَظِيمَةً، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ لَهُ خَبَرَهُمْ وَسَأَلَهُ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، حَكَى هَذِهِ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً ابْنُ إِسْحَاقَ وَالطَّبَرِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَقَدَّرَ اللَّهُ بِهَا أَنَّ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ بَقِيَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ وَنَصْرَانِيَّتِهِ وَصَابِئِيَّتِهِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَهُ أَجْرُهُ، ثُمَّ نَسَخَ مَا قَدَّرَ مِنْ ذَلِكَ
388
بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «١». وَرُدَّتِ الشَّرَائِعُ كُلُّهَا إِلَى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَهِيَ فِيمَنْ ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروي الْوَاحِدِيُّ، بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ إِلَى مُجَاهِدٍ، قَالَ: لَمَّا قَصَّ سَلْمَانُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُ هُمْ فِي النَّارِ، قَالَ سَلْمَانُ: فَأَظْلَمَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ، فَنَزَلَتْ إِلَى يَحْزَنُونَ، قَالَ: فَكَأَنَّمَا كُشِفَ عَنِّي جَبَلٌ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْكَفَرَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، أَخْبَرَ بِمَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، دَالًّا عَلَى أَنَّهُ يَجْزِي كُلًّا بِفِعْلِهِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُنَافِقُو هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَيْ آمَنُوا ظَاهِرًا، وَلِهَذَا قَرَنَهُمْ بِمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ مَنْ آمَنَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَوِ الْمُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ. وَمَنْ آمَنَ: معناه من دوام عَلَى إِيمَانِهِ، وَفِي سَائِرِ الْفِرَقِ: مَنْ دَخَلَ فِيهِ، أَوِ الْحَنِيفِيُّونَ مِمَّنْ لَمْ يَلْحَقِ الرَّسُولَ: كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَقُسُّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَمَنْ لَحِقَهُ: كَأَبِي ذر، وسلمان، وبحيرا. وَوَفْدِ النَّجَاشِيِّ الَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الْمَبْعَثَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَدْرَكَ وَتَابَعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَالَّذِينَ هَادُوا كَذَلِكَ، مِمَّنْ لَمْ يَلْحَقْ إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِعِيسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ، وَالصَّابِئِينَ كَذَلِكَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوْ أَصْحَابُ سَلْمَانَ، وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُهُمْ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ بِعِيسَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ الرَّسُولُ، قاله ابن عباس، أو الْمُؤْمِنُونَ بِمُوسَى، وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ عِيسَى فَآمَنُوا بِهِ وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ، إِلَى أَنْ جَاءَ مُحَمَّدٌ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، أَوْ مُؤْمِنُو الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، أَوِ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ فِي الْمَعْنِيِّ بِالَّذِينِ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَهُمُ الْيَهُودُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هَادُوا بِضَمِّ الدَّالِّ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّاكِ الْعَدَوِيُّ: بِفَتْحِهَا مِنَ الْمُهَادَاةِ، قِيلَ: أَيْ مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مَادَّتُهَا هَاءٌ وَوَاوٌ وَدَالٌ، أَوْ هَاءٌ وَيَاءٌ وَدَالٌ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ مَادَّتُهَا هَاءٌ وَدَالٌ وَيَاءٌ، وَيَكُونُ فَاعَلَ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَجَاءَ فِيهِ فَاعَلَ مُوَافِقَةً فَعَلَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَالَّذِينَ هَدُوا، أَيْ هَدُوا أَنْفُسَهُمْ نَحْوَ: جَاوَزْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى جُزْتُهُ.
وَالنَّصارى: الْأَلِفُ لِلتَّأْنِيثِ، وَلِذَلِكَ مُنِعَ الصَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى «٢»، وَهَذَا الْبِنَاءُ، أَعْنِي فَعَالَى، جَاءَ مَقْصُورًا جَمْعًا، وَجَاءَ مَمْدُودًا مُفْرَدًا، وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ أَيْضًا نَحْوَ: بُرَاكَاءَ: وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالصَّابِئِينَ مَهْمُوزًا، وَكَذَا وَالصَّابِئُونَ، وتقدم
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٨٥.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ١٤.
389
مَعْنَى صَبَأَ الْمَهْمُوزِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَظْهَرُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ صَبَأَ:
بِمَعْنَى مَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِلَى هِنْدٍ صَبَا قَلْبِي وَهِنْدٌ مِثْلُهَا يُصْبِي
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ يَكُونُ أَصْلُهُ الْهَمْزُ، فَسُهِّلَ بِقَلْبِ الْهَمْزِ أَلِفًا فِي الْفِعْلِ وَيَاءً فِي الِاسْمِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدِيَ فِي مَرَابِضِهَا وَالنَّاسُ لَيْسَ بِهَادٍ شَرُّهُمْ أَبَدَا
وَقَالَ الْآخَرُ:
وَكُنْتُ أَذَلَّ مِنْ وَتَدٍ بِقَاعٍ يُشَجَّجُ رَأْسُهُ بِالفَهْرِوَاجِ
وَقَالَ آخَرُ:
فَارْعِي فَزَارَةَ لَا هَنَاكِ الْمَرْتَعُ إِلَّا أَنَّ قَلْبَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَلْبُ الْهَمْزَةِ يَاءً فَبَابُهُ الشِّعْرُ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَسَائِلَ مِنْ أَحْكَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَالصَّابِئِينَ: لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُ الْقُرْآنِ هُنَا، فَلَمْ يَذْكُرْهَا، وَمَوْضِعُهَا كُتُبُ الْفِقْهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، مَنْ: مُبْتَدِأَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، فَالْخَبَرُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا، وَإِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً، فَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ الْمَوْصُولَ قَدِ اسْتَوْفَى شروط جواز دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا. وَاتَّفَقَ الْمُعْرِبُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ إِذَا كَانَ مَنْ مُبْتَدَأً، وَأَنَّ الرَّابِطَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَلَا يَتِمُّ مَا قَالُوهُ إِلَّا عَلَى تَغَايُرِ الْإِيمَانَيْنِ، أَعْنِي: الَّذِي هُوَ صِلَةُ الَّذِينَ، وَالَّذِي هُوَ صِلَةُ مَنْ، إِمَّا فِي التَّعْلِيقِ، أَوْ فِي الزَّمَانِ، أَوْ فِي الْإِنْشَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَغَايَرَا، فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا: مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، لا يُقَالُ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ إِلَّا عَلَى التَّغَايُرِ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْحَذْفِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، أَيْ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ، وَذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَنْ آمَنَ خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَمَنْ أَعْرَبَ مَنْ مُبْتَدَأً، فَإِنَّمَا جَعَلَهَا شَرْطِيَّةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَ كَوْنِهَا مَوْصُولَةً، وَأَعْرَبُوا أَيْضًا مَنْ بَدَلًا، فَتَكُونُ مَنْصُوبَةً مَوْصُولَةً. قَالُوا: وَهِيَ بَدَلٌ مِنِ اسْمِ إِنَّ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَا
390
يَتِمُّ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ تَغَايُرِ الْإِيمَانَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا، إِذَا كَانَتْ مُبْتَدَأَةً. وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْمَعَاطِيفِ الَّتِي بَعْدَ اسْمِ إِنَّ، فَيَصِحُّ إِذْ ذَاكَ الْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ غَيْرِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، وَمَنْ آمَنَ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِدُخُولِ إِنَّ عَلَى الْمَوْصُولِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا مُبَالَاةَ بِمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ آمَنَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَحُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ الْعَطْفِ، التَّقْدِيرُ: وَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَقَدِ انْدَرَجَ فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ، إِذِ الْبَعْثُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ.
وَعَمِلَ صالِحاً: هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الصَّلَاحِ وَأَقْوَالِهَا وَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، أَوِ التَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَالٌ. الثَّانِي: يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ حُمِلَ الصِّلَةُ أَوْ فِعْلُ الشَّرْطِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى لَفْظِ مَنْ، فَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي آمَنَ وَعَمِلَ ثُمَّ قَالَ: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَجَمَعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. وَهَذَانِ الْحَمْلَانِ لَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِإِعْرَابِ مَنْ مُبْتَدَأً، وَأَمَّا عَلَى إِعْرَابِ مَنْ بَدَلًا، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ فَقَطْ. وَلِلْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى قُيُودٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَإِذَا جَرَى مَا بَعْدَ مَنْ عَلَى اللَّفْظِ فَجَائِزٌ أَنْ يُخَالَفَ بِهِ بَعْدُ عَلَى الْمَعْنَى، وَإِذَا جَرَى مَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَعْنَى، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَالَفَ بِهِ بَعْدُ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْإِلْبَاسَ يَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ يَجُوزُ إِذَا رَاعَيْتَ الْمَعْنَى أَنْ تُرَاعِيَ اللَّفْظَ بَعْدَ ذَلِكَ. لَكِنَّ الْكُوفِيِّينَ يَشْتَرِطُونَ الْفَصْلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْحَمْلَيْنِ فَيَقُولُونَ: مَنْ يَقُومُونَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَيَنْظُرُ فِي أُمُورِنَا قَوْمُكَ وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا عَلَى مَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ:
تُرْوَى الْأَحَادِيثُ عَنْ كُلِّ مُسَامَحَةٍ وَإِنَّمَا لِمُعَانِيهَا مَعَانِيهَا
وأجرهم: مرفوع بالابتداء، ولهم فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَعِنْدَ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ: أَنَّ أَجْرَهُمْ مَرْفُوعٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. عِنْدَ رَبِّهِمْ: ظَرْفٌ يَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِقْرَارُ الَّذِي هُوَ عَامِلٌ فِي لَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَائِنًا عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا خَوْفٌ، بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلَا خَوْفُ، مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «١» فِي آخِرِ قصة آدم على نبينا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٢ و ٢٧٤ و ٢٧٧.
391
وَمُنَاسَبَةُ خَتْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ مَنِ اسْتَقَرَّ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ لَا يَلْحَقُهُ حُزْنٌ عَلَى مَا مَضَى، وَلَا خَوْفٌ عَلَى مَا يَسْتَقْبِلُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: اخْتِلَافُ الطُّرُقِ مَعَ اتِّحَادِ الْأَصْلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُسْنِ الْقَبُولِ، فَمَنْ صَدَقَ اللَّهَ تَعَالَى فِي إِيمَانِهِ، وَآمَنَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ حَقِّهِ وَصِفَاتِهِ، فَاخْتِلَافُ وُقُوعِ الِاسْمِ غَيْرُ قَادِحٍ فِي اسْتِحْقَاقِ الرِّضْوَانِ.
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ: هَذَا هُوَ الْإِنْعَامُ الْعَاشِرُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَفْظَةِ الْمِيثَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ «١». وَالْمِيثَاقُ: مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْعُقُولَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَصِدْقِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، أَوِ الْمَأْخُوذُ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «٢»، أَوْ إِلْزَامُ النَّاسِ مُتَابَعَةَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ الْعَهْدُ مِنْهُمْ لَيَعْمَلُنَّ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، فلما جاء موسى قرأوا مَا فِيهَا مِنَ التَّثْقِيلِ فَامْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِهَا، أَوْ قَوْلُهُ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ «٣»، أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. قَالَ الْقَفَّالُ: قَالَ مِيثَاقَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ مَوَاثِيقَكُمْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ مِيثَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، كَقَوْلِهِ: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «٤»، أَوْ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَخَذَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ مِيثَاقًا وَاحِدًا، وَلَوْ جَمَعَ لَاحْتَمَلَ التَّغَايُرَ. انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا.
وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ: سَبَبُ رَفْعِهِ امْتِنَاعُهُمْ مِنْ دُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، أَوْ مِنَ السُّجُودِ، أَوْ مِنْ أَخْذِ التَّوْرَاةِ وَالْتِزَامِهَا. أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ.
رُوِيَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ قَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا، فَقَالُوا: لَا، إِلَّا أَنْ يُكَلِّمَنَا اللَّهُ بِهَا، كَمَا كَلَّمَكَ، فَصَعِقُوا ثُمَّ أُحْيُوا. فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا، فَقَالُوا: لَا. فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ فَاقْتَلَعَتْ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ فَلَسْطِينَ طُولُهُ فَرْسَخٌ فِي مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَسْكَرُهُمْ، فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ مِثْلَ الظُّلَّةِ، وَأَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَحْرَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَضْرَمَ نَارًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَاحْتَاطَ بِهِمْ غَضَبُهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَعَلَيْكُمُ الْمِيثَاقُ أَنْ لَا تُضَيِّعُوهَا، وَإِلَّا سَقَطَ عَلَيْكُمُ الْجَبَلُ، وَغَرَّقَكُمُ الْبَحْرُ، وَأَحْرَقَتْكُمُ النَّارُ، فَسَجَدُوا تَوْبَةً لِلَّهِ، وَأَخَذُوا التَّوْرَاةَ بِالْمِيثَاقِ، وَسَجَدُوا عَلَى شِقٍّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْقُبُونَ الْجَبَلَ خَوْفًا. فَلَمَّا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا:
لَا سَجْدَةَ أَفْضَلُ مِنْ سَجْدَةٍ تَقَبَّلَهَا اللَّهُ وَرَحِمَ بِهَا، فَأَمَرُّوا سُجُودَهُمْ عَلَى شِقٍّ وَاحِدٍ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ ارْتِفَاعَ الجبل فوق رؤوسهم كَانَ مِقْدَارَ قَامَةِ الرَّجُلِ، وَلَمْ تَدُلَّ الْآيَةُ عَلَى هَذَا السُّجُودِ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْنَا، وَاوُ الْعَطْفِ: عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٧.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٧٢.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٨٣.
(٤) سورة غافر: ٤٠/ ٦٧.
392
عَبَّاسٍ، لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ كَانَ مُتَقَدِّمًا، فَلَمَّا نَقَضُوهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قَبُولِ الْكِتَابِ رُفِعَ عَلَيْهِمُ الطُّورُ. وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ: فَإِنَّهَا وَاوُ الْحَالِ، أَيْ إِنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ كَانَ فِي حَالِ رَفْعِ الطُّورِ فَوْقَهُمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ «١»، أَيْ وَقَدْ كَانَ فِي مَعْزِلٍ.
خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: وَقُلْنَا لَكُمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: لَا يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ قَوْلٍ، لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ هُوَ قَوْلٌ، وَالْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ بِأَنْ خُذُوا مَا آتيناكم، وما مَوْصُولٌ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَا آتَيْنَاكُمُوهُ، وَيَعْنِي بِهِ الْكِتَابَ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ، وقرىء: مَا آتَيْتُكُمْ، وَهُوَ شِبْهُ التفات، لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ:
بِقُوَّةٍ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، أَوْ بِعَمَلٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ بِصِدْقٍ وَحَقٍّ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ بِقَبُولٍ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ أَوْ بِطَاعَةٍ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ أَوْ بِنِيَّةٍ وَإِخْلَاصٍ، أَوْ بِكَثْرَةِ دَرْسٍ وَدِرَايَةٍ أَوْ بِجِدٍّ وَعَزِيمَةٍ وَرَغْبَةٍ وَعَمَلٍ أَوْ بِقُدْرَةٍ. وَالْقُوَّةُ: الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَالْبَاءُ لِلْحَالِ أَوْ الِاسْتِعَانَةِ.
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِهِ أَمْرًا مِنْ ذَكَرَ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَاذَّكَّرُوا مَا فِيهِ: أَمْرًا مِنِ اذَّكَّرَ، وَأَصْلُهُ: وإذ تكروا، ثُمَّ أُبْدِلَ مِنَ التَّاءِ دَالٌ، ثُمَّ أُدْغِمَ الذَّالُ فِي الدَّالِ، إِذْ أَكْثَرُ الْإِدْغَامِ يَسْتَحِيلُ فِيهِ الْأَوَّلُ إِلَى الثَّانِي، وَيَجُوزُ فِي هَذَا أَنْ يَسْتَحِيلَ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ، وَيُدْغَمُ فِيهِ الْأَوَّلُ فَيُقَالُ: اذَّكَّرَ، وَيَجُوزُ الْإِظْهَارُ فَتَقُولُ: اذْذَكَّرَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَذَكَّرُوا، عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ انْجَزَمَ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ خُذُوا. فَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ قِيلَ: هذا يكون أمرا بالادكار، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الذِّكْرُ مُتَرَتِّبًا عَلَى حُصُولِ الْأَخْذِ بِقُوَّةٍ، أَيْ إِنْ تَأْخُذُوا بِقُوَّةٍ تَذْكُرُوا مَا فِيهِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ قرىء: وَتَذَكَّرُوا أَمْرًا مِنَ التَّذَكُّرِ، وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَوَهِمَ الَّذِي نَقَلْنَاهُ مِنْ كِتَابِهِ تَذَكَّرُوا فِي إِسْقَاطِ الْوَاوِ، وَالَّذِي فِيهِ هُوَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّوَابِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ احْفَظُوا مَا فِيهِ وَلَا تَنْسُوهُ وَادْرُسُوهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ أَوْ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَصِفَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَوِ اتَّعِظُوا بِهِ لِتَنْجُوا مِنَ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ فِي الْعُقْبَى. وَالذِّكْرُ: قَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا. فَبِاللِّسَانِ مَعْنَاهُ: ادْرُسُوا، وَبِالْقَلْبِ مَعْنَاهُ: تَدَبَّرُوا، وَبِهِمَا مَعْنَاهُ:
(١) سورة هود: ١١/ ٤٢.
393
ادْرُسُوا أَلْفَاظَهُ وَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهُ. أَوْ أُرِيدَ بِالذِّكْرِ: ثَمَرَتُهُ، وَهُوَ الْعَمَلُ، فَمَعْنَاهُ: اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ يَعُودُ عَلَى مَا. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: لَا يُحْمَلُ عَلَى نَفْسِ الذِّكْرِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْأَمْرُ بِهِ؟
انْتَهَى.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: أَيْ رَجَاءَ أَنْ يَحْصُلَ لَكُمُ التَّقْوَى بِذِكْرِ مَا فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَعَلَّكُمْ تَنْزِعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ. وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّهُمُ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ وَفَعَلُوا مُقْتَضَاهُ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ وَالِالْتِزَامِ لِمَا أُمِرُوا بِهِ. وَفِي بَعْضِ الْقَصَصِ أَنَّهُمْ قَالُوا، لَمَا زَالَ الْجَبَلُ: يَا مُوسَى، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَلَوْلَا الْجَبَلُ مَا أَطَعْنَاكَ. وَفِي بَعْضِ الْقَصَصِ: فَآمَنُوا كَرْهًا، وَظَاهِرُ هَذَا الْإِلْجَاءُ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ وَقْتَ السُّجُودِ، حَتَّى كَانَ إِيمَانُهُمْ طَوْعًا لَا كَرْهًا.
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ: أَيْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْمِيثَاقِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَأَصْلُ التَّوَلِّي: أَنْ يَكُونَ بِالْجِسْمِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأُمُورِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ، اتِّسَاعًا وَمَجَازًا. وَدُخُولُ ثُمَّ مشعر بالمهلة، ومن تُشْعِرُ بِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. لَكِنْ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: فَأَخَذْتُمْ مَا آتَيْنَاكُمْ، وَذَكَرْتُمْ مَا فِيهِ، وَعَمِلْتُمْ بِمُقْتَضَاهُ.
فَلَا بُدَّ مِنِ ارْتِكَابِ مجاز فِي مَدْلُولِ مَنْ، وَأَنَّهُ لِسُرْعَةِ التَّوَلِّي مِنْهُمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ مَا تَخَلَّلَ بَيْنَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَبَيْنَ التَّوَلِّي شَيْءٌ. وَقَدْ علم أنهم بعد ما قَبِلُوا التَّوْرَاةَ، تَوَلَّوْا عَنْهَا بِأُمُورٍ، فَحَرَّفُوهَا، وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهَا، وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ، وَعَصَوْا أَمْرَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا اخْتُصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَمَا عَمِلَهُ أَوَائِلُهُمْ، وَمَا عَمِلَهُ أَوَاخِرُهُمْ. وَلَمْ يَزَالُوا فِي التِّيهِ، مَعَ مُشَاهَدَتِهِمُ الْأَعَاجِيبَ، يُخَالِفُونَ مُوسَى، وَيُظَاهِرُونَ بِالْمَعَاصِي فِي عَسْكَرِهِمْ، حَتَّى خُسِفَ بِبَعْضِهِمْ، وَأَحْرَقَتِ النَّارُ بَعْضَهُمْ، وَعُوقِبُوا بِالطَّاعُونِ، وَكُلُّ هَذَا مَذْكُورٌ فِي تَرَاجِمِ التَّوْرَاةِ الَّتِي يَقْرَأُونَ بِهَا، ثُمَّ فَعَلَ سَاحِرُوهُمْ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، حَتَّى عُوقِبُوا بِتَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَفَرُوا بِالْمَسِيحِ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَالْقُرْآنُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَيَانُ مَا تَوَلَّوْا بِهِ عَنِ التَّوْرَاةِ.
فَالْجُمْلَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ أَسْلَافِهِمْ. فَغَيْرُ عَجِيبٍ إِنْكَارُهُمْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَالُهُمْ فِي كِتَابِهِ مَا ذَكَرَ. والإشارة بذلك فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِلَى قَبُولِ مَا أُوتُوهُ، أَوْ إِلَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ وَالْوَفَاءِ بِهِ، وَرَفْعِ الْجَبَلِ، أَوْ خُرُوجِ مُوسَى مِنْ بَيْنِهِمْ، أَوِ الْإِيمَانِ، أَقْوَالٌ.
394
فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، الْفَضْلُ: الْإِسْلَامُ، وَالرَّحْمَةُ: الْقُرْآنُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. أَوِ الْفَضْلُ: قَبُولُ التَّوْبَةِ، وَالرَّحْمَةُ: الْعَفْوُ عَنِ الزَّلَّةِ، أَوِ الْفَضْلُ: التَّوْفِيقُ لِلتَّوْبَةِ، وَالرَّحْمَةُ: الْقَبُولُ. أَوِ الْفَضْلُ والرحمة، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ. أَوِ الْفَضْلُ وَالرَّحْمَةُ: بَعْثَةُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِدْرَاكُهُمْ لِمُدَّتِهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ، إِذْ صَارَ هَذَا عَائِدًا عَلَى الْحَاضِرِينَ. وَالْأَقْوَالُ قَبْلَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ مَنْ سَلَفَ، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي سِيَاقِ قِصَّتِهِمْ. وَفَضْلُ اللَّهِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ: مَوْجُودٌ، وَمَا يُشْبِهُهُ مِمَّا يَلِيقُ بِالْمَوْضِعِ. وَعَلَيْكُمْ: متعلق بفضل، أَوْ مَعْمُولٌ لَهُ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَوْجُودَانِ، لَكُنْتُمْ: جَوَابُ لَوْلَا. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُثْبَتًا تَدْخُلُهُ اللام، ولم يجىء فِي الْقُرْآنِ مُثْبَتًا إِلَّا بِاللَّامِ، إِلَّا فِيمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهَمَّ بِها «١»، جَوَابُ: لَوْلَا قُدِّمَ فَإِنَّهُ لَا لَامَ مَعَهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِغَيْرِ لَامٍ، وَبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يَخُصُّ ذَلِكَ بِالشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْلَا الْحَيَاءُ وَلَوْلَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُمَا عَوَرِي
وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ بَعْدَ اللَّامِ، قَدْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْلَا الْأَمِيرُ وَلَوْلَا حَقُّ طَاعَتِهِ لَقَدْ شَرِبْتُ دَمًا أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ
وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ أَيْضًا حَذْفُ اللَّامِ وَإِبْقَاءُ قَدْ نَحْوَ: لَوْلَا زَيْدٌ قَدْ أَكْرَمْتُكَ. مِنَ الْخاسِرِينَ: تَقَدَّمَ أَنَّ الْخُسْرَانَ: هُوَ النُّقْصَانُ، وَمَعْنَاهُ مِنَ الْهَالِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَانَ هُنَا بِمَعْنَى: صَارَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَخَذَ سُبْحَانَهُ مِيثَاقَ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَكِنَّ قَوْمًا أَجَابُوهُ طَوْعًا، لِأَنَّهُ تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ، فَوَحَّدُوهُ، وَقَوْمًا أَجَابُوهُ كَرْهًا، لِأَنَّهُ سَتَرَ عَلَيْهِمْ، فَجَحَدُوهُ. وَلَا حُجَّةَ أَقْوَى مِنْ عِيَانِ مَا رُفِعَ فَوْقَهُمْ مِنَ الطَّوْرِ، وَلَكِنْ عَدِمُوا نُورَ الْبَصِيرَةِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ عِيَانُ الْبَصَرِ. قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، أَيْ رَجَعْتُمْ إِلَى الْعِصْيَانِ، بَعْدَ مُشَاهَدَتِكُمُ الْإِيمَانَ بِالْعِيَانِ، وَلَوْلَا حُكْمُهُ بِإِمْهَالِهِ، وَحُكْمُهُ بِإِفْضَالِهِ، لَعَاجَلَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَحَلَّ بِكُمْ عَظِيمُ الْمُصِيبَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللَّطَائِفِ: كَانَتْ نُفُوسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ ظُلُمَاتِ عصيانها، تخبط
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٢٤.
395
فِي عَشْوَاءَ حَالِكَةَ الْجِلْبَابِ، وَتَخْطُرُ، مِنْ غَلَوَائِهَا وَعُلُوِّهَا، فِي حُلَّتَيْ كِبْرٍ وَإِعْجَابٍ. فَلَمَّا أُمِرُوا بِأَخْذِ التَّوْرَاةِ، وَرَأَوْا مَا فِيهَا مِنْ أَثْقَالِ التَّكَالِيفِ، ثَارَتْ نُفُوسُهُمُ الْآبِيَةُ، فَرَفَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ، فَوَجَدُوهُ أَثْقَلَ مِمَّا كُلِّفُوهُ، فَهَانَ عَلَيْهِمْ حَمْلُ التَّوْرَاةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ التَّكْلِيفِ وَالنَّصَبِ، إِذْ ذَاكَ أَهْوَنُ مِنَ الْهَلَاكِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِلَى اللَّهِ يُدْعَى بِالْبَرَاهِينِ مَنْ أَبَى فَإِنْ لَمْ يُجِبْ نَادَتْهُ بِيضُ الصَّوَارِمِ
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اللَّامُ فِي لَقَدْ: هِيَ لَامُ تَوْكِيدٍ، وَتُسَمَّى: لَامُ الِابْتِدَاءِ فِي نَحْوِ: لَزَيْدٌ قَائِمٌ. وَمِنْ أَحْكَامِهَا: أَنَّ مَا كَانَ فِي حَيِّزِهَا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا، إِلَّا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى خَبَرِ إِنَّ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ كِتَابًا فِي اللَّامَاتِ ذَكَرَهَا فِيهِ وَأَحْكَامَهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِقِسْمٍ مَحْذُوفٍ، وَلَكِنَّهُ جِيءَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَبْهَتُوا فِي إِنْكَارِهَا، وَذَلِكَ لَمَّا نَالَ فِي عُقْبَى أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ مِنْ مَسْخِهِمْ قِرَدَةً، فَاحْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى تَوْكِيدٍ، وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ حَقِيقَةً. وَعَلِمَ هُنَا كَعَرَفَ، فَلِذَلِكَ تَعَدَّتْ إِلَى وَاحِدٍ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَعْيَانَ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: عَلِمْتُمْ أَحْكَامَ الَّذِينَ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: اعْتِدَاءَ الَّذِينَ. وَالِاعْتِدَاءُ كَانَ عَلَى مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّ مُوسَى أَمَرَهُ اللَّهُ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةَ، وَعَرَّفَهُ فَضْلَهُ، كَمَا أَمَرَ بِهِ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّشَرُّعِ فِيهِ، فَأَبَوْهُ وَتَعَدَّوْهُ إِلَى يَوْمِ السَّبْتِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: أَنْ دَعْهُمْ وَمَا اخْتَارُوهُ. وَامْتَحَنَهُمْ فِيهِ، بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْعَمَلِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ صَيْدَ الْحِيتَانِ. فَكَانَتْ تَأْتِي يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى الْأَفْنِيَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَقِيلَ: حَتَّى تُخْرِجَ خَرَاطِيمَهَا مِنَ الْمَاءِ، وَكَانَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَيْلَةَ عَلَى الْبَحْرِ، فَإِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ ذَهَبَتِ الْحِيتَانُ، فَلَمْ يَظْهَرُوا لِلسَّبْتِ الْآخَرِ. فَبَقُوا عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا حَتَّى اشْتَهَوُا الْحُوتَ، فَعَمَدَ رَجُلٌ يَوْمَ السَّبْتِ، فَرَبَطَ حُوتًا بِخَزَمَةٍ، وَضَرَبَ لَهُ وَتَدًا بِالسَّاحِلِ. فَلَمَّا ذَهَبَ السَّبْتُ، جَاءَ فَأَخَذَهُ فَسَمِعَ قَوْمٌ بِفِعْلِهِ، فَصَنَعُوا مِثْلَ مَا صَنَعَ، وَقِيلَ: بَلْ حَفَرَ رَجُلٌ فِي غَيْرِ السَّبْتِ حَفِيرًا يَخْرُجُ إِلَيْهِ الْبَحْرُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ، خَرَجَ الْحُوتُ وَحَصَلَ فِي الْحَفِيرَةِ، فَإِذَا جَزَرَ الْبَحْرُ، ذَهَبَ الْمَاءُ مِنْ طَرِيقِ الْحَفِيرَةِ وَبَقِيَ الْحُوتُ، فَجَاءَ بَعْدَ السَّبْتِ فَأَخَذَهُ. فَفَعَلَ قَوْمٌ مِثْلَ فِعْلِهِ. وَكَثُرَ ذَلِكَ، حَتَّى صَادُوهُ يَوْمَ السَّبْتِ عَلَانِيَةً وَبَاعُوهُ فِي الْأَسْوَاقِ. فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِاعْتِدَاءِ. وَقَدْ رُوِيَتْ زِيَادَاتٌ فِي كَيْفِيَّةِ الِاعْتِدَاءِ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَالَّذِي يَصِحُّ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا صَحَّ عَنْ نَبِيِّهِ.
مِنْكُمْ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَائِنِينَ مِنْكُمْ، وَمِنْ: لِلتَّبْعِيضِ.
396
فِي السَّبْتِ: مُتَعَلِّقٌ بِاعْتَدَوْا، إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ يَوْمَ، أَوْ حُكْمٌ. وَالْحَامِلُ عَلَى الِاعْتِدَاءِ قِيلَ:
الشَّيْطَانُ وَسْوَسَ لَهُمْ وَقَالَ: إِنَّمَا نُهِيتُمْ عَنْ أَخْذِهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَلَمْ تُنْهَوْا عَنْ حَبْسِهَا، فَأَطَاعُوهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، ولم يجعل لَهُ عُقُوبَةٌ، وَتَشَبَّهَ بِهِ أُنَاسٌ مِنْهُمْ، وَفَعَلُوا لِفِعْلِهِ، ظَنُّوا أَنَّ السَّبْتَ قَدْ أُبِيحَ لَهُمْ، فَتَمَالَأَ عَلَى ذَلِكَ جَمْعٌ كَبِيرٌ، فَأَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ. وَقِيلَ: أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَقَالُوا:
إِنَّمَا نَهَانَا اللَّهُ عَنْ أَسْبَابِ الِاكْتِسَابِ الَّتِي تَشْغَلُنَا عَنِ الْعِبَادَةِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ.
وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ أوباشهم تحريا وَعِصْيَانًا، فَعَمَّ اللَّهُ الْجَمِيعَ بِالْعَذَابِ.
فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا: أَمْرٌ مِنَ الْكَوْنِ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُمْ إِلَى مَا ذُكِرَ لَيْسَ فِيهِ تَكَسُّبٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا قَادِرِينَ عَلَى قَلْبِ أَعْيَانِهِمْ قِرَدَةً، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ سُرْعَةُ الْكَوْنِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «١»، وَمَجَازُهُ: أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ مِنْهُمْ ذَلِكَ صَارُوا كَذَلِكَ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ مَسْخُهُمْ قِرَدَةً.
وَقِيلَ: لَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «٢»، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ حَتَّى صَارَتْ كَقُلُوبِ الْقِرَدَةِ، لَا تَقْبَلُ وَعْظًا وَلَا تَعِي زَجْرًا، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْقِيَ اللَّهُ لَهُمْ فَهْمَ الْإِنْسَانِيَّةِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِمْ قِرَدَةً.
وَرُوِيَ فِي بَعْضِ قَصَصِهِمْ: أَنِ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَأْتِيهِ الشَّخْصُ مِنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ فَيَقُولُ لَهُ: أَلَمْ أَنْهَكَ؟
فَيَقُولُ لَهُ بِرَأْسِهِ: بَلَى، وَتَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى خَدِّهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي هَذَا الْمَسْخِ شَيْءٌ مِنْهُمْ خَنَازِيرُ.
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الشَّبَابَ صَارُوا قِرَدَةً، وَالشُّيُوخَ صَارُوا خَنَازِيرَ، وَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نُهُوا، وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ.
وَرُوِيَ فِي قَصَصِهِمْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَخَ الْعَاصِينَ قِرَدَةً بِاللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ النَّاجُونَ إِلَى مَسَاجِدِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ، فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا مِنَ الْهَالِكِينَ، فَقَالُوا:
إِنَّ لِلنَّاسِ لَشَأْنًا، فَفَتَحُوا عَلَيْهِمُ الْأَبْوَابَ، كَمَا كَانَتْ مُغْلَقَةً بِاللَّيْلِ، فَوَجَدُوهُمْ قِرَدَةً يَعْرِفُونَ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ.
وَقِيلَ: إِنِ النَّاجِينَ قَدْ قَسَمُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَاصِينَ الْقَرْيَةَ بِجِدَارٍ تَبَرِّيًا مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا وَلَمْ تُفْتَحْ مَدِينَةُ الْهَالِكِينَ، فَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِمُ الْجِدَارَ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ يَثِبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ قَتَادَةُ: وَصَارُوا قِرَدَةً تعاوي، لها أذناب، بعد ما كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً.
قِرَدَةً خاسِئِينَ: كِلَاهُمَا خَبَرُ كَانَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قَدْ جمعوا بين القردة
(١) سورة النحل: ١٦/ ٤٠.
(٢) سورة الجمعة: ٦٢/ ٥.
397
وَالْخُسُوءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاسِئِينَ صِفَةً لِقِرْدَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من اسْمِ كُونُوا.
وَمَعْنَى خَاسِئِينَ: مُبْعَدِينَ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: خَاسِرِينَ، كَأَنَّهُ فَسَّرَ بِاللَّازِمِ، لِأَنَّ مَنْ أَبْعَدَهُ اللَّهُ فَقَدْ خَسِرَ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: عَلَى أَنَّ الَّذِينَ مَسَخَهُمُ اللَّهُ لَمْ يَأْكُلُوا، وَلَمْ يَشْرَبُوا، وَلَمْ يَنْسَلُوا، بَلْ مَاتُوا جَمِيعًا، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَعِيشُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُمْ عَاشُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَمَاتُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، وَكَانَ هَذَا فِي زَمَنِ دَاوُدَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَكَانُوا فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: أَيْلَةُ، وَقِيلَ: مَدْيَنُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ: أَهِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ فَقَالَ: «اللَّهُ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا، وَأَنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ».
وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُمْ عَاشُوا، وَأَنَّ الْقِرَدَةَ الْمَوْجُودِينَ الْآنَ مِنْ نَسْلِهِمْ.
فَجَعَلْناها: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقَرْيَةِ أَوْ عَلَى الْأُمَّةِ، أَوْ عَلَى الْحَالَةِ، أَوْ عَلَى الْمَسَخَةِ، أَوْ عَلَى الْحِيتَانِ، أَوْ عَلَى الْعُقُوبَةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ:
كُونُوا، أَيْ فَجَعَلْنَا كَيْنُونَتَهُمْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ. نَكالًا: أَيْ عِبْرَةً، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلَ.
لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها: أَيْ مِنَ الْقُرَى، وَالضَّمِيرُ لِلْقَرْيَةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَمَا خَلْفَهَا: أَيِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُمْ بَاقِينَ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْ مَا بَيْنَ يَدَيْهَا: أَيْ مَا دونها، وما خَلْفَهَا يَعْنِي: لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. وَالضَّمِيرُ لِلْأُمَّةِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. أَوْ ما بين يديها من ذُنُوبِ الْقَوْمِ، وَمَا خَلْفَهَا لِلْحِيتَانِ الَّتِي أَصَابُوا، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوْ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا: مَا مَضَى مِنْ خَطَايَاهُمُ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. أَوْ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِمَّنْ شَاهَدَهَا، وَمَا خَلْفَهَا مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا، قَالَهُ قُطْرُبٌ. أَوْ ما بين يديها من ذُنُوبِ الْقَوْمِ، وَمَا خَلْفَهَا لِمَنْ يُذْنِبُ بَعْدَهَا مِثْلَ تِلْكَ الذُّنُوبِ. أَوْ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا: مَنْ حَضَرَهَا من الناجين، وما خَلْفَهَا مِمَّنْ يَجِيءُ بَعْدَهَا. أَوْ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا من عقوبة الآخرة، وما خَلْفَهَا فِي دُنْيَاهُمْ، فَيُذْكَرُونَ بِهَا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. أَوْ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا: لِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، وما خَلْفَهَا: وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا مِنَ الْقُرَى الَّتِي لَمْ تَكُنْ، لِأَنَّ مَسْخَتَهُمْ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ، فَاعْتَبَرُوا بِهَا، وَاعْتَبَرَ بِهَا مَنْ بَلَغَتْهُمْ مِنَ الْآخَرِينَ. أَوْ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ فَجَعَلْنَاهَا وَمَا خَلْفَهَا مِمَّا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ، نَكَالًا وَجَزَاءً، لَا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ لِاعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ. فَهَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا. قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَالْأَقْرَبُ لِلصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: ما بين يديها: من يَأْتِي مِنَ الْأُمَمِ بَعْدَهَا. وما خَلْفَهَا: مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ تَنَلْهُمُ الْعُقُوبَةُ، وَمَنْ قَالَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقَرْيَةِ، فَالْمُرَادُ أَهْلُهَا.
398
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ: خَصَّ الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «١»، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «٢». وَقِيلَ: أَرَادَ نَكَالًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: الْمُتَّقُونَ أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ. وَقِيلَ: اللَّفْظُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُتَّقٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: الَّذِينَ نُهُوا وَنَجَوْا.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مُؤْمِنِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، وَمُؤْمِنِي غَيْرِهِمْ فِي كَيْنُونَةِ الْأَجْرِ لَهُمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُمْ، وَأَنَّ إِيمَانَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَنْتَجَ لَهُمُ الْأَمْنَ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا خَوْفٌ مِمَّا يُسْتَقْبَلُ، وَلَا حُزْنٌ عَلَى مَا فَاتَ إِذْ مَنِ اسْتَقَرَّ لَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى مِنَ الْكَرَامَةِ. وَقَدْ أَدْخَلَ هَذِهِ الْآيَةَ بَيْنَ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْفَوْزَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَطَاعَ. وَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَيْنَ آيَتَيْ عِقَابٍ: إِحْدَاهُمَا تَتَضَمَّنُ ضَرْبَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْأُخْرَى تَتَضَمَّنُ مَا عُوقِبُوا بِهِ مَنْ نَتْقِ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ، وَأَخْذِ الْمِيثَاقِ، ثُمَّ تَوَلِّيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ. فَأَعْلَمَتْ هذه الآية بحسن عَاقِبَةِ مَنْ آمَنَ، حَتَّى مِنْ هَذَا الْجِنْسِ الَّذِي عُوقِبَ بِهَاتَيْنِ الْعُقُوبَتَيْنِ، تَرْغِيبًا فِي الْإِيمَانِ، وَتَيْسِيرًا لِلدُّخُولِ فِي أَشْرَفِ الْأَدْيَانِ، وَتَبْيِينًا أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَجْلِبُ إِحْسَانَهُ وَفَضْلَهُ.
وَتَضَمَّنَ قَوْلِهِ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ التَّذْكِيرَ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَأَنَّهُ رَفَعَ الطُّورَ فَوْقَهُمْ لِأَنْ يَتُوبُوا ويرجوا، وَأَنَّهُمْ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمْ هَذَا الْخَارِقَ الْعَظِيمَ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لَخَسِرُوا. ثُمَّ أَخَذَ يُذَكِّرُهُمْ مَا هُوَ فِي طَيِّ عِلْمِهِمْ مِنْ عُقُوبَةِ الْعَاصِينَ، وَمَآلِ اعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَأَنَّهُ بِاسْتِمْرَارِ الْعِصْيَانِ وَالِاعْتِدَاءِ فِي إِبَاحَةِ مَا حَظَرَهُ الرَّحْمَنُ، يُعَاقِبُ بِخُرُوجِ الْعَاصِي مِنْ طَوْرِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى طَوْرِ الْقِرْدِيَّةِ، فَبَيْنَا هُوَ يَفْرَحُ بِجَعْلِهِ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَيَمْرَحُ مُلْتَذًّا بِدَلَالِ الْخِطَابِ، نُسِخَ اسْمُهُ مِنْ دِيوَانِ الْكَمَالِ، وَنُسِخَ شَكْلُهُ إِلَى أَقْبَحِ مِثَالٍ، هَذَا مع ما أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّكَالِ، وَالْعُقُوبَاتُ عَلَى الْجَرَائِمِ جَارِيَةٌ عَلَى الْمِقْدَارِ، نَاشِئَةٌ عَنْ إِرَادَةِ الْمَلِكِ الْقَهَّارِ، لَيْسَتْ مِمَّا تُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ، فَيَخُوضُ فِي تَعْيِينِهَا أَلْبَابُ النَّاسِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ تَكُونُ تَنْبِيهًا لِلْغَافِلِ، عظة للعاقل.
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٥.
(٢) سورة النازعات: ٧٩/ ٤٥. [.....]
399

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٤]

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
الْبَقَرَةُ: الْأُنْثَى مِنْ هَذَا الْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ. وَالْبَاقِرُ وَالْبَقِيرُ وَالْبَيْقُورُ وَالْبَاقُورُ، قَالُوا: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بَقَرَةً لِأَنَّهَا تَبْقُرُ الْأَرْضَ، أَيْ تَشُقُّهَا لِلْحَرْثِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: الْبَاقِرُ. وَكَانَ هُوَ وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفُصَحَاءِ. الْعِيَاذُ وَالْمَعَاذُ: الِاعْتِصَامُ. الْفِعْلُ مِنْهُ: عَاذَ يَعُوذُ. الْجَهْلُ:
مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: جَهِلَ يَجْهَلُ، قِيلَ: وَقَدْ جُمِعَ عَلَى أَجِهَالٍ، وَهُوَ شَاذٌّ.
قَالَ الشَّنْفَرَى:
وَلَا تَزْدَهِي الْأَجْهَالُ حِلْمِي وَلَا أَرَى سَؤُولًا بِأَطْرَافِ الْأَقَاوِيلِ أَنْمُلُ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ جَاهِلٍ، كَأَصْحَابٍ: جَمْعِ صَاحِبٍ. الْفَارِضُ: الْمُسِنُّ الَّتِي انْقَطَعَتْ وِلَادَتُهَا مِنَ الْكِبَرِ. يُقَالُ: فَرَضَتْ وَفَرُضَتْ تَفْرِضُ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا، وَالْمَصْدَرُ فَرُوضٌ، وَالْفَرْضُ: الْقَطْعُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
400
كُمَيْتٍ بَهِيمِ اللَّوْنِ لَيْسَ بِفَارِضٍ وَلَا بِعَوَانٍ ذَاتِ لَوْنٍ مُخَصَّفِ
وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا قَدُمَ وَطَالَ أَمْرُهُ: فَارِضٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا رُبَّ ذِي ضَغَنٍ عَلَيَّ فَارِضٍ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ
وَكَأَنَّ الْمُسِنَّ سُمِّيَتْ فَارِضًا لِأَنَّهَا فَرَضَتْ سِنَّهَا، أَيْ قَطَعَتْهَا وَبَلَغَتْ آخِرَهَا، قَالَ خُفَافُ بْنُ نُدْبَةَ:
لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ ضَيْفَكَ فَارِضًا تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ
وَلَمْ تُعْطِهِ بِكْرًا فَيَرْضَى سَمِينَهُ فَكَيْفَ تُجَازَى بِالْمَوَدَّةِ وَالْفَضْلِ
الْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ مِنَ الصِّغَرِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الَّتِي وَلَدَتْ وَلَدًا وَاحِدًا. وَالْبِكْرُ مِنَ النِّسَاءِ: الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا الرَّجُلُ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هِيَ الَّتِي لَمْ تَحْمَلْ. وَالْبِكْرُ مِنَ الْأَوْلَادِ: الْأَوَّلُ، وَمِنَ الْحَاجَاتِ: الْأُولَى.
قَالَ الرَّاجِزُ:
يَا بِكْرَ بِكْرَيْنِ وَيَا خِلْبَ الْكَبِدِ أَصْبَحْتَ مِنِّي كَذِرَاعٍ مِنْ عَضُدِ
وَالْبَكْرُ، بِفَتْحِ الْبَاءِ: الْفَتَى مِنَ الْإِبِلِ، وَالْأُنْثَى: بَكْرَةٌ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّقَدُّمِ فِي الزَّمَانِ، وَمِنْهُ الْبَكْرَةُ وَالْبَاكُورَةُ. وَالْعَوَانُ: النِّصْفُ، وَهِيَ الَّتِي وَلَدَتْ بَطْنًا أَوْ بَطْنَيْنِ، وَقِيلَ: الَّتِي وَلَدَتْ مَرَّةً. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: الْعَوَانُ لَا تَعْلَمُ الْخِمْرَةَ، وَيُقَالُ: عَوَنَتِ الْمَرْأَةُ، وَحَرْبٌ عَوَانٌ، وَهِيَ الَّتِي قُوتِلَ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَجُمِعَ عَلَى فُعُلٍ: قَالُوا عُوُنٌ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمُعْتَلِّ مِنْ فَعَأَلٍ، وَيَجُوزُ ضَمُّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِي الشِّعْرِ، مِنْهُ:
وَفِي الْأَكُفِّ اللَّامِعَاتِ سُوُرٌ بَيْنَ: ظَرْفُ مَكَانٍ مُتَوَسِّطُ التَّصَرُّفِ، تَقُولُ: هُوَ بَعِيدٌ بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَنَقِيٌّ بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ. قَالَ تَعَالَى: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ «١»، وَدُخُولُهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا: بَيْنَ مَا تُمْكِنُ الْبَيْنِيَّةُ فِيهِ، وَالْمَالُ بَيْنَ زَيْدٍ وَبَيْنَ عمرو، مسموع مِنْ كَلَامِهِمْ، وَيَنْتَقِلُ مِنَ الْمَكَانِيَّةِ إِلَى الزَّمَانِيَّةِ إِذَا لَحِقَتْهَا مَا، أَوِ الْأَلِفُ، فَيَزُولُ عَنْهَا الِاخْتِصَاصُ بِالْأَسْمَاءِ، فَيَلِيهَا إِذْ ذَاكَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ، وَرُبَّمَا أُضِيفَتْ بينا إلى المصدر. ولبين فِي عِلْمِ الْكُوفِيِّينَ بَابٌ مَعْقُودٌ كَبِيرٌ. اللَّوْنُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ عَلَى الْقِيَاسِ أَلْوَانٌ. وَاللَّوْنُ: النَّوْعُ، وَمِنْهُ أَلْوَانُ
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٧٨.
401
الطَّعَامِ: أَنْوَاعُهُ. وَقَالُوا: فُلَانٌ مُتَلَوِّنٌ: إِذَا كَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى خُلُقٍ وَاحِدٍ وَحَالٍ وَاحِدٍ، وَمِنْهُ:
يَتَلَوَّنُ تَلَوُّنَ الْحِرْبَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحِرْبَاءَ، لِصَفَاءِ جِسْمِهَا، أَيُّ لَوْنٍ قَابَلَتْهُ ظَهَرَ عَلَيْهَا، فَتَنْقَلِبُ مِنْ لَوْنٍ إِلَى لَوْنٍ. الصُّفْرَةُ: لَوْنٌ مَعْرُوفٌ، وَقِيَاسُ الْفِعْلِ مِنْ هَذَا الْمَصْدَرِ: صَفِرَ، فَهُوَ أَصْفَرُ، وَهِيَ صَفْرَاءُ، كَقَوْلِهِمْ: شَهُبَ: فهو أشبه، وَهِيَ شَهْبَاءُ. الْفُقُوعُ: أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وَأَبْلَغُهُ، يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَوَارِسٌ، وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَحَايِكٌ، وأبيض نفق وَلَمُقٌ، وَأَحْمَرُ قَانِيُّ وَزِنْجِيُّ، وَأَخْضَرُ نَاضِرٌ وَمُدْهَامٌّ، وَأَزْرَقُ خطباني وأرمك رداني. السُّرُورُ: لَذَّةٌ فِي الْقَلْبِ عِنْدَ حُصُولِ نَفْعٍ أَوْ تَوَقُّعِهِ أَوْ رُؤْيَةِ أَمْرٍ مُعْجِبٍ رَائِقٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: السُّرُورُ وَالْفَرَحُ وَالْحُبُورُ وَالْجَذَلُ نَظَائِرُ، وَنَقِيضُ السُّرُورِ: الْغَمُّ. الذَّلُولُ: الرَّيِّضُ الَّذِي زَالَتْ صُعُوبَتُهُ، يُقَالُ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذِّلِّ، بِكَسْرِ الذَّالِ، وَرَجُلٌ ذَلِيلٌ: بَيِّنُ الذُّلِّ بِضَمِّ الذَّالِ، وَالْفِعْلُ:
ذَلَّ يَذِلُّ. الْإِثَارَةُ: الِاسْتِخْرَاجُ وَالْقَلْقَلَةُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
يُهِيلُ وَيُذْرِي تُرْبَهَا وَيُثِيرُهُ إِثَارَةَ نَبَّاشِ الْهَوَاجِرِ مُخْمِسِ
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
يُثِرْنَ الْحَصَى حَتَّى يُبَاشِرْنَ تُرْبَهُ إِذَا الشَّمْسُ مَجَّتْ رِيقَهَا بِالْكَلَاكِلِ
الْحَرْثُ: مَصْدَرُ حَرَثَ يَحْرُثُ، وَهُوَ شَقُّ الْأَرْضِ لِيُبْذَرَ فِيهَا الْحَبُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا حُرِثَ وَزُرِعَ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ «١». وَالْحَرْثُ: الزَّرْعُ، وَالْحَرْثُ:
الْكَسْبُ، وَالْحَرَائِثُ: الْإِبِلُ، الْوَاحِدَةُ حَرِيثَةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ الْحَارِثُ
، لِأَنَّ الْحَارِثَ هُوَ الْكَاسِبُ، وَاحْتِرَاثُ الْمَالِ: اكْتِسَابُهُ. الْمُسَلَّمَةُ: الْمُخَلَّصَةُ الْمُبَرَّأَةُ مِنَ الْعُيُوبِ، سَلَّمَ لَهُ كَذَا: أَيْ خَلَّصَ، سَلَامًا وَسَلَامَةً مِثْلُ: اللَّذَاذُ وَاللَّذَاذَةُ. الشِّيَةُ: مَصْدَرُ وَشَى الثَّوْبَ، يَشِيَهُ وَشْيًا وَشِيَةً: حَسَّنَهُ وَزَيَّنَهُ بِخُطُوطٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّاعِي فِي الْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ: وَاشٍ، لِأَنَّهُ يُحَسِّنُ كَذِبَهُ عِنْدَهُمْ حَتَّى يُقْبَلَ، وَالشِّيَةُ: اللُّمْعَةُ الْمُخَالِفَةُ لِلَّوْنِ، وَمِنْهُ ثَوْرٌ مَوْشِيِّ الْقَوَائِمِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ طَاوِي الْمَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرَدِ
الْآنَ: ظَرْفُ زَمَانٍ، حَضَرَ جَمِيعُهُ أَوْ بَعْضُهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْحُضُورِ. وَقِيلَ:
زَائِدَةٌ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْفِعْلِ، يُقَالُ: آنَ يَئِينُ أَيْنًا: أَيْ حَانَ. الدَّرْءُ: الدَّفْعُ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ. وقال الشاعر:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٣.
402
فَنَكَّبَ عَنْهُمُ دَرْءَ الْأَعَادِي وادّار: تَفَاعُلٌ مِنْهُ، وَلِمَصْدَرِهِ حُكْمٌ يُخَالِفُ مَصَادِرَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أَوَّلُهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ ذُكِرَ فِي النَّحْوِ. الْقَسَاوَةُ: غِلَظُ الْقَلْبِ وَصَلَابَتُهُ. يُقَالُ: قَسَا يَقْسُو قَسْوًا وَقَسْوَةً وَقَسَاوَةً، وَقَسَا وَجَسَا وَعَسَا مُتَقَارِبَةٌ. الشَّقُّ، أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْءَ شِقَّيْنِ، وَتَشَقَّقَ مِنْهُ. الْخَشْيَةُ: الْخَوْفُ مَعَ تَعَظُّمِ الْمَخْشِيِّ. يُقَالُ: خَشِيَ يَخْشَى. الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ مُتَقَارِبَةٌ. يُقَالُ مِنْهُ: غَفَلَ يَغْفُلُ، وَمَكَانٌ غُفْلٌ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً الْآيَةَ. وُجِدَ قَتِيلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْمُهُ عَامِيلُ، وَلَمْ يَدْرُوا قَاتِلَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي سَبَبِ قَتْلِهِ. فَقَالَ عَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ:
كَانَ الْقَاتِلُ ابْنَ عَمِّ الْمَقْتُولِ، وَكَانَ مِسْكِينًا، وَالْمَقْتُولُ كَثِيرَ الْمَالِ. وَقِيلَ: كَانَ أَخَاهُ، وَقِيلَ:
ابْنُ أَخِيهِ، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ عُمْرُهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: كَانَ تَحْتَ عَامِيلَ بِنْتُ عَمٍّ لَا مِثْلَ لَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، فَقَتَلَهُ لِيَنْكِحَهَا. وَطَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِمْ. وَالَّذِي سَأَلَ مُوسَى الْبَيَانَ هُوَ الْقَاتِلُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَسَأَلُوا مُوسَى، وَوَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مُخَالَفَتِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُمْ فِي أَكْثَرِ أَنْبَائِهِمْ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ وَالتَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قالَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ «١»، وَقَوْمُ مُوسَى أَتْبَاعُهُ وَأَشْيَاعُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
يَأْمُرُكُمْ، بِضَمِّ الرَّاءِ، وعن أبي عمرو: والسكون وَالِاخْتِلَاسُ وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ أَلِفًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى بَارِئِكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَاضِي إِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ بِمَا أَخْبَرَ مُوسَى، وَأَنْ تَذْبَحُوا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي ليأمر، وَهُوَ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ بِأَنْ تَذْبَحُوا. وَلِحَذْفِ الْحَرْفِ هُنَا مُسَوِّغَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ، إِذَا كَانَ الْمَفْعُولُ مُتَأَثِّرًا بِحَرْفِ الْجَرِّ، أَنْ يُحْذَفَ الْحَرْفُ، كَمَا قَالَ:
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَالثَّانِي: كَوْنُهُ مَعَ إِنَّ، وَهُوَ يَجُوزُ مَعَهَا حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ إِذَا لَمْ يُلْبِسْ. وَدَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَأَيُّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لَوْ ذَبَحُوهَا لَكَانَ يَقَعُ الِامْتِثَالُ.
وَقَدْ رَوَى
(١) سورة البقرة: ٢/ ٦٣.
403
الْحَسَنُ مَرْفُوعًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوِ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».
وَإِنَّمَا اخْتُصَّ الْبَقَرُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الْبَقَرَ وَيَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَاخْتُبِرُوا بِذَلِكَ، إِذْ هَذَا مِنَ الِابْتِلَاءِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنْ يُؤْمَرَ الْإِنْسَانُ بِقَتْلِ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يَصِلَ الْخَيْرُ لِلْغُلَامِ الَّذِي كَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ. وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: لَمْ تَكُنْ مِنْ بَقَرِ الدُّنْيَا، بَلْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْبَقَرُ سَيِّدُ الْحَيَوَانَاتِ الْإِنْسِيَّةِ.
وَقَرَأَ: أَتَتَّخِذُنا؟ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ هُوَ لِمُوسَى. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالْيَاءِ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. هُزُواً، قَرَأَ حَمْزَةُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَخَلَفٌ فِي اخْتِيَارِهِ، وَالْقَزَّازُ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ وَالْمُفَضَّلُ، بِإِسْكَانِ الزَّايِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: بِضَمِّ الزَّايِ وَالْوَاوِ بَدَلَ الْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِضَمِّ الزَّايِ وَالْهَمْزَةِ، وَفِيهِ ثَلَاثُ لغات التي قرىء بِهَا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ:
أَتَتَّخِذُنا هُزُواً، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ اسْمَ الْمَفْعُولِ، أَيْ مهزوأ، كَقَوْلِهِ: دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، وَهَذَا خَلْقُ اللَّهِ، أَوْ يَكُونَ أُخْبِرُوا بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ أَتَتَّخِذُنَا نفس الهزؤ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِهْزَاءِ مِمَّنْ يَكُونُ جَاهِلًا، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مَكَانَ هُزُءٍ، أَوْ ذَوِي هُزُءٍ، وَإِجَابَتُهُمْ نَبِيَّهُمْ حِينَ أَخْبَرَهُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِأَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، بِقَوْلِهِمْ: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً دَلِيلٌ عَلَى سُوءِ عَقِيدَتِهِمْ فِي نَبِيِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ، إِذْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ صَحِيحٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمَا كَانَ جَوَابُهُمْ إِلَّا امْتِثَالَ الْأَمْرِ، وَجَوَابُهُمْ هَذَا كُفْرٌ بِمُوسَى. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ:
كَانُوا مُؤْمِنِينَ مُصَدِّقِينَ، وَلَكِنْ جَرَى هَذَا عَلَى نَحْوِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ غِلَظِ الطَّبْعِ وَالْجَفَاءِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَالْعُذْرُ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى تَعْيِينَ الْقَاتِلِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا، رأوا تباين مَا بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَبُعْدَهُ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّ مُوسَى دَاعَبَهُمْ، وَقَدْ لَا يَكُونُ أَخْبَرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنَّ الْقَتِيلَ يُضْرَبُ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ فَيَحْيَا وَيُخْبِرُ بِمَنْ قَتَلَهُ، أَوْ يَكُونُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ إِحْيَاءِ مَيِّتٍ بِبَعْضِ مَيِّتٍ، فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِهْزَاءِ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَتَّخِذَنَا هُزُوًا؟ وَقِيلَ:
هُوَ اسْتِفْهَامٌ حَقِيقَةً لَيْسَ فِيهِ إِنْكَارٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِرْشَادٍ لَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَعِنَادٍ.
قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، لَمَّا فَهِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُمْ أَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهُمْ إِنَّمَا هِيَ لِاعْتِقَادِهِمْ فِيهَا أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ، اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ، أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِاللَّهِ، فَيُخْبِرَ عَنْهُ بِأَمْرٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ تَعَالَى، إِذِ
404
الْإِخْبَارُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ اللَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْجَاهِلِينَ، فِيهِ تَصْرِيحٌ أَنَّ ثَمَّ جَاهِلِينَ، وَاسْتَعَاذَ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْ أَكُونَ مِنْكُمْ، لِأَنَّهُمْ جَوَّزُوا عَلَى مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَخُصُوصًا فِي التَّبْلِيغِ، عَنِ اللَّهِ أَنْ يُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ بِالْكَذِبِ. قَالُوا: وَالْجَهْلُ بَسِيطٌ، وَمُرَكَّبٌ الْبَسِيطُ: عَامٌّ وَخَاصٌّ. الْعَامُّ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْخَاصُّ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِبَعْضِ الْمَعْلُومَاتِ، وَالْمُرَكَّبُ: أَنْ يَجْهَلَ، وَيَجْهَلَ أَنَّهُ يَجْهَلُ. فَالْعَامُّ وَالْمُرَكَّبُ لَا يُوصَفُ بِهِمَا مَنْ لَهُ بَعْضُ عِلْمٍ، فَضْلًا عَنْ نَبِيٍّ شُرِّفَ بِالرِّسَالَةِ وَالتَّكْلِيمِ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ. فَالَّذِي اسْتَعَاذَ مِنْهُ مُوسَى هُوَ خَاصٌّ، وَهُوَ الْمُفْضِي إِلَى أَنْ يُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَهْزِئًا، أَوِ الْمُقَابِلُ لِجَهْلِهِمْ. فَقَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا لِمَنْ يُخْبِرُهُمْ عَنِ اللَّهِ، أَوْ مَعْنَاهُ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْمُؤْمِنِينَ. فَإِنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ، أَوْ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِالْجَوَابِ، لَا عَلَى وَفْقِ السُّؤَالِ، إِذْ ذَاكَ جَهْلٌ، وَالْأَمْرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَأَنْسُبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ جَوَابِ السَّائِلِ الْمُسْتَرْشِدِ إِلَى الْهُزُءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ. وَهَذِهِ الْوُجُوهُ السِّتَّةُ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى مُوسَى. قِيلَ: وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْأَدَبِ، كَمَا اسْتَعَاذَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ «١»، وَكَمَا فِي: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ، لَمَّا قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، وَعَلِمُوا أَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ كَانَ عَزِيمَةً وَطَلَبًا، جَازَ مَا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا فِيهِ تَعْنِيتٌ مِنْهُمْ وَقِلَّةُ طَوَاعِيَةٍ، إِذْ لَوِ امْتَثَلُوا فَذَبَحُوا بَقَرَةً، لَكَانُوا قَدْ أَتَوْا بِالْمَأْمُورِ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمَا. وَكَسْرُ الْعَيْنِ مِنِ ادْعُ لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا «٢»، وَجَزْمُ يُبَيِّنْ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَمَا هِيَ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: سَلْ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ مَا هِيَ، وَمَفْعُولُ يُبَيِّنْ: هِيَ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقٌ، لِأَنَّ مَعْنَى يُبَيِّنْ لَنَا يُعْلِمُنَا مَا هِيَ، لِأَنَّ التَّبْيِينَ يَلْزَمُهُ الْإِعْلَامُ، وَالضَّمِيرُ فِي هِيَ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يُبَيِّنْ لَنَا مَا الْبَقَرَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِذَبْحِهَا، وَلَمْ يُرِيدُوا تَبْيِينَ مَاهِيَّةِ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنِ الْوَصْفِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: مَا صِفَتُهَا؟ وَلِذَلِكَ أُجِيبُوا بِالْوَصْفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ. وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَلَى طَرِيقِ التَّعَنُّتِ، كما
(١) سورة هود: ١١/ ٤٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٦١.
405
قَدَّمْنَاهُ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ مِنْ بَقَرَةٍ مَيِّتَةٍ يُضْرَبُ بِهَا مَيِّتٌ فَيَحْيَا، إِذْ ذَاكَ فِي غَايَةِ الِاسْتِغْرَابِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْمَأْلُوفِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا قَوْلَهُ: أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ، فَسَأَلُوا تَبْيِينَ ذَلِكَ، إِذْ تَبْيِينُ الْمُجْمَلِ وَاجِبٌ، أَوْ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يَنْسَخَ عَنْهُمْ تَكْلِيفَ الذَّبْحِ، لِثِقَلِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْلَمُوا الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمِرُوا بِذَلِكَ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: ادْعُ لَنا رَبَّكَ، كَيْفَ خَصُّوا لَفْظَ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى مُوسَى، وَذَلِكَ لِمَا عَلِمُوا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلُوا مُوسَى اسْتِرْشَادًا لَا عِنَادًا، إِذْ لَوْ كَانَ عِنَادًا لَكَفَرُوا بِهِ وَعُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُمْ، كَمَا عُجِّلَتْ فِي قَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «١»، وَفِي عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَفِي امْتِنَاعِهِمْ مِنْ قَبُولِ التَّوْرَاةِ، وَقَوْلِهِمْ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «٢». وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَجَابَهُ.
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ: صفة لبقرة، وَالصِّفَةُ إِذَا كَانَتْ مَنْفِيَّةً بِلَا، وَجَبَ تَكْرَارُهَا، كَمَا قَالَ:
وَفِتْيَانُ صِدْقٍ لَا ضِعَافٌ وَلَا عُزْلُ فَإِنْ جَاءَتْ غَيْرَ مُكَرَّرَةٍ، فَبَابُهَا الشِّعْرُ، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمُجْمَلِ، فَقَدَّرَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفًا، أَيْ لَا هِيَ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ، فَقَدْ أَبْعَدَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْوَصْفُ بِالْمُفْرَدِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا حَذْفَ. عَوانٌ: تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ. بَيْنَ ذلِكَ: يَقْتَضِي بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَدْخُلُ عَلَى مَا يُمْكِنُ التَّثْنِيَةُ فِيهِ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهَا إِلَّا اسْمُ إِشَارَةٍ مُفْرَدٌ، فَقِيلَ: أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى مُفْرَدٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَوَانٌ بَيْنَ مَا ذُكِرَ، فَصُورَتُهُ صُورَةُ الْمُفْرَدِ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُثَنًّى، لِأَنَّ تَثْنِيَةَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَجَمْعَهُ لَيْسَ تَثْنِيَةً وَلَا جَمْعًا حَقِيقَةً، بَلْ كَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ، قَالُوا: وَقَدْ أُجْرِىَ الضَّمِيرُ مُجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، قَالَ رُؤْبَةُ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
قِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ كَأَنَّهُ؟ وَهَلَّا قُلْتَ: كَأَنَّهَا، فَيَعُودَ عَلَى الْخُطُوطِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا، فَيَعُودَ عَلَى السَّوَادِ وَالْبَلَقِ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ كَانَ ذَاكَ، وَقَالَ لَبِيدٌ:
إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى وَكِلَا ذَلِكَ وجه وقبل
(١) سورة المائدة: ٥/ ٢٤.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٥٣.
406
قيل: أرادوا كلا ذَيْنِكَ، فَأَطْلَقَ الْمُفْرَدَ وَأَرَادَ بِهِ الْمُثَنَّى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ أَطْلَقَ ذَلِكَ وَيُرِيدُ بِهِ ذَيْنِكَ، وَهَذَا مُجْمَلٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ. وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمَعْطُوفُ، لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَهَذَا، أَيْ بَيْنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا أَبُو حجر إلا ليال قلائل
أَيْ: فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَاغِيهِ، فَحُذِفَ لِفَهْمِ المعنى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «١» أَيْ وَالْبَرْدَ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ عَوَانًا لِأَنَّهُ أَكْمَلُ أَحْوَالِهَا، فَالصَّغِيرَةُ نَاقِصَةٌ لِتَجَاوُزِهَا حَالَتَهُ.
فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ: أَيْ مِنْ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلَا تُكَرِّرُوا السُّؤَالَ، وَلَا تَعَنَّتُوا فِي أَمْرِ مَا أُمِرْتُمْ بِذَبْحِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. حرّضتم عَلَى امْتِثَالِ مَا أُمِرُوا بِهِ، شَفَقَةً مِنْهُ. وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا تُؤْمَرُونَهُ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، إِذْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ، وَلِتَنَاسُبِ أَوَاخِرِ الْآيِ، كَمَا قُصِدَ تَنَاسُبُ الْإِعْرَابِ فِي أَوَاخِرِ الْأَبْيَاتِ فِي قَوْلِهِ:
وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنَّ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ إِذْ آخِرُ الْبَيْتِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا قَوْلُهُ:
وَمَا يَدْرُونَ أَيْنَ الْمَصَارِعُ وأجاز بعضهم أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: فَافْعَلُوا أَمْرَكُمْ، وَيَكُونَ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَأْمُورَكُمْ، وَفِيهِ بُعْدٌ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها لَمَّا تَعَرَّفُوا سِنَّ هَذِهِ، شَرَعُوا فِي تَعَرُّفِ لَوْنِهَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى نَقْصِ فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، إذ قد تقدّم أمران: أَمْرُ اللَّهِ لَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، وَأَمْرُ الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ، النَّاصِحِ لَهُمْ، الْمُشْفِقِ عَلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِ:
فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِعُوا عَنِ السُّؤَالِ عَنْ لَوْنِهَا، وَالْقَوْلُ فِي: ادْعُ لَنا رَبَّكَ، وَفِي جَزْمِ: يُبَيِّنْ، وَفِي الْجُمْلَةِ الْمُسْتَفْهَمِ بِهَا وَالْمَحْذُوفِ بَعْدَهُ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهُ، فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ: قَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ اللَّوْنُ الْمَعْرُوفُ: وَلِذَلِكَ أُكِّدَ بِالْفُقُوعِ وَالسُّرُورِ، فَهِيَ صَفْرَاءُ حَتَّى الْقَرْنُ وَالظِّلْفُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: عَنَى بِهِ هُنَا السَّوَادَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَصَفْرَاءُ لَيْسَتْ بِمُصْفَرَّةٍ وَلَكِنَّ سَوْدَاءَ مِثْلَ الْحُمَمْ
(١) سورة النحل: ١٦/ ٨١.
407
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: صَفْرَاءُ الْقَرْنِ وَالظِّلْفِ خَاصَّةً. فاقِعٌ: أَيْ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ أَوِ الْخَالِصُ الصُّفْرَةِ، قَالَهُ قُطْرُبٌ، أَوِ الصَّافِي، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ. لَوْنُها: ذَكَرُوا فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَهُ فَاعِلٌ مَرْفُوعٌ بفاقع، وفاقع صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَاقِعٌ. وَالثَّالِثُ: أنه مبتدأ، وتَسُرُّ النَّاظِرِينَ خَبَرٌ. وَأُنِّثَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِكَوْنِهِ أُضِيفَ إِلَى مُؤَنَّثٍ، كَمَا قَالُوا: ذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمُؤَنَّثُ، إِذْ هُوَ الصُّفْرَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: صُفْرَتُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ: جَاءَتْهُ كِتَابِي فَاحْتَقَرَهَا، عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ وَالْوَجْهُ الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ إِعْرَابَ لونها مبتدأ، وفاقع خبر مقدّم لَا يُجِيزُهُ الْكُوفِيُّونَ، أَوْ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ خَبَرَهُ، فِيهِ تَأْنِيثُ الْخَبَرِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ. وَكَوْنُ لونها فاعلا بفاقع جَارٍ عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ، ولا يحتاج إلى تقديم، وَلَا تَأْخِيرٍ، وَلَا تَأْوِيلٍ، وَلَمْ يُؤَنِّثْ فَاقِعًا وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِمُؤَنَّثٍ، لِأَنَّهُ رفع السبي، وَهُوَ مُذَكَّرٌ فَصَارَ نَحْوَ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ حَسَنٌ أَبُوهَا، وَلَا يَصِحُّ هُنَا أَنْ يكون تابعا لصفراء عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُطَابَقَةَ، إِذْ ذَاكَ لِلْمَتْبُوعِ. أَلَاَ تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ أَسْوَدُ حَالِكٌ، وَسَوْدَاءُ حَالِكَةٌ، وَلَا يَجُوزُ سَوْدَاءُ حَالِكٌ؟ فَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَإِنِّي لَأَسْقِي الشَّرْبَ صَفْرَاءَ فَاقِعًا كَأَنَّ ذَكِيَّ الْمِسْكِ فِيهَا يُفَتَّقُ
فَبَابُهُ الشِّعْرُ، إِذَا كَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ صَفْرَاءَ فَاقِعَةً، وَجَاءَ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها، وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِهِ: صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ تَأْكِيدَ نِسْبَةِ الصُّفْرَةِ، فَحَكَمَ عَلَيْهَا أَنَّهَا صَفْرَاءُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَى اللَّوْنِ أَنَّهُ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ، فَابْتَدَأَ أَوَّلًا بِوَصْفِ الْبَقَرَةِ بِالصُّفْرَةِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِ اللَّوْنِ بِهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هِيَ صَفْرَاءُ، وَلَوْنُهَا شَدِيدُ الصُّفْرَةِ. فَقَدِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا تَعَلُّقِ الصُّفْرَةِ لَفْظًا، إِذْ تَعَلَّقَتْ أَوَّلًا بِالذَّاتِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِالْعَرَضِ الَّذِي هُوَ اللَّوْنُ، وَاخْتَلَفَ الْمُتَعَلِّقُ أَيْضًا، لِأَنَّ مُطْلَقَ الصُّفْرَةِ مُخَالِفٌ لِشَدِيدِ الصُّفْرَةِ، وَمَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى التَّوْكِيدِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ، فَهَلَّا قِيلَ: صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ؟ وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذَلِكَ اللَّوْنِ؟
قُلْتُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ التَّوْكِيدُ، لِأَنَّ اللَّوْنَ اسْمٌ لِلْهَيْئَةِ، وَهِيَ الصُّفْرَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: شَدِيدُ الصُّفْرَةِ صُفْرَتُهَا، فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: جَدَّ جِدُّهُ، وَجُنُونُكَ جُنُونٌ. اه كَلَامُهُ. وَقَالَ وَهْبٌ: إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا خُيِّلَ إِلَيْكَ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا.
تَسُرُّ النَّاظِرِينَ: أَيْ تُبْهِجُ النَّاظِرِينَ إِلَيْهَا مِنْ سِمَنِهَا وَمَنْظَرِهَا وَلَوْنِهَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا خَبَرًا، كَقَوْلِهِ: لَوْنُهَا، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَجَاءَ هَذَا الوصف بالفعل، ولم يجىء بِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُشْعِرُ بِالْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ. وَلَمَّا
408
كَانَ لَوْنُهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَجَدَّدُ، جَاءَ الْوَصْفُ بِهِ بِالِاسْمِ لَا بِالْفِعْلِ، وَتَأَخَّرَ هَذَا الْوَصْفُ عَنِ الْوَصْفِ قَبْلَهُ، لأنه ناشىء عَنِ الْوَصْفِ قَبْلَهُ، أَوْ كالناشىء، لِأَنَّ اللَّوْنَ إِذَا كَانَ بَهِجًا جَمِيلًا، دَهِشَتْ فِيهِ الْأَبْصَارُ، وَعَجِبَتْ مِنْ حُسْنِهِ الْبَصَائِرُ، وَجَاءَ بِوَصْفِ الْجَمْعِ فِي النَّاظِرِينَ، لِيُوَضِّحَ أَنَّ أَعْيُنَ النَّاسِ طَامِحَةٌ إِلَيْهَا، مُتَلَذِّذَةٌ فِيهَا بِالنَّظَرِ. فَلَيْسَتْ مِمَّا تُعْجِبُ شَخْصًا دُونَ شَخْصٍ، وَلِذَلِكَ أَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ هِيَ بِصَدَدِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سُرَّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ هُنَا مِنْ نَظَرِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْفِكْرُ، فَيَكُونُ السُّرُورُ قَدْ حَصَلَ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي بَدَائِعِ صُنْعِ اللَّهِ، مِنْ تَحْسِينِ لَوْنِهَا وَتَكْمِيلِ خَلْقِهَا. وَالضَّمِيرُ فِي تَسُرُّ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تَسُرُّ صِفَةٌ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّوْنِ الَّذِي تَسُرُّ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ التَّأْنِيثِ، وَلِذَلِكَ مَنْ قَرَأَ يَسُرُّ بِالْيَاءِ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّوْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَوْنُهَا مُبْتَدَأً، وَيَسُرُّ خَبَرًا، وَيَكُونَ فاقعا صفة تابعة لصفراء، عَلَى حَدِّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ وَهُوَ:
وَإِنِّي لَأَسْقِي الشَّرْبَ صَفْرَاءَ فَاقِعًا عَلَى قِلَّةِ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَوْنُهَا فَاعِلًا بفاقع، ويسر إخبار مستأنف. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ يُشِيرُونَ إِلَى أَنَّ الصُّفْرَةَ مِنَ الْأَلْوَانِ السَّارَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهُهُ، يَرْغَبُ فِي النِّعَالِ الصُّفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصُّفْرَةُ تَبْسُطُ النَّفْسَ وَتُذْهِبُ الْهَمَّ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا يَحُضُّ عَلَى لُبْسِ النِّعَالِ الصُّفْرِ. وَنَهَى ابْنُ الزُّبَيْرِ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ لِبَاسِ النِّعَالِ السُّودِ، لِأَنَّهَا تُهِمُّ.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ المرسي في ري الظَّمْآنِ وَجْهُ الِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمْ، أَنَّ كُلَّ بَقَرَةٍ لَا تَصْلُحُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ آيَةً، لِمَا عَلِمُوا مِنْ نَاقَةِ صَالِحٍ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ، فَظَنُّوا أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَكُونُ آيَةً إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ، وَذَلِكَ لَمَّا نُبِّئُوا أَنَّهَا آيَةٌ، سَأَلُوا عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلُوا مُوسَى عَنْ ذَلِكَ، بَلْ سَأَلُوهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، إِذِ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِالْآيَاتِ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ التَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُقْتَضَاهُ الْإِطْلَاقُ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَمِلُوا بِمُطْلَقِهِ لَمْ يَحْصُلِ التَّقَصِّي عَنِ الْأَمْرِ بِيَقِينٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا لَمْ يُمْكِنُ التَّمَاثُلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ، سَاغَ لَهُمُ السُّؤَالُ، فَأُخْبِرُوا بِسِنِّهَا، فَوَجَدُوا مِثْلَهَا فِي السِّنِّ كَثِيرًا، فَسَأَلُوا عَنِ اللَّوْنِ، فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ، فَلَمْ يَزُلِ اللَّبْسُ بِذَلِكَ، فَسَأَلُوا عَنِ الْعَمَلِ، فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ، وَعَنْ بَعْضِ أَوْصَافِهَا الْخَاصِّ بِهَا، فَزَالَ اللَّبْسُ بِتَبْيِينِ السِّنِّ وَاللَّوْنِ وَالْعَمَلِ وَبَعْضِ
409
الْأَوْصَافِ، إِذْ وُجُودُ بَقَرٍ كَثِيرٍ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ يَنْدُرُ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى تَكْرَارِ السُّؤَالِ: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا: هَذَا تَعْلِيلٌ لِتَكْرَارِ هَذَا السُّؤَالِ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى اسْتِقْصَاءِ أَوْصَافِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ تَشَابُهُهَا عَلَيْنَا، فَإِنَّهُ كَثِيرٌ مِنَ الْبَقَرِ يُمَاثِلُهَا فِي السِّنِّ وَاللَّوْنِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: إِنَّ الْبَاقِرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
مَا لِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشًا خَلَقًا كَحَوْضِ الْبَاقِرِ الْمُتَهَدِّمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَشَابَهَ، جَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا عَلَى وَزْنِ تفاعل، مسند الضمير الْبَقَرِ، عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ مُذَكَّرٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تَشَابَهُ، بِضَمِّ الْهَاءِ، جَعَلَهُ مُضَارِعًا مَحْذُوفَ التَّاءِ، وَمَاضِيهِ تَشَابَهَ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْبَقَرِ، عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ مُؤَنَّثٌ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ الشِّينَ، جَعَلَهُ مُضَارِعًا وَمَاضِيهِ تَشَابَهُ، أَصْلُهُ: تَتَشَابَهُ، فَأُدْغِمَ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْبَقَرِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ، وَقَرَأَ مُحَمَّدٌ الْمُعَيْطِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِذِي الشَّامَةِ: تُشُبِّهَ عَلَيْنَا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: تَشَبَّهَ، جَعَلَهُ مَاضِيًا عَلَى تَفَعَّلَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَشَّابَهُ، بِالْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ، جَعَلَهُ مُضَارِعًا مِنْ تَفَاعَلَ، وَلَكِنَّهُ أَدْغَمَ التاء في الشين. وقرىء: مُتَشَبِّهٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَشَبَّهَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: يَتَشَابَهُ، مُضَارِعُ تَشَابَهَ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْبَقَرِ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تَشَابَهَتْ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مُتَشَابِهٌ وَمُتَشَابِهَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: تَشَّابَهَتْ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ مَعَ كَوْنِهِ فِعْلًا مَاضِيًا، وَبِتَاءِ التَّأْنِيثِ آخِرَهُ. فهذه اثنا عشر قِرَاءَةً. وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ ظَاهِرٌ، إِلَّا قِرَاءَةَ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ تَشَّابَهَتْ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا وَجْهَ لَهَا. وَتَبْيِينُ مَا قَالَهُ: إِنَّ تَشْدِيدَ الشِّينِ إِنَّمَا يكون بإدغام التاء فيها، وَالْمَاضِي لَا يَكُونُ فِيهِ تَاءَانِ، فَتَبْقَى إِحْدَاهُمَا وَتُدْغَمُ الْأُخْرَى. وَيُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: اشَّابَهَتْ، وَالتَّاءُ هِيَ تَاءُ الْبَقَرَةِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْبَقَرَةَ اشَّابَهَتْ عَلَيْنَا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ لِحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ فِي آخِرِ الْفِعْلِ، أَوِ اشَّابَهَتْ أَصْلُهُ: تَشَابَهَتْ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الشِّينِ وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ. فَحِينَ أَدْرَجَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْقِرَاءَةَ، صَارَ اللَّفْظُ: أَنَّ الْبَقَرَةَ اشَّابَهَتْ، فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّ تَاءَ الْبَقَرَةِ هِيَ تَاءٌ فِي الْفِعْلِ، إِذِ النُّطْقُ وَاحِدٌ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ: تَشَّابَهَتْ، وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ رَأْسٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَمِمَّنْ أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ مُسْتَنْبِطِ عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ يُزْرِي عَلَى الْعَرَبِ وَعَلَى مَنْ يَسْتَشْهِدُ بِكَلَامِهِمْ، كَالْفَرَزْدَقِ، إِذَا جَاءَ فِي شِعْرِهِمْ مَا لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً لَا وَجْهَ
410
لَهَا، وَإِنَّ الْبَقَرَ تَعْلِيلٌ لِلسُّؤَالِ، كَمَا تَقُولُ: أَكْرِمْ زَيْدًا إِنَّهُ عَالِمٌ، فَالْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى السُّؤَالِ هُوَ حُصُولُ تَشَابُهِ الْبَقَرِ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ: أَيْ لَمُهْتَدُونَ إِلَى عَيْنِ الْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهَا، أَوْ إِلَى مَا خَفِيَ مِنْ أَمْرِ الْقَاتِلِ، أَوْ إِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُمِرْنَا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ. وَفِي تَعْلِيقِ هِدَايَتِهِمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إِنَابَةٌ وَانْقِيَادٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى نَدَمِهِمْ عَلَى تَرْكِ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «ولم يَسْتَثْنُوا لَمَا بُيِّنَتْ لَهُمْ آخِرَ الْأَبَدِ».
وَجَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ، أَيْ إِنْ شاء الله اهتدينا، وإذ حُذِفَ الْجَوَابُ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ وَمَنْفِيًّا بِلَمْ، وَقِيَاسُ الشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوَابُهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الدَّلِيلِ عَلَى الْجَوَابِ، فَكَانَ التَّرْتِيبُ أَنْ يُقَالَ فِي الْكَلَامِ: إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ قَائِمٌ، لَكِنَّهُ تَوَسَّطَ هُنَا بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، لِيَحْصُلَ تَوَافُقُ رؤوس الْآيِ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِتَعْلِيقِ الْهِدَايَةِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَجَاءَ خَبَرُ إِنَّ اسْمًا، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الثُّبُوتِ وَعَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ حَاصِلَةٌ لَهُمْ، وَأَكَّدَ بحر في التَّأْكِيدِ إِنَّ وَاللَّامِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِهَذَا الشَّرْطِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ أَخْبَرُوا بِثُبُوتِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ. وَأَكَّدُوا تِلْكَ النِّسْبَةَ، وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقًا مَحْضًا لَمَا احْتِيجَ إِلَى تَأْكِيدٍ، وَلَكِنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنَا صَانِعُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالصُّنْعِ، فَذَكَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: إِنَّ قَوْمَ مُوسَى، مَعَ غِلَظِ أَفْهَامِهِمْ وَقِلَّةِ عُقُولِهِمْ، كَانُوا أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَأَكْمَلَ تَوْحِيدًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: قَدْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يهتدوا، وهم شاؤوا أَنْ لَا يَهْتَدُوا، فَغَلَبَتْ مَشِيئَتُهُمْ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى: ما شاؤوا إلا كَمَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَتَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا كَالْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِهِ. لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، لَا ذَلُولٌ صِفَةٌ لِلْبَقَرَةِ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ، وَمَنْ قَالَ هُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَا هِيَ ذَلُولٌ، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ. وَتُثِيرُ الْأَرْضَ: صِفَةٌ لذلول، وهي صفة دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ إِثَارَتِهَا الْأَرْضَ، أَيْ لَا تُثِيرُ فَتَذِلَّ، فَهُوَ مِنْ بَابِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بمناره اللَّفْظُ نَفْيُ الذِّلِّ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْإِثَارَةِ، فَيَنْتَفِي كَوْنُهَا ذَلُولًا. وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ:
411
نَفْيَ مُعَادِلٍ لِقَوْلِهِ: لَا ذَلُولٌ. وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ، وَالصِّفَتَانِ مَنْفِيَّتَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، كَمَا أَنَّ لَا تَسْقِي مَنْفِيٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهَا لَمْ تُذَلَّلْ بِالْعَمَلِ، لَا فِي حَرْثٍ، وَلَا فِي سَقْيٍ، وَلِهَذَا نُفِيَ عَنْهَا إِثَارَةُ الْأَرْضِ وَسَقْيُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ تِلْكَ الْبَقَرَةُ وَحْشِيَّةً، وَلِهَذَا وُصِفَتْ بِأَنَّهَا لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ بِالْحَرْثِ، وَلَا يُسْنَى عَلَيْهَا فَتُسْقِيَ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، فِعْلٌ مُثْبَتٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْبَقَرَةِ أَنَّهَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَتَحْرُثُهَا، وَنَفَى عَنْهَا سَقْيُ الْحَرْثِ. وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَا كَانَ يَحْرُثُ لَا يَنْتَفِي كَوْنُهُ ذَلُولًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى تُثِيرُ الْأَرْضَ بِغَيْرِ الْحَرْثِ بَطَرًا وَمَرَحًا، وَمِنْ عَادَةِ الْبَقَرِ، إِذَا بَطِرَتْ، تَضْرِبُ بِقَرْنِهَا وَأَظْلَافِهَا، فَتُثِيرُ تُرَابَ الْأَرْضِ، وَيَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْغُبَارُ، فَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: لَا ذَلُولٌ، لِأَنَّ وَصْفَهَا بِالْمَرَحِ وَالْبَطَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا ذَلُولٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا ذَلُولٌ، صِفَةٌ لِبَقَرَةٍ بِمَعْنَى: بَقَرَةٌ غَيْرُ ذَلُولٍ، يَعْنِي: لَمْ تُذَلَّلْ لِلْحَرْثِ وَإِثَارَةِ الْأَرْضِ، وَلَا هِيَ مِنَ النَّوَاضِحِ الَّتِي يُسْنَى عَلَيْهَا بِسَقْيِ الْحُرُوثِ. وَلَا: الْأُولَى لِلنَّفْيِ، وَالثَّانِيَةُ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ وَتَسْقِي، عَلَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ صِفَتَانِ لذلول، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةً وَسَاقِيَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَوَافَقَهُ عَلَى جَعْلِ لَا الثَّانِيَةِ مَزِيدَةً صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ، وَمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا ذَلُولٌ، صِفَةٌ مَنْفِيَّةٌ بِلَا، وَإِذَا كَانَ الْوَصْفُ قَدْ نُفِيَ بِلَا، لَزِمَ تَكْرَارُ لَا النَّافِيَةِ، لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ لَا كِرِيمٍ وَلَا شُجَاعٍ، وَقَالَ تَعَالَى: ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ «١» وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ «٢» لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَأْتِيَ بِغَيْرِ تَكْرَارٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْهَا النَّفْيُ، إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَإِذَا آلَ تَقْدِيرُهُمَا إِلَى لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةً وَسَاقِيَةً، كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ تَكْرَارِ لَا النَّافِيَةِ، وَعَلَى مَا قَدَّرَاهُ كَانَ نَظِيرَ:
جَاءَنِي رَجُلٌ لَا كِرِيمٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي شِعْرٍ، كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهَا مِنْ نَكِرَةٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْجُمْلَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا هِيَ قَوْلُهُ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَالنَّكِرَةُ هِيَ قَوْلُهُ: لَا ذَلُولٌ، أَوْ قَوْلُهُ:
بَقَرَةٌ، فَإِنْ عَنَى بِالنَّكِرَةِ بَقَرَةً، فَقَدْ وُصِفَتْ، وَالْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ جَائِزَةٌ جَوَازًا حَسَنًا، وَإِنْ عَنَى بِالنَّكِرَةِ لَا ذَلُولٌ، فَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ، وَلَا أمعن
(١) سورة المرسلات: ٧٧/ ٣٠ و ٣١.
(٢) سورة الواقعة: ٥٦/ ٤٣ و ٤٤.
412
النَّظَرَ فِي كِتَابِهِ، بَلْ قَدْ أَجَازَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ، فِي مَوَاضِعَ مَجِيءَ الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ، وَإِنْ لَمْ تُوصَفْ، وَإِنْ كَانَ الْإِتْبَاعُ هُوَ الْوَجْهَ وَالْأَحْسَنَ، قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لَا يَكُونُ الِاسْمُ فِيهِ إِلَّا نَكِرَةً، وَقَدْ يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى نَصْبِ: هَذَا رَجُلٌ مُنْطَلِقًا، يُرِيدُ عَلَى الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ عِيسَى، ثُمَّ قَالَ: وَزَعَمَ الْخَلِيلُ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَنَصَبَهُ كَنَصْبِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ جَعَلَهُ حَالًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ صِفَةً، وَمِثْلُ ذَلِكَ: مَرَرْتُ بِرِجُلٍ قَائِمًا، إِذَا جَعَلْتَ الْمُرُورَ بِهِ فِي حَالِ قِيَامٍ، وَقَدْ يَجُوزُ عَلَى هَذَا: فِيهَا رَجُلٌ قَائِمًا، وَمِثْلُ ذَلِكَ: عَلَيْهِ مِائَةٌ بَيْضَاءَ، وَالرَّفْعُ الْوَجْهُ، وَعَلَيْهِ مِائَةٌ دَيْنًا، الرَّفْعُ الْوَجْهُ، وَزَعَمَ يُونُسُ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: مَرَرْتُ بِمَاءٍ قَعْدَةَ رَجُلٍ، وَالْوَجْهُ الْجَرُّ، وَكَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا يَنْتَصِبُ، لِأَنَّهُ قَبِيحٌ أَنْ يَكُونَ صِفَةً فَقَالَ: رَاقُودٌ خَلَا وَعَلَيْكَ نِحْيٌ سَمْنًا، وَقَالَ فِي بَابِ نَعَمْ، فَإِذَا قُلْتَ لِي عَسَلٌ مِلْءُ جَرَّةٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ شَعْرُ كَلْبَيْنِ، فَالْوَجْهُ الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ، وَالنَّصْبُ يَجُوزُ كَنَصْبِهِ، عَلَيْهِ مِائَةٌ بَيْضَاءَ، فَهَذِهِ نُصُوصُ سِيبَوَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، لَمَا قَاسَهُ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْجَائِزِ لَا يُقَالُ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَاسَ، وَإِنْ كَانَ الْإِتْبَاعُ لِلنَّكِرَةِ أَحْسَنَ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ مَا ذهب إليه أبو محمد هُوَ قَوْلُ الضُّعَفَاءِ فِي صِنَاعَةِ الْإِعْرَابِ، الَّذِينَ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى كَلَامِ الْإِمَامِ.
وَأَجَازَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ أَنْ يَكُونَ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي ذَلُولٌ تَقْدِيرُهُ: لَا تُذَلُّ فِي حَالِ إِثَارَتِهَا، وَالْوَجْهُ مَا بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: لَا ذَلُولَ، بِالْفَتْحِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَعْنَى لَا ذَلُولَ هُنَاكَ، أَيْ حَيْثُ هِيَ، وَهُوَ نَفْيٌ لِذِلِّهَا، وَلِأَنْ تُوصَفَ بِهِ فَيُقَالَ: هِيَ ذَلُولٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُكَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَا بَخِيلَ وَلَا جَبَانَ، أَيْ فِيهِمْ، أَوْ حَيْثُ هُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَعَلَى مَا قَدَّرَهُ يَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تُثِيرُ الْأَرْضَ، صِفَةً لِاسْمِ لَا، وَهِيَ مَنْفِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهَا جُمْلَةٌ مَنْفِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ خَبَرًا، لِأَنَّهُ كَانَ يَتَنَافَرُ هَذَا التَّرْكِيبُ مَعَ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ يَبْقَى كَلَامًا مُنْفَلِتًا مِمَّا بَعْدَهُ، إِذْ لَا تَحْصُلُ بِهِ الْإِفَادَةُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَيَكُونَ مَحَطَّ الْخَبَرِ هُوَ قَوْلُهُ: مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها، لِأَنَّهَا صِفَةٌ فِي اللَّفْظِ، وَهِيَ الْخَبَرُ فِي الْمَعْنَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى نَافِيًا ذِلَّةَ هَذِهِ البقر، إِذْ هِيَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْمَنْفِيِّ بِلَا الَّذِي بُنِيَ مَعَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْنِي لَا ذَلُولَ، عَلَى قِرَاءَةِ السُّلَمِيِّ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ عَلَى
413
تَقْدِيرِ أَنَّ تُثِيرُ وَمَا بَعْدَهَا الْخَبَرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ بَقَرَةٌ، إِذِ الْعَائِدُ الَّذِي فِي تُثِيرُ وَفِي تَسْقِي ضَمِيرُ اسْمِ لَا، وَلَا يُتَخَيَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تُثِيرُ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ يَكُونُ دَالًّا عَلَى نَفْيِ ذَلُولٌ مَعَ الْخَبَرِ عَنِ الْوُجُودِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِمَا عَلَيْهِ الْوُجُودُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى نَفْيُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْضِهِمْ وَإِلَى حَرْثِهَا وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. فَكَمَا يُتَعَقَّلُ انْتِفَاءُ ذَلُولٌ مَعَ اعْتِقَادِ كَوْنِ تُثِيرُ وَمَا بَعْدَهُ صِفَةً، لِأَنَّكَ قَيَّدْتَ الْخَبَرَ بِتَقْدِيرِكَهُ حَيْثُ هِيَ، فَصَلُحَ هَذَا النَّفْيُ، كَذَلِكَ يُتَعَقَّلُ انْتِفَاءُ ذَلُولٌ مَعَ الْخَبَرِ عَنْهُ، حَيْثُ اعْتُقِدَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْخَبَرَيْنِ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الْأَرْضُ وَالْحَرْثُ، وَكَمَا تُقَدِّرُ مَا مِنْ ذَلُولٍ مُثِيرَةٍ وَلَا سَاقِيَةٍ حَيْثُ تِلْكَ الْبَقَرَةُ، كَذَلِكَ تُقَدَّرُ مَا مِنْ ذَلُولٍ تُثِيرُ أَرْضَهُمْ وَلَا تَسْقِي حَرْثَهُمْ. فَكِلَاهُمَا نَفْيٌ قَدْ تَخَصَّصَ، إِمَّا بِالْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ، وَإِمَّا بِتَعَلُّقِ الْخَبَرِ الْمُثْبِتِ.
وَقَدِ انْتَفَى وَصْفُ البقرة بذلول وَمَا بَعْدَهَا، إِمَّا بِكَوْنِ الْجُمْلَةِ صِفَةً وَالرَّابِطُ الْخَبَرُ الْمَحْذُوفُ، وَإِمَّا بِكَوْنِ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، إِذْ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى رَابِطٍ يَرْبُطُهَا بِمَا قَبْلَهَا، إِذَا جَعَلْتَ تُثِيرُ خَبَرًا لَا يُقَالَ إِنَّ الرَّابِطَ هُنَا هُوَ الْعُمُومُ، إِذِ الْبَقَرَةُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ اسْمِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الرَّابِطَ بِالْعُمُومِ إِنَّمَا قِيلَ بِهِ فِي نَحْوِ: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ خِلَافُهُ. وَبَابُ نِعْمَ بَابٌ شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، لَوْ قُلْتَ زَيْدٌ لَا رَجُلٌ فِي الدَّارِ، وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ لا عاقل في الدار، وَأَنْتَ تَعْنِي الْخَبَرَ وَالصِّفَةَ وَتَجْعَلُ الرَّابِطَ الْعُمُومَ، لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، انْتَفَى زَيْدٌ فِيهَا، وَإِذَا قُلْتَ: لَا عَاقِلَ فِي الدَّارِ، انْتَفَى الْعَقْلُ عَنِ الْمُرُورِ بِهِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ تُثِيرُ وتسقي خبرا للا ذَلُولٌ، أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، وَتَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْإِثَارَةِ وَنَفْيِ السَّقْيِ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْجُمْلَتَيْنِ صِفَةً لِلْبَقَرَةِ. وَأَمَّا تَمْثِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِذَلِكَ، بِمَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَا بَخِيلَ وَلَا جَبَانَ فِيهِمْ، أَوْ حَيْثُ هُمْ، فَتَمْثِيلٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ صِفَةً لِقَوْمٍ لَيْسَ الرَّابِطُ فِيهَا الْعُمُومَ، إِنَّمَا الرَّابِطُ هَذَا الضَّمِيرُ، وَكَذَلِكَ مَا قَرَّرَهُ هُوَ الرَّابِطُ فِيهِ الضَّمِيرُ، إِذْ قَدَّرَهُ لَا ذَلُولَ هُنَاكَ، أَيْ حَيْثُ هِيَ، فَهَذَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ، وَحَصَلَ بِهِ الرَّبْطُ كَمَا حَصَلَ فِي تَمْثِيلِهِ بِقَوْلِهِ: فِيهِمْ، أَوْ: حَيْثُ هُمْ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ أن قوله تَعَالَى: لَا ذَلُولٌ فِي قِرَاءَةِ السُّلَمِيِّ يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ خَبَرٍ، وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، وَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ خَبَرَ لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ. وَكَانَتْ قِرَاءَةُ
414
الْجُمْهُورِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمُفْرَدِ أَوْلَى مِنَ الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ فِي قِرَاءَةِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَلَى أَحَدِ تَخْرِيجَيْهَا، تَكُونُ قَدْ بَدَأْتَ بِالْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ وَقَدَّمْتَهُ عَلَى الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ لَا ذَلُولٌ الْمَنْفِيُّ مَعَهَا جُمْلَةٌ وَمُسَلَّمَةٌ مُفْرَدٌ، فَقَدْ قَدَّمْتَ الْوَصْفَ بِالْجُمْلَةِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْمُفْرَدِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِتَسْقِي مَحْذُوفٌ، لِأَنَّ سَقَى يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: تُسْقِي بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَسْقَى، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدْ قرىء: نَسْقِيكُمْ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا. مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ، أَوْ مِنَ الشِّيَاتِ وَالْأَلْوَانِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ، أَوْ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْحَرْثِ وَالسَّقْيِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَهْلَهَا أَعْفَوْهَا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْآخَرُ:
أَوْ مُعْبِرُ الظَّهْرِ يُنْبِي عَنْ وَلَيْتَهُ مَا حَجَّ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا اعْتَمَرَا
أَوْ مِنَ الْحَرَامِ، لَا غَصْبَ فِيهَا وَلَا سَرِقَةَ وَلَا غَيْرُهُمَا، بَلْ هِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ مُسَلَّمَةُ الْقَوَائِمِ وَالْخَلْقِ، قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، أَوْ مُسَلَّمَةٌ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، لِتَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الْعُيُوبِ، بَرِيئَةً مِنَ الْغُصُوبِ، مُكَمَّلَةَ الْخَلْقِ، شَدِيدَةَ الْأَسْرِ، كَامِلَةَ الْمَعَانِي، صَالِحَةً لِأَنْ تَظْهَرَ فِيهَا آيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمُعْجِزَةُ رَسُولِهِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَمُسَلَّمَةٌ، بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنَ السَّلَامَةِ، وَقَالَهُ غَيْرُهُ، فَقَالَ: هِيَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ وَزْنَهَا مُفَعَّلَةٌ مِنَ السَّلَامَةِ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ التَّضْعِيفَ الَّذِي فِي مُسَلَّمَةٌ لَيْسَ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ، بَلْ هُوَ تَضْعِيفُ النَّقْلِ وَالتَّعْدِيَةِ، يُقَالُ: سَلَّمَ كَذَا، ثُمَّ إِذَا عَدَّيْتَهُ بِالتَّضْعِيفِ، فَالتَّضْعِيفُ هُنَا كَهُوَ فِي قَوْلِهِ: فَرَّحْتُ زَيْدًا، إِذْ أَصْلُهُ: فَرِحَ زَيْدٌ، وَكَذَلِكَ هَذَا أَصْلُهُ: سَلَّمَ زيد، ثُمَّ يُضَعَّفُ فَيَصِيرُ يَتَعَدَّى. فَلَيْسَ إِذَنْ هُنَا مُبَالَغَةٌ بَلْ هُوَ الْمُرَادِفُ لِلْبِنَاءِ المتعدّي بالهمزة. لاشية فِيهَا: أَيْ لَا بَيَاضَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: لَا وَضَحَ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ لَوْنَيْنِ مِنْ سَوَادٍ وَبَيَاضٍ، أَوْ لَا عَيْبَ فِيهَا، أَوْ: لَا لَوْنَ يُخَالِفُ لَوْنَهَا مِنْ سَوَادٍ أَوْ بَيَاضٍ، أَوْ: لَا سَوَادَ فِي الْوَجْهِ وَالْقَوَائِمِ، وَهُوَ الشِّيَةُ فِي الْبَقَرِ، يُقَالُ ثَوْرٌ مُوَشًّى، إِذَا كَانَ فِي وَجْهِهِ وَقَوَائِمِهِ سَوَادٌ. وقيل: لا شِيَةَ فِيهَا، تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: مُسَلَّمَةٌ، أَيْ خَلُصَتْ صُفْرَتُهَا عَنْ أَخْلَاطِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالثَّوْرُ الْأَشْيَهُ الَّذِي ظَهَرَ بَلَقُهُ، يُقَالُ: فَرَسٌ أَبْلَقُ، وَكَبْشٌ أَخْرَجُ، وَتَيْسٌ أَبْرَقُ، وَكَلْبٌ أَبْقَعُ، وَثَوْرٌ أَشْيَهُ. كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْبَلِقَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ الْأَشْيَهُ مَأْخُوذًا مِنَ الشِّيَةِ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ.
قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ بَعْدَهُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ:
415
بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ، وَعَنْهُ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: حَذَفُ وَاوِ قَالُوا، إِذْ لَمْ يَعْتَدَّ بِنَقْلِ الْحَرَكَةِ، إِذْ هُوَ نَقْلٌ عَارِضٌ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: إِقْرَارُ الْوَاوِ اعْتِدَادًا بِالنَّقْلِ، وَاعْتِبَارًا لِعَارِضِ التَّحْرِيكِ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَمْ تُحْذَفْ إِلَّا لِأَجْلِ سُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهَا. فَإِذَا ذَهَبَ مُوجِبُ الْحَذْفِ عَادَتِ الْوَاوُ إِلَى حَالِهَا مِنَ الثُّبُوتِ. وَانْتِصَابُ الْآنَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَهُوَ ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُمْ: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ إِلَى لَا شِيَةَ فِيها، وَالْعَامِلُ فِيهِ جِئْتَ، وَلَا يُرَادُ بِجِئْتَ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا فَجَاءَ، وَإِنَّمَا مَجَازُهُ نَطَقْتَ بِالْحَقِّ، فَبِالْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِجِئْتَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَجَأْتَ الْحَقَّ، أَيْ إِنَّ الْحَقَّ كَانَ لَمْ يَجِئْنَا فَأَجَأْتَهُ. وَهُنَا وَصْفٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ، أَيِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِشْكَالٌ، وَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ مُحَاوَرَةٍ حَاوَرَهَا مَعَهُمْ جَاءَ بِالْحَقِّ، فَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ هَذَا الْوَصْفُ لَمَا كَانَ لِتَقْيِيدِهِمْ مَجِيئَهُ بِالْحَقِّ بِهَذَا الطَّرَفِ الْخَاصِّ فَائِدَةٌ. وَقَدْ ذَهَبَ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا وَصْفَ مَحْذُوفٌ هُنَا، وَقَالَ: كَفَرُوا بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَأْتِيهِمْ إِلَّا بِالْحَقِّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَالُوا: وَمَعْنَى بِالْحَقِّ:
بِحَقِيقَةِ نَعْتِ الْبَقَرَةِ، وَمَا بَقِيَ فِيهَا إِشْكَالٌ.
فَذَبَحُوها: قَبْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَطَلَبُوهَا وَحَصَّلُوهَا، أَيْ هَذِهِ الْبَقَرَةَ الْجَامِعَةَ لِلْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ، وَتَحْصِيلُهَا كَانَ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ بِأَنَّهَا كَانَتْ وَحْشِيَّةً فَأَخَذُوهَا، أَوْ بِاشْتِرَائِهَا مِنَ الشَّابِّ الْبَارِّ بِأَبَوَيْهِ. وَهَذَا الَّذِي تَظَافَرَتْ عَلَيْهِ أَقَاوِيلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَقَصَصًا كَثِيرًا مُضْطَرِبًا أَضْرَبْنَا عَنْ نَقْلِهِ صَفْحًا كَعَادَتِنَا فِي أَكْثَرِ الْقِصَصِ الَّذِي يَنْقُلُونَهُ، إِذْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا صَحَّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَنْ رَسُولِهِ فِي قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ.
وَما كادُوا يَفْعَلُونَ: كَنَّى عَنِ الذَّبْحِ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُكَنَّى بِهِ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ.
وَكَادَ فِي الثُّبُوتِ تَدُلُّ عَلَى الْمُقَارَبَةِ. فَإِذَا قُلْتَ: كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ، فَمَعْنَاهُ مُقَارَبَةُ الْقِيَامِ، وَلَمْ يَتَلَبَّسْ بِهِ. فَإِذَا قُلْتَ: مَا كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ، فَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْمُقَارَبَةِ، فَهِيَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وُجُوبًا وَنَفْيًا. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّهَا إِذَا أُثْبِتَتْ، دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْخَبَرِ، وَإِذَا نُفِيَتْ، دَلَّتْ عَلَى إِثْبَاتِ الْخَبَرِ، مُسْتَدِلًّا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَذَبَحُوها يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الْآيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ زَمَانُ نَفْيِ الْمُقَارَبَةِ وَالذَّبْحِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَمَا قَارَبُوا ذَبْحَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَيْ وَقَعَ الذَّبْحُ بَعْدَ أَنْ نَفَى مُقَارَبَتُهُ. فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ تَعَسَّرُوا فِي ذَبْحِهَا، ثُمَّ ذَبَحُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ. قِيلَ: وَالسَّبَبُ الَّذِي لِأَجْلِهِ مَا كَادُوا يَذْبَحُونَ هُوَ: إِمَّا غَلَاءُ
416
ثَمَنِهَا، وَإِمَّا خَوْفُ فَضِيحَةِ الْقَاتِلِ، وَإِمَّا قِلَّةُ انْقِيَادٍ وَتَعَنُّتٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا عُهِدَ مِنْهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ: أَهِيَ الَّتِي أُمِرُوا أَوَّلًا بِذَبْحِهَا، وَأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الذَّبْحُ عَلَيْهَا أَوَّلًا لَمَا وَقَعَ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمُعَيَّنَةِ؟ أَمِ الْمَأْمُورُ بِهَا أَوَّلًا هِيَ بَقَرَةٌ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ مَخْصُوصَةً بِلَوْنٍ وَصِفَاتٍ، فَذَبَحُوا الْمَخْصُوصَةَ؟ فَكَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مَخْصُوصًا لِانْتِقَالِ الْحُكْمِ مِنَ الْبَقَرَةِ الْمُطْلَقَةِ إِلَى الْبَقَرَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَيَجُوزُ النَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ الْمَخْصُوصَةَ يَتَنَاوَلُهَا الْأَمْرُ بِذَبْحِ بِقَرَةٍ، فَلَوْ وَقَعَ الذَّبْحُ عَلَيْهَا بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ، لَكَانُوا مُمْتَثِلِينَ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الثَّانِي: هَلِ الْوَاجِبُ كَوْنُهَا بِالصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَهِيَ كَوْنُهَا لَا ذَلُولٌ إِلَى آخِرِهِ؟ أَمْ يَنْضَافُ إِلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي جَوَابِ السُّؤَالَيْنِ قَبْلُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْوَصْفِ الْأَخِيرِ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ، وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا؟ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ هَذَا الثَّانِي، لِأَنَّ الظَّاهِرَ اشْتِرَاكُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا هي، وما لونها، وما هِيَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اشْتُهِرَ فِي الْإِخْبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ الْبَيَانُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ التَّسْهِيلِ بِالْأَشَقِّ، وَعَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ.
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ «١». وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ وَجُودِهِمَا وَنُزُولِهِمَا عَلَى حَسَبِ تِلَاوَتِهِمَا، فَيَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَذَبَحُوهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِمَا لَهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ السِّرِّ، ثُمَّ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرُ الْقَتِيلِ، فَأَظْهَرَ لَهُمْ مَا كَانَ أَخْفَاهُ عَنْهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ بِقَوْلِهِ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، وَلَا شَيْءَ يَضْطَرُّنَا إِلَى اعْتِقَادِ تَقَدُّمِ قَتْلِ الْقَتِيلِ. ثُمَّ سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِ قَاتِلِهِ، إِذْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ مُتَقَدِّمًا فِي النُّزُولِ، وَالتِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ، وَيَكُونُ قَتْلُ الْقَتِيلِ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ، وَالتِّلَاوَةِ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ، وَلَا إِلَى اعْتِقَادِ كَوْنِ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ وَمَا بَعْدَهُ مُؤَخَّرًا فِي النُّزُولِ، مُتَقَدِّمًا فِي التِّلَاوَةِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ قَتْلِهِمْ مُقَدَّمًا فِي النُّزُولِ، مُتَأَخِّرًا فِي التِّلَاوَةِ، دُونَ تَعَرُّضٍ لِزَمَانِ وُجُودِ الْقِصَّتَيْنِ. وَإِنَّمَا حَمَلَ مَنْ حَمَلَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، اعْتِبَارَ مَا رَوَوْا مِنَ الْقَصَصِ الَّذِي لَا يَصِحُّ، إِذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ أَوْلَى، إِذِ الْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ، إِنَّمَا يَكُونُ لِمُرَجِّحٍ، وَلَا مُرَجِّحَ، بَلْ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي تَكْلِيفِهِمْ أَوَّلًا ذَبْحَ بَقَرَةٍ. هَلْ يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَامْتِثَالُ التَّكَالِيفِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ فِيهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ حِكْمَةٌ أَعْظَمُ مِنِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٥٤.
417
امْتِثَالِ مَا تَظْهَرُ فِيهِ حِكْمَةٌ، لِأَنَّهَا طَوَاعِيَةٌ صِرْفٌ، وَعُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَاسْتِسْلَامٌ خَالِصٌ، بِخِلَافِ مَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، فَإِنَّ فِي الْعَقْلِ دَاعِيَةً إِلَى امْتِثَالِهِ، وَحَضًّا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: إِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ الْقَتِيلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالذَّبْحِ، فَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ، وَعَنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ. فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأُولَى خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأُولَى فِي الْوُجُودِ. فَأَمَّا التَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّهُ تَارَةً يُقَدَّمُ ذِكْرُ السَّبَبِ عَلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ، وَأُخْرَى عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا ذَبَحُوهَا قَالَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً مِنْ قَبْلُ وَاخْتَلَفْتُمْ فَإِنِّي مُظْهِرٌ لَكُمُ الْقَاتِلَ الَّذِي سَتَرْتُمُوهُ، بِأَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَكَسَ، لَمَا كَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً، وَلَذَهَبَ الْغَرَضُ فِي تَثْنِيَةِ التَّقْرِيعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ أَوَّلًا، ثُمَّ أُمِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا نَقْلُ شَيْءٍ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا حَمْلَ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا وَأَنَّ الْقَتْلَ تَأَخَّرَ، كَحَالِهِمَا فِي التِّلَاوَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ حَسَنٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، فِي الْجُمَلِ، وَفِي الْكَلِمَاتِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَوْرَدَ مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا، مِنْ ذَلِكَ: قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إِهْلَاكِ قَوْمِهِ، وَقَوْلُهُ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها «١»، وَفِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا بِالتَّرَبُّصِ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ، وَبِمَتَاعٍ إِلَى الْحَوْلِ، إِذِ النَّاسِخُ مُقَدَّمٌ، وَالْمَنْسُوخُ مُتَأَخِّرٌ. وَذَكَرَ مِنْ تَقْدِيمِ الْكَلِمَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ عَلَى زَعْمِهِ كَثِيرًا، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مِنَ الضَّرَائِرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ. وَنِسْبَةُ الْقَتِيلِ إِلَى جَمْعٍ، إِمَّا لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ جَمْعٌ، وَهُمْ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِيهِمْ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي نِسْبَةِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْقَبِيلَةِ، إِذَا وُجِدَ مِنْ بَعْضِهَا مَا يُذَمُّ بِهِ أَوْ يُمْدَحُ.
فَادَّارَأْتُمْ فِيها قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَتَدَارَأْتُمْ، عَلَى وزن
(١) سورة هود: ١١/ ٤١.
418
تَفَاعَلْتُمْ، وَهُوَ الْأَصْلُ، هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو السَّوَّارِ الْغَنَوِيُّ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: فَتَدَارَأْتُمْ عَلَى الْأَصْلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَنَقَلَ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ أَبَا السَّوَّارِ قَرَأَ: فَدَرَأْتُمْ، بِغَيْرِ أَلِفٍ قَبْلَ الرَّاءِ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا التَّدَارُؤُ، وَهُوَ التَّدَافُعُ، أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْأَيْدِي، لِشِدَّةِ الِاخْتِصَامِ. وَيَحْتَمِلُ الْمَجَازَ، بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ طَرَحَ قَتْلَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَدَفَعَ الْمَطْرُوحُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إِلَى الطَّارِحِ، أَوْ بِأَنْ دَفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالتُّهْمَةِ وَالْبَرَاءَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي: فِيهَا عَائِدٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ: عَلَى الْقَتَلَةِ، فَيَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ، وَقِيلَ: عَلَى التُّهْمَةِ، فَيَعُودُ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ.
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، مَا: مَنْصُوبٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، وَهُوَ مَوْصُولٌ مَعْهُودٌ، فَلِذَلِكَ أَتَى بِاسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ دَالٌّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرَارِ، وَلَا تَكْرَارَ، إِذْ لَا تَجَدُّدَ فِيهِ، لِأَنَّهَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَلِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَمْ يَأْتِ بِالْفِعْلِ. وَجَاءَ اسْمُ الْفَاعِلِ مُعْمَلًا، وَلَمْ يُضَفْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَاضِيًا، لِأَنَّهُ حَكَى مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا وَقْتَ التَّدَارُؤِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا حَكَى الْحَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ «١». وَدَخَلَتْ كَانَ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى تَقَدُّمِ الْكِتْمَانِ، وَالْعَائِدُ عَلَى مَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ وَقَاتِلِهِ، وَعَلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْقَتِيلِ وَغَيْرِهِ، فَيَكُونَ الْقَتِيلُ مِنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِهِ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا كَتَمُوهُ عَنِ النَّاسِ أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
: جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ التَّدَارُؤَ لَا يُجْدِي شَيْئًا، إِذِ اللَّهُ تَعَالَى مُظْهِرٌ مَا كُتِمَ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ. وَالْهَاءُ فِي اضْرِبُوهُ عَائِدٌ عَلَى النَّفْسِ، عَلَى تَذْكِيرِ النَّفْسِ، إِذْ فِيهَا التَّأْنِيثُ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَالتَّذْكِيرُ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَإِذْ قَتَلْتُمْ ذَا نَفْسٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ، فَرُوعِيَ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ مُؤَنَّثًا فِي قَوْلِهِ:
فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا، وَرُوعِيَ الْمَحْذُوفُ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا فِي قَوْلِهِ: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
(١) سورة الكهف: ١٨/ ١٨.
419
أَوْ عَائِدٌ عَلَى الْقَتِيلِ، أَيْ، فَقُلْنَا: اضْرِبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا. الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِأَيِّ بَعْضٍ كَانَ، فَقِيلَ: ضَرَبُوهُ بِلِسَانِهَا، أَوْ بِفَخِذِهَا الْيُمْنَى، أَوْ بِذَنَبِهَا، أَوْ بِالْغُضْرُوفِ، أَوْ بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ، وَهُوَ أَصْلُ الْأُذُنِ، أَوْ بِالْبِضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، أَوْ بِالْعَجْبِ، وَهُوَ أَصْلُ الذَّنَبِ، أَوْ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا، أَوْ بِعَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَالْبَاءُ فِي بِبَعْضِهَا لِلْآلَةِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ بِالْقَدُومِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبَقَرَةِ، أَيْ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ.
وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَمَا قَبْلَهُ، التَّقْدِيرُ: فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ، دَلَّ عَلَى ضَرَبُوهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
، وَدَلَّ عَلَى فَحَيِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى.
وَنُقِلَ أَنَّ الضَّرْبَ كَانَ عَلَى جِيدِ الْقَتِيلِ، وَذَلِكَ قَبْلَ دَفْنِهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ مَكَثُوا فِي طَلَبِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَوْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ أُمِرُوا بِطَلَبِهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِي صُلْبٍ وَلَا رَحِمٍ، فَلَا يَكُونُ الضَّرْبُ إِلَّا بَعْدَ دَفْنِهِ. قِيلَ: عَلَى قَبْرِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ الْمُبَاشَرُ بِالضَّرْبِ لَا الْقَبْرَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَامَ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ فَقَالَ: قَتَلَنِي ابْنُ أَخِي، فَقَالَ بَنُو أَخِيهِ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَكَذَّبُوا بِالْحَقِّ بَعْدَ مُعَايَنَتِهِ، ثُمَّ مَاتَ مَكَانَهُ.
وَفِي بَعْضِ الْقَصَصِ أَنَّهُ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ وَفُلَانٌ، لا بني عَمِّهِ، ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا، فَأُخِذَا وَقُتِلَا، وَلَمْ يُوَرِّثُوا قَاتِلًا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَانَ الضَّرْبُ بِمَيِّتٍ لَا حَيَاةَ فِيهِ، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَى ذِي شُبْهَةٍ أَنَّ الْحَيَاةَ إِنَّمَا انْقَلَبَتْ إِلَيْهِ مِمَّا ضُرِبَ بِهِ لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ وَتَتَأَكَّدَ الْحُجَّةُ.
كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
: إِنَّ كَانَ هَذَا خِطَابًا لِلَّذِينِ حَضَرُوا إِحْيَاءَ الْقَتِيلِ، كَانَ ثَمَّ إضمار قول: أي وقلنا لَهُمْ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدَّرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ خِطَابًا مِنْ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَإِنْ كَانَ لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى: كَمَا أُحْيِيَ قَتِيلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِانْتِظَامِ الْآيِ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَلِئَلَّا يَخْتَلِفَ خِطَابُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
، وَخِطَابُ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قُلُوبُكُمْ أَنَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْكَافُ مِنْ كَذَلِكَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ محذوف منصوب بقوله: يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
، أَيْ إِحْيَاءً مِثْلَ ذَلِكَ الْإِحْيَاءِ، يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، وَالْمُمَاثَلَةُ إِنَّمَا هِيَ فِي مُطْلَقِ الْإِحْيَاءِ لاقى كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى إِحْيَاءِ الْقَتِيلِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى نَفْسِ الْقَتِيلِ، وَيُحْتَاجُ فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِثْلَ إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ، يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، فَجَعْلُهُ إِشَارَةً إِلَى الْمَصْدَرِ أَوْلَى وَأَقَلُّ تَكَلُّفًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ خِطَابًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْحَاضِرِينَ إِحْيَاءَ الْقَتِيلِ،
420
فَحِكْمَةُ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ، اطْمِئْنَانُ قُلُوبِهِمْ وَانْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ عَنْهُمْ، إِذِ الَّذِي كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ آمَنُوا بِهِ مُشَاهَدَةً.
وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ الِاسْتِئْنَافُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يُحْيِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَاتِ جَمْعٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَهِيَ مَا أَرَاهُمْ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، وَالْعَصَا، وَالْحَجَرِ، وَالْغَمَامِ، وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالسِّحْرِ، وَالْبَحْرِ، وَالطُّورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ أَعْمَى النَّاسِ قُلُوبًا، وَأَشَدَّ قَسْوَةً وَتَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي شَاهَدُوا فِيهَا تِلْكَ الْعَجَائِبَ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
، وَإِنْ كَانَتْ آيَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، الْمُخْتَارِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى بَرَاءَةِ سَاحَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا، وَعَلَى تَعَيُّنِ تِلْكَ التُّهْمَةِ عَلَى مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الْقَتْلَ.
انْتَهَى كَلَامُهُ.
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
: أَيْ لَعَلَّكُمْ تَمْتَنِعُونَ مِنْ عِصْيَانِهِ، وَتَعْمَلُونَ عَلَى قَضِيَّةِ عُقُولِكُمْ، مِنْ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا، لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ، مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، أَيْ كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَعْثِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ، وَإِنَّمَا شُرِطَ ذَلِكَ لِمَا فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ مِنَ التَّقَرُّبِ، وَأَدَاءِ التَّكْلِيفِ، وَاكْتِسَابِ الثَّوَابِ، وَالْإِشْعَارِ بِحُسْنِ تَقْدِيمِ الْقُرْبَةِ عَلَى الطَّلَبِ، وَمَا فِي التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ، لِتَشْدِيدِهِمْ مِنَ اللُّطْفِ لَهُمْ وَلِآخَرِينَ فِي تَرْكِ التَّشْدِيدِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَارْتِسَامِهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَفْتِيشٍ وَتَكْثِيرِ سُؤَالٍ، وَنَفْعِ الْيَتِيمِ بِالتِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى بَرَكَةِ الْبَرِّ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَتَجْهِيلِ الْهَازِئِ بِمَا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ. وَبَيَانِ أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُتَقَرِّبِ إِلَى رَبِّهِ: أَنْ يَتَنَوَّقَ فِي اخْتِيَارِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ، وَأَنْ يَخْتَارَهُ فَتِيَّ السِّنِّ غَيْرَ فَخْمٍ وَلَا ضَرِعٍ، حَسَنَ اللَّوْنِ بَرِيئًا مِنَ الْعُيُوبِ، يُونِقُ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُغَالِيَ بِثَمَنِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ ضَحَّى بِنَجِيبَةٍ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْخِطَابِ نَسْخٌ لَهُ، وَأَنَّ النَّسْخَ قَبْلَ الْفِعْلِ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَإِمْكَانِهِ لِأَدَائِهِ إِلَى الْبَدْءِ، وَلِيَعْلَمَ بِمَا أُمِرَ مِنْ مَسِّ الْمَيِّتِ بِالْمَيِّتِ، وَحُصُولِ الْحَيَاةِ عَقِيبَهُ، وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الْمُسَبِّبُ لَا الْأَسْبَابُ، لِأَنَّ الْمَوْتَيْنِ الْحَاصِلَيْنِ فِي الْجِسْمَيْنِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا حَيَاةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً، انْتَزَعُوهَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهَا مِنْ قِصَّةِ هذا القتل، وَلَا
421
يَظْهَرُ اسْتِنْبَاطُهُمْ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى حِرْمَانِ الْقَاتِلِ مِيرَاثَ الْمَقْتُولِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرِثُهُ. وَأَقُولُ: لَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْقِصَّةُ، إِنْ صَحَّتْ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي آخِرِهَا: فَمَا وَرِثَ قَاتِلٌ بَعْدَهَا مِمَّنْ قَتَلَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وابن عباس وَابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً، لَا مِنْ دِيَتِهِ، وَلَا مِنْ سَائِرِ مَالِهِ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالُوا: إِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَرِثَ. وَقَالَ عُثْمَانُ اللَّيْثِيُّ: يَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَأِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ: لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ مِنْ دِيَتِهِ، وَلَا مِنْ مَالِهِ. وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً، يَرِثُ مِنْ مَالِهِ دُونَ دِيَتِهِ. وَيُرْوَى مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا قَتَلَ الْبَاغِي الْعَادِلَ، أَوِ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ، لَا يَتَوَارَثَانِ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَانِ. وَقَالُوا:
اسْتَدَلَّ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ، بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي، وَقَالَ الْجُمْهُورُ خِلَافَهُ. وَقَالُوا فِي صِفَةِ الْبَقَرَةِ اسْتِدْلَالٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، قَالُوا: فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى حَصْرِ الْحَيَوَانِ بِصِفَاتِهِ، أَنَّهُ إِذَا حُصِرَ بِصِفَةٍ يُعْرَفُ بِهَا جَازَ السَّلَمُ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ خِلَافِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَظْهَرُ اسْتِنْبَاطُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُحْيِيَ مَيِّتَهُمْ لِيُفْصِحَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى قَاتِلِهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ حَيَوَانٍ لَهُمْ، فَجَعَلَ سَبَبَ حَيَاةِ مَقْتُولِهِمْ بِقَتْلِ حَيَوَانٍ لَهُمْ صَارَتِ الْإِشَارَةُ مِنْهُ، أَنَّ مَنْ أَرَادَ حَيَاةَ قَلْبِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا بِذَبْحِ نَفْسِهِ. فَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهَدَاتِ حَيِيَ قَلْبُهُ بِأَنْوَارِ الْمُشَاهَدَاتِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ حَيَاةً فِي الْأَبَدِ أَمَاتَ فِي الدُّنْيَا ذِكْرَهُ بِالْخُمُولِ.
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، مَعْنَى ثُمَّ قَسَتْ: اسْتِبْعَادُ الْقَسْوَةِ بعد ما ذَكَرَ مَا يُوجِبُ لِينَ الْقُلُوبِ وَرِقَّتَهَا وَنَحْوَهُ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ. انْتَهَى. وَهُوَ يُذْكَرُ عَنْهُ أَنَّ الْعَطْفَ بِثُمَّ يَقْتَضِي الِاسْتِبْعَادَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «١». وَهَذَا الِاسْتِبْعَادُ لَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْعَطْفِ بِثُمَّ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَجِيءِ هذه الجمل ووقوعها بعد ما تَقَدَّمَ مِمَّا لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهَا، وَلِأَنَّ صُدُورَ هَذَا الْخَارِقِ الْعَظِيمِ الْخَارِجِ عَنْ مِقْدَارِ الْبَشَرِ، فِيهِ مِنَ الِاعْتِبَارِ وَالْعِظَاتِ مَا يَقْتَضِي لِينَ الْقُلُوبِ وَالْإِنَابَةَ إِلَى الله
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١. [.....]
422
تَعَالَى، وَالتَّسْلِيمَ لِأَقْضِيَتِهِ، فَصَدَرَ مِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ غِلَظِ الْقُلُوبِ وَعَدَمِ انْتِفَاعِهَا، بِمَا شَاهَدَتْ، وَالتَّعَنُّتِ وَالتَّكْذِيبِ، حتى نقل أنهم بعد ما حَيِيَ الْقَتِيلُ، وَأَخْبَرَ بِمَنْ قَتَلَهُ قَالُوا:
كَذَبَ. وَالضَّمِيرُ فِي قُلُوبُكُمْ ضَمِيرُ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهُ، وَأَنْكَرُوا قَتْلَهُ. وَقِيلَ: قُلُوبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا قَسَتْ بِمَعَاصِيهِمْ وَمَا ارْتَكَبُوهُ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ.
وَكَنَّى بِالْقَسْوَةِ عَنْ نُبُوِّ الْقَلْبِ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَأَنَّ الْمَوَاعِظَ لَا تَجُولُ فِيهَا. وَأَتَى بِمِنْ فِي قَوْلِهِ:
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْقَسْوَةَ كَانَ ابْتِدَاؤُهَا عَقِيبَ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ الْخَارِقِ، وَلَكِنَّ الْعَطْفَ بِثُمَّ يَقْتَضِي الْمُهْلَةَ، فَيَتَدَافَعُ مَعْنَى ثُمَّ، وَمَعْنَى مِنْ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَجَوُّزٍ فِي أَحَدِهِمَا.
وَالتَّجَوُّزُ فِي ثُمَّ أَوْلَى، لِأَنَّ سَجَايَاهُمْ تَقْتَضِي الْمُبَادَرَةَ إِلَى الْمَعَاصِي بِحَيْثُ يُشَاهِدُونَ الْآيَةَ الْعَظِيمَةَ، فَيَنْحَرِفُونَ إِثْرَهَا إِلَى الْمَعْصِيَةِ عِنَادًا وَتَكْذِيبًا، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ قِيلَ: إِلَى إِحْيَاءِ الْقَتِيلِ، وَقِيلَ: إِلَى كَلَامِ الْقَتِيلِ، وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ مَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَرَفْعِ الْجَبَلِ، وَانْبِجَاسِ الْمَاءِ، وَإِحْيَاءِ الْقَتِيلِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
فَهِيَ كَالْحِجارَةِ: يُرِيدُ فِي الْقَسْوَةِ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ حُكِمَ فِيهَا بِتَشْبِيهِ قُلُوبِهِمْ بِالْحِجَارَةِ، إِذِ الْحَجَرُ لَا يَتَأَثَّرُ بِمَوْعِظَةٍ، وَيَعْنِي أَنَّ قُلُوبَهُمْ صُلْبَةٌ، لَا تُخَلْخِلُهَا الْخَوَارِقُ، كَمَا أَنَّ الْحَجَرَ خُلِقَ صُلْبًا. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اعْتِيَاصَ قُلُوبِهِمْ لَيْسَ لِعَارِضٍ، بَلْ خُلِقَ ذَلِكَ فِيهَا خَلْقًا أَوَّلِيًّا، كَمَا أَنَّ صَلَابَةَ الْحَجَرِ كَذَلِكَ. وَالْكَافُ الْمُفِيدَةُ مَعْنَى التَّشْبِيهِ: حَرْفٌ وَفَاقًا لِسِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ النَّحْوِيِّينَ، خِلَافًا لِمَنِ ادَّعَى أَنَّهَا تَكُونُ اسْمًا فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ عَنِ الْأَخْفَشِ. فَتَعَلُّقُهُ هُنَا بِمَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَهِيَ كَائِنَةٌ كَالْحِجَارَةِ، خِلَافًا لِابْنِ عُصْفُورٍ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ، وَدَلَائِلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحِجَارَةِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ. وَجُمِعَتِ الْحِجَارَةُ وَلَمْ تُفْرَدْ، فَيُقَالَ كَالْحَجْرِ، فَيَكُونَ أَخْصَرَ، إِذْ دَلَالَةُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْجِنْسِ كَدَلَالَةِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ قُوبِلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ، لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ جَمْعٌ، فَنَاسَبَ مُقَابَلَتَهُ بِالْجَمْعِ، وَلِأَنَّ قُلُوبَهُمْ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقَسْوَةِ، كَمَا أَنَّ الْحِجَارَةَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الصَّلَابَةِ. فَلَوْ قِيلَ: كَالْحَجَرِ، لَأَفْهَمَ ذَلِكَ عَدَمَ التَّفَاوُتِ، إِذْ يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ ذَلِكَ.
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، أَوْ: بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ بِمَعْنَى أَوْ لِلْإِبْهَامِ، أَوْ لِلْإِبَاحَةِ، أَوْ لِلشَّكِّ، أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، أَقْوَالٌ: وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مَثَلًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي، وَالْأَحْسَنُ الْقَوْلُ الْأَخِيرُ.
وَكَأَنَّ قُلُوبَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: قُلُوبٌ كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً، وَقُلُوبٌ أشد قسوة من الحجارة، فَأَجْمَلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، ثُمَّ فَصَّلَ وَنَوَّعَ إِلَى مُشَبَّهٍ بِالْحِجَارَةِ، وَإِلَى أَشَدَّ مِنْهَا،
423
إِذْ مَا كَانَ أَشَدُّ، كَانَ مُشَارِكًا فِي مُطْلَقِ الْقَسْوَةِ، ثُمَّ امْتَازَ بِالْأَشَدِّيَّةِ. وَانْتِصَابُ قَسْوَةً عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى تَقْتَضِيهِ الْكَافُ وَيَقْتَضِيهِ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْتَصِبُ عَنْهُ التَّمْيِيزُ. تَقُولُ: زيد كعمروا حِلْمًا، وَهَذَا التَّمْيِيزُ مُنْتَصِبٌ بَعْدَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، مَنْقُولٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَهُوَ نَقْلٌ غَرِيبٌ، فَتُؤَخِّرُ هَذَا التَّمْيِيزَ وَتُقِيمُ مَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ مُقَامَهُ.
تَقُولُ: زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهًا مِنْ عَمْرٍو، وَتَقْدِيرُهُ: وَجْهُ زَيْدٍ أَحْسَنُ مِنْ وَجْهِ عَمْرٍو، فَأَخَّرْتَ وَجْهًا وَأَقَمْتَ مَا كَانَ مُضَافًا مُقَامَهُ، فَارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ، كَمَا كَانَ وَجْهُ مُبْتَدَأً، وَلَمَّا تَأَخَّرَ أَدَّى إِلَى حَذْفِ وَجْهٍ مِنْ قَوْلِكَ: مِنْ وَجْهِ عَمْرٍو، وَإِقَامَةِ عَمْرٍو مُقَامَهُ، فَقُلْتَ: مِنْ عَمْرٍو، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَصْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِزِيَادَةِ الْحُسْنِ حَقِيقَةً لَيْسَ الرَّجُلَ إِنَّمَا هُوَ الْوَجْهُ، وَنَظِيرُ هَذَا: مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ الْحَسَنِ الْوَجْهِ، أَوِ الْوَجْهُ أَصْلُ هَذَا الرَّفْعِ، لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْحُسْنِ حَقِيقَةً لَيْسَ هُوَ الرَّجُلَ إِنَّمَا هُوَ الْوَجْهُ، وَإِنَّمَا أَوْضَحْنَا هَذَا، لِأَنَّ ذِكْرَ مَجِيءِ التَّمْيِيزِ مَنْقُولًا مِنَ الْمُبْتَدَأِ غَرِيبٌ، وَأَفْرَدَ أَشَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا عَنْ جَمْعٍ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهَا هُنَا هُوَ بِمِنْ، لَكِنَّهَا حُذِفَتْ، وَهُوَ مَكَانٌ حَسَّنَ حَذْفَهَا، إِذْ وَقَعَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ خَبَرًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ وَعُطِفَ، أَوْ أَشَدُّ، عَلَى قَوْلِهِ: كَالْحِجَارَةِ، فَهُوَ عَطْفُ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُفْرَدِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ عَلَى سَفَرٍ، أَوْ مُقِيمٌ، فَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي أَشَدُّ عَائِدٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا أَجَازَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَوْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً، فَيَصِيرَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ، التَّقْدِيرُ: أَوْ مِثْلُ أَشَدِّ، فُحُذِفَ مِثْلُ وَأُقِيمَ أَشَدُّ مُقَامَهُ، وَيَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَشَدُّ إِذْ ذَاكَ غَيْرَ عَائِدٍ عَلَى الْقُلُوبِ، إِذْ كَانَ الْأَصْلُ أَوْ مِثْلُ شَيْءٍ أَشَدَّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ، فَالضَّمِيرُ فِي أَشَدُّ عَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ بأشدّ الْمَحْذُوفِ. وَيُعَضِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ، بِنَصْبِ الدَّالِ عَطْفًا عَلَى، كَالْحِجَارَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَارَ إِلَى هَذَا إِلَّا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ خَاصَّةً. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، فَلَهَا التَّوْجِيهُ السَّابِقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَا إِضْمَارَ فِيهِ، فَكَانَ أَرْجَحَ.
وَقَدْ رَدَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ فِي مُنْتَخَبِهِ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ قَوْلَهُ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ، فَقَالَ: هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، لَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، فَكَيْفَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ:
أَشَدُّ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ وَهِيَ أَشَدُّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ صَحِيحٌ، وَلَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: مَعْطُوفٌ عَلَى الْكَافِ، أَنَّ الْكَافَ اسْمٌ، إِنَّمَا يُرِيدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ مَرْفُوعٍ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْكَافِ عَنِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَقَوْلَهُ:
424
فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَشَدُّ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ هِيَ أَشَدُّ، قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَوْلَى غَيْرُ هَذَا، لِأَنَّهُ تَقْدِيرٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ أَشَدُّ قَسْوَةً؟ وَفِعْلُ الْقَسْوَةِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ، قُلْتُ: لِكَوْنِهِ أَبْيَنَ وَأَدَلَّ عَلَى فَرْطِ الْقَسْوَةِ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ لَا يُقْصَدَ مَعْنَى الْأَقْسَى، وَلَكِنْ قُصِدَ وَصْفُ الْقَسْوَةِ بِالشِّدَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
اشْتَدَّتْ قَسْوَةُ الْحِجَارَةِ، وَقُلُوبُهُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَفِعْلُ الْقَسْوَةِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ أَنَّ قَسَا يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَفِعْلُ التَّعَجُّبِ بِجَوَازِ اجْتِمَاعِ الشَّرَائِطِ الْمُجَوِّزَةِ لِبِنَاءِ ذَلِكَ، وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ مُجَرَّدٍ مُتَصَرِّفٍ تَامٍّ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ، وَالنَّقْصِ مُثْبَتٍ. وَفِي كَوْنِهِ مِنْ أَفْعَلَ، أَوْ مِنْ كَوْنٍ، أَوْ مِنْ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ خِلَافٌ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: أَوْ أَشَدُّ قَسَاوَةً، وَهُوَ مَصْدَرٌ لِقَسَا أَيْضًا.
وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ: لَمَّا شَبَّهَ تَعَالَى قُلُوبَهُمْ بِالْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا أَشَدُّ قَسْوَةً عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي مَفْهُومِ، أَوْ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا عَلِمَهُ الْمُخَاطَبُ مِنْ صَلَابَةِ الْأَحْجَارِ، وَأَخَذَ يَذْكُرُ جِهَةَ كَوْنِ قُلُوبِهِمْ أَشَدَّ قَسْوَةً: وَالْمَعْنَى أَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ جَاسِيَةٌ صُلْبَةٌ لَا تُلَيِّنُهَا الْمَوَاعِظُ، وَلَا تَتَأَثَّرُ لِلزَّوَاجِرِ، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَقْبَلُ التَّخَلْخُلَ، وَأَنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي قَبُولِ ذَلِكَ، عَلَى حَسَبِ التَّقْسِيمِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ. فَقَدْ فُضِّلَتِ الْأَحْجَارُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فِي أَنَّ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ التَّخَلْخُلَ، وَأَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ فِي شِدَّةِ الْقَسَاوَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ إِلَى آخِرِهِ، هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَجَرُ مِمَّنْ يَعْقِلُ لَسَقَطَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَشَقَّقَ مِنْ هَيْبَتِهِ، وَأَنْتُمْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِيكُمُ الْعَقْلَ الَّذِي بِهِ إِدْرَاكُ الْأُمُورِ، وَالنَّظَرُ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقُلُوبُكُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَأَبْعَدُ عَنِ الْخَيْرِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْمَثَلِ: بَلْ أَخْبَرَ عَنِ الْحِجَارَةِ بِعَيْنِهَا، وَقَسَّمَهَا لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ كون قلوبهم أشد قسوة مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنَّ مُشَدَّدَةً، وَقَرَأَ قَتَادَةُ: وَإِنْ مُخَفَّفَةً، وَكَذَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُعْمَلَةً، وَيَكُونَ مِنَ الْحِجَارَةِ في موضع خبرها، وما فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهَا، وَهُوَ اسْمُهَا، وَاللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، أُدْخِلَتْ عَلَى الِاسْمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَالِاسْمُ إِذَا تَأَخَّرَ جَازَ دُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً، وَإِعْمَالُهَا مُخَفَّفَةً لَا يُجِيزُهُ الْكُوفِيُّونَ، وَهُمْ
425
مَحْجُوجُونَ بِالسَّمَاعِ الثَّابِتِ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ عمرو لَمُنْطَلِقٌ، بِسُكُونِ النُّونِ، إِلَّا أَنَّهَا إِذَا خُفِّفَتْ لَا تَعْمَلُ فِي ضَمِيرِ لَا، تَقُولُ: إِنَّكَ مُنْطَلِقٌ، إِلَّا إِنْ وَرَدَ فِي الشَّعْرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ مُعْمَلَةً، بَلْ تَكُونُ ملغاة، وما فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ. وَاللَّامُ فِي لَمَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لام الِابْتِدَاءِ لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إِنَّ الْمُؤَكِّدَةِ وَإِنِ النَّافِيَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ سليمان الأخفش الصَّغِيرِ. وَأَكْثَرِ نُحَاةِ بَغْدَادَ، وَبِهِ قَالَ: مِنْ نُحَاةِ بِلَادِنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَخْضَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا لَامٌ اخْتُلِسَتْ لِلْفَرْقِ، وَلَيْسَتْ لَامَ الِابْتِدَاءِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ. وَمِنْ كُبَرَاءِ بِلَادِنَا ابْنُ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُعْرِبُونَ فِي إِنِ الْمُخَفَّفَةِ هُنَا إِلَّا هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّهَا الْمُلْغَاةُ، وَأَنَّ اللَّامَ فِي لَمَا لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ خَفَّفَ إِنْ، فَهِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ لَازِمَةٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنِ الَّتِي بِمَعْنَى مَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ لَامُ التَّوْكِيدِ فِي لَمَا. وقال الزمخشري: وقرىء: وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ إِنِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ الَّتِي يَلْزَمُهَا اللَّامُ الْفَارِقَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ «١»، وَجَعْلُهُمْ إِنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثقيلة، هُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْفَرَّاءُ فَزَعَمَ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِنْ هِيَ النَّافِيَةُ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، فَإِذَا قُلْتَ: إِنْ زَيْدٌ لَقَائِمٌ، فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ: مَا زَيْدٌ إِلَّا قَائِمٌ.
وَأَمَّا الْكِسَائِيُّ فَزَعَمَ أَنَّهَا إِنْ وَلِيَهَا فِعْلٌ، كَانَتْ إِنْ نَافِيَةً، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَإِنْ وَلِيَهَا اسْمٌ، كَانَتِ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَذَهَبَ قُطْرُبٌ إِلَى أَنَّهَا إِذَا وَلِيَهَا فِعْلٌ، كَانَتْ بِمَعْنَى قَدْ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَا بِمِيمٍ مُخَفَّفَةٍ وَهِيَ مَوْصُولَةٌ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، قَالَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَعَلَّهُ سَقَطَتْ وَاوٌ، أَيْ وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مُتَّجِهَةٍ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَّجِهَةٍ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا إِذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْرَأُ وَإِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، فَحِينَئِذٍ يَعْسُرُ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. أَمَّا إِذَا قَرَأَ بِتَخْفِيفِ إِنْ، وَهُوَ الْمَظْنُونُ بِهِ ذَلِكَ، فَيَظْهَرُ تَوْجِيهُهَا بَعْضَ ظُهُورٍ، إِذْ تَكُونُ إِنْ نَافِيَةً، وَتَكُونُ لَمَّا بِمَنْزِلَةِ إِلَّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «٢»، وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «٣»، وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا»
، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ لما بالتشديد،
(١) سورة يس: ٣٦/ ٣٢.
(٢) سورة الطارق: ٨٦/ ٤.
(٣) سورة يس: ٣٦/ ٣٢.
(٤) سورة الزخرف: ٤٣/ ٣٥.
426
وَيَكُونُ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمُبْتَدَأُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَمَا مِنَ الْحِجَارَةِ حَجَرٌ إِلَّا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَكَذَلِكَ مَا فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «١»، أَيْ وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ «٢»، أَيْ وَمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ، وَحَذْفُ هذا المبتدأ أحسن، دلالة الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ يُشَكِّلُ مَعْنَى الْحَصْرِ، إِذْ يَظْهَرُ بِهَذَا التَّفْضِيلِ أَنَّ الْأَحْجَارَ مُتَعَدِّدَةٌ، فَمِنْهَا مَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَمِنْهَا مَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَمِنْهَا مَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَإِذَا حَصَرْتَ، أَفْهَمَ الْمَفْهُومُ قَبْلَهُ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْأَحْجَارِ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا، أَيْ تَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَيَتَشَقَّقُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَيَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ إِذَا حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى الْقَابِلِيَّةِ، إِذْ كُلُّ حَجَرٍ يَقْبَلُ ذَلِكَ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِيهِ، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ. فَإِذَا تَلَخَّصَ هَذَا كُلُّهُ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مُتَوَجِّهَةً عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَقْرَأَ طَلْحَةُ، وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ. وَأَمَّا إِنْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْرَأُ وَإِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، فَيَعْسُرُ تَوْجِيهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِنَّ الْمُشَدَّدَةَ هِيَ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةِ، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. وَيُمْكِنُ أَنْ تُوَجَّهَ قِرَاءَةُ طَلْحَةَ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، مَعَ قِرَاءَةِ إِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، بِأَنْ يَكُونَ اسْمُ إِنَّ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ:
وَلَكِنَّ زِنْجِيٌّ عَظِيمُ الْمَشَافِرِ وَفِي قَوْلِهِ:
فَلَيْتَ دَفَعْتَ الْهَمَّ عَنِّي سَاعَةً وَتَكُونُ لَمَّا بِمَعْنَى حِينَ، عَلَى مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ، أَوْ حَرْفَ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّ مِنْهَا مُنْقَادًا، أَوْ لَيِّنًا، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا. فَإِذَا كَانُوا قَدْ حَذَفُوا الِاسْمَ وَالْخَبَرَ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ فِي لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ: إِنَّ وَصَاحِبَهَا، فَحَذْفُ الِاسْمِ وَحْدَهُ أَسْهَلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَتَفَجَّرُ بِالْيَاءِ، مُضَارِعُ تَفَجَّرَ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَنْفَجِرُ بِالْيَاءِ، مُضَارِعُ انْفَجَرَ، وَكِلَاهُمَا مُطَاوِعٌ. أَمَّا يَتَفَجَّرُ فَمُطَاوِعُ تَفَجَّرَ، وَأَمَّا يَنْفَجِرُ فَمُطَاوِعُ فَجَرَ مُخَفَّفًا. وَالتَّفَجُّرُ: التَّفَتُّحُ بِالسَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالِانْفِجَارُ دُونَهُ، وَالْمَعْنَى: إن من الحجارة ما فِيهِ خُرُوقٌ وَاسِعَةٌ يَنْدَفِقُ مِنْهَا الْمَاءُ الْكَثِيرُ الْغَمْرُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالضَّحَّاكُ: مِنْهَا الْأَنْهَارُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْهُ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى حَمْلٌ عَلَى الْمَعْنَى، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّ مَا لَهَا هُنَا لَفْظٌ وَمَعْنًى، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحِجَارَةُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مفردا
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ١٦٤.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٥٩.
427
لِمَعْنًى، فَيَكُونَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَاحِدًا، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَلْحَجَرَ الَّذِي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ، إِنَّمَا الْمَعْنَى لَلْأَحْجَارَ الَّتِي يَتَفَجَّرُ مِنْهَا الْأَنْهَارُ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَنْهَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «١» الْآيَةَ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَجَرَ الَّذِي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي ضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا.
وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، التَّشَقُّقُ: التَّصَدُّعُ بِطُولٍ أَوْ بِعَرْضٍ، فَيَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ بِقِلَّةٍ حَتَّى لَا يَكُونَ نَهْرًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَشَّقَّقُ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ، وَأَصْلُهُ يَتَشَقَّقُ، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الشِّينِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: تَشَقَّقُ، بِالتَّاءِ وَالشِّينِ الْمُخَفَّفَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَرَأَيْتُهَا مَعْزُوَّةً لِابْنِ مُصَرِّفٍ. وَفِي النُّسْخَةِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ. مَا نَصُّهُ: وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ: يَنْشَقَّقُ، بِالنُّونِ وَقَافَيْنِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ اللِّسَانُ أَنْ يَكُونَ بِقَافٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَقَدْ يَجِيءُ الْفَكُّ فِي شِعْرٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِعُ مَجْزُومًا، جَازَ الْفَكُّ فَصِيحًا، وَهُوَ هُنَا مَرْفُوعٌ، فَلَا يَجُوزُ الْفَكُّ، إِلَّا أَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيهَا، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِعُ بِالنُّونِ مَعَ الْقَافَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْأُولَى مِنْهُمَا، فَلَا يَجُوزُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يجوز لَمَا تَتَفَجَّرُ بِالتَّاءِ، وَلَا يجوز لَمَا تَتَفَجَّرُ بِالتَّاءِ، وَلَا يَجُوزُ تَتَشَقَّقُ بِالتَّاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: تَتَفَجَّرُ فَأَنَّثَهُ لِتَأْنِيثِ الْأَنْهَارِ، وَلَا يَكُونُ فِي تَشَقَّقُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ مَا أَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّ مِنْهَا لَلْحِجَارَةَ الَّتِي تَشَّقَّقُ، وَأَمَّا يَشَّقَّقُ بِالْيَاءِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى اللَّفْظِ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَلَمْ يُنْقَلْ هُنَا أَنَّ أَحَدًا قَرَأَ مِنْهَا الْمَاءُ، فَيُعِيدُ عَلَى الْمَعْنَى، إِنَّمَا نُقِلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: لَمَا يتفجر منه الأنهار، فكان قوله يتفجر حملا على اللفظ ومنها حملا على المعنى ومحسن هذا هنا انه ولى الضمير جمع وهو الْأَنْهَارُ، فَنَاسَبَ الْجَمْعُ الْجَمْعَ، وَلِأَنَّ الْأَنْهَارَ مِنْ حَيْثُ هِيَ جَمْعٌ، يَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ حَجَرٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ الْأَنْهَارُ مِنْ أَحْجَارٍ، فَلِذَلِكَ نَاسَبَ مُرَاعَاةَ الْمَعْنَى هُنَا. وَأَمَّا فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، فَالْمَاءُ لَيْسَ جَمْعًا، فَلَا يُنَاسِبُ فِي حَمْلِ مِنْهُ عَلَى الْمَعْنَى، بَلْ أَجْرَى يشقق، ومنه عَلَى اللَّفْظِ.
وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، الْهُبُوطُ هُنَا: التَّرَدِّي مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: يَهْبُطُ، بِضَمِّ الْبَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَخَشْيَةُ اللَّهِ: خَوْفُهُ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ هُنَا حَقِيقَةٌ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ قَوْمٌ مَعْنَاهُ:
مِنْ خَشْيَةِ الْحِجَارَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، وَأَنَّ اللَّهَ تعالى جعل لهذه
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥.
428
الْأَحْجَارِ الَّتِي تَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَمْيِيزًا قَامَ لَهَا مَقَامَ الْفِعْلِ الْمُودَعِ فِيمَنْ يَعْقِلُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ بَعْضَ الْحِجَارَةِ بِالْخَشْيَةِ، وَبَعْضَهَا بِالْإِرَادَةِ، وَوَصَفَ جَمِيعَهَا بِالنُّطْقِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّأْوِيبِ وَالتَّصَدُّعِ، وَكُلُّ هَذِهِ صِفَاتٌ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَالْمَعْرِفَةِ. قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ «١» الْآيَةَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «٢»، يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «٣»،
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ وَأَنَّهُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ مَا مَرَّ بِحَجْرٍ وَلَا مُدَرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِنَّهُ يَشْهَدُ لِمَنْ يَسْتَلِمُهُ».
وَفِي حَدِيثِ الْحَجَرِ الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَارَ يَعْدُو خَلْفَهُ وَيَقُولُ: «ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ».
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أُحُدٍ: «إِنَّ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ».
وَفِي حَدِيثِ حِرَاءٍ: «لَمَّا اهْتَزَّ اسْكُنْ حِرَاءُ».
وَفِي حَدِيثِ: «تَسْبِيحِ صِغَارِ الْحَصَى بِكَفِّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَأَحَادِيثُ أُخَرُ عَلَى نُطْقِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَانْقِيَادِ الشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِيهَا قُوَّةً مُمَيِّزَةً، وَصِفَةً نَاطِقَةً، وَحَرَكَةً اخْتِيَارِيَّةً، لَمَا صَدَرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا حَسُنَ وَصْفُهَا بِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَشْيَةُ هُنَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مُصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى فَاعِلٍ. وَالْمُرَادُ بِالْحَجَرِ الَّذِي يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هُوَ الْبَرَدُ، وَالْمُرَادُ بِخَشْيَةِ اللَّهِ: إِخَافَتُهُ عِبَادَهُ، فَأَطْلَقَ الْخَشْيَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْإِخْشَاءَ، أَيْ نُزُولُ الْبَرَدِ بِهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَيَزْجُرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَهَذَا قَوْلٌ مُتَكَلَّفٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ. وَالْبَرَدُ لَيْسَ بِحِجَارَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَدَّ عِنْدَ النُّزُولِ، فَهُوَ مَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَشْيَةُ هُنَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، وَفَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْعِبَادُ.
والمعنى: إن من الحجارة مَا يَنْزِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ عِنْدِ الزَّلْزَلَةِ مِنْ خَشْيَةِ عِبَادِ اللَّهِ إِيَّاهُ.
وَتَحْقِيقُهُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا خَشْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى، صَارَتْ تِلْكَ الْخَشْيَةُ كَالْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي ذَلِكَ الْهُبُوطِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَمَا يَهْبِطُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ مِنَ الْقُلُوبِ قُلُوبًا تَطْمَئِنُّ وَتَسْكُنُ، وَتَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَنَّى بِالْهُبُوطِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ قُلُوبَ الْمُخْلِصِينَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ مِنْها، فَظَاهِرُ الكلام
(١) سورة الحشر: ٥٩/ ٢١.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٤٤.
(٣) سورة سبأ: ٣٤/ ١٠.
429
التَّقْسِيمُ لِلْحِجَارَةِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ، وَالْهُبُوطُ لَا يَلِيقُ بِالْقُلُوبِ، إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْحِجَارَةِ. وَلَيْسَ تَأْوِيلُ الْهُبُوطِ بِأَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْخَشْيَةِ إِنْ تَأَوَّلْنَاهَا. وَقَدْ أَمْكَنَ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ حَمْلَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ جَعَلَهُ دَكًّا. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ هُنَا مَجَازٌ مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ، كَمَا اسْتُعِيرَتِ الْإِرَادَةُ لِلْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ «١»، وَكَمَا قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ:
بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حُجُرَاتِهِ تَرَى الْأُكْمَ مِنْهُ سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَضَعْضَعَتْ سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ
أَيْ مَنْ رَأَى الْحَجَرَ مُتَرَدِّيًا مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، تَخَيَّلَ فِيهِ الْخَشْيَةَ، فَاسْتَعَارَ الْخَشْيَةَ، كِنَايَةً عَنِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ عَلَى مَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا. فَمَنْ يَرَاهَا يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الِانْفِعَالَ السَّرِيعَ هُوَ مَخَافَةُ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ لَا يَحِلَّانِ فِي الْجَمَادَاتِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ. وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بِهَا مَلَائِكَةً، هِيَ الَّتِي تُسَلِّمُ وَتَتَكَلَّمُ،
كَمَا وَرَدَ أَنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تُنَادِي: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي.
وَالْأَرْحَامُ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ، وَلَا لَهَا إِدْرَاكٌ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَسْجُدَ الْمَعَانِي، أَوْ تَتَكَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مَلَكًا يَقُولُ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَتَأَوَّلُوا: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونحبه، أي يحبه أَهْلُهُ وَنُحِبُّ أَهْلَهُ، كَقَوْلِهِ تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٢». وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْحِجَارَةِ قَدْرًا مَا مِنَ الْإِدْرَاكِ، تَقَعُ بِهِ الْخَشْيَةُ وَالْحَرَكَةُ. وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْخَشْيَةَ مَجَازٌ عَنِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ امْتِنَاعِهَا، وَتَرْتِيبُ تَقْسِيمِ هَذِهِ الْحِجَارَةِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ جِدًّا، وَهُوَ عَلَى حَسَبِ التَّرَقِّي. فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالَّذِي تَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، أَيْ خُلِقَ ذَا خُرُوقٍ مُتَّسِعَةٍ، فَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ تَفَعُّلٌ وَلَا فِعْلٌ، أَيْ أَنَّهَا خُلِقَتْ ذَاتَ خُرُوقٍ بِحَيْثُ لَا يُحْتَاجُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا صُدُورُ فِعْلٍ مِنْهَا. ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ هَذَا الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي يَنْفَعِلُ انْفِعَالًا يَسِيرًا، وَهُوَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ تَشَقُّقٌ بِحَيْثُ يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ. ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ هَذَا الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي يَنْفَعِلُ انْفِعَالًا عَظِيمًا، بِحَيْثُ يَتَحَرَّكُ وَيَتَدَهْدَهُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، ثُمَّ رَسَّخَ هَذَا الانفعال التامّ بأن
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٧٧.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٨٢.
430
ذَلِكَ هُوَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ طَوَاعِيَتِهِ وَانْقِيَادِهِ لِمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، فَكَنَّى بِالْخَشْيَةِ عَنِ الطَّوَاعِيَةِ وَالِانْقِيَادِ، لِأَنَّ مَنْ خَشِيَ أَطَاعَ وَانْقَادَ.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: هَذَا فِيهِ وَعِيدٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أَفْهَمَ أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ أَفْعَالٌ فَاسِدَةٌ وَأَعْمَالٌ قَبِيحَةٌ، مِنْ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُعَانَدَةِ رُسُلِهِ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، بَلْ هُوَ تَعَالَى يُحْصِيهَا عَلَيْهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَغْفُلْ عَنْهَا كَانَ مُجَازِيًا عَلَيْهَا. وَالْغَفْلَةُ إِنْ أُرِيدَ بِهَا السَّهْوُ، فَالسَّهْوُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا التَّرْكُ عَنْ عَمْدٍ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، فَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى الْغَفْلَةَ عَنْهُ.
وَانْتِفَاءُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ عَقْلًا، وَلِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَ إِمْكَانِهِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْقَاضِي إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَافِلٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ يُوهِمُ جَوَازَ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ «١» ؟ وَقَوْلِهِ: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ «٢»، فَقَدْ نَفَى عَنْهُ تَعَالَى مَا لَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَهُ لَهُ. وبغافل: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا حِجَازِيَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَا تَمِيمِيَّةً، فَدَخَلَتِ الْبَاءُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَسَوَّغَ ذَلِكَ النَّفْيُ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُوجَبِ؟ لَا تَقُولُ:
زَيْدٌ بِقَائِمٍ، وَلَا: مَا زَيْدٌ إِلَّا بِقَائِمٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِغَافِلٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ خَبَرِ مَا، لِأَنَّهَا الْحِجَازِيَّةُ، يُقَوِّي ذَلِكَ دُخُولُ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ قَدْ تَجِيءُ شَاذَّةً مَعَ التَّمِيمِيَّةِ.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ، مِنْ أَنَّ الْبَاءَ مَعَ التَّمِيمِيَّةِ قَدْ تَجِيءُ شَاذَّةً، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ نَحْوِيٌّ فِيمَا عَلِمْنَاهُ، بَلِ الْقَائِلُونَ قَائِلَانِ، قَائِلٌ: بِأَنَّ التَّمِيمِيَّةَ لَا تَدْخُلُ الْبَاءُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ بَعْدَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَائِلٌ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجَرَّ بِالْبَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
لَعَمْرُكَ مَا مَعْنٌ بِتَارِكِ حَقِّهِ وَأَشْعَارُ بَنِي تَمِيمٍ تَتَضَمَّنُ جَرَّ الْخَبَرِ بِالْبَاءِ كَثِيرًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْمَلُونَ بِالتَّاءِ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى نَسَقِ قَوْلِهِ: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ بَنِي إسرائيل، ويكون ذلك
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٥.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٤. [.....]
431
الْتِفَاتًا، إِذْ خَرَجَ مِنْ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ:
يَعْلَمُونَ. وحكمة هذا الالتفات أنه أَعْرَضَ عَنْ مُخَاطَبَتِهِمْ، وَأَبْرَزَهُمْ فِي صُورَةِ مَنْ لَا يُقْبَلُ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، وَجَعَلَهُمْ كَالْغَائِبِينَ عَنْهُ، لِأَنَّ مُخَاطَبَةَ الشَّخْصِ وَمُوَاجَهَتَهُ بِالْكَلَامِ إِقْبَالٌ مِنَ الْمُخَاطِبِ عَلَيْهِ، وَتَأْنِيسٌ لَهُ، فَقَطَعَ عَنْهُمْ مُوَاجَهَتَهُ لَهُمْ بِالْخِطَابِ، لِكَثْرَةِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ فُصُولًا عَظِيمَةً، وَمُحَاوَرَاتٍ كَثِيرَةً، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، شَافَهَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَذَلِكَ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، فَلَمْ يُبَادِرُوا لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَخْرَجُوا ذَلِكَ مُخْرَجَ الْهُزُؤِ، إِذْ لَمْ يَفْهَمُوا سِرَّ الْأَمْرِ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرُوا بِالِامْتِثَالِ، فَأَجَابَهُمْ مُوسَى بِاسْتِعَاذَتِهِ بِاللَّهِ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ جَهِلَ، فَيُخْبِرَ عَنِ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ، فَرَدَّ عليهم بأن استعمال الهزء فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ تعالى، وفي غيره، وهو يَسْتَعِيذُ مِنْهُ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَتَعَنَّتُوا فِي الْبَقَرَةِ، وَفِي أَوْصَافِهَا، وَكَانَ يُجْزِئُهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، إِذِ الْمَأْمُورُ بِهِ بَقَرَةٌ مُطْلَقَةٌ، فَسَأَلُوا مَا هِيَ؟ وَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَهَا لَهُمْ، إِذْ كَانَ دُعَاؤُهُ أَقْرَبَ لِلْإِجَابَةِ مِنْ دُعَائِهِمْ، فَأَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِسِنِّهَا. ثُمَّ خَافَ مِنْ كَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَمِنْ تَعَنُّتِهِمْ، كَمَا جَاءَ، إِنَّمَا أَهْلَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَبَادَرَ إِلَى أَمْرِهِمْ بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ، حَتَّى قَطَعَ سُؤَالَهُمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى أَمْرِهِ، وَسَأَلُوا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى ثَانِيًا عَنْ لَوْنِهَا، إِذْ قَدْ أُخْبِرُوا بِسِنِّهَا، فَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَوْنِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ ثَانِيًا أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، إِذْ عَلِمَ مِنْهُمْ تَعَنُّتَهُمْ، لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، وَخَالَفُوا أَمْرَ مُوسَى ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ. فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ أَبْقَاهُمْ عَلَى طَبِيعَتِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ. فَسَأَلُوا ثَالِثًا أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ عَنْهَا، فَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِحَالِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ وَبَاقِي الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا، فَحِينَئِذٍ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُوسَى جَاءَ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ الَّذِي بَيَّنَ أَمْرَ هَذِهِ الْبَقَرَةِ، فَالْتَمَسُوهَا حَتَّى حَصَّلُوهَا وَذَبَحُوهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بَعْدَ تَرْدِيدٍ كَثِيرٍ وَبُطْءٍ عَظِيمٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا قَارَبُوا ذَبْحَهَا، بَلْ بَقُوا مُتَطَلِّبِينَ أَشْيَاءَ لِيَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ تَحْصِيلُهَا وَذَبْحُهَا.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَتْلِ النَّفْسِ، وَتَدَافُعِهِمْ فِيمَنْ قَتَلَهَا، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَأُمِرُوا بِأَنْ يَضْرِبُوا ذَلِكَ الْقَتِيلَ بِبَعْضِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ، فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَانْكَشَفَ لَهُمْ سِرُّ أَمْرِ اللَّهِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَأَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُعْجِزِ الْخَارِقِ، مَا
432
يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ الدَّالُّ عَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِثْلَ هذ الْإِحْيَاءِ يُحْيِي الْمَوْتَى، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِحْيَاءَيْنِ فِي مُطْلَقِ الْإِحْيَاءِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُرِيهِمْ آيَاتِهِ، لِيَنْتِجَ عَنْ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ كَوْنُهُمْ يَصِيرُونَ مِنْ أُولِي الْعَقْلِ، النَّاظِرِينَ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، الْمُفَكِّرِينَ فِي الْمَعَادِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَلَى مُشَاهَدَتِهِمْ هَذَا الْخَارِقَ الْعَظِيمَ، وَرُؤْيَتِهِمُ الْآيَاتِ قَبْلَ ذَلِكَ، لَمْ يَتَأَثَّرُوا لِذَلِكَ، بَلْ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ عَكْسُ مُقْتَضَاهُ مِنَ الْقَسْوَةِ الشَّدِيدَةِ، حَتَّى شَبَّهَ قُلُوبَهُمْ بِالْحِجَارَةِ، أَوْ هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْحِجَارَةِ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ لِذِكْرِ الْحِجَارَةِ بِالتَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ، عَلَى أَنَّ الْحِجَارَةَ تَفْضُلُ قُلُوبَهُمْ فِي كَوْنِ بَعْضِهَا يَتَأَثَّرُ تَأْثِيرًا عَظِيمًا، بِحَيْثُ يَتَحَرَّكُ وَيَتَدَهْدَهُ، وَكَوْنِ بَعْضِهَا يَتَشَقَّقُ فَيَتَأَثَّرُ تَأْثِيرًا قَلِيلًا، فَيَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَكَوْنِ بَعْضِهَا خُلِقَ مُنْفَرِجًا تَجْرِي مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَقُلُوبُهُمْ عَلَى سَجِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، لَا تَقْبَلُ مَوْعِظَةً، وَلَا تَتَأَثَّرُ لِذِكْرَى، وَلَا تَنْبَعِثُ لِطَاعَةٍ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفُلُ عَمَّا اجْتَرَحُوهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، بَلْ يُجَازِيهِمْ بِذَلِكَ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى. وَكَانَ افْتِتَاحُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ، وَاخْتِتَامُهَا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفُلُ. فَهُوَ الْعَالِمُ بِمَنِ امْتَثَلَ، وَبِمَنْ أَهْمَلَ، فَيُجَازِي مُمْتَثِلَ أَمْرِهِ بِجَزِيلِ ثَوَابِهِ، وَمُهْمِلَ أَمْرِهِ بِشَدِيدِ عقابه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
433
الطَّمَعُ: تَعَلُّقُ النَّفْسِ بِإِدْرَاكِ مَطْلُوبٍ، تَعَلُّقًا قَوِيًّا، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الرَّجَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْدُثُ إِلَّا عَنْ قُوَّةِ رَغْبَةٍ وَشِدَّةِ إِرَادَةٍ، وَإِذَا اشْتَدَّ صَارَ طَمَعًا، وَإِذَا ضَعُفَ كَانَ رَغْبَةً وَرَجَاءً. يُقَالُ: طَمِعَ يَطْمَعُ طَمَعًا وَطَمَاعَةً وَطَمَاعِيَةً مُخَفَّفًا، كَطَوَاعِيَةٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
طَمَاعِيَةٌ أَنْ يَغْفِرَ الذَّنْبَ غَافِرُهْ وَاسْمُ الْفَاعِلِ: طَمِعٌ وَطَامِعٌ، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، وَيُقَالُ: طَامَعَهُ مُطَامَعَةً، وَيُقَالُ: طَمُعَ بِضَمِّ الميم، كثر طعمه، وَضِدُّ الطَّمَعِ: الْيَأْسُ، قَالَ كُثَيِّرٌ:
لَا خَيْرَ فِي الْحُبِّ وَقْفًا لَا يُحَرِّكُهُ عَوَارِضُ الْيَأْسِ أَوْ يَرْتَاجُهُ الطَّمَعُ
وَيُقَالُ: امْرَأَةٌ مِطْمَاعٌ، أَيْ تَطْمَعُ وَلَا تُمَكَّنُ، وَقَدْ تَوَسَّعَ فِي الطَّمَعِ فَسُمِّيَ بِهِ رِزْقُ الْجُنْدِ، يُقَالُ: أَمَرَ لَهُمُ الْأَمِيرُ بِأَطْمَاعِهِمْ، أَيْ أَرْزَاقِهِمْ، وَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ. الْكَلَامُ: هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى نِسْبَةٍ إِسْنَادِيَّةٍ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْكَلِمَةِ، وَيُعَبَّرُ بِهِ أَيْضًا عَنِ الْخَطِّ وَالْإِشَارَةِ، وَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَالِ الشَّيْءِ. وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِالذِّهْنِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْكَلَامِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَتَقَالِيبُهُ السِّتُّ مَوْضُوعَةٌ، وَتَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَهِيَ: كَلَمَ، كَمَلَ، لَكَمَ، لَمَكَ، مَلَكَ، مَكَلَ. التَّحْرِيفُ:
إِمَالَةُ الشَّيْءِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَالْحَرْفُ: الْحَدُّ الْمَائِلُ. التَّحْدِيثُ: الْإِخْبَارُ عَنْ حَادِثٍ، وَيُقَالُ مِنْهُ يَحْدُثُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحُدُوثِ، وَأَصْلُ فِعْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ، وَإِلَى آخَرَ بِعَنْ، وَإِلَى ثَالِثٍ بِالْبَاءِ، فَيُقَالُ: حَدَّثْتُ زَيْدًا عَنْ بَكْرٍ بِكَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يُضَمَّنُ مَعْنَى أَعْلَمَ الْمَنْقُولَةِ مِنْ عَلِمَ المتعدية إلى اثنين، فَيَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَهِيَ مِنْ إِلْحَاقِ غَيْرِ سِيبَوَيْهِ بِأَعْلَمَ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِيبَوَيْهِ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ غَيْرِ: أَعْلَمَ، وَأَرَى وَنَبَّأَ، وَأَمَّا حَدَّثَ فَقَدْ أَنْشَدُوا بَيْتَ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
أَوْ مَنَعْتُمْ مَا تُسْأَلُونَ فَمَنْ حَدَّثْتُمُوهُ لَهُ عَلَيْنَا الْعَلَاءُ
وَجَعَلُوا حَدَّثَ فِيهِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: حَدَّثْتُمُوا عَنْهُ.
وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ حَالٌ. كَمَا خَرَّجَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُ: وَنُبِّئْتُ عَبْدَ اللَّهِ، أَيْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ضَمَّنَ نُبِّئْتُ مَعْنَى: أُعْلِمْتُ، لَكِنْ رَجَحَ عِنْدَهُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَى التَّضْمِينِ.
434
وَإِذَا احْتَمَلَ أَنْ يُخَرَّجَ بيت الحرث عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْحَرْفُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ تَعَدِّي حَدَثٍ إِلَى ثَلَاثَةٍ بِنَفْسِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لا يذهب إِلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. الْفَتْحُ: الْقَضَاءُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ «١». وَالْأَذْكَارُ: فَتْحٌ عَلَى الْإِمَامِ، وَالظَّفَرُ: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «٢». قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَبِمَعْنَى الْقَصَصِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ:
وَبِمَعْنَى التَّبْيِينِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَبِمَعْنَى الْمَنِّ. وَأَصْلُ الْفَتْحِ: خَرْقُ الشَّيْءِ، وَالسَّدُّ ضِدُّهُ.
الْمُحَاجَّةُ: مِنَ الِاحْتِجَاجِ، وَهُوَ الْقَصْدُ لِلْغَلَبَةِ، حَاجَّهُ: قَصَدَ أَنْ يَغْلِبَ. وَالْحُجَّةُ: الْكَلَامُ الْمُسْتَقِيمُ، مَأْخُوذٌ مِنْ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ.
أَسَرَّ الشَّيْءَ: أَخْفَاهُ، وَأَعْلَنَهُ: أَظْهَرُهُ. الْأُمِّيُّ: الَّذِي لَا يَقْرَأُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَكْتُبُ، نُسِبَ إِلَى الْأُمِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شُغْلِ النِّسَاءِ أَنْ يَكْتُبْنَ أَوْ يَقْرَأْنَ فِي كِتَابٍ، أَوْ لِأَنَّهُ بِحَالِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهَا، أَوْ نُسِبَ إِلَى الْأُمَّةِ، وَهِيَ الْقَامَةُ وَالْخِلْقَةُ، أَوْ إِلَى الْأَمَةِ، إِذْ هِيَ سَاذِجَةٌ قَبْلَ أَنْ تَعْرِفَ الْمَعَارِفَ. الْأَمَانِيُّ: جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وَهِيَ أُفْعُولَةٌ، أَصْلُهُ: أُمْنُويَةٌ، اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَوَاوٌ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَهِيَ مِنْ مَنَّى، إِذَا قَدَّرَ، لِأَنَّ الْمُتَمَنِّيَ يُقَدِّرُ فِي نَفْسِهِ وَيُحْزِرُ مَا يَتَمَنَّاهُ، أَوْ مِنْ تَمَنَّى: أَيْ كَذَبَ. قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِابْنٍ دَأَبَ فِي شَيْءٍ حَدَثَ بِهِ: أَهَذَا شَيْءٌ رَوَيْتَهُ أَمْ تَمَنَّيْتَهُ؟ أَيِ اخْتَلَقْتَهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ: مَا تَمَنَّيْتُ وَلَا تَغَنَّيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، أَوْ مِنْ تَمَنَّى إِذَا تَلَا، قَالَ تَعَالَى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «٣»، أَيْ إِذَا تَلَا وَقَرَأَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
وَالتِّلَاوَةُ وَالْكَذِبُ رَاجِعَانِ لِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، فَالتَّقْدِيرُ أَصْلُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا تَقُولَنْ لِشَيْءٍ سَوْفَ أَفْعَلُهُ حَتَّى تَبَيَّنَ مَا يَمْنِي لَكَ الْمَانِي
أَيْ يُقَدِّرُ، وَجَمْعُهَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ لِأَنَّهُ أَفَاعِيلُ. وَإِذَا جُمِعَ عَلَى أَفَاعِلَ خُفِّفَتِ الْيَاءُ، وَالْأَصْلُ التَّشْدِيدُ، لِأَنَّ الْيَاءَ الْأُولَى فِي الْجَمْعِ هِيَ الْوَاوُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْمُفْرَدِ الَّتِي انْقَلَبَتْ فِيهِ يَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّ جَمْعَ أُمْلُودٍ أَمَالِيدُ؟ وَيْلٌ: الْوَيْلُ مَصْدَرٌ لَا فِعْلَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِمْ. وَأَلَ مَصْنُوعٌ، ولم يجىء مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ الَّتِي فَاؤُهَا وَاوٌ وَعَيْنُهَا يَاءٌ إِلَّا: وَيْلٌ، وَوَيْحٌ، وَوَيْسٌ، وَوَيْبٌ، وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ. وَيُقَالُ: وَيْلَهُ، وَيُجْمَعُ على ويلات. قال:
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ٢٦.
(٢) سورة الأنفال: ٨/ ١٩.
(٣) سورة الحج: ٢٢/ ٢٥.
435
فَقَالَتْ لَكَ الْوَيْلَاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي وَإِذَا أُضِيفَ وَيْلٌ، فَالْأَحْسَنُ فِيهِ النَّصْبُ، قَالَ تَعَالَى: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً «١». وَزَعَمَ بَعْضٌ أَنَّهُ إِذَا أُضِيفَ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا النَّصْبُ، وَإِذَا أَفْرَدْتَهُ اخْتِيرَ الرَّفْعُ، قَالَ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ، وَيَجُوزُ النَّصْبُ، قَالَ:
فَوَيْلًا لِتَيْمٍ مِنْ سَرَابِيلِهَا الْخُضْرِ وَالْوَيْلُ: مَعْنَاهُ الْفَضِيحَةُ وَالْحَسْرَةُ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْوَيْلُ: شِدَّةُ الشَّرِّ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ وَابْنُ عَرَفَةَ: الْوَيْلُ: الْحُزْنُ، يُقَالُ: تَوَيَّلَ الرَّجُلُ: دَعَا بِالْوَيْلِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُزْنِ وَالْمَكْرُوهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوَيْلُ: الْهَلَكَةُ، وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ دَعَا بِالْوَيْلِ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ كَلِمَةُ تَفَجُّعٍ، وَقَدْ يَكُونُ تَرَحُّمًا، وَمِنْهُ:
وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ الْأَيْدِي: جَمْعُ يَدٍ، وَيَدٌ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ اللَّامُ، وَوَزْنُهُ فَعْلٌ، وَقَدْ صُرِّحَ بِالْأَصْلِ.
قَالُوا: يَدْيٌ، وَقَدْ أَبْدَلُوا مِنَ الْيَاءِ الْأُولَى هَمْزَةً، قَالُوا: قَطَعَ اللَّهُ أَدْيَهُ، وَأَبْدَلُوا مِنْهَا أَيْضًا جِيمًا، قَالُوا: لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ جَدَ الدَّهْرِ، يُرِيدُونَ يَدَ الدَّهْرِ، وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْجَارِحَةِ، مَجَازٌ فِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا الْأَيَادِي فَجَمْعُ الْجَمْعِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْأَيَادِي فِي النِّعَمِ، وَالْأَصْلُ:
الْأَيْدِي، اسْتَثْقَلْنَا الضَّمَّةَ عَلَى الْيَاءِ فَحُذِفَتْ، فَسَكَنَتِ الْيَاءُ، وَقَبْلَهَا ضَمَّةٌ، فَانْقَلَبَتْ واوا، فصار الأيد. وَكَمَا قِيلَ فِي مُيْقِنٍ مُوقِنٌ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِهِمْ وَاوٌ سَاكِنَةٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ فِي اسْمٍ، وَإِذَا أَدَّى الْقِيَاسُ إِلَى ذَلِكَ، قُلِبَتْ تِلْكَ الْوَاوُ يَاءً وَتِلْكَ الضَّمَّةُ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ، فَصَارَ الْأَيْدِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْيَدِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لِما بَيْنَ يَدَيْها «٢». الْكَسْبُ:
أَصْلُهُ اجْتِلَابُ النَّفْعِ، وَقَدْ جَاءَ فِي اجْتِلَابِ الضُّرِّ، وَمِنْهُ: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً، وَالْفِعْلُ مِنْهُ يَجِيءُ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ، تَقُولُ: كَسَبْتُ مَالًا، وَإِلَى اثْنَيْنِ تَقُولُ: كَسَّبْتُ زَيْدًا مَالًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ يُقَالُ: كَسَبَ هُوَ نَفْسُهُ وَأَكْسَبَ غَيْرَهُ، وَأَنْشَدَ:
فَأَكْسَبَنِي مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ حَمْدَا الْمَسُّ: الْإِصَابَةُ، وَالْمَسُّ: الْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى نِهَايَةِ الْقُرْبِ، وَاللَّمْسُ: مِثْلُهُ لَكِنْ مَعَ الْإِحْسَاسِ، وَقَدْ يَجِيءُ الْمَسُّ مَعَ الْإِحْسَاسِ. وَحَقِيقَةُ الْمَسِّ واللمس باليد. ونقل
(١) سورة طه: ٢٠/ ٦١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٦٦.
436
مِنَ الْإِحْسَاسِ إِلَى الْمَعَانِي مِثْلَ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ «١» يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «٢»، وَمِنْهُ سُمِّي الْجُنُونُ مَسًّا، وَقِيلَ: الْمَسُّ وَاللَّمْسُ وَالْجَسُّ مُتَقَارِبٌ، إِلَّا أَنَّ الْجَسَّ عَامٌّ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَالْمَسَّ فِيمَا يَخْفَى وَيَدِقُّ، كَنَبْضِ الْعُرُوقِ، وَالْمَسُّ وَاللَّمْسُ بِظَاهِرِ الْبَشْرَةِ، وَالْمَسُّ كِنَايَةٌ عَنِ النِّكَاحِ وَعَنِ الْجُنُونِ. الْمَعْدُودُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ عَدَّ، بِمَعْنَى حَسَبَ، وَالْعَدَدُ هُوَ الْحِسَابُ. الْإِخْلَافُ: عَدَمُ الْإِيفَاءِ بِالشَّيْءِ الْمَوْعُودِ. بَلَى: حَرْفُ جَوَابٍ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ نَفْيٍ فِي اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى، وَمَعْنَاهَا: رَدُّهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَقْرُونًا بِهِ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ وَقَعَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ فِي مِثْلِ: هَلْ يَسْتَطِيعُ زَيْدٌ مُقَاوَمَتِي؟ إِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِمُقَاوَمَةِ زَيْدٍ لَهُ، لِمَا كَانَ مَعْنَاهُ النَّفْيَ، وَمِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ قَوْلُ الْحُجَافِ بْنِ حَكِيمٍ:
بَلْ سَوْفَ نُبْكِيهِمْ بِكُلِّ مُهَنَّدٍ وَنُبْكِي نُمَيْرًا بِالرِّمَاحِ الْخَوَاطِرِ
وَقَعَتْ جَوَابًا لِلَّذِي قَالَ لَهُ، وَهُوَ الْأَخْطَلُ:
أَلَا فَاسْأَلِ الْحُجَافَ هَلْ هُوَ ثَائِرٌ بِقَتْلَى أُصِيبَتْ مِنْ نُمَيْرِ بْنِ عَامِرِ
وَبَلَى عِنْدَنَا ثُلَاثِيُّ الْوَضْعِ، وَلَيْسَ أَصْلُهُ بَلْ، فَزِيدَتْ عَلَيْهَا الْأَلْفُ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ.
السَّيِّئَةُ: فَيْعِلَةٌ مِنْ سَاءَ يَسُوءُ مَسَاءَةً، إِذَا حَزِنَ، وَهِيَ تَأْنِيثُ السيّء، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ «٣»، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ لِلْيَهُودِ، وَبَيْنَهُمْ جِوَارٌ وَرَضَاعَةٌ، وَكَانُوا يَوَدُّونَ لَوْ أَسْلَمُوا.
وَقِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ يَوَدُّونَ إِسْلَامَ مَنْ بِحَضْرَتِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَشَرِيعَةٍ، وَكَانُوا يَغْضَبُونَ لَهُمْ وَيَلْطُفُونَ بِهِمْ طَمَعًا فِي إِسْلَامِهِمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْنَاءِ السَبْعِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الطُّورِ، فَسَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ، فَلَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَحَرَّفُوا الْقَوْلَ فِي أَخْبَارِهِمْ لِقَوْمِهِمْ، وَقَالُوا: سَمِعْنَاهُ يَقُولُ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَافْعَلُوا، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَا تَفْعَلُوا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْرَاةَ، فَيَجْعَلُونَ الْحَلَالَ حَرَامًا، وَالْحَرَامَ حَلَالًا، اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ.
وَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا قَصَبَةَ الْمَدِينَةِ إِلَّا مُؤْمِنٌ».
قال كعب بن
(١) سورة ص: ٣٨/ ٤١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٧٥.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٩.
437
الْأَشْرَفِ وَوَهَبُ بْنُ يَهُوذَا وَأَشْبَاهُهُمَا: اذْهَبُوا وَتَجَسَّسُوا أَخْبَارَ مَنْ آمَنَ، وَقُولُوا لَهُمْ آمَنَّا، وَاكْفُرُوا إِذَا رَجَعْتُمْ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ نُؤْمِنُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، لَكِنْ لَيْسَ إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، فَلَمَّا خَلَوْا، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَتُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِهِ وَقَدْ كُنَّا قَبْلُ نَسْتَفْتِحُ بِهِ؟ فَهَذَا هُوَ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْوَحْيَ، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ.
وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ كُلُّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي اليهود الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم الَّذِينَ يَصِحُّ فِيهِمُ الطَّمَعُ أَنْ يُؤْمِنُوا، لِأَنَّ الطَّمَعَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ لِلْيَهُودِ. وَالْمَعْنَى: اسْتِبْعَادُ إِيمَانِ الْيَهُودِ، إِذْ قَدْ تقدّم لأسلافهم أفاعيل، وجزى أَبْنَاؤُهُمْ عَلَيْهَا. فَبَعِيدٌ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ قِيلَ:
كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ إِقْدَامِ بَعْضِهِمْ عَلَى التَّحْرِيفِ حُصُولُ الْيَأْسِ مِنْ إِيمَانِ الْبَاقِينَ؟ قِيلَ: قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: كَيْفَ يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ وَهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ دِينَهُمْ وَيَتَعَلَّمُونَهُ مِنْ قَوْمٍ يُحَرِّفُونَ عِنَادًا؟ فَإِنَّمَا يُعَلِّمُونَهُمْ مَا حَرَّفُوهُ وَغَيَّرُوهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَالْمُقَلِّدُونَ يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْحَقِّ. وَقِيلَ: إِيَاسُهُمْ مِنْ إِيمَانِ فِرْقَةٍ بِأَعْيَانِهِمْ.
وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَتَطْمَعُونَ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَفِيهَا مَعْنَى التَّقْرِيرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ طَمِعْتُمْ فِي إِيمَانِ هَؤُلَاءِ وَحَالُهُمْ مَا ذُكِرَ. وَقِيلَ: فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ النَّكِيرِ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي إِيمَانِ مَنْ شَوَاهِدُ امْتِنَاعِهِ قَائِمَةٌ. وَاسْتُبْعِدَ إِيمَانُهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُوسَى، مَعَ مَا شَاهَدُوا مِنَ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدَيْهِ، وَلِأَنَّهُمْ مَا اعْتَرَفُوا بِالْحَقِّ، مَعَ عِلْمِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
وَالْخِطَابُ فِي أَفَتَطْمَعُونَ، لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً. خَاطَبَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ، أَوْ لِلْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ، أَوْ لِلْأَنْصَارِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ، أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَالْفَاءُ بَعْدَ الْهَمْزَةِ أَصْلُهَا التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَتَطْمَعُونَ، فَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ، لَكِنَّهُ اعْتَنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَقُدِّمَتْ عَلَيْهَا. وَالزَّمَخْشَرِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ، وَيُقِرُّ الْفَاءَ عَلَى حَالِهَا، حَتَّى تُعْطَفَ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ قَبْلَهَا، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَمَحْجُوجٌ بِمَوَاضِعَ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ فِعْلٍ فِيهَا، نَحْوَ قَوْلِهِ: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ «١»، أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ «٢»، أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ «٣». أَنْ يُؤْمِنُوا مَعْمُولٌ لِتَطْمَعُونَ عَلَى إِسْقَاطِ حرف
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ١٨.
(٢) سورة الرعد: ١٣/ ١٩.
(٣) سورة الرعد: ١٣/ ٣٣.
438
الْجَرِّ، التَّقْدِيرُ: فِي أَنْ يُؤْمِنُوا، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ جَرٍّ، عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ وَالْكِسَائِيِّ. وَلَكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِيُؤْمِنُوا، عَلَى أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَامُ السَّبَبِ أَيْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَجْلِ دَعْوَتِكُمْ لَهُمْ.
وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ، الفريق: قيل: هم الْأَحْبَارُ الَّذِينَ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْوَحْيَ، إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحرفونه، قصدا أَنْ يُدْخِلُوا فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَيَحْصُلَ التَّضَادُّ فِي أَحْكَامِهِ. وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ حَرَّفَ حُكْمًا، أَوْ غَيَّرَهُ، كَفِعْلِهِمْ فِي آيَةِ الرَّجْمِ وَنَحْوِهَا. وَقِيلَ: هُمُ السَبْعُونَ الَّذِينَ سَمِعُوا مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَامَ اللَّهِ، ثُمَّ بَدَّلُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ أُنْكِرَ أَنْ يَكُونُوا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنْكَرَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: التِّرْمِذِيُّ، صَاحِبُ النَّوَادِرِ، وَقَالَ: إِنَّمَا خُصَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْكَلَامِ وَحْدَهُ. وَكَلَامُ اللَّهِ الَّذِي حَرَّفُوهُ، قِيلَ: هُوَ التَّوْرَاةُ، حَرَّفُوهَا بِتَبْدِيلِ أَلْفَاظٍ مِنْ تِلْقَائِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: بالتأول، مَعَ بَقَاءِ لَفْظِ التَّوْرَاةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي سَمِعُوهُ عَلَى الطُّورِ. وَقِيلَ: مَا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: كَلِمَ اللَّهِ، جَمْعُ كَلِمَةٍ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْكَلِمَةِ: الْكَلَامُ، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدْ يُرَادُ الْمُفْرَدَاتُ، فَيُحَرِّفُونَ الْمُفْرَدَاتِ، فَتَتَغَيَّرُ الْمُرَكَّبَاتُ، وَإِسْنَادُهَا بِتَغَيُّرِ الْمُفْرَدَاتِ.
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ: التَّحْرِيفُ الَّذِي وَقَعَ، قِيلَ: فِي صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ وَصَفُوهُ بِغَيْرِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَا تَقُومَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ. وَقِيلَ: فِي صِفَتِهِ، وَفِي آيَةِ الرَّجْمِ. مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ضَبَطُوهُ وَفَهِمُوهُ، وَلَمْ تَشْتَبِهْ عَلَيْهِمْ صِحَّتُهُ.
وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ مِنْ بَعْدِ عَقْلِهِمْ إِيَّاهُ، وَالضَّمِيرُ فِي عَقَلُوهُ عَائِدٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَا مَوْصُولَةٌ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَيْهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَهُمْ يَعْلَمُونَ: ومتعلق العلم محذوف، أي أَنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوهُ، أَوْ مَا فِي تَحْرِيفِهِ مِنَ الْعِقَابِ، أَوْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوْ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ كَاذِبُونَ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ، وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَاوُ الْحَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ قَوْلَهُ:
أَفَتَطْمَعُونَ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: أَنْ يُؤْمِنُوا. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَفَيَكُونُ مِنْكُمْ طَمَعٌ فِي إِيمَانِ الْيَهُودِ؟ وَأَسْلَافِهِمْ مَنْ عَادَتُهُمْ تَحْرِيفُ كَلَامِ اللَّهِ، وَهُمْ سَالِكُو سُنَنِهِمْ وَمُتَّبِعُوهُمْ فِي تَضْلِيلِهِمْ، فَيَكُونُ الْحَالُ قَيْدًا فِي الطَّمَعِ الْمُسْتَبْعَدِ، أَيْ يُسْتَبْعَدُ الطَّمَعُ فِي
439
إِيمَانِ هَؤُلَاءِ وَصِفَتُهُمْ هَذِهِ. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى اسْتِبْعَادُ الطَّمَعِ فِي أَنْ يَقَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِيمَانٌ، وَقَدْ كَانَ أَسْلَافُهُمْ عَلَى مَا نَصَّ مِنْ تَحْرِيفِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَالُ قَيْدًا فِي إِيمَانِهِمْ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا، أَعْنِي مِنْ: أَفَتَطْمَعُونَ، وَمِنْ يُؤْمِنُوا، مُقَيَّدٌ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَقْتَضِيهِ صِنَاعَةُ الْإِعْرَابِ. وَبَيَانُ التَّقْيِيدِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَتَطْمَعُ أَنْ يَتْبَعَكَ زَيْدٌ؟ وَهُوَ مُتَّبِعٌ طَرِيقَةَ أَبِيهِ، فَاسْتِبْعَادُ الطَّمَعِ مُقَيَّدٌ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَمُتَعَلِّقُ الطَّمَعِ، الَّذِي هُوَ الِاتِّبَاعُ الْمَفْرُوضُ وُقُوعُهُ، مقيد بهذه الحال. فمحصوله أَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْحَالِ لَا يُجَامِعُ الِاتِّبَاعَ، وَلَا يُنَاسِبُ الطَّمَعَ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ يُنَاسِبُ الطَّمَعَ وَيُتَوَقَّعُ الِاتِّبَاعُ، مَعَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْحَالِ. وَأَمَّا الْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ، فَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ، أَيْ يَقَعُ التَّحْرِيفُ مِنْهُمْ بَعْدَ تَعَقُّلِهِ وَتَفَهُّمِهِ، عَالِمِينَ بِمَا فِي تَحْرِيفِهِ مِنْ شَدِيدِ الْعِقَابِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجْتَرِئُونَ عَلَيْهِ. وَالْإِنْكَارُ عَلَى الْعَالِمِ أَشَدُّ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْجَاهِلِ، لِأَنَّ عِنْدَ الْعَالِمِ دَوَاعِيَ الطَّاعَةِ، لِمَا عَلِمَ مِنْ ثَوَابِهَا، وَتَوَانِيَ الْمَعْصِيَةِ لِمَا عَلِمَ مِنْ عِقَابِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِي قَوْلِهِ:
وَهُمْ يَعْلَمُونَ، قَوْلُهُ: عَقَلُوهُ، وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُحَرِّفُونَهُ.
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا: قَرَأَ ابْنُ السميفع: لَاقَوْا، قَالُوا: عَلَى التَّكْثِيرِ.
وَلَا يَظْهَرُ التَّكْثِيرُ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ فَاعَلَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ. فَمَعْنَى لَاقَوْا، وَمَعْنَى لَقُوا وَاحِدٌ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مُفْرَدَاتِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً مُنْبِئَةً عَنْ نَوْعٍ مِنْ قَبَائِحِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَاشِفَةً عَمَّا أَكَنُّوهُ مِنَ النِّفَاقِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ الْآيَةَ، أَيْ كَيْفَ يُطْمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ مَنْ يُحَرِّفُ كَلَامَ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ سَالِكُو طَرِيقَتِهِمْ، وَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ مُنَافِقُونَ، يُظْهِرُونَ مُوَافَقَتَكُمْ إِذَا لَقُوكُمْ، وَأَنَّهُمْ مِنْكُمْ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ كُفَّارٌ. فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، مِنِ اقْتِدَائِهِمْ بِأَسْلَافِهِمُ الضُّلَّالِ، وَمُنَافِقَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَا يُطْمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ. وَالَّذِينَ آمَنُوا هُنَا هُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُؤْمِنُونَ هُنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ آمَنُوا وَأَخْلَصُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي لَقُوا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بَاقِينَ عَلَى دِينِهِمْ، أَوْ لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ أَسْلَمُوا ثُمَّ نَافَقُوا، أَوْ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ يَدْخُلُوا الْمَدِينَةَ وَيَتَجَسَّسُوا أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: ادْخُلُوا الْمَدِينَةَ وَأَظْهِرُوا الْإِيمَانَ، فَإِنَّهُ نَهَى أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ.
440
وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أَيْ: وَإِذَا انْفَرَدَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، أَيِ الَّذِينَ لَمْ يُنَافِقُوا إِلَى مَنْ نَافَقَ. وَإِلَى، قِيلَ: بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، وَالْأَجْوَدُ أن يضمن خَلَا مَعْنَى فِعْلٍ يُعَدَّى بِإِلَى، أَيِ انْضَوَى إِلَى بَعْضٍ، أَوِ اسْتَكَانَ، أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَفْعَالِ أَوْلَى مِنْ تَضْمِينِ الْحُرُوفِ. قالُوا: أَيْ ذَلِكَ الْبَعْضُ الْخَالِي بِبَعْضِهِمْ.
أَتُحَدِّثُونَهُمْ: أَيْ قَالُوا عَاتِبِينَ عَلَيْهِمْ، أَتُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ؟ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ: وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: بِمَا فَتَحَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ جَوَّزُوا فِي مَا أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَالْأَوْلَى الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَالَّذِي حَدَّثُوا بِهِ هُوَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ، أَوْ مَا عَذَّبَ بِهِ أَسْلَافَهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ: «يَا إِخْوَةَ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ».
فَقَالَ الْأَحْبَارُ لِأَتْبَاعِهِمْ: مَا عَرَفَ هَذَا إِلَّا مِنْ عِنْدِكُمْ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا إِذَا سُئِلُوا عَنْ شَيْءٍ قَالُوا: فِي التَّوْرَاةِ كَذَا وَكَذَا، فَكَرِهَ ذَلِكَ أَحْبَارُهُمْ، وَنَهَوْا فِي الْخُلْوَةِ عَنْهُ. فَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ يَكُونُ الْفَتْحُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَالْإِذْكَارِ، أَيْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا أَعْلَمَكُمُ اللَّهُ مِنْ صِفَةِ نَبِيِّهِمْ؟ وَرَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ: يَكُونُ بمعنى الحكم وَالْقَضَاءِ، أَيْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَسْلَافِكُمْ وَقَضَاهُ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ؟ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ يَكُونُ بِمَعْنَى: الْإِنْزَالِ، أَيْ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي التَّوْرَاةِ؟ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْإِنْزَالِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وصفته، وَشَرِيعَتِهِ، وَمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَأَخْذِ الْعُهُودِ عَلَى أَنْبِيَائِكُمْ بِتَصْدِيقِهِ وَنُصْرَتِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ النَّصْرِ عَلَى عَدُوِّكُمْ، وَمِنْ تَأْوِيلِ كِتَابِكُمْ.
لِيُحَاجُّوكُمْ: هَذِهِ لَامُ كَيْ، وَالنَّصْبُ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَهَا، وَهِيَ جَائِزَةُ الْإِضْمَارِ، إِلَّا إِنْ جَاءَ بَعْدَهَا لَا، فَيَجِبُ إِظْهَارُهَا. وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ، فَهِيَ لَامُ جَرٍّ، وَتُسَمَّى لَامَ كَيْ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لِلسَّبَبِ، كَمَا أَنَّ كَيْ لِلسَّبَبِ. وَلَا يَعْنُونَ أَنَّ النَّصْبَ بَعْدَهَا بِإِضْمَارِ كَيْ، وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ التَّصْرِيحُ بَعْدَهَا بِكَيْ، فَتَقُولَ: لِكَيْ أُكْرِمَكَ، لِأَنَّ الَّذِي يُضْمَرُ إِنَّمَا هُوَ: أَنْ لَا: كَيْ، وَقَدْ أَجَازَ ابْنُ كَيْسَانَ وَالسِّيرَافِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ بَعْدَ هَذِهِ اللَّامِ كَيْ، أَوْ أَنْ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ النَّصْبَ بَعْدَ هَذِهِ اللَّامِ إِنَّمَا هُوَ بِهَا نَفْسِهَا، وَأَنَّ مَا يَظْهَرُ بَعْدَهَا مِنْ كَيْ وَأَنْ، إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وَتَحْرِيرُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ إِلَى أَنَّ اللَّامَ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَتَحَ، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ،
441
لِأَنَّ الْمُحَاجَّةَ لَيْسَتْ عِلَّةً لِلْفَتْحِ، إِنَّمَا الْمُحَاجَّةُ نَاشِئَةٌ عَنِ التَّحْدِيثِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الصَّيْرُورَةِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى، فَيُمْكِنَ أَنْ يَصِيرَ الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِي فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ حَدَّثُوا بِهِ، فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ حَاجُّوهُمْ بِهِ، فَصَارَ نَظِيرَ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «١». لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِهَذَا الْأَمْرِ، إِنَّمَا آلَ أَمْرُهُ إِلَى ذَلِكَ. وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ لَامَ الصَّيْرُورَةِ، جَعَلَهَا لَامَ كَيْ، عَلَى تَجَوُّزٍ، لِأَنَّ النَّاشِئَ عَنْ شَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ، كَالْعِلَّةِ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ، وَبَيْنَ: بِمَا فَتَحَ، إِلَّا أَنَّ جَعْلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْأَوَّلِ أَقْرَبُ وَسَاطَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ فَيُحَاجُّوكُمْ. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ أَبْعَدَ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِهِ، فَحَدَّثْتُمُوهُمْ بِهِ، فَحَاجُّوكُمْ. فَالْأَوْلَى جَعْلُهُ لِأَقْرَبِ وَسَاطَةٍ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: بِما فَتَحَ اللَّهُ، وَبِهَذَا يَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، لِأَنَّ المصدرية لا يعود عليها ضَمِيرٌ.
عِنْدَ رَبِّكُمْ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: لِيُحَاجُّوكُمْ، وَالْمَعْنَى: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. فَكَنَّى بِقَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكُمْ عَنِ اجْتِمَاعِهِمْ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ «٢». وَقِيلَ: مَعْنَى عِنْدَ رَبِّكُمْ: فِي رَبِّكُمْ، أَيْ فَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِهِ جَعَلَ عِنْدَ بِمَعْنَى فِي. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ ذِكْرِ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ جَعَلَ الْمُحَاجَّةَ فِي كِتَابِكُمْ مُحَاجَّةً عِنْدَ اللَّهِ، أَلَا تُرَاكَ تَقُولُ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَذَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَا، بِمَعْنًى وَاحِدٍ؟ وَقِيلَ: هُوَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ، وَهُوَ بَعْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْذُ مِيثَاقِهِمْ بِتَصْدِيقِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِمْ هُوَ بِمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا.
انْتَهَى. وَالْأَوْلَى حَمْلُ اللفظ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ، إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَقَدْ أمكن بحمل قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكُمْ عَلَى بَعْضِ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَأَمَّا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الذَّاهِبُ، فيبعد جِدًّا، لِأَنَّ لِيُحَاجُّوكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ، وَعِنْدَ رَبِّكُمْ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَتَكُونُ قَدْ فَصَلْتَ بَيْنَ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَبَيْنَ الْعَامِلِ فِيهِ الَّذِي هُوَ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، بِقَوْلِهِ: لِيُحَاجُّوكُمْ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُمَا، إِذْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:
أَتُحَدِّثُونَهُمْ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ هَذَا التَّرْكِيبُ هَكَذَا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، فَكَيْفَ يَجِيءُ فِي كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ؟.
أَفَلا تَعْقِلُونَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا يَكُونُ حُجَّةً
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٨.
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٣١.
442
لَهُمْ عَلَيْكُمْ؟ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَلَا تُحَدِّثُونَهُمْ بِذَلِكَ؟ وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، مِنِ اتِّبَاعِ أَسْلَافِهِمُ الْمُحَرِّفِينَ كَلَامَ اللَّهِ، وَالتَّقْلِيدِ لَهُمْ فِيمَا حَرَّفُوهُ، وَتَظَاهُرِهِمْ بِالنِّفَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَعَى عَلَيْهِمُ ارْتِكَابَهُ؟.
أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ: هَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، أَيْ إِذَا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ مُحِيطًا بِجَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يُنَافِقُوا وَيَتَظَاهَرُوا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُمْ خِلَافَهُ، فَلَا يُجَامِعُ حَالَةَ نِفَاقِهِمْ بِحَالَةِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ عَلَى الْعُمُومِ، إِذْ هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَقِيلَ الَّذِي أَسَرُّوهُ الْكُفْرُ، وَالَّذِي أَعْلَنُوهُ الْإِيمَانُ. وَقِيلَ: الْعَدَاوَةُ وَالصَّدَاقَةُ. وَقِيلَ: قَوْلُهُمْ لِشَيَاطِينِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ، وَقَوْلُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا. وَقِيلَ: صِفَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَغْيِيرُ صِفَتِهِ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى، حَتَّى لَا تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ. وَقَرَأَ ابْنُ محيصن: أو لا تَعْلَمُونَ بِالتَّاءِ، قَالُوا: فَيَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ بِعَالِمِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لَهُمْ، وَفَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى سَمَاعِ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ خِطَابِهِمْ وَأَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى الْغَيْبَةِ، إِهْمَالًا لَهُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَيَكُونُ حِكْمَتُهُ فِي الْحَالَتَيْنِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مِثْلَ أَفَلا تَعْقِلُونَ، أَوَلا يَعْلَمُونَ، أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ فِيهِمَا لِلْعَطْفِ، وَأَنَّ أَصْلَهُمَا أَنْ يَكُونَا أَوَّلَ الْكَلَامِ، لَكِنَّهُ اعْتَنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَقُدِّمَتْ. وَذَكَرْنَا طَرِيقَةَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي ذَلِكَ، فَأَغْنَى عَنْ إعادته. وأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا سَدَّتْ فِيهِ أَنَّ مَسَدَّ الْمُفْرَدِ، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ يَعْلَمُونَ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ كَعَرَفَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا سَدَّتْ فِيهِ أَنَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ يَعْلَمُونَ مُتَعَدٍّ إِلَى اثْنَيْنِ، كَظَنَنْتُ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ. وَأَمَّا الْأَخْفَشُ، فَإِنَّهَا تَسُدُّ عِنْدَهُ مَسَدَّ مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَيَجْعَلُ الثَّانِيَ مَحْذُوفًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ هَذَا الْخِلَافِ، وَالْعَائِدُ عَلَى مَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يُسِرُّونَهُ وَيُعْلِنُونَهُ. وَظَاهِرُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ تَقْرِيرٌ لَهُمْ أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ، أَيْ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْعَلَانِيَةَ، أَيْ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ، فَلَا يُنَاسِبُهُمُ النِّفَاقُ وَالتَّكْذِيبُ بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَقِيلَ:
ذَلِكَ تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَحَثٌّ عَلَى التَّفَكُّرِ، فَيَعْلَمُونَ بِالتَّفَكُّرِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِصِحَّةِ التَّوْرَاةِ، وَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَزِمَهُمُ الِاعْتِرَافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِهَا، أَقْبَحُ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُغْضِي عَنِ الْمُنَافِقِينَ، مَعَ
443
أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَهُ عَلَى نِفَاقِهِمْ، وَذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنُوا، فَأَغْضَى عَنْهُمْ، حَتَّى قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ، وَأَهْلَكَ مَنْ أَهْلَكَ. وَاخْتُلِفَ، هَلْ هَذَا الْحُكْمُ بَاقٍ، أَوْ نُسِخَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: نُسِخَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَأْلِيفًا لِلْقُلُوبِ. وَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْهُمْ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْلِيفِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ بَاقٍ إِلَى الْآنَ، لِأَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَيَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةِ الْأَنْصَارِ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَشْهَرُ. وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، حُجَّةٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ، بَلْ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ.
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ: ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: فِي الْمَجُوسِ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب.
وَقِيلَ: فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: فِي نَصَارَى الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يُحْسِنُونَ الْكِتَابَةَ.
وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، رُفِعَ كِتَابُهُمْ لِذُنُوبٍ ارْتَكَبُوهَا، فَصَارُوا أُمِّيِّينَ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ لَمْ يُؤْمِنُوا بِكِتَابٍ وَلَا بِرَسُولٍ، فَكَتَبُوا كِتَابَهُمْ وَقَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَسُمُّوا: أُمِّيِّينَ، لِجُحُودِهِمُ الْكِتَابَ، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُحْسِنُ شَيْئًا. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْيَهُودِ، فَالضَّمِيرُ لَهُمْ.
وَمُنَاسَبَةُ ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَمْرَ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ الَّتِي حَرَّفَتْ كِتَابَ اللَّهِ، وَهُمْ قَدْ عَقَلُوهُ وَعَلِمُوا بِسُوءِ مُرْتَكَبِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ أَمْرَ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ، الْمُنَافِقِينَ، وَأَمْرَ الثَّالِثَةِ:
الْمُجَادِلَةِ، أَخَذَ يُبَيِّنُ أَمْرَ الْفِرْقَةِ الرَّابِعَةِ، وَهِيَ: الْعَامَّةُ الَّتِي طَرِيقُهَا التَّقْلِيدُ، وَقَبُولُ مَا يُقَالُ لَهُمْ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ الْمَذْكُورُونَ، فَالْآيَةُ مُنَبِّهَةٌ عَلَى عَامَّتِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يُطْمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أُمِيُّونَ، بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأُمِّيَّ هُوَ الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ فِي كِتَابٍ، أَيْ لَا يُحْسِنُونَ الْكُتُبَ، فَيُطَالِعُوا التَّوْرَاةَ وَيَتَحَقَّقُوا ما فيها. ولا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَالْكِتَابُ هُوَ التَّوْرَاةُ.
إِلَّا أَمانِيَّ: اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ الْأَمَانِيَّ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكِتَابِ، وَلَا مُنْدَرِجَةً تَحْتَ مَدْلُولِهِ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْعَامِلُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا أَمَانِيَّ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا؟ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْإِتْبَاعُ عَلَى الْبَدَلِ بِشَرْطِ التَّأَخُّرِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. فَنَصْبُ أَمَانِيَّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمَانِيِّهِمْ، وَأَمَانِيُّهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنْهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِخَطَايَاهُمْ، وَأَنَّ آبَاءَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ
444
يَشْفَعُونَ لَهُمْ، أَوْ مَا يُمَنِّيهِمْ أَحْبَارُهُمْ مِنْ أَنَّ النَّارَ لَا تَمَسُّهُمْ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، أَوْ لَا يعلمون إلا أكاذيب مختلفة سَمِعُوهَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ فَنَقَلُوهَا عَلَى التَّقْلِيدِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا تِلَاوَةً، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ فِقْهَ الْكِتَابِ، إِنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَسْمَعُونَهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: حَمْلُهُ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ «١». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمَانِيُّ، بِالتَّشْدِيدِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ جمار، عَنْ نَافِعٍ وَهَارُونَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو:
أَمَانِيَ بِالتَّخْفِيفِ، جَمْعُهُ عَلَى أَفَاعِلَ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِحَرْفِ الْمَدِّ الَّذِي فِي الْمُفْرَدِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ وَاحِدُهُ مُشَدَّدٌ، فَلَكَ فِيهِ التَّشْدِيدُ والتخفيف مثل: أثافي، وَأَغَانِيُّ، وَأَمَانِيُّ، وَنَحْوِهِ. قَالَ الْأَخْفَشُ هَذَا، كَمَا يُقَالُ فِي جَمْعِ مِفْتَاحٍ مَفَاتِيحُ وَمَفَاتِحُ، وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْحَذْفُ فِي الْمُعْتَلِّ أَكْثَرُ، كَمَا قَالَ:
وَهَلْ رَجَعَ التَّسْلِيمَ أَوْ يَكْشِفُ الْعَمَى ثَلَاثُ الْأَثَافِي وَالرُّسُومُ الْبَلَاقِعُ
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، إِنْ هُنَا: هِيَ النَّافِيَةُ، بِمَعْنَى مَا، وَهُمْ: مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَإِلَّا يَظُنُّونَ: فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ. وَإِذَا كَانَتْ إِنْ نَافِيَةً، فَدَخَلَتْ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَ مَا الْحِجَازِيَّةِ، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَمَنْ أَجَازَ شَرْطَ نَفْيِ الْخَبَرِ وَتَأْخِيرِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بَيْتٌ نَادِرٌ وَهُوَ:
إِنْ هُوَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى أَضْعَفِ الْمَجَانِينِ
وَقَدْ نَسَبَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ جَوَازَ إِعْمَالِهَا إِعْمَالَ مَا، وَلَيْسَ فِي كِتَابِهِ نَصٌّ عَلَى ذَلِكَ. وَمَعْنَى يَظُنُّونَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَكْذِبُونَ، وَقَالَ آخَرُونَ: يَتَحَدَّثُونَ، وَقَالَ آخَرُونَ:
يَشُكُّونَ، وَهُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى النَّاظِرِ فِيهِمَا، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ التَّرْجِيحُ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْيَقِينِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّرْجِيحِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ تَرْجِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ، إِنْ كَذَبَ الرُّؤَسَاءُ، أَوْ صَدَقُوا، بَايَعُوهُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَتَى بِالْخَبَرِ فِعْلًا مُضَارِعًا، وَلَمْ يَأْتِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ الظَّنِّ وَتَجَدُّدِهِ لَهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَيْسُوا ثَابِتِينَ عَلَى ظَنٍّ وَاحِدٍ، بَلْ يَتَجَدَّدُ لَهُمْ ظُنُونٌ دَالَّةٌ عَلَى اضْطِرَابِ عَقَائِدِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَهْوَائِهِمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَعَارِفَ كَسَبِيَّةٌ، وَعَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، وعلى أن
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١١. [.....]
445
الْمُغْتَرَّ بِإِضْلَالِ الْمُضِلِّ مَذْمُومٌ، وَعَلَى أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالظَّنِّ فِي الْأُصُولِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَعَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بَاطِلٌ، وَعَلَى أَنَّ مَا تَسَاوَى وَجُودُهُ وَعَدَمُهُ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَتَمَسَّكَ بِهَا أَيْضًا مُنْكِرُو الْقِيَاسِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُمَا لَا يُفِيدَانِ الْعِلْمَ.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ الْآيَةَ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ غَيَّرُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَدَّلُوا نَعْتَهُ، فَجَعَلُوهُ آدَمَ سَبْطًا طَوِيلًا، وَكَانَ فِي كِتَابِهِمْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا، فَقَالُوا لِأَصْحَابِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمُ: انْظُرُوا إِلَى صِفَةِ هَذَا النَّبِيِّ الَّذِي يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، لَيْسَ يُشْبِهُ نَعْتَ هَذَا، وَكَانَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ يَخَافُونَ أَنْ يَذْهَبَ مَأْكَلَتُهُمْ بِإِبْقَاءِ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَالِهَا، فَلِذَلِكَ غَيَّرُوهَا. وَقِيلَ: خَافَ مُلُوكُهُمْ عَلَى مُلْكِهِمْ، إِذَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَجَاءُوا إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَجَعَلُوا لَهُمْ عَلَيْهِمْ وَضَائِعَ وَمَآكِلَ، وَكَشَطُوهَا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ كِتَابًا، وَحَلَّلُوا فِيهِ مَا اخْتَارُوا، وَحَرَّمُوا مَا اخْتَارُوا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِنَبِيٍّ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا كِتَابًا، بَلْ كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ كِتَابًا، وَحَلَّلُوا فِيهِ مَا اخْتَارُوا، وَحَرَّمُوا مَا اخْتَارُوا، وَقَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَرْحٍ، كَاتِبِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، كَانَ يُغَيِّرُهُ فَارْتَدَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ وَيْلٍ عند الكلام على المفردات،
وَذُكِرَ عَنْ عُثْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ جَبَلٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ
وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَوَى: أَنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، يَهْوِي فِيهِ الْهَاوِي
، وَذُكِرَ أَنَّ سُفْيَانَ وَعَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ رَوَيَا أَنَّهُ وَادٍ يَجْرِي بِفِنَاءِ جَهَنَّمَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ وَجَمَاعَةٌ: أَنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ.
وَقِيلَ: هُوَ صِهْرِيجٌ فِي جَهَنَّمَ. وَقِيلَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، إِنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، لَوْ سُجِّرَتْ فِيهِ جِبَالُ الدُّنْيَا لَانْمَاعَتْ مِنْ حَرِّهِ، وَلَوْ صَحَّ فِي تَفْسِيرِ الْوَيْلِ شَيْءٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الْعَرَبُ فِي نَظْمِهَا وَنَثْرِهَا بِلَفْظَةِ الْوَيْلِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ الْقُرْآنُ، وَلَمْ تُطْلِقْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ، وَإِنَّمَا مَدْلُولُهُ مَا فَسَّرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِيهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ جَازَ الِابْتِدَاءُ بِهَا، إِذِ الدُّعَاءُ أَحَدُ الْمُسَوِّغَاتِ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَهِيَ تُقَارِبُ ثَلَاثِينَ مُسَوِّغًا، وَذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ (مَنْهَجِ الْمَسَالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا.
وَالْكِتَابَةُ مَعْرُوفَةٌ، وَيُقَالُ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ إِدْرِيسُ، وَقِيلَ: آدَمُ. وَالْكِتَابُ هُنَا قِيلَ:
كَتَبُوا أَشْيَاءَ اخْتَلَقُوهَا، وَأَحْكَامًا بَدَّلُوهَا مِنَ التَّوْرَاةِ حَتَّى اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: كَتَبُوا فِي التَّوْرَاةِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وبنوها فِي سُفَهَائِهِمْ، وَفِي الْعَرَبِ، وَأَخْفَوْا تِلْكَ النُّسَخَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ بِغَيْرِ تَبْدِيلٍ، وَصَارَ سُفَهَاؤُهُمْ، وَمَنْ يَأْتِيهِمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، إِذَا سَأَلُوهُمْ عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُونَ: مَا هُوَ هَذَا الْمَوْصُوفَ عِنْدَنَا فِي
446
التوراة المبدلة المغيرة، ويقرأونها عَلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: هَذِهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. بِأَيْدِيهِمْ: تَأْكِيدٌ يَرْفَعُ تَوَهُّمَ الْمَجَازِ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ يَكْتُبُ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُبَاشِرُ الْكِتَابَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ، وَيَكُونَ آمِرًا بِذَلِكَ،
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كَتَبَ
، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ فِي كِتَابٍ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ «١». وَنَظِيرُ هَذَا التَّأْكِيدِ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ، ويَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ، وَقَوْلُهُ:
نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ بِعَيْنَيْكَ مَنْظَرًا فَهَذِهِ كُلُّهَا أُتِيَ بِهَا لِتَأْكِيدِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلِرَفْعِ الْمَجَازِ الَّذِي كَانَ يَحْتَمِلُهُ.
وَفِي هَذَا التَّأْكِيدِ أَيْضًا تَقْبِيحٌ لِفِعْلِهِمْ، إِذْ لَمْ يَكْتَفُوا بِأَنْ يَأْمُرُوا بِالِاخْتِلَاقِ وَالتَّغْيِيرِ، حَتَّى كَانُوا هُمُ الَّذِينَ تَعَاطَوْا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاجْتَرَحُوهُ بِأَيْدِيهِمْ. وَقَالَ ابن السرّاج: ذِكْرُ الْأَيْدِي كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُمُ اخْتَلَقُوا ذَلِكَ مِنْ تِلْقَائِهِمْ، وَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الشَّيْءِ بِالْيَدِ لَا تَقْتَضِي الِاخْتِلَاقَ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَالٍ مَحْذُوفَةٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا بَعْدَهَا، التَّقْدِيرُ: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ مُحَرَّفًا، أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ بَعْدُ ثُمَّ: يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ لَا إِنْكَارَ عَلَى مَنْ يُبَاشِرُ الْكِتَابَ بِيَدِهِ إِلَّا إِذَا وَضَعَهُ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، فَلِذَلِكَ قَدَّرْنَا هَذِهِ الْحَالَ.
ثُمَّ يَقُولُونَ: أَيْ لِأَتْبَاعِهِمُ الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا مَا قرىء لَهُمْ، وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا، عِلَّةٌ فِي الْقَوْلِ، وَهِيَ لَامُ كَيْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا قَبْلُ. وَهِيَ مَكْسُورَةٌ لِأَنَّهَا حَرْفُ جَرٍّ، فيتعلق بيقولون. وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالِاسْتِقْرَارِ، وَبَنُو الْعَنْبَرِ يَفْتَحُونَ لَامَ كي، قال مَكِّيٌّ فِي إِعْرَابِ الْقُرْآنِ لَهُ. بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، بِهِ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِيَشْتَرُوا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي أَشَارُوا إِلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ الْمُحَرَّفُ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الِاشْتِرَاءِ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «٢». وَالثَّمَنُ هُنَا: هُوَ عَرَضُ الدُّنْيَا، أَوِ الرِّشَا وَالْمَآكِلُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، وَوُصِفَ بِالْقِلَّةِ لِكَوْنِهِ فَانِيًا، أَوْ حَرَامًا، أَوْ حَقِيرًا، أَوْ لَا يُوَازِنُهُ شَيْءٌ، لَا ثَمَنٌ، وَلَا مُثَمَّنٌ. وَقَدْ جَمَعُوا فِي هَذَا الْفِعْلِ أَنَّهُمْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، وَضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٨.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٦.
447
حُبَّ الدُّنْيَا. وَهَذَا الْوَعِيدُ مُرَتَّبٌ عَلَى كِتَابَةِ الْكِتَابِ الْمُحَرَّفِ، وَعَلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَكِلَاهُمَا مُنْكَرٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنْكَرُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِنْ كَانَ بِرِضَا الْمُعْطِي.
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ: كِتَابَتُهُمْ مُقَدِّمَةٌ، نَتِيجَتُهَا كَسْبُ الْمَالِ الْحَرَامِ، فَلِذَلِكَ كُرِّرَ الْوَيْلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَعِيدَ هُوَ عَلَى الْمَجْمُوعِ فَقَطْ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ. وَظَاهِرُ الْكَسْبِ هُوَ مَا أَخَذُوهُ عَلَى تَحْرِيفِهِمُ الْكِتَابَ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا يَكْسِبُونَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ، فَيُحْتَاجُ فِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ إِلَى اخْتِصَاصٍ، لِأَنَّ مَا يَكْسِبُونَ عَامٌّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا أَنَّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، قَالُوا: إِنَّمَا نُعَذَّبُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، فَتَذْهَبَ جَهَنَّمَ وَتَهْلِكَ.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» قَالُوا: نَحْنُ ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا أَنْتُمْ، فَقَالَ: «كَذَبْتُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا لَا نَخْلُفُكُمْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا، سَبْعَةَ آلَافٍ لِكُلِّ أَلْفٍ يَوْمٌ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ.
وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، عَدَدَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ
، وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يُنَادَى: أَخْرِجُوا كُلَّ مَخْتُونٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالضَّمِيرُ فِي: وَقَالُوا، عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ. جَمَعُوا، إِلَى تَبْدِيلِ كِتَابِ اللَّهِ وَتَحْرِيفِهِ، وَأَخْذِهِمْ بِهِ الْمَالَ الْحَرَامَ، وَكَذِبِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، الْإِخْبَارَ بِالْكَذِبِ الْبَحْتِ عَنْ مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ فِي النَّارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَّ هُوَ الْإِصَابَةُ، أَيْ لَنْ تُصِيبَنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا، اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، أَيْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ أَبَدًا إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَدَدِ فِي الْأَيَّامِ بِأَنَّهَا سَبْعَةٌ أَوْ أَرْبَعُونَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مَعْدُودَةً، أَيْ قلائل يحصرها العدّ، لا أنها مُعَيَّنَةُ الْعَدِّ فِي نَفْسِهَا.
ثُمَّ أَخَذَ فِي رَدِّ هَذِهِ الدَّعْوَى وَالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ فَقَالَ: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أَيْ مِثْلَ هَذَا الْإِخْبَارِ الْجَزْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّنِ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا بِذَلِكَ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَتَّخِذُوا بِهِ عَهْدًا، فَهُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ. وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ مَا قَالُوهُ. وَهَمْزَةُ الْوَصْلِ مَنِ اتَّخَذَ، انْحَذَفَتْ لِأَجْلِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَمَنْ سَهَّلَ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا
448
عَلَى اللَّامِ وَحَذْفِهَا قَالَ: قُلَ اتَّخَذْتُمْ، بِفَتْحِ اللَّامِ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ كَانَتْ مَفْتُوحَةً. وَعِنْدَ اللَّهِ:
ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ بِاتَّخَذْتُمْ، وَهِيَ هُنَا تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَيَكُونُ الثَّانِي الظَّرْفَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالْعَهْدُ هُنَا: الْمِيثَاقُ وَالْمَوْعِدُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ:
هَلْ قُلْتُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَآمَنْتُمْ وَأَطَعْتُمْ فَتُدَلُّونَ بِذَلِكَ وَتَعْلَمُونَ خُرُوجَكُمْ مِنَ النَّارِ؟ فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الْمَعْنَى: هَلْ عَاهَدَكُمُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الَّذِي تَدَّعُونَ؟ وَعَلَى الثَّانِي: هَلْ أَسْلَفْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَعْمَالًا تُوجِبُ مَا تَدَّعُونَ؟.
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، كَقَوْلِكَ: أَيَقْصِدُنَا زَيْدٌ؟ فَلَنْ نُجِيبَ مِنْ بِرِّنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، هَلْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ أَيْ يُضَمَّنُ الِاسْتِفْهَامُ وَالتَّمَنِّي وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِلَى سَائِرِ بِاقِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ؟ أَمْ يَكُونُ الشَّرْطُ مَحْذُوفًا بَعْدَهَا؟ وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَنْ يُخْلِفَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَهُ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، كَأَنَّهُ اخْتَارَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّرٌ بَعْدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، اعْتِرَاضٌ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ: أَمْ تَقُولُونَ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً، فَصَارَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، بَيْنَ هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّعَادُلُ، جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَيُّ هَذَيْنِ وَاقِعٌ؟ أاتخاذكم الْعَهْدَ عِنْدَ اللَّهِ؟ أَمْ قَوْلُكُمْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ؟ وَأَخْرَجَ ذَلِكَ مُخْرَجَ الْمُتَرَدَّدِ فِي تَعْيِينِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ وُقُوعَ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَنَظِيرُهُ: وَإِنَّا، أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «١». وَقَدْ عُلِمَ أَيُّهُمَا عَلَى هُدًى وَأَيُّهُمَا هُوَ فِي ضَلَالٍ. وَقِيلَ: أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ فَيَتَقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ قَوْلُهُمْ:
عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ صُدُورَ هَذَا مِنْهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْوَعِيدِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخْلِفُهُ، كَمَا لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى جَوَازِ إِخْلَافِ إيعاده، وقالوا: إخلاف الْوَعْدِ قَبِيحٌ، وَإِخْلَافُ الْوَعِيدِ حَسَنٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ.
بَلى: حَرْفُ جَوَابٍ يُثْبَتُ بِهِ مَا بَعْدَ النَّفْيِ، فَإِذَا قُلْتُ: مَا قَامَ زَيْدٌ، فَقُلْتَ: نَعَمْ، كَانَ تَصْدِيقًا فِي نَفْيِ قِيَامِ زَيْدٍ. وَإِذَا قُلْتَ: بَلَى، كَانَ نَقْضًا لِذَلِكَ النَّفْيِ. فلما قالوا:
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ٢٤.
449
لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ، أُجِيبُوا بقوله: وَمَعْنَاهَا: تَمَسُّكُمُ النَّارُ. وَالْمَعْنَى عَلَى التَّأْبِيدِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِالْخُلُودِ. مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً مَنْ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شرطية، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَالْمُسَوِّغَاتُ لِجَوَازِ دُخُولِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ، إِذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ مَوْصُولًا، مَوْجُودَةٌ هُنَا، وَيُحَسِّنُهُ الْمَجِيءُ فِي قسيمة بِالَّذِينَ، وَهُوَ مَوْصُولٌ. وَالسَّيِّئَةُ: الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: الْمُوجِبَةُ لِلنَّارِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَعَلَيْهِ تَفْسِيرُ مَنْ فَسَّرَ السَّيِّئَةَ بِالْكَبَائِرِ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُوجِبُ النَّارَ، أَيْ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا النَّارَ إِنْ لَمْ تُغْفَرْ لَهُ.
وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْإِفْرَادِ، وَنَافِعٌ: خَطِيئَاتُهُ جَمْعَ سَلَامَةٍ، وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: خَطَايَاهُ جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَخَذَتْهُ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيهِ. وَمَعْنَى الْإِحَاطَةِ بِهِ أَنَّهُ يُوَافَى عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ، هَذَا إِذَا فُسِّرَتِ الْخَطِيئَةُ بِالشِّرْكِ. وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالْكَبِيرَةِ، فَمَعْنَى الْإِحَاطَةِ بِهِ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ الْخُلُودُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْمُرَادُ بِهِ الْإِقَامَةُ، لَا إِلَى انْتِهَاءٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الْمُرَادُ بِهِ الْإِقَامَةُ دَهْرًا طَوِيلًا، إِذْ مَآلُهُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوْثَقَتْهُ ذُنُوبُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحْبَطَتْ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَشِيَتْ قَلْبَهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَصَرَّ عَلَيْهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ. قَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ فَهُوَ الْخَطِيئَةُ الْمُحِيطَةُ. وَمَنْ، كَمَا تَقَدَّمَ، لَهَا لَفْظٌ وَمَعْنًى، فَحَمَلَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ، فَقَالَ: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَحَمَلَ ثَانِيًا عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ، إِلَى آخِرِهِ. وَأَفْرَدَ سَيِّئَةً لِأَنَّهُ كَنَّى بِهِ عَنْ مُفْرَدٍ، وَهُوَ الشِّرْكُ. وَمَنْ أَفْرَدَ الْخَطِيئَةَ أَرَادَ بِهَا الْجِنْسَ وَمُقَابَلَةَ السَّيِّئَةِ، لِأَنَّ السَّيِّئَةَ مُفْرَدَةٌ، وَمَنْ جَمَعَهَا فَلِأَنَّ الْكَبَائِرَ كَثِيرَةٌ، فَرَاعَى الْمَعْنَى وَطَابَقَ بِهِ اللَّفْظَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ السَّيِّئَةَ وَالْخَطِيئَةَ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ الْخَطِيئَةَ وَصْفٌ لِلسَّيِّئَةِ. وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: السَّيِّئَةُ الْكُفْرُ، وَالْخَطِيئَةُ مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنَ الْمَعَاصِي، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو وَائِلٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْخَطِيئَةَ الشِّرْكُ، وَالسَّيِّئَةُ هُنَا مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الْمَعَاصِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ تِلْكَ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ، كَمَا يُحِيطُ العدو، ولم ينقص عَنْهَا بِالتَّوْبَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا مِنْ دَسَائِسِهِ الَّتِي ضَمَّنَهَا كِتَابَهُ، إِذِ اعْتِقَادُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً، وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا، وَمَاتَ، كَانَ خَالِدًا فِي النَّارِ.
وَفِي قَوْلِهِ: أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: الْكُفَّارُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَلَا يَمُوتُونَ وَلَا يَحْيَوْنَ».
وَقَدْ رُتِّبَ كَوْنُهُمْ أَصْحَابَ النَّارِ عَلَى وُجُودِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا، كَسْبُ السَّيِّئَةِ، وَالْآخَرُ: إِحَاطَةُ الْخَطِيئَةِ.
450
وَمَا رُتِّبَ عَلَى وُجُودِ شَرْطَيْنِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِ أَحَدِهِمَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكْسِبْ سَيِّئَةً، وَهِيَ الشِّرْكُ، وَإِنْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَهِيَ الْكَبَائِرُ، لَا يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَلَا مِمَّنْ يَخْلُدُ فِيهَا. وَيَعْنِي بِأَصْحَابِ النَّارِ: الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا حَقِيقَةً، لَا مَنْ دَخَلَهَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ: أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْخُلُودِ فِي الْجِنَانِ. وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ آمَنُوا: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمُؤْمِنُو الْأُمَمِ قَبْلَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، وَقَلَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ فِي الْوَعِيدِ، إِلَّا وَذُكِرَتْ آيَةٌ فِي الْوَعْدِ. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ ظُهُورُ عَدْلِهِ تَعَالَى، وَاعْتِدَالُ رجاء المؤمن وخوفه، وكمال رَحْمَتِهِ بِوَعْدِهِ وَحِكْمَتِهِ بِوَعِيدِهِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ اسْتِبْعَادَ طَمَعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِيمَانِ مَنْ سَبَقَ مِنْ آبَائِهِ التَّشْرِيفُ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، ثُمَّ مُقَابَلَةَ ذَلِكَ بِعَظِيمِ التَّحْرِيفِ، هَذَا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِقَبِيحِ مَا ارْتَكَبُوهُ. وَهَؤُلَاءِ الْمَطْمُوعُ فِي إِيمَانِهِمْ هُمْ أَبْنَاءُ أُولَئِكَ الْمُحَرِّفِينَ، فَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ آبَائِهِمْ فِي الْكُفْرِ، ثُمَّ قَدِ انْطَوَوْا مِنْ حَيْثُ السَّرِيرَةُ عَلَى مُدَاجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، بِحَيْثُ إِذَا لَقُوهُمْ أَفْهَمُوهُمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِخْبَارٍ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ، وَذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَحْتَجَّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ، ثُمَّ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ إِلَّا الِانْقِيَادُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَالْإِخْبَارُ بِمَا فِيهِ، وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَمْرِ، بِاتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِيمَانُ بِمَا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا وَجَحَدُوا بِهَا، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا.
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِعَلَمِهِمْ، ذَكَرَ أَيْضًا مُقَلِّدَتَهُمْ وَعَوَامَّهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا أَلْفَاظًا مَسْمُوعَةً، وَأَنَّ طَرِيقَهُمْ فِي أُصُولِ دِيَانَاتِهِمْ إِنَّمَا هُوَ حُسْنُ ظَنِّهِمْ بِعُلَمَائِهِمُ الْمُحَرِّفِينَ الْمُبَدِّلِينَ. ثُمَّ تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْهَلَاكِ وَالْحَسْرَةِ، مَنْ حَرَّفَ كَلَامَ اللَّهِ وَادَّعَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِتَحْصِيلِ غَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا تَافِهٍ نَزْرٍ لَا يَبْقَى، فَبَاعَ بَاقِيًا بِفَانٍ.
451
ثُمَّ كَرَّرَ الْوَعِيدَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْكَذِبِ الْبَحْتِ، بِأَنَّ لُبْثَهُمْ فِي النَّارِ أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَأَنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ لَيْسَ صَادِرًا عَنْ عَهْدٍ اتَّخَذُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، بَلْ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ دَعْوَاهُمْ تِلْكَ بِقَوْلِهِ: بَلى، ثُمَّ قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى قِسْمَيْنِ كَافِرٍ، وَهُوَ صَاحِبُ النَّارِ، وَمُؤْمِنٍ وَهُوَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُمُ انْدَرَجُوا تَحْتَ قِسْمِ الْكَافِرِ، لِأَنَّهُمْ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ، وَأَحَاطَتْ بِهِمُ الْخَطِيئَاتُ، وَنَاهِيكَ مَا اقْتَصَّ اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، وَمَا يَقُصُّ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الكفر والمخالفات.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
الْوَالِدَانِ: الْأَبُ وَالْأُمُّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَالِدٌ، وَظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. قَالَ:
وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ وَيُقَالُ لِلْأُمِّ: وَالِدٌ وَوَالِدَةٌ، وَقِيلَ: الْوَالِدُ لِلْأَبِ وَحْدَهُ، وَثُنِّيَا تَغْلِيبًا لِلْمُذَكَّرِ.
الْإِحْسَانُ: النَّفْعُ بِكُلِّ حَسَنٍ. ذُو: بِمَعْنَى صَاحِبٍ، وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي تُرْفَعُ، وَفِيهَا الْوَاوُ، وَتُنْصَبُ وَفِيهَا الْأَلِفُ، وَتُجَرُّ وَفِيهَا الْيَاءُ. وَأَصْلُهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، ذَوْيٌ، وَوَزْنُهَا عِنْدَهُ:
فَعْلٌ، وَعِنْدَ الْخَلِيلِ: ذُوَّةٌ، مِنْ بَابِ خُوَّةٍ، وَقُوَّةٍ، وَوَزْنُهَا عِنْدَهُ فُعْلٌ، وَهُوَ لَازِمُ الْإِضَافَةِ،
452
وَتَنْقَاسُ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِ جِنْسٍ، وَفِي إِضَافَتِهِ إِلَى مُضْمَرٍ خِلَافٌ، وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الْعَلَمِ وُجُوبًا، إِذَا اقْتَرَنَا وَضْعًا، كَقَوْلِهِمْ: ذُو جَدَنٍ، وَذُو يَزَنَ، وَذُو رُعَيْنٍ، وَذُو الْكُلَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنَا وَضْعًا، فَقَدْ يَجُوزُ، كَقَوْلِهِمْ: فِي عَمْرٍو، وَقَطَرِيٍّ: ذُو عَمْرٍو، وَذُو قَطَرِيٍّ، وَيَعْنُونَ بِهِ صَاحِبَ هَذَا الِاسْمِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْعَلَمِ فِي وُجْهَتِهِ مَسْمُوعٌ، وَكَذَلِكَ: أَنَا ذُو بَكَّةَ، وَاللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى ذَوِيهِ. وَمِمَّا أُضِيفَ إِلَى الْعَلَمِ، وَأُرِيدَ بِهِ مَعْنَى: ذِي مَالٍ، وَمِمَّا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْعَلَمِ، وَأُضِيفَ أَيْضًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنَّا لنرجو عاجلا منك مثل ما رجونا قدما من ذويك الأفاضل
وَقَدْ أَتَتْ ذُو فِي لغة طيّ مَوْصُولَةً، وَلَهَا أَحْكَامٌ فِي النَّحْوِ. الْقُرْبَى: مَصْدَرٌ كَالرُّجْعَى، وَالْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَهِيَ قَرَابَةُ الرَّحِمِ وَالصُّلْبِ، قَالَ طَرَفَةُ:
وَقَرَّبْتُ بِالْقُرْبَى وَجَدِّكَ أَنَّهُ مَتَّى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ
وَقَالَ أَيْضًا:
وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً عَلَى الْحُرِّ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ
الْيَتَامَى: فَعَالَى، وَهُوَ جَمْعٌ لَا يَنْصَرِفُ، لِأَنَّ الْأَلِفَ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَمُفْرَدُهُ: يَتِيمٌ، كَنَدِيمٍ، وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَكَذَا جَمْعُهُ عَلَى أَيْتَامٍ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْيُتْمُ فِي بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ الْيُتْمَ فِي بَنِي آدَمَ يُقَالُ: مَنْ فَقَدَ الْأُمَّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَأَصْلُهُ الِانْفِرَادُ. فَمَعْنَى صَبِيٍّ يَتِيمٍ: أَيْ مُنْفَرِدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَسُمِّيَتِ الدُّرَّةُ الَّتِي لَا مَثِيلَ لَهَا: يَتِيمَةً لِانْفِرَادِهَا، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْيُتْمِ:
الْغَفْلَةُ، وَسُمِّيَ الصَّبِيُّ يَتِيمًا، لِأَنَّهُ يُتَغَافَلُ عَنْ بِرِّهِ. وَقِيلَ: أَصْلُ الْيُتْمِ: الْإِبْطَاءُ، وَمِنْهُ أُخِذَ الْيَتِيمُ، لِأَنَّ الْبِرَّ يبطىء عَنْهُ، قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو. الْمَسَاكِينُ: جَمْعُ مِسْكِينٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ، فَالْمِيمُ زَائِدَةٌ، كَمِحْضِيرٍ مِنَ الْحَضَرِ. وَقَدْ رُوِيَ: تَمَسْكَنَ فُلَانٌ، وَالْأَصَحُّ فِي اللُّغَةِ تَسَكَّنَ، أَيْ صَارَ مِسْكِينًا، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلْفَقِيرِ، وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ. الْحَسَنُ وَالْحُسْنُ، قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ: كَالْبُخْلِ وَالْبَخَلِ. وَالْحُسْنُ: مَصْدَرُ حَسُنَ، كَالْقُبْحِ مَصْدَرِ قَبُحَ، مُقَابِلُ حَسُنَ. الْقَلِيلُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَلَّ، كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مُقَابِلُهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَثُرَ. يُقَالُ: قَلَّ يَقِلُّ قِلَّةً وَقَلًّا وَقُلًّا، الْإِعْرَاضُ: التَّوَلِّي، وَقِيلَ: التَّوَلِّي بِالْجِسْمِ، وَالْإِعْرَاضُ بِالْقَلْبِ. وَالْعَرْضُ: النَّاحِيَةُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُكَ: أَعْرَضَ زَيْدٌ عَنْ
453
عَمْرٍو، أَيْ صَارَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلصَّيْرُورَةِ: الدَّمُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَحْذُوفُ اللَّامِ، وَهِيَ يَاءٌ، لِقَوْلِهِ:
جَرَى الدَّمَيَانِ بالخبر الْيَقِينِ أَوْ: وَاوٌ، لِقَوْلِهِمْ: دَمَوَانِ، وَوَزْنُهُ فَعْلٌ. وَقِيلَ: فِعْلٌ، وَقَدْ سُمِعَ مَقْصُورًا، قَالَ:
غَفَلَتْ ثُمَّ أَتَتْ تَطْلُبُهُ فَإِذَا هِيَ بِعِظَامٍ وَدِمَا
وَقَالَ:
وَلَكِنْ عَلَى أَعْقَابِنَا يَقْطُرُ الدِّمَا فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ كَذَلِكَ، وَقَدْ سُمِعَ مُشَدَّدَ الْمِيمِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَهَانَ دَمَّكَ فَرْغًا بَعْدَ عِزَّتِهِ يَا عَمْرُو نَعْيُكَ إِصْرَارًا عَلَى الْحَسَدِ
الدِّيَارُ: جَمْعُ دَارٍ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي فِعْلِ الِاسْمِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مُضَاعَفًا، وَلَا مُعْتَلَّ لَامٍ نَحْوَ: طَلَلٍ، وَفَتًى. وَالْيَاءُ فِي هَذَا الْجَمْعِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، إِذْ أَصْلُهُ دُوَارٌ، وَهُوَ قِيَاسٌ، أَعْنِي هَذَا الْإِبْدَالَ إِذَا كَانَ جمعا لواحد مُعْتَلَّ الْعَيْنِ، كَثَوْبٍ وَحَوْضٍ وَدَارٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِعَالًا صَحِيحَ اللَّامِ. فَإِنْ كَانَ مُعْتَلَّهُ، لَمْ يُبْدَلْ نحو: رواو، قالوا: فِي جَمْعِ طَوِيلٍ: طُوَالٌ وَطِيَالٌ.
أَقَرَّ بِالشَّيْءِ: اعْتَرَفَ بِهِ. تَظَاهَرُونَ: تَتَعَاوَنُونَ، كَأَنَّ الْمُتَظَاهِرِينَ يُسْنِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ظَهْرَهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَالظَّهْرُ: الْمُعِينُ. الْإِثْمُ: الذَّنْبُ، جَمْعُهُ آثَامٌ. الْأَسْرَى: جَمْعُ أَسِيرٍ، وَفَعْلَى مَقِيسٌ فِي فَعِيلٍ، بِمَعْنَى: مَمَاتٍ، أَوْ مُوجَعٍ، كَقَتِيلٍ وَجَرِيحٍ. وَأَمَّا الْأُسَارَى فَقِيلَ: جَمْعُ أَسِيرٍ، وَسُمِعَ الْأَسَارَى بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَلَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: أَسَارَى جَمْعُ أَسْرَى، فَيَكُونُ جَمْعَ الْجَمْعِ، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الْأَسْرَى: مَنْ فِي الْيَدِ، وَالْأُسَارَى:
مَنْ فِي الْوِثَاقِ، وَالْأَسِيرُ: هُوَ الْمَأْخُوذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. الْفِدَاءُ: يُكْسَرُ أَوَّلُهُ فَيُمَدُّ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمُ وَمَا أَثَمَرُوا مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
وَيُقْصَرُ، قَالَ:
فِدًا لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي وَإِذَا فُتِحَ أَوَّلُهُ قُصِرَ، يُقَالُ: قُمْ فَدًا لَكَ أَبِي، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَمَعْنَى فَدَى فُلَانٌ فُلَانًا: أَيْ أَعْطَى عِوَضَهُ. الْمُحَرَّمُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ حَرَّمَ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْمَنْعِ.
454
تَقُولُ: حَرَمَهُ يَحْرِمُهُ، إِذَا مَنَعَهُ. الْجَزَاءُ: الْمُقَابَلَةُ، وَيُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. الْخِزْيُ:
الْهَوَانُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: خَزِيَ، بِالْكَسْرِ، يَخْزَى خِزْيًا. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: مَعْنَى خَزِيَ:
وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ، وَأَخْزَاهُ اللَّهُ أَيْضًا، وَخَزَى الرَّجُلُ فِي نَفْسِهِ يَخْزَى خَزَايَةً، إِذَا اسْتَحْيَا، وَهُوَ خَزْيَانُ، وقوم خزايا، وامرأة خَزْيَا. الدُّنْيَا: تَأْنِيثُ الْأَدْنَى، وَيَرْجِعُ إِلَى الدُّنُوِّ، بِمَعْنَى الْقُرْبِ. وَالْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَلَا تُحْذَفُ مِنْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِلَّا فِي شِعْرٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
فِي سَعْيِ دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مُدَّتْ وَالدُّنْيَا تَارَةً تُسْتَعْمَلُ صِفَةً، وَتَارَةً تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، فَإِذَا كَانَتْ صِفَةً، فَالْيَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ، إِذْ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدُّنُوِّ، وَذَلِكَ نَحْوُ: الْعُلْيَا. وَلِذَلِكَ جَرَتْ صِفَةً عَلَى الْحَيَاةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ «١»، فَأَمَّا الْقُصْوَى وَالْحَلْوَى فَشَاذٌّ. وَإِذَا اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، فَكَذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ: فِي (الْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ) لَهُ الدُّنْيَا مُؤَنَّثَةٌ مَقْصُورَةٌ، تُكْتَبُ بِالْأَلِفِ هَذِهِ لُغَةُ نَجْدٍ وَتَمِيمٍ خَاصَّةً، إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ يُلْحِقُونَهَا وَنَظَائِرَهَا بِالْمَصَادِرِ ذَوَاتِ الْوَاوِ، فَيَقُولُونَ: دُنْوَى، مِثْلَ:
شَرْوَى، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِكُلِّ فُعْلَى مَوْضِعُ لَامِهَا وَاوٌ، يَفْتَحُونَ أَوَّلَهَا وَيَقْلِبُونَ الْوَاوَ يَاءً، لِأَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَ الضَّمَّةَ وَالْوَاوَ.
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ الْآيَةَ، هَذِهِ الْآيَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلْآيَاتِ الْوَارِدَةِ قَبْلَهَا فِي ذِكْرِ تَوْبِيخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَقْرِيعِهِمْ، وَتَبْيِينِ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ مِيثَاقِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَإِفْرَادِهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَالْمُوَاظِبَةِ عَلَى رُكْنَيِ الْإِسْلَامِ الْبَدَنِيِّ وَالْمَالِيِّ: ثُمَّ ذِكْرِ تَوَلِّيهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَنَقْضِهِمْ لِذَلِكَ الْمِيثَاقِ، عَلَى عَادَتِهِمُ السَّابِقَةِ وَطَرِيقَتِهِمُ الْمَأْلُوفَةِ لَهُمْ. وَإِذْ: مَعْطُوفٌ عَلَى الظُّرُوفِ السَّابِقَةِ قَبْلَ هَذَا. وَالْمِيثَاقُ: هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَهُمْ فِي صُلْبِ آبَائِهِمْ كَالذَّرِّ، قَالَهُ: مَكِّيٌّ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ الخطاب قد خصص ببني إِسْرَائِيلَ، وَمِيثَاقُ الْآيَةِ فِيهِمْ، أَوْ مِيثَاقٌ أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عُقَلَاءُ فِي حَيَاتِهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: هُوَ مِيثَاقٌ أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، بِأَنْ يَعْبُدُوهُ، إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ
(١) سورة يونس: ١٠/ ٢٤.
455
ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: لَا يَعْبُدُونَ، بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَعْبُدُوا، عَلَى النَّهْيِ. فَأَمَّا لَا يَعْبُدُونَ فَذَكَرُوا فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهًا.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ جُمْلَةٌ مَنْفِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ غَيْرَ عَابِدِينَ إِلَّا اللَّهَ أَيْ مُوَحِّدِينَ اللَّهَ وَمُفْرِدِيهِ بِالْعِبَادَةِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ. لَا يُقَالُ إِنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا فِي الْمَعْنَى لِمِيثَاقٍ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَوْ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَصْدَرِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ بَعْدَهُ فَاعِلًا فِي الْمَعْنَى، أَوْ مَفْعُولًا لِأَنَّ الَّذِي يُقَدِّرُ فِيهِ الْعَمَلَ هُوَ مَا انْحَلَّ إِلَى حَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلُ، وَهُنَا لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى أَنْ يَنْحَلَّ، لِذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَى مَوْضِعِهِ بِرَفْعٍ وَلَا نَصْبٍ، لِأَنَّكَ لَوْ قَدَّرْتَ أَخَذْنَا أَنْ نُوَاثِقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ أَنْ يُوَاثِقَنَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، لَمْ يَصِحَّ، بَلْ لَوْ فَرَضْنَا كَوْنَهُ مَصْدَرًا حَقِيقَةً: لَمْ يَجُزْ فِيهِ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: أَخَذْتُ عِلْمَ زَيْدٍ، لَمْ يَنْحَلَّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ: لَا يُقَالُ: أَخَذْتُ أَنْ يَعْلَمَ زَيْدٌ. فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرِ الْمَصْدَرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، وَلَا كَانَ مِنْ ضَرْبًا زَيْدًا، لَمْ يَعْمَلْ عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا الْأَخِيرِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ ابْنُ الطَّرَاوَةِ فِي تَرْجَمَةِ سِيبَوَيْهِ هَذَا. بَابُ عِلْمِ مَا الْكَلِمُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ: أَنْ يَتَقَدَّرَ الْمَصْدَرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، وَرُدَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أَجَازَهُ. وَمِمَّنْ أَجَازَهُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا: الْمُبَرِّدُ وَقُطْرُبٌ، قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُقَارَنَةً، وَحَالًا مُقَدَّرَةً. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ جَوَابًا لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، أَيِ اسْتَحْلَفْنَاهُمْ وَاللَّهِ لَا يَعْبُدُونَ، وَنُسِبَ هَذَا الْوَجْهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ، وَأَجَازَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ أَنْ مَحْذُوفَةً، وَتَكُونَ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا مَحْمُولًا عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ جَرٍّ، التَّقْدِيرُ: بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، إِذْ حَذْفُهُ مَعَ أَنَّ، وَأَنْ جَائِزٌ مُطَّرِدٌ، إِذْ لَمْ يُلْبِسْ، ثُمَّ حَذَفَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَنْ، فَارْتَفَعَ الْفِعْلُ، فَصَارَ لَا تَعْبُدُونَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَنَظِيرُهُ مِنْ نَثْرِ الْعَرَبِ: مُرْهُ يحفرها، وَمِنْ نَظْمِهَا قَوْلُهُ:
أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحَضُرَ الْوَغَى أَصْلُهُ: مُرْهُ بِأَنْ يَحْفِرَهَا. وَعَنْ: أَنْ أَحْضُرَ الْوَغَى، فَجَرَى فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ إِضْمَارِ أَنْ فِي مِثْلِ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ مَنَعَهُ، وعلى ذلك متأخر وأصحابنا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: يَجِبُ رَفْعُ الْفِعْلِ إِذْ ذَاكَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِنَفْيِ الْعَمَلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَالْكُوفِيِّينَ. وَالصَّحِيحُ: قَصْرُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ، وَمَا
456
كَانَ هَكَذَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُخَرَّجَ الْآيَةُ عَلَيْهِ، لأن فيه حذف حرف مَصْدَرِيٍّ، وَإِبْقَاءَ صِلَتِهِ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الْمُنْقَاسِ ذَلِكَ فِيهَا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا، فَحُذِفَ أَنْ وَارْتَفَعَ الْفِعْلُ، وَيَكُونَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ مَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ اقْتِيَاسِ ذَلِكَ، أَعْنِي حَذْفَ أَنْ وَرَفْعَ الْفِعْلِ وَنَصْبَهُ. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ مَحْكِيَّةً بِحَالٍ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ قَائِلِينَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَيَكُونَ إِذْ ذَاكَ لفظه لفظ الخبر، ومعناه النَّهْيَ، أَيْ قَائِلِينَ لَهُمْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْعَطْفُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ الْقَوْلَ، أَيْ وَقُلْنَا لَهُمْ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَهُوَ نَفْيٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ أَيْضًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا يَقُولُ تَذْهَبُ إِلَى فُلَانٍ، تَقُولُ لَهُ كَذَا، تُرِيدُ الْأَمْرَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ صَرِيحِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لِأَنَّهُ كَانَ سُورِعَ إِلَى الِامْتِثَالِ وَالِانْتِهَاءِ، فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنْ لَا تَعْبُدُونَ، وَتَكُونَ أَنْ مُفَسِّرَةً لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ مَعْنَى الْقَوْلِ، فَحَذَفَ أَنِ الْمُفَسِّرَةَ وَأَبْقَى الْمُفَسَّرَ. وَفِي جَوَازِ حَذْفِ أَنِ الْمُفَسِّرَةِ نَظَرٌ. الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةً، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كان في ذلك إيهام لِلْمِيثَاقِ مَا هُوَ، فَأَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مُفَسِّرَةً لِلْمِيثَاقِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، فَلِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَفْظُ غَيْبَةٍ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، فَهُوَ الْتِفَاتٌ، وَحِكْمَتُهُ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ، لِيَكُونَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ، وَأَقْرَبَ لِلِامْتِثَالِ، إِذْ فِيهِ الْإِقْبَالُ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُخَاطَبِ بِالْخِطَابِ. وَمَعَ جَعْلِ الْجُمْلَةَ مُفَسَّرَةً، لَا تَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ نَفْيٌ أُرِيدَ بِهِ نَهْيٌ، إِذْ تَبْعُدُ حَقِيقَةُ الْخَبَرِ فِيهِ.
إلا الله: استثناء مفرّع، لِأَنَّ لَا تَعْبُدُونَ لَمْ يَأْخُذْ مَفْعُولَهُ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ. إِذْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الِاسْمِ الْغَائِبِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَرَى عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ لَكَانَ نَظْمُ الْكَلَامِ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا إِيَّانَا؟ لَكِنْ فِي الْعُدُولِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ مِنَ الْفَخَامَةِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ، وَالتَّفَرُّدِ بِالتَّسْمِيَةِ بِهِ، مَا لَيْسَ فِي الْمُضْمَرِ، وَلِأَنَّ مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ، إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ ظَاهِرَةٌ، فَنَاسَبَ مُجَاوَرَةُ الظَّاهِرِ الظَّاهِرَ.
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الْمَعْنَى: الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَبِرِّهِمَا وَإِكْرَامِهِمَا. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ آيٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ذَلِكَ، حَتَّى عُدَّ الْعُقُوقُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَنَاهِيكَ احْتِفَالًا
457
بِهِمَا كَوْنُ اللَّهِ قَرَنَ ذَلِكَ بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى، وَمِنْ غَرِيبِ الْحِكَايَاتِ: أَنَّ عُمَرَ رَأَى امْرَأَةً تَطُوفُ بِأَبِيهَا عَلَى ظَهْرِهَا، وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى ظَهْرِهَا مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ لَهَا: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، لَقَدْ وَفَيْتِ بِحَقِّهِ، فَقَالَتْ: مَا وَفَّيْتُهُ ولا أنصفته، لأن كَانَ يَحْمِلُنِي وَيَوَدُّ حَيَاتِي، وَأَنَا أَحْمِلُهُ وَأَوَدُّ مَوْتَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَبِالْوالِدَيْنِ، وَفِي انْتِصَابِ إِحْساناً عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى لَا تَعْبُدُونَ، أَعْنِي عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنَ الْحَرْفِ الْمَصْدَرِيِّ وَالْفِعْلِ، إِذِ التَّقْدِيرُ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَبِالْوَالِدَيْنِ، أَيْ وَبِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ بِإِحْسَانٍ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَيَكُونُ انْتِصَابُ إِحْسَانًا عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، فَالْعَامِلُ فِيهِ الْمِيثَاقُ، لِأَنَّهُ بِهِ يَتَعَلَّقُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَرَوَائِحُ الْأَفْعَالِ تَعْمَلُ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِإِحْسَانًا، وَيَكُونَ إِحْسَانًا مَصْدَرًا مَوْضُوعًا مَوْضِعَ فِعْلِ الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ. قَالُوا: وَالْبَاءُ تُرَادِفُ إِلَى فِي هَذَا الْفِعْلِ، تَقُولُ: أَحْسَنْتُ بِهِ وَإِلَيْهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ تَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَأَحْسِنُوا بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، الْمَعْنَى: وَأَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ بِبِرِّهِمَا. وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَلْفُوظًا بِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُعْتَرَضُ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَعْمُولٌ لَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ، إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ فِي مَنْعِهِ تَقْدِيمَ مَفْعُولٍ، نَحْوَ: ضَرْبًا زَيْدًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَنْعُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ مَوْصُولًا بِأَنْ يَنْحَلَّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مَوْصُولٍ، فَلَا يَمْتَنِعُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ. فَجَائِزٌ أَنْ تَقُولَ: ضَرْبًا زَيْدًا، وَزَيْدًا ضَرْبًا، سَوَاءٌ كَانَ الْعَمَلُ لِلْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ الْعَامِلِ فِي الْمَصْدَرِ، أَوْ لِلْمَصْدَرِ النَّائِبِ عَنِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ هُوَ أَمْرٌ، وَالْمَصْدَرَ النَّائِبَ عَنْهُ أَيْضًا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ. فَعَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الْعَامِلِ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا، وَيُقَدَّرُ: وَأَحْسِنُوا، أَوْ وَيُحْسِنُونَ بِالْوَالِدَيْنِ، وَيَنْتَصِبُ إِحْسَانًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، فَتَقْدِيرُهُ:
وَأَحْسِنُوا، مُرَاعَاةً لِلْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى لَا تَعْبُدُونَ: لَا تَعْبُدُوا، أَوْ تَقْدِيرُهُ: وَيُحْسِنُونَ، مُرَاعَاةً لِلَفْظِ لَا تَعْبُدُونَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْأَمْرَ. وَبِهَذَيْنِ قَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْمَحْذُوفَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا، وَتَقْدِيرُهُ: وَاسْتَوْصُوا بِالْوَالِدَيْنِ، وَيَنْتَصِبَ إِحْسَانًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، قَالَهُ الَمَهْدَوِيُّ: الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا، وَتَقْدِيرُهُ: وَوَصَّيْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ، وَيَنْتَصِبَ إِحْسَانًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ وَوَصَّيْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا مِنَّا، أَيْ لِأَجْلِ إِحْسَانِنَا، أَيْ أَنَّ التَّوْصِيَةَ بِهِمَا سَبَبُهَا إِحْسَانُنَا، إِمَّا لِأَنَّ مِنْ شَأْنِنَا الْإِحْسَانَ، أَوْ
458
إِحْسَانًا مِنَّا لِلْمُوصَيْنَ، إِذْ يَتَرَتَّبُ لَهُمْ عَلَى امْتِثَالِ ذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ، أَوْ إِحْسَانًا مِنَّا لِلْمُوصَى بِهِمْ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْفِعْلُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً «١». وَالْمُخْتَارُ، الْوَجْهُ الثَّانِي: لِعَدَمِ الْإِضْمَارِ فِيهِ، وَلِاطِّرَادِ مَجِيءِ الْمَصْدَرِ فِي مَعْنَى فَعَلِ الْأَمْرِ.
وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَبِالْوَالِدَيْنِ. وَكَانَ تَقْدِيمُ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّهُمَا آكَدُ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْعَامِلِ اعْتِنَاءً بِمُتَعَلِّقِ الْحَرْفِ، وَهُمَا الْوَالِدَانِ، وَاهْتِمَامًا بِأَمْرِهِمَا. وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ اعْتِنَاءً بِالْأَوْكَدِ. فَبَدَأَ بِالْوَالِدَيْنِ، إِذْ لَا يَخْفَى تَقَدُّمُهُمَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ بِذِي الْقُرْبَى، لِأَنَّ صِلَةَ الْأَرْحَامِ مُؤَكَّدَةٌ أَيْضًا، وَلِمُشَارَكَتِهِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْقَرَابَةِ، ثُمَّ بِالْيَتَامَى، لِأَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ تَامَّةٌ عَلَى الِاكْتِسَابِ،
وَقَدْ جَاءَ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ، ثُمَّ بِالْمَسَاكِينِ لِمَا فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ مِنَ الثَّوَابِ. وَتَأَخَّرَتْ دَرَجَةُ الْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِخْدَامِ، وَيُصْلِحَ مَعِيشَتَهُ، بِخِلَافِ الْيَتَامَى، فَإِنَّهُمْ لِصِغَرِهِمْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِمْ، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يَنْفَعُهُمْ. وَأَوَّلُ هَذِهِ التَّكَالِيفِ هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، ثُمَّ الْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ إِلَى ذِي الْقُرْبَى، ثُمَّ إِلَى الْيَتَامَى، ثُمَّ إِلَى الْمَسَاكِينِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ تَكَالِيفَ تَجْمَعُ عِبَادَةَ اللَّهِ، وَالْحَضَّ عَلَى الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْمُوَاسَاةَ لِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَفْرَدَ ذَا الْقُرْبَى، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ، وَلِأَنَّ إِضَافَتَهُ إِلَى الْمَصْدَرِ يَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ ذِي قَرَابَةٍ.
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً: لَمَّا ذَكَرَ بَعْدَ عِبَادَةِ اللَّهِ الْإِحْسَانَ لِمَنْ ذَكَرَ، وَكَانَ أَكْثَرُ الْمَطْلُوبِ فِيهِ الْفِعْلُ مِنَ الصِّلَةِ وَالْإِطْعَامِ وَالِافْتِقَادِ، أَعْقَبَ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ، لِيَجْمَعَ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً. وَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ سَهْلَ الْمَرَامِ، إذ هو بذل لَفْظٍ، لَا مَالٍ، كَانَ مُتَعَلِّقُهُ بِالنَّاسِ عُمُومًا إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ بِالْقَوْلِ الطَّيِّبِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: حَسَنًا بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ. وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: حُسُنًا بِضَمِّهِمَا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: حُسْنَى، عَلَى وَزْنِ فَعَّلَ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ:
إِحْسَانًا. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ حُسْنًا، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ قَوْلًا حَسَنًا، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا حُسْنٍ، وَإِمَّا عَلَى الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ لِإِفْرَاطِ حسنه، وقيل: يكون
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٨.
459
أَيْضًا صِفَةً، لَا أَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، بَلْ يَكُونُ كَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ، فَيَكُونُ الْحُسْنُ وَالْحَسَنُ لُغَتَيْنِ، كَالْحُزْنِ وَالْحَزَنِ، وَالْعُرْبِ وَالْعَرَبِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلْيَحْسُنْ قَوْلُكُمْ حسنا. وأما من قرأ: حَسَنًا بِفَتْحَتَيْنِ، فَهُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَقُولُوا لِلنَّاسِ قَوْلًا حَسَنًا. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِضَمَّتَيْنِ، فَضَمَّةُ السِّينِ إِتِّبَاعٌ لِضَمَّةِ الْحَاءِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: حُسْنَى، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَدَّهُ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ أَفْعَلَ وَفُعْلَى لَا يَجِيءُ إِلَّا مَعْرِفَةً، إِلَّا أَنْ يُزَالَ عَنْهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ وَيَبْقَى مَصْدَرًا، كَالْعُقْبَى، فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِهَا.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي كَلَامِهِ ارْتِبَاكٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ أَفْعَلَ وَفُعْلَى لَا يَجِيءُ إِلَّا مَعْرِفَةً، وَلَيْسَ عَلَى مَا ذَكَرَ. أَمَّا أَفْعَلُ فَلَهُ اسْتِعْمَالَاتٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِمِنْ ظَاهِرَةً، أَوْ مُقَدَّرَةً، أَوْ مُضَافًا إِلَى نَكِرَةٍ، فَهَذَا لَا يَتَعَرَّفُ بِحَالٍ، بَلْ يَبْقَى نَكِرَةً. وَالِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ مَعْرِفَةً بِهِمَا. الثَّالِثُ: أَنْ يُضَافَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَفِي التَّعْرِيفِ بِتِلْكَ الْإِضَافَةِ خِلَافٌ، وَذَلِكَ نَحْوُ: أَفْضَلُ الْقَوْمِ. وَأَمَّا فُعْلَى فَلَهَا اسْتِعْمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَيَكُونُ مَعْرِفَةً بِهِمَا. وَالثَّانِي: بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَعْرِفَةٍ نَحْوُ: فُضْلَى النِّسَاءِ. وَفِي التَّعْرِيفِ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي أَفْعَلَ، فَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: لأن أفعل وفعلى لا يَجِيءُ إِلَّا مَعْرِفَةً، لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يُزَالَ عَنْهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَيَبْقَى مَصْدَرًا، فَيَكُونَ فُعْلَى الَّذِي هُوَ مُؤَنَّثُ أَفْعَلُ، إِذَا أَزَلْتَ مِنْهُ مَعْنَى التَّفْضِيلِ يَبْقَى مَصْدَرًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَنْقَاسُ مَجِيءُ فُعْلَى مَصْدَرًا إِنَّمَا جاءت منه أليفاظ يَسِيرَةٌ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي فُعْلَى، الَّتِي مُذَكَّرُهَا أَفْعَلُ، أَنَّهَا تَصِيرُ مَصْدَرًا إِذَا زَالَ مِنْهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُبْرَى وَصُغْرَى وَجُلَّى وَفُضْلَى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَا يَنْقَاسُ جَعْلُ شَيْءٍ مِنْهَا مَصْدَرًا بَعْدَ إِزَالَةِ مَعْنَى التَّفْضِيلِ؟ بَلِ الَّذِي يَنْقَاسُ عَلَى رَأْيٍ أَنَّكَ إِذَا أَزَلْتَ مِنْهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ، صَارَتْ بِمَعْنَى:
كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ وَجَلِيلَةٍ وَفَاضِلَةٍ. كَمَا أَنَّكَ إِذَا أَزَلْتَ مِنْ مُذَكَّرِهَا مَعْنَى التَّفْضِيلِ، كَانَ أَكْبَرُ بِمَعْنَى كَبِيرٍ، وَأَفْضَلُ بِمَعْنَى فَاضِلٍ، وَأَطْوَلُ بِمَعْنَى طَوِيلٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي عَنْهَا عَائِدًا إِلَى حُسْنَى، لَا إِلَى فُعْلَى، وَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا أَنْ يُزَالَ عَنْ حُسْنَى، وَهِيَ اللَّفْظَةُ الَّتِي قَرَأَهَا أُبَيٌّ وَطَلْحَةُ مَعْنَى التَّفْضِيلِ، وَيَبْقَى مَصْدَرًا، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَّا إِنْ كَانَتْ مَصْدَرًا، كَالْعُقْبَى. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُوَ وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِهَا، أَيْ وَالْمَصْدَرُ وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِهَا. وَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَصْدَرُ، كَالْبُشْرَى، وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى نَقْلِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: حَسُنَ حُسْنَى، كَمَا تَقُولُ: رَجَعَ رُجْعَى، وَبَشَّرَ بُشْرَى، إِذْ مَجِيءُ فُعْلَى كَمَا ذَكَرْنَا مصدرا لا يَنْقَاسُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ صِفَةً
460
لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَقُولُوا لِلنَّاسِ كَلِمَةً حُسْنَى، أَوْ مَقَالَةً حُسْنَى. وَفِي الْوَصْفِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً عَلَى أَنَّهَا لِلتَّفْضِيلِ، وَاسْتِعْمَالُهَا بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ وَلَا إِضَافَةٍ لِمَعْرِفَةٍ نَادِرٌ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنْ دَعَوْتَ إِلَى جُلًى وَمُكَرُمَةٍ يَوْمًا كِرَامَ سَرَاةِ النَّاسِ فَادْعِينَا
فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ هَذَا لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، فَيَكُونَ مَعْنَى حُسْنَى: حَسَنَةٌ، أَيْ وَقُولُوا لِلنَّاسِ مَقَالَةً حَسَنَةً، كَمَا خَرَّجُوا يُوسُفَ أَحْسَنَ إِخْوَتِهِ فِي مَعْنَى: حَسَنُ إِخْوَتِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: إِحْسَانًا فَيَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَوْلًا إِحْسَانًا، وَإِحْسَانًا مَصْدَرٌ مِنْ أَحْسَنَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلصَّيْرُورَةِ، أَيْ قَوْلًا ذَا حُسْنٍ، كَمَا تَقُولُ: أَعْشَبَتِ الْأَرْضُ إِعْشَابًا، أَيْ صَارَتْ ذَاتَ عُشْبٍ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُولُوا لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمُرُوهُمْ بِهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُولُوا لَهُمْ حُسْنًا فِي الْإِعْلَامِ بِمَا فِي كِتَابِكُمْ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قُولُوا لَهُمُ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ، وَجَاوِبُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَا تُحِبُّونَ أَنْ تُجَاوَبُوا بِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهُوهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا صَدِّقَا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، مَنْ هُوَ؟.
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَأَنْ تَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا. وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: لَا يَعْبُدُونَ بِالْيَاءِ، يَكُونُ الْتِفَاتًا، إِذْ خَرَجَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. وَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ الْأُمَّةُ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِتَكُونَ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلِتُنَاسِبَ الْخِطَابَ الَّذِي بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ، لَا يُمْكِنُ إلا أَنْ يَكُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ لِلنَّاسِ، كَانَ وَاجِبًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي دِينِهِمْ، لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَكَذَا ظَاهِرُ الْأَمْرِ، وَكَأَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى التَّوَلِّي عَنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ قوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ تَخْصِيصًا بِحَسَبِ الْمُخَاطَبِ، أَوْ بِحَسَبِ الْخِطَابِ. وَزَعَمَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ بَاقٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ. قِيلَ: وَهَذَا هُوَ الْأَقْوَى. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، أَنَّ هَارُونَ وَمُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أُمِرَا بِالرِّفْقِ مَعَ فِرْعَوْنَ، وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ
461
لَهُ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ «١»، وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «٢»، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً»
، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «٤». وَمَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ الْقَوْلُ الْحَسَنُ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ، اسْتَدَلَّ بِأَنَّا أُمِرْنَا بِلَعْنِهِمْ وَذَمِّهِمْ وَمُحَارَبَتِهِمْ، وَبُقُولِهِ تَعَالَى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ «٥».
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِطَابُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَالصَّلَاةُ هِيَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا فِي التَّوْرَاةِ، وَهُمْ إِلَى الْآنَ مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ كَانَتْ قُرْبَانًا تَهْبِطُ إِلَيْهِمْ نَارٌ فَتَحْمِلُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ تَقَبُّلَهُ، وَمَا لَا تَفْعَلُ النَّارُ ذَلِكَ بِهِ، كَانَ غَيْرَ مُتَقَبَّلٍ. وَقِيلَ: الصَّلَاةُ هِيَ هَذِهِ الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْنَا، وَالْخِطَابُ لِمَنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من أَبْنَاءِ الْيَهُودِ، وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَمْرًا بِالْإِسْلَامِ. وَالثَّانِي: عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِيمَانِ وَالزَّكَاةُ هِيَ هَذِهِ الْمَفْرُوضَةُ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ هُنَا الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كُنِّيَ عَنِ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ اللَّتَيْنِ هُمَا أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ.
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِمُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ تَوَلِّيَ أَسْلَافِهِمْ، إِذْ هُمْ كُلُّهُمْ بِتِلْكَ السَّبِيلِ، قَالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَالْمَعْنَى:
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ عَمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، وَالْمَعْنِيُّ بِالْقَلِيلِ الْقَلِيلُ فِي عَدَدِ الْأَشْخَاصِ.
فَقِيلَ: هَذَا الْقَلِيلُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سلام وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ: مَنْ آمَنَ قَدِيمًا مِنْ أَسْلَافِهِمْ، وَحَدِيثًا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِلَّةُ فِي الْإِيمَانِ، أَيْ لَمْ يَبْقَ حِينَ عَصَوْا وَكَفَرَ آخِرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا إِيمَانٌ قَلِيلٌ، إِذْ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى.
انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ، إِذِ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الْفَهْمُ إِنَّمَا هُوَ اسْتِثْنَاءُ أَشْخَاصٍ قَلِيلِينَ مِنَ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الضَّمِيرُ فِي تَوَلَّيْتُمْ، وَنَصْبُ: قَلِيلًا، على الاستثناء،
(١) سورة النحل: ١٦/ ١٢٥.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٠٨.
(٣) سورة الفرقان: ٢٥/ ٧٢.
(٤) سورة الأعراف: ٧/ ١٩٩.
(٥) سورة النساء: ٤/ ١٤٨.
462
وَهُوَ الْأَفْصَحُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ مُوجَبٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ: إِلَّا قَلِيلٌ، بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْمٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عَلَى بَدَلِ قَلِيلٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَوَلَّيْتُمْ، وَجَازَ ذَلِكَ، يَعْنِي الْبَدَلَ، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ نَفْيٌ، لِأَنَّ تَوَلَّيْتُمْ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَفُوا بِالْمِيثَاقِ إِلَّا قَلِيلٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالَّذِي ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْبَدَلَ مِنَ الْمُوجَبِ لَا يَجُوزُ، لَوْ قُلْتَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ، لَمْ يَجُزْ، قَالُوا: لِأَنَّ الْبَدَلَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، فَلَوْ قُلْتَ: قَامَ إِلَّا زَيْدٌ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ إِلَّا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُوجَبِ. وَأَمَّا مَا اعْتُلَّ بِهِ مِنْ تَسْوِيغِ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى تَوَلَّيْتُمُ النَّفْيُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَفُوا إِلَّا قَلِيلٌ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كُلَّ مُوجَبٍ، إِذَا أَخَذْتَ فِي نَفْيِ نَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهِ، كَانَ كَذَلِكَ، فَلْيَجُزْ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ بِقَوْلِكَ:
لَمْ تَجْلِسُوا إِلَّا زَيْدٌ. وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَعْتَبِرِ الْعَرَبُ هَذَا التَّأْوِيلَ، فَتَبْنِيَ عَلَيْهِ كَلَامَهَا، وَإِنَّمَا أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ بِالرَّفْعِ، عَلَى الصِّفَةِ. وَقَدْ عَقَدَ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ بَابًا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: هَذَا بَابُ مَا يَكُونُ فِيهِ إِلَّا وَمَا بَعْدَهُ وَصْفًا بِمَنْزِلَةِ غَيْرٍ وَمِثْلٍ. وَذَكَرَ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْبَابِ:
لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ إِلَّا زِيدٌ لغلبنا، ولَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا.
وَقَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامُهَا وَسَوَّى بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «١»، بِرَفْعِ غَيْرٍ، وَجُوِّزَ فِي نَحْوِ: مَا قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، بِالرَّفْعِ الْبَدَلُ وَالصِّفَةُ، وَخُرِّجَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ
قَالَ: كَأَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ أَخٍ غَيْرُ الْفَرْقَدَيْنِ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ، كَمَا قَالَ الشَّمَّاخُ:
وَكُلُّ خليل غيرها ضم نَفْسِهِ لِوَصْلِ خَلِيلٍ صَارِمٌ أَوْ مُعَارِزُ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ النَّحْوِيُّونَ:
لَدَمٌ ضَائِعٌ نَأَتْ أَقْرَبُوهُ عَنْهُ إِلَّا الصَّبَا وَإِلَّا الْجَنُوبُ
وَأَنْشَدُوا أَيْضًا:
وَبِالصَّرِيمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلِقٌ عَافٍ تَغَيَّرَ إِلَّا النُّؤْيُ وَالْوَتِدُ
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: وَيُخَالِفُ الْوَصْفُ بِإِلَّا الْوَصْفَ بِغَيْرِهِ، من حيث
(١) سورة النساء: ٤/ ٩٥.
463
إِنَّهَا يُوصَفُ بِهَا النَّكِرَةُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالظَّاهِرُ وَالْمُضْمَرُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَإِنَّمَا يَعْنِي النَّحْوِيُّونَ بِالْوَصْفِ بِإِلَّا: عَطْفَ الْبَيَانِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُوصَفُ بِإِلَّا إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ نَكِرَةً أَوْ مَعْرِفَةً بِلَامِ الْجِنْسِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَا يُوصَفُ بِإِلَّا إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ فِيهِ الْبَدَلُ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ نَحْوِيٌّ. وَمِنْ تَخْلِيطِ بَعْضِ الْمُعْرِبِينَ أَنَّهُ أَجَازَ رَفْعَهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: امْتَنَعَ قَلِيلٌ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَلَوْلَا أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مُسَطَّرَانِ فِي الْكُتُبِ مَا ذَكَرْتُهُمَا. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا قَلِيلٌ مِنْكُمْ لَمْ يَتَوَلَّ، كَمَا قَالُوا: مَا مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ خَيْرٌ مِنْهُ. وَهَذِهِ أَعَارِيبُ مَنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي النَّحْوِ.
وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، قَالُوا: مُؤَكِّدَةٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ التَّوَلِّيَ هُوَ الْإِعْرَاضَ بِعَيْنِهِ، وَمَنْ خَالَفَ بَيْنَهُمَا تَكُونُ الْحَالُ مُبَيِّنَةً، وَكَذَلِكَ تَكُونُ مُبَيِّنَةً إِذَا اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ مَعْنَاهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ عَهْدِ مِيثَاقِكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ اسْمِيَّةً مُصَدَّرَةً بِأَنْتُمْ، لِأَنَّهَا آكَدُ. وَكَانَ الْخَبَرُ اسْمًا، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَنْتُمْ عَادَتُكُمُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحَقِّ وَالتَّوْلِيَةُ عَنْهُ. وَفِي الْمُوَاجَهَةِ بِأَنْتُمْ تَقْبِيحٌ لِفِعْلِهِمْ وَكَوْنِهِمُ ارْتَكَبُوا ذَلِكَ الْفِعْلَ الْقَبِيحَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَقَعَ، كَقَوْلِكَ: يُحْسِنُ إِلَيْكَ زَيْدٌ وَأَنْتَ مُسِيءٌ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ وَاثَقَهُ اللَّهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي أَشْيَاءَ بِهَا انْتِظَامُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، جَدِيرٌ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْعَهْدِ، وَأَنْ لَا يَنْقُضَهُ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ. وَقِيلَ: التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضُ مَأْخُوذٌ مَنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ، وَمَنْ تَرَكَ سُلُوكَ الطَّرِيقِ فَلَهُ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ عَوْدُهُ عَلَى بَدْئِهِ، وَذَلِكَ هُوَ التَّوَلِّي، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْخُذَ فِي عَرْضِ الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِعْرَاضُ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فِي التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ لَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ، إِلَّا إِنْ قُصِدَ أَنَّ نَاسًا تَوَلَّوْا وَنَاسًا أَعْرَضُوا، وَجَمَعَ ذَلِكَ لَهُمْ، أَوْ يَتَوَلَّوْنَ فِي وَقْتٍ، وَيُعْرِضُونَ فِي وَقْتٍ.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: التَّعَبُّدُ بِهَذِهِ الْخِصَالِ حَاصِلٌ لَنَا فِي شَرْعِنَا، وَأَوَّلُهَا التَّوْحِيدُ، وَهُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ رَدَّكَ إِلَى مُرَاعَاةِ حَقِّ مِثْلِكَ، إِظْهَارًا أَنَّ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِصُحْبَةِ شَخْصٍ مِثْلِهِ، كَيْفَ يَقُومُ بِحَقِّ مَعْبُودٍ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؟ فَإِذَا كَانَتِ التَّرْبِيَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ حُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ تُوجِبُ عَظِيمَ هَذَا الْحَقِّ، فَمَا حَقُّ تَرْبِيَةِ سَيِّدِكَ لَكَ؟ كَيْفَ تُؤَدِّي شُكْرَهُ؟ ثُمَّ ذَكَرَ
464
عُمُومَ رَحْمَتِهِ لِذِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ حُسْنًا. وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ الصِّدْقُ مَعَ الْحَقِّ، وَالرِّفْقُ مَعَ الْخَلْقِ. انْتَهَى، وَبَعْضُهُ مُخْتَصَرٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ: الْأَسْبَابُ الْمُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ. فَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، عَلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ، وَاعْتِقَادِ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْخُضُوعِ مُنْفَرِدًا بِذَلِكَ، وَمَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ وَهِيَ: الزَّكَاةُ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ وَهِيَ: الصَّلَاةُ، وَبَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَهُوَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ.
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ: الْكَلَامُ عَلَى: تَسْفِكُونَ، كَالْكَلَامِ عَلَى: لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ السِّينِ وَكَسْرِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَشُعَيْبُ بْنُ أبي جمزة كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمَا ضَمَّا الْفَاءَ.
وَقَرَأَ أَبُو نَهِيكٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ: بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ السِّينَ وَخَفَّفَ الْفَاءَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ، أَيْ لَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِكُمْ لِشِدَّةٍ تُصِيبُكُمْ وَحَنَقٍ يَلْحَقُكُمْ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَمْرُ الَّذِي وَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ.
وَإِخْبَارُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَصَحَّ
مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا.
وَتَظَافَرَتْ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ الْمِلَلُ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «١». وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَسْفِكُوا دِمَاءَ النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ سَفَكَ دِمَاءَهُمْ سَفَكُوا دَمَهُ، وَقَالَ:
سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِارْتِكَابِكُمْ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ، كَالِارْتِدَادِ وَالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا يُزِيلُ عِصْمَةَ الدِّمَاءِ. وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ لَا يَسْفِكُ بَعْضُكُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وكل أَهْلُ دِينٍ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ مِيثَاقًا أَنْ لَا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَنْفِيَهُ، وَلَا يَسْتَرِقَهُ، وَلَا يَدَعَهُ يَسْتَرِقُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَالْخِطَابُ فِي أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَعَ أَسْلَافِهِمْ.
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٩.
465
وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ مَعْنَاهُ: لَا يُخْرِجْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، أَوْ لَا تُسِيئُوا جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكُمْ فَتُلْجِئُوهُمْ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِكُمْ، أَوْ لَا تَفْعَلُوا مَا تُخْرِجُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُكُمْ، أَوْ لَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ، أَيْ إِخْوَانَكُمْ، لِأَنَّكُمْ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ لَا تُفْسِدُوا، فَيَكُونَ سَبَبًا لِإِخْرَاجِكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى تَغْرِيبِ الْجَانِي، أَوْ لَا تُفْسِدُوا وَتُشَاقُّوا الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَيُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الْجَلَاءُ. أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ: أَيْ بِالْمِيثَاقِ، وَاعْتَرَفْتُمْ بِلُزُومِهِ، أَوِ اعْتَرَفْتُمْ بِقَبُولِهِ، أَوْ رَضِيتُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ الْبُعَيْثُ:
وَلَسْتُ كُلَيْبِيًّا إِذَا سِيمَ خُطَّةً أَقَرَّ كَإِقْرَارِ الْحَلِيلَةِ لِلْبَعْلِ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ: أَيْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَخَذَهُ عَلَيْكُمْ، وَأَرَادَ عَلَى قُدَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنْ كَانَ الْخِطَابُ وَارِدًا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَاصِرِيهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ، فَمَعْنَاهُ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَسْلَافِكُمْ بِمَا أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ، إِمَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِمَّا بِمَا تَتْلُونَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ الْحُضُورَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِأَسْلَافِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ عَائِدٌ إِلَى الْخَلَفِ، وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَائِدٌ إِلَى السَّلَفِ، لِأَنَّهُمْ عَايَنُوا سَفْكَ دِمَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقَالَ: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ لِأَنَّ الْأَوَائِلَ وَالْأَصَاغِرَ صَارُوا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ خِطَابَ الْحَضْرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِكَ، فُلَانٌ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا، شَاهِدٌ عَلَيْهَا.
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ: هَذَا اسْتِبْعَادٌ لِمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْإِجْلَاءِ وَالْعُدْوَانِ، بَعْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ مِنْهُمْ، وَإِقْرَارِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ. وَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُونَ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ أَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ، وَهَؤُلَاءِ خَبَرٌ، وَتَقْتُلُونَ حَالٌ. وَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبٌ:
هَا أَنْتَ ذَا قَائِمًا، وَهَا أَنَا ذَا قَائِمًا. وَقَالَتْ أَيْضًا: هَذَا أَنَا قَائِمًا، وَهَا هُوَ ذَا قَائِمًا، وَإِنَّمَا أُخْبِرَ عَنِ الضَّمِيرِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي اللَّفْظِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتَ الْحَاضِرُ، وَأَنَا الْحَاضِرُ، وَهُوَ الْحَاضِرُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الْإِخْبَارُ بِالْحَالِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ حَالٌ مَجِيئُهُمْ بِالِاسْمِ الْمُفْرَدِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، فِيمَا قُلْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَا أَنْتَ ذَا قَائِمًا وَنَحْوِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشَاهِدُونَ، يَعْنِي أَنَّكُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ غَيْرُ أُولَئِكَ الْمُقِرِّينَ، تَنْزِيلًا لِتَغَيُّرِ الصِّفَةِ مَنْزِلَةَ تَغَيُّرِ الذَّاتِ، كَمَا تَقُولُ: رَجَعْتُ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي خَرَجْتُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: تَقْتُلُونَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ، هُمُ الْمُخَاطَبُونَ أَوَّلًا، فَلَيْسُوا قَوْمًا آخَرِينَ. أَلَا تَرَى
466
أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَنْزِيلِ تَغَيُّرِ الصِّفَةِ مَنْزِلَةَ تَغَيُّرِ الذَّاتِ لَا يَتَأَتَّى فِي نَحْوِ: هَا أَنَا ذَا قَائِمًا وَلَا فِي هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ؟ بَلِ الْمُخَاطَبُ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْأَجَلُّ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَحْمَدَ: شَيْخُنَا، هَؤُلَاءِ: رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَنْتُمْ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَتَقْتُلُونَ حَالٌ، بِهَا تَمَّ الْمَعْنَى، وَهِيَ كَانَتِ الْمَقْصُودَ، فَهِيَ غَيْرُ مُسْتَغْنًى عَنْهَا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ بَعْدَ أَنْ تَمَّ الْكَلَامُ فِي الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا زَيْدٌ مُنْطَلِقًا، وَأَنْتَ قَدْ قَصَدْتَ الْإِخْبَارَ بِانْطِلَاقِهِ، لَا الْإِخْبَارَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ زَيْدٌ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ شَيْخِهِ، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفٍ الْأَنْصَارِيُّ، مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا غرناظة، يُعْرَفُ بِابْنِ الْبَاذَشِ، وَهُوَ وَالِدُ الْإِمَامِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ، مُؤَلِّفِ (كِتَابِ الْإِقْنَاعِ فِي الْقِرَاءَاتِ)، وَلَهُ اخْتِيَارَاتٌ فِي النَّحْوِ، حَدَّثَ بِكِتَابِ سِيبَوَيْهِ عَنِ الْوَزِيرِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ الْمُصْحَفِيِّ، وَعَلَّقَ عَنْهُ فِي النَّحْوِ عَلَى (كِتَابِ الْجُمَلِ وَالْإِيضَاحِ) وَمَسَائِلَ مِنْ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ. تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. وَلَا أَدْرِي مَا الْعِلَّةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ جَعْلِ أَنْتُمُ الْمُبْتَدَأَ، وَهَؤُلَاءِ الْخَبَرَ، إِلَى عَكْسِ هَذَا. وَالْعَامِلُ فِي هَذِهِ الْحَالِ اسْمُ الْإِشَارَةِ بِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. قَالُوا: وَهُوَ حَالٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ اتَّحَدَ ذُو الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهَا. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مُنَادًى مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَنُقِلَ جَوَازُهُ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الْآيَةَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، جُنُوحًا إِلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَقْتُلُونَ خَبَرًا عَنْ أَنْتُمْ. وَفُصِلَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالنِّدَاءِ. وَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالنِّدَاءِ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ صَعْبٌ عِنْدَهُ أَنْ يَنْعَقِدَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَاسْمِ الْإِشَارَةِ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ انْعِقَادِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ أَنْشَدُوا أَبْيَاتًا حُذِفَ مِنْهَا حَرْفُ النِّدَاءِ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَجُلٍ مِنْ طَيٍّء:
إِنَّ الْأُولَى وَصَفُوا قَوْمِي لهم فيهم هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولَا
وَذَهَبَ ابْنُ كَيْسَانَ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ أَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ، وَيَقْتُلُونَ الْخَبَرُ، وَهَؤُلَاءِ تَخْصِيصٌ لِلْمُخَاطِبِينَ، لَمَّا نُبِّهُوا عَلَى الْحَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مُقِيمُونَ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَنْصُوبًا بِأَعْنِي.
وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ بِالنَّكِرَاتِ، وَلَا بِأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ. وَالْمُسْتَقْرَأُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهُ يَكُونُ أَيًّا نَحْوُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ، أَوْ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ
467
نَحْوُ: نَحْنُ الْعَرَبَ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ نَحْوُ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَمًا، كَمَا أَنْشَدُوا:
بِنَا تَمِيمًا يُكْشَفُ الضَّبَابُ. اه.
وَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي بَعْدَ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ، كَمَا مَثَّلْنَاهُ. وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ، كَقَوْلِهِمْ:
بِكَ اللَّهَ نَرْجُو الْفَضْلَ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ أَنْتُمْ، وَيَكُونُ تَقْتُلُونَ صِلَةً لِهَؤُلَاءِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يقتلون، مِنْ قَتَلَ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُقَتِّلُونَ مِنْ قَتَّلَ مُشَدَّدًا. هَكَذَا فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ، وَفِي تَفْسِيرِ الَمَهْدَوِيِّ أَنَّهَا قِرَاءَةُ أَبِي نَهِيكٍ، قَالَ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ: تُقَتِّلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ، مِنْ قَتَّلَ يَعْنِي مُشَدَّدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصَوَابِ ذَلِكَ.
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ: هَذَا نَزَلَ فِي بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ، وَالنَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ. كَانَ بَنُو قَيْنُقَاعَ أَعْدَاءَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ إِخْوَانٌ، وَالنَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ أَيْضًا إِخْوَانٌ، ثُمَّ افْتَرَقُوا. فَصَارَتِ النَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، وَقُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ. فَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ الْحَرْبُ، فَيَفْدُونَ أَسْرَاهُمْ، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، قَالَهُ الَمَهْدَوِيُّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ يُقَاتِلُ مَعَ حُلَفَائِهِ، وَإِذَا غَلَبُوا خَرَّبُوا دِيَارَهُمْ وَأَخْرَجُوهُمْ، وَإِذَا أُسِرَ رَجُلٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، جَمَعُوا لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ، فَعَيَّرَتْهُمُ الْعَرَبُ وَقَالَتْ:
كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ ثُمَّ تَفْدُونَهُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أُمِرْنَا أَنْ نَفْدِيَهُمْ، وَحُرِّمَ عَلَيْنَا قِتَالُهُمْ، وَلَكِنَّا نَسْتَحِي أَنْ نُذِلَّ حُلَفَاءَنَا.
تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ: قَرَأَ بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ، عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَأَصْلُهُ:
تَتَظَاهَرُونَ، فَحَذَفَ التَّاءَ، وَهِيَ عِنْدَنَا الثَّانِيَةُ لَا الْأُولَى، خِلَافًا لِهِشَامٍ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هِيَ الَّتِي لِلْمُضَارَعَةِ، الدَّالَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى الْخِطَابِ، وَكَثِيرًا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ حَذْفُ التَّاءِ.
وَقَالَ:
تَعَاطَسُونَ جَمِيعًا حَوْلَ دَارِكُمُ فَكُلُّكُمْ يَا بَنِي حَمْدَانَ مَزْكُومُ
يُرِيدُ: تَتَعَاطَسُونَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ، أَيْ بِإِدْغَامِ الظَّاءِ فِي التَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: تُظَاهِرُونَ، بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا: تَظَّهَّرُونَ، بِفَتْحِ التَّاءِ، وَالظَّاءِ وَالْهَاءِ مُشَدَّدَيْنِ دُونَ أَلِفٍ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ:
468
تَتَظَاهَرُونَ عَلَى الْأَصْلِ. فَهَذِهِ خَمْسُ قِرَاءَاتٍ، وَمَعْنَاهَا كُلِّهَا التَّعَاوُنُ وَالتَّنَاصُرُ.
وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا اسْتَضْعَفُوا قَوْمًا أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ.
عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْفِعْلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ الذَّمَّ وَاللَّوْمَ، والثاني: أَنَّهُ الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ وَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ. وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ: الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا يُوجِبُ الْإِثْمَ، وَهَذَا مِنْ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى مُسَبَّبِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْخَمْرُ إِثْمًا، كَمَا قَالَ:
شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي وَالْعُدْوانِ: هُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِوَزْنِ فُعَالَى، وَحَمْزَةَ بِوَزْنِ فَعْلَى. تُفادُوهُمْ: قَرَأَهُ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ مِنْ فَادَى، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: مِنْ فَدَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحُسْنُ لَفْظِ الْإِتْيَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِخْرَاجِ فَيَظْهَرُ التَّضَادُّ الْمُقَبِّحُ لِفِعْلِهِمْ فِي الْإِخْرَاجِ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَنْ أَسَأْتُمْ إِلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ دِيَارِهِمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِمْ بِالْفِدَاءِ، وَمَعْنَى تُفَادُوهُمْ: تَفْدُوهُمْ، إِذِ الْمُفَاعَلَةُ تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمِنْ وَاحِدٍ. فَفَاعَلَ بِمَعْنَى: فَعَلَ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهَا. وَقِيلَ: مَعْنَى فَادَى: بَادَلَ أَسِيرًا بِأَسِيرٍ، وَمَعْنَى فَدَى: دَفَعَ الْفِدَاءَ، وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ قَوْلُ الْعَبَّاسِ: فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا بَادَلَ أَسِيرًا بِأَسِيرٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى تَفْدُوهُمْ بِالصُّلْحِ، وَتُفَادُوهُمْ بِالْعُنْفِ.
وَقِيلَ تُفَادُوهُمْ: تَطْلُبُوا الْفِدْيَةَ مِنَ الْأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إِنَّ قَوْمِي وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا
وَتَفْدُوهُمْ: تُعْطُوا فِدْيَتَهُمْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَعْنَى تُفَادُوهُمْ فِي اللُّغَةِ، تُطْلِقُونَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَأْخُذُوا عَنْهُ شَيْئًا. وَفَادَيْتُ نَفْسِي: أَيْ أَطْلَقْتُهَا بَعْدَ أَنْ دَفَعْتُ شَيْئًا. وَفَادَى وَفَدَى يَتَعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، الثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، وَهُوَ هُنَا بِهِ مَحْذُوفٌ. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ:
تَقَدَّمَتْ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: قَتْلُ النَّفْسِ، وَالْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ، وَالتَّظَاهُرُ، وَالْمُفَادَاةُ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ. وَاخْتُصَّ هَذَا الْقِسْمُ بِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مُحَرَّمَةً، لِمَا فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَلَاءِ وَالنَّفْيِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ شَرُّهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هَدْمُ الْبِنْيَةِ، أَعْظَمُ، لَكِنْ فِيهِ انْقِطَاعُ الشَّرِّ، وَبِخِلَافِ الْمُفَادَاةِ بِهَا، فَإِنَّهَا مِنْ جَرِيرَةِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ وَالتَّظَاهُرِ، لِأَنَّهُ لَوْلَا الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ وَالتَّظَاهُرُ عَلَيْهِمْ، مَا وَقَعُوا فِي قَيْدِ الْأَسْرِ. وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا مِمَّا حُذِفَ فِيهِ مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ ذِكْرُ التَّحْرِيمِ،
469
وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، وَكَذَا بَاقِيهَا. وَارْتِفَاعُ هُوَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ إِمَّا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرٌ عَنْهُ، وَإِعْرَابُهَا أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ مُبْتَدَأً وَمُحَرَّمٌ خَبَرًا، وَفِيهِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْإِخْرَاجِ، إِذِ النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ. وَلَا يُجِيزُ الْكُوفِيُّونَ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ إِذَا كَانَ مُتَحَمِّلًا ضَمِيرًا مَرْفُوعًا. فَلَا يُجِيزُونَ: قَائِمٌ زَيْدٌ، عَلَى أَنْ يَكُونَ قَائِمٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا، فَلِذَلِكَ عَدَلُوا إِلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرَ هُوَ قَوْلُهُ مُحَرَّمٌ، وَإِخْرَاجُهُمْ مَرْفُوعٌ بِهِ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَتَبِعَهُمْ عَلَى هَذَا الَمَهْدَوِيُّ. وَلَا يُجِيزُ هَذَا الْوَجْهَ الْبَصْرِيُّونَ، لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لَا يُخْبَرُ عَنْهُ إِلَّا بِجُمْلَةٍ مُصَرَّحٍ بِجُزْأَيْهَا، وَإِذَا جَعَلْتَ قَوْلَهُ مُحَرَّمٌ خَبَرًا عَنْ هو، وإخراجهم مَرْفُوعًا بِهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ فُسِّرَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ بِغَيْرِ جُمْلَةٍ. وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ هُوَ مُبْتَدَأً، لَيْسَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، بَلْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْإِخْرَاجِ، وَمُحَرَّمٌ خَبَرٌ عَنْهُ، وَإِخْرَاجُهُمْ بَدَلٌ. وَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ. مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ أَنْ يُفَسَّرَ الْمُضْمَرُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْبَدَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ. وَأَجَازَهُ الْكِسَائِيُّ، وَفِي بَعْضِ النُّقُولِ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ عِمَادًا، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْبَصْرِيُّونَ بِالْفَصْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ الْخَبَرِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِخْرَاجُهُمْ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا قُدِّمَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، قُدِّمَ مَعَهُ الْفَصْلُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لِأَنَّ الْوَاوَ هاهنا تَطْلُبُ الِاسْمَ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ تَطْلُبُ فِيهِ الِاسْمَ، فَالْعِمَادُ فِيهِ جَائِزٌ. وَلَا يَجُوزُ هَذَا التَّخْرِيجُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ فِيهِ أَمْرَيْنِ لَا يَجُوزَانِ عِنْدَهُمْ: أَحَدُهُمَا: وُقُوعُ الْفَصْلِ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ وَنَكِرَةٍ لَا تُقَارِبُ الْمَعْرِفَةَ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِخْرَاجُهُمْ هُوَ مُحَرَّمٌ، فَمُحَرَّمٌ نَكِرَةٌ لَا تُقَارِبُ الْمَعْرِفَةَ. الثَّانِي: أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ الْفَصْلِ، وَشَرْطُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، أَوْ بَيْنَ مَا هُمَا أَصْلُهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَسَائِلُ تُحَقَّقُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَوَقَعَ فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ أَقْوَالٌ تُنْتَقَدُ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ فِي هُوَ إِنَّهُ ضَمِيرُ الْأَمْرِ، تَقْدِيرُهُ: وَالْأَمْرُ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، وَإِخْرَاجُهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ بَدَلٌ مِنْ هُوَ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ ضَمِيرِ الْأَمْرِ بِمُفْرَدٍ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ بَصَرِيٌّ وَلَا كُوفِيٌّ. أَمَّا الْبَصْرِيُّ، فَلِأَنَّ مُفَسِّرَ ضَمِيرِ الْأَمْرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً، وَأَمَّا الْكُوفِيُّ، فَلِأَنَّهُ يُجِيزُ الْجُمْلَةَ وَيُجِيزُ الْمُفْرَدَ، إِذَا كَانَ قَدِ انْتَظَمَ مِنْهُ وَمِمَّا بَعْدَهُ مُسْنَدٌ وَمُسْنَدٌ إِلَيْهِ فِي الْمَعْنَى، نَحْوُ قَوْلِكَ: ظَنَنْتُهُ قَائِمًا الزَّيْدَانِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ إِخْرَاجَهُمْ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ الْأَمْرِ، وَضَمِيرُ الْأَمْرِ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَلَا يُبْدَلُ مِنْهُ، وَلَا يُؤَكَّدُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَقِيلَ هُوَ فَاصِلَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّ، وَلَيْسَتْ هُنَا بِالَّتِي هِيَ عِمَادٌ، وَمُحَرَّمٌ عَلَى هَذَا
470
ابْتِدَاءٌ، وَإِخْرَاجُهُمْ خَبَرٌ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْكُوفِيِّينَ عَكْسُ هَذَا الْإِعْرَابِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ قَدْ قُدِّمَ مَعَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَإِعْرَابُ مُحَرَّمٌ عِنْدَهُمْ خبر مقدم، وَإِخْرَاجُهُمْ مُبْتَدَأٌ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْقَوَاعِدِ، إِذْ لَا يُبْتَدَأُ بِالِاسْمِ إِذَا كَانَ نَكِرَةً، وَلَا مُسَوِّغَ لَهَا، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَعْرِفَةً، بَلِ الْمُسْتَقِرُّ فِي لِسَانِهِمْ عَكْسُ هَذَا، إِلَّا إِنْ كَانَ يَرِدُ فِي شِعْرٍ، فَيُسْمَعُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هُوَ الضَّمِيرُ الْمُقَدَّرُ فِي مُحَرَّمٌ قُدِّمَ وَأُظْهِرَ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ. وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا، إِذْ لَا مُوجِبَ لِتَقَدُّمِ الضَّمِيرِ، وَلَا لِبُرُوزِهِ بَعْدَ اسْتِتَارِهِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى خُلُوِّ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ ضَمِيرٍ، إِذْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مُحَرَّمٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَإِخْرَاجُهُمْ مُبْتَدَأً، وَلَا يُوجَدُ اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا مَفْعُولٍ عَارِيًا مِنَ الضَّمِيرِ، إِلَّا إِذَا رَفَعَ الظَّاهِرَ. وَلَا يُمْكِنُ هُنَا أَنْ يَرْفَعَ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ الْمُقَدَّمَ هُوَ كَانَ الضَّمِيرَ المرفوع بمحرم، ثُمَّ يَبْقَى هَذَا الضَّمِيرُ لَا يُدْرَى مَا إِعْرَابُهُ، إِذْ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُقَدَّمًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ هُوَ ضَمِيرُ الْإِخْرَاجِ، تَقْدِيرُهُ: وَإِخْرَاجُهُمْ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ. انْتَهَى مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ارْتِفَاعِ إِخْرَاجُهُمْ، وَلَا يَتَأَتَّى عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرَهُ، وَيَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ، إِلَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ.
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالْإِنْكَارُ.
وَلَمْ يَذُمَّهُمْ عَلَى الْفِدَاءِ، بَلْ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ، إِذْ أَتَوْا بِبَعْضِ الْوَاجِبِ، وَتَرَكُوا بَعْضًا. وَتَكُونُ الْمُنَاقَضَةُ آكَدَ فِي الذَّمِّ، وَلَا يُقَالُ الْإِخْرَاجُ مَعْصِيَةٌ. فَلِمَ سَمَّاهَا كُفْرًا؟ لِأَنَّا نَقُولُ: لَعَلَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ تَرْكَ الْإِخْرَاجِ غَيْرُ وَاجِبٍ، مَعَ أَنَّ صَرِيحَ التَّوْرَاةِ كَانَ دَالًّا عَلَى وُجُوبِهِ. وَالْبَعْضُ الَّذِي آمَنُوا بِهِ، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةَ، فَيَكُونُ عَامًّا فِيمَا آمَنُوا بِهِ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَفِدَاءُ الْأَسِيرِ مِنْ جُمْلَتِهِ. وَالْبَعْضُ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ: هُوَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَإِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَالْمُظَاهَرَةُ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، مِنْ جُمْلَةِ مَا كَفَرُوا بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَسْتَعْمِلُونَ الْبَعْضَ وَيَتْرُكُونَ الْبَعْضَ، تُفَادُونَ أَسْرَى قَبِيلَتِكُمْ، وَتَتْرُكُونَ أَسْرَى أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَلَا تُفَادُونَهُمْ. وَقِيلَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ مَرَّ عَلَى رَأْسِ الْجَالُوتِ بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ يُفَادِي مِنَ النِّسَاءِ مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْحَرْبُ، وَلَا يُفَادَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْحَرْبُ. قَالَ: فَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: أَمَا إِنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَكَ فِي كِتَابِكَ أَنْ تُفَادِيَهُنَّ كُلَّهُنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ إِنْ وَجَدْتَهُ فِي يَدِ غَيْرِكَ فَدَيْتَهُ، وَأَنْتَ تَقْتُلُهُ بِيَدِكَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِنُبُوَّةِ مُوسَى، عَلَى
471
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَعَ التَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي أَمْرِهِمَا سَوَاءٌ، فَجَرَوْا مَجْرَى سَلَفِهِمْ، أَنْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضٍ، وَيَكْفُرُوا بِبَعْضٍ. قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكِتَابِ هُنَا الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ، أَيِ الْمَفْرُوضُ، وَالَّذِي آمَنُوا بِهِ مِنْهَا فِدَاءُ الْأَسْرَى، وَالَّذِي كَفَرُوا بِهِ بَاقِي الْأَرْبَعَةِ.
فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا: الْجَزَاءُ يُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا «١»، وَقَالَ: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «٢». وَالْخِزْيُ هُنَا:
الْفَضِيحَةُ، وَالْعُقُوبَةُ، وَالْقَصَاصُ فِيمَنْ قُتِلَ أَوْ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ غَابِرَ الدَّهْرِ، أَوْ قَتْلُ قُرَيْظَةَ وَإِجْلَاءُ النَّضِيرِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ إِلَى أَرِيحَا، وَأَذْرِعَاتٍ، أَوْ غَلَبَةُ الْعَدُوِّ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ. وَلَا يَتَأَتَّى الْقَوْلُ بِالْجِزْيَةِ وَلَا الْجَلَاءِ إِلَّا إِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى الَّذِينَ كَانُوا مُعَاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الذَّمَّ الْعَظِيمَ وَالتَّحْقِيرَ الْبَالِغَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وإلّا خِزْيٌ:
اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَنَقْضُ النَّفْيِ هُنَا نَقْضٌ لِعَمَلِ مَا عَلَى خِلَافٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَتَفْصِيلٍ وَذَلِكَ: أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا تَأَخَّرَ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ إِلَّا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَوَّلَ، أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَتَهُ، أَوْ وَصْفًا، إِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فِي الْمَعْنَى، أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَتَهُ، لَمْ يَجُزْ فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ النَّصْبَ فِيمَا كَانَ الثَّانِي فِيهِ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا أَجَازَ الْفَرَّاءُ فِيهِ النَّصْبَ، وَمَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ. وَنُقِلَ عَنْ يُونُسَ: إِجَازَةُ النَّصْبِ فِي الْخَبَرِ بَعْدَ إِلَّا كَائِنًا مَا كَانَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي قَوْلِكَ: مَا زَيْدٌ إِلَّا أَخُوكَ، إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالرَّفْعِ. قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ مَا أَنْتَ إِلَّا لِحْيَتُكَ، فَالْبَصْرِيُّونَ يَرْفَعُونَ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: مَا فِيكَ إِلَّا لِحْيَتُكَ، وَكَذَا: مَا أَنْتَ إِلَّا عَيْنَاكَ. وَأَجَازَ فِي هَذَا الْكُوفِيُّونَ النَّصْبَ، وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فِي غَيْرِ الْمَصَادِرِ، إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ الْمَعْنَى، فَتُضْمِرَ نَاصِبًا نَحْوَ: ما أنت إلا لحيتك مَرَّةً وَعَيْنَكَ أُخْرَى، وَمَا أَنْتَ إِلَّا عِمَامَتَكَ تَحْسِينًا وَرِدَاءَكَ تَزْيِينًا.
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ مُمْتَدٍّ إِلَى أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ. وَمَعْنَى يُرَدُّونَ: يَصِيرُونَ، فَلَا يَلْزَمُ كَيْنُونَتُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَشَدِّ الْعَذَابِ، أَوْ يُرَادُ بِالرَّدِّ: الرُّجُوعُ إِلَى شَيْءٍ كَانُوا فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ «٣»، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي أشدّ العذاب أيضا،
(١) سورة الإنسان: ٧٦/ ١٢.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٩٣. [.....]
(٣) سورة القصص: ٢٨/ ١٣.
472
لِأَنَّهُمْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْجَلَاءِ وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُرَدُّونَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يَفْعَلُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا، فَيَكُونَ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: أَفَتُؤْمِنُونَ، فَيَكُونَ قَدْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ هُرْمُزَ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا: تُرَدُّونَ بِالتَّاءِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: أَفَتُؤْمِنُونَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْلِهِ: مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ، فَيَكُونَ قَدْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. وَأَشَدُّ الْعَذَابِ: الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَأَشَدِّيَّتُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا انْقِضَاءَ لَهُ، أَوْ أَنْوَاعُ عَذَابِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّهَا دَرَكَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَفِيهَا أَوْدِيَةٌ وَحَيَّاتٌ، أَوِ الْعَذَابُ الَّذِي لَا فَرَحَ فِيهِ وَلَا رُوحَ مَعَ الْيَأْسِ مِنَ التَّخَلُّصِ، أَوِ الْأَشَدِّيَّةُ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَابِ الدُّنْيَا، أَوِ الْأَشَدِّيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَابِ عَامَّتِهِمْ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أضلوهم ودلسوا عليهم، أقوال خَمْسَةً. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ هَذَا الْكَلَامِ، إِذْ وَقَعَ قَبْلَ أَفَتَطْمَعُونَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ. فَبِالْيَاءِ نَاسَبَ يُرَدُّونَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، وَبِالتَّاءِ تُنَاسِبُ قِرَاءَةَ تُرَدُّونَ بِالتَّاءِ، فَيَكُونُ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا فِي الْآيَةِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ مَضَوْا، وَأَنْتُمُ الَّذِينَ تُعْنَوْنَ بِهَذَا يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَبِمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْ أَوْعَظِ الْآيَاتِ، إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ لِكُلِّ كَافِرٍ وَعَاصٍ.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الَّذِينَ جَمَعُوا الْأَوْصَافَ السَّابِقَةَ الذَّمِيمَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «١»، وَأَنَّهُ إِذَا عُدِّدَتْ أَوْصَافٌ لِمَوْصُوفٍ، أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ جَامِعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ. وَالَّذِينَ: خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: اشْتَرَوُا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ يَقْتَضِيَانِ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا أَعْيَانًا. فَتَوَسَّعَتِ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْمَعَانِي، وَجَعَلَ إِيثَارَهُمْ بَهْجَةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا عَلَى النَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ اشْتِرَاءً، إِيثَارًا لِلْعَاجِلِ الْفَانِي عَلَى الْآجِلِ الْبَاقِي، إِذِ الْمُشْتَرِي لَيْسَ هُوَ الْمُؤْثِرَ لِتَحْصِيلِهِ، وَالثَّمَنُ الْمَبْذُولُ فِيهِ مَرْغُوبٌ عَنْهُ عِنْدَهُ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَغْبُونُ الرَّأْيِ فَاسِدُ الْعَقْلِ.
قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْمَعَانِي: إِنَّ الدُّنْيَا: مَا دَنَا مِنْ شَهَوَاتِ الْقَلْبِ، والآخرة: ما
(١) سورة البقرة: ٢/ ٥.
473
اتَّصَلَتْ بِرِضَا الرَّبِّ. فَلَا يُخَفَّفُ مَعْطُوفٌ عَلَى الصِّلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوصَلَ الْمَوْصُولُ بِصِلَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ زَمَانًا، تَقُولُ: جَاءَنِي الَّذِي قَتَلَ زَيْدًا بِالْأَمْسِ، وَسَيَقْتُلُ غَدًا أَخَاهُ، إِذِ الصَّلَاةُ هِيَ جُمَلٌ، فَمَنْ يَشْتَرِطُ اتِّحَادَ زَمَانِ أَفْعَالِهَا بِخِلَافِ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْأَفْعَالِ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدَاتِ، فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الزَّمَانِ مُضِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، وَعَلَى اخْتِيَارِ التَّوَافُقِ فِي الصِّيغَةِ، وَجُوِّزَ أَنْ يكون أولئك مبتدأ، والذين بصلته خبرا. وفلا: يُخَفَّفُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَعَلَّلَ دُخُولَ الْفَاءِ لِأَنَّ الَّذِينَ، إِذَا كَانَتْ صِلَتُهُ فِعْلًا، كَانَ فِيهَا مَعْنَى الشُّرُوطِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمَوْصُولَ هُنَا أَعْرَبَهُ خَبَرًا عَنْ أُولَئِكَ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ فَلَا يُخَفَّفُ خَبَرًا عَنِ الْمَوْصُولِ، إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، وَلَا يَسْرِي لِلْمُبْتَدَأِ الشَّرْطِيَّةُ مِنَ الْمَوْصُولِ الْوَاقِعِ خَبَرًا عَنْهُ. وَجُوِّزَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً، وَالَّذِينَ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وفلا يخفف خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ، وَالَّذِينَ وَخَبَرُهُ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ. قِيلَ: وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى عَائِدٍ، لِأَنَّ الَّذِينَ هُمْ أُولَئِكَ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ وَقَعَتْ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رَابَطٍ، إِلَّا إِنْ كَانَتْ نَفْسَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْمَعْنَى، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ الرَّابِطِ. وَقَدْ أَخْبَرْتَ عَنْ أُولَئِكَ بِالْمُبْتَدَأِ الْمَوْصُولِ وَبِخَبَرِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الرَّابِطِ. وَلَيْسَ نَظِيرَ مَا مَثَّلَ بِهِ مِنَ قَوْلِهِ: هَذَا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، لأن زيد مُنْطَلِقٌ خَبَرَانِ عَنْ هَذَا، وَهُمَا مُفْرَدَانِ، أَوْ يَكُونُ زَيْدٌ بَدَلًا مِنْ هَذَا، وَمُنْطَلِقٌ خَبَرًا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا مُبْتَدَأً، وَزَيْدٌ مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَمُنْطَلِقٌ خَبَرًا عَنْ زَيْدٍ، وَيَكُونَ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنْ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الرَّابِطِ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ هُنَا رَابِطٌ، لَمَا جَازَ هَذَا الْإِعْرَابُ، لِأَنَّ الَّذِينَ مَخْصُوصٌ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، فَلَا يُشْبِهُ اسْمَ الشَّرْطِ، إِذْ يَزُولُ الْعُمُومُ بِاخْتِصَاصِهِ، وَلِأَنَّ صِلَةَ الَّذِينَ مَاضِيَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَمَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْفَاءِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا.
وَالتَّخْفِيفُ هُوَ التَّسْهِيلُ، وَقَدْ حُمِلَ نَفْيُ التَّخْفِيفِ عَلَى الِانْقِطَاعِ، وَحُمِلَ أَيْضًا عَلَى التَّشْدِيدِ. وَالْأَوْلَى جملة عَلَى نَفْيِ التَّخْفِيفِ بِالِانْقِطَاعِ، أَوْ بِالتَّقْلِيلِ مِنْهُ، أَوْ فِي وَقْتٍ، أَوْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلْمَاهِيَّةِ، فَيَسْتَلْزِمُ نَفْيَ أَشْخَاصِهَا وَصُوَرِهَا. وَالظَّاهِرُ مِنَ النَّفْيِ بِلَا، وَالْكَثِيرُ فِيهَا أَنَّهُ نَفْيٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَقَدْ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَفْيَ التَّخْفِيفِ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيَا بِنُقْصَانِ الْجِزْيَةِ، وَكَذَلِكَ نَفْيُ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَعْنَى نَفْيِ النَّصْرِ:
أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ عَذَابِ اللَّهِ.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِعْلِيَّةً وَتَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، فَيَكُونَ هُمْ مَرْفُوعًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:
474
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ وَيُحَسِّنُهُ كَوْنُهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: فَلا يُخَفَّفُ، وَهُوَ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، إِذْ لَوْلَا تَقَدُّمُ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لَكَانَ الْأَرْجَحُ الرَّفْعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَا لَيْسَتْ مِمَّا تَطْلُبُ الْفِعْلَ، لَا اخْتِصَاصًا وَلَا أَوْلَوِيَّةً، فَتَكُونُ كَانَ وَالْهَمْزَةُ خِلَافًا لِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ السَّيِّدِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْفِعْلِ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَا، أَوْلَى مِنَ الِابْتِدَاءِ، وَبِنَاءَ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ أَوْلَى مِنْ بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ، إِلَّا إِنْ جُعِلَ الْفَاعِلُ عَامًّا، فَيَكُونُ وَلَا هُمْ يَنْصُرُهُمْ أَحَدٌ، فَكَانَ يُفَوِّتُ بِذَلِكَ اخْتِتَامَ الْفَوَاصِلِ بِمَا اخْتُتِمَتْ بِهِ قَبْلُ وَبَعْدُ، وَيُفَوِّتُ الْإِيجَازَ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يُفِيدُ ذَلِكَ، أَعْنِي الْعُمُومَ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الكريمة أخبار اللَّهِ تَعَالَى، أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِلَى ذِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، وَبِالْقَوْلِ الْحَسَنِ لِلنَّاسِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّهُمْ نَقَضُوا الْمِيثَاقَ بِتَوَلِّيهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ، وَأَنَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ، وَلَا يُخْرِجُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَقَرُّوا وَالْتَزَمُوا ذَلِكَ. فَكَانَ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ الْأَوَامِرَ، وَالْمِيثَاقُ الثَّانِي يَتَضَمَّنُ النَّوَاهِيَ، لِأَنَّ التَّكَالِيفَ الْإِلَهِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَكَانَ الْبَدْءُ بِالْأَوَامِرِ آكَدَ، لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ أَفْعَالًا، وَالنَّوَاهِي تَتَضَمَّنُ تُرُوكًا، وَالْأَفْعَالُ أَشَقُّ مِنَ التُّرُوكِ. وَكَانَ مِنَ الْأَوَامِرِ الْأَمْرُ بِإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، وَهُوَ رَأْسُ الْإِيمَانِ، إِذْ مُتَعَلِّقُهُ أَشْرَفُ الْمُتَعَلِّقَاتِ، فَكَانَ الْبَدْءُ بِهِ أَوْلَى. ثُمَّ نَعَى عَلَيْهِمُ الْتِبَاسَهُمْ بِمَا نُهُوا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِخْبَارُهُ أَنَّهُمْ خَالَفُوا فِي الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، لِأَنَّ فِعْلَ الْمَنْهِيَّاتِ أَقْبَحُ مِنْ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ، لِأَنَّهَا تُرُوكٌ كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ قَرَّعَهُمْ بِمُخَالَفَةِ نَوَاهِي اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مُسْتَعِينُونَ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، بَلْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَنَاقُضَ آرَائِهِمْ وَسُخْفَ عُقُولِهِمْ، بِفِدَاءِ مَنْ أَتَى إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ، مَعَ أَنَّهُمْ هُمُ السَّبَبُ فِي إِخْرَاجِهِمْ وَأَسْرِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَحْرِيمِ إِخْرَاجِهِمْ، وَبِذِكْرِ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ. هَذَا مَعَ أَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْكُفْرَ بِبَعْضٍ، وَالْإِيمَانَ بِبَعْضٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْجَزَاءَ لِفَاعِلِ ذَلِكَ هُوَ الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا، وَأَشَدُّ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفُلُ عَمَّا عَمِلُوهُ، فَيُجَازِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى مَنْ تَحَلَّى بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ، وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ، هُوَ قَدِ اشْتَرَى عَاجِلًا تَافِهًا بِآجِلٍ جَلِيلٍ، وَآثَرَ فَانِيًا مُكَدَّرًا عَلَى بَاقٍ صَافٍ. وَأَنَّ نَتِيجَةَ هَذَا الشِّرَاءِ أَنْ لَا يُخَفَّفَ عَنْهُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا يَجِدُوا نَاصِرًا يَدْفَعُ عَنْهُمْ سُوءَ الْعِقَابِ. لَقَدْ خَسِرُوا تِجَارَةً، وَبُدِّلُوا بِالنَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
475
وَالْحِجَارَةُ. وَإِذَا كَانَ التَّخْفِيفُ قَدْ نُفِيَ، فَالرَّفْعُ أَوْلَى. وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى؟.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٧ الى ٩٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)
476
قَفَوْتُ الْأَثَرَ: اتَّبَعْتُهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَجِيءَ الْإِنْسَانُ تَابِعًا لِقَفَا الَّذِي اتَّبَعَهُ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ لِمُطْلَقِ الِاتِّبَاعِ، وَإِنْ بَعُدَ زَمَانُ الْمَتْبُوعِ مِنْ زَمَانِ التَّابِعِ. وَقَالَ أُمَيَّةُ:
قَالَتْ لِأُخْتٍ لَهُ قُصِّيهِ عَنْ جُنُبٍ وَكَيْفَ تَقْفُو وَلَا سَهْلٌ وَلَا جَدَدُ
الرُّسُلُ: جَمْعُ رَسُولٍ، وَلَا يَنْقَاسُ فُعُلٌ فِي فَعَوْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَتَسْكِينُ عَيْنِهِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالتَّحْرِيكُ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ. عِيسَى: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَمٌ لَا يُصْرَفُ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، وَوَزْنُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: فِعْلَى، وَالْيَاءُ فِيهِ مُلْحَقَةٌ بِبَنَاتِ الْأَرْبَعَةِ، بِمَنْزِلَةِ يَاءِ مِعْزَى، يَعْنِي بِالْيَاءِ الْأَلِفَ، سَمَّاهَا يَاءً لِكِتَابَتِهِمْ إِيَّاهَا يَاءً. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَيْسَتْ لِلتَّأْنِيثِ، كَالَّتِي فِي ذِكْرَى، بِدَلَالَةِ صَرْفِهِمْ لَهُ فِي النَّكِرَةِ. وَذَهَبَ الحافظ أبو عمر، وعثمان بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ فِي الْقِرَاءَاتِ، وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الصَّيْرَفِيُّ وَغَيْرُهُ، إِلَى أَنَّ وَزْنَهُ فِعْلَلٌ، وَرَدَّ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ البَاذَشِ بِأَنَّ الْيَاءَ وَالْوَاوَ لَا يَكُونَانِ أصلا في بنات الأربعة. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ أَعْجَمِيَّةٌ، وَكُلُّ أَعْجَمِيٍّ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ، فَالنَّحْوِيُّونَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى أَحْكَامِهِ فِي التَّصْرِيفِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعَرَبِيِّ، فَعِيسَى مِنْ هَذَا الْبَابِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَيْسِ: وَهُوَ بَيَاضٌ يُخَالِطُهُ شُقْرَةٌ، فَغَيْرُ مُصِيبٍ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ الْعَرَبِيَّ لَا يَدْخُلُ الْأَسْمَاءَ الْأَعْجَمِيَّةَ. مَرْيَمُ، بِاللِّسَانِ السِّرْيَانِيِّ، مَعْنَاهُ: الْخَادِمُ، وَسُمِّيَتْ بِهِ أُمُّ عِيسَى، فَصَارَ عَلَمًا، فَامْتَنَعَ الصَّرْفُ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ.
وَمَرْيَمُ، بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ: مِنَ النِّسَاءِ، كَالزِّيرِ: مِنَ الرِّجَالِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ وَالزِّيرُ: الَّذِي يُكْثِرُ خِلْطَةَ النِّسَاءِ وَزِيَارَتَهُنَّ، وَالْيَاءُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ، كَالرِّيحِ، إِذْ هُمَا مِنَ الزَّوْرِ وَالرُّوحِ، فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللِّسَانَيْنِ. وَوَزْنُ مَرْيَمَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مَفْعَلٌ، لِأَنَّ فَعْيَلًا، بِفَتْحِ الْفَاءِ، لَمْ يَثْبُتْ فِي الْأَبْنِيَةِ، كَمَا ثَبَتَ نَحْوُ: عَثْيَرٍ وَعَلْبَبٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ أَثْبَتَ بَعْضُ النَّاسِ فَعْيَلًا، وَجَعَلَ مِنْهُ: ضَهْيَدًا، اسْمُ مَوْضِعٍ، وَمَدْيَنَ، إِذَا جَعَلْنَا مِيمَهُ أَصْلِيَّةً، وَضَهْيَاءَ مَقْصُورَةً مَصْرُوفَةً، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا تَحِيضُ، وَقِيلَ: الَّتِي لَا ثَدْيَ لَهَا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: ضَهْيَاةٌ وَضَهْيَاءَةٌ، بِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُهَا مِنْ ضَأْهَأَتْ: أَيْ شَابَهَتْ، لِأَنَّهَا أَشْبَهَتِ الرَّجُلَ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: أَمَّا ضَهْيَدٌ وَعَثْيَرٌ فَمَصْنُوعَانِ، فَلَا يُجْعَلَانِ دَلِيلًا عَلَى إِثْبَاتِ فَعْيَلٍ. انْتَهَى. وَصِحَّةُ حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي مَرْيَمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ نَحْوُ: مَزْيَدٍ. الْبَيِّنُ: الْوَاضِحُ، بَانَ: وَضَحَ وَظَهَرَ. أَيَّدَ: فعل
477
تأييد، أَوْ أَيَّدَ: أَفْعَلَ إِئْيَادًا، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْأَيْدِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ. وَقَدْ أَبْدَلُوا فِي أَفْعَلَ مِنْ يَائِهِ جِيمًا، قَالُوا: أَجَدُّ، أَيْ قَوِيٌّ، كَمَا أَبْدَلُوا يَاءَ يَدٍ، قَالُوا: لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ جَدَى الدَّهْرِ، يُرِيدُونَ يَدَ الدَّهْرِ، وَهُوَ إِبْدَالٌ لَا يطرد. والأصل في آية أءية، وَصُحِّحَتِ الْعَيْنُ كَمَا صُحِّحَتْ فِي أَغْيَلَتْ، وَهُوَ تَصْحِيحٌ شَاذٌّ إِلَّا فِي فِعْلِ التَّعَجُّبِ، فَتَقُولُ: مَا أَبْيَنَ! وَمَا أَطْوَلَ! وَرَآهُ أَبُو زَيْدٍ مَقِيسًا، وَلَوْ أُعِلَّ عَلَى حَدِّ أُقِّتَتْ وَأُحِّدَتْ، فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْعَيْنِ عَلَى الْفَاءِ، وَحُذِفَتِ الْعَيْنُ، لَوَجَبَ أَنْ تَنْقَلِبَ الْفَاءُ وَاوًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، كَمَا انْقَلَبَتْ فِي أَوَادِمَ جَمْعُ آدَمَ عَلَى أَفَاعِلَ، ثُمَّ تَنْقَلِبُ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. فَلَمَّا أَدَّى الْقِيَاسُ إِلَى إِعْلَالِ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ، رُفِضَ وَصُحِّحَتِ الْعَيْنُ. الرُّوحُ، مِنَ الْحَيَوَانِ: اسْمٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْحَيَاةُ، قَالَهُ الرَّاغِبُ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ وَفِي النَّفْسِ، أَهُمَا مِنَ الْمُشْتَرَكِ أَمْ مِنَ الْمُتَبَايِنِ؟
وَفِي مَاهِيَّةِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ، وقد صنف في ذلك. الْقُدُسُ: الطَّهَارَةُ، وَقِيلَ: الْبَرَكَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَدِّسُ لَكَ «١»، الرَّسُولُ، فَعُولٌ بِمَعْنَى: الْمَفْعُولِ، أَيِ الْمُرْسَلُ، وَهُوَ قَلِيلٌ، وَمِنْهُ: الْحَلُوبُ، وَالرَّكُوبُ، بِمَعْنَى: الْمَحْلُوبِ وَالْمَرْكُوبِ. تَهْوَى: تُحِبُّ وَتَخْتَارُ، مَاضِيهِ عَلَى فَعِلَ، وَمَصْدَرُهُ الْهَوَى. غُلْفٌ: جَمْعُ أَغْلَفَ، كَأَحْمَرَ وَحُمْرٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَفْقَهُ، أَوْ جَمْعُ غِلَافٍ، وَهُوَ الْغِشَاءُ، فَيَكُونُ أَصْلُهُ التَّثْقِيلَ، فَخُفِّفَ. اللَّعْنُ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، يُقَالُ: شَأْوٌ لَعِينٌ، أَيْ بَعِيدٌ، وَقَالَ الشَّمَّاخُ:
ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ
الْمَعْرِفَةُ: الْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمُفْرَدَاتِ، وَيَسْبِقُهُ الْجَهْلُ، بِخِلَافِ أَصْلِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالنَّسَبِ، وَقَدْ لَا يَسْبِقُهُ الْجَهْلُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُوصَفِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَعْرِفَةِ، وَوُصِفَ بِالْعِلْمِ.
بِئْسَ: فِعْلٌ جُعِلَ لِلذَّمِّ، وَأَصْلُهُ فَعِلَ، وَلَهُ وَلِنِعْمَ بَابٌ مَعْقُودٌ فِي النَّحْوِ. الْبَغْيُ: الظُّلْمُ، وَأَصْلُهُ الْفَسَادُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَغَى الْجُرْحُ: فَسَدَ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ شِدَّةُ الطَّلَبِ، وَمِنْهُ مَا نَبْغِي، وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:
أَنْشَدَ وَالْبَاغِي يُحِبُّ الْوِجْدَانْ قَلَائِصًا مُخْتَلِفَاتِ الْأَلْوَانْ
وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الزَّانِيَةُ بَغِيًّا، لِشِدَّةِ طَلَبِهَا لِلزِّنَا، الْإِهَانَةُ: الْإِذْلَالُ، وَهَانَ هَوَانًا: لَمْ يُحْفَلْ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى الذُّلِّ، وَهُوَ كَوْنُ الْإِنْسَانِ لَا يُؤْبَهُ بِهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَرَاءَ، مِنَ الظُّرُوفِ الْمُتَوَسِّطَةِ التَّصَرُّفِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى: قُدَّامَ، وَبِمَعْنَى: خَلْفَ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فيه. الخالص:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٠.
478
الَّذِي لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ، يُقَالُ: خَلَصَ يَخْلُصُ خُلُوصًا. تَمَنَّى: تَفَعَّلَ مِنَ الْمُنْيَةِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُشْتَهَى، وَقَدْ يَكُونُ الْمُتَمَنَّى بِاللِّسَانِ بِمَعْنَى: التِّلَاوَةِ، وَمِنْهُ: تَمَنَّى عَلَى زَيْدٍ مِنْهُ حَاجَةً، وَجَدَ: مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْإِصَابَةِ وَالْعِلْمِ وَالْغِنَى وَالْحَرَجِ، وَيَخْتَلِفُ بِالْمَصَادِرِ: كَالْوِجْدَانِ وَالْوَجْدِ وَالْمَوْجِدَةِ. الْحِرْصُ: شِدَّةُ الطَّلَبِ. الْوِدُّ: الْمَحَبَّةُ لِلشَّيْءِ وَالْإِيثَارُ لَهُ، وَفِعْلُهُ: وَدَّ وَهُوَ عَلَى فَعَلَ يَفْعَلُ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: وَدِدْتُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ كَسْرُ الْوَاوِ، إِذْ يَكُونُ فَعِلَ يَفْعَلُ، وَفَكُّ الْإِدْغَامِ فِي قَوْلِهِ:
مَا فِي قُلُوبِهِمْ لَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ ضَرُورَةٌ. عَمَّرَ: التَّضْعِيفُ فِيهِ لِلنَّقْلِ، إِذْ هُوَ مِنْ عَمَّرَ الرَّجُلُ: أَيْ طَالَ عُمْرُهُ، وَعَمَّرَهُ اللَّهُ: أَطَالَ عُمْرَهُ، وَالْعُمْرُ: مُدَّةُ الْبَقَاءِ. الْأَلْفُ: عَشْرٌ مِنَ الْمِئِينَ، وَقَدْ يُتَجَاوَزُ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى الشَّيْءِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ مِنَ الْأُلْفَةِ، إِذْ هُوَ مَا لَفَّ أَنْوَاعَ الْأَعْدَادِ، إِذِ الْعَشَرَاتُ مَا لَفَّ الْآحَادَ، وَالْمِئُونَ مَا لَفَّ الْعَشَرَاتِ، وَالْأَلْفُ مَا لَفَّ الْمِئِينَ. الزَّحْزَحَةُ: الْإِزَالَةُ وَالتَّنْحِيَةُ عَنِ الْمَقَرِّ.
بَصِيرٌ: فَعِيلٌ مِنْ بَصُرَ بِهِ إِذَا رَآهُ، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ، ثُمَّ يَتَجَوَّزُ بِهِ فَيُطْلَقُ عَلَى بَصَرِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْعِلْمُ. بَصِيرٌ بِكَذَا: أَيْ عَالِمٌ بِهِ.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ اللَّامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَنْ تَكُونَ جَوَابَ قَسَمٍ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ إِيتَاءَ مُوسَى الْكِتَابَ هُوَ نِعْمَةٌ لَهُمْ، إِذْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ وَشَرَائِعُهُمْ. ثُمَّ قَابَلُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ، وَذَلِكَ جَرَى عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ عَادَتِهِمْ، إِذْ قَدْ أُمِرُوا بِأَشْيَاءَ وَنُهُوا عَنْ أَشْيَاءَ، فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَبْلَهَا. وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: الْإِنْزَالُ، لِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ آتَيْنَاهُ: أَفْهَمْنَاهُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَنْبَاءِ وَالْقَصَصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ آتَيْنَا مُوسَى عِلْمَ الْكِتَابِ، أَوْ فَهْمَ الْكِتَابِ.
وَمُوسَى: هُوَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْكِتَابُ هُنَا:
التَّوْرَاةُ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، إِذْ قُرِنَ بِمُوسَى وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَآتَيْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ عِنْدَ السُّهَيْلِيِّ، وَمُوسَى هُوَ الثَّانِي عِنْدَهُ.
وَقَفَّيْنا: هَذِهِ الْيَاءُ أَصْلُهَا الْوَاوُ، إِلَّا أَنَّهَا مَتَى وَقَعَتْ رَابِعَةً أُبْدِلَتْ يَاءً، كَمَا تَقُولُ:
غَزَيْتُ مِنَ الْغَزْوِ. وَالتَّضْعِيفُ الَّذِي فِي قَفَّيْنَا لَيْسَ لِلتَّعْدِيَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ لِلتَّعْدِيَةِ لَكَانَ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، لِأَنَّ قَفَوْتَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ. تَقُولُ: قَفَوْتُ زَيْدًا، أَيْ تَبِعْتُهُ، فَلَوْ جَاءَ عَلَى
479
التَّعْدِيَةِ لَكَانَ: وَقَفَّيْنَاهُ مِنْ بَعْدِهِ الرُّسُلَ، وَكَوْنُهُ لَمْ يجىء كَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً فِي الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي جَاءَ مَحْذُوفًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ «١»، وَلَكِنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى جِئْنَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَجِئْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ، يَقْفُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَمِنْ فِي: مِنْ بَعْدِهِ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يُحْكَى أَنَّ مُوسَى لَمْ يَمُتْ حتى نبىء يُوشَعُ. بِالرُّسُلِ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أَثَرِ مُوسَى رُسُلًا وَهُمْ: يُوشَعُ، وَشَمْوِيلُ، وَشَمْعُونُ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَشَعْيَا، وَأَرْمَيَا، وَعُزَيْرٌ، وَحَزْقِيلُ، وَإِلْيَاسُ، وَالْيَسْعُ وَيُونُسُ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَغَيْرُهُمْ. والباء في بالرسل متعلقة بِقَفَّيْنَا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ الْخَاصِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، لِمَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ بُعِثُوا مِنْ بَعْدِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّقْفِيَةُ مَعْنَوِيَّةً، وَهِيَ كَوْنُهُمْ يَتَّبِعُونَهُ فِي الْعَمَلِ بِالتَّوْرَاةِ وَأَحْكَامِهَا، وَيُأْمَرُونَ بِاتِّبَاعِهَا وَالْبَقَاءِ عَلَى الْتِزَامِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالرُّسُلِ بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: بِتَسْكِينِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَوَافَقَهُمَا أَبُو عَمْرٍو إِنْ أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعٍ نَحْوُ: رُسْلِهِمْ وَرُسْلِكُمْ وَرُسْلِنَا، اسْتُثْقِلَ تَوَالِي أَرْبَعِ مُتَحَرِّكَاتٍ، فَسُكِّنَ تَخْفِيفًا.
وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ: أَضَافَ عِيسَى إِلَى أُمِّهِ رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ فِيمَا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ.
الْبَيِّناتِ: وَهِيَ الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ مُعْجِزَةٍ أُوتِيَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: الْإِنْجِيلُ. وَقِيلَ: الْحُجَجُ الَّتِي أَقَامَهَا اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ.
وَقِيلَ: إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَالْإِخْبَارُ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ: سَامُ بْنُ نُوحٍ، وَالْعَازِرُ، وَابْنُ الْعَجُوزِ، وَبِنْتُ الْعِشَارِ، وَمِنَ الطَّيْرِ: الْخُفَّاشُ، فَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ عِيسَى، بَلْ هُوَ صُورَةٌ، وَاللَّهُ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ. وَقِيلَ: كَانَ قَبْلَهُ، فَوَضَعَ عِيسَى عَلَى مِثَالِهِ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا اخْتُصَّ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الطَّيْرِ أَشَدَّ خَلْقًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَحْمُ كُلُّهُ. وَأَجْمَلَ اللَّهُ ذِكْرَ الرُّسُلِ، وَفَصَّلَ ذِكْرَ عِيسَى، لِأَنَّ مَنْ قَبْلَهُ كَانُوا مُتَّبِعِينَ شَرِيعَةَ مُوسَى، وَأَمَّا عِيسَى فَنَسَخَ شَرْعُهُ كَثِيرًا مِنْ شَرْعِ مُوسَى.
وَأَيَّدْناهُ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلَى وَزْنِ فَعَّلْنَاهُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْأَعْرَجُ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَحُسَيْنٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَأْيَدْنَاهُ، عَلَى وَزْنِ: أَفْعَلْنَاهُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَمَّا الْمَدُّ فَمَعْنَاهُ الْقُوَّةُ، وَأَمَّا الْقَصْرُ فَالتَّأْيِيدُ وَالنَّصْرُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا بِمَعْنَى قَوَّيْنَاهُ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْأَيْدِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ. بِرُوحِ الْقُدُسِ:
(١) سورة الحديد: ٥٧/ ٢٧.
480
قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِضَمِّ الْقَافِ وَالدَّالِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: وَابْنُ كَثِيرٍ: بِسُكُونِ الدَّالِ حَيْثُ وَقَعَ، وَفِيهِ لُغَةُ فَتْحِهَا. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: الْقُدُّوسُ، بِوَاوٍ. وَالرُّوحُ هُنَا: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي كَانَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْإِنْجِيلُ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ رُوحًا، قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «١» قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ الرُّوحُ الَّتِي نَفَخَهَا تَعَالَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ «اهْجُ قُرَيْشًا وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ»
، وَمَرَّةً
قَالَ لَهُ: «وَجِبْرِيلُ مَعَكَ».
انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالُوا: وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ «٢». وَقَالَ حسان:
وجبريل رسول الله فِينَا وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَتَسْمِيَةُ جِبْرِيلَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى جِسْمِهِ الرُّوحَانِيَّةُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحْيَا بِهِ الدِّينُ، كَمَا يَحْيَا الْبَدَنُ بِالرُّوحِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِإِنْزَالِ الْوَحْيِ، أَوْ لِتَكْوِينِهِ رُوحًا مِنْ غَيْرِ وِلَادَةٍ. وَتَأْيِيدُ اللَّهِ عِيسَى بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِإِظْهَارِ حُجَّتِهِ وَأَمْرِ دِينِهِ، أَوْ لِدَفْعِ الْيَهُودِ عَنْهُ، إِذْ أَرَادُوا قَتْلَهُ، أَوْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ. وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ: بِالرُّوحِ الْمُقَدَّسَةِ، قَالَ: كَمَا يُقَالُ حَاتِمُ الْجُودِ، وَرَجُلُ صِدْقٍ. وَوَصَفَهَا بالقدس كَمَا قَالَ: وَرُوحٌ مِنْهُ، فَوَصَفَهُ بِالِاخْتِصَاصِ وَالتَّقْرِيبِ لِلْكَرَامَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْقُدُسِ أَنَّهُ الطَّهَارَةُ أَوِ الْبَرَكَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ: الْقُدُسُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْقُدُّوسِ. قَالُوا:
وَإِطْلَاقُ الرُّوحِ عَلَى جِبْرِيلَ وَعَلَى الْإِنْجِيلِ وَعَلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الرُّوحَ هُوَ الرِّيحُ الْمُتَرَدِّدُ فِي مَخَارِقِ الْإِنْسَانِ فِي مَنَافِذِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مَا كَانَتْ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ كُلًّا مِنْهَا أُطْلِقَ الرُّوحُ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الرُّوحَ سَبَبٌ لِلْحَيَاةِ، فَجِبْرِيلُ هُوَ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْقُلُوبِ بِالْعُلُومِ، وَالْإِنْجِيلُ سَبَبٌ لِظُهُورِ الشَّرَائِعِ وَحَيَاتِهَا، وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ سَبَبٌ لِأَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ. وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَالرُّوحِ أَتَمُّ، وَلِأَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ فِيهِ أَظْهَرُ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ أَيَّدْنَاهُ: قَوَّيْنَاهُ وَأَعَنَّاهُ، وَإِسْنَادُهَا إِلَى جِبْرِيلَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَى الْإِنْجِيلِ وَالِاسْمِ الْأَعْظَمِ مَجَازٌ. وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ عِيسَى بِجِبْرِيلَ مِنْ آكَدِ وُجُوهِ الِاخْتِصَاصِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَشَّرَ مَرْيَمَ بِوِلَادَتِهِ، وتولد
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٥٢.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ١١٠.
481
عِيسَى بِنَفْخِهِ، وَرَبَّاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَكَانَ يَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ، وَكَانَ مَعَهُ حَيْثُ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ.
أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ: الْهَمْزَةُ أَصْلُهَا لِلِاسْتِفْهَامِ، وَهِيَ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. وَالْفَاءُ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَاعْتُنِيَ بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ فَقُدِّمَ، وَالْأَصْلُ فَأَكُلَّمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ، بَلْ يَكُونُ الْعَطْفُ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، آتَيْنَاكُمْ مَا آتَيْنَاكُمْ. فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ مِنْ تَكْذِيبِ فَرِيقٍ وَقَتْلِ فَرِيقٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كُلَّمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها «١»، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالنَّاصِبُ لَهَا قوله: اسْتَكْبَرْتُمْ. وَالْخِطَابُ فِي جَاءَكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ كَانُوا عَلَى طَبْعٍ وَاحِدٍ مِنْ سُوءِ الْأَخْلَاقِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ، وَالشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ فِيمَا أَتَوْهُمْ بِهِ، أَوْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَسِيَاقُ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ إِلَى مَنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من أَبْنَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ رَاضُونَ بِفِعْلِهِمْ، وَالرَّاضِي كَالْفَاعِلِ. وَقَدْ كَذَّبُوا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَسَقَوْهُ السُّمَّ لِيَقْتُلُوهُ، وَسَحَرُوهُ. وَبِمَا:
مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: جَاءَكُمْ، وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَا تَهْوَاهُ. وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْهَوَى فِيمَا لَيْسَ بِحَقٍّ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأُسْنِدَ الْهَوَى إِلَى النَّفْسِ، وَلَمْ يُسْنَدْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، فَكَانَ يَكُونُ بِمَا لَا تَهْوَوْنَ إِشْعَارًا بِأَنَّ النَّفْسَ يُسْنَدُ إِلَيْهَا غَالِبًا الْأَفْعَالُ السَّيِّئَةُ، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «٢»، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ «٣»، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ «٤». اسْتَكْبَرْتُمْ: اسْتَفْعَلَ هُنَا: بِمَعْنَى تَفَعَّلَ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي اسْتَفْعَلَ.
وَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِبْرَ بِأَنَّهُ سَفَهُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ.
وَالْمَعْنَى قِيلَ: اسْتَكْبَرْتُمْ عَنْ إِجَابَتِهِ احْتِقَارًا لِلرَّسُولِ. أَوِ اسْتِبْعَادًا لِلرِّسَالَةِ، وَفِي ذَلِكَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ طَبِيعَةِ الِاسْتِكْبَارِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النَّقَائِصِ وَنَتِيجَةُ الْإِعْجَابِ. وَهُوَ نَتِيجَةُ الْجَهْلِ بِالنَّفْسِ الْمُقَارِنِ لِلْجَهْلِ بِالْخَالِقِ، وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ بِتَكَرُّرِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا اسْتِكْبَارٌ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِالتَّكَلُّفِ وَالتَّفَعُّلِ، لِذَلِكَ لَا أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ بِذَلِكَ كُبَرَاءَ عُظَمَاءَ، بَلْ يَتَفَعَّلُونَ ذَلِكَ وَلَا يُبَلِّغُونَ حَقِيقَتَهُ، لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمُحَالٌ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا غيره حقيقة.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٥٣.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٣٠.
(٤) سورة يوسف: ١٢/ ١٨.
482
فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: اسْتَكْبَرْتُمْ، فَنَشَأَ عَنِ الِاسْتِكْبَارِ مُبَادَرَةُ فَرِيقٍ مِنَ الرُّسُلِ بِالتَّكْذِيبِ فَقَطْ، حَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى قَتْلِهِ، وَفَرِيقٍ بِالْقَتْلِ إِذَا قَدَرُوا عَلَى قَتْلِهِ. وَتَهَيَّأَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيُضَمَّنُ أَنَّ مَنْ قَتَلُوهُ فَقَدْ كَذَّبُوهُ. وَاسْتَغْنَى عَنِ التَّصْرِيحِ بِتَكْذِيبِهِ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَذَكَرَ أَقْبَحَ أَفْعَالِهِمْ مَعَهُ، وَهُوَ قَتْلُهُ. وَأَجَازَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ أَنْ يَكُونَ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَأَيَّدْناهُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَفَكُلَّمَا مَعَ مَا بَعْدَهُ فَصْلًا بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَالْأَظْهَرُ فِي تَرْتِيبِ الْكَلَامِ الْأَوَّلُ، وَهَذَا أَيْضًا مُحْتَمَلٌ، وَأُخِّرَ الْعَامِلُ وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ ليتواخى رؤوس الْآيِ، وَثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَفَرِيقًا مِنْهُمْ كَذَّبْتُمْ، وَبَدَأَ بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الشَّرِّ، وَلِأَنَّهُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ: الْمُكَذَّبِ وَالْمَقْتُولِ.
وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ: وَأَتَى بِفِعْلِ الْقَتْلِ مُضَارِعًا، إِمَّا لكونه حكيت أنه الْحَالُ الْمَاضِيَةُ، إِنْ كَانَتْ أُرِيدَتْ فَاسْتُحْضِرَتْ فِي النُّفُوسِ، وَصُوِّرَ حَتَّى كَأَنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِهِ مَشْرُوعٌ فِيهِ، وَلِمَا فيه من مناسبة رؤوس الْآيِ الَّتِي هِيَ فَوَاصِلُ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُسْتَقْبَلًا، لِأَنَّهُمْ يَرُومُونَ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ سَحَرُوهُ وَسَمُّوهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي».
وَكَانَ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ عَادَتَهُمْ قَتْلُ أَنْبِيَائِهِمْ، لِأَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْمَكْتُوبَ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالنَّصْرِ لَهُ، يَرُومُونَ قَتْلَهُ. فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَقَدُّمُ عَهْدٍ مِنَ اللَّهِ؟ فَقَتْلُهُ عِنْدَهُمْ أَوْلَى.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: كَانُوا يَقْتُلُونَ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ، ثُمَّ تَقُومُ سُوقُهُمْ آخِرَ النَّهَارِ. وَرُوِيَ سَبْعِينَ نَبِيًّا، ثُمَّ تَقُومُ سُوقُ نَقْلِهِمْ آخِرَ النَّهَارِ.
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ: الضَّمِيرُ فِي قَالُوا عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا ذَلِكَ بُهْتًا وَدَفْعًا لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ وَظَهَرَتْ لَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَأَعْجَزَتْهُمْ عَنْ مُدَافَعَةِ الْحَقِّ الْمُعْجِزَاتُ. نَزَلُوا عَنْ رُتْبَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى رُتْبَةِ الْبَهِيمِيَّةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غُلْفٌ، بِإِسْكَانِ اللَّامِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُكُونِ اللَّامِ، أَهُوَ سُكُونٌ أَصْلِيٌّ فَيَكُونُ جَمْعَ أَغْلَفَ؟ أَمْ هُوَ سُكُونُ تَخْفِيفٍ فَيَكُونُ جَمْعَ غِلَافٍ؟ وَأَصْلُهُ الضَّمُّ، كَحِمَارٍ وَحُمُرٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُنَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّخْفِيفَ مِنَ التَّثْقِيلِ قَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَنَصَّ ابْنُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسْكِينُ فِي نَحْوِ: حُمُرٍ جَمْعَ حِمَارٍ، دُونَ ضَرُورَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، غُلُفٌ: بِضَمِّ اللَّامِ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهُوَ جَمْعُ غِلَافٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ جَمْعَ أَغْلَفَ،
483
لِأَنَّ تَثْقِيلَ فُعْلٍ الصَّحِيحِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. يُقَالُ غَلَّفْتُ السَّيْفَ: جَعَلْتُ لَهُ غِلَافًا. فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: غُلْفٌ بِالْإِسْكَانِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مَسْتُورَةٌ عَنِ الْفَهْمِ وَالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَلَيْهَا طَابَعٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: ذَوَاتُ غُلْفٍ، أَيْ عَلَيْهَا غُلْفٌ لَا تَصِلُ إِلَيْهَا الْمَوْعِظَةُ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: خُلِقَتْ غُلْفًا لَا تَتَدَبَّرُ وَلَا تَعْتَبِرُ. وَقِيلَ:
مَحْجُوبَةٌ عَنْ سَمَاعِ مَا تَقُولُ وَفَهْمِ مَا تَبَيَّنَ. وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْبُهْتِ وَالْمُدَافَعَةِ، حَتَّى يُسْكِتُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا مِنْهُمْ بِحَالِ قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ ذَمُّ أَنْفُسِهِمْ بِمَا لَيْسَ فِيهَا، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَسْبَابُ الدَّفْعِ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِضَمِّ اللَّامِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ، أَقَامُوا الْعِلْمَ مُقَامَ شَيْءٍ مُجَسَّدٍ، وَجَعَلُوا الْمَوَانِعَ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ غُلْفًا لَهُ، لِيُسْتَدَلَّ بِالْمَحْسُوسِ عَلَى الْمَعْقُولِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ، فَلَوْ كَانَ مَا تَقُولُهُ حَقًّا وَصِدْقًا لوعته، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَنَا غُلْفٌ، أَيْ مَمْلُوءَةٌ عِلْمًا، فَلَا تَسَعُ شَيْئًا، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ الْمُغَلَّفَ لَا يَسَعُ غِلَافُهُ غَيْرَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ دِينِهِمْ وَشَرِيعَتِهِمْ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ دَوَامَ مِلَّتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ لِصَلَابَتِهَا وَقُوَّتِهَا، تَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا غَيْرُ مَا فِيهَا، كَالْغِلَافِ الَّذِي يَصُونُ الْمُغَلَّفَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَا بِغَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَالْغِلَافِ الْخَالِي لَا شَيْءَ فِيهِ.
بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ: بَلْ: لِلْإِضْرَابِ، وَلَيْسَ إِضْرَابًا عَنِ اللَّفْظِ الْمَقُولِ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يُضْرَبُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْإِضْرَابُ عَنِ النِّسْبَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ قُلُوبَهُمْ غُلْفٌ، لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ، مَفْطُورَةً لِإِدْرَاكِ الصَّوَابِ، فَأَخْبَرُوا عَنْهَا بِمَا لَمْ تُخْلَقْ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لُعِنُوا بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَجَازَاهُمْ بِالطَّرْدِ الَّذِي هُوَ اللَّعْنُ الْمُتَسَبِّبُ عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ. فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ: انْتِصَابُ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَإِيمَانًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، التَّقْدِيرُ: فَيُؤْمِنُونَهُ، أَيِ الْإِيمَانَ فِي حَالِ قِلَّتِهِ. وَجَوَّزُوا انْتِصَابَهُ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَزَمَانًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ «١». وَجَوَّزُوا أَيْضًا انْتِصَابَهُ بِيُؤْمِنُونَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ فَقَلِيلٌ يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ لَمَّا أَسْقَطَ الْبَاءَ تَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَعْمَرٍ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الضَّمِيرُ فِي يُؤْمِنُونَ، الْمَعْنَى: أَيْ فَجَمْعًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، أي المؤمن منهم
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٧٠.
484
قَلِيلٌ، وَقَالَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْقِلَّةَ إِمَّا لِلنِّسْبَةِ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ، أَوْ لِلزَّمَانِ، أَوْ لِلْمُؤْمَنِ بِهِ، أَوْ لِلْفَاعِلِ. فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَصْدَرِ: تَكُونُ الْقِلَّةُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَّصِفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ حَقِيقَةً. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ: تَكُونُ الْقِلَّةُ فِيهِ لِكَوْنِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَلِيلًا، وَهُوَ زَمَانُ الِاسْتِفْتَاحِ، ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمَنِ بِهِ: تَكُونُ الْقِلَّةُ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا تَوْحِيدُ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، إِذْ هُمْ مُجَسِّمُونَ، وَقَدْ كَذَّبُوا بِالرَّسُولِ وَبِالتَّوْرَاةِ. وَبِالنِّسْبَةِ لِلْفَاعِلِ: تَكُونُ الْقِلَّةُ لِكَوْنِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالرَّسُولِ قَلِيلًا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: الْمَعْنَى أَيْ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، يُقَالُ قَلَّ مَا يَفْعَلُ، أَيْ مَا يَفْعَلُ أَصْلًا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنِ الْمَعْنَى فَمَا يُؤْمِنُونَ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ:
مَذْهَبُ قَتَادَةَ أَنَّ الْمَعْنَى: فَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، وَأَنْكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ رَفْعُ قَلِيلٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِلَّةُ بِمَعْنَى الْعَدَمِ، وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ قَلِيلًا يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ صَحِيحٌ، لَكِنْ فِي غَيْرِ هَذَا التَّرْكِيبِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ قَلِيلًا انْتَصَبَ بِالْفِعْلِ الْمُثْبَتِ، فَصَارَ نَظِيرَ: قُمْتُ قَلِيلًا، أَيْ قِيَامًا قَلِيلًا. وَلَا يَذْهَبْ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّكَ إِذَا أَتَيْتَ بِفِعْلٍ مُثْبَتٍ، وَجَعَلْتَ قَلِيلًا مَنْصُوبًا نَعْتًا لِمَصْدَرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، يَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْمُثْبَتِ الْوَاقِعِ عَلَى صِفَةِ أَوْ هَيْئَةِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ الْمُثْبَتِ رَأْسًا وَعَدَمِ وُقُوعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَإِنَّمَا الَّذِي نَقَلَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْقِلَّةِ النَّفْيُ الْمَحْضُ فِي قَوْلِهِمْ: أَقَلُّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقَلَّ رَجُلٌ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقَلَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، وَقَلِيلٌ مِنَ الرِّجَالِ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقَلِيلَةٌ مِنَ النِّسَاءِ تَقُولُ ذَلِكَ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَحَمْلُ الْقِلَّةِ هُنَا عَلَى النَّفْيِ الْمَحْضِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الَمَهْدَوِيُّ مِنْ مَذْهَبِ قَتَادَةَ، وَإِنْكَارِ النَّحْوِيِّينَ ذَلِكَ، وَقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ كذلك للزم رفع قليل. فَقَوْلُ قَتَادَةَ صَحِيحٌ، وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ، لِأَنَّ قَتَادَةَ إِنَّمَا بَيَّنَ الْمَعْنَى وَشَرَحَهُ، وَلَمْ يُرِدْ شَرْحَ الْإِعْرَابِ فَيَلْزَمَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا انْتِصَابُ قَلِيلًا عِنْدَهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُؤْمِنُونَ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: فَيُؤْمِنُونَ قَوْمًا قَلِيلًا، أَيْ فِي حَالَةِ قِلَّةٍ. وَهَذَا مَعْنَاهُ:
فَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا يُؤْمِنُونَ، زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ، دَخَلَتْ بَيْنَ الْمَعْمُولِ وَالْعَامِلِ، نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: رُوَيْدٌ مَا الشِّعْرُ، وَخُرِّجَ مَا أَنِفَ خَاطِبٌ بِدَمٍ. وَلَا يَجُوزُ فِي مَا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ رَفْعُ قَلِيلٍ حَتَّى يَنْعَقِدَ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَالْأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِيمَانًا قَلِيلًا يُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى مَصْدَرِهِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الزَّمَانِ، وَعَلَى الْهَيْئَةِ، وَعَلَى الْمَفْعُولِ، وَعَلَى الْفَاعِلِ، وَلِمُوَافَقَتِهِ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. وَأَمَّا قَوْلُ الْعَرَبِ: مَرَرْنَا بِأَرْضٍ قَلِيلًا
485
مَا تُنْبِتُ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ قَلِيلًا انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ أَرْضٍ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: قَلِيلًا إِنْبَاتُهَا، أَيْ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وليست ما زائدة، وقليلا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: تُنْبِتُ قَلِيلًا، إِذْ كَانَ التَّرْكِيبُ الْمُقَدَّرُ هَذَا لما صح أَنْ يُرَادَ بِالْقَلِيلِ النَّفْيُ الْمَحْضُ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: تُنْبِتُ قَلِيلًا، لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِنْبَاتِ رَأْسًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا: ضَرَبْتُ ضَرْبًا قَلِيلًا، لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ مَا ضَرَبْتُ أَصْلًا.
وَلَمَّا جاءَهُمْ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ حِينَ كَانَتْ غَطَفَانُ تُقَاتِلُهُمْ وَتَهْزِمُهُمْ، أَوْ حِينَ كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنَ الْعَرَبِ أَذًى كَثِيرًا، أَوْ حِينَ حَارَبَهُمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فَغَلَبَتْهُمْ. كِتابٌ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَإِسْنَادُ الْمَجِيءِ إِلَيْهِ مَجَازٌ. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَوَصْفُهُ بمن عِنْدِ اللَّهِ جَدِيرٌ أَنْ يُقْبَلَ، وَيُتَّبَعَ مَا فِيهِ، وَيُعْمَلَ بِمَضْمُونِهِ، إِذْ هُوَ وَارِدٌ مِنْ عِنْدِ خَالِقِهِمْ وَإِلَهِهِمُ الَّذِي هُوَ نَاظِرٌ فِي مَصَالِحِهِمْ. مُصَدِّقٌ: صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، وَقُدِّمَتِ الْأَوْلَى عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِكَيْنُونَتِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ آكَدُ، وَوَصْفَهُ بالتصديق ناشىء عَنْ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. لَا يُقَالُ: إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِجَاءَهُمْ، فَلَا يَكُونَ صِفَةً لِلْفَصْلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِمَا هُوَ مَعْمُولٌ لِغَيْرِ أَحَدِهِمَا. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ مُصَدِّقًا، وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ كِتَابٌ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ بِلَا شَرْطٍ، فَقَدْ تَخَصَّصَتْ بِالصِّفَةِ، فَقَرُبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ. لِما مَعَهُمْ: هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَتَصْدِيقُهُ إِمَّا بِكَوْنِهِمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَوْ بِمَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ مَنْ ذِكْرِ بَعْثِ الرَّسُولِ وَنَعْتِهِ.
وَكانُوا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جَاءَهُمْ، فَيَكُونَ جَوَابُ لَمَّا مُرَتَّبًا عَلَى الْمَجِيءِ وَالْكَوْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً، أَيْ وَقَدْ كَانُوا، فَيَكُونَ الْجَوَابُ مُرَتَّبًا عَلَى الْمَجِيءِ بِقَيْدٍ فِي مَفْعُولِهِ، وَهُمْ كَوْنُهُمْ يَسْتَفْتِحُونَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانُوا أليست مَعْطُوفَةً عَلَى الْفِعْلِ بَعْدَ لَمَّا، وَلَا حَالًا لِأَنَّهُ قَدَّرَ جَوَابَ لَمَّا مَحْذُوفًا قَبْلَ تَفْسِيرِهِ يَسْتَفْتِحُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَكَانُوا، جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَلَمَّا. مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ الْمَجِيءِ، وَبُنِيَ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى مَعْرِفَةٍ.
يَسْتَفْتِحُونَ: أَيْ يَسْتَحْكِمُونَ، أَوْ يَسْتَعْلِمُونَ، أَوْ يَسْتَنْصِرُونَ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ.
يَقُولُونَ، إِذَا دَهَمَهُمُ الْعَدُوُّ: اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، الَّذِي نَجِدُ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ وَلَمَّا الْأُولَى، فَذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ إِلَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَدَّرَهُ نَحْوَ: كَذَّبُوا بِهِ وَاسْتَهَانُوا بِمَجِيئِهِ،
486
وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ: كَفَرُوا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ كَفَرُوا بِهِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى قَرِيبٌ فِي ذَلِكَ. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ، جَوَابُ لَمَّا الْأُولَى، وَكَفَرُوا، جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ. وَهُوَ عِنْدَهُ نَظِيرُ قَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ «١».
قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ هُنَا لَيْسَتْ بِنَاسِقَةٍ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا. وَذَهَبَ الْمُبَّرِدُ إِلَى أَنَّ جَوَابَ لَمَّا الْأُولَى هُوَ: كَفَرُوا بِهِ، وَكُرِّرَ لَمَّا لِطُولِ الْكَلَامِ، وَيُقَيِّدُ ذَلِكَ تَقْرِيرًا لِلذَّنْبِ وَتَأْكِيدًا لَهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ كَانَ يَكُونُ أَحْسَنَ لَوْلَا أَنَّ الْفَاءَ تَمْنَعُ مِنَ التَّأْكِيدِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْفَرَّاءِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ لِسَانِهِمْ، لَمَّا جَاءَ زَيْدٌ، فَلَمَّا جَاءَ خَالِدٌ أَقْبَلَ جَعْفَرٌ، فَهُوَ تَرْكِيبٌ مَفْقُودٌ فِي لِسَانِهِمْ فَلَا نُثْبِتُهُ، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ كذبون، وَيَكُونُ التَّكْذِيبُ حَاصِلًا بِنَفْسِ مَجِيءِ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ فِيهِ وَلَا رَوِيَّةٍ، بَلْ بَادَرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ، أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذَا قَاتَلُوهُمْ، أَوْ يَفْتَحُونَ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُونَهُمْ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ قَدْ قَرُبَ وَقْتُ بَعْثِهِ، فَكَانُوا يُخْبِرُونَ بِذَلِكَ.
فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا: وَمَا سَبَقَ لَهُمْ تَعْرِيفُهُ لِلْمُشْرِكِينَ. كَفَرُوا بِهِ: سَتَرُوهُ وَجَحَدُوهُ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي ذَمِّهِمْ، إِذْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْمَعْرُوفُ لَهُمْ، الْمُسْتَقِرُّ فِي قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ مَنْ أَعْلَمُوهُمْ بِهِ كِيَانَهُ وَنَعْتَهُ يَعْمِدُونَ إِلَى سَتْرِهِ وَجَحْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «٢». وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ: مَا مُلَخَّصُهُ الِاسْتِفْتَاحُ، طَلَبُ الْفَتْحِ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: إِلَهِيٌّ، وَهُوَ النُّصْرَةُ بِالْوُصُولِ إِلَى الْعُلُومِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الثَّوَابِ، وَمِنْهُ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ «٣»، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ. وَدُنْيَوِيٌّ، وَهُوَ النُّصْرَةُ بِالْوُصُولِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَمِنْهُ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ «٤». فَمَعْنَى يَسْتَفْتِحُونَ: أَيْ يَعْلَمُونَ خَبَرَهُ مِنَ النَّاسِ مَرَّةً، وَيَسْتَنْبِطُونَ ذِكْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ مَرَّةً. وَقِيلَ: يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ بِذِكْرِهِ الظَّفَرَ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّا نُنْصَرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الِاسْتِفْتَاحِ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا عَرَفُوا أَنَّهُ الْكِتَابُ، لِأَنَّهُ أَتَى بِلَفْظِ مَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّ مَا قَدْ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ صِفَاتِ مَنْ يَعْقِلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا عَرَفُوهُ مِنَ الْحَقِّ، فَيَنْدَرِجَ فِيهِ مَعْرِفَةُ نُبُوَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وكتابه، وما تضمنه.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٨.
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ١٤.
(٣) سورة الفتح: ٤٨/ ١. [.....]
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ٤٤.
487
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ: لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ جَائِيًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَكَذَّبُوهُ وَسَتَرُوا مَا سَبَقَ لَهُمْ عِرْفَانُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِهَانَةً بِالْمُرْسِلِ وَالْمُرْسَلِ بِهِ. قَابَلَهُمُ اللَّهُ بِالِاسْتِهَانَةِ وَالطَّرْدِ، وَأَضَافَ اللَّعْنَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَلْعُونُ حَقِيقَةً. قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ «١» ؟ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً «٢». ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِاللَّعْنَةِ حَتَّى جَعَلَهَا مُسْتَعْلِيَةً عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ شَيْءٌ جَاءَهُمْ مِنْ أَعْلَاهُمْ، فَجَلَّلَهُمْ بِهَا، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ اللَّعْنَةِ وَسَبَبِهَا، وَهِيَ الْكُفْرُ، كَمَا قَالَ قَبْلُ: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، وَأَقَامَ الظَّاهِرَ مُقَامَ الْمُضْمَرِ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَوْ تَكُونُ لِلْعُمُومِ، فَيَكُونُ هَؤُلَاءِ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، وَيَكُونَ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَنَعْنِي بِالْجِنْسِ الْعُمُومَ، وَتَخَيُّلُهُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعِلَّةِ عَلَى أَفْرَادِهِ لَيْسَ فِيهَا بَعْضُ الْأَفْرَادِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَهِيَ دَلَالَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ. وَإِذَا كَانَتْ دَلَالَةً مُتَسَاوِيَةً، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ أَوَّلُ وَلَا أَسْبَقُ مِنْ شَيْءٍ.
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بِئْسَ، وَأَمَّا مَا فَاخْتُلِفَ فِيهَا، أَلَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ أَمْ لَا. فَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّهُ بِجُمْلَتِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ رُكِّبَ، كَحَبَّذَا، هَذَا نَقْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ عَنْهُ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: قَالَ الْفَرَّاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَعَ بِئْسَ بِمَنْزِلَةِ كُلَّمَا، فَظَاهِرُ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ أَنَّ مَا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَهَا مَوْضِعًا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَاخْتُلِفَ، أَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ أَمْ رَفْعٌ؟ فَذَهَبَ الْأَخْفَشُ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَهَا نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الصِّفَةِ، وَفَاعِلُ بِئْسَ مُضْمَرٌ مُفَسَّرٌ بِمَا، التَّقْدِيرُ: بِئْسَ هُوَ شَيْئًا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ يَكْفُرُوا هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ، وَبِهِ قَالَ الْفَارِسِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفًا، وَاشْتَرَوْا صِفَةً لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ: بِئْسَ شَيْئًا شَيْءٌ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ يَكْفُرُوا بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ أَنْ يَكْفُرُوا. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، مِنْ أَنَّ مَا مَوْضِعُهَا نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَثَمَّ مَا أُخْرَى مَحْذُوفَةٌ مَوْصُولَةٌ هِيَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ، التَّقْدِيرُ: بِئْسَ شَيْئًا الَّذِي اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. فَالْجُمْلَةُ بَعْدَ مَا الْمَحْذُوفَةِ صِلَةٌ لَهَا، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الإعراب. وأن يَكْفُرُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَدَلٌ، وَيَجُوزَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ
(١) سورة المائدة: ٥/ ٦٠.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٥٢.
488
مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ كُفْرُهُمْ. فَتَلَخَّصَ فِي قَوْلِ النَّصْبِ فِي الْجُمْلَةِ بَعْدَ مَا أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا هَذِهِ الَّتِي هِيَ تَمْيِيزٌ فَمَوْضِعُهَا نَصْبٌ، أَوْ صِلَةً لِمَا الْمَحْذُوفَةِ الْمَوْصُولَةِ فَلَا مَوْضِعَ لَهَا، أَوْ صِفَةً لِشَيْءٍ الْمَحْذُوفِ الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ فَمَوْضِعُهَا رفع، وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَهَا رَفْعٌ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلُ بِئْسَ، فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ، التَّقْدِيرُ: بِئْسَ الشَّيْءُ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ عَلَى هَذَا مَحْذُوفٌ، أَيْ شَيْءٌ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. وَعُزِيَ هَذَا الْقَوْلُ، أَعْنِي أَنَّ مَا مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ لَا مَوْصُولَةٌ، إِلَى الْكِسَائِيِّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ، فِيمَا نُقِلَ عَنْهُمَا: أَنَّ مَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَاشْتَرَوْا: صِلَةٌ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْفَارِسِيُّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَعَزَى ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى سِيبَوَيْهِ قَالَ: فَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: بِئْسَ الَّذِي اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا، كَقَوْلِكَ: بِئْسَ الرَّجُلُ زِيدٌ، وَمَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مَوْصُولَةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ وَهْمٌ عَلَى سِيبَوَيْهِ. وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى أَنَّ مَا وبعدها فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، التَّقْدِيرُ: بِئْسَ اشْتِرَاؤُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُعْتَرَضٌ، لِأَنَّ بِئْسَ لَا تَدْخُلُ عَلَى اسْمٍ مُعَيَّنٍ يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الضَّمِيرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَا قَالَهُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا إِذَا نُصَّ عَلَى أمر مَرْفُوعٌ بِبِئْسَ، أَمَّا إِذَا جَعَلَهُ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ، وَجَعَلَ فَاعِلَ بِئْسَ مُضْمَرًا وَالتَّمْيِيزَ مَحْذُوفًا، لَفُهِمَ الْمَعْنَى. التَّقْدِيرُ: بِئْسَ اشْتِرَاءٌ اشْتِرَاؤُهُمْ، فَلَا يَلْزَمُ الِاعْتِرَاضُ، لَكِنْ يُبْطِلُ هَذَا الْقَوْلَ الثَّانِيَ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي بِهِ عَلَى مَا، وَمَا الْمَصْدَرِيَّةُ لَا يَعُودُ عَلَيْهَا ضَمِيرٌ، لِأَنَّهَا حَرْفٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، إِذِ الْأَخْفَشُ يَزْعُمُ أَنَّهَا اسْمٌ.
وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ تَصْحِيحًا وَإِبْطَالًا يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
اشْتَرَوْا هُنَا: بِمَعْنَى بَاعُوا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ: شَرَى وَاشْتَرَى: بِمَعْنَى بَاعَ، هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ إِنَّ الِاشْتِرَاءَ هُنَا عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ، إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْعِقَابِ، أَتَى بِأَعْمَالٍ يَظُنُّ أَنَّهَا تُخَلِّصُهُ، وَكَأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِهَا. فَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِيمَا أَتَوْا بِهِ أَنَّهُ يُخَلِّصُهُمْ، ظَنُّوا أَنَّهُمُ اشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ، فَذَمَّهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ مِنَ الْأَوَّلِ، يَعْنِي بِالْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى بَاعَ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ، يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ المراد ليس اشتراؤهم أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَخْلُصُونَ مِنَ الْعِقَابِ، بَلْ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ، لِكَوْنِهِ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَاتَّضَحَ أَنَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ أَوْلَى.
أَنْ يَكْفُرُوا: تَقَدَّمَ أَنَّ مَوْضِعَهُ رَفْعٌ، إِمَّا، عَلَى أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالذَّمِّ عِنْدَ مَنْ
489
جَعَلَ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ غَيْرَ تَامٍّ، وَفِيهِ الْأَعَارِيبُ الَّتِي فِي الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ، إِذَا تَأَخَّرَ، أَهْوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ؟ وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ، فَيَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ. بِما أَنْزَلَ اللَّهُ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ. وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّفْخِيمِ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُضْمَرٌ، بَلْ أَظْهَرَ مَوْصُولًا بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أَنْزَلَ الْمُشْعِرُ بِأَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَنُسِبَ إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ، لِيَحْصُلَ التَّوَافُقُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بَيْنَ قَوْلِهِ: كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، إِذْ كَفَرُوا بِعِيسَى وَبِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَالْكُفْرُ بِهِمَا كُفْرٌ بِالتَّوْرَاةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْجَمِيعُ مِنْ قُرْآنٍ وَإِنْجِيلٍ وَتَوْرَاةٍ، لِأَنَّ الْكُفْرَ بِبَعْضِهَا كُفْرٌ بِكُلِّهَا. بَغْياً: أَيْ حَسَدًا، إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ظُلْمًا، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ يَكْفُرُوا، أَيْ كُفْرُهُمْ لِأَجْلِ الْبَغْيِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ عِلَّةُ اشْتَرَوْا، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ اشْتَرَوْا. وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَغَوْا بَغْيًا، وَحُذِفَ الْفِعْلُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ: أَنْ: مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ الْمُقَدَّرُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ بَغَوْا لِتَنْزِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ بَغْيًا عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَسَدًا عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ، أَيْ عَلَى مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مِنَ الْوَحْيِ، فَحُذِفَتْ عَلَى، وَيَجِيءُ الْخِلَافُ الَّذِي فِي أَنَّ وَأَنْ، إِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ مِنْهُمَا، أَهُمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَمْ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ؟ وَقِيلَ: أَنْ يُنَزِّلَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَا فِي قَوْلِهِ: بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَيْ بِتَنْزِيلِ اللَّهِ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ: جَمِيعَ الْمُضَارِعِ مُخَفَّفًا مِنْ أَنْزَلَ، إِلَّا مَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَشْدِيدِهِ، وَهُوَ فِي الْحِجْرِ، وَما نُنَزِّلُهُ «١»، إِلَّا أَنَّ أَبَا عَمْرٍو شَدَّدَ عَلَى أَنْ نُنَزِّلَ آيَةً فِي الْأَنْعَامِ، وَابْنُ كَثِيرٍ شَدَّدَ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ «٢»، وحَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً «٣»، وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ الْمُضَارِعَ حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ فَخَفَّفَا، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ «٤»، فِي آخِرِ لُقْمَانَ، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ «٥»، فِي الشُّورَى. وَالْهَمْزَةُ
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٢١.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٢.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٣.
(٤) سورة لقمان: ٣١/ ٣٤.
(٥) سورة الشورى: ٤٢/ ٢٨.
490
وَالتَّشْدِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلتَّعْدِيَةِ. وَقَدْ ذَكَرُوا مُنَاسَبَاتٍ لِقِرَاءَاتِ الْقُرَّاءِ وَاخْتِيَارَاتِهِمْ وَلَا تَصِحُّ.
مِنْ فَضْلِهِ: مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْفَضْلُ هُنَا الْوَحْيُ وَالنُّبُوَّةُ. وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ مِنْ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، فَيَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، أَيْ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ فَضْلَهُ.
عَلى مَنْ يَشاءُ. عَلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِيُنَزِّلُ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ يَشَاءُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ حَسَدُوهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَعِزُّ النُّبُوَّةِ مِنْ يَعْقُوبَ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي إِسْحَاقَ، فَخُتِمَ فِي عِيسَى، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ نَبِيٌّ غير نبينا محمد صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخُتِمَتِ النُّبُوَّةُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَعَدِمُوا العز والفضل. ومِنْ هُنَا مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ نَكِرَةٌ موصوفة. ويَشاءُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: صِلَةٌ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَصِفَةٌ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَهِيَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَالضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ أَوِ الْمَوْصُوفِ مَحْذُوفٌ تقديره يشاؤه. مِنْ عِبادِهِ: جَارٌّ وَمَجْرُورٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، تَقْدِيرُهُ كَائِنًا مِنْ عِبَادِهِ، وَأَضَافَ الْعِبَادَ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ «١»، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا «٢».
فَباؤُ: أَيْ مَضَوْا، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى باؤوا. بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ: أَيْ مُتَرَادِفٍ مُتَكَاثِرٍ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَشْدِيدِ الْحَالِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: غَضَبَانِ مُعَلَّلَانِ بِقِصَّتَيْنِ: الْغَضَبُ الْأَوَّلُ: لِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَالثَّانِي: لِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
أَوِ الْأَوَّلُ: كُفْرُهُمْ بِالْإِنْجِيلِ، وَالثَّانِي: كُفْرُهُمْ بِالْقُرْآنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوِ الْأَوَّلُ: كُفْرُهُمْ بِعِيسَى، وَالثَّانِي: كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ، أَوِ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَوْلُهُمْ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمْ، وَالثَّانِي: كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْكَافِرِينَ لِلْعَهْدِ، وَأَقَامَ الْمُظْهَرَ مُقَامَ الْمُضْمَرِ إِشْعَارًا بِعِلَّةِ كَوْنِ الْعَذَابِ الْمُهِينِ لَهُمْ، إِذْ لَوْ أَتَى، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ، أَوْ تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعُمُومِ، فَيَنْدَرِجُونَ فِي الْكَافِرِينَ. وَوَصَفَ الْعَذَابَ بِالْإِهَانَةِ، وَهِيَ الْإِذْلَالُ، قَالَ تَعَالَى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «٣».
وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ، فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً فَقَالَ: «فَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ».
فَهَذَا الْعَذَابُ إِنَّمَا هُوَ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْخُلُودَ خُلُودًا لَا يَنْقَطِعُ، أَوْ لِشِدَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَلَى تَكَبُّرِهِمْ عن اتباع
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣.
(٣) سورة النور: ٢٤/ ٢.
491
الْحَقِّ. وَقَدِ احْتَجَّ الْخَوَارِجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ كَافِرٌ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ تَعْذِيبُهُ، وَاحْتَجَّ بِهَا الْمُرْجِئَةُ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُعَذَّبُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: الْإِخْبَارُ عَمَّنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ آبَاؤُهُمْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاضِيَ بِالشَّيْءِ كَفَاعِلِهِ، وَأَنَّهُمْ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لَهُمْ وَمُعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُمْ، فَهُمْ مِنْهُمْ. آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُطْلَقٌ فَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ كِتَابٍ. قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا: يُرِيدُونَ التَّوْرَاةَ، وَمَا جَاءَهُمْ مِنَ الرِّسَالَاتِ عَلَى لِسَانِ مُوسَى، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ هُنَا لِلْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُنْزِلُ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لِجَرَيَانِهِ فِي قَوْلِهِ: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، فَحُذِفَ إِيجَازًا إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَذُمُّوا عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، فَأَجَابُوا بِأَنْ آمَنُوا بِمُقَيَّدٍ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ عَامٌّ، فَلَمْ يُطَابِقْ إِيمَانُهُمُ الْأَمْرَ.
وَيَكْفُرُونَ: جُمْلَةٌ اسْتُؤْنِفَ بِهَا الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ، أَوْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، الْعَامِلُ فِيهَا قَالُوا:
أَيْ وَهُمْ يَكْفُرُونَ. بِما وَراءَهُ، أَيْ بِمَا سِوَاهُ، وَبِهِ فُسِّرَ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ»
، وفَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ «٢»، أَيْ بِمَا بَعْدَهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَيْ وَيَكْفُرُونَ بِمَا بَعْدَ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، أَوْ بِمَا وَرَاءَهُ، أَيْ بِبَاطِنِ مَعَانِيهَا الَّتِي وَرَاءَ أَلْفَاظِهَا، وَيَكُونُ إِيمَانُهُمْ بِظَاهِرِ لَفْظِهَا. وَهُوَ الْحَقُّ، هُوَ: عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، أَوْ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْإِنْجِيلِ، لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. مُصَدِّقاً: حال مؤكدة، إِذْ تَصْدِيقُ الْقُرْآنِ لَازِمٌ لَا يَنْتَقِلُ. لِما مَعَهُمْ: هُوَ التَّوْرَاةُ، أَوِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، لِأَنَّهُمَا أُنْزِلَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْقُرْآنِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ مَا وَافَقَ التَّوْرَاةَ، لَمْ يُصَدِّقْ بِهَا. وَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، فَالْإِيمَانُ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ مُتَنَاقِضٌ. قُلْ: أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ، وَقُلْ يَا مَنْ يُرِيدُ جِدَالَهُمْ. فَلِمَ: الْفَاءُ: جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، التَّقْدِيرُ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ؟ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالتَّوْرَاةِ وَاسْتِحْلَالَ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَقَوْلُكُمْ: إِنَّكُمْ آمَنْتُمْ بِالتَّوْرَاةِ كَذِبٌ وَبُهْتٌ، لَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ. وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَتْ أَلِفُهَا لِأَجْلِ لَامِ الْجَرِّ. وَيَقِفُ الْبَزِّيُّ بِالْهَاءِ فَيَقُولُ: فَلِمَهْ، وَغَيْرُهُ يَقِفُ: فَلِمَ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا الْوَقْفُ إلا للاختبار، أو
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٤.
(٢) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٧.
492
لِانْقِطَاعِ النَّفَسِ. وَجَاءَ يَقْتُلُونَ بِصُورَةِ الْمُضَارِعِ، وَالْمُرَادُ الْمَاضِي، إِذِ الْمَعْنَى: قُلْ فَلِمَ قَتَلْتُمْ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ، فَدَلَّ عَلَى تَقَدُّمِ الْقَتْلِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفَائِدَةُ سَوْقِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي مَعْنَى الْمَاضِي الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَمِرٌّ.
أَلَا تَرَى أَنَّ حَاضِرِي محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ لَمَّا كَانُوا رَاضِينَ بِفِعْلِ أَسْلَافِهِمْ، بَقِيَ لَهُمْ مِنْ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ جُزْءٌ، وَفِي إِضَافَةِ أَنْبِيَاءَ إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لَهُمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَنْ يُعَظَّمَ أَجَلَّ تَعْظِيمٍ، وَأَنْ يُنْصَرَ، لَا أَنْ يُقْتَلَ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ مَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُجَامِعُ قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ، أَيْ مَا اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. قِيلَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ إِنْ شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَلِمَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ؟ وَيَكُونُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ قَدْ كُرِّرَ مَرَّتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، لَكِنْ حُذِفَ الشَّرْطُ مِنَ الْأَوَّلِ وَأُبْقِيَ جَوَابُهُ وَهُوَ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ؟ وَحُذِفَ الْجَوَابُ مِنَ الثَّانِي وَأُبْقِيَ شَرْطُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنْ كُنْتُمْ: شَرْطٌ، وَالْجَوَابُ مُتَقَدِّمٌ. وَلَا يَتَمَشَّى قَوْلُهُ هَذَا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَقَدُّمَ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا أَبَا زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ وَالْمُبَرِّدَ مِنْهُمْ. وَمَعْنَى مُؤْمِنِينَ: أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ، أَوْ مُتَحَقِّقِينَ بِالْإِيمَانِ صَادِقِينَ فِيهِ، أَوْ مُؤْمِنِينَ بِزَعْمِكُمْ. وَأَجْرَى هَذَا الْقَوْلَ مُجْرَى التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ بَدَا مِنْهُ مَا لَا يُنَاسِبُهُ: فَعَلْتَ كَذَا وَأَنْتَ عَاقِلٌ، أَيْ بِزَعْمِكَ.
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ: أَيْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَهِيَ الْوَاضِحَةُ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ. وَقِيلَ: التِّسْعُ، وَهِيَ: الْعَصَا، وَالسُّنُونَ، وَالْيَدُ، وَالدَّمُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ. وَهِيَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ «١». ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ، وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمَلِ، وَإِنَّمَا كُرِّرَتْ هُنَا لِدَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ اتِّخَاذَ الْعِجْلِ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ؟ بَلْ فِيهَا أَنْ يُفْرَدَ اللَّهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ الْمَعَاصِي، فَكَرَّرَ عِبَادَةَ الْعِجْلِ تَنْبِيهًا عَلَى عَظِيمِ جُرْمِهِمْ. وَلِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ قَبْلُ، أَعْقَبَهُ تَعْدَادُ النِّعَمِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ «٢»، وفَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ «٣». وَهُنَا أَعْقَبَهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ. ولأن في
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠١. [.....]
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٥٢.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٦٤.
493
قِصَّةِ الطُّورِ ذِكْرَ تَوَلِّيهِمْ عما أمروا به، من قَبُولِ التَّوْرَاةِ وَعَدَمِ رِضَاهُمْ بِأَحْكَامِهَا اخْتِيَارًا، حَتَّى أُلْجِئُوا إِلَى الْقَبُولِ اضْطِرَارًا، فَدَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. ثُمَّ فِي قِصَّةِ الطُّورِ تَذْيِيلٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ. وَالْعَرَبُ مَتَى أَرَادَتِ التَّنْبِيهَ عَلَى تَقْبِيحِ شَيْءٍ أَوْ تَعْظِيمِهِ، كَرَّرَتْهُ. وَفِي هَذَا التَّكْرَارِ أَيْضًا مِنَ الْفَائِدَةِ تِذْكَارُهُمْ بِتَعْدَادِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَنِقَمِهِ مِنْهُمْ، لِيَزْدَجِرَ الْأَخْلَافُ بِمَا حَلَّ بِالْأَسْلَافِ.
وَاسْمَعُوا أَيِ: اقْبَلُوا مَا سَمِعْتُمْ،
كَقَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ
، أَوِ اسْمَعُوا مُتَدَبِّرِينَ لِمَا سَمِعْتُمْ، أَوِ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا «١». لِأَنَّ فَائِدَةَ السَّمَاعِ الطَّاعَةُ، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ قَرِيبٌ. قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: مَعْنَى اسْمَعُوا: افْهَمُوا.
وَقِيلَ: اعْمَلُوا، وَوَجَّهَهُ أَنَّ السَّمْعَ يُسْمَعُ بِهِ، ثُمَّ يُتَخَيَّلُ، ثُمَّ يُعْقَلُ، ثُمَّ يُعْمَلُ بِهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتَضِي عَمَلًا. وَلَمَّا كَانَ السَّمَاعُ مُبْتَدَأً، وَالْعَمَلُ غَايَةً، وَمَا بَيْنَهُمَا وَسَائِطَ، صَحَّ أَنْ يُرَادَ بَعْضُ الْوَسَائِطِ، وَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْغَايَةُ. قالُوا: هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ، إِذْ لَوْ جَاءَ عَلَى الْخِطَابِ لَقَالَ: قُلْتُمْ سَمِعْنا وَعَصَيْنا: ظَاهِرُهُ أَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مَقُولَةٌ، وَنَطَقُوا بِذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي التَّعَنُّتِ وَالْعِصْيَانِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا إِذَا نَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ قَالُوا:
سَمِعْنا وَأَطَعْنا «٢»، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى الْكِتَابِ قَالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا. وَقِيلَ: الْقَوْلُ هُنَا مَجَازٌ، وَلَمْ يَنْطِقُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا شَيْئًا مِمَّا أُمِرُوا بِهِ، جُعِلُوا كَالنَّاطِقِينَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: يُعَبَّرُ بِالْقَوْلِ لِلشَّيْءِ عَمَّا يُفْهَمُ بِهِ مِنْ حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُطْقٌ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَمِعْنَا بِآذَانِنَا وَعَصَيْنَا بِقُلُوبِنَا، وَهَذَا رَاجِعٌ لِمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: قَالُوا سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَعَصَيْنَا أَمْرَكَ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ طَابَقَ قَوْلُهُ جَوَابَهُمْ؟ قُلْتُ: طَابَقَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَالَ لَهُمُ اسْمَعُوا، وَلْيَكُنْ سَمَاعُكُمْ سَمَاعَ تَقَبُّلٍ وَطَاعَةٍ، فَقَالُوا سَمِعْنَا وَلَكِنْ لَا سَمَاعَ طَاعَةٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّا لَا نَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِ الشَّيْءِ عَلَى ظَاهِرِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ. وَأُشْرِبُوا: عَطْفٌ عَلَى قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا. فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَالُوا، أَيْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ، قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا وَأُشْرِبْتُمْ، أَوْ عَطْفٌ مُسْتَأْنِفٌ لَا دَاخِلٌ فِي بَابِ الِالْتِفَاتِ، بَلْ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْهُمْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، أَوِ الْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ وَقَدْ أُشْرِبُوا وَالْعَامِلُ قَالُوا، وَلَا يَحْتَاجُ الْكُوفِيُّونَ إِلَى تَقْدِيرِ قَدْ فِي الْمَاضِي الْوَاقِعِ حَالًا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ. فِي قُلُوبِهِمُ: ذَكَرَ مكان الإشراب،
(١) سورة التغابن: ٦٤/ ١٦.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٤٦.
494
كَقَوْلِهِ: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ «١». الْعِجْلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافَيْنِ، أَيْ حُبَّ عِبَادَةِ الْعِجْلِ مِنْ قَوْلِكَ: أَشْرَبْتُ زَيْدًا مَاءً، وَالْإِشْرَابُ مُخَالَطَةُ الْمَائِعِ الْجَامِدَ، وَتُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ فِي اللَّوْنَيْنِ، قَالُوا: وَأَشْرَبْتُ الْبَيَاضَ حُمْرَةً، أَيْ خَلَطْتُهَا بِالْحُمْرَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ دَاخَلَهُمْ حُبُّ عِبَادَتِهِ، كَمَا دَاخَلَ الصَّبْغُ الثَّوْبَ، وَأَنْشَدُوا:
إِذَا مَا الْقَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شَيْءٍ فَلَا تَأْمَلْ لَهُ عَنْهُ انْصِرَافَا
وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: يُقَالُ أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّ كَذَا، أَيْ حَلَّ مَحَلَّ الشَّرَابِ وَمَازَجَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حُبِّ الْعِجْلِ بِالشُّرْبِ دُونَ الْأَكْلِ، لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يَتَغَلْغَلُ فِي الْأَعْضَاءِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى بَاطِنِهَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي فِي مَفَاصِلِي فَأَصْبَحَ لِي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بِهَا شُغْلُ
وَأَمَّا الطَّعَامُ فقالوا: هو مُجَاوِرٌ لَهَا، غَيْرُ مُتَغَلْغِلٍ فِيهَا، وَلَا يَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ مِنْهُ إِلَّا يَسِيرٌ، وَقَالَ:
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ
وَحَسُنَ حَذْفُ ذَيْنِكَ الْمُضَافَيْنِ، وَأُسْنِدَ الْإِشْرَابُ إِلَى ذَاتِ الْعِجْلِ مُبَالَغَةً كَأَنَّهُ بِصُورَتِهِ أُشْرِبُوهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحَذْفِ. وَقِيلَ: مَعْنَى أُشْرِبُوا: أَيْ شَدَّ فِي قُلُوبِهِمْ حُبُّ الْعِجْلِ لِشَغَفِهِمْ بِهِ، مِنْ أَشْرَبْتُ الْبَعِيرَ: إِذَا شَدَدْتَ حَبْلًا فِي عُنُقِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الشُّرْبِ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَرَدَ الْعِجْلَ بِالْمِبْرَدِ وَرَمَاهُ فِي الْمَاءِ وَقَالَ لَهُمُ: اشْرَبُوا، فَشَرِبَ جَمِيعُهُمْ. فَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْعِجْلَ خَرَجَتْ بُرَادَتُهُ عَلَى شَفَتَيْهِ، وَهَذَا قَوْلٌ يَرُدُّهُ قَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمُ.
وَرُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ تَبَيَّنَ لَهُمْ حُبُّ الْعِجْلِ أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ الْجُبْنُ.
وَبِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: وَأُشْرِبُوا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فُعِلَ بِهِمْ، وَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: جَاءَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِفَرْطِ وُلُوعِهِمْ بِعِبَادَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: مُعْجَبٌ بِرَأْيِهِ، أَوْ لِأَنَّ السَّامِرِيَّ وَإِبْلِيسَ وَشَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ الشُّرْبُ مَادَّةً لِحَيَاةِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ، نُسِبَ ذَلِكَ إِلَى الْمَحَبَّةِ، لِأَنَّهَا مَادَّةٌ لِجَمِيعِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَفْعَالِ. بِكُفْرِهِمْ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ هُوَ كُفْرُهُمُ السَّابِقُ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ، يَعْنُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِ، أَيْ مَصْحُوبًا بِكُفْرِهِمْ، فَيَكُونَ ذَلِكَ كُفْرًا عَلَى كفر.
(١) سورة النساء: ٤/ ١٠.
495
قُلْ يَا مُحَمَّدُ، أَوْ قُلْ يَا مَنْ يُجَادِلُهُمْ. بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي بِئْسَ، وَفِي الْمَذَاهِبِ فِي مَا، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: بِهُو إِيمَانُكُمْ، بِضَمِّ الْهَاءِ وَوَصْلِهَا بِوَاوٍ، وَهِيَ لُغَةٌ، وَالضَّمُّ فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ كُسِرَتْ فِي أَكْثَرِ اللُّغَاتِ لِأَجْلِ كَسْرَةِ الْبَاءِ، وَعَنَى بِإِيمَانِهِمُ الَّذِي زَعَمُوا فِي قَوْلِهِمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَأَضَافَ الْأَمْرُ إِلَى إِيمَانِهِمْ عَلَى طَرِيقِ التَّهَكُّمِ، كَمَا قَالَ أَصْحَابُ شُعَيْبٍ:
أصلواتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ؟ وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ صَاحِبُ إِيمَانِكُمْ، وَهُوَ إِبْلِيسُ. وَقِيلَ:
ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ إِيمَانُكُمُ الْبَاطِلُ، وَأَضَافَ: الْإِيمَانَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ إِيمَانًا غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ الْإِيمَانُ، قَالَهُ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ بَعْدَ مَا، فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً، فَالتَّقْدِيرُ: بِئْسَ شَيْئًا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعِصْيَانُ وَعِبَادَةُ الْعِجْلِ، فَيَكُونُ يَأْمُرُكُمْ صِفَةً لِلتَّمْيِيزِ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِئْسَ شَيْئًا شَيْءٌ يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ، فَيَكُونُ يَأْمُرُكُمْ صِفَةً لِلْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ الْمَحْذُوفِ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِئْسَ شَيْئًا مَا يَأْمُرُكُمْ، أَيِ الَّذِي يَأْمُرُكُمْ، فَيَكُونُ يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ. وَالْمَخْصُوصُ مُقَدَّرٌ بَعْدَ ذَلِكَ، أَيْ قَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا وَكَذَا. فَيَكُونُ مَا مَوْصُولَةً، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِئْسَ الشَّيْءُ شَيْءٌ يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ، فَيَكُونُ مَا تَامَّةً. وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لِمَا وَحْدَهَا مَوْضِعًا مِنَ الْإِعْرَابِ.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قيل: إن نافية، وَقِيلَ: شَرْطِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَشْكِيكٌ فِي إِيمَانِهِمْ، وَقَدْحٌ فِي صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ يَأْتِي الشَّرْطُ، وَالشَّارِطُ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى أَحَدِ الْجِهَتَيْنِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ «١»، وَقَدْ عَلِمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَالْقَائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، لَكِنَّهُ أَقَامَ حُجَّةً لِقِيَاسٍ بَيِّنٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ يُؤَوَّلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إِلَى نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ إِنْ كنتم مؤمنين فبئس ما يأمركم به إيمانكم. وقيل تَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَا تَقْتُلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَلَا تُكَذِّبُوا الرُّسُلَ، وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ. وَتَقْدِيرُ الْحَذْفِ الْأَوَّلِ أَعْرَبُ وَأَقْوَى.
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً: نَزَلَتْ فِيمَا حكاه ابن الجوزي عند ما قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقِ الْجَنَّةَ إِلَّا لِإِسْرَائِيلَ وَبَنِيهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ:
(١) سورة المائدة: ٥/ ١١٦.
496
سَبَبُ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً «١»، ونَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ «٢»، ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ «٣»، الْآيَاتِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ. وَالضَّمِيرُ فِي قُلْ، إِمَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَإِمَّا لِمَنْ يَنْبَغِي إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. وَفَسَّرُوا الدَّارَ الْآخِرَةَ بِالْجَنَّةِ، قَالُوا: وَذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى الْجَنَّةِ. قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً «٤». وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يُجْعَلُ لِهَؤُلَاءِ هُوَ الْجَنَّةُ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «٥». وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيْ نَعِيمُ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَحُظْوَتُهَا وَخَيْرُهَا، لِأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ هِيَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا. وَسُمِّيَتْ آخِرَةً لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الدُّنْيَا، أَوْ هِيَ آخِرُ مَا يُسْكَنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «٦». وَمَعْنَى: عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ هُمُ الْفاسِقُونَ «٧». وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالْعِنْدِيَّةِ هُنَا: الْمَكَانَةُ وَالْمَرْتَبَةُ وَالشَّرَفُ، لَا الْمَكَانُ. وَمَعْنَى خَالِصَةً: أَيْ مُخْتَصَّةً بِكُمْ، لاحظ فِي نَعِيمِهَا لِغَيْرِكُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ خَالِصَةً، فَقِيلَ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يَحْكِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ إِذْ ذَاكَ خَبَرُ كَانَتْ، وَيَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ هُوَ الْعَامِلَ فِي الْمَجْرُورِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ إِذْ ذَاكَ الْخَبَرَ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ مَعْنَى الْكَلَامِ بِهِ وَحْدَهُ. وَقَدْ وَهَمَ فِي ذَلِكَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، إِذْ قَالَا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ خَالِصَةً عَلَى الْحَالِ، وَعِنْدَ اللَّهِ خَبَرُ كَانَ. وَقِيلَ: انْتِصَابُ خَالِصَةً عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، فَيَجُوزُ فِي لَكُمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكَانَتْ، لِأَنَّ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَرْفُ الْجَرِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بخالصة. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْيِينِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَكُمْ، أَعْنِي نَحْوَ قَوْلِهِمْ: سَقْيًا لَكَ إِذْ تَقْدِيرُهُ:
لَكَ أَدْعُو.
مِنْ دُونِ النَّاسِ: مُتَعَلِّقٌ بِخَالِصَةٍ، وَدُونَ هُنَا لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَقَطْعِ الشَّرِكَةِ. تَقُولُ: هَذَا وَلِيٌّ دُونَكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ لَا حَقَّ فِيهِ لَكَ مَعِي وَلَا نَصِيبَ. وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ يَأْتِي لِمَعْنَى الِانْتِقَاصِ فِي الْمَنْزِلَةِ أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الْمِقْدَارِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْجِنْسُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ وَقَوْلِهِ: خَالِصَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ. وقيل:
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١١.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ١٨.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٨٠.
(٤) سورة القصص: ٢٨/ ٨٣.
(٥) سورة الأنعام: ٦/ ٣٢.
(٦) سورة النمل: ٢٧/ ٣.
(٧) سورة آل عمران: ٣/ ٨٢.
497
الْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا، وَيُطْلَقُ النَّاسُ، وَيُرَادُ بِهِ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى مَجَازٍ وَتَنْزِيلِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مَنْزِلَةَ الْجَمَاعَةِ. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ: أَيْ سَلُوهُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْقَلْبِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ تُمَنَّوْهُ بِقُلُوبِكُمْ وَاسْأَلُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، قَالَهُ قَوْمٌ. أَوْ فَسَلُوهُ بِقُلُوبِكُمْ عَلَى أَرْدَأِ الْحِزْبَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتُمَنَّوُا الْمَوْتَ، بِضَمِّ الْوَاوِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي مِثْلِ: اخْشَوُا الْقَوْمَ. وَيَجُوزُ الْكَسْرُ تَشْبِيهًا لِهَذِهِ الْوَاوِ بِوَاوِ: وَلَوِ اسْتَطَعْنَا، كَمَا شَبَّهُوا وَاوَ لَوْ بِوَاوِ اخْشَوْا، فَضَمُّوا، فَقَالُوا: لَوِ اسْتَطَعْنَا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ بِالْكَسْرِ، وَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزْدَادَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، أَنَّهُ قَرَأَ: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَحَرَّكَهَا بِالْفَتْحِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ، لِأَنَّ الضَّمَّةَ وَالْكَسْرَةَ فِي الْوَاوِ يُثْقِلَانِ. وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي عمرو:
واختلاس ضَمَّةِ الْوَاوِ.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَكُمْ دُونَ غَيْرِكُمْ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. وَعَلَّقَ تَمَنِّيَهُمْ عَلَى شَرْطٍ مَفْقُودٍ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ صَادِقِينَ، وَلَيْسُوا بِصَادِقِينَ فِي أَنَّ الْجَنَّةَ خَالِصَةٌ لَهُمْ دُونَ النَّاسِ، فَلَا يَقَعُ التَّمَنِّي: وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ التَّحَدِّي وَإِظْهَارُ كَذِبِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، اخْتَارَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَخْلُصَ مِنَ الْمَقَامِ فِي دَارِ الْأَكْدَارِ، وَأَنْ يَصِلَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ. كَمَا رُوِيَ عَمَّنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، كَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، وَحُذَيْفَةَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ الْمَوْتَ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ كَانَتْ تَخْتَارُ الشَّهَادَةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْتَنِي أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ».
لِمَا عَلِمَ مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ.
وَقَالَ، لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ مَنْ قُتِلَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ:
«يَا لَيْتَنِي غُودِرْتُ مَعَهُمْ فِي لِحْفِ الْجَبَلِ».
وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ قَالَ: حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ. وَعَنْ عَمَّارٍ، لَمَّا كَانَ بِصِفِّينَ قَالَ: غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّةَ، مُحَمَّدًا وَصَحْبَهُ.
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ بِغِلَالَةٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ: مَا هَذَا بِزِيِّ الْمُحَارِبِينَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا يُبَالِي أَبُوكَ، أَعَلَى الْمَوْتِ سَقَطَ، أَمْ عَلَيْهِ سَقَطَ الْمَوْتُ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يُنْشِدُ، وَهُوَ يُقَاتِلُ الرُّومَ:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا
وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا وَفِي قِصَّتَيْ قَتْلِ عُثْمَانَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِهِمَا الشَّهَادَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ جَاءَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالُوا لَهُ: نُقَاتِلُ عَنْكَ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَا، وَكَانَ لَهُ قَرِيبٌ مِنْ
498
أَلْفِ عَبْدٍ، فَشَهَرُوا سُيُوفَهُمْ لَمَّا هُجِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: من أعمد سَيْفَهُ فَهُوَ حُرٌّ. فَصَبَرَ حَتَّى قُتِلَ. وَأَمَّا سَعِيدٌ، فَإِنَّ الْمُوَكَّلِينَ بِهِ، لِمَا طَلَبَهُ الْحَجَّاجُ، لمَّا شَاهَدُوا مِنْ لِيَاذِ السِّبَاعِ بِهِ وَتَمَسُّحِهَا بِهِ، قَالُوا: لَا نَدْخُلُ فِي إِرَاقَةِ دَمِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ، قَالُوا لَهُ: طَلَبَكَ لِيَقْتُلَكَ، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ، وَنَحْنُ نَكُونُ فداءك. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الشَّهَادَةَ، وَقَدْ رَزَقَنِيهَا، وَاللَّهِ لَا بَرِحْتُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَغَصَّ كُلُّ إِنْسَانٍ بِرِيقِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ».
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ، وَأَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ مَنْ تَمَنَّاهُ مِنْهُمْ مَاتَ. فَفَعَلَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَعَلِمَ الْيَهُودُ صِدْقَهُ، فَأَحْجَمُوا عَنْ تَمَنِّيهِ فَرَقًا مِنَ اللَّهِ.
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ: هَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبِ قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «١»، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ الْجَنَّةَ خَالِصَةٌ لَهُ دُونَ النَّاسِ مِمَّنِ انْدَرَجَ تَحْتَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَمَنَّى الْمَوْتَ أَبَدًا، وَلِذَلِكَ كَانَ حَرْفُ النَّفْيِ هُنَا لَنْ الَّذِي قَدِ ادُّعِيَ فِيهِ أَنَّهُ يَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَبَدًا، عَلَى زَعْمِ مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ لِلتَّوْكِيدِ. وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ بِمَعْنَى لَا، فَيَكُونُ أَبَدًا إِذْ ذَاكَ مُفِيدًا لِاسْتِغْرَاقِ الْأَزْمَانِ.
وَيَعْنِي بِالْأَبَدِ هُنَا: مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ زَمَانِ أَعْمَارِهِمْ.
وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا قَالَ هُنَا: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ، وَفِي الْجُمُعَةِ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ «٢»، لِأَنَّ دَعْوَاهُمْ هُنَا أَعْظَمُ مِنْ دَعْوَاهُمْ هُنَاكَ، لِأَنَّ السَّعَادَةَ الْقُصْوَى فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تُرَادُ لِحُصُولِ الْأُولَى، وَلَنْ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ لا، فجعلها لنفي الْأَعْظَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ فِي (كِتَابِ التَّحْصِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِهِ: وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ارْتَفَعَتْ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ رَجُلٌ يَقُولُ لِقَوْمٍ حَدَّثَهُمْ بِحَدِيثٍ: دَلَالَةُ صِدْقِي، أَنْ أُحَرِّكَ يَدِي وَلَا يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يُحَرِّكَ يَدَهُ، فَيَفْعَلَ ذَلِكَ، فَيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا يُبْطِلَ دَلَالَتَهُ إِنْ حَرَّكُوا أَيْدِيَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ النَّازِلَةَ مِنْ مَوْتِ مَنْ تَمَنَّى الْمَوْتَ، إِنَّمَا كَانَتْ أَيَّامًا كَثِيرَةً عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ دُعَائِهِ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، انتهى
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٤. [.....]
(٢) سورة الجمعة: ٦٢/ ٧.
499
كَلَامُهُ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ، أَعْنِي قَوْلَ الَمَهْدَوِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ، مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ أَبَدًا ظَاهِرُهُ أَنْ يَسْتَغْرِقَ مدة أعمارهم، كما بيناه. وَهَلِ امْتِنَاعُهُمْ مِنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ، كَانَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ عَرَضَ عَلَى قَوْمِهِ أَمْرًا وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ فَرَدُّوهُ تَكْذِيبًا لَهُ، فَإِنَّ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ؟ أَوْ لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ؟ أَوْ لِصَرْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قِيلَ فِي عَدَمِ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بِالصِّرْفَةِ؟ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مُعَلَّلٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ. وَالَّذِي قَدَّمَتْهُ أَيْدِيِهِمْ: تَكْذِيبُهُمُ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَتْلُهُمْ إِيَّاهُمْ، وَقَوْلُهُمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «١»، وَقَوْلُهُمْ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً «٢»، وقولهم:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ «٣»، وَاعْتِدَاؤُهُمْ فِي السَّبْتِ، وَسَائِرُ الْكَبَائِرِ الَّتِي لَمْ تَصْدُرْ مِنْ أُمَّةٍ قَبْلَهُمْ وَلَا بَعْدَهُمْ. وَهَذَا التَّمَنِّي الَّذِي طُلِبَ مِنْهُمْ، وَنُفِيَ عَنْهُمْ، لَمْ يَقَعْ أَصْلًا مِنْهُمْ، إِذْ لَوْ وَقَعَ لَنُقِلَ، وَلَتَوَفَّرَتْ دَوَاعِي الْمُخَالِفِينَ لِلْإِسْلَامِ عَلَى نَقْلِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَقْوَالُ فِي تَفْسِيرِ التَّمَنِّي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَعْنِي بِهِ هُنَا الْعَمَلَ الْقَلْبِيَّ، لِأَنَّهُ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، فَلَا يُتَحَدَّى بِهِ، وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ الْقَوْلَ اللِّسَانِيَّ كَقَوْلِكَ: لَيْتَ الْأَمْرَ يَكُونُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لِقَائِلٍ ذَلِكَ: تَمَنَّى؟ وَتُسَمَّى لَيْتَ كَلِمَةَ تَمَنٍّ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَيْضًا أَنَّهُمْ قَالُوا: تَمَنَّيْنَا ذَلِكَ بِقُلُوبِنَا، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُمْ مِنَ الْإِخْبَارِ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا بِقُلُوبِهِمْ، كَوْنَهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ قَاوَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَشْيَاءَ لَا يُصَدِّقُونَهُمْ فِيهَا، مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَتَحْرِيفِ كِتَابِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَقُولُ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ. وَأَجَابَ: بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ مِنِ ادِّعَاءِ بُنُوَّةٍ وَمَحَبَّةٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ مَا جَعَلَتْهُ الْيَهُودُ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ، غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ، لَا يَزُولُ عَنْهُمْ خَوَّفُ الْخَاتِمَةِ. وَالْخَاطِئُ مِنْهُمْ مُفْتَقِرٌ إِلَى زَمَانٍ يَتَدَارَكُ فِيهِ تَكْفِيرَ خَطَئِهِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَمَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الْمَوْتَ. وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُبَشَّرُونَ بِالْجَنَّةِ يَتَمَنَّوْنَهُ. وَذَكَرُوا فِي مَا مِنْ قَوْلِهِ:
بِما قَدَّمَتْ، أَنَّهَا تَكُونُ مَصْدَرِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مَوْصُولٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَمَّا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الْمَعَاصِي السَّابِقَةِ. وَنُسِبَ التَّقْدِيمُ لِلْيَدِ مَجَازًا، وَالْمَعْنَى بِمَا قَدَّمُوهُ، إِذْ كَانَتِ الْيَدُ أَكْثَرَ الْجَوَارِحِ تَصَرُّفًا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَكَثُرَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْقُرْآنِ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «٤»، بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «٥»، فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «٦». وقيل:
(١) سورة النساء: ٤/ ١٥٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٣٨.
(٣) سورة الماء: ٥/ ٢٤.
(٤) سورة الحج: ٢٢/ ١٠.
(٥) سورة الأنفال: ٨/ ٥١.
(٦) سورة الشورى: ٤٢/ ٣٠.
500
الْمُرَادُ الْيَدُ حَقِيقَةً هُنَا، وَالَّذِي قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ هُوَ تَغْيِيرُ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِكِتَابَةِ أَيْدِيهِمْ.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ: هَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَمَعْنَاهَا: التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، وَعِلْمُ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِالظَّالِمِ وَغَيْرِ الظَّالِمِ. فَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الظَّالِمِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْوَعِيدِ. وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ مُجَازِيهِمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَكَنَّى بِالْعِلْمِ عَنِ الْجَزَاءِ، وَعُلِّقَ الْعِلْمُ بِالْوَصْفِ لِيَدُلَّ عَلَى الْعُلِّيَّةِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الظَّالِمِينَ لِلْعَهْدِ، فَتَخْتَصُّ بِالْيَهُودِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، أَوْ لِلْجِنْسِ، فَتَعُمُّ كُلَّ ظَالِمٍ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ الظُّلْمَ هُوَ تَجَاوُزُ مَا حَدَّ اللَّهُ، وَلَا شَيْءَ أَبْلَغُ فِي التَّعَدِّي مِنِ ادِّعَاءِ خُلُوصِ الْجَنَّةِ لِمَنْ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِشَيْءٍ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهَا، وَانْفِرَادِهِ بِذَلِكَ دُونَ النَّاسِ.
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ: الْخِطَابُ هُنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَجَدَ هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا الضَّمِيرُ، وَالثَّانِي أَحْرَصَ النَّاسِ. وَإِذَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَانَتْ بِمَعْنَى عَلِمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى اثْنَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ «١». وَكَوُنُهَا هُنَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، هُوَ قَوْلُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجَدَ هُنَا بِمَعْنَى لَقِيَ وَأَصَابَ، وَيَكُونَ انْتِصَابُ أَحْرَصَ عَلَى الْحَالِ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ إِضَافَةَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ لَيْسَتْ بِمَحْضَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ. أَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا مَحْضَةٌ، وَلَا يُجِيزُ فِي الْحَالِ أَنْ تَأْتِيَ مَعْرِفَةً، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ فِي أَحْرَصَ النصب على الحال. وأحرص هُنَا هِيَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَهِيَ مُؤَوَّلَةٌ. بِمَعْنَى مِنْ، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، فَيَجُوزُ فِيهَا الْوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْرَدَ مُذَكَّرُهُ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى مُفْرَدٍ وَمُثَنَّى وَمَجْمُوعٍ، وَمُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ. وَالثَّانِي: أَنْ يُطَابِقَ مَا قَبْلَهَا. فَمِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَحْرَصَ النَّاسِ وَلَوْ جَاءَ عَلَى الْمُطَابَقَةِ، لَكَانَ أَحَارِصَ النَّاسِ، أَوْ أَحْرَصِي النَّاسِ. وَمِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي قَوْلُهُ: أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا، كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَصِيحٌ. وَذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ أَنَّ الْمُطَابَقَةَ أَفْصَحُ مِنَ الْإِفْرَادِ.
وَذَهَبَ ابْنُ السَّرَّاجِ إِلَى تَعَيُّنِ الْإِفْرَادِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَإِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ، كَهَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، فَشَرْطُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْبَصْرِيُّونَ يُوسُفُ أَحْسَنُ إِخْوَتِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَحْسَنُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ، وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ مِمَّا يُشْبِهُهُ، وَشَذَّ نحو قوله:
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٠٢.
501
يَا رَبَّ مُوسَى أَظْلَمِي وَأَظْلَمَهُ يُرِيدُ: أَظْلَمْنَا حَيْثُ لم يضف أَظْلَمَ إِلَى مَا هُوَ بَعْضُهُ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي وَلَتَجِدَنَّهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ، أَوْ عَلَى جَمِيعِ الْيَهُودِ، أَوْ عَلَى عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَأَتَى بِصِيغَةِ أَفْعَلَ مِنَ الْحِرْصِ مُبَالَغَةً فِي شِدَّةِ طَلَبِهِمْ لِلْبَقَاءِ وَدَوَامِ الْحَيَاةِ. وَالنَّاسُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فَتَعُمُّ، أَوْ لِلْعَهْدِ. إِمَّا لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ مَعْرُوفِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْحِرْصُ عَلَى الْحَيَاةِ، أَوْ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَجُوسَ، أَوْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، لِأَنَّ أُولَئِكَ لَا يُوقِنُونَ بِبَعْثٍ، فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ إِلَّا نَعِيمُ الدُّنْيَا، أَوْ بُؤْسُهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ:
تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ فَانِ مِنَ النَّشَوَاتِ وَالنِّسَا الْحِسَانِ
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا انْقَضَتِ الدُّنْيَا وَزَالَ نَعِيمُهَا فَمَا لِيَ فِي شَيْءٍ سِوَى ذَاكَ مَطْمَعُ
عَلى حَياةٍ: قَدَّرُوا فِيهِ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عَلَى طُولِ حَيَاةٍ، أَوْ عَلَى حَذْفِ صِفَةٍ، أَيْ عَلَى حَيَاةٍ طَوِيلَةٍ. وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ حَذْفٌ لَصَحَّ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى مُطْلَقِ حَيَاةٍ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَحْرَصَ عَلَى مُطْلَقِ حَيَاةٍ، وَهُوَ تَحَقُّقُهَا بِأَدْنَى زَمَانٍ، فَلِأَنْ يَكُونَ أَحْرَصَ عَلَى حَيَاةٍ طَوِيلَةٍ أَوْلَى، وَكَانُوا قَدْ ذُمُّوا بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى حَيَاةٍ، وَلَوْ سَاعَةً وَاحِدَةً. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: عَلَى الْحَيَاةِ، بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا مَعْنَاهُ:
قِرَاءَةُ التَّنْكِيرِ أَبْلَغُ مِنْ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ، لِأَنَّهُ أَرَادَ حَيَاةً مَخْصُوصَةً، وَهِيَ الْحَيَاةُ الْمُتَطَاوِلَةُ. انْتَهَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُضْطَرُّ إِلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.
وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا دَاخِلًا تَحْتَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى أَحْرَصَ النَّاسِ: أَحْرَصُ مِنَ النَّاسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ، أَيْ وَأَحْرَصُ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، فَحُذِفَ أَحْرَصُ لِدَلَالَةِ أَحْرَصَ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا: الْمَجُوسُ، لِعِبَادَتِهِمُ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ. وَقِيلَ: النَّارَ، أَوْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ لِعِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، أَوْ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، كَمَا قال تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً «١».
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَكُونُ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ
(١) سورة النازعات: ٧٩/ ١١.
502
أَحْرَصَ النَّاسِ عَامٌّ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ تَوْبِيخٍ لِلْيَهُودِ، إِذْ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يَرْجُونَ ثَوَابًا وَيَخَافُونَ عِقَابًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَحْرَصُ مِمَّنْ لَا يَرْجُو ذَلِكَ وَلَا يُؤْمِنُ بِبَعْثٍ. وَإِنَّمَا كَانَ حِرْصُهُمْ أَبْلَغَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْعِقَابِ، فَكَانُوا أَحَبَّ النَّاسِ فِي الْبُعْدِ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ تَوَقَّعَ شَرًّا كَانَ أَنْفَرَ النَّاسِ عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْحَيَاةُ سَبَبًا فِي تَبَاعُدِ الْعِقَابِ، كَانُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَيْهَا. وَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ مِنِ اتِّصَالٍ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مِنْ، لِأَنَّ أَحْرَصَ النَّاسِ جَرَى عَلَى الْيَهُودِ، فَلَوْ عَطَفْتَ بِغَيْرِ مِنْ لَكَانَ مَعْطُوفًا عَلَى النَّاسِ، فَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، فَكَانَ أَفْعَلُ يُضَافُ إِلَى غَيْرِ مَا انْدَرَجَ تَحْتَهُ، لِأَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَعْنِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فُسِّرَ بِهِمُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا هُنَا، لَا إِذَا قُلْنَا: إِنِ الثَّوَانِيَ فِي الْعَطْفِ يَجُوزُ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَوَائِلِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ:
وَلَتَجِدَنَّهُمْ، أَيْ وَلَتَجِدَنَّهُمْ وَطَائِفَةً مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ. فَهُوَ مَعْنًى يَصِحُّ، لَكِنَّ اللَّفْظَ وَالتَّرْكِيبَ يَنْبُو عَنْهُ وَيُخْرِجُهُ عَنِ الْفَصَاحَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أن يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَخُصُّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ بِالضَّرُورَةِ.
وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لِعَطْفِ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لِعَطْفِ الْجُمَلِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مُنْقَطِعًا مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءَ، إِخْبَارٍ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوَدُّونَ طُولَ الْحَيَاةِ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالَّذِينَ أَشْرَكُوا: أَهُمُ الْمَجُوسُ؟ أَمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ؟ أَمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؟ وَأَمَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمُ الْمَجُوسُ، لِأَنَّ تَشْمِيتَهُمْ لِلْعَاطِسِ بِلُغَتِهِمْ مَعْنَاهُ: عِشْ أَلْفَ سَنَةٍ. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ تَشْبِيهٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَذِهِ الْفِرْقَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا عَلَى هَذَا، أَيْ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، مُشَارٌ بِهِ إِلَى الْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، يَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي اشْتَدَّ حِرْصُهَا عَلَى الْحَيَاةِ مَنْ يَوَدُّ لَوْ عُمِّرَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةً فِي تَمَنِّي طُولِ الْحَيَاةِ، وَيَكُونُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مِنْ وُقُوعِ الظَّاهِرِ الْمُشْعِرِ بِالْعِلْيَةِ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَمِنْهُمْ قَوْمٌ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، وَيَوَدُّ أَحَدُهُمْ صِفَةٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قَوْمٌ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ
503
الَّتِي يَجُوزُ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «١»، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ «٢»، وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ، وَعَلَى أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لِعَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ، قَالُوا: وَيَكُونُ قَوْلُهُ:
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ وَادًّا أَحَدُهُمْ، قَالُوا: وَيَكُونُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ، فَيَكُونُ الْعَامِلُ أَحْرَصَ الْمَحْذُوفَ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَشْرَكُوا، فَيَكُونُ الْعَامِلُ أَشْرَكُوا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي وَلَتَجِدَنَّهُمْ، أَيْ وَلَتَجِدَنَّهُمُ الْأَحْرَصِينَ عَلَى الْحَيَاةِ وَادًّا أَحَدُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ يُبَيِّنُ حَالَ أَمْرِهِمْ فِي ازْدِيَادِ حِرْصِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ.
أَحَدُهُمْ: أَيُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ هُنَا هُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِمْ مَا قَامَ أَحَدٌ، لِأَنَّ هَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّفْيِ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَحَدًا هَذَا أُصُولُهُ هَمْزَةٌ وَحَاءٌ وَدَالٌ، وَأُصُولُ ذَلِكَ وَاوٌ وَحَاءٌ وَدَالٌ. فَالْهَمْزَةُ فِي أَحَدُهُمْ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ، وَلَا يُرَادُ بِقَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ أَيْ يَوَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دُونَ سَائِرِهِمْ، وَإِنَّمَا أَحَدُهُمْ هُنَا عَامٌّ عُمُومَ الْبَدَلِ، أَيْ هَذَا الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِوُدِّهِمْ أَنْ يُعَمَّرُوا أَلْفَ سَنَةٍ، هُوَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِ. فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى حِرْصِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَشِدَّةِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِطُولِ الْحَيَاةِ، وَجَدْتَهُ لَوْ عُمِّرَ أَلْفَ سَنَةٍ. لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ: مَفْعُولُ الْوِدَادَةِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ طُولَ الْعُمْرِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ لَسُرَّ بِذَلِكَ، فَحُذِفَ مَفْعُولُ يَوَدُّ لِدَلَالَةِ لَوْ يُعَمَّرُ عَلَيْهِ، وَحُذِفَ جَوَابُ لَوْ لِدَلَالَةِ يَوَدُّ عَلَيْهِ. هَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِ الْبَصْرِيِّينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى أَنَّ لَوْ هُنَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنْ، فَلَا يَكُونُ لَهَا جَوَابٌ، وَيَنْسَبِكُ مِنْهَا مَصْدَرٌ هُوَ مَفْعُولُ يَوَدُّ، كَأَنَّهُ قَالَ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ تَعْمِيرَ أَلْفِ سَنَةٍ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ: لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ مَحَلُّ إِعْرَابٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي مَحَلُّهُ نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ اتَّصَلَ لَوْ يُعَمَّرُ بِيَوَدُّ أَحَدُهُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ حِكَايَةٌ لِوِدَادَتِهِمْ، وَلَوْ فِي مَعْنَى التَّمَنِّي، وَكَانَ الْقِيَاسُ لَوْ أُعَمِّرُ، إِلَّا أَنَّهُ جَرَى عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ لِقَوْلِهِ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، كَقَوْلِهِمْ: حَلَفَ بِاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ بَعْضُ إِبْهَامٍ، وَذَلِكَ أَنَّ يَوَدُّ فعلى قَلْبِيٌّ، وَلَيْسَ فِعْلًا قَوْلِيًّا، وَلَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الْقَوْلِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ تقول هو حكاية
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ١٦٤.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٥٩.
504
لِوِدَادَتِهِمْ؟ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسَوَّغُ إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ، وَذَلِكَ أَنْ يُجْرِيَ يَوَدُّ مُجْرَى يَقُولُ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يَنْشَأُ عَنِ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ أَحَدُهُمْ عَنْ وِدَادَةٍ مِنْ نَفْسِهِ لَوْ أُعَمِّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. وَلَا تَحْتَاجُ لَوْ، إِذَا كَانَتْ لِلتَّمَنِّي، إِلَى جُمْلَةٍ جَوَابِيَّةٍ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى: يَا لَيْتَنِي أُعَمِّرُ، وَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ عَلَى طَرِيقِ الْحِكَايَةِ. فَتَلَخَّصَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي لَوْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَنْ تَكُونَ حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ لِلتَّمَنِّي مَحْكِيَّةً. وَمَعْنَى أَلْفَ سَنَةٍ: الْعُمْرُ الطَّوِيلُ فِي أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَيَكُونُ أَلْفَ سَنَةٍ كِنَايَةً عَنِ الزَّمَانِ الطَّوِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أن يزيد أَلْفَ سَنَةٍ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَلْفَ سَنَةٍ، لِأَنَّ التَّمَنِّيَ يَقَعُ عَلَى الْجَائِزِ وَالْمُسْتَحِيلِ عَادَةً أَوْ عَقْلًا، فَيَكُونُ هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ حِرْصِهِمْ فِي ازْدِيَادِ الْحَيَاةِ يَتَعَلَّقُ تَمَنِّيهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَا لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَادَةً.
وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ: الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: وما هُوَ عَائِدٌ عَلَى أَحَدِهِمْ، وَهُوَ اسْمُ مَا، وَبِمُزَحْزِحِهِ خَبَرُ مَا، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذلك، وَأَنْ يُعَمَّرَ فَاعِلَ بِمُزَحْزِحِهِ، أَيْ وَمَا أَحَدُهُمْ مُزَحْزِحُهُ مِنَ الْعَذَابِ تَعْمِيرُهُ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا فِي هَذَا الْوَجْهِ، أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى أَحَدُهُمْ، أَنْ يَكُونَ هُوَ مُبْتَدَأً، وَبِمُزَحْزِحِهِ خبر. وَأَنْ يُعَمَّرَ فَاعِلَ بِمُزَحْزِحِهِ، فَتَكُونَ مَا تَمِيمِيَّةً. وَهَذَا الْوَجْهُ، أَعْنِي أَنْ تَكُونَ مَا تَمِيمِيَّةً هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ يُعَمَّرُ، وَأَنْ يُعَمَّرَ بَدَلٌ مِنْهُ، وَارْتِفَاعُ هُوَ عَلَى وَجْهَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ اسْمَ مَا أَوْ مُبْتَدَأً. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّعْمِيرِ، وَأَنْ يُعَمَّرَ بَدَلٌ مِنْهُ، وَلَا يَعُودُ هُوَ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَالَّذِي قَبْلَهُ، أَنَّ مُفَسِّرِ الضَّمِيرِ هُنَا هُوَ الْبَدَلُ، وَمُفَسِّرُهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فِي لَوْ يُعَمَّرُ. وَكَوْنُ الْبَدَلِ يُفَسِّرُ الضَّمِيرَ فِيهِ خِلَافٌ، وَلَا خِلَافَ فِي تَفْسِيرِ الضَّمِيرِ بِالْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ السَّابِقِ. فَهَذَا يُفَسِّرُهُ مَا قَبْلَهُ، وَذَاكَ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ.
وَهَذَا الَّذِي عَنَى الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُبْهَمًا، وَأَنْ يُعَمَّرَ مُوَضِّحَهُ. يَعْنِي:
أَنْ يَكُونَ هُوَ لَا يَعُودُ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ، وَأَنْ يُعَمَّرَ بَدَلٌ مِنْهُ وَهُوَ مُفَسِّرٌ. وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ أَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَهَذَا مَيْلٌ مِنْهُ إِلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ مُفَسِّرَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالْمَجْهُولِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ جُمْلَةٍ إِذَا انْتَظَمَ إِسْنَادًا مَعْنَوِيًّا نَحْوَ: ظَنَنْتُهُ قَائِمًا زيد، وَمَا هُوَ بِقَائِمٍ زَيْدٌ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ ضَمِيرٌ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ، وَبِقَائِمٍ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَزَيْدٌ فَاعِلٌ بِقَائِمٍ. وَكَانَ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: مَا هُوَ يَقُومُ زَيْدٌ، وَلِذَلِكَ أَعْرَبُوا
505
في: ظننته قائما زيد، الْهَاءَ ضَمِيرَ الْمَجْهُولِ، وَهِيَ مَفْعُولُ ظَنَنْتُ، وَقَائِمًا الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَزَيْدٌ فَاعِلٌ بِقَائِمٍ. وَلَا يَجُوزُ فِي مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يُفَسَّرَ إِلَّا بِجُمْلَةٍ مُصَرَّحٍ بِجُزْأَيْهَا سَالِمَةٍ مِنْ حَرْفِ جَرٍّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: هُوَ عِمَادٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِمَادَ فِي مَذْهَبِ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا زَيْدٌ هُوَ الْقَائِمُ، جَوَّزُوا أَنْ تَقُولَ: مَا هُوَ الْقَائِمُ زَيْدٌ.
فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ، وَمَا تَعْمِيرُهُ هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ. ثُمَّ قُدِّمَ الْخَبَرُ مَعَ الْعِمَادِ، فَجَاءَ: وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ، أَيْ تَعْمِيرَهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ شَرْطَ الْفَصْلِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مُتَوَسِّطًا. وَتَلَخَّصَ فِي هَذَا الضَّمِيرِ: أَهُوَ عَائِدٌ عَلَى أَحَدُهُمْ؟ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يُعَمَّرُ؟ أَوْ عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يُعَمَّرَ؟ أَوْ هُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ؟ أَوْ عِمَادٌ؟ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ يَعْمَلُونَ بِالْيَاءِ، عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ السَّابِقِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْرَجُ وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ، عَلَى سَبِيلِ الالتفات والخروج من العيبة إِلَى الْخِطَابِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَأَتَى هُنَا بِصِفَةِ بَصِيرٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَنَزِّهًا عَنِ الْجَارِحَةِ، إِعْلَامًا بِأَنَّ عِلْمَهُ، بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ، عِلْمُ إِحَاطَةٍ وَإِدْرَاكٍ لِلْخَفِيَّاتِ.
وَمَا: فِي بِمَا، مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يَعْمَلُونَهُ. وَجَوَّزُوا فِيهَا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ بِعَمَلِهِمْ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، وَإِنْ كَانَ عِلْمُهُ تَعَالَى مُحِيطًا بِأَعْمَالِهِمُ السَّالِفَةِ وَالْآتِيَةِ لِتَوَاخِي الْفَوَاصِلِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ الامتنان على بني إسرائيل وَتَذْكَارَهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ، إِذْ آتَى مُوسَى التَّوْرَاةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْهُدَى وَالنُّورِ، وَوَالَى بَعْدَهُ بِالرُّسُلِ لِتَجْدِيدِ دِينِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ، وَآتَى عِيسَى الْأُمُورَ الْخَارِقَةَ، مِنْ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَإِيجَادِ الْمَخْلُوقِ، وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، وَالْإِنْبَاءِ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَيَّدَهُ بِمَنْ يُنْزِلُ الْوَحْيَ عَلَى يَدَيْهِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَالنِّعَمِ كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ قَبُولِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانُوا بِحَيْثُ إِذَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا يُوَافِقُهُمْ، بَادَرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ، أَوْ قَتَلُوهُ، وَهُمْ غَيْرُ مُكْتَرِثِينَ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنَ الْجَرَائِمِ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّهُمْ فِي أَثَرِ قَتْلِهِمُ الْجَمَاعَةَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، تَقُومُ سُوقُ الْبَقْلِ بَيْنَهُمْ، الَّتِي هِيَ أَرْذَلُ الْأَسْوَاقِ، فَكَيْفَ بِالْأَسْوَاقِ الَّتِي تُبَاعُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ النَّفِيسَةُ؟ ثُمَّ نَعَى تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ مِنْ تَكْذِيبِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كانوا قبل مجيئه يَذْكُرُونَ أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَحِينَ وَافَاهُمْ
506
مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ وَيَعْرِفُونَهُ، كَفَرُوا بِهِ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ. وَأَنَّ سَبَبَ طَرْدِهِمْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ هُوَ مَا سَبَقَ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَأَنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ قَلِيلًا، إِذْ كَانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ سَيَأْتِي كِتَابٌ. ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكْرِ ذَمِّهِمْ، أَنْ بَاعُوا أَنْفُسَهُمُ النَّفِيسَةَ بِمَا يَتَرَتَّبُ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالرِّيَاسَاتِ الْمُنْقَضِيَةِ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ، وَأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ، لِأَنِ اخْتَصَّ اللَّهُ بِفَضْلِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَلَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ وَلَا بِاخْتِيَارِهِ، فَبَاءُوا بِالْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْعَذَابَ الَّذِي يُذِلُّهُمْ وَيُهِينُهُمْ. إِذْ كَانَ امْتِنَاعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، إِنَّمَا هُوَ لِلتَّكَبُّرِ وَالْحَسَدِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِالْقَدَرِ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ يُعَذَّبُوا الْعَذَابَ الَّذِي فِيهِ صَغَارٌ لَهُمْ وَذِلَّةٌ وَإِهَانَةٌ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمُ الإيمان بما أنزل الله، أَجَابُوا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالتَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِمَا سِوَاهَا. هَذَا وَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سَوَاءٌ، إِذْ كُلُّهَا حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَالْكُفْرُ بِبَعْضِهَا كُفْرٌ بِجَمِيعِهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِكَذِبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ:
نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَالتَّوْرَاةُ نَاطِقَةٌ بِاتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ فِعْلُهُمْ. ثُمَّ كَرَّرَ عَلَيْهِمْ، تَوْبِيخًا لَهُمْ، أَنَّ مُوسَى الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهَا، قَدْ جَاءَهُمْ بِالْأَشْيَاءِ الْوَاضِحَةِ وَالْمُعْجِزَاتِ الْخَارِقَةِ، مِنْ نَجَاتِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ، اتَّخَذُوا مِنْ بَعْدِ ذَهَابِهِ إِلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ إِلَهًا مِنْ أَبْعَدِ الْحَيَوَانِ ذِهْنًا وَأَبْلَدِهَا، وَهُوَ الْعِجْلُ الْمَصْنُوعُ مِنْ حُلِيِّهِمْ، الْمُشَاهَدُ إِنْشَاؤُهُ وَعَمَلُهُ، وَمُوسَى لَمْ يَمُتْ بَعْدُ، وَكِتَابُ اللَّهِ طَرِيٌّ نُزُولُهُ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَتَقَادَمْ عَهْدُهُ.
وَكَرَّرَ تَعَالَى ذِكْرَ رَفْعِ الطُّورِ عَلَيْهِمْ لِيَقْبَلُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَأُمِرُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَأَجَابُوا بِالْعِصْيَانِ. هَذَا وَهُمْ مُلْجَئُونَ إِلَى الْإِيمَانِ، أَوْ كَالْمُلْجَئِينَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمُزْعِجِ الْعَظِيمِ مِنْ رَفْعِ جَبَلٍ عَلَيْهِمْ لِيُشْدَخُوا بِهِ جَدِيرٌ بِأَنْ يَأْتِيَ الْإِنْسَانُ مَا أُمِرَ بِهِ، وَيَقْبَلَ مَا كُلِّفَ بِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ. وَتَأَبِّيهِمْ لِذَلِكَ، وَعَدَمُ قَبُولِهِمْ، سَبَبُهُ أَنَّ عِبَادَةَ الْعِجْلِ خَامَرَتْ قُلُوبَهُمْ وَمَازَجَتْهَا، حَتَّى لَمْ تَسْمَعْ قَبُولًا لِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ، وَالْقَلْبُ إِذَا امْتَلَأَ بِحُبِّ شَيْءٍ لَمْ يَسْمَعْ سِوَاهُ وَلَمْ يُصْغِ إِلَى مَلَامٍ، وَأَنْشَدُوا:
مَلَأْتَ بِبَعْضِ حُبِّكَ كُلَّ قَلْبِيَ فَإِنْ تُرِدِ الزِّيَادَةَ هَاتِ قَلْبَا
ثُمَّ ذَمَّهُمْ تَعَالَى عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ إِيمَانُهُمْ، وَلَا إِيمَانَ لَهُمْ حَقِيقَةً، بَلْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَاتِّخَاذِهِ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. ثُمَّ كَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ هِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ، لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ سِوَاهُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِتَمَنِّي الْمَوْتِ، لِأَنَّ مَنِ
507
اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى سُرُورٍ وَحُبُورٍ وَلَذَّةٍ دَائِمَةٍ لَا تَنْقَضِي، يُؤْثِرُ الْوُصُولَ إِلَى ذَلِكَ، وَانْقِضَاءَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالنَّكَدِ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تَمَنِّيَ الْمَوْتِ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ أَبَدًا، وَأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْجَرَائِمِ، فَظَهَرَ كَذِبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَرْشِيحًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ عَدَمِ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ، أَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى حَيَاةٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ أَحْرَصُ مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَوَدُّ أَنْ يُعَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَتَعْمِيرُهُ، وَإِنْ طَالَ، لَيْسَ بِمُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
ثُمَّ خَتَمَ الْآيَاتِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ، وَمُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا. وَتَبَيَّنَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ فَرْطِ كَذِبِهِمْ، وَتَنَاقُضِ أفعالهم وأقوالهم، ونقض عُقُولِهِمْ، وَكَثْرَةِ بُهْتِهِمْ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَلَكَ بنا أنهج المسالك.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٧ الى ١٠٣]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
508
جِبْرِيلُ: اسْمُ مَلَكٍ عَلَمٌ لَهُ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ، لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَبَرُوتِ اللَّهِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبَ الْإِضَافَةِ. وَمَعْنَى جِبْرِ: عَبْدٌ وَإِيلَ، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّ لَا يَدْخُلُهُ الِاشْتِقَاقُ الْعَرَبِيُّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا تَرْكِيبَ الْإِضَافَةِ لَكَانَ مَصْرُوفًا. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَالَ: جِبْرٌ، مِثْلَ: عَبْدٍ وإيل، اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ حَضْرَمَوْتَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. يَعْنِي أَنَّهُ يَجْعَلُهُ مُرَكَّبًا تَرْكِيبَ الْمَزْجِ، فَيَمْنَعُهُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ. وليس ما ذكر بصحيح، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُلْحَظَ فِيهِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ، فَيَلْزَمَ الصَّرْفُ فِي الثَّانِي، وَإِجْرَاءُ الْأَوَّلِ بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ، أَوْ لَا يُلْحَظَ، فَيُرَكِّبَهُ تَرْكِيبَ الْمَزْجِ. فَمَا يُرَكَّبُ تَرْكِيبَ الْمَزْجِ يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَالْإِضَافَةُ وَمَنْعُ الصَّرْفِ، فَكَوْنُهُ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ الْإِضَافَةُ، وَلَا الْبِنَاءُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَرْكِيبِ الْمَزْجِ. وَقَدْ تَصَرَّفَتْ فِيهِ الْعَرَبُ عَلَى عَادَتِهَا فِي تَغْيِيرِ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، حَتَّى بَلَغَتْ فِيهِ إِلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ لُغَةً. قَالُوا: جِبْرِيلُ: كَقِنْدِيلٍ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ وَحَفْصٍ. وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:
وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعْهُمَا مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ:
وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ مِنْهُمْ لَا كِفَاءَ لَهُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللَّهِ مَأْمُونَا
وَقَالَ حَسَّانُ:
وجبريل رسول الله فينا وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَكَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْجِيمَ مَفْتُوحَةٌ، وَبِهَا قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا أُحِبُّهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فَعْلِيلٌ، وَمَا قَالَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَا أَدْخَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي كَلَامِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا تُلْحِقُهُ بِأَبْنِيَةِ كَلَامِهَا، كَلِجَامٍ، وَمِنْهُ مَا لَا تُلْحِقُهُ بِهَا، كَإِبْرَيْسِمٍ. فَجَبْرِيلُ، بِفَتْحِ الْجِيمِ، مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَقِيلَ: جَبْرِيلُ مِثْلُ شَمْوِيلَ، وَهُوَ طَائِرٌ.
509
وَجِبْرَئِيلُ كَعَنْتَرِيسٍ، وَهِيَ لُغَةُ: تَمِيمٍ، وَقَيْسٍ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ. حَكَاهَا الْفَرَّاءُ، وَاخْتَارَهَا الزَّجَّاجُ وَقَالَ: هِيَ أَجْوَدُ اللُّغَاتِ. وَقَالَ حَسَّانُ:
شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ مَدَى الدَّهْرِ إِلَّا جَبْرَئِيلَ أَمَامَهَا
وَقَالَ جَرِيرٌ:
عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بمحمد وبجبرئيل وكذبوا ميكال
وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ. وَرَوَاهَا الْكِسَائِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ يَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ. وَتُرْوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّ اللَّامَ مُشَدَّدَةٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَانَ، عَنْ عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ. وَجِبْرَائِيلُ وَجِبْرَايِيلُ، وَقَرَأَ بِهِمَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ. وَجِبْرَالُ وَجِبْرَائِلُ بِالْيَاءِ وَالْقَصْرِ، وَبِهَا قَرَأَ طَلْحَةُ. وَجِبْرَايِيلُ بِأَلِفٍ بَعْدِ الرَّاءِ، بَعْدَهَا يَاءَانِ، أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ، وَقَرَأَ بِهَا الْأَعْمَشُ وَابْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا. وَجَبْرِينُ وَجِبْرِينُ، وَهَذِهِ لُغَةُ أَسَدٍ. وَجِبْرَائِينُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: جُمِعَ جِبْرِيلُ جَمْعَ التَّكْسِيرِ عَلَى جَبَارِيلَ عَلَى اللُّغَةِ الْعَالِيَةِ. أَذِنَ: بِهِ عَلَّمَ بِهِ، وَآذَنَهُ: أَعْلَمَهُ. آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ:
أَعْلَمْتُكُمْ. ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى التَّمْكِينِ. أَذِنَ لِي فِي كَذَا: أَيْ مَكَّنَنِي مِنْهُ. وَعَلَى الِاخْتِيَارِ فَعَلْتَهُ بِإِذْنِكَ: أَيْ بِاخْتِيَارِكَ. مِيكَائِيلُ: الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي جِبْرِيلَ، أَعْنِي مِنْ مَنْعِ الصَّرْفِ.
وَبَعُدَ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ، أَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى مِيكَا: عَبْدٌ، وَإِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَصَرَّفَتْ فِيهِ الْعَرَبُ. قَالُوا: مِيكَالُ، كَمِفْعَالُ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لنا مدد فِيهِ مَعَ النَّصْرِ مِيكَالٌ وَجِبْرِيلُ
وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّ بَعْدَ الْأَلِفِ هَمْزَةً، وَبِهَا قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ شَنَبُوذَ لِقُنْبُلٍ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُ بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَبِهَا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ، وَغَيْرُ ابْنِ شَنَبُوذَ لِقُنْبُلٍ وَالْبَزِّيِّ. وَمِيكَيِيلُ كَمِيكَعِيلَ، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَكَذَلِكَ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَاءَ بَعْدَ الهمزة.
وقرىء بِهَا: وَمِيكَايِيلُ بِيَاءَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ، أُولَاهُمَا مَكْسُورَةٌ، وَبِهَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ. نَبَذَ الشَّيْءَ، يَنْبِذُهُ نَبْذًا: طَرَحَهُ وَأَلْقَاهُ. الظَّهْرُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُ فِعْلِ الِاسْمِ غَيْرِ الْمُعْتَلِّ الْعَيْنِ عَلَى فُعُولٍ قِيَاسٌ: كَظُهُورٍ، وَعَلَى فَعْلَانَ: كَظَهْرَانَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظُّهُورِ. تَقُولُ: ظَهَرَ الشَّيْءُ ظُهُورًا، إِذَا بَدَا. تَلَا يَتْلُو: تَبِعَ. وَتَلَا الْقُرْآنَ: قَرَأَهُ وَتَلَا عَلَيْهِ كَذَبَ، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَقَالَ
510
أَيْضًا: تَلَا عَنْهُ صَدَفَ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ الصِّلَتَيْنِ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ. سُلَيْمَانُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَامْتَنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ. وَالْعُجْمَةِ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْأَعْجَمِيَّةِ، فِي أَنَّ فِي آخِرِهِ أَلِفًا وَنُونًا:
هَامَانُ، وَمَاهَانُ، وَسَامَانُ، وَلَيْسَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ، وَزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ:
كَعُثْمَانَ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْأَلِفِ وَالنُّونِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الِاشْتِقَاقِ وَالتَّصْرِيفِ. وَالِاشْتِقَاقُ وَالتَّصْرِيفُ الْعَرَبِيَّانِ لَا يَدْخُلَانِ الْأَسْمَاءَ الْعَجَمِيَّةَ. السِّحْرُ: مَصْدَرُ سَحَرَ يَسْحَرُ سِحْرًا، وَلَا يُوجَدُ مَصْدَرٌ لِفَعَلَ يَفْعَلُ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ إِلَّا سَحَرَ وَفَعَلَ، قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: كُلُّ مَا لَطُفَ وَدَقَّ فَهُوَ سِحْرٌ. يُقَالُ سَحَرَهُ: أَبْدَى لَهُ أَمْرًا يَدِقُّ عَلَيْهِ وَيَخْفَى. انْتَهَى. وَقَالَ:
أَدَاءٌ عَرَانِي مِنْ حَبَائِكَ أَمْ سِحْرُ وَيُقَالُ سَحَرَهُ: خَدَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَرَانَا مَوْضِعِينَ لِأَمْرِ عيب وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
أَيْ نُعَلَّلُ وَنُخْدَعُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَدْلُولِ السِّحْرِ فِي الْآيَةِ. بَابِلُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، اسْمُ أَرْضٍ، وَسَيَأْتِي تَعْيِينُهَا. هَارُوتُ وَمَارُوتُ: اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَدْلُولِهِمَا، وَيُجْمَعَانِ عَلَى: هَوَارِيتَ وَمَوَارِيتَ، وَيُقَالُ: هَوَارِتَةُ وَمَوَارِتَةُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ:
طَالُوتُ وَجَالُوتُ. الْفِتْنَةُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ. فَتَنَ يَفْتِنُ فُتُونًا وَفِتْنَةً. الْمَرْءُ: الرَّجُلُ، وَالْأَفْصَحُ فَتْحُ الْمِيمِ مُطْلَقًا، وَحُكِيَ الضَّمُّ مُطْلَقًا، وَحُكِيَ إِتْبَاعُ حَرَكَةِ الْمِيمِ لِحَرَكَةِ الْإِعْرَابِ فَتَقُولُ: قَامَ الْمُرْءُ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَرَأَيْتُ الْمَرْءَ: بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَمَرَرْتُ بِالْمِرْءِ: بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَمُؤَنَّثُهُ الْمَرْأَةُ. وَقَدْ جَاءَ جَمْعُهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، قَالُوا: الْمَرْءُونَ. الضَّرَرُ وَالنَّفْعُ مَعْرُوفَانِ، وَيُقَالُ: ضَرَّ يَضُرُّ، بِضَمِّ الضَّادِ، وَهُوَ قِيَاسُ الْمُضَعَّفِ الْمُتَعَدِّي وَمَصْدَرُهُ: الضُّرُّ وَالضَّرُّ وَالضَّرَرُ، وَيُقَالُ: ضَارَ يَضِيرُ، قَالَ:
يَقُولُ أناس لا يضيرك نابها بَلَى كُلُّ مَا شَفَّ النُّفُوسَ يَضِيرُهَا
وَيُقَالُ: نَفَعَ يَنْفَعُ نَفْعًا. وَرَأَيْتُ فِي شَرْحِ الْمُوجَزِ، الَّذِي لِلرُّمَّانِيِّ فِي النَّحْوِ، وَهُوَ تَأْلِيفُ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ الْأَهْوَازِيُّ، وَلَيْسَ بِأَبِي عَلِيٍّ الْأَهْوَازِيِّ الْمُقْرِي، أَنَّهُ لَا يُقَالُ مِنْهُ اسْمُ مَفْعُولٍ نَحْوُ مَنْفُوعٍ، وَالْقِيَاسُ النَّحْوِيُّ يَقْتَضِيهِ. الْخَلَاقُ، فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
قَالَ: لَكِنَّهُ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ، قَالَ:
يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ فِيهَا لَا خَلَاقَ لَهُمْ إِلَّا السَّرَابِيلُ مِنْ قُطْرٍ وَأَغْلَالِ
وَالْخَلَاقُ: الْقَدْرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
511
فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ وَمَا لَكَ فِي غَالِبٍ مِنْ خَلَاقِ
مَثُوبَةٌ: مَفْعَلَةٌ مِنَ الثَّوَابِ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى الثَّاءِ، وَيُقَالُ مَثُوبَةٌ. وَكَانَ قِيَاسُهُ الْإِعْلَالَ فَتَقُولُ: مَثَابَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ صَحَّحُوهُ كَمَا صَحَّحُوا فِي الْأَعْلَامِ مُكَوَّرَةً، وَنَظِيرُهُمَا فِي الْوَزْنِ مِنَ الصَّحِيحِ: مَقْبَرَةٌ وَمَقْبُرَةٌ.
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: جِبْرِيلُ عَدُّونَا، وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، وَهَلْ كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ مُحَاوَرَتَهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَوْ مُحَاوَرَتَهُمْ مَعَ عُمَرَ؟ وَمُلَخَّصُ الْعَدَاوَةِ: أَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ يَأْتِي بِالْهَلَاكِ وَالْخَسْفِ وَالْجَدْبِ، وَلَوْ كَانَ مِيكَالُ صَاحِبَ مُحَمَّدٍ لَاتَّبَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْخِصْبِ وَالسِّلْمِ، وَلِكَوْنِهِ دَافَعَ عَنْ بُخْتَ نَصَّرَ حِينَ أَرَدْنَا قَتْلَهُ، فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَهْلَكَنَا، وَلِكَوْنِهِ يُطْلِعُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سِرِّنَا. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ: الْجُمْلَةُ بَعْدُ وَمَنْ هُنَا شَرْطِيَّةٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ:
الْعَدَاوَةُ، التَّجَاوُزُ وَمُنَافَاةُ الِالْتِئَامِ. فَبِالْقَلْبِ يُقَالُ الْعَدَاوَةُ، وَبِالْمَشْيِ يُقَالُ الْعَدُوُّ، وَبِالْإِخْلَالِ فِي الْعَدْلِ يُقَالُ الْعُدْوَانُ، وَبِالْمَكَانِ أَوِ النَّسَبِ يُقَالُ قَوْمٌ عِدًى، أَيْ غُرَبَاءُ.
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ: لَيْسَ هَذَا جَوَابَ الشَّرْطِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَلَوْ قُلْتَ: مَنْ يُكْرِمُنِي؟ فَزَيْدٌ قَائِمٌ، لَمْ يَجُزْ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، لَيْسَ فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ جَزَاءٌ لِلشَّرْطِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ عَوْدِ الضَّمِيرِ، وَلِمُضِيِّ فِعْلِ التَّنْزِيلِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ جَزَاءً، وَإِنَّمَا الْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: فَعَدَاوَتُهُ لَا وَجْهَ لَهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا التَّقْدِيرَ. وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى جِبْرِيلَ، وَالضَّمِيرُ فِي نَزَّلَهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ؟ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَلِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ فَإِنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَفِي نَزَّلَهُ عَائِدٌ عَلَى جِبْرِيلَ، التَّقْدِيرُ: فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِكَ. وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ إِضْمَارٌ يَعُودُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْمَعْنَى. لَكِنَّ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ أَوْلَى، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِيَكُونَ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «١»، وَيَنْظُرُ لِلتَّقْدِيرِ الثَّانِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ:
نَزَّلَ بِالتَّشْدِيدِ، وَالرُّوحَ بِالنَّصْبِ. وَمُنَاسَبَةُ دَلِيلِ الْجَزَاءِ لِلشَّرْطِ هُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ عدوا لجبريل،
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٩٣ و ١٩٤.
512
فَعَدَاوَتُهُ لَا وَجْهَ لَهَا، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ لِلْكُتُبِ، وَالْهَادِي وَالْمُبَشِّرِ، كَمَنْ آمَنَ. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَبَّ وَيُشْكَرَ، إِذْ كَانَ بِهِ سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالتَّنْوِيهِ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، أَوْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَسَبَبُ عَدَاوَتِهِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْقُرْآنَ الْمُصَدِّقَ لِكِتَابِهِمْ، وَالْمُلْزِمَ لَهُمُ اتِّبَاعَكَ، وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ حَرَّفُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَاتِكَ، وَمِنْ أَخْذِ الْعُهُودِ عَلَيْهِمْ فِيهَا، بِأَنْ يَتَّبِعُوكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ: أَنَّ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ مُوجِبٌ لِعَدَمِ الْعَدَاوَةِ، وَالتَّقْدِيرَ الثَّانِيَ كَأَنَّهُ كَالْعُذْرِ لَهُمْ فِي الْعَدَاوَةِ كَقَوْلِكَ: إِنْ عَادَاكَ زَيْدٌ، فَقَدْ آذَيْتَهُ وَأَسَأْتَ إِلَيْهِ.
عَلى قَلْبِكَ: أَتَى بِلَفْظِ عَلَى، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَعْلٍ عَلَى الْقَلْبِ، إِذِ الْقَلْبُ سَامِعٌ لَهُ وَمُطِيعٌ، يَمْتَثِلُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَيَجْتَنِبُ مَا نَهَى عَنْهُ. وَكَانَتْ أَبْلَغَ مِنْ إِلَى، لِأَنَّ إِلَى تَدُلُّ عَلَى الِانْتِهَاءِ فَقَطْ، وَعَلَى تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ. وَمَا اسْتَعْلَى عَلَى الشَّيْءِ يَضْمَنُ الِانْتِهَاءَ إِلَيْهِ.
وَخُصَّ الْقَلْبُ، وَلَمْ يَأْتِ عَلَيْكَ، لِأَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مَحَلُّ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَتَلَقِّي الْوَارِدَاتِ، أَوْ لِأَنَّهُ صَحِيفَتُهُ الَّتِي يُرْقَمُ فِيهَا، وَخِزَانَتُهُ الَّتِي يُحْفَظُ فِيهَا، أَوْ لِأَنَّهُ سُلْطَانُ الْجَسَدِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً».
ثُمَّ
قَالَ أَخِيرًا: «أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
أَوْ لِأَنَّ الْقَلْبَ خِيَارُ الشَّيْءِ وَأَشْرَفُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ بَيْتُ اللَّهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَنَّى بِهِ عَنِ الْعَقْلِ إِطْلَاقًا لِلْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ بِهِ، أَوْ عَنِ الْجُمْلَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، إِذْ قَدْ ذُكِرَ الْإِنْزَالُ عَلَيْهِ فِي أَمَاكِنَ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «١» وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
«٢»، أَوْ يَكُونُ إِطْلَاقًا لِبَعْضِ الشَّيْءِ عَلَى كُلِّهِ، أَقْوَالٌ سَبْعَةٌ. وَأَضَافَ الْقَلْبَ إِلَى الْكَافِ الَّتِي لِلْخِطَابِ، وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِنْ كَانَ نَظْمُ الْكَلَامِ يَقْتَضِيهِ ظَاهِرًا، لِأَنَّ قوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، هُوَ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مُضْمَرٍ، التَّقْدِيرُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ قَالَ اللَّهُ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ. وَإِلَى هَذَا نَحَا الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: جَاءَتْ عَلَى حِكَايَةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: قل مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ مِنْ قَوْلِي:
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، وَكَلَامُهُ فِيهِ تَثْبِيجٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَحْسُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُحْرِزَ اللَّفْظَ الَّذِي يَقُولُهُ الْمَأْمُورُ بِالْقَوْلِ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَقْصِدَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ، فَيَسْرُدَهُ مُخَاطَبَةً لَهُ، كَمَا تَقُولُ: قُلْ لِقَوْمِكَ لَا يُهِينُوكَ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
أَلَمْ تَرَ أَنِّي يَوْمَ جَوَّ سُوَيْقَةٍ دَعَوْتُ فَنَادَتْنِي هنيدة ماليا
(١) سورة طه: ٢٠/ ٢.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١١٣. [.....]
513
فَأَحْرَزَ الْمَعْنَى، وَنَكَبَ عَنْ نِدَاءِ هُنَيْدَةَ مَالَكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةٌ مَعْمُولَةً لِلَّفْظِ: قُلْ، لَا لِقَوْلٍ: مُضْمَرٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ بِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ، اخْتَارَهُ فِي الْمُنْتَخَبِ وَمِنْهُ: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ «١»، مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»
. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ «٣»، أَوْ بِعِلْمِهِ وَتَمْكِينِهِ إِيَّاهُ مِنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَوْ بِاخْتِيَارِهِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، أَوْ بِتَيْسِيرِهِ وَتَسْهِيلِهِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ: انْتِصَابُ مُصَدِّقًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَزَّلَهُ، إِنْ كَانَ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ عَادَ عَلَى جِبْرِيلَ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَجْرُورِ الْمَحْذُوفِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ مُصَدِّقًا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ جِبْرِيلَ. وَمَا: فِي لِمَا مَوْصُولَةٌ، وَعَنَى بِهَا الْكُتُبَ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَ إِنْزَالِهِ، أَوِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَالْهَاءُ: فِي بَيْنَ يَدَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ عَلَى جِبْرِيلَ. فَالْمَعْنَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ.
وَهُدىً وَبُشْرى: مَعْطُوفَانِ عَلَى مُصَدِّقًا، فَهُمَا حَالَانِ، فَيَكُونُ مِنْ وَضْعِ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَهَادِيًا وَمُبَشِّرًا، أَوْ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، كَأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ بِهِ الْهُدَى وَالْبُشْرَى، جُعِلَ نَفْسَ الْهُدَى وَالْبُشْرَى. وَالْأَلِفُ فِي بُشْرَى لِلتَّأْنِيثِ، كَهِيَ فِي رُجْعَى، وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا «٤» فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِتَصْدِيقِهِ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَنَّهُ هُدًى، إِذْ فِيهِ بَيَانُ مَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، وَأَنَّهُ بُشْرَى لِمَنْ حَصَلَ لَهُ الْهُدَى. فَصَارَ هَذَا التَّرْتِيبُ اللَّفْظِيُّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِكَوْنِ مَدْلُولَاتِهَا تَرَتَّبَتْ تَرْتِيبًا وُجُودِيًّا. فَالْأَوَّلُ: كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُتُبَ كُلَّهَا مِنْ يَنْبُوعٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي:
أَنَّ الْهِدَايَةَ حَصَلَتْ بِهِ بَعْدَ نُزُولِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ التَّصْدِيقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بُشْرَى لِمَنْ حَصَلَتْ لَهُ بِهِ الْهِدَايَةُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَهُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ وَبُشْرَى بِالْجَنَّةِ. لِلْمُؤْمِنِينَ:
خَصَّ الْهُدَى وَالْبُشْرَى بِالْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَكُونُ لَهُمْ هُدًى بِهِ وَلَا بُشْرَى، كَمَا قَالَ: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى «٥»، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْمُبَشَّرُونَ، فَبَشِّرْ عِبادِ «٦»،
(١) سورة هود: ١١/ ١٠٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٥.
(٣) سورة مريم: ١٩/ ٦٤.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٢٥.
(٥) سورة فصلت: ٤١/ ٤٤.
(٦) سورة الزمر: ٣٩/ ١٧.
514
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ «١». وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَعْظِيمِ جِبْرِيلَ وَالتَّنْوِيهِ بِقَدْرِهِ، حَيْثُ جَعَلَهُ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ أَشْرَفِ خَلْقِهِ، وَالْمُنَزَّلَ بِالْكِتَابِ الْجَامِعِ لِلْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ. وَدَلَّتْ عَلَى ذَمِّ الْيَهُودِ حَيْثُ أَبْغَضُوا مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالُوا: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعَلَّقَتْ بِهَا الْبَاطِنِيَّةُ، وَقَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ إِلْهَامٌ وَالْحُرُوفَ عِبَارَةُ الرَّسُولِ.
وَرُدَّ عَلَيْهِمْ: بِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ بِنَظْمِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ وَحْيًا وَكِتَابًا وَعَرَبِيًّا، وَأَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِهِ، وَالْمُلْهَمُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى جِبْرِيلَ.
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ: الْعَدَاوَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَالْعَبْدِ لَا تَكُونُ حَقِيقَةً، وَعَدَاوَةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ، وَمَعْنَاهَا: مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَعَدَاوَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، مُجَازَاتُهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ. وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ. أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: وَمَلَائِكَتِهِ، أَمْرَ جِبْرِيلَ، إِذِ الْيَهُودُ قَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّهُ عَدُوُّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِكَوْنِهِ يَأْتِي بِالْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، بِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْخُيُورِ كُلِّهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْجَامِعُ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ، مِنْ مُوَافَقَتِهِ لِكُتُبِهِمْ، وَكَوْنِهِ هُدًى وَبُشْرَى، فَكَانَتْ تَجِبُ مَحَبَّتُهُ. وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بِأَنْ قَرَنَهُ بِاسْمِهِ تَعَالَى مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومِ مَلَائِكَتِهِ، ثُمَّ ثَانِيًا تَحْتَ عُمُومِ رُسُلِهِ، لِأَنَّ الرُّسُلَ تَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ أُرْسِلَ مِنْ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ ثَالِثًا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى ذِكْرِهِ مُجَرَّدًا مَعَ مَنْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَهُ، وَهُوَ مِيكَالُ، فَصَارَ مَذْكُورًا فِي هذه الآية ثلاث مرار، كُلُّ ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَذَمٌّ لَهُمْ، وَتَنْوِيهٌ بِجِبْرِيلَ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدُوٌّ لِمَنْ عَادَى اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ. وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ جَمَعَ عَدَاوَةَ الْجَمِيعِ، فَاللَّهُ تَعَالَى عَدُوُّهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عَادَى وَاحِدًا مِمَّنْ ذُكِرَ، فَاللَّهُ عَدُوُّهُ، إِذْ مُعَادَاةُ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ مُعَادَاةٌ لِلْجَمِيعِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَبْغَضَ رَسُولًا أَوْ مَلَكًا فَقَدْ كَفَرَ. فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْوَاوُ هُنَا بِمَعْنَى أَوْ، وَلَيْسَتْ لِلْجَمْعِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَاوُ لِلتَّفْصِيلِ، وَلَا يُرَادُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا لِجَمِيعِ الرُّسُلِ، بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيقِ عَلَى الْجِنْسِ بِصُورَةِ الْجَمْعِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ كَلَّمْتِ الرِّجَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِنْ كَلَّمْتِ كُلَّ الرِّجَالِ، وَلَا أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ بِالْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ الْجَمْعِ، فَلَوْ كَلَّمَتْ رَجُلًا وَاحِدًا طُلِّقَتْ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْجَمْعُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ. فَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ عَادَى اللَّهَ، أَوْ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ، أَوْ رَسُولًا مِنْ رُسُلِهِ، فالله عدوّ له.
(١) سورة التوبة: ٩/ ٢١.
515
وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِافْتِتَاحُ بِاسْمِ اللَّهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «١»، وَخَصَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمَا وَتَفْضِيلًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا عن أستاذنا أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بن الزُّبَيْرِ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، أَنَّهُ كَانَ يُسَمِّي لَنَا هَذَا النَّوْعَ بِالتَّجْرِيدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومٍ، ثُمَّ تُفْرِدَهُ بِالذِّكْرِ، وَذَلِكَ لِمَعْنًى مُخْتَصٍّ بِهِ دُونَ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ. فَجِبْرِيلَ وَمِيكَالُ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، وَنَزَلَ التَّغَايُرُ فِي الْوَصْفِ كَالتَّغَايُرِ فِي الْجِنْسِ، فَعُطِفَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعَطْفِ، أَعْنِي عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ، هُوَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهَا الْوَاوُ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ. وَقِيلَ: خُصَّا بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الْيَهُودَ ذكرهما، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِمَا. فَلَوْ لَمْ يُذْكَرَا، لَكَانَ لِلْيَهُودِ تَعَلُّقٌ بِأَنْ يَقُولُوا: لَمْ نُعَادِ اللَّهَ؟ وَلَا جَمِيعَ مَلَائِكَتِهِ؟ وَقِيلَ: خُصَّا بِالذِّكْرِ دَفْعًا لِإِشْكَالِ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْكُفْرِ عَدَاوَةُ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ، لَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، فَابْتُدِئَ بِذِكْرِ اللَّهِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْوَسَائِطِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّسُلِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْوَسَائِطِ الَّتِي بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. فَهَذَا تَرْتِيبٌ بِحَسَبِ الْوَحْيِ. وَلَا يَدُلُّ تَقْدِيمُ الْمَلَائِكَةِ فِي الذِّكْرِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَى رُسُلِ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ تَرْتِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَسَائِطِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّفْضِيلِ. وَيَأْتِي قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيَّ: بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَشْرَفُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالُوا: وَاخْتِصَاصُ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمَا أَشْرَفَ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالُوا: جِبْرِيلَ أَفْضَلُ مِنْ مِيكَالَ، لِأَنَّهُ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ، وَلِأَنَّهُ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ وَالْعِلْمِ، وَهُوَ مَادَّةُ الْأَرْوَاحِ. وَمِيكَالُ يَنْزِلُ بِالْخِصْبِ وَالْأَمْطَارِ، وَهِيَ مَادَّةُ الْأَبْدَانِ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ أَشْرَفُ مِنْ غِذَاءِ الْأَشْبَاحِ، انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ تَفْضِيلُ جِبْرِيلَ عَلَى مِيكَائِيلَ إِلَى نَصٍّ جَلِيٍّ وَاضِحٍ، وَالتَّقَدُّمُ فِي الذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّفْضِيلِ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي. وَمَنْ: فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ عَدُوًّا شَرْطِيَّةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْجَوَابِ فَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَهُوَ كَافِرٌ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ الْجَوَابُ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ، وَأَتَى بِاسْمِ اللَّهِ ظَاهِرًا، وَلَمْ يَأْتِ بِأَنَّهُ عَدُوٌّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُفْهَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ فَيَنْقَلِبَ الْمَعْنَى، أَوْ عَائِدٌ عَلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ مِيكَالُ، فَأَظْهَرَ الِاسْمَ لِزَوَالِ اللَّبْسِ، أَوْ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا فَخَّمَتْ شَيْئًا كَرَّرَتْهُ بِالِاسْمِ الَّذِي تَقَدَّمَ لَهُ وَمِنْهُ: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ «٢»، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ «٣»، وقول الشاعر:
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٤١.
(٢) سورة الحج: ٢٢/ ٦٠.
(٣) سورة الحج: ٢٢/ ٤٠.
516
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الموت شيا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ خَبَرًا لِلشَّرْطِ، تَحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ لِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِاسْمِ الشَّرْطِ.
وَالرَّابِطُ هُنَا الِاسْمُ الظَّاهِرُ وَهُوَ: الْكَافِرِينَ، أُوقِعَ الظَّاهِرُ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ لِتَوَاخِي أَوَاخِرِ الْآيِ، وَلِيَنُصَّ عَلَى عِلَّةِ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ الْكُفْرُ، إِذْ مَنْ عَادَى مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَهُوَ كَافِرٌ. أَوْ يُرَادُ بِالْكَافِرِينَ الْعُمُومُ، فَيَكُونُ الرَّابِطُ الْعُمُومَ، إِذِ الْكُفْرُ يَكُونُ بِأَنْوَاعٍ، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ بِهَذَا الشَّيْءِ الْخَاصِّ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، فَيَحْصُلُ الرَّبْطُ بِذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
عَدُوٌّ للكافرين، أراد عدوّ لَهُمْ، فَجَاءَ بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّ عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ كُفْرٌ. وَإِذَا كَانَتْ عَدَاوَةُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرًا، فَمَا بَالُ الْمَلَائِكَةِ؟ وَهُمْ أَشْرَفُ. وَالْمَعْنَى:
مَنْ عَادَاهُمْ عَادَاهُ اللَّهُ وَعَاقَبَهُ أَشَدَّ الْعِقَابِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ بَنِي آدَمَ. وَدَلَّ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ وَقَعَ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ الْعُمُومُ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ بِعُمُومِ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى مَنْ يُشْكِلُ، سَوَاءٌ أَفْرَدْتَهُ أَوْ جَمَعْتَهُ، وَلَوْ لَمْ يُبَالِ بِالْإِشْكَالِ. وَقُلْنَا: الْمَعْنَى يَدُلُّ السَّامِعَ عَلَى الْمَقْصِدِ لَلَزِمَ تَعْيِينُ قَوْمٍ بِعَدَاوَةِ اللَّهِ لَهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنِ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْمِنُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ عَدَاوَةُ اللَّهِ لِلْمَآلِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ نَطَقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُجَاوِبًا لِبَعْضِ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ عَدُوُّنَا، يَعْنِي جِبْرِيلَ، فَنَزَلَتْ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْخَبَرُ ضَعِيفٌ.
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا، فِيمَا
ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ، أَنَّ ابْنَ صُورِيَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: مَا جِئْتَ بِآيَةٍ بَيِّنَةٍ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ فَنَتَّبِعَكَ لَهَا، فَنَزَلَتِ انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى جُمَلًا مِنْ قَبَائِحِ الْيَهُودِ وَذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مُعَادَاتِهُمْ لِجِبْرِيلَ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ إِنْكَارَهُمْ لِمَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَأَنَّهُ لَا يَجْحَدُ نُزُولَهَا إِلَّا كُلُّ فَاسِقٍ، وَذَلِكَ لِوُضُوحِهَا. وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، أَيِ الْقُرْآنُ، أَوِ الْمُعْجِزَاتُ الْمَقْرُونَةُ بِالتَّحَدِّي، أَوِ الْإِخْبَارُ عَمَّا خَفِيَ وَأُخْفِيَ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، أَوِ الشَّرَائِعُ، أَوِ الْفَرَائِضُ، أَوْ مَجْمُوعُ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ. وَالظَّاهِرُ مُطْلَقُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ غَيْرَ مُعَيَّنٍ شَيْءٌ مِنْهَا، وَعُبِّرَ عَنْ وُصُولِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم بِالْإِنْزَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى مَا دُونَهُ.
وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ: الْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ هُنَا: الْكَافِرُونَ، لِأَنَّ كُفْرَ آيَاتِ اللَّهِ
517
تَعَالَى هُوَ مِنْ بَابِ فِسْقِ الْعَقَائِدِ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ فِسْقِ الْأَفْعَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا اسْتُعْمِلَ الْفِسْقُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي، وَقَعَ عَلَى أَعْظَمِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ. انْتَهَى. وَنَاسَبَ قَوْلُهُ:
بَيِّنَاتٍ لَفْظَ الْكُفْرِ، وَهُوَ التَّغْطِيَةُ، لِأَنَّ الْبَيِّنَ لَا يَقَعُ فِيهِ إِلْبَاسٌ، فَعَدَمُ الْإِيمَانِ بِهِ لَيْسَ لِشُبْهَةٍ لِأَنَّهُ بَيِّنٌ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْطِيَةٌ وَسَتْرٌ لِمَا هُوَ وَاضِحٌ بَيِّنٌ. وَسَتْرُ الْوَاضِحِ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ مُتَمَرِّدٍ فِي فِسْقِهِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْفَاسِقُونَ، إِمَّا لِلْجِنْسِ، وَإِمَّا لِلْعَهْدِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ. وَكَنَّى بِالْفِسْقِ هُنَا عَنِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْفِسْقَ: خُرُوجُ الْإِنْسَانِ عَمَّا حُدَّ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَعْظَمِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْمَبَالِغُ فِي كُفْرِهِ، الْمُنْتَهِي فِيهِ إِلَى أَقْصَى غَايَةٍ. وَإِلَّا الْفَاسِقُونَ: اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا أَحَدٌ، فَنَفَى أَنْ يَكْفُرَ بِالْآيَاتِ الْوَاضِحَاتِ أَحَدٌ. ثُمَّ اسْتَثْنَى الْفُسَّاقَ مِنْ أَحَدٍ، وَأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِهَا. وَيَجُوزُ فِي مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ أَنْ يُنْصَبَ فِي نَحْوٍ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، فَأَجَازَ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدًا، عَلَى مُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَمْ يُحْذَفْ، لَجَازَ النَّصْبُ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ الْبَصْرِيُّونَ.
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً: نَزَلَتْ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُخِذَ عَلَيْنَا عَهْدٌ فِي كِتَابِنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مِيثَاقٌ. وَقِيلَ فِي الْيَهُودِ: عَاهَدُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ لَنُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَنَكُونَنَّ مَعَهُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْعُهُودُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ نَقَضُوهَا، كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ. قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ «١». وَقَرَأَ الجمهور: أو كلما، بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْوَاوِ فَقِيلَ: هِيَ زَائِدَةٌ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: هِيَ أَوْ السَّاكِنَةُ الْوَاوِ، حركت بِالْفَتْحِ، وَهِيَ بِمَعْنَى بَلْ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: وَاوُ الْعَطْفِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ وَالنَّحْوِيِّينَ: أَنَّ الْأَصْلَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْوَاوِ، وَالْفَاءِ، وَثُمَّ، عَلَى هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ. وَإِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، مُقَدَّرًا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ هُنَا أَكَفَرُوا بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ؟ وَكُلَّما عاهَدُوا «٢». وَقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ اخْتِيَارِهِ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بِالتَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ). وَالْمُرَادُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ: الْإِنْكَارُ، وَإِعْظَامُ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ تَكَرُّرِ عُهُودِهِمْ وَنَقْضِهَا، فَصَارَ ذَلِكَ عَادَةً لَهُمْ وَسَجِيَّةً. فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَرَثَ بِأَمْرِهِمْ، وَأَنْ لَا يَصْعُبَ ذَلِكَ، فَهِيَ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، إذ كفروا بما أنزل
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٥٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٠٠.
518
عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا كَانَ دَيْدَنًا لِلشَّخْصِ وَخُلُقًا، لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَفَلَ بِأَمْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ الْعَدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: أَوْ كُلَّمَا بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَخَرَّجَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَطْفِ عَلَى الْفَاسِقِينَ، وَقَدَّرَهُ: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الَّذِينَ فَسَقُوا، أَوْ نَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِرَارًا كَثِيرَةً. وَخَرَّجَهُ الَمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ أَوْ لِلْخُرُوجِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى غَيْرِهِ، بِمَنْزِلَةِ أَمْ الْمُنْقَطِعَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ، لِأُعَاقِبَنَّكَ، فَيَقُولُ لَهُ: أَوْ يُحْسِنُ اللَّهُ رَأْيَكَ، أَيْ بَلْ يُحْسِنُ الله رَأْيَكَ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، إِذْ يَكُونُ أَوْ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ بَلْ.
وَأَنْشَدُوا شَاهِدًا عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى قَوْلَ الشَّاعِرِ:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى وصورتها أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
وقد جاءت أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ:
مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ وَقَوْلِهِ:
صُدُورُ رِمَاحٍ أُشْرِعَتْ أَوْ سَلَاسِلُ يُرِيدُ: وَشَافِعٌ وَسَلَاسِلُ.
وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ: فِي قَوْلِهِ خَطِيئَةً، أَوْ إثما، أن المعنى: وإثما فَيُحْتَمَلُ أَنْ تُخَرَّجَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ: أو كلما عُوهِدُوا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ تُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ. وَانْتِصَابُ عَهْدًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصدر، أَيْ مُعَاهَدَةً، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ عَلَى تَضْمِينِ عَاهَدَ مَعْنَى: أَعْطَى، أَيْ أعطوا عهدا. وقرىء: عَهِدُوا، فَيَكُونُ عَهْدًا مَصْدَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ. مَا الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. نَبَذَهُ:
طَرَحَهُ، أَوْ نَقَضَهُ، أَوْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، أَوِ اعْتَزَلَهُ، أَوْ رَمَاهُ. أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، وَهِيَ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَنِسْبَةُ النَّبْذِ إِلَى الْعَهْدِ مَجَازٌ، لِأَنَّ الْعَهْدَ مَعْنًى، وَالنَّبْذَ حَقِيقَةٌ، إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَجَسِّدَاتِ: فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «١»، إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
«٢»، فَنَبَذَ خَاتَمَهُ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ، لَنُبِذَ بِالْعَراءِ «٣».
فَرِيقٌ مِنْهُمْ: الْفَرِيقُ اسْمُ جِنْسٍ لَا وَاحِدَ لَهُ، يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وقرأ
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٤٠.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ١٦. [.....]
(٣) سورة القلم: ٦٨/ ٤٩.
519
عَبْدُ اللَّهِ: نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ تُخَالِفُ سَوَادَ الْمُصْحَفِ، فَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ.
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونَ أَكْثَرُهُمْ مُبْتَدَأً، وَلَا يُؤْمِنُونَ خبر عَنْهُ، وَالضَّمِيرُ فِي أَكْثَرِهِمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي عَاهَدُوا، وَهُمُ الْيَهُودُ. وَمَعْنَى هَذَا الْإِضْرَابِ هُوَ: انْتِقَالٌ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ، وَيَكُونُ الْأَكْثَرُ عَلَى هَذَا وَاقِعًا على ما لا يَقَعُ عَلَيْهِ الْفَرِيقُ، كَأَنَّهُ أَعَمُّ، لِأَنَّ مَنْ نَبَذَ الْعَهْدَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَلِ الْفَرِيقُ الَّذِي نَبَذَ الْعَهْدَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ الْفَرِيقِ، مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَيَكُونَ أَكْثَرُهُمْ مَعْطُوفًا عَلَى فَرِيقٍ، أَيْ نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُونَ، جُمْلَةً حَالِيَّةً، الْعَامِلُ فِيهَا نَبَذَهُ، وَصَاحِبُ الْحَالِ هُوَ أَكْثَرُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ الْفَرِيقُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَأُسْنِدَ النَّبْذُ إِلَيْهِ، كَانَ فِيمَا يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّابِذُونَ قَلِيلًا، فَبَيَّنَ أَنَّ النَّابِذِينَ هُمُ الْأَكْثَرُ، وَصَارَ ذِكْرُ الْأَكْثَرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْيَسِيرُ مِنْهُمْ، فَكَانَ هَذَا إِضْرَابًا عَمَّا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الْفَرِيقِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْقَلِيلِ. وَالضَّمِيرُ فِي أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْفَرِيقِ، أَوْ عَلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ، ذَكَرَ الْأَكْثَرَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالنَّبْذِ، أَوْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ آمَنَ، وَمَنْ آمَنَ فَمَا نَبَذَ الْعَهْدَ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي كُتُبِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ: الضَّمِيرُ فِي جَاءَهُمْ عَائِدٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى عُلَمَائِهِمْ، وَالرَّسُولُ، محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، أَوْ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، أَوْ مَعْنَاهُ الرِّسَالَةُ، فَيَكُونُ مَصْدَرًا، كَمَا فَسَّرُوا بِذَلِكَ قَوْلَهُ:
لَقَدْ كَذَبَ الواشون ما بحت عندهم بِلَيْلَى وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أَيْ بِرِسَالَةٍ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْيَهُودِ إِنَّمَا سِيقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: قُلْ قل، وفَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ، وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالِالْتِفَاتِ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى اسْمٍ غَائِبٍ، وَوُصِفَ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ: تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، إِذِ الرَّسُولُ عَلَى قَدْرِ الْمُرْسَلِ. ثُمَّ وُصِفَ أَيْضًا بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، قَالُوا: وَتَصْدِيقُهُ أَنَّهُ خُلِقَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ تَصْدِيقُهُ عَلَى قَوَاعِدِ التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَأَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ، أَوْ تَصْدِيقُهُ: إِخْبَارُهُ بِأَنَّ الَّذِي مَعَهُمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُوسَى، أَوْ تَصْدِيقُهُ: إِظْهَارُ مَا سَأَلُوا عَنْهُ مِنْ غَوَامِضِ
520
التَّوْرَاةِ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وَإِذَا فُسِّرَ بِعِيسَى، فَتَصْدِيقُهُ هُوَ بِالتَّوْرَاةِ، وَإِذَا فُسِّرَ بِالرِّسَالَةِ، فَنِسْبَةُ الْمَجِيءِ وَالتَّصْدِيقِ إِلَى الرِّسَالَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مُصَدِّقًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَحَسَّنَ مَجِيئَهَا مِنَ النَّكِرَةِ كَوْنُهَا قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «١». لِما مَعَهُمْ: هُوَ التَّوْرَاةُ. وَقِيلَ: جَمِيعُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، كَزَبُورِ دَاوُدَ، وَصُحُفِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي يُؤْمِنُونَ بِهَا.
نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: الْكِتَابُ الَّذِي أُوتُوهُ هُوَ التَّوْرَاةُ، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لَأُوتُوا، عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَمَفْعُولٌ أَوَّلٌ عَلَى مَذْهَبِ السُّهَيْلِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ. كِتابَ اللَّهِ: هُوَ مَفْعُولٌ بِنَبَذَ. فَقِيلَ: كتاب الله هو التوراة. وَمَعْنَى نَبْذِهِمْ لَهُ:
اطِّرَاحُ أَحْكَامِهِ، أَوِ اطِّرَاحُ مَا فِيهِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذِ الْكُفْرُ بِبَعْضٍ، كُفْرٌ بِالْجَمِيعِ.
وَقِيلَ: الْإِنْجِيلُ، وَنَبْذُهُمْ لَهُ: اطِّرَاحُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ، وَهَذَا أَظْهَرُ، إِذِ الْكَلَامُ مَعَ الرَّسُولِ. فَصَارَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُصَدِّقُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهُمْ بِالْعَكْسِ، يُكَذِّبُونَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَطْرَحُونَهُ. وَأَضَافَ الْكِتَابَ إِلَى اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهُ، كَمَا أَضَافَ الرَّسُولَ إِلَيْهِ بِالْوَصْفِ السَّابِقِ، فَصَارَ ذَلِكَ غَايَةً فِي ذَمِّهِمْ، إِذْ جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِكِتَابِهِ الْمُصَدِّقِ لِكِتَابِهِمْ، وَهُوَ شَاهِدٌ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ، فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ، وَهَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الشَّيْءِ جُمْلَةً. تَقُولُ الْعَرَبُ: جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَدُبُرَ أُذُنِهِ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
تَمِيمُ بْنَ مُرٍّ لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي بِظَهْرٍ وَلَا يَعْيَا عَلَيْكَ جَوَابُهَا
وَقَالَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا جُعِلَ وَرَاءَ الظَّهْرِ فَلَا يُمْكِنُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ:
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا «٢». وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: النَّبْذُ وَالطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ مُتَقَارِبَةٌ، لَكِنَّ النَّبْذَ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِيمَا يَئِسَ، وَالطَّرْحُ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الْمَبْسُوطِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَالْإِلْقَاءُ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مُلَاقَاةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ.
كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَصَاحِبُ الْحَالِ فَرِيقٌ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ نَبَذَ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَنْ يَعْلَمُ بِمَنْ يَجْهَلُ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالشَّيْءِ لَا يَحْفُلُ بِهِ وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا شُعُورَ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ. وَمُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ، لَا يُدَاخِلُهُمْ فِيهِ شَكٌّ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَتَحَقُّقِهِ، وَإِنَّمَا نَبَذُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٧٩.
(٢) سورة هود: ١١/ ٩٢.
521
وَالْعِنَادِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ بين أيديهم يقرأونه، وَلَكِنَّهُمْ نَبَذُوا الْعَمَلَ بِهِ. وَعَنْ سُفْيَانَ أَدْرَجُوهُ فِي الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَحَلَّوْهُ بِالذَّهَبِ، وَلَمْ يُحِلُّوا حَلَالَهُ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا حَرَامَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ هُوَ التَّوْرَاةُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَادِقٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كُتُبُ اللَّهِ، وَأَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا حَقٌّ، وَالْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ.
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، مَعْنَى اتَّبَعُوا: أَيِ اقْتَدَوْا بِهِ إِمَامًا، أَوْ فَضَّلُوا، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ شَيْئًا فَضَّلَهُ، أَوْ قَصَدَ وَاوَ الضَّمِيرِ فِي وَاتَّبَعُوا لِلْيَهُودِ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ: يَعُودُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى جَمِيعِ الْيَهُودِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاتَّبَعُوا، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا جَاءَهُمْ إِلَى آخِرِهَا، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمْ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَّبَعَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لَا أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى مَجِيءِ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ ذَلِكَ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ، بِخِلَافِ نَبْذِ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مَجِيءِ الرَّسُولِ. وَتَتْلُو: تَتَبِّعُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ تَدَّعِي، أَوْ تَقْرَأُ، أَوْ تُحَدِّثُ، قَالَهُ عَطَاءٌ، أَوْ تَرْوِي، قَالَهُ يَمَانٌ، أَوْ تَعْمَلُ، أَوْ تَكْذِبُ، قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ. وَهِيَ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَمَا مَوْصُولَةٌ، صِلَتُهَا تَتْلُو، وَهُوَ مُضَارِعٌ فِي مَعْنَى الْمَاضِي، أَيْ مَا تَلَتْ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْمَعْنَى: مَا كَانَتْ تَتْلُو، لَا يُرِيدُونَ أَنَّ صِلَةَ مَا مَحْذُوفَةٌ، وَهِيَ كَانَتْ وَتَتْلُو، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّ الْمُضَارِعَ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَاضِي، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ، هُوَ إِخْبَارٌ بِقِيَامِ زَيْدٍ، وَهُوَ مَاضٍ لِدَلَالَةِ كَانَ عَلَيْهِ. وَالشَّيَاطِينُ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، لِأَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ الشَّيْطَانُ، تَبَادَرَ الذِّهْنُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْجَانِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: الشَّيَاطُونَ، بِالرَّفْعِ بِالْوَاوِ، هُوَ شَاذٌّ، قَاسَهُ عَلَى قَوْلِ الْعَرَبِ: بُسْتَانُ فُلَانٍ حَوْلَهُ بَسَاتُونَ، رَوَاهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْجِنَّ فَاحِشٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: شَبَّهَ فِيهِ الْيَاءَ قَبْلَ النُّونِ بِيَاءِ جَمْعِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْغَلَطِ.
وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: خَطَّأَهُ الْخَازَرْبَجِيُّ.
عَلَى مُلْكِ: مُتَعَلِّقٌ بِتَتْلُو، وَتَلَا يَتَعَدَّى بِعَلَى إِذَا كَانَ مُتَعَلِّقُهَا يُتْلَى عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ: يُتْلَى عَلَى زَيْدٍ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ الْمُلْكُ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَخْصًا يُتْلَى عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ زَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ عَلَى تَكُونُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ تَتْلُو فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا:
522
لَا تَكُونُ عَلَى فِي مَعْنَى فِي، بَلْ هَذَا مِنَ التَّضْمِينِ فِي الْفِعْلِ ضُمِّنَ تَتَقَوَّلُ، فَعُدِّيَتْ بِعَلَى لِأَنَّ تَقَوَّلَ: تُعَدَّى بِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا «١» وَمَعْنَى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أَيْ شَرْعِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَحَالِهِ. وَقِيلَ: عَلَى عَهْدِهِ، وَفِي زَمَانِهِ، وَهُوَ قَرِيبٌ. وَقِيلَ: عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ آلَاتِ مُلْكِهِ. وَفَسَّرُوا مَا يَتْلُو الشَّيَاطِينُ بِالسِّحْرِ، قَالُوا: وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَالْأَظْهَرُ عَلَى مَا نُقِلَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، مِنْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَتَبَتِ السِّحْرَ وَاخْتَلَقَتْهُ وَنَسَبَتْهُ إِلَى سُلَيْمَانَ وَآصَفَ. وَقِيلَ: الَّذِي تَلَتْهُ هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي تُضِيفُهُ إِلَى مَا تَسْتَرِقُ مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، وَأَضَافُوا ذَلِكَ إِلَى سُلَيْمَانَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِ مَا يَتْلُونَهُ، لِأَنَّ الَّذِي كَانَ مَعَهُ: مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِظْهَارِ الْخَوَارِقِ، وَتَسْخِيرِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَتَقْرِيبِ الْمُتَبَاعِدَاتِ، وَتَأْلِيفِ الْخَوَاطِرِ، وَتَكْلِيمِ الْعَجْمَاوَاتِ، كَانَ أَمْرًا عَظِيمًا. وَالسَّاحِرُ يَدَّعِي أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ: مِنْ تَسْخِيرِ الْجِنِّ، وَبُلُوغِ الْآمَالِ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الْخَوَاطِرِ، بَلْ وَيَدَّعِي قَلْبَ الْأَعْيَانِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى السِّحْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا حَصَلَ بِالسِّحْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّاتِ مَا رَتَّبُوهُ مِنْ هَذَا الَّذِي تَلَوْهُ قِصَصًا كَثِيرَةً، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَلَا الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ الصَّحِيحُ لِشَيْءٍ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ نَذْكُرْهُ.
وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ: تَنْزِيهٌ لِسُلَيْمَانَ عَنِ الْكُفْرِ، أَيْ لَيْسَ مَا اخْتَلَقَتْهُ الْجِنُّ مِنْ نِسْبَةِ مَا تَدَّعِيهِ إِلَى سُلَيْمَانَ تَعَاطَاهُ سُلَيْمَانُ، لِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَمَنْ نَبَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، فَضْلًا عَنِ الْكُفْرِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نَفْيِ الشَّيْءِ عَمَّنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَا نَسَبُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مِنَ السِّحْرِ يَكُونُ كُفْرًا، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ نَسَبُوا إِلَيْهِ الْكُفْرَ مَعَ السِّحْرِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ: انْظُرُوا إِلَى مُحَمَّدٍ يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا.
وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْآيَاتِ أَنَّ أَحَدًا نَسَبَ سُلَيْمَانَ إِلَى الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهَا آيَةٌ نَزَلَتْ فِي السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ الْيَهُودَ نَسَبَتْهُ إِلَى السِّحْرِ وَالْعَمَلِ بِهِ.
وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا: كُفْرُهُمْ، إِمَّا بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَإِمَّا تَعَلُّمِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا بِتَكْفِيرِهِمْ سُلَيْمَانَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُفْرُهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَاسْتِعْمَالُ لَكِنَّ هَنَا حَسَنٌ، لِأَنَّهَا بَيْنَ نَفْيٍ وإثبات. وقرىء: وَلَكِنَّ بِالتَّشْدِيدِ، فَيَجِبُ إِعْمَالُهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وابن
(١) سورة الحاقة: ٦٩/ ٤٤.
523
كثير وأبي عمرو. وقرىء: بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَرَفْعِ مَا بَعْدَهَا بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. وَإِذَا خُفِّفَتْ، فَهَلْ يَجُوزُ إِعْمَالُهَا؟ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ الْجُمْهُورُ: عَلَى الْمَنْعِ وَنَقَلَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الرِّمَاكِ عَنْ يُونُسَ جَوَازَ إِعْمَالِهَا، وَنَقَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ عَنِ الْأَخْفَشِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: الِاخْتِيَارُ، التَّشْدِيدُ إِذَا كَانَ قَبْلَهَا وَاوٌ، وَالتَّخْفِيفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَاوٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُخَفَّفَةً تَكُونُ عَاطِفَةً وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى وَاوٍ مَعَهَا. كَبَلْ: فَإِذَا كَانَتْ قَبْلَهَا وَاوٌ لَمْ تُشْبِهْ بَلْ، لِأَنَّ بَلْ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ، فَإِذَا كَانَتْ لَكِنَّ مُشَدَّدَةً عَمِلَتْ عَمَلَ إِنَّ، وَلَمْ تَكُنْ عَاطِفَةً. انْتَهَى الْكَلَامُ. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ لَكِنَّ تَكُونُ عَاطِفَةً، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَكِنَّ تَكُونُ عَاطِفَةً. وَذَهَبَ يُونُسُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَا يُحْفَظُ ذَلِكَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، بَلْ إِذَا جَاءَ بَعْدَهَا مَا يُوهِمُ الْعَطْفَ، كَانَتْ مَقْرُونَةً بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ «١». وَأَمَّا إِذَا جَاءَتْ بَعْدَهَا الْجُمْلَةُ، فَتَارَةً تَكُونُ بِالْوَاوِ، وَتَارَةً لَا يَكُونُ مَعَهَا الْوَاوُ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
إِنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ لَكِنْ وَقَائِعَهُ فِي الْحَرْبِ تُنْتَظَرُ
وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ النَّحْوِيِّينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، وَمَا ضَرَبْتُ زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا، وَمَا مَرَرْتُ بِزَيْدٍ لَكِنْ عَمْرٍو، فَهُوَ مِنْ تَمْثِيلِهِمْ، لَا أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ. ومن غريب ما قيل فِي لَكِنَّ: أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَلِمٍ ثَلَاثٍ: لَا لِلنَّفْيِ، وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ، وَأَنَّ الَّتِي لِلْإِثْبَاتِ وَالتَّحْقِيقِ، وَأَنَّ الْهَمْزَةَ حُذِفَتْ لِلِاسْتِثْقَالِ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَسِيطَةٌ.
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: الضَّمِيرُ فِي يُعَلِّمُونَ اخْتُلِفَ فِي مَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الشَّيَاطِينِ، يَقْصِدُونَ بِهِ إِغْوَاءَهُمْ وَإِضْلَالَهُمْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي كَفَرُوا. قَالُوا: أَوْ خَبَرًا ثَانِيًا. وَقِيلَ:
حَالٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَرُدَّ بِأَنَّ لَكِنَّ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَالِ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ كَفَرُوا، بَدَلَ الْفِعْلِ مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ تَعْلِيمَ الشَّيَاطِينِ السِّحْرَ كُفْرٌ فِي الْمَعْنَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ، عَلَى اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ ضَمِيرُ اتَّبَعُوا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: يَعْلَمُ الْمُتَّبِعُونَ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ النَّاسَ، فَالنَّاسُ مُعَلِّمُونَ لِلْمُتَّبِعِينَ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُونَ مُعَلِّمِينَ لِلشَّيَاطِينِ.
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٠.
524
وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَلْبُ الْأَعْيَانِ وَاخْتِرَاعُهَا وَتَغْيِيرُ صُوَرِ النَّاسِ مِمَّا يُشْبِهُ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، كَالطَّيَرَانِ وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ فِي لَيْلَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ خُدَعٌ وَمَخَارِيقُ وَتَمْوِيهَاتٌ وَشَعْوَذَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «١».
وَفِي الْحَدِيثِ، حِينَ سَحَرَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ».
وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: يَرَوْنَ أَنَّ السِّحْرَ لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الِإسْتِرَابَاذِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمْرٌ يَأْخُذُ بِالْعَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْحِيلَةِ، وَمِنْهُ:
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ «٢»،
كَمَا رُوِيَ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا، فَسَجَرُوا تَحْتَهَا نَارًا، فَحَمِيَتِ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ، فَتَحَرَّكَتْ وَسَعَتْ.
وَلِأَرْبَابِ الْحِيَلِ وَالدَّكِّ وَالشَّعْوَذَةِ مِنْ هَذَا أَشْيَاءُ، يُبَيَّنُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ الْمُسَمَّى (بِكَشْفِ الدَّكِّ وَالشَّعْوَذَةِ وَإِيضَاحِ الشَّكِّ)، وَفِي كِتَابِ (إِرْخَاءِ السُّتُورِ وَالْكَلَلِ فِي الشَّعْوَذَةِ وَالْحِيَلِ).
وَفِي الْحَدِيثِ، حِينَ انْشَقَّ الْقَمَرُ نِصْفَيْنِ بِمَكَّةَ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اصْبِرُوا حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلُ الْبَوَادِي، فَإِنْ لَمْ يُخْبِرُوا بِذَلِكَ، كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ سَحَرَ أَعْيُنَنَا، فَأَتَوْا فَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ عَظِيمٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ خِدْمَةِ الْجِنِّ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوهُ مَنْ جنس لطيف أجسامهم وهيآتها، فَلَطُفَ وَدَقَّ وَخَفِيَ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْسَامٍ تُجْمَعُ وَتُحْرَقُ، وَتُتَّخَذُ مِنْهَا أَرْمِدَةٌ وَمِدَادٌ، وَيُتْلَى عَلَيْهَا أَسْمَاءٌ وَعَزَائِمُ، ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا مِنَ السِّحْرِ.
السَّادِسُ: أَنَّ أَصْلَهُ طَلْسَمَاتٌ وَقَلْفَطْرِيَّاتٌ، تُبْنَى عَلَى تَأْثِيرِ خَصَائِصِ الْكَوَاكِبِ، كَتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِي زِئْبَقِ عَصَى فِرْعَوْنَ، أَوِ اسْتِخْدَامِ الشَّيَاطِينِ لِتَسْهِيلِ مَا عَسُرَ. السَّابِعُ: أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَاتٍ مَمْزُوجَةٍ بِكُفْرٍ. قَالَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا الَّتِي قَالُوهَا فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ أَنْوَاعٌ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ، وَقَدْ ضُمَّ إِلَيْهَا أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنَ الشَّعْبَذَةِ وَالدَّكِّ وَالنَّارِنْجِيَّاتِ وَالْأَوْفَاقِ وَالْعَزَائِمِ وَضُرُوبِ الْمَنَادِلِ وَالصَّرَعِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَا يُشَكُّ فِي أَنَّ السِّحْرَ كَانَ مَوْجُودًا، لِنُطْقِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِهِ. وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا الْآنَ، فَكُلَّمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي الْكُتُبِ، فَهُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ. وَكَذَلِكَ الْعَزَائِمُ وَضَرْبُ الْمَنْدَلِ، وَالنَّاسُ الَّذِينَ يُعْتَقَدُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ، يُصَدِّقُونَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَيُصْغُونَ إِلَى سَمَاعِهَا. وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ، إِذَا أَفْلَسَ، وَضَعَ كُتُبًا وَذَكَرَ فِيهَا أَشْيَاءَ مِنْ رَأْسِهِ، وَبَاعَهَا فِي الْأَسْوَاقِ بِالدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ. وَقَدْ أَطْلَقَ اسْمَ السِّحْرِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَشْيِ بَيْنَ النَّاسِ بِالنَّمِيمَةِ، لِأَنَّ فِيهِ قلب الصديق
(١) سورة طه: ٢٠/ ٦٦.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١١٦.
525
عَدُوًّا، وَالْحَبِيبِ بَغِيضًا. كَمَا أُطْلِقَ عَلَى حُسْنِ التَّوَسُّلِ بِاللَّفْظِ الرَّائِقِ الْعَذْبِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِمَالَةِ، وَسُمِّيَ: سِحْرًا حَلَالًا.
وَقَدْ رُوِيَ إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا
، وَقَالَ:
وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلَالُ لَوَ انَّهُ لَمْ يَجْنِ قتل المسلم المنحرز
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: أَنَّهُمْ يُفَهِّمُونَهُمْ إِيَّاهُ بِالْإِقْرَاءِ وَالتَّعْلِيمِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَدُلُّونَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْكُتُبِ، فَأَطْلَقَ عَلَى الدَّلَالَةِ تَعْلِيمًا، تسمية للمسبب بالسبب. وقيل: الْمَعْنَى يُوَقِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّهَا حَقٌّ، تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا تَمَّ لَهُ مَا تَمَّ بِذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا تَسْمِيَةٌ لِلْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ. وَقِيلَ: يُعَلِّمُونَ مَعْنَاهُ يُعْلِمُونَ، أَيْ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا يَتَعَلَّمُونَ بِهِ السِّحْرَ، أَوْ بِمَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ وَلَمْ يُعَلِّمُوهُمْ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْلَامِ لَا مِنْ بَابِ التَّعْلِيمِ. وَأَمَّا حُكْمُ السِّحْرِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّيَاطِينِ، وَإِضَافَةِ مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ إِلَيْهَا، فَهُوَ كُفْرٌ إِجْمَاعًا، لَا يَحِلُّ تَعَلُّمُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ.
وَكَذَا مَا قُصِدَ بِتَعَلُّمِهِ سَفْكُ الدِّمَاءِ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالْأَصْدِقَاءِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يُحْتَمَلُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ تَعَلُّمُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ. وَمَا كَانَ مِنْ نَوْعِ التَّحَيُّلِ وَالتَّخْيِيلِ وَالدَّكِّ وَالشَّعْبَذَةِ، فَإِنْ قَصَدَ بِتَعْلِيمِهِ الْعَمَلَ بِهِ وَالتَّمْوِيهَ عَلَى النَّاسِ، فَلَا يَنْبَغِي تَعَلُّمُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبَاطِلِ. وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مَعْرِفَتَهُ لِئَلَّا تَتِمَّ عَلَيْهِ مَخَايِلُ السَّحَرَةِ وَخُدَعُهُمْ، فَلَا بَأْسَ بِتَعَلُّمِهِ، أَوِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَتَفْرِيجِ النَّاسِ عَلَى خِفَّةِ صَنْعَتِهِ فَيُكْرَهُ.
رُوِيَ: لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا دَدٌ مِنِّي.
وَأَمَّا سِحْرُ الْبَيَانِ، فَمَا أُرِيدَ بِهِ تَأْلِيفُ الْقُلُوبِ عَلَى الْخَيْرِ، فَهُوَ السِّحْرُ الْحَلَالُ، أَوْ سَتْرُ الْحَقِّ، فَلَا يَجُوزُ تَعَلُّمُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ. وَأَمَّا حُكْمُ السَّاحِرِ حَدًّا وَتَوْبَةً، فَقَدْ تَعَرَّضَ الْمُفَسِّرُونَ لِذَلِكَ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ، فَتُذْكَرُ فِيهِ.
وَما أُنْزِلَ: ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا مَوْصُولٌ اسْمِيٌّ مَنْصُوبٌ، وَأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ:
السِّحْرَ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ التَّغَايُرُ، فَلَا يَكُونُ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ سِحْرًا. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ، أَيْ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ، والَّذِي أُنْزِلَ «١»، وَظَاهِرُهُ أَنَّ مَا عَلَّمُوهُ النَّاسَ، أَوْ مَا اتَّبَعُوهُ هُوَ مُنَزَّلٌ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْمُنَزَّلِ الَّذِي عُلِّمَ، أَوِ الَّذِي اتُّبِعَ فَقِيلَ: عِلْمُ السِّحْرِ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ لِلنَّاسِ، مَنْ تَعَلَّمَهُ مِنْهُمْ وَعَمِلَ بِهِ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ تَجَنَّبَهُ أَوْ تَعَلَّمَهُ لَا يَعْمَلُ بِهِ وَلَكِنْ لِيَتَوَقَّاهُ وَلِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ كَانَ مُؤْمِنًا، كَمَا ابْتُلِيَ قَوْمُ
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٥.
526
طَالُوتَ بِالنَّهَرِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الْمُنَزَّلُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَهُوَ دُونَ السِّحْرِ. وَقِيلَ: السِّحْرُ لِيُعْلَمَ عَلَى جِهَةِ التَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَالتَّعْلِيمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنَّمَا هُوَ تَعْرِيفٌ يَسِيرٌ بِمَبَادِئِهِ. وَقِيلَ: مَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَالْمَعْنَى: افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَافْتِرَاءً عَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمَلَكَانِ نَازِلًا عَلَيْهِمَا السِّحْرُ، قَالَ: لِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ إِنْزَالُهُ، وَلَا يُضَافُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يُبْطِلُهُ، وَإِنَّمَا الْمُنَزَّلُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ الشَّرْعُ، وَإِنَّهُمَا كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: مَا حَرْفُ نَفْيٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ بِالسِّحْرِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ.
عَلَى الْمَلَكَيْنِ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا مَلَكَانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَلَكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ «١»، فَقِيلَ: هَمَّا جِبْرِيلَ وَمِيكَالُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ. وَقِيلَ: مَلَكَانِ غَيْرُهُمَا وَهُمَا: هَارُوتُ وَمَارُوتُ.
وَقِيلَ: مَلَكَانِ غَيْرُهُمَا، وَسَيَأْتِي إِعْرَابُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَلَى تَقْدِيرِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبْزَى: الْمَلِكَيْنِ، بِكَسْرِ اللَّامِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا رَجُلَانِ سَاحِرَانِ كَانَا بِبَابِلَ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُعَلِّمُ النَّاسَ السِّحْرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا عِلْجَانِ بِبَابِلِ الْعِرَاقِ. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ أَبْزَى: هُمَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ: هُمَا شَيْطَانَانِ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبْزَى تَكُونُ مَا نَافِيَةً، وَعَلَى سَائِرِ الْأَقْوَالِ، فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، تَكُونُ مَا مَوْصُولَةً. وَمَعْنَى الْإِنْزَالِ: الْقَذْفُ فِي قُلُوبِهِمَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ، قَصَصًا كَثِيرًا، تَتَضَمَّنُ:
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعَجَّبَتْ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَكَّتَهُمْ، بِأَنْ قَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ لِلْهُبُوطِ إِلَى الْأَرْضِ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا الشَّهْوَةَ، فَحَكَمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَافْتُتِنَا بِامْرَأَةٍ، تُسَمَّى بِالْعَرَبِيَّةِ الزُّهْرَةَ، وَبِالْفَارِسِيَّةِ مِيذَخْتَ، فَطَلَبَاهَا وَامْتَنَعَتْ، إِلَّا أَنْ يَعْبُدَا صَنَمًا، وَيَشْرَبَا الْخَمْرَ وَيَقْتُلَا. فَخَافَا عَلَى أَمْرِهِمَا، فَعَلَّمَاهَا مَا تَصْعَدُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا تَنْزِلُ بِهِ، فَصَعِدَتْ وَنَسِيَتْ مَا تَنْزِلُ بِهِ، فَمُسِخَتْ. وَأَنَّهُمَا تَشَفَّعَا بِإِدْرِيسَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَخَيَّرَهُمَا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَهُمَا بِبَابِلَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٤.
527
يُعَذَّبَانِ. وَذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ عَذَابِهِمَا اخْتِلَافًا. وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ. وَالْمَلَائِكَةُ مَعْصُومُونَ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «١»، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ «٢»، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ. وَلَا يَصِحُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْعَنُ الزُّهْرَةَ وَلَا ابْنَ عُمَرَ. وَقِيلَ: سَبَبُ إِنْزَالِ الْمَلَكَيْنِ: أَنَّ السَّحَرَةَ كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَادَّعَوُا النُّبُوَّةَ، وَتَحَدَّوُا النَّاسَ بِالسِّحْرِ. فَجَاءَا لِيُعَلِّمَا النَّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ مُعَارَضَةِ السِّحْرِ، فَيَتَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ فِي دَعْوَاهُمُ النُّبُوَّةَ، أَوْ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ وَالسِّحْرَ مَاهِيَّتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ، وَيَعْرِضُ بَيْنَهُمَا الالتباس. فجاء الإيضاح الْمَاهِيَّتَيْنِ، أَوْ لِأَنَّ السِّحْرَ الَّذِي يُوقِعُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ كَانَ مُبَاحًا، أَوْ مَنْدُوبًا، فَبُعِثَا لِذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ الْقَوْمُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ. أَوْ لِأَنَّ الْجِنَّ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ مَا لَمْ تَقْدِرِ الْبَشَرُ عَلَى مِثْلِهِ، فَأُنْزِلَا بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْمُعَارَضَةِ. وَقِيلَ: أُنْزِلَا عَلَى إِدْرِيسَ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَكُونُونَ رُسُلًا لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَلَا بُدَّ مِنْ رَسُولٍ مِنَ الْبَشَرِ.
بِبابِلَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مِنْ نَصِيبِينَ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ. وَقِيلَ: هِيَ جَبَلُ دَمَاوَنْدَ. وَقِيلَ: هِيَ بِالْمَغْرِبِ. وَقِيلَ: فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، فِيهَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَسُمِّيَتْ بِبَابِلَ، قَالَ الْخَلِيلُ: لِتَبَلْبُلِ الْأَلْسِنَةِ حِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهَا، أَتَتْ رِيحٌ فَحَشَرَتِ النَّاسَ إِلَى بَابِلَ، فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا يَقُولُ الْآخَرُ، ثُمَّ فَرَّقَتْهُمُ الرِّيحُ فِي الْبِلَادِ. وَقِيلَ: لِتَبَلْبُلِ الْأَلْسِنَةِ بِهَا عِنْدَ سُقُوطِ قَصْرِ نَمْرُوذَ. هارُوتَ وَمارُوتَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ التَّاءِ، وَهُمَا بَدَلٌ مِنَ الْمَلَكَيْنِ، وَتَكُونُ الْفَتْحَةُ عَلَامَةً لِلْجَرِّ لِأَنَّهُمَا لَا يَنْصَرِفَانِ، وَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُمَا اسْمَانِ لَهُمَا. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ، فَتَكُونُ الْفَتْحَةُ عَلَامَةً لِلنَّصْبِ، وَلَا يَكُونُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَيْنِ لِلْمَلَكَيْنِ. وَقِيلَ: هُمَا قَبِيلَتَانِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونَانِ بَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَتَكُونُ الْفَتْحَةُ عَلَامَةً لِلنَّصْبِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ الشَّيَاطِينَ. وَأَمَّا مَنْ رَفَعَ الشَّيَاطِينَ، فَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الذَّمِّ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَذُمُّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، أَيْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أُقَارِعُ عَوْفٍ لَا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا وُجُوهُ قُرُودٍ تَبْتَغِي من تُخَادِعُ
وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ الْمَلَكَيْنِ، بِفَتْحِ اللَّامِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِهَا، فَيَكُونَانِ بَدَلًا مِنَ الْمَلَكَيْنِ، إِلَّا إِذَا فُسِّرَا بِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَلَا يَكُونُ هاروت وماروت بدلا
(١) سورة التحريم: ٦٦/ ٦.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٩ و ٢٠.
528
مِنْهُمَا، وَلَكِنْ يَتَعَلَّقَانِ بِالشَّيَاطِينِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا فِي رَفْعِ الشَّيَاطِينِ وَنَصْبِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ: هَارُوتُ وَمَارُوتُ بِالرَّفْعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمَا هَارُوتُ وَمَارُوتُ، إِنْ كَانَا مَلَكَيْنِ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَا بَدَلًا مِنَ الشَّيَاطِينِ، الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَهُ، إِنْ كَانَا شَيْطَانَيْنِ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْقَوْلُ فِي هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَأَنَّهُمَا أَعْجَمِيَّانِ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمَا مُشْتَقَّانِ مِنَ الْهَرْتِ وَالْمَرْتِ، وَهُوَ الْكَسْرُ، وَقَوْلُهُ خَطَأٌ، بِدَلِيلِ مَنْعِهِمُ الصَّرْفَ لَهُمَا، وَلَوْ كَانَا، كَمَا زَعَمَ، لَانْصَرَفَا، كَمَا انْصَرَفَ جَامُوسٌ إِذَا سَمَّيْتَ بِهِ.
وَاخْتُصَّتْ بَابِلُ بِالْإِنْزَالِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَكْثَرَ الْبِلَادِ سِحْرًا.
وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ، مِنْ عَلَّمَ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّعْلِيمِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ هُنَا بِمَعْنَى يُعَلِّمَانِ التَّضْعِيفُ، وَالْهَمْزَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْإِعْلَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ. وَمَا يُعَلِّمَانِ: مِنْ أَعْلَمَ قَالَ: لِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ إِنَّمَا نَزَلَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ وَيَنْهَيَانِ عَنْهُ. وَالضَّمِيرُ فِي يُعَلِّمَانِ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، أَيْ وَمَا يُعَلِّمُ الْمَلَكَانِ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ، أَيْ بِإِظْهَارِ الْفَاعِلِ لَا إِضْمَارِهِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَفِي الثَّانِي عَلَى الْبَدَلِ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ، فَزِيدَتْ هُنَا لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: مَا قَامَ مِنْ رَجُلٍ، فَإِنَّهَا زِيدَتْ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَشَرْطُ زِيَادَتِهَا هُنَا مَوْجُودٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا نَكِرَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى زِيَادَةِ مِنْ فِي (كِتَابِ مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ أحد هنا بمعنى واحد، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. حَتَّى يَقُولا: حَتَّى هُنَا: حَرْفُ غَايَةٍ، وَالْمَعْنَى انْتِفَاءُ تَعْلِيمِهِمَا، أَوْ إِعْلَامِهِمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي يُعَلِّمَانِ إِلَى أَنْ يَقُولَا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَتَّى هُنَا بِمَعْنَى إِلَّا أَنْ، وَهَذَا مَعْنًى لِحَتَّى لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ذَكَرَهُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي (التَّسْهِيلِ) وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ:
لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ
قَالَ: يُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَجُودَ، وَمَا فِي إِنَّما كَافَّةٌ، لِإِنَّ عَنِ الْعَمَلِ، فَيَصِيرُ مِنْ حُرُوفِ الِابْتِدَاءِ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ عَمَلَ إِنَّ مَعَ وُجُودِ مَا، نَحْوُ: إِنَّمَا زيدا قَائِمٌ. نَحْنُ فِتْنَةٌ: أَيِ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ.
فَلا تَكْفُرْ:
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَا يُعَلِّمَانِ تَعْلِيمَ إِنْذَارٍ لَا تَعْلِيمَ دُعَاءٍ إِلَيْهِ
529
كَأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: لَا تَفْعَلْ كَذَا، كَمَا لَوْ سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ صِفَةِ الزِّنَا، أَوِ الْقَتْلِ، فَأُخْبِرَ بِصِفَتِهِ لِيَجْتَنِبَهُ. فَكَانَ الْمَعْنَى فِي يُعَلِّمَانِ: يُعْلِمَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَا تَكْفُرْ: فَلَا تَتَعَلَّمْ، مُعْتَقِدًا أَنَّهُ حَقٌّ فَتَكْفُرَ. وَحَكَى الَمَهْدَوِيُّ: أَنَّ قَوْلَهُمَا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ، فَلَا تَكْفُرْ اسْتِهْزَاءٌ، لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يَقُولَانِهِ لِمَنْ قَدْ تَحَقَّقَا ضَلَالَهُ. وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) قَوْلُهُ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ تَوْكِيدٌ لِقَبُولِ الشَّرْعِ وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ تَمْتَثِلُ وَأُخْرَى تُخَالِفُ. وَقِيلَ: فَلَا تَكْفُرْ، أَيْ لَا تَسْتَعْمِلْهُ فِيمَا نُهِيتَ عَنْهُ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَفْتَ عَلَيْهِ فَتَحَرَّزْ مِنْ أَنْ يَنْفُذَ لِسَاحِرٍ عَلَيْكَ تَمْوِيهٌ.
وَقِيلَ: فَلَا تَفْعَلْهُ لِتَعْمَلَ بِهِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: تَعَلُّمُهُ جَائِزٌ وَالْعَمَلُ بِهِ كُفْرٌ. وَقِيلَ: فَلَا تَكْفُرْ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن تَعَلُّمَهُ كُفْرٌ. وَقِيلَ: فَلَا تَكْفُرْ بِنَا، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ: إِنَّ الْمَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ بِالسِّحْرِ، وَإِنَّ مَنْ تَعَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ كَافِرًا، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ مُؤْمِنًا، كَمَا جَاءَ فِي نَهَرِ طَالُوتَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا حَكَاهُ الَمَهْدَوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُمَا: فَلَا تَكْفُرْ، عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، لَا عَلَى سَبِيلِ النَّصِيحَةِ. وَقَوْلَهُ: حَتَّى يَقُولَا مُطْلَقًا فِي الْقَوْلِ، وَأَقَلُّ مَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَقِيلَ مَرَّةٌ، وَقِيلَ سَبْعُ مَرَّاتٍ، وَقِيلَ تِسْعُ مَرَّاتٍ، وَقِيلَ ثَلَاثٌ. وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، فَيَكُونُ مُحْتَمَلًا، وَالْمُتَحَقِّقُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَلَقِّي ذَلِكَ الْعِلْمِ مِنْهُمَا، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَارُوتُ وَمَارُوتُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا أَحَدٌ، وَيَخْتَلِفُ إِلَيْهِمَا شَيْطَانَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ اخْتِلَافَةً وَاحِدَةً، فَيَتَعَلَّمَانِ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقَانِ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ هُمَا اللَّذَانِ يُبَاشِرَانِ التَّعْلِيمَ لِقَوْلِهِ: وَما يُعَلِّمانِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ قِصَصًا فِيمَا يَعْرِضُ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ بَيْنَ الْمَلَكَيْنِ وَبَيْنَ مَنْ جَاءَ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُمَا، وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ الْقَصَصِ أَنَّهُمَا يَأْمُرَانِهِ بِأَنْ يَبُولَ فِي تَنُّورٍ.
فَاخْتَلَفُوا فِي الْإِيمَانِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، أَيَرَى فَارِسًا مُقَنَّعًا بِحَدِيدٍ يَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى يَغِيبَ فِي السَّمَاءِ؟ أَوْ نُورًا خَرَجَ مِنْ رَمَادٍ يَسْطَعُ حَتَّى يَدْخُلَ السَّمَاءَ؟ أَوْ طَائِرًا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ ثِيَابِهِ وَطَارَ نَحْوَ السَّمَاءِ؟ وَفَسَّرُوا ذَلِكَ الْخَارِجَ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ. وَهَذَا كُلُّهُ شَيْءٌ لَا يَصِحُّ أَلْبَتَّةَ، فَلِذَلِكَ لَخَّصْنَا مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ، حَتَّى لَا نُخَلِّيَ كِتَابَنَا مِمَّا ذكروه.
فَيَتَعَلَّمُونَ: قال الْفَرَّاءُ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَيَأْبَوْنَ فَيَتَعَلَّمُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: هُوَ عَطْفٌ عَلَى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ بِسَبَبِ لَفْظِ الْجَمْعِ فِي يُعَلِّمُونَ وَقَدْ قَالَ مِنْهُمَا وَأَجَازَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ عَطْفُ فَيَتَعَلَّمُونَ عَلَى يُعَلِّمُونَ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ خَاصَّةً، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمَا رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا، إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ
530
ذِكْرِ الْمَلَكَيْنِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى كَفَرُوا، قَالَ: وَارْتَفَعَتْ فَيَتَعَلَّمُونَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ عَنِ الْمَلَكَيْنِ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَكْفُرْ، فَيَتَعَلَّمُوا لِيَجْعَلَا كُفْرَهُ سَبَبًا لِتَعَلُّمِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى كَفَرُوا فَيَتَعَلَّمُونَ. يُرِيدُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ فَيَتَعَلَّمُونَ لَيْسَ بِجَوَابٍ لِقَوْلِهِ: فَلَا تَكْفُرْ، فَيُنْصَبُ كما نصب لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ «١»، لِأَنَّ كُفْرَ مَنْ نُهِيَ أَنْ يَكْفُرَ فِي الْآيَةِ، لَيْسَ سَبَبًا لِتَعَلُّمِ مَنْ يَتَعَلَّمُ. وَكَفَرُوا: فِي مَوْضِعِ فِعْلٍ مَرْفُوعٍ، فَعُطِفَ عَلَيْهِ، مَرْفُوعٌ، وَلَا وَجْهَ لِاعْتِرَاضِ مَنِ اعْتَرَضَ فِي الْعَطْفِ عَلَى كَفَرُوا، أَوْ عَلَى يَعْلَمُونَ، بِأَنَّ فِيهِ إِضْمَارَ الْمَلَكَيْنِ. قِيلَ: ذَكَرَهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما إِنَّمَا جَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَكَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ، هو على إضمارهم، أَيْ فَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ، فَتَكُونُ جُمْلَةً ابْتِدَائِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا عَطْفَ الْجُمَلِ، وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي فَيَتَعَلَّمُونَ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَيَتَعَلَّمُونَ مَعْطُوفًا عَلَى يُعَلِّمَانِ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي فَيَتَعَلَّمُونَ لِأَحَدٍ، وَجُمِعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «٢». وَهَذَا الْعَطْفُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَنْفِيٍّ، فلذلك الْمَنْفِيُّ هُوَ مُوجَبٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ كُلَّ وَاحِدٍ، إِذَا قَالَا لَهُ: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ هَذَا الْوَجْهَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: الْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى يُعَلِّمَانِ فَيَتَعَلَّمُونَ، وَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ يُعَلِّمَانِ، بِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا وَجْهَ لِقَوْلِ الزَّجَّاجِ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ يُعَلِّمَانِ، لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي النَّصِّ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ مُغَالَطَةٌ، لِأَنَّ الزَّجَّاجَ لَمْ يُرِدْ أَنَّ فَيَتَعَلَّمُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى يُعَلِّمَانِ، الدَّاخِلِ عَلَيْهَا مَا النَّافِيَةُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا مَا يُعَلِّمَانِ، فَيَكُونَ يُعَلِّمَانِ مَوْجُودًا فِي النَّصِّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّ يُعَلِّمَانِ مُضْمَرَةٌ مُثْبَتَةٌ لَا مَنْفِيَّةٌ.
وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي النَّصِّ. وَحَمَلَ أَبَا عَلِيٍّ عَلَى هَذِهِ الْمُغَالَطَةِ حُبُّ رَدِّهِ عَلَى الزَّجَّاجِ وَتَخْطِئَتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مُولَعًا بِذَلِكَ. وَلِلشَّنَآنِ الْجَارِي بَيْنَهُمَا سَبَبٌ ذَكَرَهُ النَّاسُ. انْتَهَى مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْعَطْفِ، وَأَكْثَرُهُ كَلَامُ الَمَهْدَوِيِّ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ. وَتَلَخَّصَ فِي هَذَا الْعَطْفِ أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَيَأْبَوْنَ فَيَتَعَلَّمُونَ، أَوْ يُعَلِّمَانِ فَيَتَعَلَّمُونَ، أَيْ عَلَى مُثْبَتٍ، أَوْ يَتَعَلَّمُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ عَطْفَ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ عَلَى فِعْلِيَّةٍ، أَوْ مَعْطُوفًا عَلَى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، أَوْ معطوفا على
(١) سورة طه: ٢٠/ ٦١.
(٢) سورة الحاقة: ٦٩/ ٤٧.
531
كَفَرُوا، أَوْ عَلَى يُعَلِّمَانِ الْمَنْفِيَّةِ لِكَوْنِهَا مُوجَبَةً فِي الْمَعْنَى. فَتِلْكَ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ، أَقْرَبُهَا إِلَى اللَّفْظِ هَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ.
مِنْهُما: الضَّمِيرُ فِي الظَّاهِرِ عَائِدٌ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، أَيْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنَ الملكين، سواء قرىء بِفَتْحِ اللَّامِ، أَوْ كَسْرِهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى السِّحْرِ، وَعَلَى الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الملكين، سواء قرىء بِفَتْحِ اللَّامِ، أَوْ كَسْرِهَا. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى السِّحْرِ، وَعَلَى الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ، الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَكْفُرْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ مِقْدَارَ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ: مَا مَوْصُولَةٌ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، لِأَجْلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَيْهَا. وَالْمَصْدَرِيَّةُ لَا يَعُودُ عَلَيْهَا ضَمِيرٌ، لِأَنَّهَا حَرْفٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَالَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ هُوَ السِّحْرُ. وَعَنَى بِالتَّفْرِيقِ: تَفْرِيقَ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، بِحَيْثُ تَقَعُ الشَّحْنَاءُ وَالْبَغْضَاءُ فَيَفْتَرِقَانِ، أَوْ تَفْرِيقَ الدِّينِ، بِحَيْثُ إِذَا تَعَلَّمَ فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مُرْتَدًّا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا.
بَيْنَ الْمَرْءِ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالْهَمْزِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: الْمَرِ بِغَيْرِ هَمْزٍ مُخَفَّفًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: الْمُرْءِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ.
وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ: الْمِرْءِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْهَمْزِ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا: الْمَرِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْقَاطِ الْهَمْزِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ. فَأَمَّا فَتْحُ الْمِيمِ وَكَسْرُهَا وَضَمُّهَا فَلُغَاتٌ، وَأَمَّا الْمَرِ بِكَسْرِ الرَّاءِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ، وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ، وَأَمَّا تَشْدِيدُهَا بَعْدَ الْحَذْفِ، فَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَوَى الْوَقْفَ فَشَدَّدَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ: مُسْتَطَرٌّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ فِي الْوَقْفِ، ثُمَّ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، فَأَقَرَّهَا عَلَى تَشْدِيدِهَا فِيهِ. وَزَوْجِهِ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ امْرَأَةَ الرَّجُلِ. وَقِيلَ الزَّوْجُ هُنَا: الْأَقَارِبُ وَالْإِخْوَانُ، وَهُمُ الصِّنْفُ الْمُلَائِمُ لِلْإِنْسَانِ، وَمِنْهُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «١»، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ «٢».
وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ: الضَّمِيرُ الَّذِي هُوَ: هُمْ عَائِدٌ عَلَى السَّحَرَةِ الَّذِينَ عَادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ فَيَتَعَلَّمُونَ. وَقِيلَ: عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ عَادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ وَاتَّبَعُوا. وَقِيلَ: عَلَى الشَّيَاطِينِ. وَبِضَارِّينَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّ مَا حِجَازِيَّةٌ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّ مَا تَمِيمِيَّةٌ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: مَا يُفَرِّقُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بإثبات النون
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٥. [.....]
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ٢٢.
532
فِي بِضَارِّينَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِحَذْفِهَا، وَخَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي صِلَةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَذْفَهَا لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ إِلَى أَحَدٍ، وَفُصِلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ بِهِ، كَمَا قَالَ:
هُمَا أَخَوَا فِي الْحَرْبِ مَنْ لَا أَخَا لَهُ وكما قال:
كما حط الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْمًا يَهُودِيٍّ وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، ثُمَّ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَحَدًا مَجْرُورٌ بِمِنْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ؟ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُضَافُ إِلَى أَحَدٍ، وَهُوَ مَجْرُورٌ بِمِنْ؟ قلت: جعل الجار جزأ مِنَ الْمَجْرُورِ. انْتَهَى. وَهَذَا التَّخْرِيجُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ بِالظَّرْفِ، وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ ضَرَائِرَ الشِّعْرِ، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ مُضَافٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِعَامِلِ جَرٍّ، فَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ لَا الْإِضَافَةُ. وَأَمَّا جَعْلُ حَرْفِ الجر جزأ مِنَ الْمَجْرُورِ، فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ. وَجُزْءُ الشَّيْءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الشَّيْءِ، وَالْأَجْوَدُ التَّخْرِيجُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ لَهُ نَظِيرًا فِي نَظْمِ الْعَرَبِ وَنَثْرِهَا. فَمِنَ النَّثْرِ قَوْلُ الْعَرَبِ، قطا قطا بَيْضُكِ ثِنْتَا وَبَيْضِي مِائَتَا، يُرِيدُونَ: ثِنْتَانِ وَمِائَتَانِ.
مِنْ أَحَدٍ، من زائدة، وأحد: مَفْعُولٌ بِضَارِّينَ. وَمِنْ تُزَادُ فِي الْمَفْعُولِ، إِلَّا أَنَّ الْمَعْهُودَ زِيَادَتُهَا فِي الْمَفْعُولِ الَّذِي يَكُونُ مَعْمُولًا لِلْفَاعِلِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ حَرْفُ النَّفْيِ نَحْوُ: مَا ضَرَبْتُ مِنْ رَجُلٍ، وَمَا ضَرَبَ زَيْدٌ مِنْ رَجُلٍ. وَهُنَا حُمِلَتِ الْجُمْلَةُ مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَمَا يَضُرُّونَ مِنْ أَحَدٍ. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: مُسْتَثْنًى مُفَرَّغٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: بِضارِّينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ: مِنْ أَحَدٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ بِهِ، أَيِ السِّحْرِ الْمُفَرَّقِ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّرَرِ الْمَصْدَرِ المعرب الْمَحْذُوفِ.
وَالْإِذْنُ هُنَا فَسَّرَ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ. فَقَالَ الْحَسَنُ: الْإِذْنُ هُنَا:
هُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمَسْحُورِ وَضَرَرِ السِّحْرِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْعِلْمُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْخَلْقُ، وَيُضَافُ إلى إذنه قوله: كُنْ فَيَكُونُ «١». وَقِيلَ: الْأَمْرُ، قِيلَ: وَالْإِذْنُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَاسْتُبْعِدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالسِّحْرِ، وَلِأَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَأُوِّلَ مَعْنَى الْأَمْرِ فِيهِ بِأَنْ يفسر التفريق
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١٧.
533
بِالصَّيْرُورَةِ. كَافِرًا فَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ وَضَرَرٌ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَحْدَثَ اللَّهُ عِنْدَهُ شَيْئًا، وَرُبَّمَا لَمْ يُحْدِثْ.
وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ لِمَنْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ ضَرَرَهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَنْ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ أَيْضًا يَضُرُّ مَنْ تَعَلَّمَهُ.
وَلَمَّا كَانَ إِثْبَاتُ الضَّرَرِ بِشَيْءٍ لَا يَنْفِي النَّفْعَ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ الشَّيْءُ فَيَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ وَيَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ، نَفَى النَّفْعَ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَتَى بِلَفْظِ لَا، لِأَنَّهَا يُنْفَى بِهَا الْحَالُ وَالْمُسْتَقْبَلُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَلا يَنْفَعُهُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى يَضُرُّهُمْ، وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ صِلَةٌ لِمَا، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ لَا يَنْفَعُهُمْ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، أَيْ وَهُوَ لَا يَنْفَعُهُمْ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَتَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَتَكُونُ جُمْلَةً حَالِيَّةً، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقَدْ قِيلَ: الضَّرَرُ وَعَدَمُ النَّفْعِ مُخْتَصٌّ بِالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ، إِنْ كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ، فَهُوَ يَجُرُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَى التَّنْكِيلِ بِهِ، إِذَا عَثَرَ عَلَيْهِ، وَإِلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ هَذَا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ. وَلَقَدْ عَلِمُوا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا حَاضِرِينَ اسْتِخْرَاجَ الشَّيَاطِينِ السِّحْرَ وَدَفْنَهُ، أَوْ أَخْذَ سُلَيْمَانَ السِّحْرَ وَدَفْنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَلَمَّا أَخْرَجُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ عَمَلِ سليمان ولا من دخائزه. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى مَنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ قَاطِبَةً، أَيْ عَلِمُوا ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى عُلَمَاءِ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَلَكَيْنِ، لِأَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ لِمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ: فَلَا تَكْفُرْ، فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَأُتِيَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَعَلِمَ: هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُتَعَدِّيَةَ لِمَفْعُولَيْنِ، وَعُلِّقَتْ عَنِ الجملة، ويحتمل أن يكون الْمُتَعَدِّيَةَ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَعُلِّقَتْ أَيْضًا كَمَا عُلِّقَتْ عَرَفْتُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ يَظْهَرُ فِي الْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِهَا. وَاللَّامُ فِي: لَمَنِ اشْتَراهُ هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ الْمَانِعَةُ مَنْ عَمِلَ عَلِمَ، وَهِيَ أَحَدُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْلِيقِ، وَأَجَازُوا حَذْفَهَا، وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَنْعِ الْعَمَلِ، وَخَرَّجُوا عَلَى ذَلِكَ.
إِنِّي وَجَدْتُ مَلَاكَ الشِّيمَةِ الأدب يُرِيدُ لِمَلَاكِ الشِّيمَةِ. وَمَنْ هُنَا مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ:
مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَاللَّامُ فِي لَقَدْ لِلْقَسَمِ. هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ
534
وَأَكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ. وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ عَلِمُوا مُقْسَمٌ عَلَيْهَا التَّقْدِيرُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا. وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَهُ غَيْرُ مُقْسَمٍ عَلَيْهَا. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ مُقْسَمًا عَلَيْهِمَا، وَتَكُونَ مَنْ لِلشَّرْطِ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: اللَّامُ فِي لَمَنِ اشْتَراهُ هِيَ الَّتِي يُوطَأُ بِهَا الْقَسَمُ مِثْلَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ «١»، وَمَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَهِيَ شَرْطٌ وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَاشْتَرَاهُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ صِلَةٌ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ خَبَرٌ عَنْ مَنْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ جَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ قَسَمٌ وَشَرْطٌ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُمَا ذُو خَبَرٍ، فَكَانَ الْجَوَابُ لِلسَّابِقِ، وَهُوَ الْقَسَمُ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ. هَذَا هُوَ تَقْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ وَتَوْضِيحُهُ. وُفِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ: لِمَنِ اشْتَرَاهُ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: بِيَعْلَمُوا. وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الزَّجَّاجِ رَدُّ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَنْ شَرْطٌ، وَقَالَ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ تَوْجِيهُ، كَوْنِهِ لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ.
وَأَرَى الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَلِي مَنْ هُوَ مَاضٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، لِأَنَّ الِاشْتِرَاءَ قَدْ وَقَعَ، وَجَعْلُهُ شَرْطًا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا لَفْظًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا فِي الْمَعْنَى. فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ لَيْسَ مَوْضِعَ شَرْطٍ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي اشْتَرَاهُ عَائِدٌ عَلَى السِّحْرِ، أَوِ الْكُفْرِ، أَوْ كِتَابِهِمُ الَّذِي بَاعُوهُ بِالسِّحْرِ، أَوِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ تَعَوَّضُوا عَنْهُ بِكُتُبِ السِّحْرِ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الدِّينُ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوِ الْقَوَامُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْخَلَاصُ، أَوِ الْقَدَرُ، قَالَهُ قَتَادَةُ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ.
وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بِئْسَ، وَفِي مَا الْوَاقِعَةُ بَعْدَهَا، وَمَعْنَاهُ: ذُمَّ مَا بَاعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى السِّحْرِ، أَوِ الْكُفْرِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي بِئْسَمَا السِّحْرُ، أَوِ الْكُفْرُ.
وَالضَّمِيرُ فِي: شَرَوْا، وَيَعْلَمُونَ، بِاتِّفَاقٍ لِلْيَهُودِ. فَمَتَى فُسِّرَ الضَّمِيرُ فِي وَلَقَدْ عَلِمُوا بِأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ، أَوِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ سُلَيْمَانَ، وَفِي زَمَانِهِ، أَوِ الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَوْ بِكَسْرِهَا، فَلَا إِشْكَالَ لِاخْتِلَافِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْعِلْمُ. وَإِنِ اتَّحَدَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ، أُوِّلَ الْعِلْمُ الثَّانِي بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ ثَمَرَتِهِ، فَلَمَّا انْتَفَى الْأَصْلُ، نُفِيَ ثَمَرَتُهُ. أَوْ بِالْعَمَلِ، لِأَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ الْعِلْمِ، فَلَمَّا انْتَفَتِ الثَّمَرَةُ، جُعِلَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مَنْفِيًّا، أَوْ أُوِّلَ مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمَحْذُوفُ، أَيْ عَلِمُوا ضَرَرَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا نَفْعَهُ فِي الدُّنْيَا. أو علموا نفي
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٦٠.
535
الثَّوَابِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
ذُمَّ ذَلِكَ لَمَّا بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا: قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي لَوْ وَأَقْسَامِهَا، وَهِيَ هنا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى جَوَابِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا تَمَنِّيًا لِإِيمَانِهِمْ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ، إِيمَانَهُمْ وَاخْتِيَارَهُمْ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَيْتَهُمْ آمَنُوا، ثُمَّ ابْتُدِئَ: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ، انْتَهَى.
فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ للو جواب لَازِمٌ، لِأَنَّهَا قَدْ تُجَابُ إِذَا كَانَتْ لِلتَّمَنِّي بِالْفَاءِ، كَمَا يُجَابُ لَيْتَ. إِلَّا أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ دَسَّ فِي كَلَامِهِ هَذَا، وَيُحْرِجُهُ مَذْهَبُهُ الِاعْتِزَالِيُّ، حَيْثُ جَعَلَ التَّمَنِّيَ كِنَايَةً عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّ اللَّهَ أَرَادَ إِيمَانَهُمْ، فَلَمْ يَقَعْ مُرَادُهُ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، وَالطَّائِفَةُ الَّذِينَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ عَدْلِيَّةً:
قَالُوا يُرِيدُ وَلَا يَكُونُ مُرَادُهُ عَدَلُوا وَلَكِنْ عَنْ طَرِيقِ الْمَعْرِفَةِ
وَأَنَّهُمْ آمَنُوا، يَتَقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَوْ إِيمَانُهُمْ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ. فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ وَلَوْ إِيمَانُهُمْ ثَابِتٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ وَلَوْ ثَبَتَ إِيمَانُهُمْ. فَفِي كُلٍّ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ حَذْفٌ لِلْمُسْنَدِ، وَإِبْقَاءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمْ لِلْيَهُودِ، أَوِ الَّذِينَ يُعَلَّمُونَ السِّحْرَ، قَوْلَانِ. وَالْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى: الْإِيمَانُ التَّامُّ، وَالتَّقْوَى الْجَامِعَةُ لِضُرُوبِهَا، أَوِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَقْوَى الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ، قَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ.
لَمَثُوبَةٌ: اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، لَا الْوَاقِعَةُ فِي جَوَابِ لَوْ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ لا ثيبوا، ثُمَّ ابْتَدَأَ عَلَى طَرِيقِ الْإِخْبَارِ الِاسْتِئْنَافِيِّ، لَا عَلَى طَرِيقِ تَعْلِيقِهِ بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، وَتَرَتُّبِهِ عَلَيْهِمَا، هَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ، أَعْنِي أَنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ. وَقِيلَ:
اللَّامُ هِيَ الْوَاقِعَةُ فِي جَوَابِ لَوْ، وَالْجَوَابُ: هُوَ قَوْلُهُ: لَمَثُوبَةٌ، أَيِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ.
وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الرَّاغِبِ، وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ. قَالَ: أُوثِرَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ فِي جواب لو، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمَثُوبَةِ وَاسْتِقْرَارِهَا، كَمَا عُدِلَ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ فِي: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لِذَلِكَ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُخْتَارُهُ غَيْرُ مُخْتَارٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وُقُوعُ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ جَوَابًا لِلَوْ، إِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْمُخْتَلَفُ فِي تَخْرِيجِهِ. وَلَا تَثْبُتُ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ بِالْمُحْتَمَلِ، وَلَيْسَ مِثْلُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لِثُبُوتِ رَفْعِ سَلَامٌ
536
عَلَيْكُمْ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَوَجَّهَ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: بِأَنَّ مَثُوبَةٌ مَصْدَرٌ يَقَعُ لِلْمَاضِي وَالِاسْتِقْبَالِ، فَصَلُحَ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ لِلْمُضِيِّ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَمَثُوبَةٌ بِضَمِّ الثَّاءِ، كَالْمَشُورَةِ.
وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو السَّمَّالِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: بِسُكُونِ الثَّاءِ، كَمَشْوُرَةٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ، أَيْ لَثَوَابٌ، وَهُوَ الْجَزَاءُ وَالْأَجْرُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ. وَقِيلَ: لَمَثُوبَةٌ:
لَرَجْعَةٌ إِلَى اللَّهِ خَيْرٌ.
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: هَذَا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ كَائِنَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَهَذَا الْوَصْفُ هُوَ الْمُسَوِّغُ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ. وَفِي وَصْفِ الْمَثُوبَةِ بِكَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَفْخِيمٌ وَتَعْظِيمٌ لَهَا، وَلِمُنَاسَبَةِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. لِذَلِكَ، كَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ وَاتَّقَيْتُمْ مَحَارِمَهُ، هُوَ الَّذِي ثَوَابُكُمْ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِذَلِكَ لَكُمْ. وَاكْتَفَى بِالتَّنْكِيرِ فِي ذَلِكَ، إِذِ الْمَعْنَى لَشَيْءٌ مِنَ الثَّوَابِ.
قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلُ خَيْرٌ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: لَمَثُوبَةٌ، وَلَيْسَ خَيْرٌ هُنَا أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ، بَلْ هِيَ لِلتَّفْضِيلِ، لَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ. فَهِيَ كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ، وخَيْرٌ مُسْتَقَرًّا.
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ: جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ: التَّقْدِيرُ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لَكَانَ تَحْصِيلُ الْمَثُوبَةِ خَيْرًا، وَيَعْنِي سَبَبَ الْمَثُوبَةِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى. وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ لَآمَنُوا، لِأَنَّ مَنْ كَانَ ذَا عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَهُوَ يُسَارِعُ إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَلَا الْبَاطِلُ، فَهُوَ يُبَالِغُ فِي اجْتِنَابِهِ. وَمَفْعُولُ يَعْلَمُونَ مَحْذُوفٌ اقْتِصَارًا، فَالْمَعْنَى: لَوْ كَانُوا مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ، أَوِ اخْتِصَارًا، فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ التَّفْضِيلَ فِي ذَلِكَ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَقِيلَ: الْعِلْمُ هنا كناية عن العمل، أَيْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِعِلْمِهِمْ، وَلَمَّا انْتَفَتْ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ، جُعِلَ الْعِلْمُ مُنْتَفِيًا.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ خُبْثِ السَّرِيرَةِ، وَعَدَمِ التَّوْفِيقِ وَالطَّوَاعِيَةِ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَنَصْبِ الْمُعَادَاةِ لَهُمْ، حَتَّى انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى عَدَاوَتِهِمْ مَنْ لَا يَلْحَقُهُ
537
ضَرَرُ عَدَاوَتِهِمْ، وَهُوَ مَنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَادَى، لِأَنَّهُ السَّفِيرُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَهُوَ جِبْرِيلَ.
أَتَى بِالْقُرْآنِ الْمُصَدِّقِ لِكِتَابِهِمْ، وَالْمُشْتَمِلِ عَلَى الْهُدَى وَالْبِشَارَةِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إِلَى وَلَائِهِ وَمَحَبَّتِهِ. ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ، أَيْ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، أَيْ مُبْغِضًا لَهُمْ، فَاللَّهُ عَدُوُّهُ، أَيْ مُعَامِلُهُ بِمَا يُنَاسِبُ فِعْلَهُ الْقَبِيحَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى رَسُولِهِ بِالْخِطَابِ، فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ، وَأَنَّهَا لِوُضُوحِهَا، لَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا مُتَمَرِّدٌ فِي فِسْقِهِ. ثُمَّ أَخَذَ يُسَلِّيهِ بِأَنَّ عَادَةَ هَؤُلَاءِ نَكْثُ عُهُودِهِمْ، فَلَا تُبَالِ بِمَنْ طَرِيقَتُهُ هَذِهِ، وَأَنَّهُمْ سَلَكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مَعَكَ، إِذْ أَتَيْتَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرِّسَالَةِ، فَنَبَذُوا كِتَابَهُ تَعَالَى وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، بِحَيْثُ صَارُوا لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ لِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ التَّبْشِيرِ بِكَ، وَإِلْزَامِهِمُ اتِّبَاعَكَ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى الْكِتَابِ، وَلَا سَبَقَ لَهُمْ بِكَ عِلْمٌ مِنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ مَخَازِيهِمْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا مَا أَلْقَتْ إِلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ مِنْ كُتُبِ السِّحْرِ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ. ثُمَّ نَزَّهَ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْكُفْرِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ فِي أَخْبَارِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَأَنَّهُمَا لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَنْصَحَاهُ بِأَنَّهُمَا جُعِلَا ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا، وَأَنَّهُمَا لِمُبَالَغَتِهِمَا فِي النَّصِيحَةِ يَنْهَيَانِ عَنِ الْكُفْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ قُصَارَى مَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا هُوَ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ. ثُمَّ أَثْبَتَ أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُونَ هُوَ ضَرَرٌ لِمُلَابِسِهِ وَمُتَعَلِّمِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِحَقِيقَةِ الضَّرَرِ، وَأَنَّ مُتَعَاطِيَ ذَلِكَ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَمِّ مَا بَاعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، إِذْ مَا تَعَوَّضُوهُ مَآلُهُ إِلَى الْخُسْرَانِ.
ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا لَوْ سَلَكُوهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى، لَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا اجْتَرَمُوهُ مِنَ الْمَآثِمِ، وَاكْتَسَبُوهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، يُعْفِي عَلَى آثَارِهِ جَرُّ ذَيْلِ الْإِيمَانِ، وَيُبْدِلُ بِالْإِسَاءَةِ جَمِيلَ الْإِحْسَانِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ فِيهَا مَا يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ، وَقَوْلِهِ: وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ، وَذِكْرِ نَبْذِ الْعُهُودِ، وَنَبْذِ كِتَابِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ الشَّيَاطِينِ، وَتَعَلُّمِ مَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِآيَةٍ تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ الْجَمِيلَ لِمَنْ آمَنَ وَاتَّقَى. فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَيْنَ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ، وَصَارَ فِيهَا اسْتِطْرَادٌ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَإِخْبَارٌ بمغيب بعد مغيب، متناسقا تَنَاسُقَ اللَّآلِئِ فِي عُقُودِهَا، مُتَّضِحَةً اتِّضَاحَ الدَّرَارِي فِي مَطَالِعِ سُعُودِهَا، مُعْلِمَةً صِدْقَ مَنْ أَتَى بِهَا، وَهُوَ مَا قَرَأَ الْكُتُبَ، وَلَا دَارَسَ، وَلَا رَحَلَ، وَلَا عاشر الأخبار، وَلَا مَارَسَ
538
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى «١» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَوْصَلَ أزكى تحية إليه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٤ الى ١١٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٣- ٥.
539
الرِّعَايَةُ وَالْمُرَاعَاةُ: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ الْإِنْسَانِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِهِ. وَالرُّعُونَةُ وَالرَّعَنُ: الْجَهْلُ وَالْهَوَجُ. ذُو: يَكُونُ بِمَعْنَى صَاحِبٍ، وَتُثَنَّى، وَتُجْمَعُ، وَتُؤَنَّثُ، وَتَلْزَمُ الْإِضَافَةَ لِاسْمِ جِنْسٍ ظَاهِرٍ. وَفِي إِضَافَتِهَا إِلَى ضَمِيرِ الْجِنْسِ خِلَافٌ، الْمَشْهُورُ: الْمَنْعُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ، لَكِنْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ خَصَّهُ بِالضَّرُورَةِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْعَلَمِ الْمَقْرُونِ بِهِ فِي الْوَضْعِ، أَوِ الَّذِي لَا يُقْرَنُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْوَضْعِ مَسْمُوعٌ. فَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُمْ: ذُو يَزَنَ، وَذُو جَدَنٍ، وَذُو رُعَيْنٍ، وَذُو الْكُلَاعِ. فَتَجِبُ الْإِضَافَةُ إِذْ ذَاكَ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُمْ: فِي تَبُوكَ، وَعَمْرٍو، وَقَطَرِيٍّ: ذُو تَبُوكَ، وَذُو عَمْرٍو، وَذُو قَطَرِيٍّ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ لَا يُعْتَدَّ بِلَفْظِ ذُو، بَلْ يُنْطَقُ بِالِاسْمِ عَارِيًا مِنْ ذُو. وَمَا جَاءَ مِنْ إِضَافَتِهِ لِضَمِيرِ الْعَلَمِ، أَوْ لِضَمِيرِ مُخَاطَبٍ لَا يَنْقَاسُ، كَقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى ذويه، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنَّا لَنَرْجُو عَاجِلًا مِنْكَ مِثْلَ مَا رجوناه قدما من ذويك الْأَفَاضِلِ
وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ وَزْنَهُ فَعَلٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ: أَنَّ وَزْنَهُ فَعْلٌ، بِسُكُونِهَا. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْمَعُ فِي التَّكْسِيرِ عَلَى أَفْعَالٍ. قَالُوا: أَذْوَاءٌ وَذُو مِنَ الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الرَّفْعِ بِالْوَاوِ، وَفِي النَّصْبِ بِالْأَلِفِ، وَفِي الْجَرِّ بِالْيَاءِ. وَإِعْرَابُ ذُو كَذَا لَازِمٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ، فذلك على جهة الجوار. وَفِيمَا أُعْرِبَتْ بِهِ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ عَشَرَةُ مَذَاهِبَ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَقَدْ جَاءَتْ ذُو أَيْضًا مَوْصُولَةً، وَذَلِكَ فِي لُغَةِ طَيِّءٍ، وَلَهَا أَحْكَامٌ، وَلَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ. النَّسْخُ: إِزَالَةُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ بَدَلٍ يَعْقُبُهُ، نَحْوُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ. أَوْ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ إِزَالَةٍ نَحْوُ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ، إِذَا نَقَلْتَ مَا فِيهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ. النَّسِيئَةُ: التَّأْخِيرُ، نَسَأَ يَنْسَأُ، وَيَأْتِي نَسَأَ: بِمَعْنَى أَمْضَى الشَّيْءَ، قَالَ الشاعر:
لمؤن كَأَلْوَاحِ الْأَرَانِ نَسَأْتُهَا عَلَى لَاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدُ
الْوَلِيُّ: فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ، مِنْ وَلِيَ الشَّيْءَ: جَاوَرَهُ وَلَصِقَ بِهِ. الْحَسَدُ: تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنِ الْإِنْسَانِ، حَسَدَ يَحْسُدُ حَسَدًا وَحَسَادَةً. الصَّفْحُ: قَرِيبٌ مَعْنَاهُ مِنَ الْعَفْوِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الذَّنْبِ، مَأْخُوذٌ مِنْ تَوْلِيَةِ صَفْحَةِ الْوَجْهِ إِعْرَاضًا. وَقِيلَ: هُوَ التَّجَاوُزُ مِنْ قَوْلِكَ، تَصَفَّحْتُ الْوَرَقَةَ، أَيْ تَجَاوَزْتُ عَمَّا فِيهَا. وَالصَّفُوحُ، قِيلَ: مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَالصَّفُوحُ: الْمَرْأَةُ تَسْتُرُ بَعْضَ وَجْهِهَا إِعْرَاضًا، قَالَ:
540
تِلْكَ: مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ، يُطْلَقُ عَلَى الْمُؤَنَّثَةِ فِي حَالَةِ الْبُعْدِ، وَيُقَالُ: تَلْكَ وَتِيلِكَ وَتَالِكَ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَبِكَسْرِهَا وَيَاءٍ بَعْدَهَا، وَكَسْرِ اللَّامِ وَبِفَتْحِهَا، وَأَلِفٍ بَعْدَهَا وَكَسْرِ اللَّامِ، قَالَ:
صَفُوحٌ فَمَا تَلْقَاكَ إِلَّا بَخِيلَةً فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْوَصْلَ مَلَّتِ
إِلَى الْجُودِيِّ حَتَّى صَارَ حِجْرًا وَحَانَ لِتَالِكَ الغمر انحسارا
هَاتُوا: مَعْنَاهُ أَحْضِرُوا، وَالْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ لَا بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةِ أَتَى، لِتَعَدِّيَهَا إِلَى وَاحِدٍ لَا يُحْفَظُ هَاتِي الْجَوَابَ، وَلِلُزُومِ الْأَلِفِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ هَمْزَةً لَظَهَرَتْ، إذ أزال مُوجِبُ إِبْدَالِهَا، وَهُوَ الْهَمْزَةُ قَبْلَهَا، فَلَيْسَ وَزْنُهَا أَفْعَلَ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، بَلْ وَزْنُهَا فَاعِلٌ كَرَامٍ. وَهِيَ فِعْلٌ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا اسْمُ فِعْلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فِعْلِيَّتِهَا اتِّصَالُ الضَّمَائِرِ بِهَا. وَلِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا صَوْتٌ بِمَنْزِلَةِ هَاءٍ فِي مَعْنَى أَحْضِرْ، وَهُوَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ أَمْرٌ وَفِعْلُهُ مُتَصَرِّفٌ. تَقُولُ:
هَاتَى يُهَاتِي مُهَاتَاةً، وَلَيْسَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي أُمِيتَ تَصْرِيفُ لَفْظِهِ إِلَّا الْأَمْرُ مِنْهُ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ. وَلَيْسَتْ هَا لِلتَّنْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى أَتَى فَأُلْزِمَتْ هَمْزَةُ أَتَى الْحَذْفَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا حَذْفَ، وَلِأَنَّ مَعْنَى هَاتِ وَمَعْنَى ائْتِ مُخْتَلِفَانِ. فَمَعْنَى هَاتِ أَحْضِرْ، وَمَعْنَى ائْتِ احْضُرْ.
وَتَقُولُ: هَاتِ هَاتِي هَاتِيَا هَاتُوا هَاتِينَ، تصرفها كرامي. الْبُرْهَانُ: الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى، قِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَرَهِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، فَتَكُونُ النُّونُ زَائِدَةً. وَقِيلَ: مِنَ الْبَرْهَنَةِ، وَهِيَ الْبَيَانُ، قَالُوا: بَرْهَنَ إِذَا بَيَّنَ، فَتَكُونُ النُّونُ زَائِدَةً لِفِقْدَانِ فَعْلَنَ وَوُجُودِ فَعْلَلَ، فَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الِاشْتِقَاقِ. التَّسْمِيَةُ بِبُرْهَانٍ، هَلْ يَنْصَرِفُ أَوْ لَا يَنْصَرِفُ؟ الْوَجْهُ: مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ قِلَّةً عَلَى أَوْجُهٍ، وَكَثْرَةً عَلَى وُجُوهٍ، فَيَنْقَاسُ أَفْعُلٌ فِي فِعْلِ الِاسْمِ الصَّحِيحِ الْعَيْنِ، وَيَنْقَاسُ فُعُولٌ فِي فِعْلِ الِاسْمِ لَيْسَ عَيْنُهُ وَاوًا. الْيَهُودُ: مِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالْيَاءُ أَصْلِيَّةٌ، فَلَيْسَتْ مَادَّةُ الْكَلِمَةِ مَادَّةَ هَوَدَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوداً أَوْ نَصارى، لِثُبُوتِهَا فِي التَّصْرِيفِ يَهْدِهِ. وَأَمَّا هَوَّدَهُ فَمِنْ مَادَّةِ هَوَدَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينُ، وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ عِلْمُ اللِّسَانِ فِي زَمَانِهِ: يَهُودُ فِيهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ جَمْعَ يَهُودِيٍّ، فَتَكُونَ نَكِرَةً مَصْرُوفَةً. وَالثَّانِي:
أَنْ تَكُونَ عَلَمًا لِهَذِهِ الْقَبِيلَةِ، فَتَكُونَ مَمْنُوعَةَ الصَّرْفِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَقَالُوا: الْيَهُودُ، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَمًا لَمَا دَخَلَتْهُ، وَعَلَى الثَّانِي قَالَ الشَّاعِرُ:
أُولَئِكَ أَوْلَى مِنْ يَهُودَ بِمِدْحَةٍ إِذَا أَنْتَ يَوْمًا قُلْتَهَا لَمْ تُؤَنَّبِ
لَيْسَ: فِعْلٌ مَاضٍ، خِلَافًا لِأَبِي بَكْرِ بْنِ شُقَيْرٍ، وَلِلْفَارِسِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، إِذْ زَعَمَا أَنَّهَا حَرْفُ نَفْيٍ مِثْلُ مَا، وَوَزْنُهَا فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَمَنْ قَالَ: لُسْتُ بِضَمِّ اللَّامِ، فَوَزْنُهَا عِنْدَهُ
541
فُعُلٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَهُوَ بِنَاءٌ نَادِرٌ فِي الثُّلَاثِيِّ الْيَائِيِّ الْعَيْنِ، لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا قَوْلَهُمْ: هَيُؤَ الرجل، فهو هيىء، إِذَا حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ. وَأَحْكَامُ لَيْسَ كَثِيرَةٌ مَشْرُوحَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
الْحُكْمُ: الْفَصْلُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَاضِي: الْحَاكِمَ، لِأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ. الاختلاف:
ضد الاتفاق.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: هَذَا أَوَّلُ خِطَابٍ خُوطِبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، بِالنِّدَاءِ الدَّالِّ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ نِدَاءٍ جَاءَ أَتَى عامّا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ «١»، وَثَانِيَ نِدَاءٍ أَتَى خاصا: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا»
، وَهِيَ الطَّائِفَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى الْمِلَّتَيْنِ: الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَثَالِثَ نِدَاءٍ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَكَانَ أَوَّلُ نِدَاءٍ عَامًّا، أُمِرُوا فِيهِ بِأَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ. وَثَانِيَ نِدَاءٍ، ذُكِّرُوا فِيهِ بِالنِّعَمِ الْجَزِيلَةِ، وَتُعُبِّدُوا بِالتَّكَالِيفِ الْجَلِيلَةِ، وَخُوِّفُوا مِنْ حُلُولِ النِّقَمِ الْوَبِيلَةِ وَثَالِثَ نِدَاءٍ:
عُلِّمُوا فِيهِ أَدَبًا مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ مَعَ نَبِيِّهِمْ، إِذْ قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ عِبَادَةُ اللَّهِ، وَالتَّذْكِيرُ بِالنِّعَمِ، وَالتَّخْوِيفُ مِنَ النِّقَمِ، وَالِاتِّعَاظُ بِمَنْ سَبَقَ مِنَ الْأُمَمِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا أُمِرُوا بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْمِيلِ، مِنْ تَعْظِيمِ مَنْ كَانَتْ هِدَايَتُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ. وَالتَّبْجِيلُ وَالْخِطَابُ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ فِي عَصْرِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ حَيْثُ جَاءَ هَذَا الْخِطَابُ، فَالْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَحَيْثُ وَرَدَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَالْمُرَادُ أَهْلُ مَكَّةَ.
لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا: بدىء بِالنَّهْيِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ، فَهُوَ أَسْهَلُ.
ثُمَّ أُتِيَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ لِحُصُولِ الِاسْتِئْنَاسِ، قبل بالنهي. ثُمَّ لَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَنْ شَيْءٍ سَبَقَ تَحْرِيمُهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ لَفْظَةُ الْمُفَاعَلَةِ تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ غَالِبًا، فَصَارَ الْمَعْنَى:
لِيَقَعْ مِنْكَ رَعْيٌ لَنَا وَمِنَّا رَعْيٌ لَكَ، وَهَذَا فِيهِ مَا لَا يَخْفَى مَعَ مَنْ يُعَظَّمُ نُهُوا عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَأُمِرُوا بِأَنْ يَقُولُوا: انْظُرْنَا، إِذْ هُوَ فِعْلٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، لَا مُشَارَكَةَ لَهُمْ فِيهِ مَعَهُ.
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: رَاعِنَا. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ، وَقِرَاءَةِ أُبَيٍّ: رَاعُونَا، عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ لِضَمِيرِ الْجَمْعِ. وَذُكِرَ أَيْضًا أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: ارْعَوْنَا. خَاطَبُوهُ بِذَلِكَ إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا، إِذْ أَقَامُوهُ مُقَامَ الْجَمْعِ. وَتَضَمَّنَ هَذَا النَّهْيُ، النَّهْيَ عَنْ كُلِّ مَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِوَاءٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: رَاعِنًا بِالتَّنْوِينِ، جعله
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٤٠.
542
صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَوْلًا رَاعِنًا، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ النَّسَبِ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ. لَمَّا كَانَ الْقَوْلُ سَبَبًا في السبب، اتَّصَفَ بِالرَّعْنِ، فَنُهُوا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ أَنْ يُخَاطِبُوا الرَّسُولَ بِلَفْظٍ يَكُونُ فِيهِ، أَوْ يُوهِمُ شَيْئًا مِنَ الْغَضِّ، مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّعْظِيمِ وَتَلْطِيفِ الْقَوْلِ وَأَدَبِهِ.
وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقْصِدُ بِذَلِكَ، إِذْ خَاطَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّعُونَةَ، وَكَذَا قِيلَ فِي رَاعُونًا، إِنَّهُ فَاعُولًا مِنَ الرُّعُونَةِ، كَعَاشُورًا. وَقِيلَ:
كَانَتْ لِلْيَهُودِ كَلِمَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ، أَوْ سِرْيَانِيَّةٌ يَتَسَابُّونَ بِهَا وَهِيَ: رَاعِينَا، فَلَمَّا سَمِعُوا بِقَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ رَاعِنَا، اقْتَرَضُوهُ وَخَاطَبُوا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَعْنُونَ تِلْكَ الْمَسَبَّةَ، فَنُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْهَا، وَأُمِرُوا بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا. وَمَنْ زَعَمَ أَنْ رَاعِنَا لُغَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَنْصَارِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْفُوظٌ فِي جَمِيعِ لُغَةِ الْعَرَبِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِفِعْلٍ قَدْ كَانَ مُبَاحًا، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا مُتَقَرَّرًا قَبْلُ. وَقِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا غَيْرُ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَهِيَ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: كَلِمَةٌ كَرِهَهَا اللَّهُ أَنْ يُخَاطَبَ بِهَا نَبِيُّهُ،
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُولُوا عَبْدِي وَأَمَتِي وَقُولُوا فَتَايَ وَفَتَاتِي وَلَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ».
وَذُكِرَ فِي النَّهْيِ وُجُوهٌ: أَنَّ مَعْنَاهَا اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ، أَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ كَانُوا يَقُولُونَهَا عِنْدَ الْمَفَرِّ، قَالَهُ قُطْرُبٌ، أَوْ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: رَاعِينَا أَيْ رَاعِي غَنَمِنَا، أَوْ أَنَّهُ مُفَاعَلَةٌ فَيُوهِمُ مُسَاوَاةً، أَوْ مَعْنَاهُ رَاعِ كَلَامَنَا وَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنَ الرُّعُونَةِ. وَقَوْلُهُ: انْظُرْنَا، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، مَوْصُولُ الْهَمْزَةِ، مَضْمُومُ الظَّاءِ، مِنَ النَّظْرَةِ، وَهِيَ التَّأْخِيرُ، أَيِ انْتَظِرْنَا وَتَأَنَّ عَلَيْنَا، نَحْوُ قَوْلِهِ:
فَإِنَّكُمَا إِنْ تُنْظِرَانِيَ سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ
أَوْ مِنَ النَّظَرِ، وَاتُّسِعَ فِي الْفِعْلِ فَعُدِّيَ بِنَفْسِهِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِإِلَى، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
ظَاهِرَاتُ الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ يَنْظُرْ نَ كَمَا يَنْظُرُ الْأَرَاكَ الظِّبَاءُ
يُرِيدُ: إِلَى الْأَرَاكِ، وَمَعْنَاهُ: تَفَقَّدْنَا بِنَظَرِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ فَهِّمْنَا وَبَيِّنْ لَنَا، فُسِّرَ بِاللَّازِمِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ انْظُرْ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الرِّفْقِ وَالْإِمْهَالِ عَلَى السَّائِلِ، وَالتَّأَنِّي بِهِ أَنْ يَفْهَمَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ نَظَرِ الْبَصِيرَةِ بِالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْمَنْظُورِ فِيهِ، فَاتُّسِعَ فِي الْفِعْلِ أَيْضًا، إِذْ أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِفِي، وَيَكُونَ أَيْضًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ انْظُرْ فِي أَمْرِنَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ لَفْظَةٌ مُخْلَصَةٌ لِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي اسْتِدْعَاءُ نَظَرِ
543
الْعَيْنِ الْمُقْتَرِنِ بِتَدَبُّرِ الْحَالِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى: رَاعِنَا، فَبُدِّلَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ اللَّفْظَةُ، لِيَزُولَ تَعَلُّقُ الْيَهُودِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْأَعْمَشُ: أَنْظِرْنَا، بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ، مِنَ الْإِنْظَارِ، وَمَعْنَاهُ: أَخِّرْنَا وَأَمْهِلْنَا حَتَّى نَتَلَقَّى عَنْكَ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ.
وَاسْمَعُوا: أَيْ سَمَاعَ قَبُولٍ وَطَاعَةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اقْبَلُوا. وَقِيلَ: فَرِّغُوا أَسْمَاعَكُمْ حَتَّى لَا تَحْتَاجُوا إِلَى الِاسْتِعَادَةِ. وَقِيلَ: اسْمَعُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ حَتَّى لَا تَرْجِعُوا تَعُودُونَ إِلَيْهِ.
أَكَّدَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَمِعَهَا مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ، فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَقُولُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ: ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْيَهُودُ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ، أَيْ وَلِلْيَهُودِ الَّذِينَ تَهَاوَنُوا بِالرَّسُولِ وَسَبُّوهُ. وَلَمَّا نَهَى أَوَّلًا، وَأَمَرَ ثَانِيًا، وَأَمَرَ بِالسَّمْعِ وَحَضَّ عَلَيْهِ، إِذْ فِي ضِمْنِهِ الطَّاعَةُ، أَخَذَ يَذْكُرُ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَكَفَرَ، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «١».
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لِحُلَفَائِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ: آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: وَدِدْنَا لَوْ كَانَ خَيْرًا مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ فَنَتَّبِعَهُ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ: الَّذِينَ بِحَضْرَةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالظَّاهِرُ، الْعُمُومُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَفِي الْمُشْرِكِينَ: وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَنَفَى بِمَا، لِأَنَّهَا لِنَفْيِ الْحَالِ، فَهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِالْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْكُمْ. ومن، في قوله: من أَهْلِ الْكِتَابِ، تَبْعِيضِيَّةٌ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ كَائِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ مِنْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ قَالَ ذَلِكَ هُنَا، وَبِهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَصْحَابُنَا لَا يُثْبِتُونَ كَوْنَهَا لِلْبَيَانِ. وَلَا الْمُشْرِكِينَ، مَعْطُوفٌ عَلَى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ. وَرَأَيْتُ فِي كِتَابٍ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، صَاحِبِ (التَّنْبِيهِ)، كَلَامًا يَرُدُّ فِيهِ عَلَى الشِّيعَةِ، وَمَنْ قَالَ بِمَقَالَتِهِمْ: فِي أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ هِيَ الْمَسْحُ، لِلْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَأَرْجُلَكُمْ، عَلَى قوله:
بِرُؤُسِكُمْ، خَرَّجَ فِيهِ أَبُو إِسْحَاقَ قَوْلَهُ: وَأَرْجُلِكُمْ بِالْجَرِّ، عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْخَفْضِ عَلَى الْجِوَارِ، وَأَنَّ أَصْلَهُ النَّصْبُ فَخُفِضَ عَطْفًا عَلَى الْجِوَارِ. وَأَشَارَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ وَلِسَانَ الْعَرَبِ يَشْهَدَانِ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ: وَلَا الْمُشْرِكِينَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
(١) سورة النور: ٢٤/ ٦٣.
544
وَقَوْلَهُ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ «١»، وَأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الرَّفْعُ، أَيْ وَلَا الْمُشْرِكُونَ، عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَهَذَا حَدِيثُ مَنْ قَصَرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَتَطَاوَلَ إِلَى الْكَلَامِ فِيهَا بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ، وَعَدَلَ عَنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الصَّحِيحِ وَتَرْكِيبِهِ الْفَصِيحِ. وَدَخَلَتْ لَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا الْمُشْرِكِينَ، لِلتَّأْكِيدِ، وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ لَجَازَ حَذْفُهَا. وَلَمْ تَأْتِ فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ لِمَعْنًى يُذْكَرُ هُنَاكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ: فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِيَوَدُّ، وَبِنَاؤُهُ لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِلتَّصْرِيحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ. وَلَوْ بُنِيَ لِلْفَاعِلِ لَمْ يَظْهَرْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ. مِنْ خَيْرٍ، مِنْ: زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: خَيْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ، وَحَسُنَ زِيَادَتُهَا هُنَا، وَإِنْ كَانَ يُنَزَّلُ لَمْ يُبَاشِرْهُ حَرْفُ النَّفْيِ، فَلَيْسَ نَظِيرَ: مَا يُكْرِمُ مِنْ رَجُلٍ، لِانْسِحَابِ النَّفْيِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ إِذَا نُفِيَتِ الْوِدَادَةُ، كَانَ كَأَنَّهُ نُفِيَ مُتَعَلِّقُهَا، وَهُوَ الْإِنْزَالُ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ «٢». فَلَمَّا تَقَدَّمَ النَّفْيُ حَسُنَ دُخُولُ الْبَاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: مَا ظَنَنْتُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا زَيْدٌ، بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن في يَقُولُ، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ حَرْفُ النَّفْيِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: مَا يَقُولُ ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، فِيمَا أَظُنُّ. وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَيَجُوزُ زِيَادَتُهَا، لِأَنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عَمَّا تَدْخُلُ عَلَيْهِ، بَلْ يُجِيزُونَ زِيَادَتَهَا فِي الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ. وَيَزِيدُ الْأَخْفَشُ: أَنَّهُ يُجِيزُ زِيَادَتَهَا فِي الْمَعْرِفَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ بِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرِ مِنْ رَبِّكُمْ.
مِنْ رَبِّكُمْ: مِنْ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا الْخَيْرُ مِنْ زَيْدٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. الْمَعْنَى مِنْ خَيْرٍ كَائِنٍ مِنْ خُيُورِ رَبِّكُمْ، فَإِذَا كَانَتْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ تَعَلَّقَتْ بِقَوْلِهِ:
يُنَزَّلَ، وَإِذَا كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ تَعَلَّقَتْ بِمَحْذُوفٍ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، كَمَا قَدَّرْنَاهُ.
وَالْخَيْرُ هُنَا: الْقُرْآنُ، أَوِ الْوَحْيُ، إِذْ يَجْمَعُ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ، أَوْ مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم مِنَ التَّعْظِيمِ أَوِ الْحِكْمَةِ وَالْقُرْآنِ وَالظَّفَرِ أَوِ النُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَامِ، أَوِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ والحكمة أو هنا
(١) سورة البينة: ٩٨/ ١.
(٢) سورة الأحقاف: ٤٦/ ٣٣.
545
عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، فَهُمْ يَوَدُّونَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ عَنِ الْمُؤْمِنِينِ، سَبْعَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا الْآخِرُ. وَسَبَبُ عَدَمِ وِدِّهِمْ ذَلِكَ: أَمَّا فِي الْيَهُودِ، فَلِكَوْنِ النُّبُوَّةِ كَانَتْ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَلِخَوْفِهِمْ عَلَى رِئَاسَتِهِمْ، وَأَمَّا النَّصَارَى، فَلِتَكْذِيبِهِمْ فِي ادِّعَائِهِمْ أُلُوهِيَّةَ عِيسَى، وَأَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِخَوْفِهِمْ عَلَى رِئَاسَتِهِمْ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ، فَلِسَبِّ آلِهَتِهِمْ وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِهِمْ، وَلِحَسَدِهِمْ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَخْتَصُّ بِالرِّسَالَةِ، وَاتِّبَاعِ النَّاسِ لَهُ.
وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ: أَيْ يُفْرِدُ بِهَا، وَضِدُّ الِاخْتِصَاصِ: الِاشْتِرَاكُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَخْتَصُّ هُنَا لَازِمًا، أَيْ يَنْفَرِدُ، أَوْ مُتَعَدِّيًا، أَيْ يُفْرِدُ، إِذِ الْفِعْلُ يَأْتِي كَذَلِكَ. يُقَالُ: اختصّ زيد بِكَذَا، وَاخْتَصَصْتُهُ بِهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ هُنَا تَعَدِّيهِ، كَمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ، إِذْ يَصِحُّ، وَاللَّهُ يُفْرِدُ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَيَكُونُ مَنْ فَاعِلَةً، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنْ: خَصَصْتُ زَيْدًا بِكَذَا. فَإِذَا كَانَ لَازِمًا، كَانَ لِفِعْلِ الْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ نَحْوُ: اضْطُرِرْتُ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا، كَانَ مُوَافِقًا لِفِعْلِ الْمُجَرَّدِ نَحْوُ: كَسَبَ زَيْدٌ مَالًا، وَاكْتَسَبَ زَيْدٌ مَالًا. وَالرَّحْمَةُ هُنَا عَامَّةٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا أَوِ
النُّبُوَّةُ وَالْحِكْمَةُ وَالنُّصْرَةُ، اخْتُصَّ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، قَالَهُ عَلِيٌّ وَالْبَاقِرُ
وَمُجَاهِدٌ وَالزَّجَّاجُ أَوِ الْإِسْلَامُ، قَالَهُ ابْنُ عباس أو الْقُرْآنُ، أَوِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «١»، وهو نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ.
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذُو بِمَعْنَى صَاحِبٍ. وَذِكْرُ جُمْلَةٍ مِنْ أَحْكَامِ ذُو، وَالْوَصْفُ بِذُو، أَشْرَفُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْوَصْفِ بِصَاحِبٍ، لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ ذُو أَبَدًا لَا تَكُونُ إِلَّا مُضَافَةً لِاسْمٍ، فَمَدْلُولُهَا أَشْرَفُ. وَلِذَلِكَ جَاءَ ذُو رُعَيْنٍ، وَذُو يَزَنَ، وَذُو الْكُلَاعِ، وَلَمْ يَسْمَعُوا بِصَاحِبِ رُعَيْنٍ، وَلَا صَاحِبِ يَزَنَ وَنَحْوِهَا. وَامْتُنِعَ أَنْ يَقُولَ فِي صَحَابِيٍّ أَبِي سَعِيدٍ أَوْ جَابِرٍ: ذُو رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَازَ أَنْ يَقُولَ: صَاحِبُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: ذُو الْجَلالِ «٢»، ذُو الْفَضْلِ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً «٣»، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «٤»، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «٥»، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ هُنَا: جَمِيعُ أَنْوَاعِ التَّفَضُّلَاتِ، فَتَكُونَ أَلْ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَعِظَمِهِ مِنْ جِهَةِ سِعَتِهِ وَكَثْرَتِهِ، أَوْ فَضْلِ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْعِظَمِ فِي قَوْلِهِ: وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
«٦»، أَوِ الشَّرِيعَةُ، فَعَظَّمَهَا مِنْ جِهَةِ بيان
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠٧.
(٢) سورة الرحمن: ٥٥/ ٥٧.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٨٧.
(٤) سورة القلم: ٦٨/ ٤٨.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ١٠٥. [.....]
(٦) سورة النساء: ٤/ ١١٣.
546
أَحْكَامِهَا، مِنْ حَلَالٍ، وَحَرَامٍ، وَمَنْدُوبٍ، وَمَكْرُوهٍ، وَمُبَاحٍ أَوِ الثَّوَابُ وَالْجَزَاءُ، فَعَظَّمَهُ مِنْ جِهَةِ السَّعَةِ وَالْكَثْرَةِ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «١»، أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَعَلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ تَكُونُ أَلْ لِلْعَهْدِ، وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ: سَبَبُ نُزُولِهَا، فِيمَا ذَكَرُوا، أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَطَعَنُوا فِي الْإِسْلَامِ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِأَمْرٍ الْيَوْمَ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ غَدًا، وَيَقُولُ الْيَوْمَ قَوْلًا، وَيَرْجِعُ عَنْهُ غَدًا، مَا هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّهُ يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَنَزَلَتْ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا فِي حَقِيقَةِ النَّسْخِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ، وَمَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَفِي جَوَازِهِ عَقْلًا، وَوُقُوعِهِ شَرْعًا، وَبِمَاذَا يُنْسَخُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النَّسْخِ وَدَلَائِلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، وَطَوَّلُوا فِي ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ مَوْضُوعُهُ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَيُبْحَثُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِيهِ. وَهَكَذَا جَرَتْ عَادَتُنَا: أَنَّ كُلَّ قَاعِدَةٍ فِي عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ يُرْجَعُ فِي تَقْرِيرِهَا إِلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَنَأْخُذُهَا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ مُسَلَّمَةً مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِ ذَلِكَ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، فَنَخْرُجَ عَنْ طَرِيقَةِ التَّفْسِيرِ، كَمَا فَعَلَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن عمر الرَّازِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ، فَإِنَّهُ جَمَعَ فِي كِتَابِهِ فِي التَّفْسِيرِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً طَوِيلَةً، لَا حَاجَةَ بِهَا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ. وَلِذَلِكَ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَطَرِّفِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا التَّفْسِيرَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْخُطْبَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عِلْمُ التَّفْسِيرِ. فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ فُضُولٌ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَنَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ النَّحْوِيَّ مَثَلًا يَكُونُ قَدْ شَرَعَ فِي وَضْعِ كِتَابٍ فِي النَّحْوِ، فَشَرَعَ يَتَكَلَّمُ فِي الْأَلِفِ الْمُنْقَلِبَةِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْأَلِفَ فِي اللَّهِ، أَهِيَ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ يَاءٍ أَوْ وَاوٍ؟ ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْكَلَامِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، فِيمَا يَجِبُ لَهُ وَيَجُوزُ عَلَيْهِ وَيَسْتَحِيلُ.
ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى جَوَازِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنْهُ تَعَالَى إِلَى النَّاسِ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى أَوْصَافِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِعْجَازِ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَصِدْقِ مَا تَضَمَّنَهُ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى أَنَّ مِنْ مَضْمُونِهِ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. ثُمَّ الْمُثَابُونَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهُمْ، وَالْمُعَاقَبُونَ فِي النَّارِ لَا يَنْقَطِعُ عَذَابُهُمْ. فَبَيْنَا هُوَ فِي عِلْمِهِ يَبْحَثُ فِي الْأَلِفِ الْمُنْقَلِبَةِ، إِذَا هُوَ يَتَكَلَّمُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَنْ هَذَا سَبِيلُهُ فِي الْعِلْمِ، فَهُوَ مِنَ التَّخْلِيطِ
(١) سورة السجدة: ٣٢/ ١٧.
547
وَالتَّخْبِيطِ فِي أَقْصَى الدَّرَجَةِ، وَكَانَ أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم بْنِ الزُّبَيْرِ الثَّقَفِيُّ، قَدَّسَ اللَّهُ تُرْبَتَهُ، يَقُولُ مَا مَعْنَاهُ: مَتَى رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِلُ مِنْ فَنٍّ إِلَى فَنٍّ فِي الْبَحْثِ أَوِ التَّصْنِيفِ، فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ، إِمَّا لِقُصُورِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ الْفَنِّ، أَوْ لِتَخْلِيطِ ذِهْنِهِ وَعَدَمِ إِدْرَاكِهِ، حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ الْمُتَغَايِرَاتِ مُتَمَاثِلَاتٌ.
وَإِنَّمَا أَمْعَنْتُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ يَقِفُ عَلَيْهِ، وَلِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَنَّا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَا أَوْدَعَهُ النَّاسُ فِي كُتُبِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ، بَلْ إِنَّمَا تَرَكْنَا ذَلِكَ عَمْدًا، وَاقْتَصَرْنَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ. وَأَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِلصَّوَابِ.
وَمَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ، شَرْطِيَّةٌ، وَهِيَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَفِي نَنْسَخْ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَائِبٍ إِلَى مُتَكَلِّمٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ؟ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَنْسَخْ مِنْ نَسَخَ، بِمَعْنَى أَزَالَ، فَهُوَ عَامٌّ فِي إِزَالَةِ اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ مَعًا، أَوْ إِزَالَةِ اللَّفْظِ فَقَطْ، أَوِ الْحُكْمِ فَقَطْ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ وَابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ: مَا نُنْسِخْ مِنَ الْإِنْسَاخِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فَقَالَ: لَيْسَتْ لُغَةً، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ نَسَخَ وَأَنْسَخَ بِمَعْنًى، وَلَا هِيَ لِلتَّعْدِيَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجِيءُ: مَا يُكْتَبْ مِنْ آيَةٍ، أَيْ مَا يَنْزِلْ مِنْ آيَةٍ، فَيَجِيءُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ عَلَى هَذَا مَنْسُوخًا. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا نَجِدُهُ مَنْسُوخًا، كَمَا يُقَالُ: أَحَمَدْتُ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدْتَهُ مَحْمُودًا، وَأَبْخَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتَهُ بَخِيلًا.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَيْسَ نَجِدُهُ مَنْسُوخًا إِلَّا بِأَنْ يَنْسَخَهُ، فَتَتَّفِقَ الْقِرَاءَاتُ فِي الْمَعْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجَعَلَ الْهَمْزَةَ فِي النَّسْخِ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، وَإِنَّمَا أَفْعَلَ لِوُجُودِ الشَّيْءِ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي أَفْعَلَ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الهزة فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ قَالَ: وَإِنْسَاخُهَا الْأَمْرُ بِنَسْخِهَا، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَجْعَلَهَا مَنْسُوخَةً، بِالْإِعْلَامِ بِنَسْخِهَا، وَهَذَا تَثْبِيجٌ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ مَعْنَى كَوْنِ الْهَمْزَةِ لِلتَّعْدِيَةِ.
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ نَسَخَ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ تَعَدَّى لِاثْنَيْنِ. تَقُولُ: نَسَخَ زَيْدٌ الشَّيْءَ، أَيْ أَزَالَهُ، وَأَنْسَخُهُ إِيَّاهُ عَمْرٌو: أَيْ جَعَلَ عَمْرٌو زَيْدًا يَنْسَخُ الشَّيْءَ، أَيْ يُزِيلُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: التَّقْدِيرُ مَا نَنْسَخُكَ مِنْ آيَةٍ، أَيْ مَا نُبِيحُ لَكَ نَسْخُهُ، كَأَنَّهُ لَمَّا نَسَخَهُ اللَّهُ أَبَاحَ لِنَبِيِّهِ تَرْكَهَا بِذَلِكَ النَّسْخِ، فَسَمَّى تِلْكَ الْإِبَاحَةَ إِنْسَاخًا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا هُوَ جَعْلُ الْهَمْزَةِ لِلتَّعْدِيَةِ، لَكِنَّهُ وَالزَّمَخْشَرِيَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ، أَهْوَ جِبْرِيلَ أَمِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ؟ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِنْسَاَخَ هُوَ الْأَمْرَ بِالنَّسْخِ. وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْإِنْسَاخَ إِبَاحَةَ التَّرْكِ بِالنَّسْخِ. وَخَرَّجَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَلَى تَخْرِيجٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ فِيهِ
548
لِلتَّعْدِيَةِ أَيْضًا، وَهُوَ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ، وَهُوَ نَقْلُهُ مِنْ غَيْرِ إِزَالَةٍ لَهُ، قَالَ: وَيَكُونُ الْمَعْنَى مَا نَكْتُبْ وَنُنَزِّلْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ مَا نُؤَخِّرْ فِيهِ وَنَتْرُكْ فَلَا نُنَزِّلْهُ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْنَا، فَإِنَّا نَأْتِي بِخَيْرٍ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الْمَتْرُوكِ، أَوْ بِمِثْلِهِ، فَتَجِيءُ الضَّمِيرَاتُ فِي مِنْهَا وَبِمِثْلِهَا عَائِدِينَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي نَنْسَأْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذُهِلَ عَنِ الْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لَا بُدَّ فِي جَوَابِهِ مِنْ عَائِدٍ عَلَيْهِ. وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ شَرْطِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: أَوْ نَنْسَأْهَا، عَائِدٌ عَلَى الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى لَيْسَ عَائِدًا عَلَيْهَا نَفْسِهَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، إِنَّمَا يَعُودُ عَلَيْهَا لَفْظًا لَا مَعْنًى، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى إِضْمَارِ مَا الشَّرْطِيَّةِ. التَّقْدِيرُ: أَوْ مَا نَنْسَأْ مِنْ آيَةٍ، ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَنْسُوخَ هُوَ غَيْرُ الْمَنْسُوءِ، لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ مُفْلِتًا مِنَ الْجَوَابِ، إِذْ لَا رَابِطَ فِيهِ مِنْهُ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَبَطَلَ هَذَا الْمَعْنَى.
مِنْ آيَةٍ، مِنْ: هُنَا لِلتَّبْعِيضِ، وَآيَةٌ مُفْرَدٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْجَمْعِ، وَنَظِيرُهُ فَارِسٌ فِي قَوْلِكَ:
هَذَا أَوَّلُ فَارِسٍ، التَّقْدِيرُ: أَوَّلُ الْفَوَارِسِ. وَالْمَعْنَى: أَيَّ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَخْرِيجُهُ هَكَذَا، نَحْوُ قَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «١»، وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ «٢»، وَقَوْلِهِمْ: مَنْ يَضْرِبْ مِنْ رَجُلٍ أَضْرِبْهُ.
وَيَتَّضِحُ بِهَذَا الْمَجْرُورِ مَا كَانَ مَعْمُولًا لِفِعْلِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ مُخَصِّصٌ لَهُ، إِذْ فِي اسْمِ الشَّرْطِ عُمُومٌ، إِذْ لَوْ لَمْ يَأْتِ بِالْمَجْرُورِ لَحُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ. لَوْ قُلْتَ: مَنْ يَضْرِبْ أَضْرِبْ، كَانَ عَامًّا فِي مَدْلُولِ مَنْ. فَإِذَا قُلْتَ: مِنْ رَجُلٍ، اخْتُصَّ جِنْسُ الرِّجَالِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ النِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ مِنْ عَامًّا لِلنَّوْعَيْنِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْ آيَةٍ، وَمَا أَشْبَهَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّمْيِيزِ. قَالَ: وَالْمُمَيَّزُ مَا قَالَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ نُسِخَ مِنْ آيَةٍ. قَالَ:
وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَدَّرَ أَيُّ آيَةٍ نَنْسَخْ، لِأَنَّكَ لَا تَجْمَعُ بَيْنَ آيَةٍ وَبَيْنَ الْمُمَيَّزِ بِآيَةٍ. لَا تَقُولُ: أَيَّ آيَةٍ نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، وَلَا أَيُّ رَجُلٍ يَضْرِبْ مِنْ رَجُلٍ أَضْرِبْهُ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ زَائِدَةً، وآية حَالًا. وَالْمَعْنَى: أَيَّ شَيْءٍ نَنْسَخُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا. قَالُوا: وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَةُ حَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى هَذِهِ: ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً «٣»، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ، الْحَالَ لَا يُجَرُّ بِمِنْ وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مَا مصدرا، وآية مَفْعُولًا بِهِ، التَّقْدِيرُ: أَيَّ نَسْخٍ نَنْسَخُ آيَةً، وَمَجِيءُ ما الشرطية مصدرا
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٢.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٥٣.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ٧٣.
549
جَائِزٌ، تَقُولُ: مَا تَضْرِبْ زَيْدًا أَضْرِبْ مِثْلَهُ، التَّقْدِيرُ: أَيَّ ضَرْبٍ تَضْرَبُ زَيْدًا أَضْرِبُ مِثْلَهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَعَبَ الْغُرَابُ فَقُلْتُ بَيْنٌ عَاجِلٌ مَا شِئْتَ إِذْ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فَانْعَبِ
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ مَا إِذَا جَعَلْتَهَا لِلنَّسْخِ، عُرِّيَ الْجَوَابُ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَيْهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: أَيَّ ضَرْبٍ يَضْرِبْ هِنْدًا أَضْرِبْ أَحْسَنَ مِنْهَا، لَمْ يَجُزْ لِعُرُوِّ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ مِنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ هِنْدٌ، لَا عَلَى أَيَّ ضَرْبٍ الَّذِي هُوَ اسْمُ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّائِدَةُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ غَيْرُ مُوجَبٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ نَكِرَةً، وَهَذَا عَلَى الْجَادَّةِ مِنْ مَشْهُورِ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ. وَالشَّرْطُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ غَيْرِ الْمُوجَبِ، فَلَا يَجُوزُ: إِنْ قَامَ مِنْ رَجُلٍ أَقُمْ مَعَهُ، وَفِي هَذَا خِلَافٌ ضَعِيفٌ لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ.
أَوْ نُنْسِها: قَرَأَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَ السَّبْعَةِ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: أَوْ نَنْسَأْهَا، بِفَتْحِ نُونِ الْمُضَارَعَةِ وَالسِّينِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَذَكَرَ أَبُو عَبِيدٍ الْبَكْرِيُّ فِي (كِتَابِ اللَّآلِئُ) ذَلِكَ عَنْ سعد بن أبي وقاص، وَأَرَاهُ وَهْمٌ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: وَقَرَأَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص تَنْسَاهَا بِالتَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ السِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ يَعْمَرَ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ هَمَزُوا: وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ ضَمَّ التَّاءَ.
وَقَرَأَ سَعِيدٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ، نُنْسِهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهَا هَمَزَتْ بَعْدَ السِّينِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو رَجَاءٍ: بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَبِلَا هَمْزٍ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أَوْ نُنْسِكَ، بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ السِّينِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَبِكَافٍ لِلْخِطَابِ بَدَلَ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَفِي مُصْحَفِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الضَّمِيرَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مَا نُنْسِكَ مِنْ آية أو ننسخها نجيء بِمِثْلِهَا. وَهَكَذَا ثَبَتَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، فَتَحْصُلُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، دُونَ قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ، إِحْدَى عَشْرَةَ قِرَاءَةً: فَمَعَ الْهَمْزَةِ: نَنْسَأْهَا وَنَنْسِئْهَا وَنُنْسِأْهَا وَتَنْسَأْهَا، وَبِلَا هَمْزٍ: نَنْسَهَا وَنُنْسِهَا وَتَنْسَهَا وتنسها ونسك وَنُنْسِكَهَا. وَفُسِّرَ النَّسْخُ هُنَا بِالتَّبْدِيلِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزَّجَّاجُ، أَوْ تَبْدِيلِ الْحُكْمِ مَعَ ثُبُوتِ الْخَطِّ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَوِ الرَّفْعِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ نُنْسِهَا بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَإِنْ كَانَ
550
مِنَ النِّسْيَانِ ضِدِّ الذِّكْرِ، فَالْمَعْنَى: نُنْسِكَهَا إِذَا كَانَ مِنْ أَفْعَلَ، أَوْ نُنْسِهَا إِذَا كَانَ مَنْ فَعَلَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ التَّرْكِ، فَالْمَعْنَى: أَوْ نَتْرُكْ إِنْزَالَهَا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوْ نَمْحُهَا، فَلَا نَتْرُكْ لَهَا لَفْظًا يُتْلَى وَلَا حُكْمًا يُلْزِمُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ نَأْمُرْ بِتَرْكِهَا، يُقَالُ: أَنْسَيْتُهُ الشَّيْءَ:
أَيْ أَمَرْتُ بِتَرْكِهِ، وَنَسِيتُهُ: تَرَكْتُهُ، قَالَ:
إِنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أَقْضِيهَا لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلَا مُنْسِيهَا
أَيْ لَا آمُرُ بِتَرْكِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِرَاءَةُ نُنْسِهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ النُّونِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ السِّينِ، لَا يَتَوَجَّهُ فِيهَا مَعْنَى التَّرْكِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: أُنْسِيَ بِمَعْنَى تَرَكَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ: ذَلِكَ مُتَّجِهٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَجْعَلُكَ تَتْرُكُهَا. وَكَذَلِكَ ضَعَّفَ الزَّجَّاجُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَسِيَ قُرْآنًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَدْ وَقَعَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُرْفَعَ الْآيَةُ بِنَسْخٍ أَوْ بِنَسْئِهِ. وَاحْتَجَّ الزَّجَّاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «١»، أَيْ لَمْ نَفْعَلْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَاهُ لَمْ نَذْهَبْ بِالْجَمِيعِ، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ قَوْلَ الزَّجَّاجِ عَنْ أَقْدَمَ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَنَّ نِسْيَانَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَاهُ، وَلَمْ يُرِدْ أن يثبته قرآنا جائزا.
وَأَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ آفَةٌ فِي الْبَشَرِ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنْهُ، قَبْلَ التَّبْلِيغِ، وَبَعْدَ التَّبْلِيغِ، مَا لَمْ يَحْفَظْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يُحْفَظَ، فَجَائِزٌ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْبَشَرِ، لِأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ، حِينَ أَسْقَطَ آيَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: «أَفِي الْقَوْمِ أُبَيٌّ؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَلِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي؟» قَالَ: خَشِيتُ أَنَّهَا رُفِعَتْ». فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «لم تُرْفَعْ وَلَكِنِّي نَسِيتُهَا».
انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْهَمْزِ فَهُوَ مِنَ التَّأْخِيرِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَسَأْتُ الْإِبِلَ عَنِ الْحَوْضِ، وَأَنْسَأَ الْإِبِلَ عَنْ ظَمَئِهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ أَخَّرَهَا عَنِ الْوِرْدِ. وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَالْمَعْنَى: نُؤَخِّرْ نَسْخَهَا أَوْ نُزُولَهَا، قَالَهُ عَطَاءٌ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، أَوْ نَمْحُهَا لَفْظًا وَحُكْمًا، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ نمضها فَلَا نَنْسَخْهَا، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَهَذَا يُضْعِفُهُ قَوْلُهُ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها، لِأَنَّ مَا أُمْضِيَ وَأُقِرَّ، لَا يُقَالُ فِيهِ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا تَقْدِيرُهُ: مَا نُبَدِّلْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، أَيْ أَنْفَعَ مِنْهَا لَكُمْ، أَوْ مِثْلِهَا. ثُمَّ قَالَ: أَوْ نَنْسَأْهَا، أَيْ نُؤَخِّرْهَا، فَلَا نَنْسَخْهَا وَلَا نُبَدِّلْهَا.
وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَا تَصِحُّ عَنْ ذَلِكَ الْحَبْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ هِيَ مُحِيلَةٌ لِنَظْمِ القرآن.
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٦.
551
نَأْتِ: هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَاسْمُ الشَّرْطِ هُنَا جَاءَ بَعْدَهُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ مُضَارِعَيْنِ، وَهَذَا أَحْسَنُ التَّرَاكِيبِ فِي فِعْلَيِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا مُضَارِعَيْنِ. بِخَيْرٍ مِنْها:
الظَّاهِرُ أَنَّ خَيْرًا هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَالْخَيْرِيَّةُ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ الْمُأْتَى بِهِ، إِنْ كَانَ أَخَفَّ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوِ الْمَنْسُوءِ، فَخَيْرِيَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِسُقُوطِ أَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَ أَثْقَلَ، فَخَيْرِيَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ. أَوْ مِثْلِها: أَوْ مُسَاوٍ لَهَا فِي التَّكْلِيفِ وَالثَّوَابِ، وَذَلِكَ كَنَسْخِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ خَيْرًا هُنَا لَيْسَ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، كَخَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ مَصْدَرٌ، وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَيَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُؤَخِّرْهَا، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنَ الْخُيُورِ مِنْ جِهَةِ الْمَنْسُوخِ أَوِ الْمَنْسُوءِ، لَكِنْ يُبْعِدُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: أَوْ مِثْلِها، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ: بِخَيْرٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا إِنْ أُطْلِقَ الْخَيْرُ عَلَى عَدَمِ التَّكْلِيفِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنَ الْخُيُورِ، وَهُوَ عَدَمُ التَّكْلِيفِ، أَوْ نَأْتِ بِمِثْلِ الْمَنْسُوخِ أَوِ الْمَنْسُوءِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُؤَخِّرْهَا، فَإِلَى غَيْرِ بَدَلٍ، أَوْ إِلَى بَدَلٍ مُمَاثِلٍ، وَالَّذِي إِلَى غيره بَدَلٍ، هُوَ خَيْرٌ أَتَاكُمْ مِنْ جِهَةِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ أَوِ الْمَنْسُوءَةِ، إِذْ هُوَ رَاحَتُكُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ. وَأَمَّا عَطْفُ مِثْلِهَا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي مِنْهَا فَيَضْعُفُ لِعَدَمِ إِعَادَةِ الْجَارِّ.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ظَاهِرُهُ الِاسْتِفْهَامُ الْمَحْضُ، فَالْمُعَادِلُ هُنَا عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ: أَمْ تُرِيدُونَ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، فَالْمُعَادِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَمْ عَلِمْتُمْ، وهذا كله على أن الْقَصْدَ بِمُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَبَةُ أُمَّتِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبَ وَحْدَهُ، فَالْمُعَادِلُ مَحْذُوفٌ لَا غَيْرُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ.
انْتَهَى كَلَامُهُ وَنَقْلُهُ. وَمَا قَالُوهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَادِلٍ أَلْبَتَّةَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ السَّامِعَ، وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ جِدًّا، خُصُوصًا إِذَا دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ «١» ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ «٢» ؟ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً «٣» ؟ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى «٤» ؟ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «٥» ؟ فَهَذَا كُلُّهُ اسْتِفْهَامٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ١٠.
(٢) سورة التين: ٩٥/ ٨.
(٣) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٨.
(٤) سورة الضحى: ٩٣/ ٦.
(٥) سورة الشرح: ٩٤/ ١.
552
مُعَادِلٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيرُ. وَالْمَعْنَى: قَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِي تَكَالِيفِ عِبَادِهِ، بِمَحْوِ وَإِثْبَاتِ وَإِبْدَالِ حُكْمٍ بِحُكْمٍ، وَبِأَنْ يَأْتِيَ بِالْأَخِيرِ لَكُمْ وَبِالْمُمَاثِلِ. وَحِكْمَةُ إِفْرَادِ الْمُخَاطَبِ: أَنَّهُ مَا مِنْ شَخْصٍ إِلَّا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ، وَالْمُنَبَّهُ بِهِ، وَالْمُقَرَّرُ عَلَى شَيْءٍ ثَابِتٍ عِنْدَهُ، وَهُوَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَشْيَاءِ، فَلَنْ يُعْجِزَهُ شَيْءٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُنْكَرِ النَّسْخُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ، فِيهِ خُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ جَمْعٍ مُخَاطَبٍ وَهُوَ: مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، إِلَى ضَمِيرٍ مُخَاطَبٍ مُفْرَدٍ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا، وَخُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ مُعَظِّمٍ نَفْسَهُ، إِلَى اسْمٍ ظَاهِرٍ غَائِبٍ وَهُوَ اللَّهُ، إِذْ هُوَ الِاسْمُ الْعَلَمُ الْجَامِعُ لِسَائِرِ الصِّفَاتِ، فَفِي ضِمْنِهِ صِفَةُ الْقُدْرَةِ، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي نِسْبَةِ الْقُدْرَةِ إِلَيْهِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّنَا إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «١» فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ هَذَا أَيْضًا اسْتِفْهَامٌ دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ فَهُوَ تَقْرِيرٌ، فَلَيْسَ لَهُ مُعَادِلٌ، لِأَنَّ التَّقْرِيرَ مَعْنَاهُ: الْإِيجَابُ، أَيْ قَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّ اللَّهَ له سلطان السموات وَالْأَرْضِ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمَا، فَهُوَ يَمْلِكُ أُمُورَكُمْ وَيُدَبِّرُهَا، وَيُجْرِيهَا عَلَى مَا يَخْتَارُهُ لَكُمْ مِنْ نَسْخٍ وَغَيْرِهِ، وَخَصَّ السموات وَالْأَرْضَ بِالْمُلْكِ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اشْتَمَلَا عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَإِذَا كَانَ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَى الطَّرَفَيْنِ، كَانَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْعُلْوِيَّةِ بِالسَّمَاوَاتِ، وَالسُّفْلِيَّةِ بِالْأَرْضِ.
وَتَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ التَّقْرِيرَ عَلَى الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا كَمَالُ التَّصَرُّفِ، وَهُمَا:
الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِيلَاءُ، لِأَنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَكُونُ قَادِرًا، بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ اسْتِطَاعَةً عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيُنَفِّذَ فِيهِ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ. فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الِاسْتِطَاعَةُ وَعَدَمُ الْمَانِعِيَّةِ، كَمُلَ بِذَلِكَ التَّصَرُّفُ مَعَ الْإِرَادَةِ. وَبَدَأَ بِالتَّقْرِيرِ عَلَى وَصْفِ الْقُدْرَةِ، لِأَنَّهُ آكَدُ مِنْ وَصْفِ الِاسْتِيلَاءِ وَالسُّلْطَانِ. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ: انْتَقَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْإِفْرَادِ فِي الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، وَنَاسَبَ الْجَمْعَ هُنَا، لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ بِدُخُولِ مِنْ عَلَيْهِ صَارَ نَصًّا فِي الْعُمُومِ، فَنَاسَبَ كَوْنَ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ يَكُونُ عَامًّا أَيْضًا، كان المعنى: وما
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٠.
553
لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْكُمْ فَرْدٌ فَرْدٌ. مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ: وَأَتَى بِصِيغَةِ وَلِيٍّ، وَهُوَ فَعِيلٌ، لِلْمُبَالَغَةِ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، ولذلك لم يجىء فِي الْقُرْآنِ وَالٍ إِلَّا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، لِمُوَاخَاةِ الْفَوَاصِلِ، وَأَتَى بِنَصِيرٍ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، لِمُنَاسَبَةِ وَلِيٍّ فِي كَوْنِهِمَا عَلَى فَعِيلٍ، وَلِمُنَاسَبَةِ أَوَاخِرِ الْآيِ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ فَاعِلٍ. وَمِنْ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ: مِنْ وَلِيٍّ، فَلَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ.
وَمِنْ: فِي مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ لَكُمْ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ فِي مَا هَذِهِ أَنْ تَكُونَ تَمِيمِيَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حِجَازِيَّةً عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَقَدُّمَ خَبَرِهَا، إِذَا كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا. أَمَّا مَنْ مَنْعَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ فِي مَا أَنْ تَكُونَ حِجَازِيَّةً، وَمَعْنَى مِنْ الْأُولَى ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ. وَتَكَرَّرَ اسْمُ اللَّهِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ، وَلَمْ يُضْمَرْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ مُرْتَبِطَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ ارْتِبَاطَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ الْأُولَيَانِ لِلتَّقْرِيرِ، وَهُوَ إِيجَابٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، نَاسَبَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ نَفْيًا لِلْوَلِيِّ وَالنَّاصِرِ، أَيْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي هِيَ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ وَاسْتِيلَائِهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْجِزُهُ عَمَّا يُرِيدُ بِهَا شَيْءٌ، وَلَا مُغَالِبَ لَهُ تَعَالَى فِيمَا يُرِيدُ.
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ: اخْتُلِفَ فِي سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ وَرَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ اجْعَلِ الصَّفَا ذَهَبًا، وَوَسِّعْ لَنَا أَرْضَ مَكَّةَ، وَفَجِّرِ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، وَنُؤْمِنْ لَكَ. وَقِيلَ: تَمَنَّى الْيَهُودُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَمِنْ قَائِلٍ: ائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً، كَمَا أَتَى مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ. وَمِنْ قَائِلٍ: ائْتِنِي بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ: مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، إِنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ مُحَمَّدًا إِلَى النَّاسِ. وَمِنْ قَائِلٍ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. وَقِيلَ: إِنَّ رَافِعَ بْنَ خُزَيْمَةَ، وَوَهْبَ بْنَ زَيْدٍ قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَفَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا، نَتَّبِعْكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَيْتَ ذُنُوبَنَا جَرَتْ مَجْرَى ذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ خَطِيئَةٌ وَجَدُوهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِ الْخَاطِئِ، فَإِنْ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الْآخِرَةِ».
وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَكُفَّارُ قُرَيْشٍ سَأَلُوا رَدَّ الصَّفَا ذَهَبًا، وَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوهُ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَبَوْا وَنَكَصُوا. وَقِيلَ: سَأَلَ قَوْمٌ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ ذَاتَ أَنْوَاطٍ، كَمَا كَانَتْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ شَجَرَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا الثَّمَرَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَأَسْلِحَتَهُمْ. كَمَا سَأَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى فَقَالُوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا
554
كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ كُلُّهَا أَسْبَابًا فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ طَوَّلْنَا بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَقْصِدِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ.
وَأَمْ: هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، وَتَتَقَدَّرُ الْمُنْقَطِعَةُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، فَالْمَعْنَى: بَلْ أَتُرِيدُونَ، فَبَلْ تُفِيدُ الْإِضْرَابُ عَمَّا قَبْلَهُ، وَمَعْنَى الْإِضْرَابِ هُنَا: هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ جُمْلَةٍ إِلَى جُمْلَةٍ، لَا عَلَى سَبِيلِ إِبْطَالِ الْأُولَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ أَمْ هُنَا مُعَادِلَةً لِلِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ ذَلِكَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَمْ اسْتِفْهَامٌ مَقْطُوعٌ مِنَ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتُرِيدُونَ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضَعِيفَانِ. وَالَّذِي تَقَرَّرَ أَنَّ أَمْ تَكُونُ مُتَّصِلَةً وَمُنْفَصِلَةً. فَالْمُتَّصِلَةُ: شَرَطُهَا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا لَفْظُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا مُفْرَدٌ، أَوْ فِي تَقْدِيرِ الْمُفْرَدِ. وَالْمُنْفَصِلَةُ: مَا انْخَرَمَ الشَّرْطَانِ فِيهَا أَوْ أَحَدُهُمَا، وَيَتَقَدَّرُ إِذْ ذَاكَ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ مَعًا، وَأَمَّا مَجِيئُهَا مُرَادِفَةً لِلْهَمْزَةِ فَقَطْ، أَوْ مُرَادِفَةً لِبَلْ فَقَطْ، أَوْ زَائِدَةً، فَأَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ. وَعَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُخَاطَبِينَ، يَجِيءُ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: رَسُولَكُمْ. فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ وَالْجِبَائِيِّ وَأَبِي مُسْلِمٍ، فَيَكُونُ رَسُولَكُمْ جَاءَ عَلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَعَلَى مَا أَقَرُّوا بِهِ مِنْ رِسَالَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ، كَانَتْ إِضَافَةُ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ، لَا عَلَى إِقْرَارِهِمْ بِهِ. وَرُجِّحَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ، وَبِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَقُولُوا راعِنا، أَيْ هَلْ تَفْعَلُونَ مَا أُمِرْتُمْ، أَمْ تُرِيدُونَ؟ وَرُجِّحَ أَنَّهُمُ الْيَهُودُ، لِأَنَّهُ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْحِكَايَاتِ عَنْهُمْ مَا قَالُوا، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالرَّسُولِ لَا يَكَادُ يَسْأَلُهُ مَا يَكُونُ كُفْرًا.
كَمَا سُئِلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، فَعَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ: عَلَى الْحَالِ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُعْرِبِينَ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، فَيُقَدَّرُ عَلَى قَوْلِهِمْ: سُؤَالًا كَمَا سُئِلَ، وَيُقَدَّرُ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ: أَنْ تَسْأَلُوهُ، أَيِ السُّؤَالَ كَمَا سُئِلَ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ كَسُؤَالِ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً بمعنى الذي، التَّقْدِيرُ: الَّذِي سُئِلَهُ مُوسَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسِيلَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِكَسْرِ السِّينِ وَيَاءٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالزُّهْرِيُّ: بِإِشْمَامِ السِّينِ وَيَاءٍ. وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ بَيْنَ بَيْنَ وَضَمِّ السِّينِ.
وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اللُّغَتَيْنِ فِي سَأَلَ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ مُقَرَّةً مَفْتُوحَةً، فَتَقُولَ سَأَلَ.
فَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ تَكُونُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقِرَاءَةُ مَنْ سَهَّلَ الْهَمْزَ بَيْنَ بَيْنَ. وَاللُّغَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَكُونَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ وَاوًا، وَتَكُونَ عَلَى فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فَتَقُولَ: سِلْتُ أَسَالُ، كَخِفْتُ أَخَافُ، أَصْلُهُ: سُوِلْتُ. وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ تَكُونُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَقِرَاءَةُ مَنْ أَشَمَّ. وَتَخْرِيجُ
555
هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ أَوْلَى مِنَ التَّخْرِيجِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَلِفِ الْهَمْزُ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ أَلِفًا، فَصَارَ مِثْلَ: قَالَ وَبَاعَ، فَقِيلَ فِيهِ: سِيلَ بِالْكَسْرِ الْمَحْضِ، أَوِ الْإِشْمَامِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِبْدَالَ شَاذٌّ وَلَا يَنْقَاسُ. وَتِلْكَ لُغَةٌ ثَانِيَةٌ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا كَانَ لُغَةً أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الشَّاذِّ غَيْرِ الْمُطَّرِدِ. وَحُذِفَ الْفَاعِلُ هُنَا لِلْعِلْمِ بِهِ، التَّقْدِيرُ: كَمَا سَأَلَ قَوْمُ مُوسَى مُوسَى مِنْ قَبْلُ.
مُوسى مِنْ قَبْلُ: يَتَعَلَّقُ هَذَا الْجَارُّ بِقَوْلِهِ: سُئِلَ، وَقَبْلُ مَقْطُوعَةٌ عَنِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَعْرِفَةٌ مَحْذُوفٌ. فَلِذَلِكَ بُنِيَتْ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ، وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ قَبْلِ سُؤَالِكُمْ، وَهَذَا تَوْكِيدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ سُؤَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مُتَقَدِّمٌ عَلَى سُؤَالِ هَؤُلَاءِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُؤَالُ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ قَوْلُهُمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «١»، اجْعَلْ لَنا إِلهاً «٢». فَأَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُوَبِّخَهُمْ عَلَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِمْ بِسُؤَالِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَقْتَرِحُوا عَلَيْهِ، إِذْ هُمْ يَكْفِيهِمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ. وَشَبَّهَ سُؤَالَهُمْ بِسُؤَالِ مَا اقْتَرَحَهُ آبَاءُ الْيَهُودِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَصِيرُهَا إِلَى الْوَبَالِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا؟ فَوَبَّخَهُمْ عَلَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِمْ بِالسُّؤَالِ، إِذْ لَوْ كَانَ السُّؤَالُ قَدْ وَقَعَ، لَكَانَ التَّوْبِيخُ عَلَيْهِ، لَا عَلَى إِرَادَتِهِ، وَكَانَ يَكُونُ اللَّفْظُ: أَتَسْأَلُونَ رَسُولَكُمْ؟ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤَدِّي مَعْنَى وُقُوعِ السُّؤَالِ، لَكِنْ تَظَافَرَتْ نُقُولُهُمْ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ قَدْ وَقَعَ.
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ؟ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّبْدِيلِ، أَيْ: مَنْ يَأْخُذِ الْكُفْرَ بَدَلَ الْإِيمَانِ؟ وَهَذِهِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ:
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «٣». وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا بِأَنْ قَالَ: وَمَنْ تَرَكَ الثِّقَةَ بِالْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَشَكَّ فِيهَا وَاقْتَرَحَ غَيْرَهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْكُفْرُ هُنَا: الشِّدَّةُ، وَالْإِيمَانُ: الرَّخَاءُ.
وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمَا مُسْتَعَارَانِ فِي الشِّدَّةِ عَلَى نَفْسِهِ وَالرَّخَاءِ لَهَا عَنِ الْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ. وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ مِنْ شِدَّةِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَرَخَائِهَا، فَلَا تُفَسَّرُ الْآيَةُ بِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ على؟؟؟ هما الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ مَنْ سَأَلَ الرَّسُولَ مَا سَأَلَ مَعَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ وَوُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِ، كَانَ سُؤَالُهُ تَعَنُّتًا وَإِنْكَارًا، وَذَلِكَ كُفْرٌ.
فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ: هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الضَّلَالِ في
(١) سورة النساء: ٤/ ١٥٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٣٨. [.....]
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٦.
556
قَوْلِهِ: وَلَا الضَّالِّينَ «١»، وَعَلَى سَوَاءَ فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ «٢»، وَأَنَّ سَوَاءٌ يَكُونُ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ. وَلِذَلِكَ يَتَحَمَّلُ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٍ هُوَ وَالْعَدَمُ، وَيُوصَفُ بِهِ: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، وَيُفَسَّرُ بِمَعْنَى الْعَدْلِ وَالنَّصَفَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَوٍ، وَقَالَ زُهَيْرٌ:
أَرُونَا خُطَّةً لَا عَيْبَ فِيهَا يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ
وَيُفَسَّرُ بِمَعْنَى الْوَسَطِ. قَالَ تَعَالَى: فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «٣»، أَيْ فِي وَسَطِهَا.
وَقَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: كَتَبْتُ حَتَّى انْقَطَعَ سِوَايَ، وَقَالَ حَسَّانُ:
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ
وَبِذَلِكَ فَسَّرَ السَّوَاءَ فِي الْآيَةِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَفَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ بِالْقَصْدِ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تُوَصِّلُ سَالِكَهَا إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى، كَنَّى عَنْهَا بِالسَّبِيلِ، وَجَعَلَ مَنْ حَادَ عَنْهَا: كَالضَّالِّ عَنِ الطَّرِيقِ، وَكَنَّى عَنْ سُؤَالِهِمْ نَبِيَّهُمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ بِتَبَدُّلِ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، وَصُورَةُ الشَّرْطِ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ تَنْفِيرًا عَنْ ذَلِكَ، وَتَبْعِيدًا مِنْهُ. فَوَبَّخَهُمْ أَوَّلًا عَلَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِمْ بِسُؤَالِ مَا لَيْسَ لَهُمْ سُؤَالُهُ، وَخَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَدْرَجَهُمْ فِي عُمُومِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ. وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ، لِأَنَّهُ ضَلَالٌ عَنِ الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، فَصَارَ صَدْرُ الْآيَةِ إِنْكَارًا وَتَوْبِيخًا، وَعَجُزُهَا تَكْفِيرًا وَضَلَالًا. وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ غَرَضٌ وَلَا طَلَبٌ وَلَا إِرَادَةٌ. وَإِدْغَامُ الدَّالِ فِي الضَّادِ مِنَ الإدغام الجائز. وقد قرىء:
فَقَدْ ضَلَّ، بِالْإِدْغَامِ وَبِالْإِظْهَارِ فِي السَّبْعَةِ.
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: الْمَعْنِيُّ بِكَثِيرٍ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، أَوْ حُيَّيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَخُوهُ أَبُو يَاسِرٍ، أَوْ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ حَاوَلُوا الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ، أَوْ فِنْحَاصُ بْنُ عَاذُورَاءَ وَزَيْدُ بْنُ قَيْسٍ وَنَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ حَاوَلُوا حُذَيْفَةَ وَعَمَّارًا فِي رُجُوعِهِمَا إِلَى دِينِهِمْ، أَقْوَالٌ. وَالْقُرْآنُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا، إِنَّمَا أَخْبَرَ بِوِدَادَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْخِلَافُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَخَصَّصَتِ الصِّفَةُ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، فَلِذَلِكَ حَسُنَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ الصِّفَةِ مُقَامَهُ. وَالْكِتَابُ هنا: التوراة.
(١) سورة الفاتحة: ١/ ٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٦.
(٣) سورة الصافات: ٣٧/ ٥٥.
557
لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً: الْكَلَامُ فِي لَوْ هُنَا، كَالْكَلَامِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ:
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ «١». فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، قَالَ: لَوْ، وَالْفِعْلُ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مَفْعُولُ. ودّ: أي ودّردكم، وَمَنْ جَعَلَهَا حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، جَعَلَ الْجَوَابَ مَحْذُوفًا، وَجَعَلَ مَفْعُولَ وَدَّ مَحْذُوفًا التَّقْدِيرُ: ودّردكم كُفَّارًا، لَوْ يَرُدُّونَكُمْ كُفَّارًا لَسُرُّوا بِذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ تَقْدِيرُهُ: لَوْ يَرُدُّونَكُمْ كُفَّارًا لَوَدُّوا ذَلِكَ. فَوَدَّ دَالَّةٌ عَلَى الْجَوَابِ، وَلَا يَجُوزُ لِوَدَّ الْأُولَى أَنْ تَكُونَ هِيَ الْجَوَابَ، لِأَنَّ شَرْطَ لَوْ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْجَوَابِ.
انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ جَوَابَ لَوْ قَوْلَهُ: لَوَدُّوا ذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْوِدَادَةَ لَمْ تَقَعْ، لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِلَوْ، وَهُوَ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، فَامْتَنَعَ وُقُوعُ الْوِدَادَةِ، لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الرَّدِّ. وَالْغَرَضُ أَنَّ الْوِدَادَةَ قَدْ وَقَعَتْ. أَلَا تَرَى إِلَى أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ وَهِيَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَاتَّفَقُوا عَلَى وُقُوعِ الْوِدَادَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ بِمَنْ وَقَعَتْ، وَتَقْدِيرُ جَوَابِ لَوْ لَوَدُّوا ذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِدَادَةَ لَمْ تَقَعْ، فَلِذَلِكَ كَانَ تَقْدِيرُهُ لَسُرُّوا أَوْ لَفَرِحُوا بِذَلِكَ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، إِذَا جَعَلْتَ لَوْ تَقْتَضِي جَوَابًا. وَيَرُدُّ هُنَا بِمَعْنَى يُصَيِّرُ، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ: الْأَوَّلُ هُوَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ، وَالثَّانِي كُفَّارًا، وَقَدْ أَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ حَالًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْحَالَ مُسْتَغْنًى عَنْهَا فِي أَكْثَرِ مَوَارِدِهَا، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ. وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِيَرُدُّ، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَظَاهِرُ الْوَاوِ فِي يَرُدُّونَكُمْ أَنَّهَا لِلْجَمْعِ، وَمَنْ فَسَّرَ كَثِيرًا بِوَاحِدٍ أَوْ بِاثْنَيْنِ، فَجَعَلَ الْوَاوَ لَهُ أَوْ لَهُمَا، لَيْسَ عَلَى الْأَصْلِ.
حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ: انْتِصَابُ حَسَدًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ وَدَّ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى وِدَادَةِ رَدِّكُمْ كُفَّارًا هُوَ الْحَسَدُ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ حَاسِدِينَ، وَلَمْ يُجْمَعْ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ جَعْلَ الْمَصْدَرِ حَالًا لَا يَنْقَاسُ. وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: حَسَدُوكُمْ حَسَدًا. وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ. وَيَتَعَلَّقُ الْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، إِمَّا بِمَلْفُوظٍ بِهِ وَهُوَ وَدَّ، أَيْ وَدُّوا ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهِمْ، لَا أَنَّ وِدَادَتَهُمْ ذَلِكَ هِيَ مِنْ جِهَةِ التَّدَيُّنِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ؟ وَإِمَّا بِمُقَدَّرٍ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، التَّقْدِيرُ: حَسَدًا كَائِنًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ تَوْكِيدًا، أَيْ وِدَادَتُهُمْ أَوْ حَسَدُهُمْ مِنْ تِلْقَائِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّ وِدَادَةَ الْكُفْرِ وَالْحَسَدَ عَلَى الإيمان
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩٦.
558
لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ؟ فَهُوَ نَظِيرُ، وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ بِقَوْلِهِ: يَرُدُّونَكُمْ، وَمِنْ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ يَكُونُ الرَّدُّ مِنْ تَلْقَائِهِمْ وَبِإِغْوَائِهِمْ وَتَزْيِينِهِمْ.
مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ: تَتَعَلَّقُ مِنْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَدَّ، أَيْ وِدَادَتُهُمْ كُفْرَكُمْ لِلْحَسَدِ الْمُنْبَعِثِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. وَتِلْكَ الْوِدَادَةُ ابْتَدَأَتْ مِنْ زَمَانِ وُضُوحِ الْحَقِّ وَتَبَيُّنِهِ لَهُمْ، فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ الَّذِينَ قَدْ يَعْزُبُ عَلَيْهِمْ وُضُوحُ الْحَقِّ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَسَدِ وَالْعِنَادِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ عِنَادًا. أَلَا تَرَى إِلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ؟ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ عَقْلًا، وَبُعْدُهُ وُقُوعًا، وَيَتَرَتَّبُ فِي كُلِّ آيَةٍ تَقْتَضِيهِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُسْلَبُ مِنْ ثَانِي حَالٍ مِنَ الْعِنَادِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحَقِّ، إِمَّا لِلْعَهْدِ، وَيُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَرَيَانُهُ قَبْلَ هَذَا، أَوِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا اتَّضَحَتْ لَهُمْ وُجُوهُ الْحَقِّ وَأَنْوَاعُهُ.
فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «١». وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «٢»، وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ هَذَا حَدَّ الْمَنْسُوخِ، لِأَنَّ هَذَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَانَ لِلتَّوْقِيفِ عَلَى مُدَّتِهِ. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ: غَيَّا الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ بِهَذِهِ الْغَايَةِ، وَهَذِهِ مُوَادَعَةٌ إِلَى أَنْ أَتَى أَمْرُ اللَّهُ بِقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَإِجْلَاءِ بَنِي النضير وَإِذْلَالِهِمْ بِالْجِزْيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَتَى مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِيهِمْ وَتَرْكِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ إِسْلَامُ بَعْضٍ وَاصْطِلَامُ بَعْضٍ. وَقِيلَ: آجَالُ بَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: الْقِيَامَةُ، وَقِيلَ: الْمُجَازَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: قُوَّةُ الرِّسَالَةِ وَكَثْرَةُ الْأُمَّةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ.
وَعَنِ الْبَاقِرِ: أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالٍ حَتَّى نَزَلَ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
، وَالْأَمْرُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ هُوَ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا وَأَنْ يُعْرَضَ عَنْ جَوَابِهِمْ فَيَكُونَ أَدْعَى لِتَسْكِينِ الثَّائِرَةِ وَإِطْفَاءِ الْفِتْنَةِ وَإِسْلَامِ بَعْضِهِمْ، لَا أَنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا، لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِالِانْتِقَامِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالْمُوَادَعَةِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَغَيَّا ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ: لَمَّا أَمَرَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، أَمَرَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى عَمُودَيِ الْإِسْلَامِ: الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ، إِذِ الصَّلَاةُ فِيهَا مُنَاجَاةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّلَذُّذُ بِالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالزَّكَاةُ فِيهَا الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ بِالْإِيثَارِ عَلَى النَّفْسِ، فَأُمِرُوا بالوقوف بين يدي
(١) سورة التوبة: ٩/ ٢٩.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٥.
559
الْحَقِّ وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهِ هُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِيَحُطَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَيْلِهِمْ إِلَى قَوْلِ الْيَهُودِ: رَاعِنَا، لِأَنَّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ نَوْعِهِ، ثُمَّ أَمَرَ المؤمنون بِمَا يَحُطُّهُ.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الظُّهُورُ.
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ: لَمَّا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ عَامَّةً لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَغَيْرُهُمَا.
وَالْقَوْلُ فِي إِعْرَابِ مَا وَمِنْ خَيْرٍ، كَالْقَوْلِ فِي إِعْرَابِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ، مِنْ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَفْعُولَةً، وَمِنْ خَيْرٍ: حَالٌ أَوْ مَصْدَرٌ، وَمِنْ خَيْرٍ: مَفْعُولٌ، أَوْ مَفْعُولَةٌ، وَمِنْ خَيْرٍ:
تَمْيِيزٌ أَوْ مَفْعُولَةٌ، وَمِنْ خَيْرٍ، تَبْعِيضِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ. لِأَنْفُسِكُمْ: مُتَعَلِّقٌ بِتُقَدِّمُوا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِنَجَاةِ أَنْفُسِكُمْ وَحَيَاتِهَا، قَالَ تَعَالَى: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي «١». وَقَدْ فُسِّرَ الْخَيْرُ هُنَا بِالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالْأَظْهَرُ الْعُمُومُ تَجِدُوهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى مَا، وَالْخُيُورُ الْمُتَقَدِّمَةُ هِيَ أَفْعَالٌ مُنْقَضِيَةٌ. وَنَفْسُ ذَلِكَ الْمُنْقَضِي لَا يُوجَدُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ تَجِدُوا ثَوَابَهُ. فَجَعَلَ وُجُوبَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ وُجُودًا لَهُ، وَتَجِدُوهُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ. وَالْعَامِلُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ اللَّهِ، إِمَّا نَفْسُ الْفِعْلِ، أَوْ مَحْذُوفٌ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ تَجِدُوهُ مُدَّخَرًا وَمُعَدًّا عِنْدَ اللَّهِ. وَالظَّرْفِيَّةُ هنا المكانية مُمْتَنِعَةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ مَجَازٌ بِمَعْنَى الْقَبْلِ، كَمَا تَقُولُ لَكَ:
عِنْدِي يَدٌ، أَيْ فِي قَبْلِي، أَوْ بِمَعْنَى فِي عِلْمِ اللَّهِ نَحْوُ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ «٢»، أَيْ فِي عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ، أَوْ بِمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ».
إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: الْمَجِيءُ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْجُمَلِ، فَلِذَلِكَ جَاءَ إِنَّ اللَّهَ، وَلَمْ يجىء إِنَّهُ، مَعَ إِمْكَانِ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ ظَاهِرَةُ التَّنَاسُبِ فِي خَتْمِ مَا قَبْلَهَا بِهَا، تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَكَنَّى بِقَوْلِهِ: بَصِيرٌ عَنْ عِلْمِ الْمُشَاهَدِ، أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَمَلَ عَامِلٍ وَلَا يُضَيِّعُهُ، وَمَنْ كَانَ مُبْصِرًا لِفِعْلِكَ، لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ، هَلْ هُوَ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ، وَأَتَى بِلَفْظِ بَصِيرٌ دون مبصرا، إِمَّا لِأَنَّهُ مِنْ بَصُرَ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ وَالسَّجِيَّةِ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ، أَوْ لِأَنَّهُ فَعِيلٌ لِلْمُبَالِغَةِ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، الَّذِي هُوَ لِلتَّكْثِيرِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، كَالسَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ، قَالَ بَعْضُ الصوفية: على
(١) سورة الفجر: ٨٩/ ٢٤.
(٢) سورة الحج: ٢٢/ ٤٧.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ٢٠٦.
560
الْمُرِيدِ إِقَامَةَ الْمُوَاصَلَاتِ وَإِدَامَةَ التَّوَسُّلِ بِفُنُونِ الْقُرُبَاتِ، وَاثِقًا بأن ما تقدمه مِنْ صِدْقِ الْمُجَاهَدَاتِ سَتَزْكُو ثَمَرَتُهُ فِي آخِرِ الْحَالَاتِ، وَأَنْشَدُوا:
سَابِقْ إِلَى الْخَيْرِ وَبَادِرْ بِهِ فَإِنَّمَا خَلْفَكَ مَا تَعْلَمُ
وَقَدِّمِ الْخَيْرَ فَكُلُّ امْرِئٍ عَلَى الَّذِي قَدَّمَهُ يَقْدُمُ
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى: سَبَبُ نُزُولِهَا اخْتِصَامُ نَصَارَى نَجْرَانَ وَيَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَتُنَاظُرُهُمْ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ، وَكَفَرُوا بِالتَّوْرَاةِ وَمُوسَى، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالضَّمِيرُ فِي وَقَالُوا عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ والنصارى، ولفهم فِي الْقَوْلِ، لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، لِأَنَّ الْقَوْلَ صَدَرَ مِنَ الْجَمِيعِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمَا قَالَ ذَلِكَ، لَا أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ قَالَ ذَلِكَ حَاكِمًا عَلَى أَنَّ حَصْرَ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي العطف بأو الَّتِي هِيَ لِلتَّفْصِيلِ وَالتَّنْوِيعِ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ الْعِلْمَ بِمُعَادَاةِ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَضْلِيلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَامْتَنَعَ أَنْ يَحْكُمَ كُلُّ فَرِيقٍ عَلَى الْآخَرِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَنَظِيرُهُ فِي لَفِّ الضَّمِيرِ، وَفِي كَوْنِ أَوْ لِلتَّفْصِيلِ قَوْلُهُ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْيَهُودِيَّ لَا يَأْمُرُ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَا النَّصْرَانِيَّ يَأْمُرُ بِالْيَهُودِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ دُخُولُ الْجَنَّةِ مُتَأَخِّرًا، جاء النفي بلن الْمُخَلِّصَةِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَمَنْ فَاعِلَةٌ بيدخل، وَهُوَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، وَالْمَعْنَى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ بَدَلًا، أَوْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، إِذْ يُجِيزُ أَنْ يُرَاعِيَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفَ، وَيَجْعَلَهُ هُوَ الْفَاعِلَ، وَيَحْذِفَهُ، وَهُوَ لَوْ كَانَ مَلْفُوظًا بِهِ لَجَازَ الْبَدَلُ وَالنَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَحْذُوفًا وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ، فَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي كَانَ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى، فَجُمِعَ فِي خَبَرِ كَانَ فَقَالَ: هُوداً أَوْ نَصارى. وَهُودٌ: جَمْعُ هَائِدٍ، كَعَائِدٍ وَعُودٍ.
وَتَقَدَّمَ مُفْرَدُ النَّصَارَى مَا هُوَ أَنَصْرَانٌ أَمْ نَصْرِيٌّ. وَفِي جَوَازِ مِثْلِ هَذَيْنِ الْحَمْلَيْنِ خِلَافٌ، أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ غَيْرَ فِعْلٍ، بَلْ صِفَةً يُفْصَلُ بَيْنَ مُذَكَّرِهَا وَمُؤَنَّثِهَا بِالتَّاءِ نَحْوُ: مَنْ كَانَ قَائِمِينَ الزَّيْدُونَ، وَمَنْ كَانَ قَائِمِينَ الزَّيْدَانِ. فَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَكَثِيرٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ جَوَازُ ذَلِكَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الْمَنْعِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ هُودًا فِي الْأَظْهَرِ جَمْعُ هَائِدٍ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يُفْصَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُؤَنَّثِهَا بِالتَّاءِ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامًا
561
فَنِيَامٌ: جَمْعُ نَائِمٍ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يُفْصَلُ بَيْنَ مُذَكَّرِهَا وَمُؤَنَّثِهَا بِالتَّاءِ، وَقَدَّمَ هُودًا عَلَى نَصَارَى لِتَقَدُّمِهَا فِي الزَّمَانِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَحَمَلَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ مَعًا عَلَى اللَّفْظِ، وَهُوَ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ.
تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ: جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَطَلَبَ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ. وَتِلْكَ يُشَارُ بِهَا إِلَى الْوَاحِدَةِ الْمُفْرَدَةِ، وَإِلَى الْجَمْعِ غَيْرِ الْمُسَلَّمِ مِنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فَحَمَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى الْجَمْعِ قَالَ: أُشِيرَ بِهَا إِلَى الْأَمَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ أُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُمْ كُفَّارًا، وَأُمْنِيَّتُهُمْ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ غَيْرُهُمْ، أَيْ تِلْكَ الْأَمَانِيُّ الْبَاطِلَةُ أَمَانِيُّهُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ ذُكِرَ فِيهَا وِدُّهُمْ لِشَيْءٍ، فَقَدِ انْفَصَلَتْ وَكُمِّلَتْ وَاسْتَقَلَّتْ فِي النُّزُولِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهَا. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَفِيهِ مَجَازُ الْحَذْفِ، وَفِيهِ قَلْبُ الْوَضْعِ، إِذِ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ مبتدأ، وأمانيهم خبر. فَقَلَبَ هُوَ الْوَضْعَ، إِذْ قَالَ: أَنَّ أَمَانِيَّهُمْ فِي الْبُطْلَانِ مِثْلُ أُمْنِيَّتِهِمْ هَذِهِ. وَفِيهِ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْخَبَرُ مُشَبَّهًا بِهِ الْمُبْتَدَأُ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ، مِثْلُ: زَيْدٍ زُهَيْرٌ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ. فَإِنَّ تَقَدُّمَ مَا هُوَ أَصْلٌ فِي أَنْ يُشَبَّهَ بِهِ، كَانَ مِنْ عَكْسِ التَّشْبِيهِ وَمِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، إِذْ جُعِلَ الْفَرْعُ أَصْلًا وَالْأَصْلُ فَرْعًا كَقَوْلِكَ: الْأَسَدُ زَيْدٌ شَجَاعَةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَالَتِهِمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، أَيْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ أَمَانِيُّهُمْ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ عَنْ تَحْقِيقٍ وَلَا دَلِيلٍ على مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا مِنْ أَخْبَارٍ مِنْ رَسُولٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمَنِّي. وَإِنْ كَانُوا هُمْ حازمين بِمَقَالَتِهِمْ، لَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَنْ بُرْهَانٍ، كَانَتْ أَمَانِيَّ، وَالتَّمَنِّي يَقَعُ بِالْجَائِزِ وَالْمُمْتَنِعِ. فَهَذَا مِنَ الْمُمْتَنِعِ، وَلِذَلِكَ أَتَى بِلَفْظِ الْأَمَانِيِّ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ مَرْجُوَّاتِهِمْ، لِأَنَّ الرَّجَاءَ يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ، تَقُولُ:
لَيْتَنِي طَائِرٌ، وَلَا يَجُوزُ، لَعَلَّنِي طَائِرٌ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ الْمُبْتَدَأُ لَفْظًا، لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَقَالَةِ، وَالْمَقَالَةُ مَصْدَرٌ يَصْلُحُ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَأُرِيدَ بِهَا هُنَا الْكَثِيرُ بِاعْتِبَارِ الْقَائِلِينَ، وَلِذَلِكَ جُمِعَ الْخَيْرُ، فَطَابَقَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فِي الْجَمْعِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْأَمَانِيِّ فِي قَوْلِهِ:
لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ «١»، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تِلْكَ أَكَاذِيبُهُمْ وَأَبَاطِيلُهُمْ، أَوْ تِلْكَ مُخْتَارَاتُهُمْ وَشَهَوَاتُهُمْ، أَوْ تِلْكَ تِلَاوَاتُهُمْ.
قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ: لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْهُمُ الدَّعْوَى بِأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ ذَكَرُوا، طُولِبُوا بِالدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمْ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أن من ادعى نفيا أو
(١) سورة البقرة: ٢/ ٧٨.
562
إِثْبَاتًا، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الدَّلِيلِ. وَتَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، وَهُوَ قَبُولُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا أَهْدَمُ شَيْءٍ لِمَذْهَبِ الْمُقَلِّدِينَ، وَإِنَّ كُلَّ قَوْلٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ. إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ، أَيْ أَوْضِحُوا دَعْوَتَكُمْ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الصِّدْقِ هُوَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: صَادِقِينَ فِي إِيمَانِكُمْ. وَقِيلَ: فِي أَمَانِيِّكُمْ. وَقِيلَ مَعْنَى صَادِقِينَ: صَالِحِينَ كَمَا زَعَمْتُمْ، وَكُلُّ مَا أُضِيفَ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ أُضِيفَ إِلَى الصِّدْقِ. تَقُولُ: رَجُلُ صِدْقٍ، وَصَدِيقُ صِدْقٍ، وَدَالَّةُ صِدْقٍ، وَمِنْهُ: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ «١». وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِمَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُ وَعُهُودَهُ، وَمِنْهُ: رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.
بَلى: رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً «٢»، وَقَبْلَ ذَلِكَ: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «٣»، وَكِلَاهُمَا فِيهِ نَفْيٌ وَإِيجَابٌ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْأَزْمَانِ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْفَاعِلِينَ.
وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ بَلَى رَدٌّ لِمَا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ مِنَ النَّفْيِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا بُرْهَانَ لَكُمْ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاكُمْ، فَأَثْبَتَ بِبِلَى أَنَّ لِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ بُرْهَانًا، وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ.
مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ: الْكَلَامُ فِي: مَنْ، كَالْكَلَامِ فِي: مَنْ، مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مُبْتَدَأَةٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ فَاعِلَةً، أَيْ يَدْخُلُهَا مَنْ أَسْلَمَ، وَإِذَا كَانَتْ مُبْتَدَأَةً، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً. فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا هِيَ الْخَبَرُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَلَهُ أَجْرُهُ. وَإِذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً، فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا صِلَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَالْخَبَرُ هُوَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ مِنَ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ مَنْ فَاعِلَةً فَقَوْلُهُ: فَلَهُ أَجْرُهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِمَنْ. وَالْوَجْهُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجَارِحَةُ خُصَّ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، أَوْ لِأَنَّهُ فِيهِ أَكْثَرُ الْحَوَاسِّ، أَوْ لِأَنَّهُ عُبِّرَ بِهِ عَنِ الذَّاتِ وَمِنْهُ:
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «٤»، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِهَةُ، وَالْمَعْنَى: أَخْلَصَ طَرِيقَتَهُ فِي الدِّينِ لِلَّهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَخْلَصَ دِينَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْلَصَ عَمَلَهُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: قَصْدَهُ.
وَقِيلَ: فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: خَضَعَ وَتَوَاضَعَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يَقُولُهَا السَّلَفُ عَلَى ضَرْبِ الْمِثَالِ، لَا عَلَى أَنَّهَا مُتَعَيَّنَةٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَهَذَا
(١) سورة المائدة: ٥/ ١١٩.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٨١.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٨٢. [.....]
(٤) سورة القصص: ٢٨/ ٨٨.
563
نَظِيرُ مَا يَقُولُهُ النَّحْوِيُّ: الْفَاعِلُ زَيْدٌ مِنْ قَوْلِكَ، قَامَ زَيْدٌ، وَآخَرُ يَقُولُ: جَعْفَرٌ مِنْ خَرَجَ جَعْفَرٌ، وَآخَرُ يَقُولُ: عَمْرٌو مِنِ انْطَلَقَ عَمْرٌو، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُظَنُّ بِالسَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فِيمَا جَاءَ عَنْهُمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ.
وَهُوَ مُحْسِنٌ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ. وَقَدْ قَيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْإِحْسَانَ بِالْعَمَلِ وَجَعَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ: مَنْ أَخْلَصَ نَفْسَهُ لَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي عَمَلِهِ، فَصَارَتِ الْحَالُ هُنَا مُبَيِّنَةً، إِذْ مَنْ لَا يُشْرِكُ قِسْمَانِ: مُحْسِنٌ فِي عَمَلِهِ، وَغَيْرُ مُحْسِنٍ، وَذَلِكَ مِنْهُ جُنُوحٌ إِلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ مِنْ أَنَّ الْعَمَلَ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَأَنَّهُ بِهِمَا يَسْتَوْجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ قَوْلَهُ: فَلَهُ أَجْرُهُ الَّذِي يَسْتَوْجِبُهُ،
وَقَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةَ الْإِحْسَانِ الشَّرْعِيِّ حِينَ سُئِلَ عَنْ مَاهِيَّتِهِ فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
وَقَدْ فُسِّرَ هُنَا الْإِحْسَانُ بِالْإِخْلَاصِ، وَفُسِّرَ بِالْإِيمَانِ، وَفُسِّرَ بِالْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنِ الْمَنَاهِي.
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ: الْعَامِلُ فِي عِنْدَ هُوَ الْعَامِلُ فِي لَهُ، أَيْ فَأَجْرُهُ مُسْتَقِرٌّ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَلَمَّا أَحَالَ أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ أَضَافَ الظَّرْفَ إِلَى لَفْظَةِ رَبِّهِ، أَيِ النَّاظِرِ فِي مَصَالِحِهِ وَمُرَبِّيهِ وَمُدَبِّرِ أَحْوَالِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَطْمَعَ لَهُ، فَلِذَلِكَ أَتَى بِصِفَةِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَأْتِ بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، وَلَا بِالظَّاهِرِ بِلَفْظِ اللَّهِ. فَلَمْ يَأْتِ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَهُ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِقَلَقِ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ الضَّمَائِرِ، وَلَمْ يَأْتِ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ اللَّهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الرَّبِّ. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: جُمِعَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى مَنْ، وَحُمِلَ أَوَّلًا عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَفْصَحُ، وَهُوَ أَنْ يُبْدَأَ أَوَّلًا بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَقِرَاءَةِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ: فَلَا خَوْفُ، بِرَفْعِ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ. وَقِرَاءَةِ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وَغَيْرِهِمْ: فَلَا خَوْفَ، بِالْفَتْحِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ، قِيلَ: الْمُرَادُ عَامَّةُ الْيَهُودِ وَعَامَّةُ النَّصَارَى، فَهَذَا مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَتَكُونُ أَلْ لِلْجِنْسِ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَقْرِيعٌ لِمَنْ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، إِذْ كَذَّبُوا بِالرُّسُلِ وَبِالْكُتُبِ قَبْلَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ، حَيْثُ تَمَارَوْا عِنْدَ الرَّسُولِ وَتَسَابُّوا، وَأَنْكَرَتِ الْيَهُودُ الْإِنْجِيلَ وَنُبُوَّةَ عِيسَى، وَأَنْكَرَتِ النَّصَارَى
564
التَّوْرَاةَ وَنُبُوَّةَ مُوسَى. فَتَكُونُ حِكَايَةَ حَالٍ، وَأَلْ لِلْعَهْدِ، أَوِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، يُقَالُ لَهُ نَافِعُ بْنُ حَرْمَلَةَ، قَالَ لِنَصَارَى نَجْرَانَ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ لِلْيَهُودِ: لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، فَيَكُونُ قَدْ نُسِبَ ذَلِكَ لِلْجَمِيعِ، حَيْثُ وَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ، كَمَا يُقَالُ: قَتَلَ بَنُو تَمِيمٍ فُلَانًا، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ، وَنِسْبَةِ الْحُكْمِ الصَّادِرِ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ. وَهُوَ طَرِيقٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهَا، نَثْرِهَا وَنَظْمِهَا. وَلَمَّا جَمَعَهُمْ فِي الْمَقَالَةِ الْأُولَى، وَهِيَ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، فَصَلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَيَّنَ قَوْلَ كُلِّ فَرِيقٍ فِي الْآخَرِ. وَعَلَى شَيْءٍ: فِي مَوْضِعِ خَبَرِ لَيْسَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الدِّينِ، فَيَكُونَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الصِّفَةِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ:
لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمٍ أَيْ لَحْمٍ مَنِيعٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، أَيْ مِنْ أَهْلِكَ النَّاجِينَ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ نَفْيًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ الْعَظِيمَةِ، إِذْ جَعَلَ مَا هُمَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا كَلَا شَيْءٍ. هَذَا وَالشَّيْءُ يُطْلَقُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَلَى الْمَعْدُومِ وَالْمُسْتَحِيلِ، فَإِذَا نُفِيَ إِطْلَاقُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، كَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَصَارَ كَقَوْلِهِمْ أَقَلُّ مِنْ لَا شَيْءٍ.
وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ وَهُمْ عَالِمُونَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ، تَالُونَ لَهُ.
وَهَذَا نَعْيٌ عَلَيْهِمْ فِي مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ، إِذِ الْكِتَابُ نَاطِقٌ بِخِلَافِ مَا يَقُولُونَهُ، شَاهِدَةٌ تَوْرَاتُهُمْ بِبِشَارَةِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَصِحَّةُ نُبُوَّتِهِمَا. وَإِنْجِيلُهُمْ شَاهِدٌ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، إِذْ كُتُبُ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْقُرْآنِ، يَكُونُ وَاقِفًا عِنْدَهُ، عَامِلًا بِمَا فِيهِ، قَائِلًا بِمَا تَضَمَّنَهُ، لَا أَنْ يُخَالِفَ قَوْلَهُ مَا هُوَ شَاهِدٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ مِنْهُ، فَيَكُونَ فِي ذَلِكَ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَالْكِتَابُ هُنَا قِيلَ: هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ، لِأَنَّ النَّصَارَى تمتثلها.
كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُمْ أُمَمٌ كَانُوا قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ، وَكَأَنَّهُ أُعِيدَ قَوْلُهُمْ: أَيْ قَالَ الْيَهُودُ مِثْلَ قَوْلِ النَّصَارَى، وَنُفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمُ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فَجُعِلُوا لَا يَعْلَمُونَ. وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ
565
مِثْلَ ذَلِكَ الَّذِي سَمِعْتَ عَلَى ذَلِكَ الْمِنْهَاجِ. قَالَ: الْجَهَلَةُ الَّذِينَ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ وَلَا كِتَابَ، كَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَالْمُعَطِّلَةِ وَنَحْوِهِمْ قَالُوا: لِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهُوَ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ لَهُمْ، حَيْثُ نَظَمُوا أَنْفُسَهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ فِي سِلْكِ مَنْ لَا يَعْلَمُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ مِنْ كَذَلِكَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، إِمَّا عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَوْلًا مثل ذلك القول، قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَعْرِفَةِ الْمُضْمَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَالَ، التَّقْدِيرُ: مِثْلَ ذَلِكَ الْقَوْلِ قَالَهُ، أَيْ قَالَ الْقَوْلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ تَنْتَصِبُ الْكَافُ بِقَالَ، وَانْتَصَبَ عَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ الْكَافِ. وَقِيلَ: يَنْتَصِبُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِيَعْلَمُونَ، أَيِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ مَقَالَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالُوا: مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ، أَيْ تَوَافَقَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَقَالَاتِ النَّصَارَى، وَالْيَهُودِ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي ذَلِكَ، أَنَّ مَنْ جَهِلَ قَوْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَافَقَهُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِثْلَ ذَلِكَ قَالَهُ الَّذِينَ. وَلَا يَجُوزُ لِقَالَ أَنْ يَنْصِبَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ نَصْبَ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ قَالَ قَدْ أَخَذَ مَفْعُولَهُ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَيَنْتَصِبُ إِذْ ذَاكَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِيَعْلَمُونِ، أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ اعْتِقَادَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. انْتَهَى مَا قَالُوهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِاسْتِعْمَالِ الْكَافِ اسْمًا، وَذَلِكَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، مع أنه قد تؤوّل مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَازَ ذَلِكَ، أَعْنِي أَنْ تكون اسما في الكلام، وَيُحْذَفَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ الْمَنْصُوبِ بِالْفِعْلِ، الَّذِي لَوْ قُدِّرَ خُلُوُّهُ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ لَتَسَلَّطَ عَلَى الظَّاهِرِ قَبْلَهُ فَنَصَبَهُ، وَذَلِكَ نَحْوُ: زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ. نَصُّ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَأَنْشَدُوا:
وَخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتِنَا بِالْحَقِّ لَا يَحْمَدُ بِالْبَاطِلِ
أَيْ: يَحْمَدُهُ سَادَاتُنَا. وَعَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ فِي جَوَازِ حَذْفِ نَحْوِ: هَذَا الضَّمِيرِ تَفْصِيلٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ.
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: أَيْ يَفْصِلُ، وَالْفَصْلُ:
الْحُكْمُ، أَوْ يُرِيهِمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عِيَانًا، وَمَنْ يَدْخُلُ النَّارَ عِيَانًا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ يُكَذِّبُهُمْ جَمِيعًا وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ، أَوْ يُثِيبُ مَنْ كَانَ عَلَى حَقٍّ، وَيُعَذِّبُ مَنْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ. وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَالظَّرْفَانِ والجار الأول معمولان ليحكم، وَفِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِيَخْتَلِفُونَ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ أَشْيَاءَ مِنْهَا: افْتِتَاحُهَا بِحُسْنِ النِّدَاءِ، وَإِثْبَاتُ وَصْفِ
566
الْإِيمَانِ لَهُمْ، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى تَعَلُّمِ أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ، بِأَنْ نُهُوا عَنْ قَوْلِ لَفْظٍ لِإِيهَامٍ مَا إِلَى لَفْظٍ أَنَصَّ فِي الْمَقْصُودِ، وَأَصْرَحَ فِي الْمَطْلُوبِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا لِلْمُخَالِفِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يُذِلُّهُ وَيُهِينُهُ. ثُمَّ نَبَّهْ عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ هُوَ خَيْرٌ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَوَدُّونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ رَاجِعًا لِشَهَوَاتِهِمْ، وَلَا لِتَمَنِّيهِمْ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ صَاحِبُ الْفَضْلِ الْوَاسِعِ. وَلَمَّا كَانَ صَدْرُ الْآيَةِ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ لَفْظٍ إِلَى لَفْظٍ، وَأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ أَنَصَّ فِي الْمَقْصُودِ بَيَّنَ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النَّسْخِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ مِنْهُ، فَيَأْتِي بِأَفْضَلَ مِمَّا نَسَخَ أَوْ بِمَا مَاثَلَهُ. وَأَنَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَهُ التَّصَرُّفُ بِمَا يُرِيدُ مَنْ نَسْخٍ وَغَيْرِهِ. وَنَبَّهَ الْمُخَاطَبَ عَلَى عِلْمِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِمُلْكِهِ الشَّامِلِ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ مَا لَنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُنَا مِنْهُ.
فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا، ثُمَّ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِأَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤَالًا غَيْرَ جَائِزٍ، كَسُؤَالَاتِ قَوْمِ مُوسَى لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ آثَرَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ قَصْدِ الْمَنْهَجِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوَدُّونَ ارْتِدَادَكُمْ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَسَدُ. ثُمَّ أُمِرُوا بِالْمُوَادَعَةِ وَالصَّفْحِ، وَغَيَّا ذَلِكَ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِذَا أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ارْتَفَعَ الْأَمْرُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ.
ثُمَّ اخْتَتَمَ الْآيَةَ بِذِكْرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّ قَبْلَهُ وَعْدًا بِتَغْيِيرِ حَالٍ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ ذِكْرُ الْقُدْرَةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمَا يَقْطَعُ عَنْهُمْ تَلَفُّتَ أَقْوَالِ الْكُفَّارِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَا قَدَّمْتُمُوهُ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ لَا يَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ، بَلْ تَجِدُوهُ مَذْخُورًا لَكُمْ. ثُمَّ اخْتَتَمَ ذَلِكَ حَيْثُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَا عُمِلَ مِنَ الْخَيْرِ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، بِذِكْرِ صِفَةِ الْبَصَرِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مُشَاهَدَةِ الْأَشْيَاءِ وَمُعَايَنَتِهَا. ثُمَّ نَعَى عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ أُكْذُوبَةٌ مِنْ أَكَاذِيبِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ، وَأَنَّهُمْ طُولِبُوا بِإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَى الِاخْتِصَاصِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنِ انْقَادَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَهُ أَجْرُهُ وَهُوَ آمِنٌ، فَلَا يَخَافُ مِمَّا يَأْتِي وَلَا يَحْزَنُ عَلَى مَا مَضَى. ثُمَّ أَخَذَ يَذْكُرُ مَقَالَاتِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، وَأَنَّهَا مَقَالَةُ مَنْ أَظْهَرَ التَّبَرُّؤَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأَفْصَحَتْ عَنْهُ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى جِهَةِ الْعِنَادِ، لِأَنَّهُمْ تَالُونَ لِلْكُتُبِ عَالِمُونَ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ، فَصَارُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى مِثْلِ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً «١». ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَقَالَتَهُمْ تِلْكَ، وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ،
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٢٥.
567
فَهِيَ مُمَاثِلَةٌ لِمَقَالَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ وَفَصْلَ الْبَاطِلِ مِنَ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي ذَلِكَ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى كفرهم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٤ الى ١٢٣]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
الْمَنْعَ: الْحَيْلُولَةُ بَيْنَ الْمُرِيدِ وَمُرَادِهِ. وَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ قَدْ يُمْنَعُ صِيَانَةً، صَارَ الْمَنْعُ مُتَعَارَفًا فِي الْمُتَنَافَسِ فِيهِ قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَفِعْلُهُ: مَنَعَ يَمْنَعُ، بِفَتْحِ النُّونِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ أَحَدُ حُرُوفِ الْحَلْقِ. الْمَسَاجِدُ: مَعْرُوفَةٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْمُفْرَدِ أَوَّلَ مَا يُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. السَّعْيُ: الْمَشْيُ بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ دُونَ الْعَدْوِ، ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الطَّلَبِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
568
فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ
وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
فَسَّرَهُ الشُّرَّاحُ بِالطَّلَبِ.
الْخَرَابُ: ضِدُّ الْعِمَارَةِ، وَهُوَ مَصْدَرُ خَرِبَ الشَّيْءُ يَخْرَبُ خَرَابًا، وَيُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ:
مَنْزِلٌ خَرَابٌ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ: خَرِبٌ، كَمَا قَالَ أَبُو تَمَّامٍ:
مَا رَبْعُ مَيَّةَ مَعْمُورًا يُطِيفُ بِهِ غَيْلَانُ أهي ربا مِنْ رَبْعِهَا الْخَرِبِ
وَالْخَرَبُ: ذَكَرُ الْحُبَارَى، يَجْمَعُ عَلَى خِرْبَانٍ. الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ: مَكَانُ الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ، وَهُمَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى مَفْعِلٍ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ شُذُوذًا، وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ، لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ لَمْ تُكْسَرْ عَيْنُ مُضَارِعِهِ، فَقِيَاسُ صَوْغِ الْمَصْدَرِ مِنْهُ، وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مَفْعَلٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ. أَيْنَ: مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ فِي الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى حَرْفِهِ، وَفِي الشَّرْطِ مَعْنَى حَرْفِهِ، وَإِذَا كَانَ لِلشَّرْطِ جَازَ أَنْ تَزِيدَ بَعْدَهُ مَا، وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ شَرْطًا بِغَيْرِ مَا قَوْلُهُ:
أَيْنَ تَضْرِبْ بِنَا الْعُدَاةُ تَجِدْنَا وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَصْلَ أَيْنَ: السُّؤَالُ عَنِ الْأَمْكِنَةِ. ثَمَّ: ظَرْفُ مَكَانٍ يُشَارُ بِهِ لِلْبَعِيدِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِشَارَةِ، وَهُوَ لَازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ، لَمْ يُتَصَرَّفْ فِيهِ بِغَيْرِ مِنْ يَقُولُ: مِنْ ثَمَّ كَانَ كَذَا. وَقَدْ وَهَمَ مَنْ أَعْرَبَهَا مَفْعُولًا بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً «١». بَلْ: مَفْعُولُ رَأَيْتَ مَحْذُوفٌ. وَاسِعٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ وَسِعَ يَسَعُ سَعَةً وَوُسْعًا، وَمُقَابِلُهُ ضَاقَ، إِلَّا أَنَّ وَسِعَ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «٢»، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «٣». الْوَلَدُ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، كَالْقَبْضِ وَالنَّقْضِ، وَلَا يَنْقَاسُ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَفِعْلُهُ: وَلَدَ يَلِدُ وِلَادَةً وَوَلِيدِيَّةً، وَهَذَا الْمَصْدَرُ الثَّانِي غَرِيبٌ.
الْقُنُوتُ: الْقِيَامُ، وَمِنْهُ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ، أَيِ الْقِيَامِ وَالطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ وَالدُّعَاءُ.
قَنَتَ شَهْرًا: دَعَا. الْبَدِيعُ: النَّادِرُ الْغَرِيبُ الشَّكْلِ. بَدُعَ يَبْدُعُ بَدَاعَةً فَهُوَ بَدِيعٌ، إِذَا كَانَ نَادِرًا، غَرِيبَ الصُّورَةِ فِي الْحُسْنِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الِابْتِدَاعِ، وَهُوَ الِاخْتِرَاعُ وَالْإِنْشَاءُ.
قَضَى: قَدَّرَ، وَيَجِيءُ بِمَعْنَى أَمْضَى. قَضَى يَقْضِي قَضَاءً. قال:
(١) سورة الإنسان: ٧٦/ ٢٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٥.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٦.
569
سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا عَلَيَّ قَضَاءُ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبَا
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَضَى عَلَى وُجُوهٍ، مَرْجِعُهَا إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنِعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
وَقَالَ الشَّمَّاخُ فِي عُمَرَ:
قَضَيْتُ أُمُورًا ثُمَّ غَادَرْتُ بَعْدَهَا بَوَائِقَ فِي أَكْمَامِهَا لَمْ تُفَتَّقِ
فَيَكُونُ بِمَعْنَى خَلَقَ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «١»، وَأَعْلَمَ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ «٢»، وَأَمَرَ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «٣»، وألزم، ومنه قَضَى الْقَاضِي، وَوَفَّى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ «٤»، وَأَرَادَ: إِذا قَضى أَمْراً «٥». لَوْلَا:
حَرْفُ تَحْضِيضٍ، وَجَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَحُكْمُهَا حُكْمُ هَلَّا، وَتَأْتِي أَيْضًا حَرْفَ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، وَأَحْكَامُهَا بِمَعْنَيَيْهَا مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَمِنْهَا أَنَّ التَّحْضِيضِيَّةَ لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا، وَتِلْكَ لَا يَلِيهَا إِلَّا الِاسْمُ، عَلَى خِلَافٍ فِي إِعْرَابِهِ. الْجَحِيمُ:
إِحْدَى طَبَقَاتِ النَّارِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَحِيمُ: النَّارُ عَلَى النَّارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: النَّارُ الْمُسْتَحْكِمَةُ الْمُتَلَظِّيَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ الْوَقُودِ، يُقَالُ جَحَمَتِ النَّارُ تَجْحَمُ: اشْتَدَّ وَقُودُهَا. وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ يَقْرُبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ:
الْجَاحِمُ: الْمَكَانُ الشَّدِيدُ الْحَرِّ، وَيُقَالُ لِعَيْنِ الْأَسَدِ: جُحْمَةٌ، لِشِدَّةِ تَوَقُّدِهَا، وَيُقَالُ لِشِدَّةِ الْحَرِّ: جَاحِمٌ، قَالَ:
وَالْحَرْبُ لَا يَبْقَى لِجَا حِمِهَا التَّخَيُّلُ وَالْمَرَاحُ
الرِّضَا: مَعْرُوفٌ، وَيُقَابِلُهُ الْغَضَبُ، وَفِعْلُهُ رَضِيَ يَرْضَى رِضًا بِالْقَصْرِ، وَرِضَاءً بِالْمَدِّ، وَرِضْوَانًا، فَيَاؤُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الرِّضْوَانُ، وَالْأَكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ بِعَنْ وَقَدْ جَاءَ تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى، قَالَ:
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى بِمَعْنَى عَنْ، أَوْ عَلَى تَضْمِينِ رَضِيَ مَعْنَى عَطَفَ، فَعُدِّيَ بِعَلَى كَمَا تَعَدَّى عَطَفَ. الْمِلَّةُ: الطَّرِيقَةُ، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا بِمَعْنَى الشَّرِيعَةِ، فَقِيلَ: الاشتقاق
(١) سورة فصلت: ٤١/ ١٢.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٤.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٢٣.
(٤) سورة القصص: ٢٨/ ٢٩.
(٥) سورة آل عمران: ٣/ ٤٧.
570
مِنْ أَمْلَلْتُ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ تُبْتَنَى عَلَى مَتْلُوٍّ وَمَسْمُوعٍ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ طَرِيقٌ مُمَلٌّ، أَيْ قَدْ أَثَّرَ الْمَشْيُ فِيهِ. الْخُسْرَانُ وَالْخَسَارَةُ: هُوَ النَّقْصُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِي التِّجَارَةِ، هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي النَّقْصِ مُطْلَقًا، وَفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ، كَمَا أَنَّ مُقَابِلَهُ مُتَعَدٍّ، وَهُوَ الرِّبْحُ. تَقُولُ: خَسِرَ دِرْهَمًا، كَمَا تَقُولُ: رَبِحَ دِرْهَمًا. وَقَالَ: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ: نَزَلَتْ فِي نَطُّوسَ بْنِ اسْبِيسْيَانُوسَ الرُّومِيِّ، الَّذِي خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَزَلْ خَرَابًا إِلَى أَنْ عُمِّرَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقِيلَ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ: مَنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَهُ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ فِي النَّصَارَى، كَانُوا يَوَدُّونَ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَطْرَحُونَ بِهِ الْأَقْذَارَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، فِي الرُّومِ الَّذِينَ أَعَانُوا بُخْتَ نَصَّرَ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: حِينَ قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ أَنَّ عَهْدَ بُخْتَ نَصَّرَ كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ. وَقِيلَ فِي بُخْتَ نَصَّرَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَأَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ حِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَعَلَى اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَجِيءُ الِاخْتِلَافُ فِي تَفْسِيرِ الْمَانِعِ وَالْمَسَاجِدِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَانِعٍ وَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَالْعُمُومُ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهِ خَاصًّا، فَالْعِبْرَةُ بِهِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ جَرَى ذِكْرُ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِ: وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ «١»، وَجَرَى ذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ «٢»، وَفِي أَيٍّ نَزَلَتْ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا لِذِكْرِهَا تَلِي مَا قَبْلَهَا.
وَمَنْ: اسْتِفْهَامٌ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَأَظْلَمُ: أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ مَنْ. وَلَا يُرَادُ بِالِاسْتِفْهَامِ هُنَا حَقِيقَتُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى النَّفْيِ، كَمَا قَالَ: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ «٣» ؟ أَيْ مَا يُهْلَكُ. وَمَعْنَى هَذَا: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ. وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا أَوَّلُ مَوَارِدِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «٤».
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١١٣.
(٣) سورة الأحقاف: ٤٦/ ٣٥.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ٢١ و ٩٣. [.....]
571
وَقَالَ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ «١» ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها «٢» ؟ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ النَّفْيُ كَانَ خَبَرًا، وَلَمَّا كَانَ خَبَرًا تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ إِذَا أُخِذَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى ظَوَاهِرِهَا سَبَقَ إِلَى ذِهْنِهِ التَّنَاقُضُ فِيهَا، لِأَنَّهُ قَالَ الْمُتَأَوِّلُ فِي هَذَا: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَقَالَ فِي أُخْرَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى، وَفِي أُخْرَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا. فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ خُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَعْنَى صِلَتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَحَدَ مِنَ الْمَانِعِينَ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الْمُفْتَرِينَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا. فَإِذَا تَخَصَّصَتْ بِالصِّلَاتِ زَالَ عِنْدَهُ التَّنَاقُضُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّخْصِيصُ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّبْقِ، لَمَّا لَمْ يَسْبِقْ أَحَدٌ إِلَى مِثْلِهِ، حُكِمَ عليها بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، سَالِكًا طَرِيقَتَهُمْ فِي ذلك، وهذا يؤول مَعْنَاهُ إِلَى السَّبْقِ فِي الْمَانِعِيَّةِ، أَوِ الِافْتِرَائِيَّةِ. وَهَذَا كُلُّهُ بُعْدٌ عَنْ مَدْلُولِ الْكَلَامِ وَوَضْعِهِ الْعَرَبِيِّ، وَعُجْمَةٌ فِي اللِّسَانِ يَتْبَعُهَا اسْتِعْجَامُ الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا هَذَا نَفْيٌ لِلْأَظْلَمِيَّةِ، وَنَفْيُ الْأَظْلَمِيَّةِ لَا يَسْتَدْعِي نَفْيَ الظَّالِمِيَّةِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمُقَيَّدِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمُطْلَقِ. لَوْ قُلْتَ: مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ ظَرِيفٌ، لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ مُطْلَقِ رَجُلٍ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الظَّالِمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ تَنَاقُضًا، لِأَنَّ فِيهَا إِثْبَاتَ التَّسْوِيَةِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ. وَإِذَا ثَبَتَتِ التَّسْوِيَةُ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنْ وُصِفَ بِذَلِكَ يَزِيدُ عَلَى الْآخَرِ، لِأَنَّهُمْ يَتَسَاوَوْنَ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ. وَصَارَ الْمَعْنَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ مَنَعَ، وَمِمَّنِ افْتَرَى، وَمِمَّنْ ذُكِّرَ. وَلَا إِشْكَالَ فِي تَسَاوِي هَؤُلَاءِ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَ هَؤُلَاءِ أَظْلَمُ مِنَ الْآخَرِ. كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَا أَحَدَ أَفْقَهُ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَخَالِدٍ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمْ أَفْقَهُ مِنَ الْآخَرِ، بَلْ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَفْقَهَ مِنْهُمْ. لَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، وَلَمْ يَفْتَرِ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، أَقَلُّ ظُلْمًا مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَكُونُ مُسَاوِيًا فِي الْأَظْلَمِيَّةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا إِنَّمَا هِيَ فِي الْكُفَّارِ، فَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الْأَظْلَمِيَّةِ. فَكُلُّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِأَفْرَادِ مَنِ اتَّصَفَ بِهِ، وَإِنَّمَا تُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فِي الظُّلْمِ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ، وَلِلْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكُوا فِيهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، فَنَقُولُ: الْكَافِرُ أَظْلَمُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَنَقُولُ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنَ الْكَافِرِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ ظُلْمَ الْكَافِرِ يَزِيدُ عَلَى ظُلْمِ غَيْرِهِ. وَمَنْ فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ مَنَعَ، مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. أَنْ يُذْكَرَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٧.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٥٧.
572
ثَانِيًا لِمَنَعَ، أَوْ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، فَيَتَعَيَّنَ حَذْفُ مُضَافٍ، أَيْ دُخُولَ مَسَاجِدِ اللَّهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ بَدَلًا مِنْ مَسَاجِدَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، أَيْ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ فِيهَا، أَوْ مَفْعُولًا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. فَلَمَّا حُذِفَتْ مَنْ انْتَصَبَ عَلَى رَأْيٍ، أَوْ بَقِيَ مَجْرُورًا عَلَى رَأْيٍ.
وَكَنَّى بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَمَّا يُوقَعُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالتَّقَرُّبَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَفْعَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْقَالِبِيَّةِ، مِنْ تِلَاوَةِ كُتُبِهِ، وَحَرَكَاتِ الْجِسْمِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ الَّذِي تُعُبِّدَ بِهِ، أَوْ إِنَّمَا ذُكِرَ تَعَلُّقُ الْمَنْعِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ أَيْسَرِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ التَّلَفُّظُ بِاسْمِ اللَّهِ. فَمَنْعُهُمْ لِمَا سِوَاهُ أَوْلَى. وَحُذِفَ الْفَاعِلُ هُنَا اخْتِصَارًا، لِأَنَّهُمْ عَالَمٌ لَا يُحْصَوْنَ. وَجَاءَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، لِأَنَّ الْمُحَدَّثَ عَنْهُ قَبْلُ هِيَ مَسَاجِدُ اللَّهِ، وَهِيَ فِي اللَّفْظِ مَذْكُورَةٌ قَبْلَ اسْمِ اللَّهِ، فَنَاسَبَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِذَلِكَ.
وَأُضِيفَتِ الْمَسَاجِدُ لِلَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ «١»، وَخُصَّ بِلَفْظِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُوقَعُ فِيهِ أَفْعَالًا كَثِيرَةً مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالْقُعُودِ وَالْعُكُوفِ. وَكُلُّ هَذَا مُتَعَبَّدٌ بِهِ، وَلَمْ يَقُلْ مَقَامٌ وَلَا مَرْكَعٌ وَلَا مَقْعَدٌ وَلَا مَعْكَفٌ، لِأَنَّ السُّجُودَ أَعْظَمُ الْهَيْئَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَالطَّوَاعِيَةِ التَّامَّةِ. أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» ؟
وَهِيَ حَالَةٌ يُلْقِي فِيهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ لِلِانْقِيَادِ التَّامِّ، وَيُبَاشِرُ بِأَفْضَلِ مَا فِيهِ وَأَعْلَاهُ، وَهُوَ الْوَجْهُ، التُّرَابَ الَّذِي هو موطىء قَدَمَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ مَسْجِدٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ خَرَّبَ مَدِينَةَ إِسْلَامٍ، لِأَنَّهَا مَسَاجِدُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْقُوفَةً، إِذِ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قِيلَ مَسَاجِدَ اللَّهِ؟ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمَنْعُ وَالتَّخْرِيبُ عَلَى مَسْجِدٍ وَاحِدٍ وهو بيت المقدس، أو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قُلْتُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَجِيءَ الْحُكْمُ عَامًّا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ آذَى صَالِحًا وَاحِدًا، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ آذَى الصَّالِحِينَ؟
وَكَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «٢»، وَالْمَنْزُولُ فِيهِ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: جُمِعَتْ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا، يَعْنِي الْكَعْبَةَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ لِغَيْرِهِ. وَسَعى فِي خَرابِها: إِمَّا حَقِيقَةً، كَتَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ مَجَازًا بِانْقِطَاعِ الذِّكْرِ فِيهَا وَمَنْعِ قَاصِدِيهَا منها، إذ ذلك يؤول بِهَا إِلَى الْخَرَابِ. فَجُعِلَ المنع
(١) سورة الجن: ٧٢/ ١٨.
(٢) سورة الهمزة: ١٠٤/ ١.
573
خَرَابًا، كَمَا جُعِلَ التَّعَاهُدُ بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ عِمَارَةً، وَذَلِكَ مَجَازٌ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قَالَ وَمَنْ أَظْلَمُ لِيُعْلِمَ أَنَّ قُبْحَ الِاعْتِقَادِ يُورِثُ تَخْرِيبَ الْمَسَاجِدِ، كَمَا أَنَّ حُسْنَ الِاعْتِقَادِ يُورِثُ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ.
أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ: هَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ قَالُوا تَدُلُّ عَلَى مَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ مِنْ مُعْجِزِ الْقُرْآنِ، إِذْ هُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ. وَفِيهَا بِشَارَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِعُلُوِّ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَقَهْرِ مَنْ عَادَاهُ. إِلَّا خَائِفِينَ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: إِلَّا خُيَّفًا، وَهُوَ جَمْعُ خَائِفٍ، كَنَائِمٍ وَنُوَّمٍ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا فَاصِلَةً، فَلِذَلِكَ جُمِعَتْ جَمْعَ التَّكْسِيرِ. وَإِبْدَالُ الْوَاوِ يَاءً، إِذِ الْأَصْلُ خَوْفٌ، وَذَلِكَ جَائِزٌ كَقَوْلِهِمْ، فِي صُوَّمٍ صُيَّمٍ، وَخَوْفُهُمْ: هُوَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الصَّغَارِ وَالذُّلِّ وَالْجِزْيَةِ، أَوْ مِنْ أَنْ يَبْطِشَ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ فِي الْمُحَاكَمَةِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْخَوْفَ، أَوْ ضَرْبًا مُوجِعًا، لِأَنَّ النَّصَارَى لَا يَدْخُلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا خَائِفِينَ مِنَ الضَّرْبِ، أَقْوَالٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى:
أُولَئِكَ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ إِلَّا وَهُمْ خَائِفُونَ مِنَ اللَّهِ وَجِلُونَ مِنْ عِقَابِهِ.
فَكَيْفَ لَهُمْ أَنْ يَلْتَبِسُوا بِمَنْعِهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالسَّعْيِ فِي تَخْرِيبِهَا، إِذْ هِيَ بُيُوتٌ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ؟ وَمَا هَذِهِ سَبِيلُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَظَّمَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِيهِ، وَيُسْعَى فِي عِمَارَتِهِ، وَلَا يَدْخُلَهُ الْإِنْسَانُ إِلَّا وَجِلًا خَائِفًا، إِذْ هُوَ بَيْتُ اللَّهِ أَمَرَ بِالْمُثُولِ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِلْعِبَادَةِ. وَنَظِيرُ الْآيَةِ أَنْ يَقُولَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ قَتَلَ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى؟ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَلْقَاهُ إِلَّا مُعَظِّمًا لَهُ مُكْرِمًا أَيْ هَذِهِ حَالَةُ مَنْ يَلْقَى وَلِيًّا لِلَّهِ، لَا أَنْ يُبَاشِرَهُ بِالْقَتْلِ.
فَفِي ذَلِكَ تَقْبِيحٌ عَظِيمٌ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ، إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ ضِدُّهُ، وَهُوَ التَّبْجِيلُ وَالتَّعْظِيمُ. وَلَمَّا لَمْ يَقَعْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِلْمُفَسِّرِينَ، اخْتَلَفُوا فِي الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ. وَلَوْ أُرِيدَ مَا ذَكَرُوهُ، لَكَانَ اللَّفْظُ: أُولَئِكَ مَا يَدْخُلُونَهَا إِلَّا خَائِفِينَ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ: مَا كَانَ لَهُمْ، الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الِابْتِغَاءِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لَهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهُ يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُقَوِّيهِمْ حَتَّى لَا يَدْخُلَ الْمَسَاجِدَ الْكُفَّارُ إِلَّا خَائِفِينَ. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْكُفَّارِ الْمَسَاجِدَ عَلَى صِفَةِ الْخَوْفِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، إِذْ قَدْ ذَكَرْنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ.
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها: أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ لَنَا بِأَنْ نُخِيفَهُمْ، وَإِنَّمَا ذُهِبَ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ سَيَدْخُلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ بقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما
574
دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً
«١»، وَلِأَنَّ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ ذَا السَّوِيقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ يَهْدِمُ الْكَعْبَةَ حَجَرًا حَجَرًا. فَلَمَّا رَأَى أَنَّ هَذَا يُعَارِضُ الْآيَةَ، إِذَا جَعَلْنَاهَا خَبَرًا لَفْظًا، وَمَعْنًى حَمْلِهَا عَلَى الْأَمْرِ وَدَلَالَتُهَا عَلَى الْأَمْرِ لَنَا بِالْإِخَافَةِ لَهُمْ بَعِيدَةٌ جِدًّا، وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ، حُمِلَ عَلَى مَعْنَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ، وَلَا يَخْتَصُّ الْحَمْلُ فِيهَا عَلَى اللَّفْظِ وَعَلَى الْمَعْنَى بِكَوْنِهَا مَوْصُولَةً، بَلْ هِيَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَعَانِيهَا مِنَ الْوَصْلِ وَالشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَكِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِيهَا فِي سَائِرِ مَعَانِيهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً نَحْوَ: مَرَرْتُ بِمَنْ مُحْسِنٌ لَكَ، فَلَيْسَ فِي مَحْفُوظِي مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى فِيهَا. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا قَبْلُ عَلَى كَوْنِهَا مَوْصُوفَةً. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ: الْآيَةَ، دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ دُخُولِ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَا فهمهنا نَحْنُ مِنَ الْآيَةِ.
لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ: هَذَا الْجَزَاءُ مُنَاسِبٌ لِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ.
أَمَّا الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ الْهَوَانُ والإذلال لهم، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْوَصْفِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِيهِ إِخْمَالَ الْمَسَاجِدِ بِعَدَمِ ذِكْرِ اللَّهِ وَتَعْطِيلِهَا مِنْ ذَلِكَ، فَجُوزُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْإِذْلَالِ وَالْهَوَانِ. وَأَمَّا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ الْعَذَابُ بِالنَّارِ، وَهُوَ إِتْلَافٌ لِهَيَاكِلِهِمْ وَصُوَرِهِمْ، وَتَخْرِيبٌ لها بعد تخريب كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «٢». وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلْوَصْفِ الثَّانِي، وَهُوَ سَعْيُهُمْ فِي تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ، فَجُوزُوا عَلَى ذَلِكَ بِتَخْرِيبِ صُوَرِهِمْ وَتَمْزِيقِهَا بِالْعَذَابِ. وَلَمَّا كَانَ الْخِزْيُ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ حُكْمًا، سَوَاءٌ فَسَّرْتَهُ بِقَتْلٍ أَوْ سَبْيٍ لِلْحَرْبِيِّ، أَوْ جِزْيَةٍ لِلذِّمِّيِّ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى وَصْفٍ. وَلَمَّا كَانَ الْعَذَابُ مُتَفَاوِتًا، أَعْنِي عَذَابَ الْكَافِرِ وَعَذَابَ الْمُؤْمِنِ، وُصِفَ عَذَابُ الْكَافِرِ بِالْعِظَمِ لِيَتَمَيَّزَ مِنْ عَذَابِ الْمُؤْمِنِ. وَقِيلَ: الْخِزْيُ هُوَ الْفَتْحُ الْإِسْلَامِيُّ، كَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَعَمُّورِيَّةَ وَرُومِيَّةَ، وَقِيلَ: جِزْيَةُ الذِّمِّيِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: طَرْدُهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقِيلَ:
قَتْلُ الْمَهْدِيِّ إِيَّاهُمْ إِذَا خَرَجَ، قَالَهُ الْمَرْوَزِيُّ، وَقِيلَ: مَنْعُهُمْ مِنَ الْمَسَاجِدِ. قَالَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: إِنَّ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا خِزْيًا. أَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَتْلُ قُرَيْظَةَ، وَإِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتْلُ النَّصَارَى وَفَتْحُ حُصُونِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، وإجراء الجزية
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٧.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٥٦.
575
عَلَيْهِمْ، وَالسِّيمَا الَّتِي الْتَزَمُوهَا، وَمَا شَرَطَهُ عُمَرُ عَلَيْهِمْ. وأما مشركوا الْعَرَبِ، فَقَتْلُ أَبْطَالِهِمْ وَأَقْيَالِهِمْ، وَكَسْرُ أَصْنَامِهِمْ، وَتَسْفِيهُ أَحْلَامِهِمْ، وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الَّتِي هِيَ دَارُ قَرَارِهِمْ ومسقط رؤوسهم، وَإِلْزَامُهُمْ خُطَّةَ الْهَلَاكِ مِنَ الْقَتْلِ إِلَّا أَنْ يُسْلِمُوا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
مَعْنَاهُ فِي آخِرِ الدُّنْيَا، وَهُوَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ فَتْحِ الرُّومِ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ الْآيَةَ، إِشَارَةٌ إِلَى ظُلْمِ مَنْ خَرَّبَ أَوْطَانَ الْمَعْرِفَةِ بِالْمُنَى وَالْعَلَاقَاتِ، وَهِيَ قُلُوبُ الْعَارِفِينَ وَأَوْطَانَ الْعِبَادَةِ بِالشَّهَوَاتِ، وَهِيَ نُفُوسُ الْعِبَادِ وَأَوْطَانَ الْمَحَبَّةِ بِالْحُظُوظِ وَالْمُسَاكَنَاتِ، وَهِيَ أَرْوَاحُ الْوَاجِدِينَ وَأَوْطَانَ الْمُشَاهَدَاتِ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى الْقُرُبَاتِ، وَهِيَ أَسْرَارُ الْمُوَحِّدِينَ. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ: ذُلُّ الْحِجَابِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ لِاقْتِنَاعِهِمْ بِالدَّرَجَاتِ. انْتَهَى، وَبَعْضُهُ مُلَخَّصٌ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ عَجِيبٌ يَنْبُو عَنْهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ، وَكَذَا أَكْثَرُ مَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ.
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ: قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَبَاحَ لَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يُصَلُّوا حَيْثُ شَاءُوا، فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَاهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَيْ حَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَأَنْتُمْ قَادِرُونَ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ.
فَعَلَى هَذَا هِيَ نَاسِخَةٌ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ جَوَابًا لِمَنْ عَيَّرَ مِنَ الْيَهُودِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ دَابَّتُهُ. وَقِيلَ: جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ، حَيْثُ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي إِلَى قِبْلَتِنَا.
وَقِيلَ: فِيمَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي لَيْلَةٍ مُتَغَيِّمَةٍ، فَصَلُّوا بِالتَّحَرِّي إِلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي حديث عن جاب ر، أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لِسَرِّيَّةٍ، وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّ ذَلِكَ جَرَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ
، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ، لَمْ يُعْدَلْ إِلَى سِوَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُضْطَرِبَةِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، أَيْنَمَا تُوَلُّوا فِي مُتَصَرَّفَاتِكُمْ وَمَسَاعِيكُمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ صُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْتِ.
وَهَذِهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ فِي سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَظَاهِرُهُا التَّعَارُضُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ مِنْهَا إِلَّا مَا صَحَّ، وَقَدْ شَحَنَ الْمُفَسِّرُونَ كُتُبَهُمْ بِنَقْلِهَا. وَقَدْ صَنَّفَ الْوَاحِدِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا قَلَّمَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَغَلَ بِنَقْلِ ذَلِكَ إِلَّا مَا صَحَّ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ انْتِظَامَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَنْعَ الْمَسَاجِدِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالسَّعْيِ فِي تَخْرِيبِهَا، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، إِذِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لِلَّهِ
576
تَعَالَى، فَأَيُّ جِهَةٍ أَدَّيْتُمْ فِيهَا الْعِبَادَةَ، فَهِيَ لِلَّهِ يُثِيبُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْتَصُّ مَكَانُ التَّأْدِيَةِ بِالْمَسْجِدِ. وَالْمَعْنَى: وَلِلَّهِ بِلَادُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا. فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فيكون عَلَى حَذْفِ مَعْطُوفٍ، أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمَا تَشْرِيفًا لَهُمَا، حَيْثُ أُضِيفَا لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا لِلَّهِ، كَمَا شَرَّفَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَمَاكِنِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أَسْمَى مَكَانٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُمَا اسْمَا مَصْدَرٍ، وَالْمَعْنَى أَنْ لِلَّهِ تَوَلِّيَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ مِنْ مَشْرِقِهَا وَإِغْرَابِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا، فَيَكُونَانِ، إِذْ ذَاكَ، بِمَعْنَى الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ. وَيُبَعِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وَأَفْرَدَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بِاعْتِبَارِ النَّاحِيَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ فِي النَّاحِيَةِ. وَأَمَّا الْجَمْعُ فَبِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمَغَارِبِ وَالْمَطَالِعِ كُلَّ يَوْمٍ. وَأَمَّا التَّثْنِيَةُ فَبِاعْتِبَارِ مَشْرِقَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَمُغْرِبَيْهِمَا. وَمَعْنَى التَّوْلِيَةِ: الِاسْتِقْبَالُ بِالْوُجُوهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الِاسْتِدْبَارُ مِنْ قَوْلِكَ: وَلَّيْتُ عَنْ فُلَانٍ إِذَا اسْتَدْبَرْتَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ:
فَأَيُّ جِهَةٍ وَلَّيْتُمْ عَنْهَا وَاسْتَقْبَلْتُمْ غَيْرَهَا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلَّذِينِ يُخَرِّبُونَ الْمَسَاجِدَ، أَيْ أَيْنَمَا تَوَلَّوْا هَارِبِينَ عَنِّي فَإِنِّي أَلْحَظُهُمْ. وَيُقَوِّيهِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا، جَعَلَهُ لِلْغَائِبِ، فَجَرَى عَلَى قَوْلِهِ: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، فَجَرَتِ الضَّمَائِرُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَفِي أَيِّ مَكَانٍ فَعَلْتُمُ التَّوْلِيَةَ، يَعْنِي تَوْلِيَةَ وُجُوهِكُمْ شَطْرَ الْقِبْلَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «١»، انْتَهَى. فَقَيَّدَ التَّوْلِيَةَ الَّتِي هي مطلقة هنا بِالتَّوْلِيَةِ الَّتِي هِيَ شَطْرَ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ مَسَائِلَ مَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ مِنْهَا: مَنْ صَلَّى فِي ظُلْمَةٍ مُجْتَهِدًا إِلَى جِهَةٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَمَسْأَلَةُ مَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَرْضًا لِمَرَضٍ أَوْ نَفْلًا، وَمَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ، إِذَا قُلْنَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ، وَشَحَنَ كِتَابَهُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَذِكْرِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَبَعْضِ دَلَائِلِهَا وَمَوْضُوعِهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ. فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْوَجْهُ بِمَعْنَى الْجِهَةِ، وَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ حَيْثُ أَمَرَ بِاسْتِقْبَالِهَا، فَهِيَ الْجِهَةُ الَّتِي فِيهَا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى، قاله
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٤٤.
577
الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْوَجْهُ هُنَا صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى فَثَمَّ اللَّهُ أَيْ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ومقاتل: أو عَبَّرَ عَنِ الذَّاتِ بِالْوَجْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ «١»، كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «٢»، وَقِيلَ: الْمَعْنَى الْعَمَلُ لِلَّهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، قَالَ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لست محصيه رَبُّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَجْهِ هُنَا: الْجَاهُ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ وَجْهُ الْقَوْمِ، أَيْ مَوْضِعُ شَرَفِهِمْ، وَلِفُلَانٍ وَجْهٌ عِنْدَ النَّاسِ: أَيْ جَاهٌ وَشَرَفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: فَثَمَّ جَلَالُ اللَّهِ وَعَظَمَتُهُ، قَالَهُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي الْمُقْنِعِ. وَحَيْثُ جَاءَ الْوَجْهُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَهُ مَحْمَلٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، إِذْ هُوَ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَشْهَرَ فِيهِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ تِلْكَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ بِالسَّمْعِ، زَائِدَةٌ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الْعُقُولُ مِنْ صِفَاتِ الْقَدِيمِ تَعَالَى. وَضَعَّفَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ، لِأَنَّ فِيهِ الْجَزْمَ بِإِثْبَاتِ صِفَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ، وَهِيَ صِفَةٌ لَا يُدْرَى مَا هِيَ، وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَوَجَبَ اطِّرَاحُ هَذَا الْقَوْلِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا لَهُ مَحْمَلٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ. إِذَا كَانَ لِلَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّجْسِيمِ فَنَحْمِلُهُ، إِمَّا عَلَى مَا يُسَوَّغُ فِيهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ الَّتِي يَصِحُّ نِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا، أَوْ مِنَ الْمَجَازِ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ. وَالْمَجَازُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ وَنَهْرِ فِلَسْطِينَ.
فَالْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى التَّجْسِيمِ غَبَاوَةٌ وَجَهْلٌ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَأَنْحَائِهَا وَمُتَصَرِّفَاتِهِا فِي كَلَامِهَا، وَحُجَجِ الْعُقُولِ الَّتِي مَرْجِعُ حَمْلِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ إِلَيْهَا. وَنَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَكُونَ كَالْكَرَّامِيَّةِ، وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ فِي إِثْبَاتِ التَّجْسِيمِ وَنِسْبَةِ الْأَعْضَاءِ لِلَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْمُفْتَرُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وفي قوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ:
إِنَّهُ فِي حَيِّزٍ وَجِهَةٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا خُيِّرَ فِي اسْتِقْبَالِ جَمِيعِ الْجِهَاتِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزٍ، وَلَوْ كَانَ فِي حَيِّزٍ لَكَانَ اسْتِقْبَالُهُ وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ أَحَقَّ مِنْ جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ. فَحَيْثُ لَمْ يُخَصِّصْ مَكَانًا، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزٍ، بَلْ جَمِيعُ الْجِهَاتِ فِي مُلْكِهِ وَتَحْتَ مُلْكِهِ، فَأَيُّ جِهَةٍ تَوَجَّهْنَا إِلَيْهِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْخُضُوعِ كُنَّا مُعَظِّمِينَ لَهُ مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ.
إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ: وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِصِفَةِ الْوَاسِعِ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِسَعَةِ مَغْفِرَتِهِ.
وَجَاءَ: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ «٣»، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيِّ: لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ. وقيل:
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٧.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ٨٨.
(٣) سورة النجم: ٥٣/ ٣٢.
578
وَاسِعُ الْعَطَاءِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ: غَنِيٌّ، وَمَعْنَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ: جَوَادٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَالِمٌ، مِنْ قَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «١»، عَلَى أَحَدِ التَّفَاسِيرِ، وَجُمِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيمٍ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: وَاسِعُ الْقُدْرَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يُوَسِّعُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحكم ذينه يُسْرٌ. عَلِيمٌ: أَيْ بِمَصَالِحِهِمْ أَوْ بِنِيَّاتِ الْقُلُوبِ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ الْعَمَلِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ ظَوَاهِرُهَا فِي قِبْلَةٍ وَغَيْرِهَا. وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْقِبْلَةِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ بِهِمْ، وَطَوَّقَ سُلْطَانَهُ إِيَّاهُمْ حَيْثُ كَانُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ «٢»، الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى «٣» الْآيَةَ، وَيَكُونُ فِي هَذَا تَهْدِيدٌ لِمَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ مِنَ الذِّكْرِ، وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، أَنَّهُ لَا مَهْرَبَ لَهُ مِنَ اللَّهِ وَلَا مَفَرَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَيْنَ الْمَفَرُّ، كَلَّا لَا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ»
، وَكَمَا قَالَ:
فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
وَقَالَ:
وَلَمْ يَكُنِ الْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ إِذْ سَرَى لِيُعْجِزَ وَالْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ طَالِبُهْ
وَقَالَ:
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَلَا مَفَرَّ لِهَارِبٍ وَلَهُ الْبَسِيطَانِ الثَّرَى وَالْمَاءُ
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الخطاب عاما مندرج فِيهِ مَنْ مَنَعَ الْمَسَاجِدَ مِنَ الذِّكْرِ وَغَيْرِهِ.
وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكَّدَةً بِإِنَّ مُصَرَّحًا بِاسْمِ اللَّهِ فِيهَا دَالَّةً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ «٥»، وَكَقَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «٦»، وَذَلِكَ أَفْخَمُ وَأَجْزَلُ مِنَ الضَّمِيرِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يُشْعِرُ بِقُوَّةِ التَّعَلُّقِ وَالظَّاهِرَ يُشْعِرُ بِالِاسْتِقْلَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُلْحَظْ مَا قَبْلَهُ؟ بِخِلَافِ الضَّمِيرِ، فَإِنَّهُ رَابِطٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا بِالْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. أَلَا تَرَى إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ بِالظَّاهِرِ؟ كَمَا مَثَّلْنَاهُ، وَكَقَوْلِهِ: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ «٧»، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ «٨»، وقال:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٥.
(٢) سورة الرحمن: ٥٥/ ٣٣.
(٣) سورة المجادلة: ٥٨/ ٧.
(٤) سورة القيامة: ٧٥/ ١٠- ١٢. [.....]
(٥) سورة البقرة: ٢/ ١١٠.
(٦) سورة المزمل: ٧٣/ ٢٠.
(٧) سورة النساء: ٤/ ١٠٣.
(٨) سورة البقرة: ٢/ ٢٠.
579
لَيْتَ شِعْرِي وَأَيْنَ مِنِّي لَيْتٌ إِنَّ لَيْتًا وَإِنَّ لَوًّا عَنَاءُ
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، إِذْ قَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «١»، أَوْ فِي النَّصَارَى، إِذْ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «٢»، أَوْ فِي الْمُشْرِكِينَ، إِذْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، أَوْ فِي النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالْأَخِيرُ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَلِاخْتِلَافِهِمْ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، اخْتَلَفُوا فِي الضَّمِيرِ فِي وقالوا، عَلَى مَنْ يَعُودُ؟ فَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَدْ جَعَلَ لِلَّهِ وَلَدًا، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى قِرَاءَةِ:
وَقَالُوا بِالْوَاوِ، وَهُوَ آكَدُ فِي الرَّبْطِ، فَيَكُونُ عَطَفَ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً عَلَى جُمْلَةٍ مِثْلِهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَسَعى فِي خَرابِها، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَعْطُوفٍ عَلَى الصِّلَةِ، وَفُصِلَ بَيْنَهُمَا بِالْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ مِثْلِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَغَيْرُهُمَا: قَالُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَيَكُونُ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ، أَوْ مَلْحُوظًا فِيهِ مَعْنَى الْعَطْفِ، وَاكْتَفَى بِالضَّمِيرِ وَالرَّبْطِ بِهِ عَنِ الرَّبْطِ بِالْوَاوِ. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: وَبِغَيْرِ وَاوٍ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ. تَقَدَّمَ أَنَّ اتَّخَذَ: افْتَعَلَ مِنَ الْأَخْذِ، وَأَنَّهَا تَارَةً تَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ نَحْوَ قَوْلِهِ:
اتَّخَذَتْ بَيْتاً «٣»، قَالُوا: مَعْنَاهُ صَنَعَتْ وَعَمِلَتْ، وَإِلَى اثْنَيْنِ فَتَكُونُ بِمَعْنَى: صَيَّرَ. وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يُحْتَمَلُ هُنَا. وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ يَقْتَضِي تَصَوُّرَهُ بِاسْتِحَالَةِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الولد يكون من جنس الْوَالِدِ. فَإِنْ جَعَلْتَ اتَّخَذَ بِمَعْنَى عَمِلَ وَصَنَعَ، اسْتَحَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُدُوثِ، قَدِيمٌ، لَا أَوَّلِيَّةَ لِقِدَمِهِ، وَمَا عَمِلَهُ مُحْدَثٌ، فَاسْتَحَالَ أَنْ يكون ولد إله. وَإِنْ جَعَلْتَ اتَّخَذَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، اسْتَحَالَ أَيْضًا، لِأَنَّ التَّصْيِيرَ هُوَ نَقْلٌ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، وَفَرْضِيَّةُ الْوَلَدِ بِهِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْوَالِدِ لَا تَقْتَضِي التَّغْيِيرَ، فَقَدِ اسْتَحَالَ ذَلِكَ. وَإِذَا جَعَلْتَ اتَّخَذَ بِمَعْنَى صَيَّرَ، كَانَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ مَحْذُوفًا، التَّقْدِيرُ: وَقَالُوا اتَّخَذَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ وَلَدًا. وَالَّذِي جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا ظَاهِرُهُ التَّعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ، قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً «٤»، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ «٥»، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «٦». وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَتَى بِالْوَلَدِ، وَهُوَ أَحَدِيُّ الذَّاتِ، لَا جُزْءَ لِذَاتِهِ، وَلَا تَجُوزُ الشَّهْوَةُ فِي صِفَاتِهِ. انْتَهَى.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَشْيَاءِ وَأَوْضَحِهَا فِي الِاسْتِحَالَةِ، أتى باللفظ الذي
(١) سورة التوبة: ٩/ ٣٠.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٣٠.
(٣) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤١.
(٤) سورة مريم: ١٩/ ٨٨.
(٥) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٩١.
(٦) سورة مريم: ١٩/ ٩٢.
580
يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَيَسْتَدِلَّ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ. وَكَانَ ذِكْرُ التَّنْزِيهِ أَسْبَقَ، لِأَنَّ فِيهِ رَدْعًا لِمُدَّعِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَمْرًا تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَقَدَّسَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي إِبْطَالِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ فَقَالَ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أَيْ جَمِيعُ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ مَنِ ادَّعَوْا أَنَّهُ وَلَدَ اللَّهُ.
وَالْوِلَادَةُ تُنَافِي الْمِلْكِيَّةَ، لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يَمْلِكُ وَلَدَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا مَسْأَلَةَ مَنِ اشترى والده أَوْ وَلَدَهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، وَمَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْكُلَّ مَمْلُوكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَانِتُونَ لَهُ، أَيْ مُطِيعُونَ خَاضِعُونَ لَهُ. وَهَذِهِ عَادَةُ الْمَمْلُوكِ، أَنْ يَكُونَ طَائِعًا لِمَالِكِهِ، مُمْتَثِلًا لِمَا يُرِيدُهُ مِنْهُ. وَاسْتُدِلَّ بِنَتِيجَةِ الطَّوَاعِيَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِيَّةِ. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُجَانِسِ الْوَالِدَ، إِذِ الْوَلَدُ يكون من جنس الوالد.
وَأَتَى بِلَفْظِ مَا فِي قَوْلِهِ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ لِمَا لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّ مَا لَا يَعْقِلُ إِذَا اخْتَلَطَ بِمَنْ يَعْقِلُ جَازَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْجَمِيعِ بِمَا. وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا مَا، فَإِنَّهَا مُبْهَمَةٌ تَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَيُدَلُّ عَلَى انْدِرَاجِ مَنْ يَعْقِلُ تَحْتَ مَدْلُولِ مَا جَمْعُ الْخَبَرِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ فِيمَا يَعْقِلُ، وَانْدَرَجَ فِيهِ مَا لَا يَعْقِلُ عَلَى حُكْمِ تَغْلِيبِ مَنْ يَعْقِلُ. فَحِينَ ذَكَرَ الْمُلْكَ، أَتَى بِلَفْظَةِ مَا، وَحِينَ ذَكَرَ الْقُنُوتَ، أَتَى بِجَمْعِ مَا يَعْقِلُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَامِلٌ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَاءَ بِمَا الَّذِي لِغَيْرِ أُولِي الْعِلْمِ مَعَ قَوْلِهِ قَانِتُونَ؟ قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا، وَكَأَنَّهُ جَاءَ بِمَا دُونَ مَنْ، تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «١». انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ جُنُوحٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مَا وَقَعَتْ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ كَقَوْلِهِ: مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا. يُرِيدُ أَنَّ الْمَعْنَى: سُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَكُنَّ لَنَا، لِأَنَّهَا يُرَادُ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَمَا عِنْدَنَا لَا يَقَعُ إِلَّا لِمَا لَا يَعْقِلُ، إِلَّا إِذَا اخْتَلَطَ بِمَنْ يَعْقِلُ، فَيَقَعُ عَلَيْهِمَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ كَانَ وَاقِعًا عَلَى صِفَاتِ مَنْ يَعْقِلُ، فَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِمَا. وَأَمَّا أَنْ يَقَعَ لِمَنْ يَعْقِلُ، خَاصَّةً حَالَةَ إِفْرَادِهِ أَوْ غَيْرِ إِفْرَادِهِ، فَلَا. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ، وَهُوَ مَذْهَبٌ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، إِذْ جَمِيعُ مَا احْتُجَّ بِهِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ يؤول، فيؤول قَوْلُهُ: سُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ، عَلَى أَنَّ سُبْحَانَ غَيْرُ مُضَافٍ، وَأَنَّهُ عَلَمٌ لِمَعْنَى التَّسْبِيحِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفاخر
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ١٥٨.
581
وَمَا: ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ مُدَّةَ تَسْخِيرِكُنَّ لَنَا. وَالْفَاعِلُ يسخر مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ الْمَعْنَى وَسِيَاقُ الْكَلَامِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنْ مُسَخِّرَهُنَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَكَأَنَّهُ جَاءَ بِمَا دُونَ مَنْ، تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِمْ، لَيْسَتْ مَا هُنَا مُخْتَصَّةً بِمَنْ يَعْقِلُ، فَتَقُولَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِمَا الَّتِي لِمَا لَا يَعْقِلُ تَحْقِيرًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ لِمَنْ يَعْقِلُ وَلِمَا لَا يَعْقِلُ. وَمَعْنَى قَانِتُونَ:
قَائِمُونَ بِالشَّهَادَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ فِي الْقِيَامَةِ لِلْعَرْضِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ، أَوْ مُطِيعُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ أَوْ مُقِرُّونَ بِالْعُبُودِيَّةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: قَائِمُونَ بِاللَّهِ. وَأُورِدَ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْقُنُوتُ:
الْقِيَامُ لِلَّهِ بِالشَّهَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، أَنَّهُ: كَيْفَ عَمَّ بِهَذَا الْقَوْلِ وَكَثِيرٌ لَيْسَ بِمُطِيعٍ؟ وَأُجِيبَ: أَنَّ ظَاهِرَهُ الْعُمُومُ، وَالْمَعْنَى الْخُصُوصُ، أَيْ أَهْلُ كُلِّ طَاعَةٍ لَهُ قَانِتُونَ، وَبِأَنَّ الْكُفَّارَ يَسْجُدُ ضُلَّالُهُمْ، وَبِظُهُورِ أَثَرِ الصَّنْعَةِ فِيهِ، وَجَرْيِ أَحْكَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَذَلُّلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ.
وكُلٌّ لَهُ: مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ، أَيْ كُلُّ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِمْ بِالْمِلْكِيَّةِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ جَعَلُوهُ لِلَّهِ وَلَدًا، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ الْمَجْعُولَ لِلَّهِ وَلَدًا لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمَجْعُولُ وَلَدًا وَغَيْرُهُ. وقانِتُونَ: خَبَرٌ عَنْ كُلٌّ، وَجُمِعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. وَكُلُّ، إِذَا حُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، جَازَ فِيهَا مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى فَتُجْمَعُ، وَمُرَاعَاةُ اللَّفْظِ فَتُفْرَدُ. وَإِنَّمَا حَسُنَتْ مُرَاعَاةُ الْجَمْعِ هُنَا، لِأَنَّهَا فَاصِلَةُ رَأْسِ آيَةٍ، وَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي لِسَانِهِمْ أَنَّهُ إِذَا قُطِعَتْ عَنِ الْإِضَافَةِ كَانَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى أَكْثَرَ وَأَحْسَنَ. قَالَ تَعَالَى: وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ «١»، وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «٢»، وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «٣». وَقَدْ جَاءَ إِفْرَادُ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ «٤»، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَاكَ ذِكْرُ مُحَسِّنِ إِفْرَادِ الْخَبَرِ.
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِ من في السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ كُلٌّ قَانِتُونَ له، وهم المظروف للسموات وَالْأَرْضِ، ذَكَرَ الظَّرْفَيْنِ وَخَصَّهُمَا بِالْبَدَاعَةِ، لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَارْتِفَاعُ بَدِيعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ. فَالْمَجْرُورُ مُشَبَّهٌ بِالْمَفْعُولِ، وأصله الأول بديع سمواته، ثُمَّ شَبَّهَ الْوَصْفَ فَأَضْمَرَ فيه، فنصب السموات، ثُمَّ جَرَّ مَنْ نَصَبَ. وَفِيهِ أَيْضًا ضَمِيرٌ يَعُودُ
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٥٤.
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ٨٧.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٣. [.....]
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٤.
582
عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ تعالى بدعت سمواته، أَيْ جَاءَتْ فِي الْخَلْقِ عَلَى شَكْلٍ مُبْتَدَعٍ لَمْ يَسْبِقْ نَظِيرُهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ ابْتَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، إِلَّا أنه قال: وبديع السموات مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ إِلَى فَاعِلِهَا، وَهَذَا لَيْسَ عِنْدَنَا. كَذَلِكَ بَلْ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ إِلَى مَنْصُوبِهَا. وَالصِّفَةُ عِنْدَنَا لَا تَكُونُ مُشَبَّهَةً حَتَّى تَنْصِبَ أَوْ تَخْفِضَ، وَأَمَّا إِذَا رَفَعَتْ مَا بَعْدَهَا فَلَيْسَ عِنْدَنَا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، لِأَنَّ عَمَلَ الرَّفْعِ فِي الْفَاعِلِ يَسْتَوِي فِيهِ الصِّفَاتُ الْمُتَعَدِّيَةُ وَغَيْرُ الْمُتَعَدِّيَةِ. فَإِذَا قُلْنَا: زَيْدٌ قَائِمٌ أَبُوهُ، فَقَائِمٌ رَافِعٌ لِلْأَبِ عَلَى حَدِّ رَفْعِ ضَارِبٍ لَهُ. إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ ضَارِبٌ أَبُوهُ عَمْرًا، لَا تَقُولُ: إِنَّ قَائِمًا هُنَا مِنْ حَيْثُ عَمِلَ الرَّفْعَ شُبِّهَ بِضَارِبٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِضَافَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ إِلَى مَرْفُوعِهِ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، إِلَّا إِنْ أَخَذْنَا كَلَامَ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى التَّجَوُّزِ فَيُمْكِنُ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ إِلَى مَا كَانَ فَاعِلًا بِهَا قَبْلَ أَنْ يُشَبَّهَ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ وَجْهًا ثَانِيًا قَالَ: وَقِيلَ الْبَدِيعُ بِمَعْنَى الْمُبْدِعِ، كَمَا أَنَّ السَّمِيعَ فِي قَوْلِ عَمْرٍو:
أمن ريحانة الداعي السميع بِمَعْنَى: الْمُسْمِعِ: وَفِيهِ نَظَرٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ، قَالَ: وَبَدِيعٌ مَصْرُوفٌ مِنْ مُبْدِعٍ، كَبَصِيرٍ مِنْ مُبْصِرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ معدي كرب:
أمن ريحانة الداعي السمي ع يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
يُرِيدُ: الْمُسْمِعُ وَالْمُبْدِعُ وَالْمُنْشِئُ، وَمِنْهُ أَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي صَلَاةِ رَمَضَانَ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، انْتَهَى. وَالنَّظَرُ الَّذِي ذكر الزَّمَخْشَرِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ لَا يَنْقَاسُ مَعَ أَنَّ بَيْتَ عَمْرٍو مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ لمفعوله. وقرأ المنصور: بَدِيعَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَدْحِ، وقرىء بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَهُ.
وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: لَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى الِاخْتِرَاعِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى طَوَاعِيَةِ الْمُخْتَرِعِ وَسُرْعَةِ تَكْوِينِهِ. وَمَعْنَى قَضَى هُنَا: أَرَادَ، أَيْ إِذَا أَرَادَ إِنْشَاءَ أَمْرٍ وَاخْتِرَاعَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَضَى: مَعْنَاهُ قَدَّرَ، وَقَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى: أَمْضَى. وَيَتَّجِهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْنَيَانِ. فَعَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ: قَدَّرَ فِي الْأَزَلِ وَأَمْضَى فِيهِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ: أَمْضَى عِنْدَ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ. وَالْأَمْرُ: وَاحِدُ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ هُنَا مَصْدَرَ أَمَرَ يَأْمُرُ.
وَالْمُعْتَقَدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ آمِرًا لِلْمَعْدُومَاتِ بِشَرْطِ وُجُودِهَا، قَادِرًا مَعَ تَأَخُّرِ
583
الْمَقْدُورَاتِ، عَالِمًا مَعَ تَأَخُّرِ وُقُوعِ الْمَعْلُومَاتِ. وَكُلُّ مَا فِي الْآيَةِ مِمَّا يَقْتَضِي الِاسْتِقْبَالَ فَهُوَ بِحَسَبِ الْمَأْمُورَاتِ، إِذِ الْمُحْدَثَاتُ تَجِيءُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَكُلُّ مَا اسْتَنَدَ إِلَى اللَّهِ مِنْ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ فَهُوَ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ. انْتَهَى مَا نَقَلْنَاهُ هُنَا مِنْ كَلَامِهِ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَإِذا قَضى أَمْراً، أَيْ أَتْقَنَهُ وَأَحْكَمَهُ وَفَرَغَ مِنْهُ. وَمَعْنَى: فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، يَقُولُ مِنْ أَجْلِهِ.
وَقِيلَ: قَالَ لَهُ كُنْ، وَهُوَ مَعْدُومٌ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ، إِذْ هُوَ عِنْدَهُ مَعْلُومٌ. قَالَ الطَّبَرِيُّ:
أَمْرُهُ لِلشَّيْءِ بِكُنْ لَا يَتَقَدَّمُ الْوُجُودَ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ مَأْمُورًا بِالْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ مَوْجُودٌ بِالْأَمْرِ، وَلَا مَوْجُودًا بِالْأَمْرِ إِلَّا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُجُودِ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ قِيَامُ الْأَمْوَاتِ مِنْ قُبُورِهِمْ لَا يَتَقَدَّمُ دُعَاءَ اللَّهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ «١». فَالْهَاءُ فِي لَهُ تَعُودُ عَلَى الْأَمْرِ، أَوْ عَلَى الْقَضَاءِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَضَى، أَوْ عَلَى الْمُرَادِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ. انْتَهَى مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ كِتَابِهِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا سَيَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، فَقَوْلُهُ: كُنْ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمَوْجُودِ فِي عِلْمِهِ لِيُخْرِجَهُ إِلَى الْعِيَانِ لَنَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كُنْ فَيَكُونُ، مِنْ كَانَ التَّامَّةِ، أَيِ احْدُثْ فَيَحْدُثُ، وَهَذَا مَجَازٌ مِنَ الْكَلَامِ وَتَمْثِيلٌ وَلَا قَوْلٌ، ثُمَّ كَمَا لَا قَوْلَ فِي قَوْلِهِ:
إِذْ قَالَتِ الْأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: مَا قَضَاهُ مِنَ الْأُمُورِ وَأَرَادَ كَوْنَهُ، فَإِنَّمَا يَتَكَوَّنُ وَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ امْتِنَاعٍ وَلَا تَوَقُّفٍ. كَمَا أَنَّ الْمَأْمُورَ الْمُطِيعَ الَّذِي يُؤْمَرُ فَيَمْتَثِلُ، لَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَمْتَنِعُ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُ الْإِبَاءُ. أَكَّدَ بِهَذَا اسْتِبْعَادَ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْقُدْرَةِ، كَانَتْ حَالُهُ مُبَايِنَةً لِأَحْوَالِ الْأَجْسَامِ فِي تَوَالُدِهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: كُنْ عَلَى التَّمْثِيلِ لِنَفَاذِ الْأَمْرِ، قَالَ:
فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانُ سَمْعًا وَطَاعَةً وَإِلَّا فَالْمَعْدُومُ كَيْفَ يُخَاطَبُ
أَوْ عَلَامَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ بِحُدُوثِ الْمَوْجُودِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مَا تُصُوِّرَ كَوْنُهُ فِي عِلْمِهِ، أَوْ مَخْصُوصٍ فِي تَحْوِيلِ الْمَوْجُودِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَوْ كَانَ كُنْ مَخْلُوقًا، لَاحْتَاجَ إِلَى أُخْرَى وَلَا يَتَنَاهَى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الَمَهْدَوِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ قَائِلًا لَهُ: كُنْ، وَلَكَانَ قَائِلًا: لِكُنْ كُنْ، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى مَا لَا يتناهى، وذلك مستحيل ما مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ ذَلِكَ
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٢٥.
584
مِنْ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنَ اللَّهِ فِعْلٌ أَلْبَتَّةَ، إِذْ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ قَبْلَهُ أَفْعَالٌ، هِيَ أَقَاوِيلُ لَا غَايَةَ لَهَا، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَجَازِ، إِذْ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَمَادَاتِ، وَلَا يَكُونُ فِيمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْقَوْلُ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُنَا مِنْ قَوْلِهِ:
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «١»، وُكِّدَ بِمَصْدَرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ، وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ مُجْمِعُونَ، عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَكَّدُوا الْفِعْلَ بِالْمَصْدَرِ كَانَ حَقِيقَةً، وَلِذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً «٢»، إِذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَوَلِّيَ تَكْلِيمِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بِكَوْنِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الَمَهْدَوِيِّ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: كُنْ فَيَكُونُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ كُنْ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى، أَنَّ الْمُرَادَ نَفَاذُ سُرْعَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا يَخْلُقُهَا لَا لِفِكْرَةٍ، وَنَظِيرُهُ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «٣». الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَامَةٌ يَعْقِلُهَا الْمَلَائِكَةُ، إِذَا سَمِعُوهَا عَلِمُوا أَنَّهُ أَحْدَثَ أَمْرًا، قَالَهُ أَبُو الْهُذَيْلِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ جَاءَ لِلْمَوْجُودِينَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «٤»، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. الرَّابِعُ:
أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْأَحْيَاءِ بِالْمَوْتِ، وَلِلْمَوْتَى بِالْحَيَاةِ، وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ، وَالْقَوِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
هَذَا مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي الْآيَةِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ إِحْدَاثَ شَيْءٍ قَالَ لَهُ: كُنْ، تُبَيِّنُهُ الْآيَةُ الْأُخْرَى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «٥»، وَقَوْلُهُ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ «٦». لَكِنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ صَدَّ عَنِ اعْتِقَادِ مُخَاطَبَةِ الْمَعْدُومِ، وَصَدَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ كُنْ مُحْدَثَةٌ، وَمَنْ يَعْقِلْ مَدْلُولَ اللَّفْظِ. وَكَوْنَهُ يَسْبِقُ بَعْضُ حُرُوفِهِ بَعْضًا، لَمْ يَدْخُلْهُ شَكٌّ فِي حُدُوثِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا خِطَابَ وَلَا قَوْلَ لَفْظِيًّا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ سرعة الإيجاد وعدم اعتياضه، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ، وَكَأَنَّهُ قَدَّرَ أَنَّ الْمَعْدُومَ مَوْجُودٌ يَقْبَلُ الْأَمْرَ وَيَمْتَثِلُهُ بِسُرْعَةٍ، بِحَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنِ امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَكُونُ بِالرَّفْعِ، وَوُجِّهَ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ فَهُوَ يَكُونُ، وَعُزِيَ إِلَى سِيبَوَيْهِ. وقال غيره: فيكون عطف عَلَى يَقُولُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وقرّره. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ
(١) سورة النحل: ١٦/ ٤٠.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٦٤.
(٣) سورة فصلت: ٤١/ ١١.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٦٥.
(٥) سورة النحل: ١٦/ ٤٠.
(٦) سورة القمر: ٥٤/ ٥٠.
585
مَعَ التَّكْوِينِ حَادِثٌ، وَقَدِ انْتَهَى مَا رَدَّهُ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَمَعْنَى رَدِّهِ: أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُ قَدْ تَمَّ، وَالتَّكْوِينَ حَادِثٌ، وَقَدْ نَسَقَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، فَهُوَ مَعَهُ، أَيْ يَعْتَقِبُهُ، فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَعْتَقِبُهُ الْحَادِثُ. وَتَقْرِيرُ الطَّبَرِيِّ لَهُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَقَدَّمُ الْوُجُودَ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ. وَمَا رَدَّهُ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ ثَمَّ قَوْلًا وَأَمْرًا قَدِيمًا. أَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَمِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، فَيَجُوزُ أن يعطف على تقول. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: فَيَكُونَ بِالنَّصْبِ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ: كُنْ فَيَكُونُ «١» وَنُعَلِّمُهُ، وَفِي النَّحْلِ، وَفِي مَرْيَمَ، وَفِي يس، وَفِي الْمُؤْمِنِ. وَوَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ فِي النَّحْلِ وَيس، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ فِي آلِ عمران. وكُنْ فَيَكُونُ «٢» قَوْلُهُ الْحَقُّ فِي الْأَنْعَامِ أَنَّهُ بِالرَّفْعِ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنَّهُ جَوَابٌ عَلَى لَفْظِ كُنْ، لِأَنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، فَشُبِّهَ بِالْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ. وَلَا يَصِحُّ نَصْبُهُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلَيْنِ يَنْتَظِمُ مِنْهُمَا شرط وجزاء نحو: ائْتِنِي فَأُكْرِمْكَ، إِذِ الْمَعْنَى: إِنْ تَأْتِنِي أُكْرِمْكَ. وَهُنَا لَا يَنْتَظِمُ ذَلِكَ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: إِنْ يَكُنْ يَكُنْ، فَلَا بُدَّ مِنِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى، فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ: أَنَّهَا لَحْنٌ، وَهَذَا قَوْلٌ خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ فِي السَّبْعَةِ، فَهِيَ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، ثُمَّ هِيَ بَعْدُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ، وَهُوَ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ، لَمْ يَكُنْ لِيَلْحَنَ. وَقِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَهُوَ إِمَامُ الْكُوفِيِّينَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا لَحْنٌ، مِنْ أَقْبَحِ الْخَطَأِ الْمُؤَثِّمِ الَّذِي يَجُرُّ قَائِلَهُ إِلَى الْكُفْرِ، إِذْ هُوَ طَعَنٌ عَلَى مَا عُلِمَ نَقْلُهُ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ الْعَرَبِ حِينَ، طَلَبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ وَغَيْرُهُ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي النَّصَارَى، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ لِأَنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ أَوَّلًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ رَافِعُ بْنُ خُزَيْمَةَ، مِنَ الْيَهُودِ: إِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقُلْ لِلَّهِ يُكَلِّمُنَا حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مُشْرِكُو مَكَّةَ.
وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَى جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْصُولِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّبَبِ. فَإِنْ كَانَ الْمَوْصُولُ الْجَهَلَةَ مِنَ الْعَرَبِ، فَنَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ، وَلَا هُمْ أتباع نبوّة، وإن
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٤٧.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٧٣.
586
كَانَ الْمَوْصُولُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَنَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ، لِانْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ، وَهُوَ الِاتِّبَاعُ لَهُ وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ. وَحَذَفَ مَفْعُولَ الْعِلْمِ هُنَا اقْتِصَارًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ نِسْبَةِ الْعِلْمِ إِلَيْهِمْ، لَا نَفْيُ عِلْمِهِمْ بِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَقَالَ الَّذِينَ لَيْسُوا مِمَّنْ لَهُ سَجِيَّةٌ فِي الْعِلْمِ لِفَرْطِ غَبَاوَتِهِ، فَهِيَ مَقَالَةٌ صَدَرَتْ مِمَّنْ لَا يَتَّصِفُ بِتَمْيِيزٍ وَلَا إِدْرَاكٍ. وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ، الْجُمْلَةُ التحضيضية وهي: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ كَمَا يُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ، وَكَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالُوا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِكْبَارِ وَالْعُتُوِّ، أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ، أَيْ هَلَّا يَكُونُ أَحَدُ هَذَيْنِ، إِمَّا التَّكَلُّمُ، وَإِمَّا إِتْيَانُ آيَةٍ؟ قَالُوا ذَلِكَ جُحُودًا لِأَنْ يَكُونَ مَا أَتَاهُمْ آيَةً وَاسْتِهَانَةً بِهَا. وَلَمَّا حَكَى عَنْهُمْ نسبة الْوَلَدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَقَالَةٍ أُخْرَى لَهُمْ تَدُلُّ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ التَّعْظِيمِ وَعَدَمِ الِاقْتِرَاحِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ.
كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ كَذَلِكَ، وَفِي تَبْيِينِ وُقُوعِ مِنْ قَبْلِهِمْ صِلَةً لِلَّذِينَ فِي قوله: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «١» وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. إِنْ فُسِّرَ الْمَوْصُولُ فِي الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ بِكُفَّارِ الْعَرَبِ، أَوْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، فَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمُ الْأُمَمُ الْمُكَذِّبَةُ مِنْ أَسْلَافِهِمْ وَغَيْرِهِمْ. وَإِنْ فُسِّرَ بِالْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، فَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَسْلَافُهُمْ، وَانْتِصَابُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ مَوْضِعِ الْكَافِ. وَلَا تَدُلُّ الْمِثْلِيَّةُ عَلَى التَّمَاثُلِ في نفس المقول، يل يُحْتَمَلُ أَنَّ مَنْ قَبْلَهُمُ اقْتَرَحُوا غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْمِثْلِيَّةَ وَقَعَتْ فِي اقْتِرَاحِ مَا لَا يَلِيقُ سُؤَالُهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَفْسَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، إِذِ الْمِثْلِيَّةُ تَصْدُقُ بِهَذَا الْمَعْنَى. تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. لَمَّا ذَكَرَ تَمَاثُلَ الْمَقَالَاتِ، وَهِيَ صَادِرَةٌ عَنِ الْأَهْوَاءِ وَالْقُلُوبِ، ذَكَرَ تَمَاثُلَ قُلُوبِهِمْ فِي الْعَمَى وَالْجَهْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ «٢». قِيلَ: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فِي الْكُفْرِ.
وَقِيلَ: فِي الْقَسْوَةِ. وَقِيلَ: فِي التَّعَنُّتِ وَالِاقْتِرَاحِ. وَقِيلَ: فِي الْمُحَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو حَيْوَةَ: تَشَّابَهَتْ، بِتَشْدِيدِ الشِّينِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، يَعْنِي أَنَّ اجْتِمَاعَ التَّاءَيْنِ الْمَزِيدَتَيْنِ لَا يَكُونُ فِي الْمَاضِي، إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُضَارِعِ نَحْوُ: تَتَشَابَهُ، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ فِيهِ الْإِدْغَامُ. أَمَّا الْمَاضِي فَلَيْسَ أَصْلُهُ تَتَشَابَهُ. وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا «٣»، وَخَرَّجْنَا ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلٍ لَا يُمْكِنُ هُنَا، فَيُتَطَلَّبُ هُنَا تَأْوِيلٌ لهذه القراءة.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١.
(٢) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٣.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٧٠.
587
قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ: أَيْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ، فَاقْتِرَاحُ آيَةٍ مَعَ تَقَدُّمِ مَجِيءِ آيَاتٍ وَإِيضَاحِهَا، إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ. هَذَا، وَهِيَ آيَاتٌ مُبَيَّنَاتٌ، لَا لَبْسَ فِيهَا، وَلَا شُبْهَةَ، لِشِدَّةِ إِيضَاحِهَا. لَكِنْ لَا يَظْهَرُ كَوْنُهَا آيَاتٍ إِلَّا لِمَنْ كَانَ مُوقِنًا، أَمَّا مَنْ كَانَ فِي ارْتِيَابٍ، أَوْ شَكٍّ، أَوْ تَغَافُلٍ، أَوْ جَهْلٍ، فَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الْآيَاتُ، وَلَوْ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ.
أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «١» ؟ وَقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ، وَقَدْ سَأَلَ أَهْلَ الْبَوَادِي الْوَافِدِينَ إِلَى مَكَّةَ عَنِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ، فَأَخْبَرُوهُ بِهِ، فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اقْتِرَاحَ مَا تَقَدَّمَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، قَالَ فِي آخِرِهَا: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَالْإِيقَانُ: وَصْفٌ فِي الْعِلْمِ يُبْلَغُ بِهِ نِهَايَةُ الْوِثَاقَةِ فِي الْعِلْمِ، أَيْ مَنْ كَانَ مُوقِنًا، فَقَدْ أَوْضَحْنَا لَهُ الْآيَاتِ، فَآمَنَ بِهَا، وَوَضَحَتْ عِنْدَهُ، وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى غيره. وفي جمع الْآيَاتِ رَدٌّ عَلَى مَنِ اقْتَرَحَ آيَةً، إِذِ الْآيَاتُ قَدْ بُيِّنَتْ، فَلَمْ يَكُنْ آيَةً وَاحِدَةً، فَيُمْكِنَ أَنْ يُدَّعَى الِالْتِبَاسُ فِيهَا، بَلْ ذَلِكَ جَمْعُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، لَكِنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّبَصُّرِ وَالْيَقِينِ.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً: بَشِيرًا لِمَنْ آمَنَ، وَنَذِيرًا لِمَنْ كَفَرَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ لِتَمَادِيهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ بَيَّنَ الْآيَاتِ، ذَكَرَ مَنْ بُيِّنَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَخَاطَبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْآيَاتِ فَقَالَ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْآيَاتِ الْوَاضِحَةِ، وَفُسِّرَ الْحَقُّ هُنَا بِالصِّدْقِ وَبِالْقُرْآنِ وَبِالْإِسْلَامِ. وَبِالْحَقِّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ وَمَعَكَ الْحَقُّ لَا يُزَايِلُكَ. وَانْتِصَابُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكَافِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ يَتَّصِفُ أَيْضًا بِالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. وَعَدَلَ إِلَى فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّ فَعِيلًا مِنْ صِفَاتِ السَّجَايَا، وَالْعَدْلُ فِي بَشِيرٍ لِلْمُبَالَغَةِ، مَقِيسٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، إِذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ بَشَّرَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِشْرٌ مُخَفَّفًا، وَلَيْسَ مَقِيسًا فِي نَذِيرٍ لِأَنَّهُ مِنْ أَنْذَرَ، وَلَعَلَّ مُحَسِّنَ الْعَدْلِ فِيهِ كَوْنُهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسُوغُ فِي الْكَلِمَةِ مَعَ الِاجْتِمَاعِ مَعَ مَا يُقَابِلُهَا مَا لَا يَسُوغُ فِيهَا لَوِ انْفَرَدَتْ، كَمَا قَالُوا: أَخَذَهُ مَا قَدَّمَ وَمَا حَدَثَ وشبهه.
وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ: قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ. وقرأ أبي:
(١) سورة الحجر: ١٥/ ١٥. [.....]
588
وَمَا تُسْأَلُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَنْ تُسْأَلَ، وَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ. فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى، وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيَتَعَيَّنُ فِيهَا الِاسْتِئْنَافُ، وَالْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَنَّكَ لَا تُسْأَلُ عَنِ الْكُفَّارِ مَا لَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَيْكَ، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «١»، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «٢»، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ «٣». وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَخْفِيفُ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنْ عِنَادِهِمْ، فكأنه قيل: لست مسؤولا عَنْهُمْ، فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُمْ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِ أَحَدٍ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى»
. وَأَمَّا الْحَالُ فَعَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْحَالِ، أي وغير مسؤول عَنِ الْكُفَّارِ مَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَيَكُونُ قَيْدًا فِي الْإِرْسَالِ، بِخِلَافِ الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ: وَلَا تَسْأَلْ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَجَزْمِ اللَّامِ، وَذَلِكَ عَلَى النَّهْيِ، وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ نَهْيٌ حَقِيقَةً، نُهِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ»، فَنَزَلَتْ
، وَاسْتُبْعِدَ فِي الْمُنْتَخَبِ هَذَا، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمَا. وَقَدْ ذَكَرَ عِيَاضٌ أَنَّهُمَا أُحْيِيَا لَهُ فَأَسْلَمَا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَهُ فِي زِيَارَتِهِمَا، وَاسْتُبْعِدَ أَيْضًا ذَلِكَ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَكَفَرُوا عِنَادًا، وَأَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى إِلَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِانْقِطَاعِ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ نَهْيًا حَقِيقَةً، بَلْ جَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ تَعْظِيمِ مَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكُفْرِ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ حَالُ فُلَانٍ، إِذَا كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ، فَيُقَالُ لَكَ: لَا تَسْأَلْ عَنْهُ. وَوَجْهُ التَّعْظِيمِ:
أَنَّ الْمُسْتَخْبِرَ يَجْزَعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا ذَلِكَ الشَّخْصُ فِيهِ لِفَظَاعَتِهِ، فَلَا تَسْأَلْهُ وَلَا تُكَلِّفْهُ مَا يُضْجِرُهُ، أَوْ أَنْتَ يَا مُسْتَخْبِرُ لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِمَاعِ خَبَرِهِ لِإِيحَاشِهِ السَّامِعَ وَإِضْجَارِهِ، فَلَا تَسْأَلْ، فَيَكُونُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ: إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجِيبِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجَابِ، وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ حَقِيقَةُ النَّهْيِ.
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ:
رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى طَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم الْهُدْنَةَ، وَوَعَدُوهُ أَنْ يَتَّبِعُوهُ بَعْدَ مُدَّةٍ خِدَاعًا مِنْهُمْ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى سِرِّ خِدَاعِهِمْ، فَنَزَلَتْ نَفَى اللَّهُ رضاهم عنه إلا بمتابعته دِينِهِمْ
، وَذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُمْ
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٨.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ٥٦.
(٣) سورة الرعد: ١٣/ ٧.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٤.
589
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُهَا، لَا يُطْمَعُ فِي إِسْلَامِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَلَنْ تَرْضى خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَّقَ رِضَاهُمْ عَنْهُ بِأَمْرٍ مُسْتَحِيلِ الْوُقُوعِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ اتِّبَاعُ مِلَّتِهِمْ. وَالْمُعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ مُسْتَحِيلٌ، سَوَاءٌ فَسَّرْنَا الْمِلَّةَ بِالشَّرِيعَةِ، أَوْ فَسَّرْنَاهَا بِالْقِبْلَةِ، أَوْ فَسَّرْنَاهَا بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لَهُ، وَهُوَ تَأْدِيبٌ لِأُمَّتِهِ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَدْرَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِيَتَأَدَّبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَا يُوَالُونَ الْكَافِرِينَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُرْضِيهِمْ مِنْهُمْ إِلَّا اتِّبَاعُ دِينِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يُمْكِنُ مَا خُوطِبَ بِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ، فَيُصْرَفُ ذَلِكَ إِلَى مَنْ يُمْكِنُ ذَلِكَ مِنْهُ، مِثْلُ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «١»، وَيَكُونُ تَنْبِيهًا مِنَ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُخَادِعُونَكُمْ بِمَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْمَيْلِ وَطَلَبِ الْمُهَادَنَةِ وَالْوَعْدِ بِالْمُوَافَقَةِ، وَلَا يَقَعُ رِضَاهُمْ إِلَّا بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِمْ. وَوُحِّدَتِ الْمِلَّةُ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مِلَّتَانِ، لِأَنَّهُمَا يَجْمَعُهُمَا الْكُفْرُ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، أَوْ لِلْإِيجَازِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ فِي الضَّمِيرِ، نَظِيرُ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «٢»، لِأَنَّ الْمَعْلُومَ أَنَّ النَّصَارَى لَنْ تَرْضَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، وَالْيَهُودَ لَنْ تَرْضَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكُفْرِ، أَهُوَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ مِلَلٌ؟ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الِارْتِدَادِ مِنْ مِلَّةٍ إِلَى مِلَّةٍ، وَفِي الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ.
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى: أَمَرَهُ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِأَنَّ هُدَى اللَّهِ، أَيِ الَّذِي هُوَ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، هُوَ الْهُدَى، أَيِ النَّافِعُ التَّامُّ الَّذِي لَا هُدَى وَرَاءَهُ، وَمَا أُمِرْتُمْ بِاتِّبَاعِهِ هُوَ هَوًى لَا هُدًى، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ «٣». وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِأَنْ وَبِالْفَصْلِ الَّذِي قَبْلُ، فَدَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ، وَجَاءَ الْهُدَى مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَهُوَ مِمَّا قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، فَإِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ الْعَالِمُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ وَالْمَحْصُورُ فِيهِ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ إِنَّمَا هِيَ أَهْوَاءٌ وَضَلَالَاتٌ نَاشِئَةٌ عَنْ شَهَوَاتِهِمْ وَمُيُولِهِمْ، فَقَالَ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ: وَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَلَنْ تَرْضى. وَاللَّامُ فِي لَئِنْ تُسَمَّى الْمُوطِئَةَ وَالْمُؤْذِنَةَ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ يُبْنَى مَا بَعْدَ الشَّرْطِ عَلَى القسم
(١) سورة الزمر (٣٩)، آية رقم: ٦٥.
(٢) سورة البقرة (٢) آية رقم: ١٣٥.
(٣) سورة القصص (٢٨)، آية رقم: ٥٠.
590
لَا عَلَى الشَّرْطِ، إِذْ لَوْ بُنِيَ عَلَى الشَّرْطِ لَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: مَا لَكَ. وَالْأَهْوَاءُ: جَمْعُ هَوًى، وَكَانَ الْجَمْعُ دَلِيلًا عَلَى كَثْرَةِ اخْتِلَافِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ لَكَانَ طَرِيقًا وَاحِدًا، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «١». وَأَضَافَ الْأَهْوَاءَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهَا بِدَعُهُمْ وَضَلَالَاتُهُمْ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَصْحَابُ الْبِدَعِ: أَرْبَابَ الْأَهْوَاءِ. بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ: أي من الدِّينِ وَجَعَلَهُ عِلْمًا، لِأَنَّهُ معلوم بالبراهين الصحيحة، قالوا: وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الشَّيْءَ، يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ بِالْوَعِيدِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّارِفُ لَهُ ذَلِكَ الْوَعِيدَ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ أَحَدَ الصَّوَارِفِ، وَنَظِيرُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. وَمِنْهَا، أَنَّ قَوْلَهُ: بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَعِيدُ إِلَّا بَعْدَ الْمَعْذِرَةِ أَوَّلًا، فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. وَمِنْهَا: أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى بَاطِلٌ، فَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ. وَقَدْ فُسِّرَ الْعِلْمُ هُنَا بِالْقُرْآنِ، وَبِالْعِلْمِ بِضَلَالِ الْقَوْمِ، وَبِالْبَيَانِ بِأَنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَبِالتَّحَوُّلِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَفِي قَوْلِهِ:
مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، قَطْعٌ لِأَطْمَاعِهِمْ أَنْ تَتِّبَعَ أهواؤهم، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُ وَلَا نَصِيرَ يَنْفَعُهُ إِذَا ارْتَكَبَ شَيْئًا كَانَ أَبْعَدَ فِي أَنْ لَا يَرْتَكِبَهُ، وَذَلِكَ إِيَاسٌ لَهُمْ فِي أَنْ يَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ أَحَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ في أَهْلِ السَّفِينَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةً مِنْ رُهْبَانِ الشَّامِ. وَقِيلَ: كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ، وَمِنَ الرُّومِ، وَثَمَانِيَةٌ مَلَّاحُونَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ أَقْبَلُوا مَعَ جَعْفَرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ، كَابْنِ سَلَامٍ، وَابْنِ صُورِيَا، وَابْنِ يَامِينَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَأَحْبَارِ النَّصَارَى. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ:
الصَّحَابَةُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، يَتَنَزَّلُ الِاخْتِلَافُ فِي الْكِتَابِ، أَهُوَ التَّوْرَاةُ أَوِ الْإِنْجِيلُ؟ أَوْ هُمَا وَالْقُرْآنُ؟ أَوِ الْجِنْسُ؟ فَيَكُونُ يَعْنِي بِهِ الْمَكْتُوبَ، فَيَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ. يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ: أي يقرأونه وَيُرَتِّلُونَهُ بِإِعْرَابِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَتَّبِعُونَ أَحْكَامَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيَكِلُونَ مُتَشَابِهَهُ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ عُمَرُ: يَسْأَلُونَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَسْتَعِيذُونَ مِنْ عَذَابِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يُحَرِّفُونَهُ وَلَا يُغَيِّرُونَ مَا فِيهِ مِنْ نَعْتِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالَّذِينَ: مُبْتَدَأٌ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ فِي مَنِ اهْتَدَى، صَحَّ أن يكون
(١) سورة النساء: ٤/ ٨٢.
591
يَتْلُونَهُ خَبَرًا عَنْهُ، وَصَحَّ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً إِمَّا مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ، وَإِمَّا مِنَ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُمْ وَقْتَ الْإِيتَاءِ لَمْ يَكُونُوا تَالِينَ لَهُ، وَلَا كَانَ هُوَ مَتْلُوًّا لَهُمْ، وَيَكُونَ الْخَبَرُ إِذْ ذَاكَ فِي الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَجُوَّزَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ يَتْلُونَهُ خَبَرًا، وأولئك وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. قَالَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَقْتَضِي الْمُبْتَدَأُ الْوَاحِدُ خبرين؟ ألم لَا يَقْتَضِي إِلَّا إِذَا كَانَ فِي مَعْنَى خَبَرٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِمْ: هَذَا حُلْوٌ حَامِضٌ، أَيْ مَزٌّ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ. وَإِنْ أُرِيدَ بالذين آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ الْعُمُومُ، كَانَ الْخَبَرُ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، قَالُوا، وَمِنْهُمُ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتْلُونَهُ حَالٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا، وَفِيهَا الْفَائِدَةُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَتْلُو الْكِتَابَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فَسَّرْتَ التِّلَاوَةَ. وَنَقُولُ: مَا لَزِمَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ جَعْلِهَا خَبَرًا، يَلْزَمُ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَكُونُ عَلَى حَالَةِ التِّلَاوَةِ بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فَسَّرْتَهَا. وَانْتَصَبَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ عَلَى الْمَصْدَرِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا حَقَّ ضَرْبِهِ، وَأَصْلُهُ تِلَاوَةً حَقًّا. ثُمَّ قُدِّمَ الْوَصْفُ، وَأُضِيفَ إِلَى الْمَصْدَرِ، وَصَارَ نَظِيرَ: ضَرَبْتُ شَدِيدَ الضَّرْبِ، إِذْ أَصْلُهُ: ضَرْبًا شَدِيدًا. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ يَتْلُونَهُ مُحِقِّينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَقُّ مَصْدَرٌ وَالْعَامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، وَهُوَ بِمَعْنًى، وَلَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى وَاحِدٍ معرّف، وإنما جازت عنا لِأَنَّ تَعَرُّفَ التِّلَاوَةِ بِإِضَافَتِهَا إِلَى الضَّمِيرِ لَيْسَ بِتَعَرُّفٍ مَحْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ وَاحِدُ أُمِّهِ، وَنَسِيجُ وَحْدِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ:
ظَاهِرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ يَعُودُ إِلَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي يَتْلُونَهُ، وَهُوَ الْكِتَابُ، عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْكِتَابِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لَكِنْ دَلَّتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ، لَكِنْ صَارَ ذَلِكَ الْتِفَاتًا وَخُرُوجًا مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْتِفَاتًا أَيْضًا وَخُرُوجًا مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ الْمُفْرَدِ. قال ابن عطية: ويحتمل عِنْدِي أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْهُدَى الَّذِي تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ كُفَّارَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْآيَةِ، وَحَذَّرَ رَسُولَهُ مِنِ اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى الَّذِي أَعْطَاهُ وَبَعَثَهُ بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ التَّالِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ الْهُدَى الْمُقْتَدُونَ بِأَنْوَارِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَا ذُكِرَ. لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْكِتَابِ لِتَتَنَاسَبَ الضَّمَائِرُ وَلَا تَخْتَلِفَ، فَيَحْصُلَ التَّعْقِيدُ فِي اللَّفْظِ، وَالْإِلْبَاسُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ جَعْلُ الضَّمَائِرِ الْمُتَنَاسِبَةِ عَائِدَةً عَلَى وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى فِيهَا جَيِّدٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، كَانَ
592
أَوْلَى مِنْ جَعْلِهَا مُتَنَافِرَةً، وَلَا نَعْدِلُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِصَارِفٍ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، إِمَّا لَفْظِيٍّ، وَإِمَّا مَعْنَوِيٍّ، وَإِلَى عَوْدِهِ عَلَى الْكِتَابِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا فِيهِ في الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قُلْنَاهُ، أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَمْ يُعَادِلْ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فِي التَّرْكِيبِ الْخَبَرِيِّ غَيْرِ الشَّرْطِيِّ أَوِ الشَّرْطِيِّ. بَلْ قَصَدَ فِي الْأُولَى إِلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ عَلَيْهِ، وَدَلَّ مُقَابَلَةُ الْخُسْرَانِ عَلَى رِبْحِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَفَوْزِهِ وَوُفُورِ حَظِّهِ عِنْدَ اللَّهِ، فَاكْتَفَى بِثُبُوتِ السَّبَبِ عَنْ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ. وَقَصَدَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِ السَّبَبِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْ تَعَاطِي السَّبَبِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسَبَّبِ الَّذِي هُوَ الْخُسْرَانُ وَنَقْصُ الْحَظِّ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ حُمِلَ فِيهَا الشَّرْطُ عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَالْجَزَاءُ عَلَى معناها. وهم: مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَأَنْ يَكُونَ فَصْلًا. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ فِي ذَلِكَ تَوْكِيدٌ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ هَذَا الْوَصْفُ، هُوَ الْقُرْآنُ. وَأُولَئِكَ: الْأَوْلَى عَائِدَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالثَّانِيَةُ عَائِدَةٌ عَلَى الْكُفَّارِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، أَنَّ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا ذَمَّ طَرِيقَتَهُمْ وَحَكَى سُوءَ أَفْعَالِهِمْ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَدْحِ مَنْ تَرَكَ طَرِيقَتَهُمْ، بِأَنْ تَأَمَّلَ التَّوْرَاةَ وَتَرَكَ تَحْرِيفَهَا، وَعَرَفَ مِنْهَا صحة نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى. وَالتِّلَاوَةُ لَهَا مَعْنَيَانِ: الْقِرَاءَةُ لَفْظًا، وَالِاتِّبَاعُ فِعْلًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ التِّلَاوَةِ هُنَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كُلِّ تِلْكَ الْوُجُوهِ، لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ فِي الْمَفْهُومِ، وَهُوَ أَنَّ بَيْنَهَا كُلِّهَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ. يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: كَرَّرَ نِدَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَا، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعَمِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ أَعْقَبَ ذَلِكَ النِّدَاءَ ذِكْرَ نِدَاءٍ ثَانٍ يَلِي ذِكْرَ الطَّائِفَتَيْنِ مُتَّبِعِي الْهُدَى وَالْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ. وَهَذَا النِّدَاءُ أَعْقَبَ ذكر تينك الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَكَانَ مَا بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ قَصَصُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا صَدَرَ مِنْهُمْ، مِنْ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِمَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، مِنَ الْمُخَالَفَاتِ وَالْكَذِبِ وَالتَّعَنُّتَاتِ، وَمَا جُوزُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى ذَلِكَ، وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَحْشُوًّا بَيْنَ التَّذْكِيرَيْنِ وَمَجْعُولًا بَيْنَ الْوَعْظَيْنِ وَالتَّخْوِيفَيْنِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ أَنْ تَأْمُرَ شَخْصًا بِشَيْءٍ عَلَى جِهَةِ الْإِجْمَالِ، ثُمَّ تُفَصِّلَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ عَدِيدَةٍ، وَأَنْتَ تَسْرُدُهَا لَهُ سَرْدًا، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا هِيَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ ذَلِكَ الْأَمْرِ السَّابِقِ. وَيَطُولُ بِكَ الْكَلَامُ
593
حَتَّى تَكَادَ تَتَنَاسَى مَا سَبَقَ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَتُعِيدَهُ ثَانِيَةً، لِتَتَذَكَّرَ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَتَصِيرَ تِلْكَ التَّفْصِيلَاتُ مَحْفُوفَةً بِالْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِهِمَا. وَلَمْ تَخْتَلِفْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ تِلْكَ السَّابِقَةِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ هُنَاكَ: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ «١»، وَقَالَ هُنَا: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ مَا نَاسَبَ تَقْدِيمَ الشَّفَاعَةِ هُنَاكَ عَلَى الْعَدْلِ، وَتَأْخِيرَهَا هُنَا عَنْهُ، وَنِسْبَةَ الْقَبُولِ هُنَاكَ لِلشَّفَاعَةِ، وَالنَّفْعَ هُنَا لَهَا، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ الْإِخْبَارَ عَنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ مِمَّنْ عَطَّلَ بُيُوتَ اللَّهِ مِنَ الذِّكْرِ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، مَعَ أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى اللَّهِ، وَهِيَ مَحَالُّ ذِكْرِهِ وَإِيوَاءِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا إِلَّا وَهُمْ وَجِلُونَ خَائِفُونَ، مُتَذَكِّرُونَ لِمَنْ بُنِيَتْ، وَلِمَا يُذْكَرُ فِيهَا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ لِأُولَئِكَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ الْعَظِيمَ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ تَعَالَى الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، فَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ الْمَسَاجِدُ، وَأَيُّ جِهَةٍ قَصَدْتُمُوهَا فَاللَّهُ تَعَالَى حَاوِيهَا وَمَالِكُهَا، فَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِحَيِّزٍ وَلَا مَكَانٍ. وَخَتَمَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِالْوُسْعِ الْمُنَافِي لِوُسْعِ الْمَقَادِيرِ، وَبِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْإِحَاطَةِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَفْظَعِ مَقَالَةٍ، وَهِيَ نِسْبَةُ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَنَزَّهَ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ من في السموات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ، خَاضِعُونَ طَائِعُونَ. ثُمَّ ذَكَرَ بَدَاعَةَ السموات وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا مِثَالَ لَهُمَا، فَكَذَلِكَ الْفَاعِلُ لَهُمَا، لَا مِثَالَ لَهُ. فَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْوَلَدَ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ، وَالْبَارِئُ لَا شَيْءَ يُشْبِهُهُ، فَلَا وَلَدَ لَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مَتَى تَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يُحْدِثَهُ، فَلَا تَأَخُّرَ لَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى نَفْيِ الْوَلَدِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ تَوَالُدٍ، وَيَقْتَضِي إِلَى تَعَاقُبِ أَزْمَانٍ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَوْعًا مِنْ مَقَالَاتِهِمُ الَّتِي تَعَنَّتُوا بِهَا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ، مِنْ طَلَبِ كَلَامِهِ وَمُشَافَهَتِهِ إِيَّاهُمْ، أَوْ نُزُولِ آيَةٍ. وَقَدْ نَزَلَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَلَمْ يُصْغُوا إِلَيْهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ اقْتَفَوْا بِهَا آثَارَ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ، وَأَنَّ أَهْوَاءَهُمْ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَعَنُّتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ الْآيَاتِ وَأَوْضَحَهَا، لَكِنْ لِمَنْ لَهُ فِكْرٌ فَهُوَ يُوقِنُ بِصِحَّتِهَا وَيُؤْمِنُ بِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَهُ بَشِيرًا لِمَنْ آمَنَ بِالنَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ وَالظَّفَرِ فِي الدُّنْيَا، وَنَذِيرًا لِمَنْ كَفَرَ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا تَهْتَمَّ بِمَنْ خُتِمَ لَهُ بِالشَّقَاوَةِ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَا تَغْتَمَّ بِعَدَمِ إِيمَانِهِ، فَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَعْذَرْتَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا عَلَيْهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ شِدَّةِ تَعَامِيهِمْ عن الحق،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٤٨.
594
بِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَنْكَ حَتَّى تُخَالِفَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْهُدَى الَّذِي هُوَ هُدَى اللَّهِ، إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مِلَّةِ الْكُفْرِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مُتَّبِعَ أَهْوَائِهِمْ بَعْدَ وُضُوحِ مَا وَافَاهُ مِنَ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، لَا أَحَدَ يَنْصُرُهُ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَأَنَّ الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكِتَابَ وَاصْطَفَاهُمْ لَهُ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ، وَيَتَتَبَّعُونَ مَعَانِيَهُ، فَهُمْ مُصَدِّقُونَ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا غَابَ عَنْهُمْ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ اسْتِفَادَتُهُ إِلَّا مِنْهُ، مِنْ خَبَرٍ مَاضٍ أَوْ آتٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَأَنَّ مَنْ كَفَرَ بِهِ حَقَّ عَلَيْهِ الْخُسْرَانُ.
ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ السَّابِقَةِ، وَتَفْضِيلِهِمْ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ، وَكَانَ ثَالِثَ نِدَاءٍ نُودِيَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَبِيهِمُ الْأَعْلَى، وَتَشْرِيفِهِمْ بِوِلَادَتِهِمْ مِنْهُ. ثُمَّ أَعْرَضَ فِي مُعْظَمِ الْقُرْآنِ عَنْ نِدَائِهِمْ بِهَذَا الِاسْمِ، وَطَمَسَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ نُورِ هَذَا الْوَسْمِ، وَالثَّلَاثُ هِيَ مَبْدَأُ الْكَثْرَةِ، وَقَدِ اهْتَمَّ بِكَ مَنْ نَبَّهَكَ وَنَادَاكَ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً:
لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تنادي
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٤ الى ١٣١]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١)
595
إِبْرَاهِيمُ: اسْمُ عَلَمٍ أَعْجَمِيٍّ. قِيلَ: وَمَعْنَاهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ قَبْلَ النَّقْلِ إِلَى الْعَلَمِيَّةِ: أَبٌ رَحِيمٌ، وَفِيهِ لُغًى سِتٌّ: إِبْرَاهِيمُ بِأَلِفٍ وَيَاءٍ وَهِيَ الشَّهِيرَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ، وَبِأَلِفٍ مَكَانَ الْيَاءِ، وَبِإِسْقَاطِ الْيَاءِ مَعَ كَسْرِ الْهَاءِ، أَوْ فَتْحِهَا، أَوْ ضَمِّهَا، وَبِحَذْفِ الْأَلِفِ وَالْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ:
نَحْنُ آلُ اللَّهِ فِي كَعْبَتِهِ لَمْ نَزَلْ ذَاكَ عَلَى عَهْدِ إبراهيم
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَهِمُ إِذْ قَالَ وَجْهِي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ
الْإِتْمَامُ: الْإِكْمَالُ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ. ثُمَّ الشَّيْءُ يَتِمُّ: كَمُلَ، وَهُوَ ضِدُّ النَّقْصِ.
الْإِمَامُ: الْقُدْوَةُ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِخَيْطِ الْبِنَاءِ: إِمَامٌ، وَلِلطَّرِيقِ: إِمَامٌ، وَهُوَ مُفْرَدٌ عَلَى فِعَالٍ، كَالْإِزَارِ لِلَّذِي يُؤْتَزَرُ بِهِ، وَيَكُونُ جَمْعَ آمٍّ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَمَّ يَؤُمُّ، كَجَائِعٍ وَجِيَاعٍ، وَقَائِمٍ وَقِيَامٍ، وَنَائِمٍ وَنِيَامٍ. الذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ ذَرَوْتُ، أَوْ ذَرَيْتُ، أَوْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، أَوِ الذَّرَّ. وَيُضَمُّ ذَالُهَا، أَوْ يُكْسَرُ، أَوْ يُفْتَحُ. فَأَمَّا الضَّمُّ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ذُرِّيَّةٌ، فعلية مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَأَصْلُهُ ذُرِّيئَةٌ، فَخُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ بِإِبْدَالِهَا يَاءً، كَمَا خَفَّفُوا هَمْزَةَ النَّسِيءِ فَقَالُوا:
النَّسِيُّ، ثُمَّ أَدْغَمُوا الْيَاءَ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ الَّتِي هِيَ لِلْمَدِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فُعُولَةً مِنْ ذَرَوْتُ، الْأَصْلُ ذُرُووَةٌ، أُبْدِلَتْ لَامُ الْفِعْلِ يَاءً. اجْتَمَعَ لَكَ وَاوٌ وَيَاءٌ وَاوُ الْمَدِّ وَالْيَاءُ الْمُنْقَلِبَةُ عَنِ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ، وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ وَاوُ الْمَدِّ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ الْيَاءَ تَطْلُبُ الْكَسْرَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فعلية مَنْ ذَرَرْتُ، أَصْلُهَا ذُرَّيْوَةٌ، اجْتَمَعَتْ يَاءُ الْمَدِّ وَالْوَاوُ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ يَاءُ الْمَدِّ فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فُعُولَةً أَوْ فُعَيْلَةً مِنْ ذَرَيْتُ لُغَةٌ فِي ذَرَوْتُ، فَأَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ فُعُولَةً ذُرُويَةً، وَإِنْ كَانَ فُعَيْلَةً ذُرَيْيَةً، ثُمَّ أُدْغِمَ. ويجوز أن تكون فعيلة مِنَ الذَّرِّ مَنْسُوبَةً، أَوْ فِعْلِيَّةً مِنَ الذَّرِّ غَيْرَ منسوبة، أو فعلية، كَمَرِيقَةً، أَوْ فُعُّولٌ، كَسُبُّوحٍ وَقُدُّوسٍ، أَوْ فَعْلُولَةٌ، كَقَرْدُودَةِ الظَّهْرِ، فَضُمَّ أَوَّلُهَا إِنْ كَانَ اسْمًا، كَقُمْرِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْسُوبَةً، كَمَا قَالُوا فِي النَّسَبِ إِلَى الدَّهْرِ: دُهْرِيٌّ، وَإِلَى السَّهْلِ، سُهْلِيٌّ. وأصل فعلية مِنَ الذَّرِّ: ذَرِيرَةٌ،
596
وَفَعُولَةٌ مِنَ الذَّرِّ: ذَرُورَةٌ، وَكَذَلِكَ فَعْلُولَةٌ، أُبْدِلَتِ الرَّاءُ الْآخِرَةُ فِي ذَلِكَ يَاءً كَرَاهَةَ التَّضْعِيفِ، كَمَا قَالُوا فِي تَسَرَّرْتُ تَسَرَّيْتُ. وَأَمَّا مَنْ كَسَرَ ذَالَ ذُرِّيَّةٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فَعِيلَةً مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، كَبِطِّيخَةٍ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً، وَأُدْغِمَتْ فِي يَاءِ الْمَدِّ، أَوْ فِعْلِيَّةً مِنَ الذَّرِّ مَنْسُوبَةٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، أَوْ فِعِّيلَةً مِنَ الذَّرِّ أَصْلُهُ ذَرِيرَةٌ، أَوْ فِعْلِيلٌ، كَحِلْتِيتٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ ذِرْيِوَةً مِنْ ذَرَوْتُ، أَوْ فِعِيلَةً ذِرِيئَةً مِنْ ذَرَيْتُ. وَأَمَّا مَنْ فَتَحَ ذَالَ ذرية، فيحتمل أن تكون فَعِيلَةً مِنْ ذَرَأَ، مِثْلَ سَكِينَةٍ، أَوْ فَعُولَةً مِنْ هَذَا أَيْضًا، كَخَرُوبَةٍ. فَالْأَصْلُ ذَرُوءَةٌ، فَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً بَدَلًا مَسْمُوعًا، وَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تكون فِعْلِيَّةً مِنَ الذَّرِّ غَيْرَ مَنْسُوبَةٍ، كَبَرْنِيَّةٍ، أَوْ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الذَّرِّ، أَوْ فَعُولَةٍ، كَخَرُوبَةٍ مِنَ الذَّرِّ أَصِلُهَا ذَرُورَةٌ، فَفُعِلَ بِهَا مَا تَقَدَّمَ، أَوْ فَعْلُولَةً، كَبَكُّولَةٍ، فَالْأَصْلُ ذَرُورَةٌ أَيْضًا، أَوْ فَعِيلَةً، كَسَكِينَةٍ ذَرِيرَةٍ، فَقَلَبَتِ الرَّاءُ يَاءً فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَرَوْتُ فَعِيلَةً، كَسَكِينَةٍ، فَالْأَصْلُ ذَرِيوَةٌ، أَوْ مِنْ ذُرَيْتُ ذَرِييَةٌ، أَوْ فُعُولَةٌ مِنْ ذَرَوْتُ أَوْ ذَرَيْتُ. وَأَمَّا مَنْ بَنَاهَا عَلَى فَعْلَةٍ، كَجَفْنَةٍ، وَقَالَ ذُرِّيَّةً، فَإِنَّهَا مِنْ ذُرِّيَتْ. النَّيْلُ: الْإِدْرَاكُ. نِلْتُ الشَّيْءَ أَنَالُهُ نَيْلًا، وَالنَّيْلُ: الْعَطَاءُ. الْبَيْتُ:
مَعْرُوفٌ، وَصَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكَعْبَةِ، كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا. الْأَمْنُ: مَصْدَرُ أَمِنَ يَأْمَنُ، إِذَا لَمْ يَخَفْ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ. الْمَقَامُ: مَفْعَلٌ مِنَ الْقِيَامِ، يَحْتَمِلُ الْمَصْدَرَ وَالزَّمَانَ وَالْمَكَانَ.
إِسْمَاعِيلُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عَلَمٌ، وَيُقَالُ إِسْمَاعِيلُ بِاللَّامِ وَإِسْمَاعِينُ بِالنُّونِ، قَالَ:
قَالَ جِوَارِي الْحَيِّ لَمَّا جِينَا هَذَا وَرَبِّ الْبَيْتِ إِسْمَاعِينَا
ومن غريب ما قيل فِي التَّسْمِيَةِ بِهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَدْعُو أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ وَلَدًا وَيَقُولُ:
اسْمَعْ إِيلُ، وَإِيلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. التَّطْهِيرُ: مَصْدَرُ طَهَّرَ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ. يُقَالُ: طَهَّرَ الشَّيْءَ طَهَارَةً: نطف. الطَّائِفُ: اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ طَافَ بِهِ إِذَا دَارَ بِهِ، وَيُقَالُ أَطَافَ: بِمَعْنَى طَافَ، قَالَ:
أَطَافَتْ بِهِ جِيلَانُ عِنْدَ فِطَامِهِ وَالْعَاكِفُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَكَفَ بِالشَّيْءِ: أَقَامَ بِهِ وَلَازَمَهُ، قَالَ:
عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبُهُ عُكُوفَا وَقَالَ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ: أَيْ يُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا. الْبَلَدُ: مَعْرُوفٌ، وَالْبَلَدُ الصَّدْرُ، وَبِهِ سُمِّيَ الْبَلَدُ لِأَنَّهُ صَدْرُ الْقُرَى. يُقَالُ: وَضَعَتِ النَّاقَةُ بَلْدَتَهَا إِذَا بَرَكَتْ. وَقِيلَ:
597
سُمِّيَ الْبَلَدُ بِمَعْنَى الْأَثَرِ، وَمِنْهُ قِيلَ بَلِيدٌ لِتَأْثِيرِ الْجَهْلِ فِيهِ، وَمِنْهُ قِيلَ البركة الْبَعِيرِ بَلْدَةٌ لِتَأْثِيرِهَا فِي الْأَرْضِ إِذَا بَرَكَتْ، قَالَ:
أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً بَعْدَ بَلْدَةٍ قَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامُهَا
وَالْبَارِكُ: الْبَارِكُ بِالْبَلَدِ. الِاضْطِرَارُ: هُوَ الْإِلْجَاءُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ الضُّرِّ، أَصْلُهُ: اضْتِرَارُ، أُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً بَدَلًا لَازِمًا، وَفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ، وَعَلَى ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ:
اضْطَرَّكَ الْحِرْزُ مِنْ سَلْمَى إِلَى أَجَأٍ الْمَصِيرُ: مَفْعِلٌ مِنْ صَارَ يَصِيرُ، فَيَكُونُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَقِيَاسُهُ مَفْعَلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، لِأَنَّ مَا كُسِرَتْ عَيْنُ مُضَارِعِهِ فَقِيَاسُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، لَكِنَّ النَّحْوِيِّينَ اخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ عَيْنُهُ يَاءً مِنْ ذَلِكَ عَلَى ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كَالصَّحِيحِ، فَيُفْتَحُ فِي الْمَصْدَرِ وَيُكْسَرُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى السَّمَاعِ، فَمَا فَتَحَتْ فِيهِ الْعَرَبُ فَتَحْنَا، وَمَا كَسَرَتْ كَسَرْنَا. وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى. الْقَوَاعِدُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: هِيَ الْجُدُرُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَسَاسُ، قَالَ:
فِي ذروة من بقاع أَوَّلُهُمْ زَانَتْ عَوَالِيَهَا قَوَاعِدُهَا
وَبِالْأَسَاسِ فَسَّرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ أَوَّلًا وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ: هِيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ، وَمَعْنَاهَا الثَّانِيَةُ، وَمِنْهُ قَعَّدَكَ اللَّهُ، أَيْ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُقْعِدَكَ، أَيْ يُثَبِّتَكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ جَمْعُ قَاعِدٍ، وَهِيَ الَّتِي قَعَدَتْ عَنِ الْوَلَدِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى كَوْنِ قَاعِدٍ لَمْ تَأْتِ بِالتَّاءِ فِي مَكَانِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ، وَهُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَالْوَاحِدِ الْمُعَظَّمِ الْمَتْبُوعِ، وَالْمُنْفَرِدِ فِي الْأَمْرِ وَالدِّينِ وَالْحِينِ. وَالْأُمُّ: هَذِهِ أُمَّةُ زَيْدٍ، أَيْ أُمُّهُ، وَالْقَامَةُ وَالشَّجَّةُ الَّتِي تَبْلُغُ أُمَّ الدِّمَاغِ، وَأَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَالطَّرِيقَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَالْجِيلُ.
الْمَنَاسِكُ: جَمْعُ مَنْسَكٍ وَمَنْسِكٍ، وَالْكَسْرُ فِي سِينِ مَنْسِكٍ شَاذٌّ، لِأَنَّ اسْمَ الْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مِنْ يَفْعُلُ بِضَمِّ الْعَيْنِ، أَوْ فَتْحِهَا مَفْعَلٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ إِلَّا مَا شَذَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالنَّاسِكُ:
الْمُتَعَبِّدُ. الْبَعْثُ: الْإِرْسَالُ، وَالْإِحْيَاءُ، وَالْهُبُوبُ مِنَ النَّوْمِ. الْعَزِيزُ، يُقَالُ: عَزَّ يَعُزُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ، أَيْ غَلَبَ، وَمِنْهُ: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ، وَعَزَّ يَعَزُّ بِفَتْحِهَا، أَيِ اشْتَدَّ، وَمِنْهُ: عَزَّ عَلَيَّ هَذَا الْأَمْرُ، أَيْ شَقَّ، وَتَعَزَّزَ لَحْمُ النَّاقَةِ: اشْتَدَّ. وَعَزَّ يَعِزُّ مِنَ النَّفَاسَةِ، أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ، أَوْ قَلَّ نَظِيرُهُ. الرَّغْبَةُ عَنِ الشَّيْءِ: الزَّهَادَةُ فِيهِ، وَالرَّغْبَةُ فِيهِ: الْإِيثَارُ لَهُ وَالِاخْتِيَارُ لَهُ، وَأَصْلُ الرَّغْبَةِ:
598
الطَّلَبُ. الِاصْطِفَاءُ: الِانْتِجَابُ وَالِاخْتِيَارُ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الصَّفْوِ، وَهُوَ الْخَالِصُ مِنَ الْكَدَرِ وَالشَّوَائِبِ، أُبْدِلَتْ مِنْ تَائِهِ طَاءٌ، كَانَ ثُلَاثِيُّهُ لَازِمًا. صَفَا الشَّيْءُ يَصْفُو، وَجَاءَ الِافْتِعَالُ مِنْهُ مُتَعَدِّيًا، وَمَعْنَى الِافْتِعَالِ هُنَا: التَّخَيُّرُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لِافْتَعَلَ.
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْكَعْبَةِ وَالْقِبْلَةِ، وَأَنَّ الْيَهُودَ عَيَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ بِتَوَجُّهِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ وَتَرْكِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا قَالَ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ «١»، ذَكَرَ حَدِيثَ إِبْرَاهِيمَ وَمَا ابْتَلَاهُ بِهِ اللَّهُ، وَاسْتَطْرَدَ إِلَى ذِكْرِ الْبَيْتِ وَكَيْفِيَّةِ بِنَائِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِشَرْعِهِ، وَاقْتِفَاءً لِآثَارِهِ. فَكَانَ تَعْظِيمُ الْبَيْتِ لَازِمًا لَهُمْ، فَنَبَّهَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَلَى سُوءِ اعْتِمَادِهِمْ، وَكَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِمْ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ سُنَنِ مَنْ يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ نَسْلِهِ، لَا يَنَالُونَ لِظُلْمِهِمْ شَيْئًا مِنْ عَهْدِهِ، وَإِذِ الْعَامِلُ فِيهِ عَلَى مَا ذكروا محذوف، وقد رواه: اذْكُرْ، أَيِ اذْكُرَا إِذِ ابْتُلِيَ إِبْرَاهِيمُ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، أَوْ إِذِ ابْتَلَاهُ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ «٢»، وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ مَلْفُوظًا بِهِ، وَهُوَ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ «٣». وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَلَّفَهُ بِأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ. وَالْبَارِي تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَمَرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاخْتِبَارُ اللَّهِ عَبْدَهُ مَجَازٌ عَنْ تَمْكِينِهِ مِنَ اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: مَا يُرِيدُ اللَّهُ، وَمَا يَشْتَهِيهِ الْعَبْدُ، كَأَنَّهُ امْتَحَنَهُ مَا يَكُونُ مِنْهُ حَتَّى يُجَازِيَهُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَفِي رَيِّ الظَّمْآنِ الِابْتِلَاءُ:
إِظْهَارُ الْفِعْلِ، وَالِاخْتِبَارُ: طَلَبُ الْخَبَرِ، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ.
وَإِبْرَاهِيمُ هُنَا، وَفِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ الْجَدُّ الْحَادِيُ وَالثَّلَاثُونَ لِنَبِيِّنَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ، ابْنُ تَارَحَ بْنِ ناجور بْنِ سَارُوغَ بْنِ أَرْغُوَ بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابَرَ، وَهُوَ هُودٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَوْلِدُهُ بِأَرْضِ الْأَهْوَازِ. وَقِيلَ: بِكُوثَى، وَقِيلَ: بِبَابِلَ، وَقِيلَ: بِنَجْرَانَ، وَنَقَلَهُ أَبُوهُ إِلَى بَابِلَ أَرْضِ نُمْرُوذَ بْنِ كَنْعَانَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللُّغَاتِ السِّتِّ فِي لَفْظِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
إِبْرَاهِيمَ بِالْأَلِفِ وَالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِخِلَافٍ عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ فِي الْبَقَرَةِ بِأَلِفَيْنِ. زَادَ هِشَامٌ أَنَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ فِي: إِبْرَاهِيمَ، وَالنَّحْلِ، وَمَرْيَمَ، وَالشُّورَى، وَالذَّارِيَاتِ، وَالنَّجْمِ، وَالْحَدِيدِ، وَأَوَّلِ الْمُمْتَحَنَةِ، وَثَلَاثِ آخِرِ النِّسَاءِ، وَأُخْرَى التَّوْبَةِ، وَآخِرِ الْأَنْعَامِ، وَالْعَنْكَبُوتِ. وَقَرَأَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٤٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٣٠.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٢٤.
599
الْمُفَضَّلُ: إِبْرَاهَامَ بِأَلِفَيْنِ، إِلَّا فِي الْمَوَدَّةِ وَالْأَعْلَى. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِبْرَاهَامَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرَةَ:
إِبْرَاهَمَ بِأَلْفٍ وَحَذْفِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ إِبْرَاهِيمَ وَرَفْعِ رَبِّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: بِرَفْعِ إِبْرَاهِيمَ وَنَصْبِ رَبِّهِ. فَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ هُوَ الرَّبُّ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى ابْتِلَائِهِ إِيَّاهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ لِلِاهْتِمَامِ بِمَنْ وَقَعَ الِابْتِلَاءُ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُبْتَلِي. وَإِيصَالُ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ بِالْفَاعِلِ مُوجِبٌ لِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَكَوْنُهُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْفَاعِلِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلِ: ضَرَبَ غُلَامُهُ زَيْدًا، وَقَالَ: وَقَاسَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ وَتَأَوَّلَ بَعْضَهُ الْجُمْهُورُ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الشُّذُوذِ. وَقَدْ طَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْكَشَّافِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُطَوَّلُ فِيهَا لِشُهْرَتِهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهَا أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ بِكَلِمَاتٍ مِنَ الدُّعَاءِ يَتَطَلَّبُ فِيهَا الْإِجَابَةَ، فَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ ابْتِلَاءٌ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّ فِي الدُّعَاءِ طَلَبَ اسْتِكْشَافٍ لِمَا تَجْرِي بِهِ الْمَقَادِيرُ عَلَى الْإِنْسَانِ.
وَالْكَلِمَاتُ لَمْ تُبَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ مَا هِيَ، وَلَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: رَوَى طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْعَشَرَةُ الَّتِي مِنَ الْفِطْرَةِ: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالْفَرْقُ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالِاسْتِطَابَةُ، وَالْخِتَانُ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. الثَّانِي: عَشَرَ وَهِيَ: حَلْقُ الْعَانَةِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَغُسْلُ يَوْمِ الْجُمْعَةِ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيُ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَالْإِفَاضَةُ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. الثَّالِثُ: ثَلَاثُونَ سَهْمًا فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يُتِمَّ ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ، وَهِيَ عَشْرٌ فِي بَرَاءَةٍ التَّائِبُونَ «١» الْآيَةَ، وَعَشْرٌ فِي الْأَحْزَابِ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ «٢» الْآيَةَ، وَعَشْرٌ فِي قَدْ أَفْلَحَ وَفِي الْمَعَارِجِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. الرَّابِعُ: هِيَ الْخِصَالُ السِّتُّ الَّتِي امْتُحِنَ بِهَا الْكَوْكَبُ، وَالْقَمَرُ، وَالشَّمْسُ، وَالنَّارُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْخِتَانُ. وَقِيلَ: بَدَلُ الْهِجْرَةِ الذَّبْحُ لِوَلَدِهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
الْخَامِسُ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ، رَوَاهُ قَتَادَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. السَّادِسُ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ سَأَلَهَا إِبْرَاهِيمُ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «٣»، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. السَّابِعُ: هِيَ قَوْلُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ العلي العظيم.
(١) سورة التوبة: ٩/ ١١٢.
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٥. [.....]
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٢٦.
600
وَقَوْلُهُ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. الثَّامِنُ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ «١»، قَالَهُ يَمَانٌ. التَّاسِعُ: هِيَ قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ «٢» الْآيَاتِ، قَالَهُ أَبُو رَوْقٍ. الْعَاشِرُ:
هِيَ مَا ابْتَلَاهُ بِهِ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ، فَسَلَّمَ مَالَهُ لِلضِّيفَانِ، وَوَلَدَهُ لِلْقُرْبَانِ، وَنَفْسَهُ لِلنِّيرَانِ، وَقَلْبَهُ لِلرَّحْمَنِ، فَاتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا. الْحَادِي عَشَرَ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ تَطَهَّرْ فَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَاسْتَاكَ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَأَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَفَرَقَ شَعْرَهُ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَاسْتَنْجَى، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَحَلَقَ عَانَتَهُ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَنَتَفَ إِبِطَهُ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ، ثُمَّ أَنْ تَطَهَّرْ فَأَقْبَلَ عَلَى جَسَدِهِ يَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُ، فَاخْتَتَنَ بَعْدَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ، أَنَّهُ اخْتَتَنَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «٣»، يَأْتَمُّونَ بِكَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ وَيَقْتَدِي بِكَ الصَّالِحُونَ. فَإِنْ صَحَّتْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ، فَالتَّأْوِيلُ أَنَّهُ اخْتَتَنَ بَعْدَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ مِيلَادِهِ، وَابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً مِنْ وَقْتِ نُبُوَّتِهِ، فَيَتَّفِقُ التَّارِيخَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي عَشَرَ: هِيَ عَشْرَةٌ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ الْمِلَّةُ وَالصَّلَاةُ، وَهِيَ الْفِطْرَةُ وَالزَّكَاةُ، وَهِيَ الطُّهْرَةُ وَالصَّوْمُ، وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالْحَجُّ، وَهُوَ الشَّعِيرَةُ وَالْغَزْوُ، وَهُوَ النُّصْرَةُ وَالطَّاعَةُ، وَهِيَ الْعِصْمَةُ وَالْجَمَاعَةُ، وَهِيَ الْأُلْفَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْوَفَاءُ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ الْحُجَّةُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: هِيَ: تَجْعَلُنِي إِمَامًا، وَتَجْعَلُ الْبَيْتَ مَثَابَةً وَأَمْنًا، وَتُرِينَا مَنَاسِكَنَا، وَتَتُوبُ عَلَيْنَا، وَهَذَا الْبَلَدَ آمِنًا، وَتَرْزُقُ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ. فَأَجَابَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ بِمَا سَأَلَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَائِلٍ مِنْهَا ذَكَرَ طَائِفَةً مِمَّا ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ كُلُّهَا ابْتَلَاهُ بِهَا، وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْحَصْرِ فِي الْعَدَدِ، وَلَا عَلَى التَّعْيِينِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى التَّنَاقُضِ. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي فَسَّرَ بِهَا الْكَلِمَاتِ، إِنْ كَانَتْ أَقْوَالًا، فَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي تَسْمِيَتِهَا كَلِمَاتٍ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالًا، فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْكَلِمَاتِ عَلَيْهَا مَجَازًا، لِأَنَّ التَّكَالِيفَ الْفِعْلِيَّةَ صَدَرَتْ عَنِ الْأَوَامِرِ، وَالْأَوَامِرُ كَلِمَاتٌ. سُمِّيَتِ الذَّاتُ كَلِمَةً لِبُرُوزِهَا عَنْ كَلِمَةِ كُنْ. قَالَ تَعَالَى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ «٤». وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي أَحْكَامِ مَا شُرِحَتْ بِهِ الْكَلِمَاتُ مِنَ: الْمَضْمَضَةِ، والاستنشاق، وقص الشارب، وإعفاء اللِّحْيَةِ، وَالْفَرْقِ، وَالسَّدْلِ، وَالسِّوَاكِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وتقليم الأظفار،
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٨٠.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٧٨.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٢٤.
(٤) سورة النساء: ٤/ ١٧١.
601
وَالِاسْتِنْجَاءِ، وَالْخِتَانِ، وَالشَّيْبِ وَتَغْيِيرِهِ، وَالثَّرِيدِ، وَالضِّيَافَةِ. وَهَذَا يُبْحَثُ فِيهِ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ، وَلَيْسَ كِتَابُنَا مَوْضُوعًا لِذَلِكَ، فَلِذَلِكَ تَرَكْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ.
فَأَتَمَّهُنَّ: الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي فَأَتَمَّهُنَّ يُظْهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ الْفِعْلُ قَبْلَهُ عَلَى طَرِيقِ الْفَاعِلِيَّةِ. فَأَتَمَّهُنَّ مَعْطُوفٌ عَلَى ابْتَلَى، فَالْمُنَاسِبُ التَّطَابُقُ فِي الضَّمِيرِ. وَعَلَى هَذَا، فَالْمَعْنَى: أَيْ أَكْمَلَهُنَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، أَوْ بَيَّنَهُنَّ، وَالْبَيَانُ بِهِ يَتِمُّ الْمَعْنَى وَيَظْهَرُ، أَوْ يَسَّرَ لَهُ الْعَمَلَ بِهِنَّ وَقَوَّاهُ عَلَى إِتْمَامِهِنَّ، أَوْ أَتَمَّ لَهُ أُجُورَهُنَّ، أَوْ أَدَامَهُنَّ سُنَّةً فِيهِ وَفِي عَقِبِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَدَامَهُنَّ، أَوْ أَقَامَ بِهِنَّ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ أَوْ عَمِلَ بِهِنَّ، قَالَهُ يَمَانٌ أَوْ وَفَّى بِهِنَّ، قَالَهُ الرَّبِيعُ، أَوْ أَدَّاهُنَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ. خَمْسَةُ أَقْوَالٍ تُقَرِّبُ مِنَ التَّرَادُفِ، إِذْ مَحْصُولُهَا أَنَّهُ أَتَى بِهِنَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الِابْتِلَاءِ، هَلْ كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ أَوْ بَعْدَهَا؟ فَقَالَ الْقَاضِي: كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُ بِهِنَّ كَالسَّبَبِ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ إِمَامًا، وَالسَّبَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسَبِّبِ، فَوَجَبَ كَوْنُ الِابْتِلَاءِ مُقَدَّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ إِمَامًا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا بِتِلْكَ التَّكَالِيفِ إِلَّا مِنَ الْوَحْيِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ الْوَحْيِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِكَوْنِهِ كَذَلِكَ. أَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، فَلَمَّا تَمَّمَ ذَلِكَ، جَعَلَهُ نَبِيًّا مَبْعُوثًا إِلَى الْخَلْقِ.
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ: تَقَدَّمَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي قَالَ أَنَّهَا عَامِلَةٌ فِي إِذْ، وَإِذَا جَعَلْنَا الْعَامِلَ فِي إِذْ مَحْذُوفًا، كَانَتْ قَالَ اسْتِئْنَافًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَمَّ الْكَلِمَاتِ؟ فَقِيلَ:
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. وَعَلَى اخْتِيَارِ أَنْ يَكُونَ قَالَ هُوَ الْعَامِلَ فِي إِذْ، يَكُونُ قَالَ جُمْلَةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ وَقَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، إِذِ ابْتَلَاهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: ابْتَلَى، وَتَفْسِيرًا لَهُ. لِلنَّاسِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ أُمَّتَهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأُمَمِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي عَقَائِدِ التَّوْحِيدِ وَفِيمَا وَافَقَ مِنْ شَرَائِعِهِمْ.
وَلِلنَّاسِ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا، التَّقْدِيرُ: إِمَامًا كَائِنًا لِلنَّاسِ، قَالُوا:
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بجاعلك، أَيْ لِأَجْلِ النَّاسِ. وَجَاعِلُ هُنَا بِمَعْنَى مُصَيِّرٍ، فَيَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، الْأَوَّلُ: الْكَافُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهَا اسْمُ الْفَاعِلِ، وَالثَّانِي: إِمَامًا. قِيلَ: قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: وَالْمُرَادُ بِالْإِمَامِ هُنَا: النَّبِيُّ، أَيْ صَاحِبُ شَرْعٍ مُتَّبَعٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَبَعًا لِرَسُولٍ، لَكَانَ مَأْمُومًا لِذَلِكَ الرَّسُولِ لَا إِمَامًا لَهُ. وَلِأَنَّ لَفْظَ الْإِمَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِمَامٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ، لَا يَكُونُ إِلَّا نَبِيًّا. وَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اتِّبَاعِهِمْ هُمْ
602
أَئِمَّةٌ، قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا «١». وَالْخُلَفَاءُ أَيْضًا أَئِمَّةٌ، وَكَذَلِكَ الْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَمَنْ يُؤْتَمُّ بِهِ فِي الْبَاطِلِ. قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ «٢». فَلَمَّا تَنَاوَلَ الِاسْمُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ هُنَا عَلَى أَشْرَفِ الْمَرَاتِبِ وَأَعْلَاهَا، لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ نِعْمَةٍ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنَ النُّبُوَّةِ.
قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطَفَ عَلَى الْكَافِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَاعِلٌ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي، كَمَا يُقَالُ لَكَ: سَأُكْرِمُكَ، فَتَقُولُ: وَزَيْدًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَصِحِّ الْعَطْفُ عَلَى الْكَافِ، لِأَنَّهَا مَجْرُورَةٌ، فَالْعَطْفُ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، ولم يعد، ولأن مَنْ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْجَارِّ مُضَافًا إِلَيْهَا، لِأَنَّهَا حَرْفٌ، فَتَقْدِيرُهَا بِأَنَّهَا مُرَادِفَةٌ لِبَعْضٍ حَتَّى تُقَدِّرَ جَاعِلًا مُضَافًا إِلَيْهَا لَا يَصِحُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ تَقْدِيرُ الْعَطْفِ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِ الْكَافِ، لِأَنَّهُ نُصِبَ، فَيُجْعَلُ مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا يُعْطَفُ فِيهِ عَلَى الْمَوْضِعِ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، لِفَوَاتِ الْمُحَرِّزِ، وَلَيْسَ نَظِيرَ: سَأُكْرِمُكَ، فَتَقُولُ: وَزَيْدًا لِأَنَّ الْكَافَ هُنَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِي مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي إِمَامًا، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا الِاخْتِصَاصَ، فَسَأَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِمَامًا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: ذِرِّيَّتِي بِالْكَسْرِ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالضَّمِّ، وَذَكَرْنَا أَنَّهَا لُغَاتٌ فِيهَا، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ اشْتُقَّتْ حِينَ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْمُفْرَدَاتِ.
قالَ لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ: وَالضَّمِيرُ فِي قَالَ الثَّانِيَةِ ضَمِيرُ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي قَالَ هَذِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. والعهد: الإمامة، قاله مُجَاهِدٌ: أَوِ النُّبُوَّةُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوِ الْأَمَانُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ: أَوِ الثَّوَابُ قَالَهُ قَتَادَةُ أَيْضًا أَوِ الرَّحْمَةُ، قَالَهُ عَطَاءٌ أَوِ الدِّينُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ، أَوْ لَا عَهْدَ عَلَيْكَ لِظَالِمٍ أَنْ تُطِيعَهُ فِي ظُلْمِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوِ الْأَمْرُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا «٣»، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ «٤» أَوْ إِدْخَالُهُ الْجَنَّةَ مِنْ قَوْلِهِ: كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً «٥»، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ طَاعَتِي، قَالَهُ الضَّحَّاكُ أَيْضًا أَوِ الْمِيثَاقُ أَوِ الْأَمَانَةُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ الْعُهَدَ هِيَ الإمامة،
(١) سورة السجدة: ٣٢/ ٢٤.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٧٣.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٣.
(٤) سورة يس: ٣٦/ ٦٠.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ٨٠.
603
لِأَنَّهَا هِيَ الْمُصَدَّرُ بِهَا، فَأَعْلَمَ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنَالُ الظَّالِمِينَ. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي هُوَ اسْتِعْلَامٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَتَجْعَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِي إِمَامًا: وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الطَّلَبِ، أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي. وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَ اللَّهُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ هُوَ مِنَ الْجَوَابِ الَّذِي يَرْبُو عَلَى السُّؤَالِ، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ، وَسَأَلَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِمَامًا، فَأَجَابَهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنَالُ عَهْدُهُ الظَّالِمِينَ، وَدَلَّ بمفهومه الصحيح عَلَى أَنَّهُ يَنَالُ عَهْدُهُ مَنْ لَيْسَ بِظَالِمٍ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى انْقِسَامِ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى ظَالِمٍ وَغَيْرِ ظَالِمٍ، وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ هُوَ الْإِمَامَةُ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أَنَّهُ جَوَابٌ لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عَلَى سَبِيلِ الْجَعْلِ، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ لَقَالَ لَا، أَوْ لَا يَنَالُ عَهْدِي ذُرِّيَّتَكَ، وَلَمْ يُنِطِ الْمَنْعَ بِالظَّالِمِينَ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: الظَّالِمُونَ بِالرَّفْعِ، لِأَنَّ الْعَهْدَ يُنَالُ، كَمَا يَنَالُ أَيْ عَهْدِي لَا يَصِلُ إِلَى الظَّالِمِينَ، أَوْ لَا يَصِلُ الظَّالِمُونَ إِلَيْهِ وَلَا يُدْرِكُونَهُ. وَقَدْ فُسِّرَ الظُّلْمُ هُنَا بِالْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَبِظُلْمِ الْمَعَاصِي غَيْرِ الْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الظَّالِمَ إِذَا عُوهِدَ لَمْ يَلْزَمِ الْوَفَاءُ بِعَهْدِهِ، قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُمْ عَهْدًا. قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ: مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ الْإِمَامَةَ لِذُرِّيَّتِهِ، وَأَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى مُلْتَمَسِهِ لَا يَظْهَرُ مِنَ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، وَجَاعِلٌ مِنْ ذُرِّيَّتِي، أَوْ تَجْعَلُ مِنْ ذُرِّيَّتِي، أَوِ اجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي. وَإِذَا كَانَ هَذَا كُلُّهُ مُحْتَمَلًا غَيْرَ مَنْطُوقٍ بِهِ، فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّهُ سَأَلَ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أُجِيبَ إِلَى مُلْتَمَسِهِ، فَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى ضِدِّهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ: أَنَّ أَوْلَادَكَ ظَالِمُونَ. لَكِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَهُوَ: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ. وَلَوْ قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدَيِ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، لَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا يَقُولُونَ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ نُزُولًا بَيِّنًا. انتهى ما ذكره ملخصا بعضه. وفيما ذكره ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ نَظَرٌ، لِأَنَّ تِلْكَ التَّقَادِيرَ الَّتِي قَدَّرَهَا ظَاهِرُهَا السُّؤَالُ. أَمَّا مَنْ قَدَّرَ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي إِمَامًا، فَهُوَ سُؤَالٌ وَأَمَّا مَنْ قَدَّرَ: وَتَجْعَلُ وَجَاعِلٌ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى حَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ، إِذْ مَعْنَاهُ: وأ جاعل أَنْتَ يَا رَبِّ، أَوْ أَتَجْعَلُ يَا رَبِّ مِنْ ذريتي. والاستفهام يؤول مَعْنَاهُ إِلَى السُّؤَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُقَدَّرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَجَاعِلٌ، أَوْ تَجْعَلُ مِنْ ذَرِّيَّتِي إِمَامًا خَبَرًا، لِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنْ نَبِيٍّ. وَإِذَا كَانَ خَبَرًا مِنْ نَبِيٍّ، كَانَ صِدْقًا ضَرُورَةً. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنَ اللَّهِ إِعْلَامٌ لِإِبْرَاهِيمَ بِذَلِكَ، إِنَّمَا أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا. فَمَنْ أَيْنَ يُخْبِرُ بِذَلِكَ؟ وَمَنْ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ؟ إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَعْلَمُهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ التَّقْدِيرُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ وَالِاسْتِعْلَامِ.
604
هَلْ تَحْصُلُ الْإِمَامَةُ لِبَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ أَمْ لَا تَحْصُلُ؟ فَأَجَابَهُ اللَّهُ: إِلَى أَنْ مَنْ كَانَ ظَالِمًا لَا يَنَالُهُ عَهْدُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ أَنَّ أَوْلَادَكَ ظَالِمُونَ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ لَا يَنَالُهُ مَنْ ظَلَمَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَغَيْرِ أَوْلَادِهِ، وَدَلَّ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الظَّالِمِ يَنَالُهَا. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي الْفَضْلِ، لَكَانَ اللَّفْظُ لَا يَنَالُهَا ذَرِّيَّتُكَ لِظُلْمِهِمْ، مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الظَّالِمِينَ تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ مُعَاقَبَةٌ لِلضَّمِيرِ، أَيْ: ظَالِمُوهُمْ، أَوِ الضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مِنْهُمْ.
وَمِنْ أَغْرَبِ الِانْتِزَاعَاتِ فِي قَوْلِهِ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ مَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ الْإِمَامِيَّةِ أَنَّهُمُ انْتَزَعُوا مِنْ هَذَا، كَوْنَ أَبِي بَكْرٍ لَا يَكُونُ إِمَامًا قَالُوا: لِأَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الظُّلْمِ يَقَعُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَجَدَ لِلْأَصْنَامِ، فَقَدْ ظَلَمَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ عَلِيٍّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ. قُلْتُ لَهُ: فَيَلْزَمُ أَنْ يُسَمَّى كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصَّحَابَةِ ظَالِمًا، كَسَلْمَانَ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَعَمَّارٍ. وَهَذَا مَا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَالُوا فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ، وَكَيْفَ يَصْلُحُ لَهَا مَنْ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَلَا تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَلَا يُقَدَّمُ لِلصَّلَاةِ؟ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُفْتِي سِرًّا بِوُجُوبِ نُصْرَةِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَحَمْلِ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَالْخُرُوجِ مَعَهُ عَلَى اللِّصِّ الْمُتَغَلِّبِ الْمُتَّسَمَّى بِالْإِمَامِ وَالْخَلِيفَةِ، كَالدَّوَانِيقِيِّ وَأَشْبَاهِهِ.
وَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ: أَشَرْتَ عَلَى ابْنِي بِالْخُرُوجِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ، ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، حَتَّى قُتِلَ فَقَالَ: لَيْتَنِي مَكَانَ ابْنِكِ. وَكَانَ يَقُولُ فِي الْمَنْصُورِ وَأَشْيَاعِهِ: لَوْ أَرَادُوا بِنَاءَ مَسْجِدٍ، وَأَرَادُونِي عَلَى عَدِّ آجُرِّهِ لَمَا فَعَلْتُ. وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: لَا يَكُونُ الظَّالِمُ إِمَامًا قَطُّ. وَكَيْفَ يَجُوزُ نَصْبُ الظَّالِمِ لِلْإِمَامَةِ، وَالْإِمَامُ إِنَّمَا هُوَ لِكَفِّ الْمَظْلَمَةِ؟ فَإِذَا نُصِّبَ مَنْ كَانَ ظَالِمًا فِي نَفْسِهِ، فَقَدْ جَاءَ الْمَثَلُ السَّائِرُ: مَنِ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ فَقَدْ ظَلَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ الَّذِي ذَكَرَهُ، هُوَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَهُوَ أَخُو مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ تَنْتَسِبُ الزَّيْدِيَّةُ الْيَوْمَ. وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْفَهْمِ فِي الْقُرْآنِ وَالشَّجَاعَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ مُجَاوِرًا لِلزَّيْدِيَّةِ وَمُصَاحِبًا لَهُمْ، وَصَنَّفَ كِتَابَهُ الْكَشَّافَ لِأَجْلِهِمْ. وَاللِّصُّ المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة، الَّذِي
ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، هُوَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، خَرَجَ عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لِأَخِيهِ الْبَاقِرِ: مَا لَكَ لَا تَقُومُ وَتَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْقِيَامِ مَعَكَ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ لَهُ: لِهَذَا وَقْتٌ لَا يَتَعَدَّاهُ. فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: إِنَّمَا الْإِمَامُ مِنَّا مَنْ أَظْهَرَ سَيْفَهُ وَقَامَ بِطَلَبِ
605
حَقِّ آلِ مُحَمَّدٍ، لَا مَنْ أَرْخَى عَلَيْهِ سُتُورَهُ وَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ. فَقَالَ لَهُ الْبَاقِرُ: يَا زَيْدُ! إِنَّ مَثَلَ الْقَائِمِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ قِيَامِ مَهْدِيِّهِمْ، مَثَلُ فَرْخٍ نَهَضَ مِنْ عُشِّهِ مِنْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ جَنَاحَاهُ. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَقَطَ، فَأَخَذَهُ الصِّبْيَانُ يَتَلَاعَبُونَ بِهِ. فَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ أَنْ لَا تَكُونَ الْمَصْلُوبَ غَدًا بِالْكُنَاسَةِ.
فَلَمْ يَلْتَفِتْ زَيْدٌ لِكَلَامِ الْبَاقِرِ، وَخَرَجَ عَلَى هِشَامٍ، فَظَفَرَ بِهِ وَصَلَبَهُ عَلَى كُنَاسَةِ الْكُوفَةِ، وَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَكَانَ كَمَا حَذَّرَهُ الْبَاقِرُ. وَأَمَّا الدَّوَانِيقِيُّ، فَهُوَ الْمَنْصُورُ أَخُو السَّفَّاحِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ قِيلَ لِبُخْلِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَخِيلًا، وَذَكَرَ مِنْ عَطَائِهِ وَكَرْمِهِ أَخْبَارًا كَثِيرَةً. وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ، اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ، فَهُمَا ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَانَا قَدْ تَغَيَّبَا أَيَّامَ السَّفَّاحِ، وَأَوَّلَ أَيَّامِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَدَخَلَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَخَطَبَ حَتَّى حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَنَزَلَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَبُويِعَ بِالْمَدِينَةِ طَوْعًا، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ، وَغَلَبَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَخُوهُ قَدْ صَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ يَدْعُو إِلَيْهِ. وَآخِرُ أَمْرِهِمَا أَنَّ الْمَنْصُورَ وَجْهَ إِلَيْهِمَا الْعَسَاكِرَ وَقُتِلَا.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هَنَا أَحْكَامَ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُهَا أُصُولَ الدِّينِ، فَهُنَاكَ ذِكْرُهَا، لَكِنِّي لَا أُخَلِّي كِتَابِي عَنْ شَيْءٍ مُلَخَّصٍ فِيهَا دُونَ الِاسْتِدْلَالِ. فَنَقُولُ:
الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ، أَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ فَرْضٌ، خِلَافًا لِفِرْقَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَهُمْ أَصْحَابُ نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ. زَعَمُوا أَنَّ الْإِمَامَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ إِقَامَةُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى إِمَامٍ، وَلِفِرْقَةٍ مِنَ الْإِبَاضِيَّةِ زَعَمَتْ أَنَّ ذَلِكَ تَطَوُّعٌ.
وَاسْتِنَادُ فَرْضِيَّةِ نَصْبِ الْإِمَامِ لِلشَّرْعِ لَا لِلْعَقْلِ، خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ، إِذْ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عَقْلًا، وَيَكُونُ الْإِمَامُ مِنْ صَمِيمِ قُرَيْشٍ، خِلَافًا لِفِرْقَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، إِذْ قَالُوا: إِذَا وُجِدَ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا قُرَشِيٌّ وَنَبَطِيٌّ، وَجَبَ نَصْبُ النَّبَطِيِّ دُونَ الْقُرَشِيِّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بُطُونُ قُرَيْشٍ كُلُّهَا، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ ذَلِكَ بِنَسْلِ عَلِيٍّ، أَوِ الْعَبَّاسِ، إِمَّا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِاجْتِهَادٍ، وَيَكُونُ أَفَضْلَ الْقَوْمِ، فَلَا يَنْعَقِدُ لِلْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ، خِلَافًا لِأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: يَنْعَقِدُ لِلْمَفْضُولِ، إِذَا كَانَ بِصِفَةِ الْإِمَامَةِ، مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ، وَشُرُوطُهُ: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مُجْتَهِدًا فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، شُجَاعًا، وَالشَّجَاعَةُ فِي الْقَلْبِ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ ضَبْطُ الْأَمْرِ وَحِفْظِ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ سَاقِطِ الْعَدَالَةِ ابْتِدَاءً، فَإِنْ عُقِدَ لِشَخْصٍ كَامِلِ الشُّرُوطِ ثُمَّ طَرَأَ مِنْهُ فِسْقٌ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ إِذَا أَمِنَ النَّاسُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ أَيْضًا، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبُ: لَا يَجُوزُ
606
الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمِنَ النَّاسُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَكْفُرَ أَوْ يَدْعُوَ إِلَى ضَلَالَةٍ وَبِدْعَةٍ، وَالْمَرْجُوعُ فِي نَصْبِهِ إِلَى اخْتِيَارِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ، وَالْعَامَّةُ فِي ذَلِكَ تَبَعٌ لَهُمْ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ اجْتِمَاعُ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِعَدَدٍ، بَلْ إِذَا عَقَدَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَجَبَتِ الْمُبَايَعَةُ عَلَى كُلِّهِمْ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّ أَهْلَ الْبَيْعَةِ بِأَرْبَعَةٍ. وَقَالَ: لَا يَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ لِمَنْ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِأَرْبَعِينَ، أَوْ لِمَنْ قَالَ:
لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِسَبْعِينَ، ثُمَّ مَنْ خَالَفَ كَانَ بَاغِيًا أَوْ نَاظِرًا أَوْ غَالِطًا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُكْمٌ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ. وَلَا يَنْعَقِدُ لِإِمَامَيْنِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، خِلَافًا لِلْكَرَامِيَّةِ، إِذْ أَجَازُوا ذَلِكَ، وَزَعَمُوا أَنَّ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ كَانَا إِمَامَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالْقَوْلُ بِالتَّقِيَّةِ بَاطِلٌ، خِلَافًا لِلْإِمَامِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا: أَنَّهُ يَكُونُ الشَّخْصُ الْجَامِعُ لِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ إِمَامًا مَسْتُورًا، لَكِنَّهُ يُخْفِي نَفْسَهُ مَخَافَةً مَنْ غَلَبَ عَلَى الْمُلْكِ مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِمَامِ الْعِصْمَةُ، خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْعِصْمَةِ لِلْإِمَامِ سِرًّا وَعَلَنًا. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْإِحَاطَةُ بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا، خِلَافًا لِلْإِمَامِيَّةِ، وَالْإِمَامُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فِيمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَى السُّلْطَانِ الْغَالِبِ، خِلَافًا لِمَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ النَّاسِ هُنَا فِي الْإِمَامَةِ الصُّغْرَى وَهِيَ: الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَمَوْضُوعُهَا عِلْمُ الْفِقْهِ.
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً: لَمَّا رَدَّ عَلَى الْيَهُودِ فِي إِنْكَارِهِمُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ بِنَاءَ إِبْرَاهِيمَ أَبِيهِمْ، كَانُوا أَحَقَّ بِتَعْظِيمِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ مَآثِرِ أَبِيهِمْ.
وَلِوَجْهٍ آخِرَ مِنْ إِظْهَارِ فَضْلِهَا، وَهُوَ كَوْنُهَا مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، وَأَنَّ فِيهَا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ وَإِلَى وَلَدِهِ بِبِنَائِهَا وَتَطْهِيرِهَا، وَجَعْلِهَا مَحَلًّا لِلطَّائِفِ وَالْعَاكِفِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِحَجِّهَا. وَالْبَيْتُ هُنَا: الْكَعْبَةُ، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ لَا نَفْسُ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْأَمْنِ، وَهَذِهِ صِفَةُ جَمِيعِ الْحَرَمِ، لَا صِفَةُ الْكَعْبَةِ فَقَطْ. وَيَجُوزُ إِطْلَاقُ الْبَيْتِ، وَيُرَادُ بِهِ كُلُّ الْحَرَمِ. وَأَمَّا الْكَعْبَةُ فَلَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْبِنَاءِ الَّذِي يُطَافُ بِهِ، وَلَا تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ الْحَرَمِ. وَالتَّاءُ فِي مَثَابَةٍ لِلْمُبَالِغَةِ، لِكَثْرَةِ مَنْ يَثُوبُ إِلَيْهِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوْ لِتَأْنِيثِ الْمَصْدَرِ، أَوْ لِتَأْنِيثِ الْبُقْعَةِ، كَمَا يُقَالُ مَقَامٌ وَمَقَامَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
607
ذَكَرَ رَحْبًا عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَكَانِ، وَأَنَّثَ فَسِيحَةً عَلَى اللَّفْظِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ: مَثَابَاتٍ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ فَهَلْ يُعْجِزُنِي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا
مَثَابًا لا فناء الْقَبَائِلِ كُلِّهَا تَخُبُّ إِلَيْهَا الْيَعْمَلَاتُ الطَّلَائِحُ
وَيُرْوَى: الذَّوَابِلُ. ووجه قراءة الجميع أَنَّهُ مَثَابَةٌ لِكُلٍّ مِنَ النَّاسِ، لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ. ومثابة، قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ مَعْنَاهُ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، أَيْ يَحُجُّونَهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَهُمْ يَتَفَرَّقُونَ، ثُمَّ يَثُوبُونَ إِلَيْهِ أَعْيَانُهُمْ أَوْ أَمْثَالُهُمْ، وَلَا يَقْضِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَطَرًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
جَعَلَ الْبَيْتَ مَثَابًا لَهُمْ لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الْوَطَرْ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعَاذًا وَمَلْجَأً. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْخَلِيلُ: مَجْمَعًا. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، فِيمَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ: أَيْ مَكَانَ. إِثَابَةٍ: وَاحِدَةٌ مِنَ الثَّوَابِ، وَأَوْرَدَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةً احْتِمَالًا مِنْهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلنَّاسِ: إِمَّا لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِيمَانِ، وَإِمَّا لِلْجِنْسِ الْخَاصِّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ. وَجَعَلْنَا هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، فَمَثَابَةٌ مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَقِيلَ: جَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى:
خَلَقَ، أَوْ وَضَعَ، وَيَتَعَلَّقُ لِلنَّاسِ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: مَثَابَةٌ كَائِنَةٌ، إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ.
وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ جَعَلْنَا، أَيْ لِأَجْلِ النَّاسِ. وَالْأَمْنُ: مُصْدَرٌ جَعَلَ الْبَيْتَ إِيَّاهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ بِهِ مِنَ الْأَمْنِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا أَمْنٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ مَجَازًا، أَيْ آمِنًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «١»، وَجَعَلَهُ آمِنًا، اخْتَلَفُوا، هَلْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي الدُّنْيَا، فَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ، وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَوْلَ مَكَّةَ، وَهِيَ آمِنَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَيَلْقَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ فَلَا يُهَيِّجُهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهَا فِي النُّفُوسِ حُرْمَةً، وَجَعَلَهَا أَمْنًا لِلنَّاسِ وَالطَّيْرِ وَالْوَحْشِ، إِلَّا الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ، فَخُصِّصَتْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ أَتَى الْحَرَمَ، فَفِي أَمْنِهِ مِنْ أَنْ يُهَاجَ فِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ آمِنٌ لِأَهْلِهِ، يُسَافِرُ أَحَدُهُمُ الْأَمَاكِنَ الْبَعِيدَةَ، فَلَا يُرَوِّعُهُ أَحَدٌ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يَحُولَ الْجَبَابِرَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَصَدَهُ. وَمَنْ قَالَ هَذَا الْأَمْنَ فِي الْآخِرَةِ، قِيلَ: مِنَ الْمَكْرِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَقِيلَ: مِنْ بخس ثواب من
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٢٦.
608
قَصَدَهُ، قَالَ قَوْمٌ: وَهَذَا الْأَمْنُ مُخْتَصٌّ بِالْبَيْتِ. وَقِيلَ: يَشْمَلُ الْبَيْتَ وَالْحَرَمَ. وَقَالَ فِي رَيِّ الظَّمْآنِ مَعْنَاهُ: ذَا أَمْنٍ لِقَاطِنِيهِ مِنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ مَا يَجْرِي عَلَى سُكَّانِ الْبَوَادِي وَسَائِرِ بُلْدَانِ الْعَرَبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَمْنًا، مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَثَابَةً، وَيُفَسَّرُ الْأَمْنُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْأَمْرِ، التَّقْدِيرُ: وَاجْعَلُوهُ آمِنًا، أَيْ جَعَلْنَاهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، فَاجْعَلُوهُ آمِنًا لَا يَتَعَدَّى فِيهِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ آمِنًا مِنَ الْغَارَةِ وَالْقَتْلِ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُحَرَّمًا بِحُكْمِ اللَّهِ، وَرُبَّمَا يُؤَيَّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَاتَّخِذُوا عَلَى الْأَمْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَطْفُ فِيهِ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، عُطِفَتْ فِيهِ الْجُمْلَةُ الْأَمْرِيَّةُ عَلَى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الظَّاهِرِ يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ.
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْجُمْهُورُ: وَاتَّخِذُوا، بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْأَمْرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِفَتْحِهَا، جَعَلُوهُ فِعْلًا مَاضِيًا. فَأَمَّا قِرَاءَةُ: وَاتَّخِذُوا عَلَى الْأَمْرِ، فَاخْتُلِفَ مَنِ الْمُوَاجَهُ بِهِ، فَقِيلَ:
إِبْرَاهِيمُ وَذُرِّيَّتُهُ، أَيْ وَقَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ: اتَّخِذُوا. وَقِيلَ: النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم وأمته، أَيْ: وَقُلْنَا اتَّخِذُوا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، فَذَكَرَ مِنْهَا وَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى! وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخَذَ بِيَدِ عُمَرَ فَقَالَ: «هَذَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ»، فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ فَقَالَ: «لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ». فَلَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ حَتَّى نَزَلَتْ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ اتَّخِذُوا مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ.
وَقِيلَ: الْمُوَاجَهُ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ «١». وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً، قَالُوا: لِأَنَّ الْمَعْنَى: ثُوبُوا إِلَى الْبَيْتِ، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَعْنَى. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ بَعِيدَانِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ: وَاتَّخَذُوا، بِفَتْحِ الْخَاءِ، فَمَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، فَإِمَّا عَلَى مَجْمُوعِ، إِذْ جَعَلْنَا فَيُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ إِذْ، وَإِمَّا عَلَى نَفْسِ جَعَلْنَا، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِهَا، بَلْ يَكُونُ فِي صِلَةِ إِذْ. وَالْمَعْنَى: وَاتَّخَذَ النَّاسُ مِنْ مَكَانِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي وُسِمَ بِهِ لِاهْتِمَامِهِ بِهِ، وَإِسْكَانِ ذُرِّيَّتِهِ عِنْدَهُ قِبْلَةً يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. مِنْ مَقَامٍ: جَوَّزُوا فِي مِنْ أَنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً، وَبِمَعْنَى فِي، وَزَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هِيَ مِثْلُ اتَّخَذْتُ مِنْ فُلَانٍ صَدِيقًا، وَأَعْطَانِي اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ أَخًا صَالِحًا، دَخَلَتْ مِنْ لِبَيَانِ الْمُتَّخَذِ الْمَوْهُوبِ، وَتَمْيِزِهِ فِي ذَلِكَ المعنى والمقام
(١) سورة البقرة: ٢/ ٤٠.
609
مَفْعَلٌ مِنَ الْقِيَامِ، يُرَادُ بِهِ الْمَكَانُ، أَيْ مَكَانُ قِيَامِهِ، وَهُوَ الْحَجَرُ الَّذِي ارْتَفَعَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ حِينَ ضَعُفَ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ الَّتِي كَانَ إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ إِيَّاهَا فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ، وَغَرِقَتْ قَدَمَاهُ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَقَتَادَةَ وَغَيْرُهُمْ، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَهُوَ الْآنُ مَوْضِعُ ذَلِكَ الْحَجَرِ وَالْمُسَمَّى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ الْمُطَّلِبَ بْنَ أَبِي رِفَاعَةَ: هَلْ تَدْرِي أَيْنَ كَانَ مَوْضِعُهُ الْأَوَّلُ؟ قَالَ نَعَمْ، فَأَرَاهُ مَوْضِعَهُ الْيَوْمَ. قَالَ أَنَسٌ: رَأَيْتُ فِي الْمَقَامِ أَثَرَ أَصَابِعِهِ وَعَقِبِهِ وَأَخْمُصِ قَدَمَيْهِ، غَيْرُ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ مَسْحُ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. أَوْ حَجَرٌ جَاءَتْ بِهِ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ إِلَيْهِ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَاغْتَسَلَ عَلَيْهِ، فَغَرِقَتْ رِجْلَاهُ فِيهِ حِينَ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَوْ مَوَاقِفُ الْحَجِّ كُلُّهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، أَوْ عَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ، لِأَنَّهُ قَامَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَدَعَا فِيهَا أَوِ الْحَرَمُ كُلُّهُ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ أَوِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قَالَهُ قَوْمٌ. وَاتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَرُجِّحَ بِحَدِيثِ عُمَرَ: أَفَلَا نَتَّخِذُهُ مُصَلًّى؟ الْحَدِيثَ، وَبِقِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم لما فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ وَأَتَى الْمَقَامَ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ، وَلِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلِأَنَّ الْحَجَرَ صَارَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فِي رُطُوبَةِ الطِّينِ حِينَ غَاصَتْ فِيهِ رِجْلَاهُ، وَفِي ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ لَهُ، فَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ أَقْوَى مِنَ اخْتِصَاصِ غَيْرِهِ. فَكَانَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْمَقَامَ هُوَ مَوْضِعُ الْقِيَامِ، وَثَبَتَ قِيَامُهُ عَلَى الْحَجْرِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى غَيْرِهِ. مُصَلًّى: قِبْلَةً، قَالَهُ الْحَسَنُ. مَوْضِعَ صَلَاةٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ. مَوْضِعَ دُعَاءٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْأُولَى الْحَمْلُ عَلَى الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا عَلَى الصَّلَاةِ لُغَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَوْضِعُ صَلَاةٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْمَقَامُ: الْحَجَرُ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَهُ قَالَ:
مُصَلًّى، مَدْعًى عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ، يَعْنِي فِي اللُّغَةِ. انْتَهَى.
وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَيْ أَمَرْنَا أَوْ وَصَّيْنَا، أَوْ أَوْحَيْنَا، أَوْ قُلْنَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. أَنْ طَهِّرا: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً، أَيْ طَهِّرَا، فَفَسَّرَ بِهَا الْعَهْدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ بِأَنْ طَهِّرَا. فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَعَلَى الثَّانِي يَحْتَمِلُ الْجَرَّ وَالنَّصْبَ عَلَى اخْتِلَافِ النَّحْوِيِّينَ. إِذَا حُذِفَ مِنْ أَنْ حَرْفُ الْجَرِّ، هَلِ الْمَحَلُّ نَصْبٌ أَوْ خَفْضٌ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ مَرَّةً فِي وَصْلِ أَنْ بِفِعْلِ الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ، وَلَا أَحْفَظُ مِنْ كَلَامِهِمْ: عَجِبْتُ مِنْ أَنْ أَضْرِبَ زَيْدًا، وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ أَضْرِبَ زَيْدًا، فَتُوصَلُ بِالْأَمْرِ، وَلِأَنَّ انْسِبَاكَ الْمَصْدَرِ يُحِيلُ مَعْنَى الْأَمْرَ وَيُصَيِّرُهُ مُسْتَنِدًا إِلَيْهِ وَيُنَافِي ذَلِكَ الْأَمْرَ. وَالتَّطْهِيرُ: الْمَأْمُورُ
610
بِهِ هُوَ التَّنْظِيفُ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَقَدْ فَسَّرُوا التَّطْهِيرَ بِالْبِنَاءِ وَالتَّأْسِيسِ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالتَّوْحِيدِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَبِالتَّطْهِيرِ مِنَ الْأَوْثَانِ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ عَامِرًا عَلَى عَهْدِ نُوحٍ، وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ أَصْنَامٌ عَلَى أَشْكَالِ صَالِحِيهِمْ، وَأَنَّهُ طَالَ الْعَهْدُ، فَعُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِتَطْهِيرِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْثَانِ، قَالَهُ جُبَيْرٌ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُنْصَبُ فِيهِ وَثَنٌ، وَلَا يُعْبَدُ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ. وَقَالَ يَمَانٌ: مَعْنَاهُ بَخِّرَاهُ وَنَظِّفَاهُ وَخَلِّقَاهُ. وَقِيلَ: مِنَ الْآفَاتِ وَالرَّيْبِ. وَقِيلَ: مِنَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ الَّذِي كَانَ يُطْرَحُ فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَخْلِصَاهُ لِهَؤُلَاءِ، لَا يَغْشَاهُ غَيْرُهُمْ، وَالْأُولَى حَمْلُهُ عَلَى التَّطْهِيرِ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ بُيُوتَ اللَّهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَوْثَانُ وَالْأَنْجَاسُ، وَجَمِيعُ الْخَبَائِثِ، وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ شَرْعًا، كَالْحَائِضِ.
بَيْتِيَ: هَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، لَا أَنَّ مَكَانًا مَحَلٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ لَمَّا أَمَرَ بِبِنَائِهِ وَتَطْهِيرِهِ وَإِيفَادِ النَّاسِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ إِلَيْهِ، صَارَ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِصَاصٌ، فَحَسُنَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ، وَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ: ناقَةُ اللَّهِ «١» ورَوْحِ اللَّهِ «٢»، مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا خُصُوصِيَّةً لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، فَنَاسَبَ الْإِضَافَةَ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَالْأَمْرُ بِتَطْهِيرِهِ يَقْتَضِي سَبْقَ وَجُودِهِ، إِلَّا إِذَا حَمَلْنَا التَّطْهِيرَ عَلَى الْبِنَاءِ وَالتَّأْسِيسِ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالتَّقْوَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى عَهْدِ نُوحٍ. لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كُلُّ مَنْ يَطُوفُ مِنْ حَاضَرٍ أَوْ بَادٍ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الْغُرَبَاءُ الطَّارِئُونَ عَلَى مَكَّةَ حُجَّاجًا وَزُوَّارًا، فَيَرْحَلُونَ عَنْ قَرِيبٍ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ ذُكِرَ بَعْدَهُ. وَالْعَاكِفِينَ، قَالَ: وَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ الْحَرَامِ الْمُقِيمُونَ، وَالْمُقِيمُ مُقَابِلُ الْمُسَافِرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْعَاكِفُونَ هُمُ الْجَالِسُونَ مِنْ غَيْرِ طَوَافٍ مِنْ بَلَدِيٍّ وَغَرِيبٍّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُجَاوِرُونَ لَهُ مِنَ الْغُرَبَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُصَلُّونَ، لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ يَدْخُلُ إِلَى الْبَيْتِ، إِنَّمَا يَدْخُلُ لِطَوَافٍ أَوْ صَلَاةٍ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُعْتَكِفُونَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَاكِفِينَ: الْوَاقِفِينَ، يَعْنِي الْقَائِمِينَ، كَمَا قَالَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَالْمَعْنَى لِلطَّائِفِينَ وَالْمُصَلِّينَ، لِأَنَّ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ هَيْآَتُ الْمُصَلِّي.
انْتَهَى. وَلَوْ قَالَ: الْقَائِمُ هُنَا مَعْنَاهُ: الْعَاكِفُ، مِنْ قَوْلِهِ: مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا، لَكَانَ حَسَنًا، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ أَحْوَالِ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتِ لِلتَّعَبُّدِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِذْ ذَاكَ مِنْ طَوَافٍ أَوِ اعْتِكَافٍ أَوْ صَلَاةٍ، فَيَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ لِمَا هيىء الْبَيْتُ لَهُ.
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ: هُمُ الْمُصَلُّونَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الحسن: هم
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٧٣.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٨٧. [.....]
611
جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَصَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بِالذِّكْرِ مِنْ جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمُصَلِّي، لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ أَحْوَالِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَدَّمَ الرُّكُوعَ عَلَى السُّجُودِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ فِي الزَّمَانِ، وَجُمِعَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ لِمُقَابَلَتِهِمَا مَا قَبْلَهُمَا مِنْ جَمْعَيِ السَّلَامَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْوِيعًا فِي الْفَصَاحَةِ، وَخَالَفَ بَيْنَ وَزْنَيْ تَكْسِيرِهِمَا تَنْوِيعًا فِي الْفَصَاحَةِ أَيْضًا، وَكَانَ آخِرُهُمَا عَلَى فُعُولٍ، لَا عَلَى فُعَّلٍ، لِأَجْلِ كَوْنِهَا فَاصِلَةً، وَالْفَوَاصِلُ قبلها وبعدها آخر ما قَبْلَهُ حَرْفُ مَدٍّ وَلِينٍ، وَعُطِفَتْ تَيْنِكَ الصِّفَتَانِ لِفَرْطِ التَّبَايُنِ بَيْنَهُمَا بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فَسَّرْتَهُمَا مِمَّا سَبَقَ. وَلَمْ يَعْطِفِ السُّجُودَ عَلَى الرُّكَّعِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا الْمُصَلُّونَ. وَالرُّكَّعُ وَالسُّجُودُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ هيآتهما فيقابلهما فِعْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الصَّلَاةُ.
فَالْمُرَادُ بِالرُّكَّعِ السُّجُودِ: الْمُصَلُّونَ، فَنَاسَبَ أَنْ لَا يَعْطِفَ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ عَلَى حِيَالِهَا، وَلَيْسَتَا مُجْتَمِعَتَيْنِ فِي عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فَرْضًا وَنَفْلًا، إِذْ لَمْ يُخَصِّصْ.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً: ذَكَرُوا أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذَا ذكر محذوفة، وَرَبُّ: مُنَادًى مُضَافٌ إِلَى الْيَاءِ، وَحَذْفُ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَالْمُضَافُ إِلَى الْيَاءِ فِيهِ لُغَاتٌ، أَحْسَنُهَا: أَنْ تُحْذَفَ مِنْهُ يَاءُ الْإِضَافَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا بِالْكَسْرَةِ، فَيُجْتَزَأُ بِهَا لِأَنَّ النِّدَاءَ مَوْضِعُ تَخْفِيفٍ. أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ التَّرْخِيمِ فِيهِ؟ وَتِلْكَ اللُّغَاتُ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَسَيَأْتِي مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ، وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي مَكَانِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَنَادَاهُ بِلَفْظِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَيْهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَلَطُّفِ السُّؤَالِ وَالنِّدَاءِ بِالْوَصْفِ الدَّالِّ عَلَى قَبُولِ السَّائِلِ وَإِجَابَةِ ضَرَاعَتِهِ.
وَاجْعَلْ هُنَا بِمَعْنَى: صَيِّرْ، وَصُورَتُهُ أَمْرٌ، وَهُوَ طَلَبٌ وَرَغْبَةٌ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْوَادِي الَّذِي دَعَا لِأَهْلِهِ حِينَ أَسْكَنَهُمْ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ «١»، أَوْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَارَ بَلَدًا، وَلِذَلِكَ نَكَّرَهُ فَقَالَ: بَلَداً آمِناً. وَحِينَ صَارَ بَلَدًا قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي «٢»، وَقَالَ: لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ «٣»، هَذَا إِنْ كَانَ الدُّعَاءُ مَرَّتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ. وَقِيلَ: الْآيَتَانِ سَوَاءٌ، فَتَحْتَمِلُ آيَةَ التَّنْكِيرِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا مَعْرِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ، أَيِ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بَلَدًا آمِنًا، وَيَكُونُ بَلَدًا النَّكِرَةُ، تَوْطِئَةً لِمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ، كَمَا تَقُولُ: كَانَ هَذَا الْيَوْمُ يَوْمًا حَارًّا، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَ كَوْنِهِ بَلَدًا. وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ محذوف وَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ بَلَدًا، بَلْ دَعَى لَهُ بِذَلِكَ، وَتَكُونُ الْمَعْرِفَةُ الَّذِي جَاءَ فِي قَوْلِهِ: هَذَا الْبَلَدَ، باعتبار ما يؤول إِلَيْهِ سَمَّاهُ بَلَدًا. وَوَصْفُ بلد بآمن، إما
(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣٧.
(٢) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣٥.
(٣) سورة البلد: ٩٠/ ١.
612
عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ، أَيْ ذَا أَمْنٍ، كَقَوْلِهِمْ: عِيشَةٍ راضِيَةٍ «١»، أَيْ ذَاتِ رِضًا، أَوْ عَلَى الِاتِّسَاعِ لَمَّا كَانَ يَقَعُ فِيهِ الْأَمْنُ جَعَلَهُ آمِنًا كَقَوْلِهِمْ: نَهَارُكَ صَائِمٌ وَلَيْلُكَ قَائِمٌ. وَهَلِ الدُّعَاءُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ آمِنًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَالْمُسَلَّطِينَ، أَوْ مِنْ أَنْ يَعُودَ حَرَمُهُ حَلَالًا، أَوْ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ آمِنًا مِنَ الْقَتْلِ، أَوْ مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ، أَوْ من القحط والجذب، أَوْ مِنْ دُخُولِ الدَّجَّالِ، أَوْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ؟ أَقْوَالٌ. وَمَنْ فَسَّرَ آمِنًا بِكَوْنِهِ آمِنًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَالْوَاقِعُ يَرُدُّهُ، إِذْ قَدْ دَخَلَ فِيهِ الْجَبَابِرَةُ وَقَتَلُوا، كَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الْجُرْهُمِيِّ، وَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَالْقَرَامِطَةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ آمِنًا مِنَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ، فَهِيَ أَكْثَرُ بِلَادِ اللَّهِ قَحْطًا وَجَدْبًا. وَقَالَ الْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ مَأْمُونًا فِيهِ، وَكَانُوا قَبْلَ أَنْ تَغْزُوَهُمُ الْعَرَبُ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا وَجَدَ بِمَفَازَةٍ أَوْ بَرِيَّةٍ، لَا يتعرض إليه عند ما يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ سُكَّانِ الْحَرَمِ.
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: لَمَّا بَنَى إِبْرَاهِيمُ الْبَيْتَ فِي أَرْضٍ مُقْفِرَةٍ، وَكَانَ حَالُ مَنْ يَتَمَدَّنُ مِنَ الْأَمَاكِنِ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مَاءٍ يَجْرِي وَمَزْرَعَةٍ يُمْكِنُ بِهِمَا الْقِطَانُ بِالْمَدِينَةِ، دَعَا اللَّهَ لِلْبَلَدِ بِالْأَمْنِ، وَبِأَنْ يُجْبَى لَهُ الْأَرْزَاقُ. فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْبَلَدُ ذَا أَمْنٍ، أَمْكَنَ وُفُودُ التُّجَّارِ إِلَيْهِ لِطَلَبِ الرِّبْحِ. وَلَمَّا سَمِعَ فِي الْإِمَامَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. قَيَّدَ هُنَا مَنْ سَأَلَ لَهُ الرِّزْقَ فَقَالَ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِهِ. دَعَا لِمُؤْمِنِهِمْ بِالْأَمْنِ وَالْخِصْبِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُدْعَى لَهُ بِذَلِكَ. أَلَا تَرَى
أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا طَغَتْ، دَعَا عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ، كَسِنِي يُوسُفَ»
، وَكَانَتْ مَكَّةُ إِذْ ذَاكَ قَفْرًا، لَا مَاءَ بِهَا وَلَا نَبَاتَ، كَمَا قَالَ: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ فَبَارَكَ اللَّهُ فِيمَا حَوْلُهَا، كَالطَّائِفِ وَغَيْرِهِ، وَأَنْبَتَ اللَّهُ فِيهِ أَنْوَاعًا مِنَ الثَّمَرِ.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا دَعَاهُ إِبْرَاهِيمُ، أَمَرَ جِبْرِيلَ فَاقْتَلَعَ فِلَسْطِينَ
، وَقِيلَ: بُقْعَةً مِنَ الْأُرْدُنِّ، فَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعًا، فأنزلها بواد، فَسُمِّيَتِ الطَّائِفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الطَّوَافِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
كُلُّ الْأَمَاكِنِ إِعْظَامًا لِحُرْمَتِهَا تَسْعَى لَهَا وَلَهَا فِي سَعْيِهَا شَرَفُ
وَذَكَرَ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْيَوْمُ الْآخِرُ، لِأَنَّ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ إِيمَانًا بِالصَّانِعِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ، وَبِمَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى مِنَ الصِّفَاتِ، وَفِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِيمَانٌ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ الْمُرَتَّبَيْنِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَنَاطُ التَّكْلِيفِ الْمُسْتَدْعِي مُخْبِرًا
(١) سورة الحاقة: ٦٩/ ٢١.
613
صَادِقًا بِهِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ. فَتَضَمَّنَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانَ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ غَيْرَهُ فِي ضِمْنِهِ. وَدُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ لِأَهْلِ الْبَيْتِ يَعُمُّ مَنْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمَ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِذُرِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مُخْتَصًّا بِذُرِّيَّتِهِ لِقَوْلِهِ: إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي لِعَوْدِ الضَّمِيرِ فِي وَارْزُقْهُمْ عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا سُؤَالَيْنِ. وَمِنْ: فِي قَوْلِهِ: مِنَ الثَّمَرَاتِ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرْزَقُوا إِلَّا بَعْضَ الثَّمَرَاتِ.
وَقِيلَ: هِيَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَمَنْ بَدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ، بَدْلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مُخَصِّصٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُبْدَلُ مِنْهُ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِالْعُمُومِ السَّابِقِ فِي لَفْظِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، والثانية بالتنصيص عليه، وتبيين أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ إِنَّمَا عُنِيَ بِهِ وَأُرِيدَ الْبَدَلُ فَصَارَ مَجَازًا، إِذْ أُرِيدَ بِالْعَامِّ الْخَاصُّ. هَذِهِ فَائِدَةُ هَذَيْنِ الْبَدَلَيْنِ، فَصَارَ فِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَتَثْبِيتٌ لِلْمُتَعَلِّقِ بِهِ الْحُكْمُ، وَهُوَ الْبَدَلُ، إِذْ ذُكِرَ مَرَّتَيْنِ.
قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ: فَأُمَتِّعُهُ، مُشَدَّدًا عَلَى الْخَبَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: فَأُمْتِعُهُ، مُخَفِّفًا عَلَى الْخَبَرِ. وَقَرَأَ هَؤُلَاءِ: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ خَبَرًا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: فَأُمْتِعُهُ مُخَفَّفًا، ثُمَّ إِضْطَرُّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُمَا خِبْرَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: ثُمَّ أَضطَّرُّهُ، بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ خَبَرًا.
وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: ثُمَّ أَضْطُرُّهُ بِضَمِّ الطَّاءِ، خَبَرًا. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: فَنُمَتِّعُهُ ثُمَّ نَضْطَرُّهُ بِالنُّونِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ فِيهِمَا، فَأَمَّا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي: قَالَ، عَائِدًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، لَمَّا دَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالرِّزْقِ، دَعَا عَلَى الْكَافِرِينَ بِالْإِمْتَاعِ الْقَلِيلِ وَالْإِلْزَازِ إِلَى الْعَذَابِ. وَمَنْ: عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع، عَلَى أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً أَوْ شَرْطِيَّةً، وَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ عَلَى الْوَصْلِ أَيْضًا. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي: قَالَ، عَائِدًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ومن: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: قَالَ اللَّهُ وأرزق من كفر فأمتعه، وَيَكُونُ فَأُمَتِّعُهُ مَعْطُوفًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ النَّاصِبِ لِمَنْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، إِمَّا مَوْصُولًا، وَإِمَّا شَرْطًا، وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَوِ الدَّاخِلَةُ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ لِشُبْهَةٍ بِاسْمِ الشَّرْطِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ إِذَا كَانَتْ شَرْطًا، لِأَنَّهُ لَا يُفَسِّرُ الْعَامِلَ فِي مَنْ إِلَّا فِعْلُ الشَّرْطِ، لَا الْفِعْلُ الْوَاقِعُ جَزَاءً، وَلَا إِذَا
614
كَانَتْ مَوْصُولَةً، لِأَنَّ الْخَبَرَ مُضَارِعٌ قَدْ دَخَلَتْهُ الْفَاءُ تَشْبِيهًا، لِلْمَوْصُولِ بِاسْمِ الشَّرْطِ. فَكَمَا لَا يُفَسِّرُ الْجَزَاءُ، كَذَلِكَ لَا يُفَسِّرُ الْخَبَرُ الْمُشَبَّهُ بِالْجَزَاءِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ أَمْرًا، أَعْنِي الْخَبَرَ نَحْوَ:
زَيْدًا فَاضْرِبْهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفَسِّرَ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ تَقُولَ: زَيْدًا فَتَضْرِبُهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَلِجَوَازِ:
زَيْدًا فَاضْرِبْهُ عَلَى الْأَمْرِ، عِلَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ من مبتدأ، وفأمتعه الْخَبَرَ، لِأَنَّ الَّذِي لَا يَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مُسْتَحِقًّا لِصِلَتِهَا، كَقَوْلِكَ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ. وَالْكُفْرُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّمَتُّعُ. فَإِنْ جُعِلَتِ الْفَاءُ زَائِدَةً عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ جَازَ، أَوِ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، وَفَأُمَتِّعُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ جَازَ، تَقْدِيرُهُ: وَمَنْ كَفَرَ أَرْزُقُهُ فَأُمَتِّعُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ شَرْطِيَّةً وَالْفَاءُ جَوَابَهَا. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
وَمَنْ يَكْفُرُ أَرْزُقُ. وَمَنْ عَلَى هَذَا رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً، لِأَنَّ أَدَاةَ الشَّرْطِ لَا يَعْمَلُ فِيهَا جَوَابُهَا، بَلِ الشَّرْطُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَوْلُهُ أَوَّلًا لَا يَجُوزُ كَذَا وَتَعْلِيلُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَحَقٌّ بِالصِّلَةِ، لِأَنَّ التَّمَتُّعَ الْقَلِيلَ وَالصَّيْرُورَةَ إِلَى النَّارِ مُسْتَحِقَّانِ بِالْكُفْرِ. ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ نَاقَضَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي تَجْوِيزِهِ أَنْ تَكُونَ مَنْ شُرْطِيَّةً والفاء جَوَابَهَا. وَهَلِ الْجَزَاءُ إِلَّا مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْطِ وَمُتَرَتَّبٌ عَلَيْهِ؟ فَكَذَلِكَ الْخَبَرُ الْمُشَبَّهُ بِهِ أَيْضًا. فَلَوْ كَانَ التَّمَتُّعُ قَلِيلًا لَيْسَ مُسْتَحَقًّا بِالصِّلَةِ، وَقَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّ بِالصِّلَةِ، نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ خَبَرًا مِنْ حَيْثُ وَقَعَ جَزَاءً، وَقَدْ جَوَّزَ هُوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَقْدِيرُ زِيَادَةِ الْفَاءِ، وَإِضْمَارِ الْخَبَرِ، وَإِضْمَارِ جَوَابِ الشَّرْطِ، إِذَا جَعَلْنَا مَنْ شَرْطِيَّةً، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُنْتَظِمٌ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ دُونَ هَذَا الْإِضْمَارِ. وَإِنَّمَا جَرَى أَبُو الْبَقَاءِ فِي إِعْرَابِهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حَدِّ مَا يَجْرِي فِي شَعْرٍ الشَّنْفَرِيِّ وَالشَّمَّاخِ، مِنْ تَجْوِيزِ الْأَشْيَاءِ الْبَعِيدَةِ وَالتَّقَادِيرِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهَا، وَنَحْنُ نُنَزِّهُ الْقُرْآنَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ كَفَرَ: عَطْفٌ عَلَى مَنْ آمَنَ، كما عطف ومن ذريتي عَلَى الْكَافِ فِي جَاعِلُكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقَدَّمَ لَنَا الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي زَعْمِهِ أَنَّ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عَطْفٌ عَلَى الْكَافِ فِي جَاعِلُكَ. وَأَمَّا عَطْفُ مَنْ كَفَرَ عَلَى مَنْ آمَنَ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يَتَنَافَى فِي تَرْكِيبِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ الْمَعْنَى: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَارْزُقْ مَنْ كَفَرَ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ حَتَّى يُشْرِكَهُ فِي الْعَامِلِ، وَمَنْ آمَنَ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلُ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي وَمَنْ كَفَرَ. وَإِذَا قَدَّرْتَهُ أَمْرًا، تَنَافَى مَعَ قَوْلِهِ: فَأُمَتِّعُهُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِنَسْبِهِ التَّمَتُّعَ وَإِلْجَائَهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَأَنَّ كُلًّا مِنَ الْفِعْلَيْنِ يَضْمَنُ ضَمِيرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى بُعْدٍ، بِأَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْفَاءِ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ فِيهِ ضَمِيرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَارْزُقْ مَنْ كَفَرَ، فَقَالَ اللَّهُ: أُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ. ثُمَّ نَاقَضَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ هَذَا، أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى مَنْ، كما عطف
615
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عَلَى الْكَافِ فِي جَاعِلُكَ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لَمْ خَصَّ إِبْرَاهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى رُدَّ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: قَاسَ الرِّزْقَ عَلَى الْإِمَامَةِ، فَعَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ اسْتِرْعَاءٌ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يَنْصَحُ لِلْمَرْعِيِّ. وَأَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ النَّصِيحَةِ الظَّالِمُ، بِخِلَافِ الرِّزْقِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ اسْتِدْرَاجًا لِلْمَرْزُوقِ وَإِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ لَهُ. وَالْمَعْنَى: وَأَرْزَقُ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَالْمَعْنَى: وأرزق من كفر فأمتعه يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَالَ، وَمَنْ كَفَرَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّ من كفر منصوب بارزق الَّذِي هُوَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُنَاقِصُ مَا قُدِّمَ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ مَنْ كَفَرَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْ آمَنَ. وَفِي قَوْلِهِ خَصَّ إِبْرَاهِيمُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى رُدَّ عَلَيْهِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي، وَيَرْغَبُ فِي أَنْ يَرْزُقَ الْكَافِرَ، بَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ وَمَنْ كَفَرَ، إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَكُونُ مَآلُ الْكَافِرِ إِلَيْهِ مِنَ التَّمْتِيعِ الْقَلِيلِ وَالصَّيْرُورَةِ إِلَى النَّارِ، وَلَيْسَ هُنَا قِيَاسُ الرِّزْقِ عَلَى الْإِمَامَةِ، وَلَا تَعْرِيفُ الْفِرَقِ بَيْنَهُمَا، كَمَا زَعَمَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَتَاعِ، وَأَنَّهُ كُلُّ مَا انْتُفِعَ بِهِ، وَفَسَّرَ هُنَا التَّمْتِيعَ وَالْإِمْتَاعَ بِالْإِبْقَاءِ، أَوْ بِتَيْسِيرِ الْمَنَافِعِ، وَمِنْهُ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيْ مَنْفَعَتُهَا الَّتِي لَا تَدُومُ، أَوْ بِالتَّزْوِيدِ، وَمِنْهُ:
فَمَتِّعُوهُنَّ أَيْ زَوِّدُوهُنَّ نَفَقَةً. وَالْمُتْعَةُ: مَا يُتَبَلَّغُ بِهِ مِنَ الزَّادِ، وَالْجَمْعُ مُتَعٌ، وَمِنْهُ: مَتَاعًا لَكُمْ. وَلِلسَّيَّارَةِ وَالْهَمْزَةُ فِي أَمْتَعَ يَجْعَلُ الشَّيْءَ صَاحِبَ مَا صِيغَ مِنْهُ: أَمْتَعْتُ زَيْدًا، جَعَلْتُهُ صَاحِبَ مَتَاعٍ، كَقَوْلِهِمْ: أَقْبَرْتُهُ وَأَنْعَلْتُهُ، وَكَذَلِكَ التَّضْعِيفُ فِي مَتَّعَ هُوَ: يَجْعَلُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى مَا صِيغَ مِنْهُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: عَدَّلْتُهُ. وَلَيْسَ التَّضْعِيفُ فِي مَتَّعَ يَقْتَضِي التَّكْثِيرَ، فَيُنَافِي ظَاهِرَ ذَلِكَ الْقِلَّةُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ وَتَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الْكَثْرَةَ بِإِضَافَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْقِلَّةَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ. فَقَدِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ فلم يتنافينا.
وَانْتِصَابُ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ تَمْتِيعًا قَلِيلًا، عَلَى تَقْدِيرِ الْجُمْهُورِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ، الدَّالِّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَالْوَصْفُ بِالْقِلَّةِ لِسُرْعَةِ انْقِضَائِهِ، إِمَّا لِحُلُولِ الْأَجَلِ، وَإِمَّا بِظُهُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يُخْرِجُهُ عَنْ هَذَا الْبَلَدِ، إِنْ أَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِمْتَاعِ بِالنَّعِيمِ وَالزِّينَةِ، أَوْ بِالْإِمْهَالِ عَنْ تَعْجِيلِ الِانْتِقَامِ فِيهَا، أَوْ بِالرِّزْقِ، أَوْ بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، أَقْوَالٌ لِلْمُفَسِّرِينَ. وَقِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ: ثُمَّ إِضْطَرُّهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ، فِي قَوْلِهِمْ: لَا إِخَالُ، يَعْنِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا النَّقْلِ فِي أَنَّ ذَلِكَ، أَعْنِي كَسْرَ الْهَمْزَةِ الَّتِي لِلْمُتَكَلِّمِ فِي نَحْوِ إِضْطَرُّ، وَهُوَ مَا أَوَّلَهُ هَمْزَةُ
616
وَصْلٍ. وَفِي نَحْوِ إِخَالُ، وَهُوَ إِفْعَلُ الْمَفْتُوحُ الْعَيْنِ مِنْ فِعَلَ الْمَكْسُورِ الْعَيْنِ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلَهُ النَّحْوِيُّونَ. فَإِنَّهُمْ نَقَلُوا عَنِ الْحِجَازِيِّينَ فَتْحَ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِمَّا أَوَّلُهُ هَمْزَةُ وَصْلٍ، وَمِمَّا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَفْعَلُ بِفَتْحِهَا، أَوْ ذَا يَاءٍ مَزِيدَةٍ فِي أَوَّلِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ: عَلِمَ يَعْلَمُ، وَانْطَلَقَ يَنْطَلِقُ، وتعلم بتعلم، إِلَّا إِنْ كَانَ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ يَاءً، فَجُمْهُورُ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ الْحِجَازِيِّينَ لَا يَكْسِرُ الْيَاءَ، بَلْ يَفْتَحُهَا. وَفِي مِثْلِ يَوْجِلُ بِالْيَاءِ مُضَارِعِ وَجِلَ، مَذَاهِبُ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ كَلَامَ ابْنِ عَطِيَّةِ مُخَالِفٌ لِمَا حَكَاهُ النُّحَاةُ، إِلَّا إِنْ كَانَ نَقَلَ أَنَّ إِخَالُ بِخُصُوصِيَّتِهِ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ مَكْسُورُ الْهَمْزَةِ دُونَ نَظَائِرِهِ، فَيَكُونُونَ قَدْ تَبِعُوا فِي ذَلِكَ لُغَةَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ صَحِيحًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي سُورَةِ الْحَمْدِ فِي قَوْلِهِ: نَسْتَعِينُ أَنَّ الْكَسْرَةَ لُغَةُ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ وَأَسَدٍ وَرَبِيعَةَ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ كِتَابِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا.
وَقِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ: ثُمَّ أَطَّرُّهُ، بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ مَرْذُولَةٌ، لِأَنَّ الضَّادَ مِنَ الْحُرُوفِ الْخَمْسَةِ الَّتِي يُدْغَمُ فِيهَا مَا يُجَاوِرُهَا، وَلَا تُدْغَمُ هِيَ فِيمَا يُجَاوِرُهَا، وَهِيَ حُرُوفُ ضُمَّ شُفْرٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. إِذَا لَقِيَتِ الضَّادُ الطَّاءَ فِي كَلِمَةٍ نَحْوِ مُضْطَرِبٍ، فَالْأَوْجَهُ الْبَيَانُ، وَإِنْ أُدْغِمَ قُلِبَ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ فَقِيلَ: مُضَّرِبٌ، كَمَا قِيلَ: مُصَّبِرٌ فِي مُصْطَبِرٍ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مُطَّجِعٌ، فِي مُضْطَجِعٍ وَمَضَّجِعٌ أَكْثَرَ، وَجَازَ مُطَّجِعٌ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي مُصْطَبِرٍ مُطَّبِرٍ، لِأَنَّ الضَّادَ لَيْسَتْ فِي السَّمْعِ كَالصَّادِّ، يَعْنِي أَنَّ الصَّفِيرَ الَّذِي فِي الصَّادِ أَكْثَرُ فِي السَّمْعِ مِنَ اسْتِطَالَةِ الضَّادِ. فَظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ لُغَةً مَرْذُولَةً، أَلَا تَرَى إِلَى نَقْلِهِ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ مُطَّجِعٌ، وَإِلَى قَوْلِهِ: وَمَضَّجِعٌ أَكْثَرُ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنْ مُطَّجِعًا كَثِيرٌ؟ وَأَلَا تَرَى إِلَى تَعْلِيلِهِ، وَكَوْنُ الضَّادِ قُلِبَتْ إِلَى الطَّاءِ وَأُدْغِمَتْ، وَلَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ بِالصَّادِ، وَإِبْدَاءِ الْفِرَقِ بَيْنَهُمَا؟ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، يَدُلُّ عَلَى الْجِوَازِ. وَقَدْ أُدْغِمَتِ الضَّادُ فِي الذَّالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَرْضَ ذَلُولًا «١»، رَوَاهُ الْيَزِيدِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَفِي الشِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ «٢»، وَالْأَرْضِ شَيْئاً «٣»، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَأَمَّا الشِّينُ فَأُدْغِمَتْ فِي السِّينِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا»
، وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وهو رأس من رؤوس
(١) سورة الملك: ٦٧/ ١٥.
(٢) سورة النور: ٢٤/ ٦٢.
(٣) سورة النحل: ١٦/ ٧٣.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ٤٢.
617
الْبَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا الْفَاءُ فَقَدْ أُدْغِمَتْ فِي الْبَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ «١»، وَهُوَ إِمَامُ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا الرَّاءُ، فَذَهَبَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ مِنْ أَجْلِ تَكْرِيرِهَا، وَلَا فِي النُّونِ. وَأَجَازَ ذَلِكَ فِي اللَّامِ: يَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الرؤاسي، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الْكُوفِيِّينَ، حَكَوْهُ سَمَاعًا عَنِ الْعَرَبِ. وَإِنَّمَا تَعَرَّضْتُ لِإِدْغَامِ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِيمَا يُجَاوِرُهَا، وَذِكْرِ الْخِلَافِ فِيهَا، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: لَا تُدْغَمُ فِيمَا يُجَاوِرُهَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ. فَأَوْرَدْتُ هَذَا الْخِلَافَ فِيهَا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، إِذْ إِطْلَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ أَلْبَتَّةَ. وَقِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ: بِضَمِّ الطَّاءِ، تَوْجِيهُهَا أَنَّهُ أَتْبَعَ حَرَكَةَ الطَّاءِ لِحَرَكَةِ الرَّاءِ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ بِالنُّونِ فِيهِمَا، فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ، فَهِيَ شَاذَّةٌ.
وَقِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ يَكُونُ تَكْرِيرُ قَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَوْ لِيَكُونَ ذَلِكَ جُمْلَتَيْنِ، جُمْلَةٌ بِالدُّعَاءِ لِمَنْ آمَنَ، وَجُمْلَةٌ بِالدُّعَاءِ عَلَى مَنْ كَفَرَ، فَلَا يَنْدَرِجَانِ تَحْتَ مَعْمُولٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَفْرَدَ كُلًّا بِقَوْلٍ. وَأَضْطَرُّهُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، كَمَا تَقُولُ: عَضَّهُ بِالْفَتْحِ، وَهَذَا الْإِدْغَامُ هُوَ عَلَى لُغَةِ غَيْرِ الْحِجَازِيِّينَ، لِأَنَّ لُغَةَ الْحِجَازِيِّينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْفَكُّ.
وَلَوْ قَرَأَ عَلَى لُغَةِ قَوْمِهِ، لَكَانَ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابٍ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ. وَمَعْنَى الِاضْطِرَارِ هُنَا هُوَ أَنَّهُ يُلْجَأُ وَيُلَزُّ إِلَى الْعَذَابِ، بِحَيْثُ لَا يجد محيصا عنه إذا حد، لَا يُؤْثِرُ دُخُولَ النَّارِ وَلَا يَخْتَارُهُ. وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ هُنَا مُلْغًى، إِذْ قَدْ يَدْخُلُ النَّارَ بَعْضُ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النَّارُ، إِنْ كَانَ الْمَصِيرُ اسْمَ مَكَانٍ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فَالتَّقْدِيرُ: وَبِئْسَتِ الصَّيْرُورَةُ صَيْرُورَتُهُ إِلَى الْعَذَابِ.
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ: هَذِهِ الجملة معطوفة على ما قَبْلَهَا، فَالْعَامِلُ فِي إِذْ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ الْعَامِلُ فِي إِذْ قَبْلَهَا. وَيَرْفَعُ فِي مَعْنَى رَفَعَ، وَإِذْ مِنَ الْأَدَوَاتِ الْمُخَلِّصَةِ لِلْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي، لِأَنَّهَا ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ. وَالرَّفْعُ حَالَةُ الْخِطَابِ قَدْ وَقَعَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ. مِنَ الْبَيْتِ: هُوَ الْكَعْبَةُ. ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَاهِيَّةِ هَذَا الْبَيْتِ وَقِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ بَابَاهُ، وَكَمْ مَرَّةً حَجَّةُ آدَمُ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَمَنْ سَاعَدَهُ عَلَى الْبِنَاءِ، قِصَصًا كَثِيرَةً. وَاسْتَطْرَدُوا مِنْ ذَلِكَ لِلْكَلَامِ فِي الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَفِي طُولِ آدَمَ، وَالصَّلَعِ الَّذِي عَرَضَ لَهُ ولولده، وفي
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ٩.
618
الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَطَوَّلُوا فِي ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَتَضَمَّنْهَا الْقُرْآنُ وَلَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَبَعْضُهَا يُنَاقِضُ بَعْضًا، وَذَلِكَ عَلَى جَرْيِ عَادَاتِهِمْ فِي نَقْلِ مَا دَبَّ وَمَا دَرَجَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ إِلَّا عَلَى مَا صَحَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَصِحُّ من هَذَا كُلِّهِ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِرَفْعِ الْقَوَاعِدِ مِنَ الْبَيْتِ وَنُشَاحُّهُ فِي قَوْلِهِ: أَمَرَ، إِذْ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ. الْقَواعِدَ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَهَلْ هِيَ الْأَسَاسُ أَوِ الْجُدُرُ؟ فَإِنْ كَانَتِ الْأَسَاسَ، فَرَفَعَهَا بِأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا، فَتَنْتَقِلُ مِنْ هَيْئَةِ الِانْخِفَاضِ إِلَى هَيْئَةِ الِارْتِفَاعِ، وَتَتَطَاوَلٍ بَعْدَ التَّقَاصُرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا سَاقَاتِ الْبِنَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا قُعِّدَ مِنَ البيت، أي استوطىء، يَعْنِي جَعَلَ هَيْئَةَ الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَوْطَأَةِ مُرْتَفِعَةً عَالِيَةً بِالْبِنَاءِ.
مِنَ الْبَيْتِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ متعلقا بيرفع، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرِهِ: كَائِنَةٌ مِنَ الْبَيْتِ. وَلَمْ تُضَفِ الْقَوَاعِدُ إِلَى الْبَيْتِ، فَكَانَ يَكُونُ الْكَلَامُ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ، لِمَا فِي عَدَمِ الْإِضَافَةِ مِنَ الْإِيضَاحِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِ الْمُبَيَّنِ. وَإِسْماعِيلُ: مَعْطُوفٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الرَّفْعِ. قِيلَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مَعًا، وَهَذَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ طِفْلٌ صَغِيرٌ إِذْ ذَاكَ، كَانَ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ إِذْ ذَاكَ طِفْلًا صَغِيرًا
، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَمَنْ جَعَلَ الْوَاوَ فِي وَإِسْمَاعِيلُ وَاوَ الْحَالِ، أَعْرَبَ إِسْمَاعِيلَ مُبْتَدَأً وَأَضْمَرَ الْخَبَرَ، التَّقْدِيرُ: وَإِسْمَاعِيلُ يَقُولُ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، فَيَكُونُ إِبْرَاهِيمُ مُخْتَصًّا بِالْبِنَاءِ، وَإِسْمَاعِيلُ مُخْتَصًّا بِالدُّعَاءِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْعَطْفِ، جَعَلَ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ عَائِدٍ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ مَعًا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: وَإِذْ يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ قَائِلِينَ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ الْعَطْفَ فِي وَإِسْمَاعِيلُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ يَقُولَانِ بِإِظْهَارِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْعَامِلَ فِي إِذْ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمَا دَعَوْا بِذَلِكَ الدُّعَاءِ وَقْتَ أَنْ شَرَعَا فِي رَفْعِ الْقَوَاعِدِ، وَفِي نِدَائِهِمَا بِلَفْظِ رَبَّنَا تَلَطُّفٌ وَاسْتِعْطَافٌ بِذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ بِحَالِ الدَّاعِي.
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا: أَيْ أَعْمَالَنَا الَّتِي قَصَدْنَا بِهَا طَاعَتَكَ، وَتَقَبَّلْ بِمَعْنَى: اقْبَلْ، فَتَفَعَّلْ هُنَا بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ كَقَوْلِهِمْ: تَعَدَّى الشيء وَعَدَّاهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جاء لها تفعل.
619
وَالْمُرَادُ بِالتَّقَبُّلِ: الْإِثَابَةُ، عَبَّرَ بِإِحْدَى الْمُتَلَازِمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، لِأَنَّ التَّقَبُّلَ هُوَ أَنْ يَقْبَلَ الرَّجُلَ مِنَ الرَّجُلِ مَا يُهْدِي إِلَيْهِ. فَشَبَّهَ الْفِعْلَ مِنَ الْعَبْدِ بِالْعَطِيَّةِ، وَالرِّضَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّقَبُّلِ تَوَسُّعًا. وَحَكَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ فَرْقًا بَيْنَ الْقَبُولِ وَالتَّقَبُّلِ، قَالَ: التَّقَبُّلُ تَكَلُّفُ الْقَبُولِ، وَذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ نَاقِصًا لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْبَلَ، قَالَ: فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِالتَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ. وَلَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ إِعْطَاءَ الثَّوَابِ، لِأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ وَاقِعًا مَوْقِعَ الْقَبُولِ مِنَ الْمَخْدُومِ، أَلَذُّ عِنْدَ الْخَادِمِ الْعَاقِلِ مِنْ إِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، وَسُؤَالُهُمَا التَّقَبُّلَ بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَنَقُولُ: إِنَّ التَّقَبُّلَ وَالْقَبُولَ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا يُمْكِنُ تَعَقُّلُ التَّكْلِيفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ تَفَعَّلَ هُنَا مُوَافِقٌ لِلْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي هُوَ قَبْلُ.
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ: يَجُوزُ فِي أَنْتَ الِابْتِدَاءُ وَالْفَصْلُ وَالتَّأْكِيدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْفَصْلِ وَفَائِدَتِهِ، وَهُوَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي جَمَعْتُ فِيهَا الْكَلَامَ فِي نَحْوٍ مِنْ سَبْعَةِ أَوْرَاقٍ أَحْكَامًا دُونَ اسْتِدْلَالٍ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مُنَاسِبَتَانِ هُنَا غَايَةَ التَّنَاسُبِ، إِذْ صَدَرَ مِنْهُمَا عَمَلٌ وَتَضَرُّعُ سُؤَالٍ، فَهُوَ السَّمِيعُ لضراعتهما وتسالهما التَّقَبُّلَ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِهِمَا فِي إِخْلَاصِ عَمَلِهِمَا. وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ السَّمْعِ، وَإِنْ كَانَ سُؤَالُ التَّقَبُّلِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْعَمَلِ لِلْمُجَاوِرَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ «١». فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وَتَأَخَّرَتْ صِفَةُ الْعَلِيمِ لِكَوْنِهَا فَاصِلَةً وَلِعُمُومِهَا، إِذْ يَشْمَلُ عِلْمَ الْمَسْمُوعَاتِ وَغَيْرِ الْمَسْمُوعَاتِ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ: أَيْ مُنْقَادَيْنِ، أَوْ مُخْلِصَيْنِ أَوْجُهَنَا لَكَ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ، أَيْ أَخْلَصَ عَمَلَهُ، وَالْمَعْنَى: أَدِمْ لَنَا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكَ تُفِيدُ جِهَةُ الْإِسْلَامِ، أَيْ لَكَ لَا لِغَيْرِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: مُسْلِمِينَ عَلَى الْجَمْعِ، دُعَاءٌ لَهُمَا وَلِلْمَوْجُودِ مِنْ أَهْلِهِمَا، كَهَاجَرَ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ لَفْظِ الْجَمْعِ مُرَادًا بِهِ التَّثْنِيَةَ، وَقَدْ قِيلَ بِهِ هُنَا.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ: لَمَّا تَقَدَّمَ الْجَوَابُ لَهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، عَلِمَ أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا الظَّالِمَ وَغَيْرَ الظَّالِمِ، فَدَعَا هُنَا بِالتَّبْعِيضِ لَا بِالتَّعْمِيمِ فَقَالَ:
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا، وَخَصَّ ذُرِّيَّتَهُ بِالدُّعَاءِ لِلشَّفَقَةِ وَالْحُنُوِّ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ فِي صَلَاحِ نَسْلِ الصَّالِحِينَ نَفْعًا كَثِيرًا لِمُتَّبِعِهِمْ، إِذْ يَكُونُونَ سَبَبًا لِصَلَاحِ مَنْ وَرَاءَهُمْ. وَالذُّرِّيَّةُ هُنَا، قِيلَ: أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَابْعَثْ فِيهِمْ «٢». وَقِيلَ: هُمُ الْعَرَبُ، لِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا. قال:
(١) سورة آل عمران: ٦/ ١٠٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٢٩.
620
الْقَفَّالُ: لَمْ يَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا مَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَلَمْ تَزَلِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من ذُرِّيَّتِهِمَا، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَقُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الْإِيَادِيُّ. وَيُقَالُ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ، جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَمْرُو بْنُ الظَّرَبِ، كَانَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ فِي قوله: ومن ذُرِّيَّتِنَا، لِلتَّبْيِينِ، قَالَ كَقَوْلِهِ:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ «١»، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ كَوْنَ مَنْ لِلتَّبْيِينِ يَأْبَاهُ أَصْحَابُنَا وَيَتَأَوَّلُونَ مَا فُهِمَ مِنْ ظَاهِرِهِ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: الْجَمَاعَةُ، أَوِ الْجِيلُ، وَالْمَعْنَى:
عَلَى أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا هُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ: وَاجْعَلْ، لِأَنَّ الْجَعْلَ هُنَا بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، فَالْمَعْنَى: وَاجْعَلْ نَاسًا مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَا قُدِّرَ مِنْ قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا بمعنى: أوجدوا خلق. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى صَحِيحًا، فَكَانَ يَكُونُ الْجَعْلُ هُنَا يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا مُتَعَلِّقٌ بِاجْعَلِ الْمُقَدَّرَةِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، فَهُوَ مُشْتَرِكٌ فِي الْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَالْعَامِلُ الْأَوَّلِ لَيْسَ مَعْنَاهُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمَلِ، فَلَا يُحْذَفُ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَنْطُوقُ. وَالْمَنْطُوقُ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ، فَكَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ. أَلَا تَرَاهُمْ قَدْ مَنَعُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ «٢» أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ، لِاخْتِلَافِ مَدْلُولَيِ الصَّلَاتَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ، وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ وَحَمَلُوهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَا عَلَى الْحَذْفِ؟ وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ أُمَّةً، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا حَالٌ، لِأَنَّهُ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَمُسْلِمَةٌ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَكَانَ الْأَصْلُ: اجْعَلْ أُمَّةً مِنْ ذُرِّيَّتِنَا مُسْلِمَةً لَكَ، قَالَ: فَالْوَاوُ دَاخِلَةٌ فِي الْأَصْلِ عَلَى أُمَّةٍ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: مِنْ ذُرِّيَّتِنَا، وَهُوَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الْمَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ:
يَوْمًا تراها كشبه أردية العصب وَيَوْمًا أَدِيمُهَا نَغِلَا مِنَ الضَّرُورَاتِ، فَالْفَصْلُ بِالْحَالِ أَبْعَدُ مِنَ الْفَصْلِ بِالظَّرْفِ، فَصَارَ نَظِيرَ: ضَرَبْتُ الرَّجُلَ، وَمُتَجَرِّدَةٌ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ: وَالْمَرْأَةُ مُتَجَرِّدَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ جَوَازُ هَذَا بِالضَّرُورَةِ.
وَأَرِنا مَناسِكَنا: قَالَ قَتَادَةُ: مَعَالِمُ الْحَجِّ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: مَذَابِحَنَا، أَيْ مَوَاضِعَ الذَّبْحِ. وَقِيلَ: كُلُّ عِبَادَةٍ يُتَعَبَّدُ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ الْكِرْمَانِيُّ: إِنْ كان المراد
(١) سورة النور: ٢٤/ ٥٥.
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٣.
621
أَعْمَالَ الْحَجِّ، وَمَا يُفْعَلُ فِي الْمَوَاقِفِ، كَالطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ، وَالْوُقُوفِ، وَالصَّلَاةِ، فَتَكُونُ الْمَنَاسِكُ جَمْعَ مَنْسَكٍ: الْمَصْدَرُ، جُمِعَ لِاخْتِلَافِهَا. وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْمَوَاقِفَ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا شَرَائِعُ الْحَجِّ، كَمِنًى، وَعَرَفَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةِ، فَيَكُونُ جَمْعَ مَنْسَكٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الْعِبَادَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَدَعَا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحَجَّ بِهِ.
وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ، أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَمَعْنَى أَرِنَا: أَيْ بَصِّرْنَا. إِنْ كَانَتْ مِنْ رَأَى الْبَصْرِيَّةِ. وَالتَّعَدِّي هُنَا إِلَى اثْنَيْنِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ بِالْهَمْزَةِ مِنَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، فَالْمَنْقُولُ أَنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ
وَقَالَ الْكُمَيْتُ:
بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عليّ وتحسب
فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ النَّقْلِ، تَعَدَّتْ إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ هُنَا إِلَّا اثْنَانِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. وَقَدْ جَعَلَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَشَرَحَهَا بِقَوْلِهِ: عَرِّفْ، فَهِيَ عِنْدَهُ تَأْتِي بِمَعْنَى عَرِّفْ، أَيْ تَكُونُ قَلْبِيَّةً وَتَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، ثُمَّ أُدْخِلَتْ هَمْزَةُ النَّقْلِ فَتَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى سَمَاعٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَعَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَيَلْزَمُ قَائِلَهُ أَنْ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ مِنْهُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفْعُولِينَ، وَيَنْفَصِلُ بِأَنَّهُ يُوجَدُ مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، كَغَيْرِ الْمُعَدَّى، قَالَ حَطَائِطُ بْنُ يَعْفُرَ أَخُو الْأَسْوَدِ:
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا
انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ. وَيَلْزَمُ قَائِلَهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةِ مَفْعُولِينَ، إِنَّمَا يَلْزَمُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّ رَأَى. إِذَا كَانَتْ قَلْبِيَّةً، تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ، وَبِهَمْزَةِ النَّقْلِ تَصِيرُ تَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَقَوْلُهُ: وَيَنْفَصِلُ بِأَنَّهُ يُوجَدُ مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، كَغَيْرِ الْمُعَدَّى، يَعْنِي أَنَّهُ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ وَمَعَهُ هَمْزَةُ النَّقْلِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ مُتَعَدِّيًا إِلَى اثْنَيْنِ بِغَيْرِ الْهَمْزَةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، ثَبَتَ أَنْ لَرَأَى، إِذَا كَانَتْ قَلْبِيَّةً، اسْتِعْمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَلِمَ الْمُتَعَدِّيَةِ لِوَاحِدٍ بِمَعْنَى عَرَفَ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى عَلِمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى اثْنَيْنِ. وَاسْتِدْلَالُ ابْنِ عَطِيَّةٍ بِبَيْتِ ابْنِ يَعْفُرَ عَلَى أَنَّ أَرَى
622
قَلْبِيَّةٌ، لَا دَلِيلَ فِيهِ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهَا بَصَرِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى أَبْصِرِينِي جَوَادًا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: مَاتَ هَزْلًا؟ فَإِنَّ هَذَا هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْبَصَرِ، فَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ رَأَى الْقَلْبِيَّةِ مُتَعَدِّيَةٍ لِوَاحِدٍ إِلَى سَمَاعٍ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ حَاشِدُ لُغَةٍ، وَحَافِظُ نَوَادِرَ: حِينَ عَدَّى مَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَقَالَ فِي التَّسْهِيلِ، وَرَأَى لَا لِإِبْصَارٍ، وَلَا رَأْيٍ، وَلَا ضَرْبٍ، فَلَوْ كَانَتْ رَأَى بِمَعْنَى عَرَفَ، لَنَفَى ذَلِكَ، كَمَا نَفَى عَنْ رَأَى الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى اثْنَيْنِ، كَوْنَهَا لَا تَكُونُ لِأَبْصَارِ، ولا رأي، ولا ضرب. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُرَادُ هُنَا بِالرُّؤْيَةِ رُؤْيَةُ الْبَصَرِ وَالْقَلْبِ مَعًا، لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ بَعْضُهَا يُعْلَمُ وَلَا يُرَى، وَبَعْضُهَا لَا يَتِمُّ الْغَرَضُ مِنْهُ إِلَّا بِالرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، أَوْ حَمْلُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَأَرْنَا، وَأَرْنِي خَمْسَةً بِإِسْكَانِ الرَّاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: الْإِسْكَانُ وَالِاخْتِلَاسُ. وَرُوِيَ عَنْهُ: الْإِشْبَاعُ، كَالْبَاقِينَ، إِلَّا أَنَّ أَبَا عَامِرٍ، وَأَبَا بَكْرٍ أَسْكَنَا فِي أَرْنَا اللَّذَيْنِ. فَالْإِشْبَاعُ هُوَ الْأَصْلُ، وَالِاخْتِلَاسُ حَسَنٌ مَشْهُورٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَالْإِسْكَانُ تَشْبِيهٌ لِلْمُنْفَصِلِ بالمتصل، كما قالوا: فخذوا سهله، كَوْنُ الْحَرَكَةِ فِيهِ لَيْسَتْ لِإِعْرَابٍ. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ الْإِسْكَانَ مِنْ أَجْلِ أَنِ الْكَسْرَةَ تَدُلُّ عَلَى مَا حُذِفَ، فَيَقْبُحُ حَذْفُهَا، يَعْنِي أَنَّ الْأَصْلَ كَانَ أَرِءَ، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ، فَكَانَ فِي إِقْرَارِهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ هَذَا أَصْلٌ مَرْفُوضٌ، وَصَارَتِ الْحَرَكَةُ كَأَنَّهَا حَرَكَةٌ لِلرَّاءِ. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. أَلَا تَرَاهُمْ أَدْغَمُوا فِي لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، أَيِ الْأَصْلُ لَكِنْ، ثُمَّ نَقَلُوا الْحَرَكَةَ وَحَذَفُوا، ثُمَّ أَدْغَمُوا؟ فَذَهَابُ الْحَرَكَةِ فِي أَرِنَا لَيْسَ بِدُونِ ذِهَابِهَا فِي الْإِدْغَامِ. وَأَيْضًا فَقَدْ سُمِعَ الْإِسْكَانُ فِي هَذَا الْحَرْفِ نَصًّا عَنِ الْعَرَبِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَرْنَا أَدَاوَةَ عَبْدِ اللَّهِ نَمْلَؤُهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا
وَأَيْضًا فَهِيَ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، فَإِنْكَارُهَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ تَأْدِيَةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ هَذِهِ الْمَنَاسِكِ، أَقْوَالًا سَبْعَةً مُضْطَرِبَةَ النَّقْلِ. وَذَكَرُوا أَيْضًا مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ مِنْهُمْ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ مَاتَ بِهَا نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَتَرَكْنَا نَقْلَ ذَلِكَ عَلَى عَادَتِنَا.
وَتُبْ عَلَيْنا: قَالُوا التَّوْبَةُ مِنْ حَيْثُ الشَّرِيعَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّائِبِينَ، فَتَوْبَةُ سَائِرِ
623
الْمُسْلِمِينَ النَّدَمُ بِالْقَلْبِ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَرَدُّ الْمَظَالِمِ إِذَا أَمْكَنَ، وَنِيَّةُ الرَّدِّ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ، وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ الرُّجُوعُ عَنِ الْمَكْرُوهَاتِ مِنْ خَوَاطِرِ السُّوءِ، وَالْفُتُورِ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْعِبَادَةِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْكَمَالِ، وَتَوْبَةُ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَالتَّرَقِّي فِي الْمَقَامَاتِ، فَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ دَعَوَا لِأَنْفُسِهِمَا بِالتَّوْبَةِ، وَكَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَتُبْ عَلَيْنا خَاصًّا بِهِمَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ هُنَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْأَخِيرِ. قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ التَّثْبِيتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِثْلَ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ. وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ شَامِلًا لَهُمَا وَلِلذُّرِّيَّةِ، كَانَ الدُّعَاءُ بِالتَّوْبَةِ مُنْصَرِفًا لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ التَّوْبَةِ. وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ قَبْلَهُ مَحْذُوفًا مُقَدَّرًا، فَالتَّقْدِيرُ عَلَى عُصَاتِنَا، وَيَكُونُ دَعَا بِالتَّوْبَةِ لِلْعُصَاةِ. وَلَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِ الذَّنْبِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ وَقَالَ: التَّوْبَةُ مَشْرُوطَةٌ بِتَقَدُّمِ الذَّنْبِ، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتَحَالَ طَلَبُ التَّوْبَةِ. وَالَّذِي يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ الذُّرِّيَّةُ الْعُصَاةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «١»، إِلَى قَوْلِهِ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «٢»، أَيْ فَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَتُوبَ عَلَيْهِ وَتَغْفِرَ لَهُ، وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَتُبْ عَلَيْهِمْ، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَأَرِ ذُرِّيَّتَنَا مَنَاسِكَنَا، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ، أَيْ خَلَقْنَا أَبَاكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتُبْ عَلَيْنَا مَا فَرَطَ مِنَّا مِنَ الصَّغَائِرِ، أَوِ اسْتَتَابَا لِذُرِّيَّتِهِمَا. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: مَا فَرَطَ مِنَّا مِنَ الصَّغَائِرِ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، إِذْ يَقُولُونَ بِتَجْوِيزِهَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ ذَكَرَ قَوْلَيِ التَّثْبِيتِ، أَوْ كَوْنَ ذَلِكَ دُعَاءً لِلذُّرِّيَّةِ، قَالَ: وَقِيلَ وَهُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنَّهُمَا لَمَّا عَرَفَا الْمَنَاسِكَ، وَبَنَيَا الْبَيْتَ، وَأَطَاعَا، أَرَادَا أَنْ يَسُنَّا لِلنَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ وَتِلْكَ الْمَوَاضِعَ مَكَانُ التَّنَصُّلِ مِنَ الذُّنُوبِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الله تعالى معان يجب أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ مِمَّا هِيَ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَفِيهِ خُرُوجُ قَوْلِهِ: وَتُبْ عَلَيْنَا عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ، أَيْ إِنَّ الدُّعَاءَ بِقَوْلِهِ: وَتُبْ عَلَيْنَا، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا طَلَبَا التَّوْبَةَ، بَلْ نَبَّهَا بِذَلِكَ الطَّلَبِ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا يَطْلُبُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ التَّوْبَةَ، فَيَكُونَانِ لَمْ يَقْصِدَا الطَّلَبَ حَقِيقَةً، إِنَّمَا ذَكَرَا ذَلِكَ لِتَشْرِيعِ غَيْرِهِمَا لِطَلَبِ ذَلِكَ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةً: وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَعْنَى التَّبْلِيغِ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي فِيهَا رَذِيلَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَّغَائِرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن عمر بن الحسن
(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣٥. [.....]
(٢) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣٦.
624
الرَّازِيُّ، فِي (كِتَابِ الْمَحْصُولِ) لَهُ مَا مُلَخَّصُهُ: قَالَتِ الشِّيعَةُ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ، لَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ، لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، وَلَا مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ. ثُمَّ ذَكَرَ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُمُ الْكُفْرُ، وَلَا التَّبْدِيلُ فِي التَّبْلِيغِ، وَلَا الْخَطَأُ فِي الْفَتْوَى. وَذَكَرَ خِلَافًا فِي أَشْيَاءَ، ثُمَّ قَالَ الَّذِي يَقُولُ بِهِ إِنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ، لَا كَبِيرٌ وَلَا صَغِيرٌ، وَأَمَّا سَهْوًا فَقَدْ يَقَعُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَتَذَكَّرُوهُ فِي الْحَالِ وَيُنَبِّهُوا غَيْرَهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَهْوًا.
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: يَجُوزُ فِي أَنْتَ: الْفَصْلُ وَالتَّأْكِيدُ وَالِابْتِدَاءُ، وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مُنَاسِبَتَانِ لِأَنَّهُمَا دَعَوْا بِأَنْ يَجْعَلَهُمَا مُسْلِمَيْنِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا أُمَّةً مُسْلِمَةً، وَبِأَنْ يُرِيَهُمَا مَنَاسِكَهُمَا، وَبِأَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمَا. فَنَاسَبَ ذِكْرُ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمَا، أَوِ الرَّحْمَةِ لَهُمَا. وَنَاسَبَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ التَّوْبَةِ عَلَى الرَّحْمَةِ، لِمُجَاوَرَةِ الدُّعَاءِ الْأَخِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَتُبْ عَلَيْنا. وَتَأَخَّرَتْ صِفَةُ الرَّحْمَةِ لِعُمُومِهَا، لِأَنَّ مِنَ الرَّحْمَةِ التَّوْبَةَ، وَلَكِنَّهَا فَاصِلَةٌ. وَالتَّوَّابُ لَا يُنَاسِبُ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةً هُنَا، لِأَنَّ قَبْلَهَا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَبَعْدَهَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ: لَمَّا دَعَا رَبَّهُ بِالْأَمْنِ لِمَكَّةَ، وَبِالرِّزْقِ لِأَهْلِهَا، وَبِأَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أُمَّةً مُسْلِمَةً، خَتَمَ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِمَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَهُوَ بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، فَشَمَلَ دُعَاؤُهُ لَهُمُ الْأَمْنَ وَالْخِصْبَ وَالْهِدَايَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْإِرْسَالُ إِلَيْهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى أُمَّةً مُسْلَمَةً، ويحتمل أن يعود على أَهْلِ مَكَّةَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَصَحَّ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ».
وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ إِلَى مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَّا هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ:
وَابْعَثْ فِيهِمْ فِي آخِرِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا عَشَرَةٌ: نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَلُوطٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمْ فِي مَوْضِعِ الصفة لرسولا، أَيْ كَائِنًا مِنْهُمْ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَهُمْ يَعْرِفُونَ وَجْهَهُ وَنَسَبَهُ وَنَشْأَتَهُ، كَمَا قَالَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَدَعَا بِأَنْ يَبْعَثَ الرَّسُولَ فِيهِمْ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ يَكُونُ أَشْفَقَ عَلَى قَوْمِهِ، وَيَكُونُونَ هُمْ أَعَزُّ بِهِ وَأَشْرَفُ وَأَقْرَبُ لِلْإِجَابَةِ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَنْشَأَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ. قَالَ الرَّبِيعُ: لَمَّا دَعَا إِبْرَاهِيمُ قِيلَ لَهُ:
قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ، وَهُوَ فِي آخِرِ الزمان.
625
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لرسولا. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ مِنْهُمْ، وَوَصَفَ إِبْرَاهِيمُ الرَّسُولَ بِأَنَّهُ يَكُونُ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ، أَيْ يَقْرَؤُهَا، فَكَانَ كَذَلِكَ، وَأُوتِيَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ. وَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ، فَأَتَى بِالْمَدْعُوِّ لَهُ عَلَى أَكْمَلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي طَلَبَهَا إِبْرَاهِيمُ، وَالْآيَاتُ هُنَا آيَاتُ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: خَبَرُ مَنْ مَضَى، وَخَبَرُ مَنْ يَأْتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْفَضْلُ: مَعْنَاهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ دِينَهُمْ.
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُفَهِّمُهُمْ وَيُلْقِي إِلَيْهِمْ مَعَانِيَهُ. وَكَانَ تَرْتِيبُ التَّعْلِيمِ بَعْدَ التِّلَاوَةِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ السَّمْعَ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالتَّلَفُّظُ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تُتَعَلَّمُ مَعَانِيهِ وَيُتَدَبَّرُ مَدْلُولُهُ. وَأَسْنَدَ التَّعْلِيمَ لِلرَّسُولِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُلْقِي الْكَلَامَ إِلَى الْمُتَعَلِّمِ، وَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ وَيَتَلَطَّفُ فِي إِيصَالِ الْمَعَانِي إِلَى فَهْمِهِ، وَيَتَسَبَّبُ فِي ذَلِكَ.
وَالتَّعْلِيمُ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّفْهِيمِ وَحُصُولِ الْعِلْمِ لِلْمُتَعَلِّمِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى إِلْقَاءِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، وَلِذَلِكَ يَقْبَلُ النَّقِيضَيْنِ، تَقُولُ: عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ، وَعَلَّمَتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ تَعَلَّمَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ: يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ، وَيُبَلِّغُهُمْ مَا يُوحِي إِلَيْهِ مِنْ دَلَائِلِ وَحْدَانِيَّتِكَ وَصِدْقِ أَنْبِيَائِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ الْقُرْآنَ، وَالْحِكْمَةَ: الشَّرِيعَةَ وَبَيَانَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحِكْمَةُ: السُّنَّةُ، وَبَيَانُ النَّبِيِّ:
الشَّرَائِعَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو رَزِينٍ: الْحِكْمَةُ، الْفِقْهُ فِي الدِّينِ، وَالْفَهْمُ الَّذِي هُوَ سَجِيَّةٌ وَنُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحِكْمَةُ: فَهْمُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ حَكِيمًا حَتَّى يَجْمَعَهُمَا. وَقِيلَ: الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ. وَقِيلَ: مَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُلُّ كَلِمَةِ وَعَظَتْكَ، أَوْ دَعَتْكَ إِلَى مَكْرُمَةٍ، أَوْ نَهَتْكَ عَنْ قَبِيحٍ فَهِيَ حِكْمَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْحِكْمَةُ هُنَا الْكِتَابُ، وَكَرَّرَهَا تَوْكِيدًا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ: كُلُّ صَوَابٍ مِنَ الْقَوْلِ وَرَّثَ فِعْلًا صَحِيحًا فَهُوَ حِكْمَةٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ:
الْحِكْمَةُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ، يُرْسِلُهَا اللَّهُ إِلَى قُلُوبِ الْعَارِفِينَ حَتَّى يُرَوِّحَ عَنْهَا وَهَجَ الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: هِيَ وَضْعُ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا. وَقِيلَ: كُلُّ قَوْلٍ وَجَبَ فِعْلُهُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي الْحِكْمَةِ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، الْقُرْآنُ وَالْآخَرُ السُّنَّةُ، لِأَنَّهَا الْمُبَيِّنَةُ لِمَا انْبَهَمَ مِنَ الْكِتَابِ، وَالْمُظْهِرَةُ لِوُجُوهِ الْأَحْكَامِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أعلم، في قوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، أَيْ يُفْصِحُ لَهُمْ عَنْ أَلْفَاظِهِ وَيُوقِفُهُمْ بِقِرَاءَتِهِ عَلَى كَيْفِيَّةِ تِلَاوَتِهِ،
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ»
، وَذَلِكَ لِأَنْ يَتَعَلَّمُ أُبَيٌّ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّةَ أَدَاءِ الْقُرْآنِ
626
وَمُقَاطِعَهُ وَمُوَاصِلَهُ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ، أَيْ يُبَيِّنَ لَهُمْ وُجُوهَ أَحْكَامِهِ: حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَمَفْرُوضَهُ، وَمَسْنُونَهُ، وَمَوَاعِظَهُ، وَأَمْثَالَهُ، وَتَرْغِيبَهُ، وَتَرْهِيبَهُ، وَالْحَشْرَ، وَالنَّشْرَ، وَالْعِقَابَ، وَالثَّوَابَ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَالْحِكْمَةَ، أَيِ السُّنَّةَ تُبَيِّنُ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْمُجْمَلِ، وَتُوَضِّحُ مَا انْبَهَمَ مِنَ الْمُشْكَلِ، وَتُفْصِحُ عَنْ مَقَادِيرَ، وَعَنْ إِعْدَادٍ مِمَّا لَمْ يَتَعَرَّضِ الْكِتَابُ إِلَيْهِ، وَيُثْبِتُ أَحْكَامًا لَمْ يَتَضَمَّنْهَا الْكِتَابُ. وَيُزَكِّيهِمْ بَاطِنًا مِنْ أَرْجَاسِ الشِّرْكِ وَأَنْجَاسِ الشَّكِّ، وَظَاهِرًا بِالتَّكَالِيفِ الَّتِي تُمَحِّصُ الْآثَامَ وَتُوَصِّلُ الْإِنْعَامَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
التَّزْكِيَةُ: الطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: يَأْخُذُ مِنْهُمُ الزَّكَاةَ الَّتِي تَكُونُ سببا لطهرتهم. وَقِيلَ: يَدْعُوَا إِلَى مَا يَصِيرُونَ بِهِ أَزْكِيَاءَ. وَقِيلَ: يَشْهَدُ لَهُمْ بِالتَّزْكِيَةِ مِنْ تَزْكِيَةِ الْعُدُولِ، وَمَعْنَى الزَّكَاةِ لَا تَخْرُجُ عَنِ التَّطْهِيرِ أَوِ التَّنْمِيَةِ.
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الْعَزِيزُ: الْغَالِبُ، أَوِ الْمَنِيعُ الَّذِي لَا يُرَامُ، قَالَهُ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ، أَوِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، أَوِ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْمُنْتَقِمُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، أَوِ الْقَوِيُّ، وَمِنْهُ فعزنا بِثَالِثٍ، أَوِ الْمُعِزُّ وَمِنْهُ: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ «١». الْحَكِيمُ: قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحَكِيمِ فِي قِصَّةِ الْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ «٢». وَأَنْتَ: يَجُوزُ فِيهَا مَا جَازَ فِي أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «٣» قَبْلُ مِنَ الْأَعَارِيبِ. وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مُتَنَاسِبَتَانِ لِمَا قَبْلَهُمَا، لِأَنَّ إِرْسَالَ رَسُولٍ مُتَّصِفٍ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي سَأَلَهَا إِبْرَاهِيمُ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَمَّنِ اتَّصَفَ بِالْعِزَّةِ، وَهِيَ الْغَلَبَةُ أَوِ الْقُوَّةُ، أَوْ عَدَمُ النَّظِيرِ، وَبِالْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ إِصَابَةُ مَوَاقِعِ الْفِعْلِ، فَيَضَعُ الرِّسَالَةَ فِي أَشْرَفِ خَلْقِهِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَيْهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ. وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ الْعَزِيزِ عَلَى الْحَكِيمِ لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَالْحَكِيمُ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَلِكَوْنِ الْحَكِيمِ فَاصِلَةً كَالْفَوَاصِلِ قَبْلَهَا.
وَفِي الْمُنْتَخَبِ: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ: هِيَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: الْأَعْلَامُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ. وَمَعْنَى التِّلَاوَةِ: تَذْكِيرُهُمْ بِهَا وَدُعَاؤُهُمْ إِلَيْهَا وَحَمْلُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَا، وَحِكْمَةُ التِّلَاوَةِ: بَقَاءُ لَفْظِهَا عَلَى الْأَلْسِنَةِ، فَيَبْقَى مَصُونًا عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّصْحِيفِ، وَكَوْنُ نَظْمِهَا وَلَفْظِهَا مُعْجِزًا، وَكَوْنُ تِلَاوَتِهَا فِي الصَّلَوَاتِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ نَوْعَ عِبَادَةٍ إِلَّا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُظْمَى تَعْلِيمُ مَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَحْكَامِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ، عَبَّرَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ عَنِ الْحِكْمَةِ، بِأَنَّهَا التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَقِيلَ الْحِكْمَةُ الْمُتَشَابِهَاتُ. وقيل:
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٢٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٣٢.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٢٧.
627
الْكِتَابُ أَحْكَامُ الشَّرَائِعِ، وَالْحِكْمَةُ وُجُوهُ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ فِيهَا، وَقِيلَ: كُلُّهَا صِفَاتٌ لِلْقُرْآنِ، هُوَ آيَاتٌ، وَهُوَ كِتَابٌ وَهُوَ حِكْمَةٌ. انْتَهَى مَا لُخِّصَ مِنَ الْمُنْتَخَبِ.
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ:
رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ دَعَا ابْنَيْ أَخِيهِ سَلَمَةَ وَمُهَاجِرًا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُمَا: قَدْ عَلِمْتُمَا أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: [إِنِّي بَاعِثٌ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا اسْمُهُ أَحْمَدُ، مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَى وَرَشَدَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ]، فَأَسْلَمَ سَلَمَةُ وَأَبَى مُهَاجِرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَمَنْ: اسْمُ اسْتِفْهَامٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ: الْإِنْكَارُ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا بَعْدَهُ. وَالْمَعْنَى:
لَا أَحَدَ يَرْغَبُ، فَمَعْنَاهُ النَّفْيُ الْعَامُّ. وَمَنْ سَفِهَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعِ بَدَلٍ من الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي يَرْغَبُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالرَّفْعُ أَجْوَدُ عَلَى الْبَدَلِ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، وَمَنْ فِي مَنْ سَفِهَ مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ: نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَانْتِصَابُ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزٌ، عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ الْفَرَّاءُ، أَوْ مُشَبَّهٌ بِالْمَفْعُولِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ، إِمَّا لِكَوْنِ سَفِهَ يتعدى بنفسه كسفه الْمُضَعَّفِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ ضَمِنَ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى، أَيْ جَهِلَ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَابْنُ جِنِّيٍّ، أَوْ أَهْلَكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ، أَوْ تَوْكِيدٌ لِمُؤَكَّدٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ سَفَّهَ قَوْلُهُ نَفْسَهُ، حَكَاهُ مَكِّيٌّ. أَمَّا التَّمْيِيزُ فَلَا يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ، لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَشَرْطُ التَّمْيِيزِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُشَبَّهًا بِالْمَفْعُولِ، فَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَخْصُوصٌ بِالصِّفَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْفِعْلِ، تَقُولُ: زَيْدٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، وَلَا يَجُوزُ حَسَّنَ الْوَجْهِ، وَلَا يُحْسِنُ الْوَجْهَ. وَأَمَّا إِسْقَاطُ حَرْفِ الْجَرِّ، وَأَصْلُهُ مَنْ سَفِهَ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَنْقَاسُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَوْكِيدًا وَحُذِفَ مُؤَكَّدُةُ فَفِيهِ خِلَافٌ. وَقَدْ صَحَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَعْنِي: أَنْ يُحْذَفَ الْمُؤَكَّدُ وَيَبْقَى التَّوْكِيدُ، وَأَمَّا التَّضْمِينُ فَلَا يَنْقَاسُ، وَأَمَّا نَصْبُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، فَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ، لِأَنَّ ثَعْلَبًا وَالْمُبَرِّدَ حَكَيَا أَنَّ سَفِهَ بِكَسْرِ الفاء يتعدى، كسفه بِفَتْحِ الْفَاءِ وَشَدِّهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ أَنَّهَا لُغَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَفَّهَ نَفْسَهُ: امْتَهَنَهَا وَاسْتَخَفَّ بِهَا، وَأَصْلُ السَّفَهِ، الْخِفَّةُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ. وَقِيلَ: انْتِصَابُ النَّفْسِ عَلَى التَّمْيِيزِ نَحْوَ: غُبِنَ رَأْيَهُ، وَأَلِمَ رَأْسَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي شُذُوذِ تَعْرِيفِ التَّمْيِيزِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
628
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ سَفَّهَ فِي نفسه فحذف لجار، كَقَوْلِهِمْ: زِيدٌ ظَنِّي مُقِيمٌ، أَيْ فِي ظَنِّي، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَكَفَى شَاهِدًا لَهُ بِمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْكِبْرُ أَنْ يُسَفِّهَ الْحَقَّ وَيَغْمِصَ النَّاسَ».
انْتَهَى كَلَامُهُ. فَأَجَازَ نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، إلا إن قَوْلَهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي شُذُوذِ تَعْرِيفِ التَّمْيِيزِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
وَلَا بِفَزَارَةَ الشُّعُرَ الرِّقَابَا أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
وَلَا بِفَزَارَةَ الشُّعُرَ الرِّقَابَا أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الرِّقَابَ مِنْ بَابِ مَعْمُولِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ. والشعر جمع أَشْعَرَ، وَكَذَلِكَ أَجَبَّ الظَّهْرِ هُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ، وَأَجَبُّ أَفْعَلُ اسْمٌ وَلَيْسَ بِفِعْلٍ. وَقَبْلَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ:
فَمَا قُومِي بِثَعْلَبَةَ بْنِ سُعْدَى وَقَبْلَ الْآخَرِ قَوْلُهُ:
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذَنَابِ عَيْشٍ فَلَيْسَ نَحْوَهُ، لِأَنَّ نَفْسَهُ انْتَصَبَ بَعْدَ فِعْلٍ، وَالرِّقَابُ وَالظَّهْرُ انْتَصَبَا بَعْدَ اسْمٍ، وَهُمَا مِنْ بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَزْهَدُ وَيَرْفَعُ نَفْسَهُ عَنْ طَرِيقَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ النَّبِيُّ الْمُجْمَعُ عَلَى مَحَبَّتِهِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ، إِلَّا مَنْ أَذَلَّ نَفْسَهُ وَامْتَهَنَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى سَفِهَ نَفْسَهُ: خَسِرَ نَفْسَهُ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: عَجَزَ رَأْيُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ يَمَانٌ: حَمُقَ رَأْيُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَتَلَ نَفْسَهُ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: جَهِلَهَا وَلَمْ يَعْرِفْ مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَائِلِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ: سَفِهَ حَقَّ نَفْسِهِ، فَأَمَّا سَفُهَ بِضَمِّ الْفَاءِ فَمَعْنَاهُ: صَارَ سَفِيهًا، مِثْلَ فَقُهَ إِذَا صَارَ فَقِيهًا، قَالَ:
فَلَا عِلْمَ إِذَا جَهِلَ الْعَلِيمُ وَلَا رُشْدَ إِذَا سَفُهَ الْحَلِيمُ
وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا: أَيْ جَعَلْنَاهُ صَافِيًا مِنَ الْأَدْنَاسِ، وَاصْطِفَاؤُهُ بِالرِّسَالَةِ وَالْخُلَّةِ وَالْكَلِمَاتِ الَّتِي وَفَّى وَوَصَّى بِهَا، وَبِنَاءِ الْبَيْتِ، وَالْإِمَامَةِ، وَاتِّخَاذِ مَقَامِهِ مُصَلَّى، وَتَطْهِيرِ الْبَيْتِ، وَالنَّجَاةِ مِنْ نَارِ نُمْرُوذَ، وَالنَّظَرِ فِي النُّجُومِ، وَأَذَانِهِ بِالْحَجِّ، وَإِرَاءَتِهِ مَنَاسِكَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ اللَّهَ فِي كِتَابِهِ، مِنْ خَصَائِصِهِ وَوُجُوهِ اصْطِفَائِهِ. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
: ذَكَرَ تَعَالَى كَرَامَةَ إِبْرَاهِيمَ فِي الدَّارَيْنِ، بِأَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنْ صَفْوَتِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي الْخَيْرِ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ
629
لَا يَعْدِلَ عَنْ مِلَّتِهِ. وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ مُؤَكَّدَتَانِ، أَمَّا الْأُولَى فَبِاللَّامِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَبِإِنَّ وَبِاللَّامِ.
وَلَمَّا كَانَ إِخْبَارًا عَنْ حَالَةٍ مُغَيَّبَةٍ فِي الْآخِرَةِ، احْتَاجَتْ إِلَى مَزِيدِ تَأْكِيدٍ، بِخِلَافِ حَالِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْمَآلِ قَدْ عَلِمُوا اصْطِفَاءَ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْهُ وَنَقَلُوهُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَأَمْرٌ مُغَيَّبٌ عَنْهُمْ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِخْبَارِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مُبَالِغًا فِي التَّوْكِيدِ، وَفِي الْآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَيْ وَإِنَّهُ لَصَالِحٌ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى إِضْمَارِ، أَعْنِي: فَهُوَ لِلتَّبْيِينِ، كَلَكَ بَعْدُ سُقْيًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالصَّالِحِينَ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ فِي صِلَةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُ الْوَصْفِ إِذْ ذَاكَ. وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ الْمَعْمُولُ ظَرْفًا أَوْ جَارًّا وَمَجْرُورًا، قَالَ: لِأَنَّهُمَا يَتَّسِعُ فِيهِمَا مَا لَا يَتَّسِعُ فِي غَيْرِهِمَا. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ غَيْرَ مَوْصُولَةٍ، بَلْ مَعْرِفَةٍ، كَهِيَ فِي الرِّجْلِ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ الْمَجْرُورُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ إِذْ ذَاكَ. وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ، أَيْ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَقِيلَ: الْآخِرَةُ هُنَا الْبَرْزَخُ، وَالصَّلَاحُ مَا يَتْبَعُهُ مِنَ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْآخِرَةُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمِنَ الصَّالِحِينَ، أَيِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ يَسْتَوْجِبُونَ صَالِحَ الْجَزَاءِ، قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: الْوَارِدِينَ مَوَارِدَ قُدْسِهِ، وَالْحَالِّينِ مَوَاطِنَ أُنْسِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ خَطَأٌ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ.
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ: هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ، لَكَانَ: إِذْ قُلْنَا لَهُ أَسْلِمْ، وَعَكْسُهُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْغَائِبِ إِلَى الْخِطَابِ قَوْلُهُ:
بَاتَتْ تَشَكَّى إِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً وَقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينَا
وَالْعَامِلُ فِي إِذْ: قَالَ أَسْلَمْتُ. وَقِيلَ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ، أَيِ اخْتَرْنَاهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ بدلا من قَوْلِهِ: فِي الدُّنْيَا، وَأَبْعَدَ مَنْ جَعَلَ إِذْ قَالَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ قَوْلِهِ: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ، وَجَعَلَ الْعَامِلَ فِي الْحَالِ اصْطَفَيْنَاهُ، وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْعَامِلَ اصْطَفَيْنَاهُ أَوِ اذْكُرِ الْمُقَدَّرَةُ، يَبْقَى قَوْلُهُ: قَالَ أَسْلَمْتُ، لَا يَنْتَظِمُ مَعَ مَا قَبْلَهُ، إِلَّا إِنْ قُدِّرَ، يُقَالُ: فَحُذِفَ حَرْفُ الْعَطْفِ، أَوْ جُعِلَ جَوَابًا لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ مَا كَانَ جَوَابُهُ؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ. وَهَلِ الْقَوْلُ هُنَا عَلَى بَابِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَطَلَبٍ؟ أَمْ هَذَا
630
كِنَايَةٌ عَمَّا جَعَلَ اللَّهُ فِي سَجِيَّتِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ؟
فَجُعِلَتِ الدَّلَالَةُ قولا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْقَوْلِ حَقِيقَةً، فَاخْتَلَفُوا مَتَى قِيلَ لَهُ ذَلِكَ. فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقَبْلَ الْبُلُوغِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِدْلَالِهِ بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ فِيهَا، وَإِحَاطَتِهِ بِافْتِقَارِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ يُخَالِفُهَا فِي الْجِسْمِيَّةِ، وَأَمَارَاتِ الْحُدُوثِ، فَلَمَّا عَرَفَ رَبَّهُ، قَالَ تَعَالَى لَهُ أَسْلِمْ.
وَقِيلَ: كَانَ بعد النبوّة، فتؤول الْأَمْرُ بِالْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالثَّبَاتِ وَالدَّيْمُومَةِ، إِذْ هُوَ مُتَحَلٍّ بِهِ وَقْتَ الْأَمْرِ، وَيَكُونُ الْإِسْلَامُ هُنَا عَلَى بَابِهِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ هُنَا غَيْرُ الْمَعْرُوفِ، وَأُوِّلَ عَلَى وُجُوهٍ، فَقَالَ عَطَاءٌ: مَعْنَاهُ سَلِّمْ نَفْسَكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَابْنُ كَيْسَانَ: أَخْلِصْ دِينَكَ. وَقِيلَ: اخْشَعْ وَاخْضَعْ لِلَّهِ. وَقِيلَ: اعْمَلْ بِالْجَوَارِحِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ صِفَةُ الْقَلْبِ، وَالْإِسْلَامَ هُوَ صِفَةُ الْجَوَارِحِ، فَلَمَّا كَانَ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ كَلَّفَهُ بَعْدُ عَمَلَ الْجَوَارِحِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَسْلَمَ، تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَسْلِمْ لِرَبِّكَ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ أَسْلَمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَتُضَمَّنُ أَنَّهُ أَسْلَمَ لِرَبِّهِ، لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، وَفِي الْعُمُومِ مِنَ الْفَخَامَةِ مَا لَا يَكُونُ فِي الْخُصُوصِ، لِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّي، وَمَنْ كَانَ رَبًّا لِلْعَالَمِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُمْ مُسْلِمِينَ لَهُ مُنْقَادِينَ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ ابْتِدَاءً قِصَصَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَذَكَرَ أَوَّلًا ابْتِلَاءَهُ بِالْكَلِمَاتِ، وَإِتْمَامَهُ إِيَّاهُنَّ، وَاسْتِحْقَاقَهُ الْإِمَامَةِ بِذَلِكَ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي زَمَانِهِ، وَسُؤَالَ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامَةَ لِذُرِّيَّتِهِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّةً مِنْهُ لَهُمْ، وَإِيثَارًا أَنْ يَكُونَ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَخْلُفُهُ فِي الْإِمَامَةِ، وَإِجَابَةُ اللَّهِ لَهُ بِأَنَّ عَهْدَهُ لَا يَنَالُهُ ظَالِمٌ، وَفِي طَيِّهِ أَنَّ مَنْ كَانَ عَادِلًا قَدْ يَنَالُ ذَلِكَ. وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ قِصَصِ إِبْرَاهِيمَ بَنِيهِ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ، عَلَى فَضِيلَتِهِ وَخُصُوصِيَّتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، لِيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لِلشَّخْصِ وَالِدٌ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، أَوْشَكَ وَلَدُهُ أَنْ يَتْبَعَهُ وَأَنْ يَسْلُكَ مَنْهَجَهُ، لِمَا فِي الطَّبْعِ مِنَ اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالِاقْتِفَاءِ لِآثَارِهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «١» ؟.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى شَرَفَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَجَعْلَهُ مَقْصِدًا لِلنَّاسِ يَؤُمُّونَ إِلَيْهِ، وَمَلْجَأً يَأْمَنُونَ فِيهِ، وَأَمْرَهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ بِالِاتِّخَاذِ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَحَصَلَ لَهُمُ الِاقْتِدَاءُ بِأَنْ جَعَلَ مَقَامَهُ مَكَانَ عِبَادَةٍ وَمَحَلَّ إِجَابَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ عَهْدَهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ، حَيْثُ صار
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٢٣.
631
مَحَلَّ عِبَادَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَكَانُ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَهَّرًا مِنَ الْأَرْجَاسِ وَالْأَنْجَاسِ. وَأَشَارَ بِتَطْهِيرِ الْمَحَلِّ إِلَى تَطْهِيرِ الْحَالِ فِيهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِلَى تَطْهِيرِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ، بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّيَاءِ، بَلْ يُطَهَّرُ بِإِخْلَاصِهَا لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ أَشَارَ إِلَى مَنْ طُهِّرَ الْبَيْتُ لِأَجْلِهِ، وَهُمُ الطَّائِفُونَ وَالْعَاكِفُونَ وَالْمُصَلُّونَ، فَنَبَّهَ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبَيْتِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ لَا يَصْلُحُ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَمَلِ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَالْخُصُومَاتِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا هُيِّيءَ لِوُقُوعِ الْعِبَادَاتِ فِيهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ دُعَاءَ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ بِجَعْلِ هَذَا الْبَيْتِ مَحَلَّ أَمْنٍ، وَدُعَاءَهُ لَهُمْ بِالْخِصْبِ وَالرِّزْقَ، وَتَخْصِيصَ ذَلِكَ الدُّعَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، إِذِ الْأَمْنُ وَالْخِصْبُ هُمَا سَبَبَانِ لِعِمَارَةِ هَذَا الْبَيْتِ وَقَصْدِ النَّاسِ لَهُ.
ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ فَتَمْتِيعُهُ قَلِيلٌ وَمَآلُهُ إِلَى النَّارِ، لِيَكُونَ التَّخْوِيفُ حَامِلًا عَلَى التَّقَيُّدِ بِالْإِيمَانِ وَالِانْقِيَادِ لِلطَّاعَاتِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ آمَنَ، بَلْ رِزْقُ اللَّهِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. ثُمَّ ذَكَرَ رَفْعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ قَوَاعِدَ الْبَيْتِ، وَمَا دَعَوَا بِهِ إِذْ ذَاكَ مِنْ طَلَبِ تَقَبُّلِ مَا يَفْعَلَانِهِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالدُّعَاءِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُسْلِمُونَ، وَإِرَاءَةِ الْمَنَاسِكِ وَالتَّوْبَةِ، وَبَعْثَةِ رَسُولٍ مِنْ أُمَّتِهِ يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْإِسْلَامِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيُطَهِّرُهُمْ مِنَ الْجَرَائِمِ وَالْآثَامِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَدْعِيَةِ الصَّالِحَةِ عِنْدَ الِالْتِبَاسِ بِالْعِبَادَاتِ، وَأَفْعَالِ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ مَظَنَّةُ إِجَابَةٍ، وَفِي ذَلِكَ جَوَازُ الدُّعَاءِ لِلْمُلْتَبِسِ بِالطَّاعَةِ، وَلِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ. وَخَتَمَ كُلَّ دُعَاءٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الدُّعَاءِ شَيْءٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا كَانَ كُلُّهُ دُعَاءً بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا حَالَةَ بِنَاءِ هَذَا الْبَيْتِ وَرَفْعِ قَوَاعِدِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ دُعَاؤُهُ بِالْأَمْنِ وَالْخِصْبِ، لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَمَّلَ الْبَيْتَ وَفَرَغَ مِنَ التَّعَبُّدِ بِبِنَائِهِ وَرَفْعِ قَوَاعِدِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ شَرَفَ إِبْرَاهِيمَ وَطَوَاعِيَتُهُ لِرَبِّهِ، وَاخْتِصَاصُهُ فِي زَمَانِهِ بِالْإِمَامَةِ، وَصَيْرُورَتُهُ مُقْتَدًى بِهِ. ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ عَنْ طَرِيقَتِهِ إِلَّا خَاسِرُ الصَّفْقَةِ، لِأَنَّهُ الْمُصْطَفَى فِي الدُّنْيَا، الصَّالِحُ فِي الْآخِرَةِ. وَخَتَمَ ذَلِكَ بِانْقِيَادِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَوَّلُ قِصَّتِهِ إِتْمَامُهُ مَا كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِ، وَآخِرُهَا التَّسْلِيمُ لِلَّهِ، وَالِانْقِيَادُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
632

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٢ الى ١٤١]

وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
الْوَصِيَّةُ: الْعَهْدُ، وَصَّى بَنِيهِ: أَيْ عَهِدَ إِلَيْهِمْ وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِمَا يُعْمَلُ بِهِ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ.
وَوَصَّى وَأَوْصَى لُغَتَانِ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ وَصَّى الْمُشَدَّدَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ.
يَعْقُوبُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَيَعْقُوبُ عَرَبِيٌّ، وَهُوَ ذَكَرُ الْقَبْجِ، وَهُوَ مَصْرُوفٌ، وَلَوْ سُمِّيَ بِهَذَا لَكَانَ مَصْرُوفًا. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ يَعْقُوبَ النَّبِيَّ إِنَّمَا سُمِّيَ يَعْقُوبَ لِأَنَّهُ هُوَ وَأَخُوهُ الْعِيصَ تَوْأَمَانِ، فَخَرَجَ الْعِيصُ أَوَّلًا ثُمَّ خَرَجَ هُوَ يَعْقُبُهُ، أَوْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ عَقِبِهِ، فَقَوْلُهُ فَاسِدٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَهُ اشْتِقَاقٌ عَرَبِيٌّ، فَكَانَ يَكُونُ
633
مَصْرُوفًا. الْحُضُورُ: الشُّهُودُ، تَقُولُ مِنْهُ: حَضَرَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وفي المضارع: يحضر بضمها، وَيُقَالُ: حَضِرَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقِيَاسُ الْمُضَارِعِ أَنْ يُفْتَحَ فِيهِ فَيُقَالُ: يَحْضُرُ، لَكِنَّ الْعَرَبَ اسْتَغْنَتْ فِيهِ بِمُضَارِعِ فَعَلَ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ فَقَالَتْ: حَضَرَ يَحْضُرُ بِالضَّمِّ، وَهِيَ أَلْفَاظٌ شَذَّتْ فِيهَا الْعَرَبُ، فَجَاءَ مُضَارِعُ فَعِلَ الْمَكْسُورِ الْعَيْنِ عَلَى يَفْعُلُ بِضَمِّهَا، قَالُوا: نَعِمَ يَنْعُمُ، وَفَضِلَ يَفْضُلُ، وَحَضَرَ يَحْضُرُ، وَمِتَّ تَمُوتُ، وَدُمْتَ تَدُومُ، وَكُلُّ هَذِهِ جَاءَ فِيهَا فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، فَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى بِمُضَارِعِهِ عَنْ مُضَارِعِ فَعِلَ، كما استغنت فيه بيفعل بِكَسْرِ الْعَيْنِ عَنْ يَفْعَلُ بِفَتْحِهَا. قَالُوا: ضَلِلْتَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، تَضِلُّ بِالْكَسْرِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ ضَلَلْتَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ.
إِسْحَاقُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَإِسْحَاقُ: مَصْدَرُ أَسْحَقَ، وَلَوْ سُمِّيَتْ بِهِ لَكَانَ مَصْرُوفًا، وَقَالُوا فِي الْجَمْعِ: أَسَاحِقَةُ وَأَسَاحِيقُ، وَفِي جَمْعِ يَعْقُوبَ: يَعَاقِبَةُ وَيَعَاقِيبُ، وَفِي جَمْعِ إِسْرَائِيلَ، أَسَارِلَةٌ. وَجَوَّزَ الْكُوفِيُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ: بَرَاهِمَةَ وَسَمَاعِلَةَ، وَالْهَاءُ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ كَمَا فِي زنادقة وزناديق. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: هَذَا الْجَمْعُ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ لَيْسَتْ زَائِدَةً، وَالْجَمْعُ: أَبَارَهُ وَأَسَامِعُ، وَيَجُوزُ:
أَبَارِيهُ وَأَسَامِيعُ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُجْمَعَ هَذِهِ جَمْعَ السَّلَامَةِ فَيُقَالُ: إِبْرَاهِيمُونَ، وَإِسْمَاعِيلُونَ، وَإِسْحَاقُونَ، وَيَعْقُوبُونَ. وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ أَيْضًا: بَرَاهِمَ، وَسَمَاعِلَ، وإسحاق، وَيَعَاقِبَ، بِغَيْرِ يَاءٍ وَلَا هَاءٍ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: براهيم، وسماعيل. ردّ أَبُو الْعَبَّاسِ عَلَى مَنْ أَسْقَطَ الْهَمْزَةَ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ زِيَادَتِهَا. وَأَجَازَ ثَعْلَبٌ: بَرَاهٍ، كَمَا يُقَالُ فِي التَّصْغِيرِ:
بُرَيْهٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: الصَّفَارُ: أَمَّا إِسْرَائِيلُ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يُجِيزُ حَذْفَ الْهَمْزَةِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَسَارِيلُ. وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ: أَسَارِلَةَ وَأَسَارِلَ. انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي شَيْءٍ مِنْ نَحْوِ جَمْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَاسْتُوفِيَ النَّقْلُ هُنَا. الْحَنَفُ: لُغَةً الْمَيْلُ، وَبِهِ سُمِّيَ الْأَحْنَفُ لِمَيْلٍ كَانَ فِي إِحْدَى قَدَمَيْهِ عَنِ الْأُخْرَى، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ فِي رِجْلِهِ مَا كَانَ فِي صِبْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحَنَفُ الِاسْتِقَامَةُ، وَسُمِّيَ الْأَحْنَفُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاؤُلِ، كَمَا سُمِّيَ اللَّدِيغُ سَلِيمًا. وَقَالَ الْقَفَّالُ: الْحَنَفُ لَقَبٌ لِمَنْ دَانَ بِالْإِسْلَامِ كَسَائِرِ أَلْقَابِ الدِّيَانَاتِ. وَقَالَ عُمَرُ:
634
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَنِيفُ: الْمَائِلُ عَمَّا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ إِلَى مَا لَزِمَهُ، وَأَنْشَدَ:
حَمِدْتُ اللَّهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي إلى الإسلام والدين الحنيفي
وَلَكُنَّا خُلِقْنَا إِذْ خُلِقْنَا حَنِيفًا دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِينِ
الْأَسْبَاطُ: جَمْعُ سِبْطٍ، وَهُمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَهُمْ وَلَدُ يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ أَسْمَائِهِمْ. سُمُّوا بِذَلِكَ مِنَ السَّبَطِ: وَهُوَ التَّتَابُعُ، فَهُمْ جَمَاعَةٌ مُتَتَابِعُونَ. وَيُقَالُ: سَبَطَ عَلَيْهِ الْعَطَاءَ إِذَا تَابَعَهُ. وَيُقَالُ: هُوَ مَقْلُوبُ بَسَطَ، وَمِنْهُ السُّبَاطَةُ وَالسَّابَاطُ. وَيُقَالُ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: سِبْطَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِمْ وَانْبِسَاطِهِمْ وَانْتِشَارِهِمْ، ثُمَّ صَارَ إِطْلَاقُ السِّبْطِ عَلَى ابْنِ الْبِنْتِ، فَيُقَالُ:
سِبْطُ أَبِي عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَسِبْطُ حُسَيْنِ بْنِ مَنْدَهْ، وَسِبْطُ السِّلَفِيِّ فِي أَوْلَادِ بَنَاتِهِمْ. وَقِيلَ:
أَصْلُ الْأَسْبَاطِ مِنَ السِّبْطِ، وَهُوَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَالسِّبْطُ: الْجَمَاعَةُ الرَّاجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ. الشِّقَاقُ: مَصْدَرُ شَاقَّهُ، كَمَا تَقُولُ: ضَارَبَ ضِرَابًا، وَخَالَفَ خِلَافًا، وَمَعْنَاهُ: الْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الشِّقِّ، أَيْ صَارَ هَذَا فِي شِقٍّ، وَهَذَا فِي شِقٍّ. وَالشِّقُّ: الْجَانِبُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْحَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَشَقَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْرِصُ عَلَى مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ.
الْكِفَايَةُ: الْإِحْسَابُ. كَفَانِي كَذَا: أَيْ أَحْسَبَنِي، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ
أَيْ أَغْنَانِي قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ. الصِّبْغَةُ: فِعْلَةٌ مِنْ صَبَغَ، كَالْجِلْسَةِ مِنْ جَلَسَ، وَأَصْلُهَا الْهَيْئَةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الصَّبْغُ. وَالصَّبْغُ: الْمَصْبُوغُ بِهِ، وَالصَّبْغُ: الْمَصْدَرُ، وَهُوَ تَغْيِيرُ الشَّيْءِ بِلَوْنٍ مِنَ الْأَلْوَانِ، وَفِعْلُهُ عَلَى فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَمُضَارِعُهُ الْمَشْهُورُ فِيهِ يَفْعُلُ بِضَمِّهَا، وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ إِذْ لَامُهُ حَرْفُ حَلْقٍ. وَذُكِرَ لِي عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَلِيٍّ الْفِهْرِيِّ، عُرِفَ بِاللَّيْلِيِّ، وَهُوَ شَارِحُ الْفَصِيحِ، أَنَّهُ ذكر فيه صم الْبَاءِ فِي الْمُضَارِعِ وَالْفَتْحَ وَالْكَسْرَ.
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: وَأَوْصَى، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: وَوَصَّى. قَالَ ثَعْلَبٌ: أَمْلَى عَلَيَّ خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ البزاز، قَالَ:
اخْتَلَفَ مُصْحَفُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ حَرْفًا. كَتَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ:
وَأَوْصَى، وَسَارِعُوا، يَقُولُ، الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدِدْ، الَّذِينَ اتَّخَذُوا، مَسْجِدًا خَيْرًا مِنْهُمَا،
635
فَتَوَكَّلْ، وَأَنْ يَظْهَرَ، بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ، وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا. وَكَتَبَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: وَوَصَّى، سَارِعُوا، وَيَقُولُ، مَنْ يَرْتَدُّ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا، خَيْرًا مِنْهَا، وَتَوَكَّلْ، أَنْ يَظْهَرَ، فِيمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، مَا تَشْتَهِي، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ، فَلَا يَخَافُ. وَبِهَا مُتَعَلِّقٌ بِأَوْصَى، وَالضَّمِيرُ عَائِدُ عَلَى الْمِلَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ «١»، وَبِهِ ابْتَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَهْدَوِيُّ غَيْرَهُ، أَوْ عَلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «٢»، وَنَظِيرُهُ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ، حَيْثُ تَقَدَّمَ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. وَبِهَذَا الْقَوْلِ ابْتَدَأَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَ: هُوَ أَصْوَبُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَرَجَّحَ الْعَوْدَ عَلَى الْمِلَّةِ بِأَنَّهُ يَكُونُ الْمُفَسِّرُ مُصَرَّحًا بِهِ، وَإِذَا عَادَ عَلَى الْكَلِمَةِ كَانَ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِهِ، وَعَوْدُهُ عَلَى الْمُصَرَّحِ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهِ عَلَى الْمَفْهُومِ. وَبِأَنَّ عُودَهُ عَلَى الْمِلَّةِ أَجْمَعُ مِنْ عَوْدِهِ عَلَى الْكَلِمَةِ، إِذِ الْكَلِمَةُ بَعْضُ الْمِلَّةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُوصِي إِلَّا بِمَا كَانَ أَجْمَعَ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْكَلِمَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَقِيلَ: عَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَهِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ، فَهِيَ مُشَارٌ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، إِذْ هِيَ أَعْظَمُ عُمُدِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْوَصِيَّةِ الدَّالِّ عَلَيْهَا وَوَصَّى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الطَّاعَةِ.
بَنِيهِ: بَنُو إِبْرَاهِيمَ، إِسْمَاعِيلَ وَأُمُّهُ هَاجَرُ الْقِبْطِيَّةُ، وَإِسْحَاقُ وَأُمُّهُ سَارَّةُ، وَمَدْيَنُ:
وَمَدْيَانُ، وَنَقْشَانُ، وَزَمْزَانُ، وَنَشَقُ، وَنَقَشُ سُورَجُ، ذَكَرَهُمُ الشَّرِيفُ النَّسَّابَةُ أَبُو الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَعْمَرٍ الْحُسَيْنِيُّ الْجَوَّانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأُمُّ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ قَطُورَا بِنْتُ يَقْطَنَ الْكَنْعَانِيَّةُ. هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةُ وَلَدُهُ لِصُلْبِهِ، وَالْعَقِبُ الْبَاقِي فِيهِمُ اثْنَانِ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ لَا غَيْرَ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَكِّيُّ، وَالضَّرِيرُ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ الْأَسْوَارِيُّ: بِالنَّصْبِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الرَّفْعِ فَتَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَيَكُونُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ تَوْصِيَةِ بَنِيهِ، أَيْ وَوَصَّى يَعْقُوبُ بَنِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: قَالَ يَا بني إن الله اصطفى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى بَنِيهِ، أَيْ وَوَصَّى بِهَا نَافِلَتَهُ يَعْقُوبَ، وَهُوَ ابْنُ ابْنِهِ إِسْحَاقَ. وَبَنُو يَعْقُوبَ يَأْتِي ذِكْرُ أَسْمَائِهِمْ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْأَسْبَاطِ. يَا بَنِيَّ: مَنْ قَرَأَ وَيَعْقُوبَ بِالنَّصْبِ، كَانَ يَا بَنِيَّ مِنْ مَقُولَاتِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ رَفَعَ عَلَى الْعَطْفِ فَكَذَلِكَ، أو
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٣١.
636
عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَمِنْ كَلَامِ يَعْقُوبَ. وَإِذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِبَنِيهِ يَا بَنِيَّ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
رَجُلَانِ مِنْ ضَبَّةَ أخبرانا إنا رَأَيْنَا رِجُلًا عُرْيَانًا
بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَوْ معمولا لا خبرانا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، وَفِي النِّدَاءِ لِمَنْ بِحَضْرَةِ الْمُنَادِي. وَكَوْنُ النِّدَاءِ بِلَفْظِ الْبَنِينَ مُضَافَيْنِ إِلَيْهِ تَلَطُّفٌ غَرِيبٌ وَتَرْجِئَةٌ لِلْقَبُولِ وَتَحْرِيكٌ وَهَزٌّ، لِمَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ الْمُوَافَاةِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَلَطَّفَ فِي تَحْصِيلِهِ، وَلِذَلِكَ صَدَّرَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ، وَمَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْهُ الْعَاقِلُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَالضَّحَّاكُ: أَنْ يَا بَنِيَّ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ أَنْ هُنَا تَفْسِيرِيَّةً بِمَعْنَى أَيْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ انْسِبَاكُ مَصْدَرٍ مِنْهَا وَمِمَّا بَعْدَهَا. وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَعْنَى التَّفْسِيرِ، لأن جَعَلَهَا هُنَا زَائِدَةً، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ، أَيِ اسْتَخْلَصَهُ لَكُمْ وَتَخَيَّرَهُ لَكُمْ صَفْوَةَ الْأَدْيَانِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الدِّينِ لِلْعَهْدِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ عَرَفُوهُ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ.
فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَيْ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْمَعْنَى: الثُّبُوتُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالنَّهْيِ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ كَوْنِهِمْ عَلَى خِلَافِ الْإِسْلَامِ. إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنِ الْمَوْتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ. مُتْ وَأَنْتَ شَهِيدٌ، لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْمَوْتِ، بَلْ أَمْرٌ بِالشَّهَادَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لِتَسْتَشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَكَرَ الْمَوْتِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْطِئَةِ لِلشَّهَادَةِ. وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ إِيجَازًا بَلِيغًا وَوَعْظًا وَتَذْكِيرًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَيَقَّنُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَدْرِي مَتَى يُفَاجِئُهُ. فَإِذَا أُمِرَ بِالْتِبَاسٍ بِحَالَةٍ لَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ إِلَّا عَلَيْهَا، كَانَ مُتَذَكِّرًا لِلْمَوْتِ دَائِمًا، إِذْ هُوَ مَأْمُورٌ بِتِلْكَ الْحَالَةِ دَائِمًا. وَهَذَا عَلَى الْحَقِيقَةِ نَهْيٌ عَنْ تَعَاطِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا لِلْمُوَافَاةِ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ:
لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، لَا يَنْهَى نَفْسَهُ عَنِ الرُّؤْيَةِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَى النَّهْيِ عَنْ حُضُورِهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَيَكُونُ يَرَاهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اذْهَبْ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْجُبَ إِدْرَاكَ الْآمِرِ عَنْهُ إِلَّا بِالذَّهَابِ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَأَتَى بِالْمَقْصُودِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْغَضَبِ وَالْكَرَاهَةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْهَى إِلَّا عَنْ شَيْءٍ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى لَطَائِفَ، مِنْهَا: الْوَصِيَّةُ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا عِنْدَ خَوْفِ
637
الْمَوْتِ. فَفِي ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الدِّينِ، حَتَّى وَصَّى بِهِ مَنْ كَانَ مُلْتَبِسًا بِهِ، إِذْ كَانَ بَنُوهُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا اخْتِصَاصُهُ بِبَنِيهِ، وَلَا يَخْتَصُّهُمْ إِلَّا بِمَا فِيهِ سَلَامَةُ عَاقِبَتِهِمْ. وَمِنْهَا أَنَّهُ عَمَّمَ بَنِيهِ، وَلَمْ يَخُصَّ أَحَدًا مِنْهُمْ،
كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، حِينَ نَحَلَهُ أَبُوهُ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُحِبُّ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟» وَرَدَّ نَحْلَهُ إِيَّاهُ وَقَالَ: لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ.
وَمِنْهَا إِطْلَاقُ الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ. ثُمَّ خَتَمَهَا بِأَبْلَغِ الزَّجْرِ أَنْ يَمُوتُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ. ثُمَّ التَّوْطِئَةُ لِهَذَا النَّهْيِ وَالزَّجْرِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي اخْتَارَ لَكُمْ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَلَا تَخْرُجُوا عَمَّا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ الْمُؤَرِّخُونَ:
نَقَلَ إِبْرَاهِيمُ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ رَضِيعٌ، وَقِيلَ: ابْنُ سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ: ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَوُلِدَ قَبْلَ إِسْحَاقَ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَاتَ وَلَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَكَانَ لِإِسْمَاعِيلَ، لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ، تِسْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَعَاشَ إِسْحَاقُ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَاتَ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ. وَكَانَ بَيْنَ وَفَاةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمَوْلِدِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ وَسِتِّمِائَةِ سَنَةٍ، وَالْيَهُودُ تَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ.
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. قَالُوا: أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ يَعْقُوبَ يَوْمَ مَاتَ أَوْصَى بَنِيهِ بِالْيَهُودِيَّةِ؟
قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا دَخَلَ يَعْقُوبُ مِصْرَ رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَالنَّيِّرَيْنِ، فَجَمَعَ بَنِيهِ وَخَافَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إِعْلَامًا لِنَبِيِّهِ بِمَا وَصَّى بِهِ يَعْقُوبُ، وَتَكْذِيبًا لِلْيَهُودِ.
وَأَمْ هُنَا مُنْقَطِعَةٌ، تَتَضَمَّنُ مَعْنَى بَلْ وَهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّالَّةِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَكُنْتُمْ شُهَدَاءَ؟ فَمَعْنَى الْإِضْرَابِ: الِانْتِقَالُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، لَا أَنَّ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ هُنَا:
التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ مَا كُنْتُمْ شُهَدَاءَ، فَكَيْفَ تَنْسِبُونَ إِلَيْهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ؟ وَلَا شَهِدْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَلَا أَسْلَافُكُمْ. وَقِيلَ: أَمْ هُنَا بِمَعْنَى: بَلْ، وَالْمَعْنَى بَلْ كُنْتُمْ، أَيْ كَانَ أَسْلَافُكُمْ، أَوْ تنزلهم مَنْزِلَةَ أَسْلَافِهِمْ، إِذْ كَانَ أَسْلَافُهُمْ قَدْ نَقَلُوا ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَفِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ مَا نَسَبُوهُ إِلَى يَعْقُوبَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ. وَالْخِطَابُ فِي كُنْتُمْ لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَرُؤَسَائِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ أَشْهِدْتُمْ يَعْقُوبَ وَعَلِمْتُمْ بِمَا أَوْصَى، فَتَدَّعُونَ عَنْ عِلْمٍ، أَيْ لَمْ تَشْهَدُوا. بَلْ أَنْتُمْ تَفْتَرُونَ. وَأَمْ تَكُونُ بِمَعْنَى أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ.
انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. وَلَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ أَمْ يُسْتَفْهَمُ بِهَا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ. وَأَيْنَ ذَلِكَ؟ وَإِذَا صَحَّ النَّقْلُ فَلَا مَدْفَعَ فِيهِ وَلَا مَطْعَنَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ أَمْ يُسْتَفْهَمُ بِهَا فِي وَسَطِ
638
كَلَامٍ قَدْ تَقَدَّمَ صَدْرُهُ، وَهَذَا مِنْهُ. وَمِنْهُ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ. انْتَهَى، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ غَرِيبٌ.
وَتَلَخَّصَ أَنَّ أَمْ هُنَا فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: (الْمَشْهُورُ) أَنَّهَا هُنَا مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ.
(الثَّانِي) : أَنَّهَا لِلْإِضْرَابِ فَقَطْ، بِمَعْنَى بَلْ. (الثَّالِثُ) : بِمَعْنَى هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فَقَطْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَعْنَى: مَا شَاهَدْتُمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَكُمُ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ. وَقِيلَ: الْخَطَابُ لِلْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا مَاتَ نَبِيٌّ إِلَّا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوهُ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا قَالَهُ لِبَنِيهِ، وَمَا قَالُوهُ، لَظَهَرَ لَهُمْ حِرْصُهُ عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمَا ادَّعَوْا عَلَيْهِ الْيَهُودِيَّةَ. فَالْآيَةُ مُنَافِيَةٌ لِقَوْلِهِمْ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُمْ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ؟ وَلَكِنَّ الْوَجْهَ أَنْ تَكُونَ أَمْ مُتَّصِلَةً، عَلَى أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
أَتَدَّعُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْيَهُودِيَّةَ؟ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ؟ يَعْنِي أَنَّ أَوَائِلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا مُشَاهِدِينَ لَهُ، إِذْ أَرَادَ بَنِيهِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَمِلَّةِ الْإِسْلَامِ، فَمَا لَكُمْ تَدَّعُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مَا هُمْ مِنْهُ بُرَآءُ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ جَعَلَ أَمْ مُتَّصِلَةً، وَأَنَّهُ حَذَفَ قَبْلَهَا مَا يُعَادِلُهَا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَجَازَ حَذْفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَلَا يُحْفَظُ ذَلِكَ، لَا فِي شِعْرٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ: أَمْ زَيْدٌ؟ وَأَنْتَ تُرِيدُ: أَقَامَ عَمْرٌو أَمْ زَيْدٌ؟ وَلَا أَمْ قَامَ خَالِدٌ؟ وَأَنْتَ تُرِيدُ: أَخْرَجَ زَيْدٌ؟ أَمْ قَامَ خَالِدٌ؟ وَالسَّبَبُ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَذْفُ. أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَعْنَى:
أَيُّ الْأَمْرَيْنِ وَقَعَ؟ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ جُمْلَةٌ واحدة. وإما يُحْذَفُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَبْقَى الْمَعْطُوفُ مَعَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ، إِذَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ نَحْوُ قَوْلِكَ: بَلَى وَعَمْرًا، جَوَابًا لِمَنْ.
قَالَ: أَلَمْ تَضْرِبْ زَيْدًا؟ وَنَحْوُ قوله تعالى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ «١»، أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. وَنَدَرَ حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ أَوْ، نَحْوُ قَوْلِهِ:
فَهَلْ لَكَ أَوْ مِنْ وَالِدٍ لَكَ قَبْلَنَا أَرَادَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ أَخٍ أَوْ مِنْ وَالِدٍ؟ وَمَعَ حَتَّى عَلَى نَظَرٍ فِيهِ فِي قَوْلِهِ:
فَيَا عَجَبًا حَتَّى كُلَيْبٌ تُسُبُّنِي أَيْ: يَسُبُّنِي النَّاسُ حَتَّى كُلَيْبٌ، لَكِنَّ الَّذِي سُمِعَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ حَذْفُ أَمِ الْمُتَّصِلَةِ مَعَ الْمَعْطُوفِ، قَالَ:
دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهَا سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طلابها
(١) سورة البقرة: ٢/ ٦٠.
639
يُرِيدُ: أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ عَنِ الْإِثْبَاتِ يَتَضَمَّنُ نَقِيضَهُ. فَالْمَعْنَى: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ لَمْ يَقُمْ، وَلِذَلِكَ صَلَحَ الْجَوَابُ أَنْ يَكُونَ بِنِعَمْ وَبِلَا، فَلِذَلِكَ جَازَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ فِي قَوْلِهِ: أَرُشْدٌ طِلَابُهَا، أَيْ أَمْ غَيْرُ رُشْدٍ. وَيَجُوزُ حَذْفُ الثَّوَانِي الْمُقَابِلَاتِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: تَقِيكُمُ الْحَرَّ «١»، كَيْفَ حَذَفَ وَالْبَرْدَ؟ إِذْ حَضَرَ الْعَامِلُ فِي إِذْ شُهَدَاءَ، وَذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الظَّرْفِ، لَا عَلَى جِهَةِ الْمَفْعُولِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: حَاضِرِي كَلَامِهِ فِي وَقْتِ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَكَنَّى بِالْمَوْتِ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ لِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ نَفْسُهُ لَا يَقُولُ الْمُحْتَضِرُ شَيْئًا، وَمِنْهُ: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ «٢»، أَيْ وَيَأْتِيهِ دَوَاعِيهِ وَأَسْبَابُهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا الْعُذْرَ وَالْتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وَفِي قَوْلِهِ: حَضَرَ، كِنَايَةٌ غَرِيبَةٌ، إِنَّهُ غَائِبٌ لَا بُدَّ أَنْ يَقْدَمَ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ
فِي الدُّعَاءِ: وَاجْعَلِ الْمَوْتَ خَيْرَ غَائِبٍ نَنْتَظِرُهُ.
وقرىء: حَضِرَ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ، وَأَنَّ مُضَارِعَهَا بِضَمِّ الضَّادِ شَاذٌّ، وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ هُنَا عَلَى الْفَاعِلِ لِلِاعْتِنَاءِ. إِذْ قالَ لِبَنِيهِ، إِذْ:
بَدَلٌ مِنْ إِذْ فِي قَوْلِهِ: إِذْ حَضَرَ، فَالْعَامِلُ فِيهِ إِمَّا شُهَدَاءَ الْعَامِلَةُ فِي إِذِ الْأُولَى عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْبَدَلِ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَإِمَّا شُهَدَاءَ مُكَرَّرَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَدَلَ عَلَى تَكْرَارِ الْعَامِلِ. وَزَعَمَ الْقَفَّالُ أن إذ وَقْتٌ لِلْحُضُورِ، فَالْعَامِلُ فِيهِ حضر، وهو يؤول إِلَى اتِّحَادِ الظَّرْفَيْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ عَامِلُهُمَا.
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي مَا: اسْتِفْهَامٌ عَمَّا لَا يَعْقِلُ، وَهُوَ اسْمٌ تَامٌّ مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ بَعْدَهُ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا مُبْهَمَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يَكُونُ هُنَا يَقَعُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّهُ قَدْ عُبِدَ بَنُو آدَمَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَبَعْضُ النُّجُومِ وَالْأَوْثَانُ الْمَنْحُوتَةُ، وَأَمَّا مَنْ يَذْهَبُ إِلَى تَخْصِيصِ مَا بِغَيْرِ الْعَاقِلِ، فَقِيلَ: هُوَ سُؤَالٌ عَنْ صِفَةِ الْمَعْبُودِ، لِأَنَّ مَا يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الصِّفَاتِ تَقُولُ: مَا زَيْدٌ، أَفَقِيهٌ أَمْ شَاعِرٌ؟ وَقِيلَ: سَأَلَ بِمَا لِأَنَّ الْمَعْبُودَاتِ الْمُتَعَارِفَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتْ جَمَادَاتٍ، كَالْأَوْثَانِ وَالنَّارِ وَالشَّمْسِ وَالْحِجَارَةِ، فَاسْتَفْهَمَ بِمَا الَّتِي يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَمَّا لَا يَعْقِلُ. وَفَهِمَ عَنْهُ بَنُوهُ فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّا لَا نَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ هَؤُلَاءِ. وَقِيلَ:
استفهم بما عَنِ الْمَعْبُودِ تَجْرِبَةً لَهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ لِئَلَّا يَطْرُقَ لَهُمُ الِاهْتِدَاءُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَهُمْ وَيَنْظُرَ ثُبُوتَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ اسْتَفْهَمَ عَنِ الَّذِي يَعْبُدُونَ، أي
(١) سورة النحل: ١٦/ ٨١.
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٧.
640
الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ؟ وَقَالَ الْقَفَّالُ: دَعَاهُمْ إِلَى أَنْ لَا يَتَحَرَّوْا فِي أَعْمَالِهِمْ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهِمُ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَإِنَّمَا خَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَشْغَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَفَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَوْلَادِهِمْ كَانَتْ فِي بَابِ الدِّينِ، وَهِمَّتُهُمْ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِمْ. مِنْ بَعْدِي: يُرِيدُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِي،
وَحُكِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ خُيِّرَ، كَمَا يُخَيَّرُ الْأَنْبِيَاءُ، اخْتَارَ الْمَوْتَ وَقَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أُوصِيَ بَنِيَّ وَأَهْلِي، فَجَمَعَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ.
قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ: هَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَإِلَهَ إِبْرَاهِيمَ، بِإِسْقَاطِ آبَائِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ: وَإِلَهَ أَبِيكَ. فَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، فَإِبْرَاهِيمُ وَمَا بَعْدَهُ بَدَلٌ مِنْ آبَائِكَ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَإِذَا كَانَ بَدَلًا، فَهُوَ مِنَ الْبَدَلِ التَّفْصِيلِيِّ، وَلَوْ قرىء فِيهِ بِالْقَطْعِ، لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا. وَأَجَازَ الْمَهْدَوِيُّ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ وَمَا بَعْدَهُ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ، أَعْنِي:
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَبٌ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْعَبَّاسِ: هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي، وَرُدُّوا عَلَيَّ أَبِي، وَأَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ، عَلَى الْقَوْلِ الشَّهِيرِ: أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ يُسَمَّى أَبًا لِقَوْلِهِ: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ جَدٌّ لِيَعْقُوبَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ «١» عَلَى تَوْرِيثِ الْجَدِّ دُونَ الْإِخْوَةِ، وَإِنْزَالِهِ مَنْزِلَةَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ، عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ، وَأَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ أَبٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الصِّدِّيقِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ، مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَيُعْطَى الثُّلُثَ، وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْإِخْوَةِ، مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ، فَيُعْطَى السُّدُسَ، وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا
، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَحُجَجُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ أَبِيكَ أُرِيدَ بِهِ الْإِفْرَادُ وَيَكُونُ إِبْرَاهِيمُ بَدَلًا مِنْهُ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ سَقَطَتْ مِنْهُ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ، فَقَدْ جُمِعَ أَبٌ عَلَى أَبِينَ نَصْبًا وَجَرًّا، وَأَبُونَ رَفْعًا، حَكَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، وقال الشاعر:
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٣٨.
641
فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أَصْوَاتَنَا بَكَيْنَ وَفَدَيْنَنَا بِالْأَبِينَا
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ إِعْرَابُ إِبْرَاهِيمَ مِثْلَ إِعْرَابِهِ حِينَ كَانَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ. وَفِي إِجَابَتِهِمْ لَهُ بِإِظْهَارِ الْفِعْلِ تَأْكِيدٌ لِمَا أَجَابُوهُ بِهِ، إِذْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَالُوا إِلَهَكَ، فَتَصْرِيحُهُمْ بِالْفِعْلِ تَأْكِيدٌ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلسُّؤَالِ، أَعْنِي فِي الْعَامِلِ الْمَلْفُوظِ بِهِ فِي السُّؤَالِ. وَإِضَافَةُ الْإِلَهِ إِلَى يَعْقُوبَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّحَادِ مَعْبُودِ السَّائِلِ وَالْمُجِيبِ لَفْظًا. وَفِي قَوْلِهِ: وَإِلَهَ آبَائِكَ دَلِيلٌ عَلَى اتِّحَادِ الْمَعْبُودِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَإِنَّمَا كُرِّرَ لَفْظُ وَإِلَهَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ إِلَّا بِإِعَادَةِ جَارِّهِ، إِلَّا فِي الشِّعْرِ، أَوْ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَهُوَ عِنْدَهُ قَلِيلٌ. فَلَوْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا، لَكَانَ حَذْفُ الْجَارِّ، إِذَا كَانَ اسْمًا، أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِهِ، لِمَا يُوهِمُ إِثْبَاتُهُ مِنَ الْمُغَايَرَةِ. فَإِنَّ حَذْفَهُ يَدُلُّ عَلَى الِاتِّحَادِ. وَبَدَأَ أَوَّلًا بِإِضَافَةِ الْإِلَهِ إِلَى يَعْقُوبَ، لِأَنَّهُ هُوَ السَّائِلُ، وَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَقَدَّمَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى إِسْحَاقَ، لِأَنَّهُ أَسَنُّ أَوْ أَفْضَلُ، لِكَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من ذُرِّيَّتِهِ، وَهُوَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا خَيْرَ النَّاسِ فِي أَزْمَانِهِمْ، وَلَمْ يُعِمَّ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانَ لَهُمْ مَعْبُودُونَ كَثِيرُونَ دُونَ اللَّهِ.
إِلهاً واحِداً: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، وَهُوَ بَدَلُ نَكِرَةٍ مَوْصُوفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَيَكُونُ حَالًا مُوَطِّئَةً نَحْوَ: رَأَيْتُكَ رَجُلًا صَالِحًا. فَالْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الْوَصْفُ، وَجِيءَ بِاسْمِ الذَّاتِ تَوْطِئَةً لِلْوَصْفِ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَيْ يُرِيدُ بِإِلَهِكَ إِلَهًا وَاحِدًا. وَقَدْ نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْمَنْصُوبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لَا يَكُونُ نَكِرَةً وَلَا مُبْهَمًا. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ، أَوِ الْبَدَلِ، هُوَ التَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّ مَعْبُودَهُمْ وَاحِدٌ فَرْدٌ، إِذْ قَدْ تُوهِمُ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى كَثِيرِينَ تَعْدَادَ ذَلِكَ الْمُضَافِ، فَنَهَضَ بِهَذِهِ الْحَالِ أَوِ الْبَدَلِ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الْإِيهَامِ. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ: أَيْ مُنْقَادُونَ لَمَّا ذَكَرَ الْجَوَابَ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ نَعْبُدُ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مُتَجَدِّدَةٌ دَائِمًا. ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ الْمُخْبَرَ عَنِ الْمُبْتَدَأِ فِيهَا بِاسْمِ الْفَاعِلِ الدَّالِّ عَلَى الثُّبُوتِ، لِأَنَّ الِانْقِيَادَ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ دَائِمًا، وَعَنْهُ تَكُونُ الْعِبَادَةُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أَحَدَ جُمْلَتَيِ الْجَوَابِ. فَأَجَابُوهُ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ، وَالثَّانِي: مُؤَكِّدٌ لِمَا أَجَابُوا بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْجَوَابِ الْمُرْبِي عَلَى السُّؤَالِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةً مِنَ الضَّمِيرِ فِي نَعْبُدُ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: نَعْبُدُ، فَيَكُونُ أَحَدَ شِقَّيِ الْجَوَابِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً مُؤَكِّدَةً، أَيْ: وَمِنْ حَالِنَا أَنَّا نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ التَّوْحِيدَ أَوْ مُذْعِنُونَ.
642
وَالَّذِي ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ جُمْلَةَ الِاعْتِرَاضِ هِيَ الْجُمْلَةُ الَّتِي تُفِيدُ تَقْوِيَةً بَيْنَ جُزْأَيْ مَوْصُولٍ وَصِلَةٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
مَاذَا وَلَا عَتْبَ فِي الْمَقْدُورِ رُمْتُ إِمَّا تخطيك بالنجح أو خُسْرٍ وَتَضْلِيلِ
وَقَالَ:
ذَاكَ الَّذِي وَأَبِيكَ يَعْرِفُ مَالِكَا وَالْحَقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ الْبَاطِلِ
أَوْ بَيْنَ جُزْأَيْ إِسْنَادٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ أَسِنَّةُ قَوْمٍ لَا ضِعَافٌ وَلَا عُزْلُ
أَوْ بَيْنَ فِعْلِ شَرْطٍ وَجَزَائِهِ، أَوْ بَيْنَ قَسَمٍ وَجَوَابِهِ، أَوْ بَيْنَ مَنْعُوتٍ وَنَعْتِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ مَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ قَبْلَهَا كَلَامًا مُسْتَقِلًّا، وَبَعْدَهَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ.
لَا يُقَالُ: إِنَّ بَيْنَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ تَلَازُمٌ يَصِحُّ بِهِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا مِنْ كَلَامِ بَنِي يَعْقُوبَ، حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَا بَعْدَهَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِمَا أَخْبَرَ تَعَالَى. وَالْجُمْلَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ مُتَلَازِمَيْنِ لا تكون إلا من النَّاطِقِ بِالْمُتَلَازِمَيْنِ، يُؤَكِّدُ بِهَا وَيُقَوِّي مَا تَضَمَّنَ كَلَامُهُ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا كُلِّهِ أَنَّ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ لَيْسَ جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ:
كَذَلِكَ كُنَّا وَنَحْنُ نَكُونُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْعَامِلُ نَعْبُدُ وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَمْدَحُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ:
كَذَلِكَ كُنَّا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَكَلُّفِ هَذَا الْإِضْمَارِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ عَطْفُهَا عَلَى نَعْبُدُ إِلَهَكَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَرَّرْنَاهُ قَبْلُ. وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ إِضْمَارٍ، مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى، كَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْإِضْمَارِ.
وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُقَلِّدَةُ، وَقَالُوا: إِنْ أَبْنَاءَ يَعْقُوبَ اكْتَفَوْا بِالتَّقْلِيدِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ هُوَ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ كَافٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهَا التَّعْلِيمِيَّةُ، قَالُوا:
لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِتَعْلِيمِ الرَّسُولِ وَالْإِمَامِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا: نَعْبُدُ الْإِلَهَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، بَلْ قَالُوا: لَا نَعْبُدُ إِلَّا الَّذِي أَنْتَ تَعْبُدُهُ وَآبَاؤُكَ تَعْبُدُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَرِيقَةَ الْمَعْرِفَةِ التَّعَلُّمُ. وَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ إِلَّا الْإِقْرَارَ بِعِبَادَةِ الْإِلَهِ. وَالْإِقْرَارُ بِالْعِبَادَةِ لِلَّهِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ناشىء عَنْ تَقْلِيدٍ، وَلَا تَعْلِيمٍ، ولا أنه أيضا
643
ناشىء عَنِ اسْتِدْلَالٍ بِالْعَقْلِ، فَبَطَلَ تَمَسُّكُهُمْ بِالْآيَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ، لأنها لم تجىء فِي مَعْرِضِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهُمْ عَمَّا يَعْبُدُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، فَأَحَالُوهُ عَلَى مَعْبُودِهِ وَمَعْبُودِ آبَائِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ ذَلِكَ أَخْصَرَ فِي الْقَوْلِ مِنْ شَرْحِ صِفَاتِهِ تَعَالَى مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى سُكُونِ نَفْسِ يَعْقُوبَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَسْنَا نَجْرِي إِلَّا عَلَى طَرِيقَتِكَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي قَوْلِهِ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «١»، فَمُرَادُهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِمْ: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ الْإِلَهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ وُجُودُ آبَائِكَ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، تِلْكَ: إِشَارَةٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ وَأَبْنَائِهِمَا. وَمَعْنَى خَلَتْ:
مَاتَتْ وَانْقَضَتْ وَصَارَتْ إِلَى الْخَلَاءِ، وَهُوَ الْأَرْضُ الَّذِي لَا أَنِيسَ بِهِ. وَالْمُخَاطَبُ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ ادَّعَوْا لِإِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ، صِفَةٌ لِأُمَّةٍ. لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ: أَيْ تِلْكَ الْأُمَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِجَزَاءِ مَا كَسَبَتْ، كَمَا أَنَّكُمْ كَذَلِكَ مُخْتَصُّونَ بِجَزَاءِ مَا كَسَبْتُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَلَا يَنْفَعُ أَحَدًا كَسْبُ غَيْرِهِ. وَظَاهِرُ مَا أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ وَحُذِفَ الْعَائِدُ، أَيْ لَهَا مَا كَسَبَتْهُ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ لَهَا كَسْبُهَا، وَكَذَلِكَ مَا فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَها مَا كَسَبَتْ اسْتِئْنَافًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةَ خالية مِنَ الضَّمِيرِ فِي خَلَتْ، أَيِ انْقَضَتْ مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا، لَهَا مَا كَسَبَتْ. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، لِعَطْفِ قَوْلِهِ: وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ عَلَى قَوْلِهِ:
لَها مَا كَسَبَتْ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ قَبْلَهَا، لِاخْتِلَافِ زَمَانِ اسْتِقْرَارِ كَسْبِهَا لَهَا. وَزَمَانِ اسْتِقْرَارِ كَسْبِ الْمُخَاطَبِينَ، وَعَطْفُ الْحَالِ عَلَى الْحَالِ، يُوجِبُ اتِّحَادَ الزَّمَانِ. افْتَخَرُوا بِأَسْلَافِهِمْ، فَأُخْبِرُوا أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْفَعُ أَحَدًا، مُتَقَدِّمًا كَانَ أَوْ مُتَأَخِّرًا.
وَرُوِيَ: يَا بَنِي هَاشِمَ! لَا يَأْتِينِي النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ وَتَأْتُونِي بأنسابكم! با فَاطِمَةُ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
! قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ: لَا اكْتِسَابَ لِلْعَبْدِ. انْتَهَى.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَهِيَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُعْضِلَةِ، ومذاهب أهل
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١.
644
الْإِسْلَامِ فِيهَا أَرْبَعَةٌ. أَحَدُهَا: قَوْلُ الْجَبْرِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُلْجَأٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ حَرَكَةِ الْغُصْنِ إِلَيْهِ، إِذَا حَرَّكَهُ مُحَرِّكٌ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَجْبُورِينَ عَلَى الْفِعْلِ، بَلْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى إِيجَادِ الْفِعْلِ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ لَهُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِيقَاعِهِ وَعَدَمِ إِيقَاعِهِ. وَالرَّابِعُ: مَذْهَبٌ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْعَبْدِ تَمْكِينًا وَقُدْرَةً مَعَ الْفِعْلِ يَفْعَلُ بِهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَارِ وَالْإِلْجَاءِ، وَهَذَا التَّمْكِينُ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ. ثُمَّ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ تَفَاسِيرَ: أَحَدُهَا: قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ: أَنَّ الْقُدْرَةَ صِفَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَقْدُورِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ فِي الْمَقْدُورِ، بَلِ الْقُدْرَةُ وَالْمَقْدُورُ حَصَلَا بِخَلْقِ اللَّهِ، لَكِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ، هُوَ الْكَسْبُ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الْبَاقِلَّانِيُّ: أَنَّ ذَاتَ الْفِعْلِ لَمْ تُحَصِّلْ لَهُ صِفَةَ، كَوْنِهِ طَاعَةً وَمَعْصِيَةً، بَلْ هَذِهِ الصِّفَةُ حَصَلَتْ لَهُ بِالْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ أبي إسحاق الأسفرائني: أَنَّ الْقُدْرَتَيْنِ، الْقَدِيمَةَ وَالْحَدِيثَةَ، إِذَا تَعَلَّقَتَا بِمَقْدُورٍ وَقَعَ بِهِمَا، فَكَأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ يُوقَعُ بِإِعَانَةٍ، فَهَذَا هُوَ الكسب.
وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ: جُمْلَةٌ تَوْكِيدِيَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُخْتَصٌّ بِكَسْبِهِ مِنْ خَيْرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يُسْأَلُ أَحَدٌ عَنْ عَمَلِ أَحَدٍ. فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ حَسَنَاتُهُمْ، فَكَذَلِكَ لَا تُسْأَلُونَ وَلَا تُؤَاخَذُونَ بِسَيِّئَاتِ مَنِ اكْتَسَبَهَا. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «١»، كُلُّ شَاةٍ بِرِجْلِهَا تُنَاطُ. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا قَبْلَهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُنَاقَضَةِ لِقَوْلِهِ، إِفْحَامًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، بَلْ كَانَ يَحْتَجُّ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ. لَكِنَّهُ لَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ بِهَا وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ، وَجَدَهُمْ مُعَانِدِينَ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى بَاطِلِهِمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُجَّةِ مَا يُجَانِسُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الدِّينُ بِالِاتِّبَاعِ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَفِي قَوْلِهِ: لَها مَا كَسَبَتْ إِلَى آخِرِهِ، دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ تَعْذِيبِ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ.
وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَبْنَاءَ يُثَابُونَ عَلَى طَاعَةِ الْآبَاءِ.
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ فِي قَالُوا عَلَى رُؤَسَاءِ اليهود
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٤، وسورة الإسراء: ١٧/ ١٥، وسورة فاطر: ٣٥/ ١٨، وسورة الزمر: ٣٩/ ٧.
645
الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ، وَعَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ. كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَوَهْبٌ، وَأُبَيُّ بْنُ يَاسَ بْنِ أَخْطَبَ، وَالسَّيِّدُ، وَالْعَاقِبُ وَأَصْحَابُهُمَا خَاصَمُوا الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ، كُلُّ فِرْقَةٍ تَزْعُمُ أَنَّهَا أَحَقُّ بِدِينِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ. وَأَوْ هُنَا لِلتَّفْصِيلِ، كَأَوْ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «١». وَالْمَعْنَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ كُونُوا هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى، فَالْمَجْمُوعُ قَالُوا لِلْمَجْمُوعِ، لَا أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ أَيِّ الْمِلَّتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ وَإِشْبَاعُ الْكَلَامِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ. قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ مِلَّةَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ. أَمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةً، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:
كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى: اتَّبِعُوا الْيَهُودِيَّةَ أَوِ النَّصْرَانِيَّةَ. وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، أَيْ بَلْ تَكُونُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ أَهْلُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، إِنِّي مِنْ دِينٍ، أَيْ مِنْ أَهْلِ دِينٍ، قاله الزجاج. وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الإعراء، أَيِ الْزَمُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، أَيْ نَقْتَدِي مِلَّةً، أَيْ بِمِلَّةٍ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْكُفَّارِ، فَيَكُونُ الْمُضْمَرُ اتَّبِعُوا، أَوْ كُونُوا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ، فيقدر بنتبع، أَوْ تَكُونُ، أَوْ نَقْتَدِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْدِيرُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ، بِرَفْعِ مِلَّةٍ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ بَلِ الْهُدَى مِلَّةُ، أَوْ أَمْرُنَا مِلَّتُهُ، أَوْ نَحْنُ مِلَّتُهُ، أَيْ أَهْلُ مِلَّتِهِ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ بَلْ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مِلَّتُنَا.
حَنِيفاً: ذَكَرُوا أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ فِي حَالِ حَنِيفِيَّتِهِ، قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ وَجْهَ هِنْدٍ قَائِمَةً، وَأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ: لِأَنَّ الْحَالَ تَعَلَّقَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
انْتَهَى. وَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ نَتَّبِعُ حَنِيفًا، وَأَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْقَطْعِ، حَكَّاهُ السَّجَاوِنْدِيُّ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ كُوفِيٌّ، لِأَنَّ النَّصْبَ عَلَى الْقَطْعِ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِيهِ، وَاخْتِلَافُ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِ، فَلَمَّا نَكَرَّهُ، لَمْ يُمْكِنِ اتِّبَاعُهُ إِيَّاهُ، فَنَصَبَهُ عَلَى الْقَطْعِ. أَمَّا الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذَا كَانَ الْمُضَافُ غَيْرَ عَامِلٍ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْإِضَافَةِ، فَنَحْنُ لَا نجيزه، سَوَاءٌ كَانَ جُزْءًا مِمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ، أَوْ كَالْجُزْءِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي (كِتَابِ مَنْهَجِ الْمَسَالِكِ) من تأليفنا.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١١. [.....]
646
وَأَمَّا النَّصْبُ عَلَى الْقَطْعِ، فَقَدْ رَدَّ هَذَا الْأَصْلَ الْبَصْرِيُّونَ. وَأَمَّا إِضْمَارُ الْفِعْلِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضَافِ، وَذُكِرَ حَنِيفًا وَلَمْ يُؤَنَّثْ لِتَأْنِيثِ مِلَّةٍ، لِأَنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمِلَّةَ هِيَ الدِّينُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: نَتَّبِعُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا. وَعَلَى هَذَا خَرَّجَهُ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الشَّجَرِيِّ فِي الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ مِنْ أَمَالِيهِ. قَالَ: قِيلَ إِنَّ حَنِيفًا حَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَوْجَهُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَجْعَلَهُ حَالًا مِنَ الْمِلَّةِ، وَإِنْ خَالَفَهَا بِالتَّذْكِيرِ، لِأَنَّ الْمِلَّةَ فِي مَعْنَى الدِّينِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا قَدْ أُبْدِلَتْ مِنَ الدِّينِ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «١» ؟ فَإِذَا جَعَلْتَ حَنِيفًا حَالًا مِنَ الْمِلَّةِ، فَالنَّاصِبُ لَهُ هُوَ النَّاصِبُ لِلْمِلَّةِ، وَتَقْدِيرُهُ:
بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَإِنَّمَا ضَعِّفَ الْحَالَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْحَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَامِلُ فِي ذِي الحال. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَكُونُ حَالًا لَازِمَةً، لِأَنَّ دِينَ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَنْفَكَّ عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ حَنِيفًا حَالًا مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَكُونَ حَالًا لَازِمَةً، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَنْفَكَّ عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ. وَالْحَنِيفُ: هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أو الْمَائِلُ عَمَّا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوِ الْمُسْتَقِيمُ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَوِ الْحَاجُّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وابن الحنفية، أَوِ الْمُتَّبِعُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوِ الْمُخَلِّصُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوِ الْمُخَالِفُ لِلْكُلِّ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ أَوِ الْمُسْلِمُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، قَالَ: فَإِذَا جُمِعَ الْحَنِيفُ مَعَ الْمُسْلِمِ فَهُوَ الْحَاجُّ، أَوِ الْمُخْتَتِنُ. أَوِ الْحَنَفُ: هُوَ الِاخْتِتَانُ، وَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ، وَتَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، عَشْرَةُ أَقْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ فِي الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا خُصَّ إِبْرَاهِيمُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مَائِلِينَ إِلَى الْحَقِّ، مُسْتَقِيمِي الطَّرِيقَةِ حُنَفَاءَ، لِأَنَّ اللَّهَ اخْتَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالْإِمَامَةِ، لِمَا سَنَّهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْخِتَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، مِمَّا يُقْتَدَى بِهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَصَارَتِ الْحَنِيفِيَّةُ عَلَمًا مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَسُمِّيَ بِالْحَنِيفِ: مَنِ اتَّبَعَهُ وَاسْتَقَامَ عَلَى هديه، وسمي المنكث عن مِلَّتِهِ بِسَائِرِ أَسْمَاءِ الْمِلَلِ، فَقِيلَ: يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ النِّحَلِ.
وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْبُدُ وَثَنًا، وَلَا شَمْسًا، وَلَا قَمَرًا، وَلَا كَوْكَبًا، وَلَا شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِلَّتَهُ مُخَالِفَةٌ لِمِلَّةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلِذَلِكَ أَضْرَبَ ببل عَنْهُمَا، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا. وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِمَّنْ تَدِينُ بِأَشْيَاءَ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ كَانَتْ تُشْرِكُ، فَنَفَى اللَّهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الكتاب وغيرهم، لأن
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٦١.
647
كُلًّا مِنْهُمْ يَدَّعِي اتِّبَاعَ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ عَلَى الشِّرْكِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِشْرَاكُ الْيَهُودِ بِقَوْلِهِمْ:
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَإِشْرَاكُ النَّصَارَى بِقَوْلِهِمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَإِشْرَاكُ غَيْرِهِمَا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهَا.
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الْآيَةَ،
خَرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يقرأون التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الْآيَةَ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ».
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: قُولُوا، عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى. أَمَرُوا بِأَنْ يَكُونُوا عَلَى الْحَقِّ، وَيُصَرِّحُوا بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَظْهَرُ. وَارْتَبَطَتْ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ، جَوَابًا إِلْزَامِيًّا، وَهُوَ أَنَّهُمْ: وَمَا أُمِرُوا بِاتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ. هَذَا، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا تُكَفِّرُ الْأُخْرَى، أُجِيبُوا بِأَنَّ الْأَوْلَى فِي التَّقْلِيدِ اتِّبَاعَ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُمْ، أَعْنِي الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ، قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْأَخْذُ بِالْمُتَّفَقِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، إِنْ كَانَ الدِّينُ بِالتَّقْلِيدِ. فَلَمَّا ذَكَرَ هُنَا جَوَابًا إِلْزَامِيًّا، ذَكَرَ بَعْدَهُ بُرْهَانًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهِمْ بِإِنْزَالِ الْآيَاتِ.
وَقَدْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم، فَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّتِهِ. فَإِنَّ تَخْصِيصَ بَعْضٍ بِالْقَبُولِ وَبَعْضٍ بِالرَّدِّ، يُوجِبُ التَّنَاقُضُ فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا: إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قُولُوا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَالْمُنَزَّلُ إِلَيْهِمْ هُوَ الْقُرْآنُ، وَصَحَّ نِسْبَةُ إِنْزَالِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ فِيهِ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِتَكَالِيفِهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَعْدِيَةُ أُنْزِلَ بِإِلَى، دَلِيلٌ عَلَى انْتِهَاءِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قُولُوا عَائِدًا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَالْمُنَزَّلُ إِلَى الْيَهُودِ: التَّوْرَاةُ، وَالْمُنَزَّلُ إِلَى النَّصَارَى: الْإِنْجِيلُ، وَيَلْزَمُ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِمَا، الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْمُنَزَّلِ إِلَيْهِمُ: الْقُرْآنُ، لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِاتِّبَاعِهِ، وَبِالْإِيمَانِ بِهِ، وَبِمَنْ جَاءَ عَلَى يَدَيْهِ.
وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ: الَّذِي أُنْزِلَ على إبراهيم عشر صحائف. قَالَ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى «١»، وَكَرَّرَ الْمَوْصُولُ، لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ إِلَيْنَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ، غَيْرُ تِلْكَ الصَّحَائِفَ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. فَلَوْ حذف الموصول، لأوهم
(١) سورة الأعلى: ٨٧/ ١٨- ١٩.
648
أَنَّ الْمُنَزَّلَ إِلَيْنَا هُوَ الْمُنَزَّلُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، قَالُوا: وَلَمْ يُنَزَّلْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ، وَعُطِفُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُمْ كُلِّفُوا الْعَمَلَ بِهِ وَالدُّعَاءَ إِلَيْهِ، فَأُضِيفَ الْإِنْزَالُ إِلَيْهِمْ، كَمَا أُضِيفَ فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا. وَالْأَسْبَاطُ هُمْ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ سِبْطًا. قَالَ الشَّرِيفُ أبو البركات الجواني النسابة: وَوَلَدُ يَعْقُوبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوسُفُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، صَاحِبُ مِصْرَ وَعَزِيزُهَا، وَهُوَ السِّبْطُ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْبَاطِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَالْأَسْبَاطُ سِوَى يُوسُفَ: كَاذُ، وَبِنْيَامِينُ، وَيَهُوذَا، وَيَفْتَالِي، وَزُبُولُونُ، وَشَمْعُونُ، وَرُوبِينُ، وَيَسَاخَا، وَلَاوِي، وَذَانُ، وَيَاشِيرْخَا مِنْ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، وَسُلَيْمَانُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَ مِنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيِّ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، أُمُّ الْمَسِيحِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَجَاءَ مِنْ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ: مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ وَهَارُونُ أَخُوهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَسْبَاطُ هُمْ وَلَدُ يَعْقُوبَ. وَهُمْ: رُوبِيلُ، وَشَمْعُونُ، وَلَاوِي، وَيَهُوذَا، وَرَفَالُونُ، وَبِشْجَرُ، وَذَيْنَةُ بِنْتُهُ، وَأُمُّهُمْ لَيَاثِمُ. خَلَفٌ عَلَى أُخْتِهَا رَاحِيلَ، فَوَلَدَتْ لَهُ:
يُوسُفَ، وَبِنْيَامِينَ. وَوُلِدَ لَهُ مِنْ سُرِّيَّتَيْنِ: دَانِي، وَنَفْتَالِي، وَجَادُ، وَآشِرُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْجَوَانِيِّ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ. وَقِيلَ: رُوبِيلُ أَكْبَرُ وَلَدِهِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَيْسَانِيُّ: رُوبِيلُ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ، يَعْنِي بِاللَّامِ، قَالَ: وَقَبْرُهُ فِي قَرَافَةِ مِصْرَ، فِي لَحْفِ الْجَبَلِ، فِي تُرْبَةِ الْيَسَعَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى: أَيْ: وَآمَنَّا بِالَّذِي أُوتِيَ مُوسَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْآيَاتِ، وَعِيسَى مِنَ الْإِنْجِيلِ وَالْآيَاتِ. وَمُوسَى هُنَا: هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، كَلِيمُ اللَّهِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَيْسَانِيُّ: وَفِي وَلَدِ مِيشَا بْنِ يُوسُفَ، يَعْنِي الصِّدِّيقَ: مُوسَى بْنَ مَيْشًا بْنِ يُوسُفَ. وَزَعَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ نَبَّأَهُ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ الْخَضِرِ. وَذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ يَعْقُوبُ، فَشَا فِي الْأَسْبَاطِ الْكِهَانَةُ، فَبَعَثَ اللَّهُ مُوسَى بْنَ مِيشَا يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَهُوَ قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَنَصَّ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى، لِأَنَّهُمَا مَتْبُوعَا الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِزَعْمِهِمْ، وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ، وَلَمْ يُكَرَّرِ الْمَوْصُولُ فِي عِيسَى، لِأَنَّ عِيسَى إِنَّمَا جَاءَ مُصَدِّقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، لَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا إِلَّا نَزْرًا يَسِيرًا. فَالَّذِي أُوتِيَهُ عِيسَى هُوَ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَالَفَ فِي نَزْرٍ يَسِيرٍ. وَجَاءَ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَجَاءَ: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، تَنْوِيعًا فِي الْكَلَامِ وَتَصَرُّفًا فِي أَلْفَاظِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، إذ لَوْ كَانَ كُلُّهُ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ، أَوْ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ، لَمَا كَانَ فِيهِ حَلَاوَةُ التَّنَوُّعِ فِي الْأَلْفَاظِ. أَلَا تَرَاهُمْ لَمْ يَسْتَحْسِنُوا قَوْلَ أَبِي الطَّيِّبِ:
649
وَنَهْبُ نُفُوسِ أَهْلِ النَّهْبِ أَوْلَى بِأَهْلِ النَّهْبِ مِنْ نَهْبِ الْقُمَاشِ
وَلَمَّا ذَكَرَ فِي الْإِنْزَالِ أَوَّلًا خَاصًّا، عَطَفَ عَلَيْهِ جَمْعًا. كَذَلِكَ لَمَّا ذَكَرَ فِي الْإِيتَاءِ خَاصًّا، عَطَفَ عَلَيْهِ جَمْعًا. وَلَمَّا أَظْهَرَ الْمَوْصُولَ فِي الْإِنْزَالِ فِي الْعَطْفِ، أَظْهَرَهُ فِي الْإِيتَاءِ فَقَالَ: وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَما أُوتِيَ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ فِي الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ.
وَفِي حَدِيثٍ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ؟ قَالَ: «مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، أَنْزَلَ عَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ عَلَى أَخْنُوخَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرَ صَحَائِفَ، ثُمَّ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَالزَّبُورَ، وَالْفُرْقَانَ.
وَأَمَّا عَدَدُ الْأَنْبِيَاءِ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بن منبه: أَنَّهُمْ مِائَةُ أَلْفِ نَبِيٍّ، وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ، كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَّا عِشْرِينَ أَلْفَ نَبِيٍّ. وَعَدَدُ الرُّسُلِ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عشر، كُلُّهُمْ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ، إِلَّا عِشْرِينَ رَسُولًا، ذَكَرَ مِنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، نَصَّ عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَهُمْ: آدَمُ، وَإِدْرِيسُ، وَنُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَلُوطٌ، وَشُعَيْبٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَيُوسُفُ، وَمُوسَى، وَهَارُونُ، وَالْيَسَعُ، وَإِلْيَاسُ، وَيُونُسُ، وَأَيُّوبُ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَزَكَرِيَّا، وَعُزَيْرٌ، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَّا عَشَرَةً:
نُوحًا، وَهُودًا، وَشُعَيْبًا، وَصَالِحًا، وَلُوطًا، وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، وَإِسْمَاعِيلَ، ومحمدا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. وَابْتُدِئَ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أصل الشرائع، وقدم ما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي الْإِنْزَالِ عَنْ مَا بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ النَّاسَ، بَعْدَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَدْعُوُّونَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ جملة وتفصيلا. وقدم ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ عَلَى ما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، لِلتَّقَدُّمِ فِي الزَّمَانِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَى مُوسَى، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، هُوَ الْمُنَزَّلُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، إِذْ هُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ شَرِيعَتِهِ. وَما أُوتِيَ مُوسى: ظَاهِرُهُ الْعَطْفُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَجْرُورَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِيمَانِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَمَا أُوتِيَ الثَّانِيَةُ عَطْفٌ عَلَى مَا أُوتِيَ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، أَوْ لَا نُفَرِّقُ، أَوْ يَكُونُ: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى مَعْطُوفًا عَلَى الْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ رُفِعَ عَلَى الابتداء، ومِنْ رَبِّهِمْ الْخَبَرُ، أَوْ لَا نُفَرِّقُ هُوَ الْخَبَرُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ رَبِّهِمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَمِنْ لابتداء الغاية، فتتعلق بما أوتي الثانية، أو بما أُوتِيَ الْأُولَى،
650
وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ تَوْكِيدًا. أَلَا تَرَى إِلَى سُقُوطِهَا فِي آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ «١» ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ حال مِنَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ وَمَا أُوتِيَهُ النَّبِيُّونَ كَائِنًا مِنْ رَبِّهِمْ.
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ: ظَاهِرُهُ الِاسْتِئْنَافُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّا نُؤْمِنُ بِالْجَمِيعِ، فَلَا نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَإِنَّ الْيَهُودَ آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَعِيسَى، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى الْجَمِيعِ. وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ، وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا نَقُولُ إِنَّهُمْ يَتَفَرَّقُونَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا نَشُقُّ عَصَاهُمْ، كَمَا يُقَالُ شَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، إِذَا فَارَقَ جَمَاعَتَهُمْ. وَأَحَدٌ هُنَا، قِيلَ: هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّفْيِ، فَأُصُولُهُ: الْهَمْزَةُ وَالْحَاءُ وَالدَّالُ، وَهُوَ لِلْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْتَقِرْ بَيْنَ إِلَى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ اسْمٌ عَامٌّ تَحْتَهُ أَفْرَادٌ، فَيَصِحُّ دُخُولُ بَيْنَ عَلَيْهِ، كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْمَجْمُوعِ فَتَقُولُ: الْمَالُ بَيْنَ الزَّيْدَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ. وَقِيلَ: أَحَدٌ هُنَا بِمَعْنَى: وَاحِدٍ، وَالْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، إِذْ أَصْلُهُ: وَحَدٌ، وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ لِفَهْمِ السَّامِعِ، وَالتَّقْدِيرُ: بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ، فَاخْتَصَرَ، أَوْ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَالْآخَرِ، وَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا أبو حجر إلا لَيَالٍ قَلَائِلَ
يُرِيدُ: بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنِي، فَحَذَفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذْ قَدْ عَلِمَ أَنَّ بَيْنَ لَا بُدَّ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، كَمَا حُذِفَ الْمَعْطُوفُ فِي قَوْلِهِ: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «٢». وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وَقَى الْحَرَّ وَقَى الْبَرْدَ، فَحَذْفُ وَالْبَرْدَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى. وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ.
وَذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ غَيْرُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ.
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ: هَذَا كُلُّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: قُولُوا. وَلَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا الْإِيمَانَ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَلْبِ، خَتَمَ بِذِكْرِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ النَّاشِئُ عَنِ الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ عَنِ الْجَوَارِحِ. فَجَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، لِيَجْتَمِعَ الْأَصْلُ وَالنَّاشِئُ عَنِ الْأَصْلِ. وَقَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ حِينَ سُئِلَ عَنْهُمَا، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: مُسْلِمُونَ بِأَقْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ فِي الْمَعْنَى، فَقِيلَ:
خَاضِعُونَ، وَقِيلَ: مُطِيعُونَ، وَقِيلَ: مُذْعِنُونَ لِلْعُبُودِيَّةِ، وَقِيلَ: مُذْعِنُونَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ عقلا
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٨٤.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٨١.
651
وَفِعْلًا، وَقِيلَ: دَاخِلُونَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: مُنْقَادُونَ، وَقِيلَ: مُخْلِصُونَ. وَلَهُ مُتَعَلِّقٌ بمسلمون، وَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْعَامِلُ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ، أَوْ تَقَدَّمَ لَهُ لِلِاعْتِنَاءِ بِالْعَائِدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الْآيَةَ، قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
وَقَالَ: «اللَّهُ أَمَرَنِي بِهَذَا».
فَلَمَّا سَمِعُوا بِذِكْرِ عِيسَى أَنْكَرُوا وَكَفَرُوا. وَقَالَتِ النَّصَارَى: إِنَّ عِيسَى لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: فَإِنْ آمَنُوا الْآيَةَ. وَالضَّمِيرُ فِي آمَنُوا عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ خَاصًّا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى كُلِّ كَافِرٍ، فَيُفَسِّرُهُ الْمَعْنَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود وَابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لِلَّهِ مِثْلٌ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إِقْرَارِ الْبَاءِ عَلَى حَالِهَا فِي آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَإِطْلَاقُ مَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ وَما بَناها «١»، يُرِيدُ وَمَنْ بَنَاهَا عَلَى قَوْلِهِ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ ظَاهِرَةٌ، وَيَشْمَلُ جَمِيعَ مَا آمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، فَخَرَجَتِ الْبَاءُ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَالتَّقْدِيرُ:
إِيمَانًا مِثْلَ إِيمَانِكُمْ، كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «٢».
وَسُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «٣»، وَتَكُونُ مَا مَصْدَرِيَّةً. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، وَهِيَ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا عَلَى مِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ، وَكَوْنُ الْبَاءِ بِمَعْنَى عَلَى، قَدْ قِيلَ بِهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ مَالِكٍ، قَالَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ «٤»، أَيْ عَلَى قِنْطَارٍ. وَقِيلَ: هِيَ لِلِاسْتِعَانَةِ، كَقَوْلِكَ: عَمِلْتُ بِالْقَدُومِ، وَكَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، أَيْ فَإِنْ دَخَلُوا فِي الْإِيمَانِ بِشَهَادَةٍ مِثْلِ شَهَادَتِكُمْ، وَذَلِكَ فِرَارٌ مِنْ زِيَادَةِ الْبَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَمَاكِنِ زِيَادَةِ الْبَاءِ قِيَاسًا. وَالْمُؤْمِنُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: فَإِنْ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدًا عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى مَا، وَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَوْصُولَةً. وَأَمَّا مِثْلُ، فَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ، قَالُوا: كَهِيَ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «٥»، أَيْ لَيْسَ كَهَوَ شَيْءٌ، وَكَقَوْلِهِ:
(١) سورة الشمس: ٩١/ ٥.
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٢٥.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٩٥.
(٤) سورة آل عمران: ٣/ ٧٥.
(٥) سورة الشورى: ٤٢/ ١١.
652
فصيروا مثل كعصف مأكول وَكَقَوْلِهِ:
يَا عَاذِلِي دَعْنِي مِنْ عَذْلِكَا مِثْلِي لَا يَقْبَلُ مِنْ مِثْلِكَا
وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ. وَالْمِثْلِيَّةُ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالِاعْتِقَادِ، أَيْ فَإِنِ اعْتَقَدُوا مِثْلَ اعْتِقَادِكُمْ، أَوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْكِتَابِ، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا بِكِتَابٍ مِثْلِ الْكِتَابِ الَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ. وَالْمَعْنَى: فَإِنْ آمَنُوا بِكِتَابِكُمُ الْمُمَاثِلِ لِكِتَابِهِمْ، أَيْ فَإِنْ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لَا تَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً، بَلْ هِيَ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِ: آمَنْتُ بِالْكِتَابِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا مِنْ مَجَازِ الْكَلَامِ، يَقُولُ: هَذَا أَمْرٌ لَا يَفْعَلُهُ مِثْلُكَ، أَيْ لَا تَفْعَلُهُ أَنْتَ. وَالْمَعْنَى:
فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ، وهذا يؤول إِلَى إِلْغَاءِ مِثْلَ، وَزِيَادَتِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ مِنْ بَابِ التَّبْكِيتِ، لِأَنَّ دِينَ الْحَقِّ وَاحِدٌ، لَا مِثْلَ لَهُ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «١»، فَلَا يُوجَدُ إِذًا دِينٌ آخَرُ يُمَاثِلُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي كَوْنِهِ حَقًّا، حَتَّى إِنْ آمَنُوا بِذَلِكَ الدِّينِ الْمُمَاثِلِ لَهُ، كَانُوا مُهْتَدِينَ، فَقِيلَ: فَإِنْ آمَنُوا بِكَلِمَةِ الشَّكِّ، عَلَى سَبِيلِ الْعَرْضِ، وَالتَّقْدِيرِ: أَيْ فَإِنْ حَصَّلُوا دَيْنًا آخَرَ مِثْلَ دِينِكُمْ، مُسَاوِيًا لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ.
فَقَدِ اهْتَدَوْا: وَفِيهِ أَنَّ دِينَهُمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَكُلَّ دِينٍ سِوَاهُ مُغَايِرٌ لَهُ غَيْرُ مُمَاثِلٍ، لِأَنَّهُ حَقٌّ وَهُدًى، وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تُشِيرُ عَلَيْهِ: هَذَا هُوَ الرَّأْيُ الصَّوَابُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ رَأْيٌ أَصْوَبُ مِنْهُ، فَاعْمَلْ بِهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنْ لَا أَصْوَبَ مِنْ رَأْيِكَ، وَلَكِنَّكَ تُرِيدُ تَبْكِيتَ صَاحِبِكَ وَتَوْقِيفَهُ عَلَى أَنَّ مَا رَأَيْتَ لَا رَأْيَ وَرَاءَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَلَيْسَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا، كَهُوَ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ «٢» لِمَعْنَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ قَطْعًا، وَاسْتِقْبَالِ الْهِدَايَةِ هُنَا، لِأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ، وَلَمْ تَكُنْ وَاقِعَةً قَبْلُ.
وَإِنْ تَوَلَّوْا: أَيْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ. فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ:
أَكَّدَ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ شَرْطًا بِإِنْ، وَتَأَكَّدَ مَعْنَى الْخَبَرِ بِحَيْثُ صَارَ ظَرْفًا لَهُمْ، وَهُمْ مَظْرُوفُونَ لَهُ. فَالشِّقَاقُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِمْ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِمْ، وَمُحِيطٌ بِهِمْ إِحَاطَةَ الْبَيْتِ بمن فيه. وهذه
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٨٥.
(٢) سورة فاطر: ٣٥/ ٤.
653
مُبَالَغَةٌ فِي الشِّقَاقِ الْحَاصِلِ لَهُمْ بِالتَّوَلِّي، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ»
، إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ «٢»، هُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: زِيدٌ مُشَاقٌّ لِعَمْرٍو، وَزَيْدٌ ضَالٌّ، وَبَكْرٌ سَفِيهٌ. وَالشِّقَاقُ هُنَا: الْخِلَافُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْعَدَاوَةُ، أَوِ الْفِرَاقُ، أَوِ الْمُنَازَعَةُ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، أَوِ الْمُجَادَلَةُ، أَوِ الضَّلَالُ وَالِاخْتِلَافُ، أَوْ خَلْعُ الطَّاعَةِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ أَوِ الْبِعَادُ وَالْفِرَاقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذِهِ تَفَاسِيرُ لِلشِّقَاقِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَدَارَ ذَلِكَ فِي الْمُفْرَدَاتِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ فِي شِقٍّ وَصَاحِبُهُ فِي شِقٍّ، أَيْ يَقَعُ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَكَادُ يُقَالُ فِي الْعَدَاوَةِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ شِقَاقٌ، لِأَنَّ الشِّقَاقَ فِي مُخَالَفَةٍ عَظِيمَةٍ تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ، وَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ. انْتَهَى.
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الشِّقَاقُ، وَهُوَ الْعَدَاوَةُ الْعَظِيمَةُ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ لَا يَصِلُونَ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ كَفَاهُ شَرَّهُمْ. وَهَذَا الْإِخْبَارُ ضَمَانٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، كِفَايَتَهُ وَمَنْعَهُ مِنْهُمْ، وَيَضْمَنُ ذَلِكَ إِظْهَارَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَغَلَبَتَهُ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُشَاقًّا لَكَ غَايَةَ الشِّقَاقِ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِي أَذَاكَ، إِذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِظُهُورِكَ عَلَيْهِ وَقُوَّةِ مَنَعَتِكَ مِنْهُ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «٣». وَكَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ فِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ، وَالنَّفْيِ فِي بَنِي النَّضِيرِ، وَالْجِزْيَةِ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ. وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ بِالْفَاءِ مُشْعِرٌ بِتَعَقُّبِ الْكِفَايَةِ عَقِيبَ شِقَاقِهِمْ، وَالْمَجِيءُ بِالسِّينِ يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الِاسْتِقْبَالِ، إِذِ السِّينُ فِي وَضْعِهَا أَقْرَبُ فِي التَّنْفِيسِ مِنْ سَوْفَ، وَالذَّوَاتُ لَيْسَتِ الْمَكْفِيَّةَ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ فَسَيَكْفِيكَ شِقَاقَهُمْ، وَالْمَكْفِيُّ بِهِ مَحْذُوفٌ، أَيْ بِمَنْ يَهْدِيهِ اللَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ بِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُشَاقِّينَ، أَوْ بِإِهْلَاكِ أَعْيَانِهِمْ وَإِذْلَالِ بَاقِيهِمْ بِالسَّبْيِ وَالنَّفْيِ وَالْجِزْيَةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، مُنَاسَبَةُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِيمَانِ وَضِدِّهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَعَلَى عَقَائِدَ يَنْشَأُ عَنْهَا تِلْكَ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ، فَنَاسَبَ أَنْ يَخْتَتِمَ ذَلِكَ بِهِمَا، أَيْ وَهُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ، الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَقْوَالُ هِيَ الظَّاهِرَةُ لَنَا الدَّالَّةُ عَلَى مَا فِي الْبَاطِنِ، قُدِّمَتْ صِفَةُ السَّمِيعِ عَلَى الْعَلِيمِ، وَلِأَنَّ الْعَلِيمَ فَاصِلَةٌ أَيْضًا.
وَتَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ الْوَعِيدَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَيُجَازِيكُمْ بِمَا يَصْدُرُ مِنْكُمْ.
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٦٠.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٦٦.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٦٧. [.....]
654
صِبْغَةَ اللَّهِ: أَيْ دِينَ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسُمِّيَ صِبْغَةً لِظُهُورِ أَثَرِ الدِّينِ عَلَى صَاحِبِهِ، كَظُهُورِ أَثَرِ الصَّبْغِ عَلَى الثَّوْبِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ، كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ، أَوْ فِطْرَةَ اللَّهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ أَوْ خِلْقَةَ اللَّهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدٍ أَوْ سُنَّةَ اللَّهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَوِ الْإِسْلَامَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا أَوْ جِهَةَ اللَّهِ يَعْنِي الْقِبْلَةَ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ أَوِ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، قَالَهُ الْأَصَمُّ: أَوِ الْخِتَانَ، لِأَنَّهُ يَصْبُغُ صَاحِبَهُ بِالدَّمِ. وَالنَّصَارَى إِذَا وُلِدَ لَهُمْ مَوْلُودٌ غَمَسُوهُ فِي السَّابِعِ فِي مَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْمَعْمُودِيَّةُ، فَيَتَطَهَّرُ عِنْدَهُمْ وَيَصِيرُ نَصْرَانِيًّا. اسْتَغْنَوْا بِهِ عَنِ الْخِتَانِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ، أَوِ الِاغْتِسَالَ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ عِوَضًا عَنْ مَاءِ الْمَعْمُودِيَّةِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَوِ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ أَوِ التَّلْقِينِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَصْبُغُ فُلَانًا فِي الشَّيْءِ، أَيْ يُدْخِلُهُ فِيهِ وَيُلْزِمُهُ إِيَّاهُ، كَمَا يَجْعَلُ الصَّبْغَ لَازِمًا لِلثَّوْبِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْأَقْرَبُ مِنْهَا هُوَ الدِّينُ وَالْمِلَّةُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا الْآيَةَ. وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلَ الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ، فَكَنَّى بِالصِّبْغَةِ عَنْهُ، وَمَجَازُهُ ظُهُورُ الْأَثَرِ، أَوْ مُلَازَمَتُهُ لِمَنْ يَنْتَحِلُهُ. فَهُوَ كَالصَّبْغِ فِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، كَمَا قَالَ. وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، حين تخالط بشاشة الْقُلُوبَ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي دِيَانَةَ الشَّخْصِ لِشَيْءٍ، وَاتِّصَافَهَ بِهِ صِبْغَةً. قَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ مُلُوكِهِمْ:
وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغْ
صَبَغْنَا عَلَى ذَاكَ أَبْنَاءَنَا فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا فِي الصِّبَغِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَصْلَ فِي تَسْمِيَةِ الدِّينِ صِبْغَةً: أَنَّ عِيسَى حِينَ قَصَدَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فَقَالَ: جِئْتُ لِأَصْبُغَ مِنْكَ، وَأَغْتَسِلَ فِي نَهْرِ الْأُرْدُنِّ. فَلَمَّا خَرَجَ، نَزَلَ عَلَيْهِ رُوحُ الْقُدُسِ، فَصَارَتِ النَّصَارَى يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَوْلَادِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ، تَشْبِيهًا بِعِيسَى، وَيَقُولُونَ: الْآنَ صَارَ نَصْرَانِيًّا حَقًّا. وَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْإِنْجِيلِ ذُكِرَ عِيسَى بِأَنَّهُ الصَّابِغُ.
وَيُسَمُّونَ الْمَاءَ الَّذِي يَغْمِسُونَ فِيهِ أَوْلَادَهُمُ: الْمَعْمُودِيَّةَ، بِالدَّالِ، وَيُقَالُ: الْمَعْمُورِيَّةُ بِالرَّاءِ.
قَالَ: وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الْفِعْلَ التَّغْمِيسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِ الصَّبْغَ، فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: صِبْغَةَ اللَّهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الصِّبْغَةُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَوْجَدَهُ فِي النَّاسِ مِنْ بَدَائِهِ الْعُقُولِ الَّتِي مَيَّزَنَا بِهَا عَنِ الْبَهَائِمِ، وَرَشَّحَنَا بِهَا لِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ طَلَبِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْفِطْرَةِ. وَسُمِّيَ ذَلِكَ بِالصِّبْغَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قُوَى الْإِنْسَانِ، إِذَا اعْتُبِرَتْ، جَرَتْ مَجْرَى الصِّبْغَةِ فِي الْمَصْبُوغِ، وَلَمَّا كَانَتِ النَّصَارَى، إِذَا لَقَّنُوا أَوْلَادَهُمُ النَّصْرَانِيَّةَ يَقُولُونَ: نَصَّرْنَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ صِبْغَةُ اللَّهِ.
655
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صِبْغَةَ اللَّهِ بِالنَّصْبِ، وَمَنْ قَرَأَ بِرَفْعِ مِلَّةٍ، قَرَأَ بِرَفْعِ صِبْغَةٍ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تِلْكَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ وَابْنِ أَبِي عَبْلَةَ. فَأَمَّا النَّصْبُ، فَوَجْهٌ عَلَى أَوْجُهٍ، أَظْهَرُهَا أَنَّهُ مَنْصُوبٌ انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ عَنْ قَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ. وَقِيلَ: عَنْ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَقِيلَ: عَنْ قَوْلِهِ: فَقَدِ اهْتَدَوْا وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ الْزَمُوا صِبْغَةَ اللَّهِ. وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ، أَمَّا الْإِغْرَاءُ فَتُنَافِرُهُ آخِرُ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ، إِلَّا إِنْ قُدِّرَ هُنَاكَ قَوْلٌ، وَهُوَ إِضْمَارٌ، لَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْبَدَلُ، فَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ طَالَ بَيْنَ الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالْبَدَلِ بِجُمَلٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا انْتِصَابَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ عَنْ قَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، كَانَ الْمَعْنَى: صَبَغَنَا اللَّهُ بِالْإِيمَانِ صِبْغَةً، وَلَمْ يَصْبُغْ صِبْغَتَكُمْ. وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَالْمَعْنَى: صَبَغَنَا اللَّهُ بِالْإِيمَانِ صِبْغَةً لَا مِثْلَ صِبْغَتِنَا، وَطَهَّرَنَا بِهِ تَطْهِيرًا لَا مِثْلَ تَطْهِيرِنَا. وَنَظِيرُ نَصْبِ هَذَا الْمَصْدَرِ نَصْبُ قَوْلِهِ:
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ «١»، إِذْ قَبْلَهُ: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «٢»، مَعْنَاهُ: صُنْعَ اللَّهِ ذَلِكَ صُنْعَهُ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِلَفْظِ الصِّبْغَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ يَغْرِسُ الْأَشْجَارَ: اغْرِسْ كَمَا يَغْرِسُ فُلَانٌ، يُرِيدُ رَجُلًا يَصْطَنِعُ الْكَرْمَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الرَّفْعِ، فَذَلِكَ خبر مبتدأ محذوف، أي ذَلِكَ الْإِيمَانُ صِبْغَةُ اللَّهِ.
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً: هَذَا اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ: النَّفْيُ، أَيْ وَلَا أَحَدَ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً. وَأَحْسَنُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهَا حَقِيقَةُ التَّفْضِيلِ، إِذْ صِبْغَةُ غَيْرِ اللَّهِ مُنْتَفٍ عَنْهَا الْحُسْنُ، أَوْ يُرَادُ التَّفْضِيلُ، بِاعْتِبَارِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ فِي صِبْغَةِ غَيْرِ اللَّهِ حُسْنًا، لَا أَنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ. وَانْتِصَابُ صِبْغَةً هُنَا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنَ التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ غريب، أعني نَصُّ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ مِنَ التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ تَمْيِيزًا نُقِلَ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ صِبْغَتُهُ أَحْسَنُ مِنْ صِبْغَةِ اللَّهِ. فَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا يَجْرِي بَيْنَ الصِّبْغَتَيْنِ، لَا بَيْنَ الصَّابِغِينَ.
وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ: مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ، وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا الْعَطْفُ يَرُدُّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْ مِلَّةٍ، أَوْ نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ، بِمَعْنَى: عَلَيْكُمْ صِبْغَةَ اللَّهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ فَكِّ النَّظْمِ وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عن التئامه
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٨٨.
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ٨٨.
656
وَاتِّسَاقِهِ. وَانْتِصَابُهَا يَعْنِي: صِبْغَةَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وَالْقَوْلُ مَا قَالَتْ حَذَامُ. انْتَهَى. وَتَقْدِيرُهُ: فِي الْإِغْرَاءِ عَلَيْكُمْ صِبْغَةَ اللَّهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ الْإِغْرَاءَ، إِذَا كَانَ بِالظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ، لَا يَجُوزُ حَذْفُ ذَلِكَ الظَّرْفِ وَلَا الْمَجْرُورِ، وَلِذَلِكَ حِينَ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْإِغْرَاءِ قَدَّرْنَاهُ بِالْزَمُوا صِبْغَةَ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ «١»، وَأَمَّا هُنَا فَقِيلَ: عَابِدُونَ مُوَحِّدُونَ، وَمِنْهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «٢»، أَيْ لِيُوَحِّدُونِ. وَقِيلَ: مُطِيعُونَ مُتَّبِعُونَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَصِبْغَةَ اللَّهِ. وَقِيلَ:
خَاضِعُونَ مُسْتَكِينُونَ فِي اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، غَيْرُ مُسْتَكْبِرِينَ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ: سَبَبُ النُّزُولِ، قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا: يا مُحَمَّدُ! إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا مِنَّا، وَعَلَى دِينِنَا، وَلَمْ تَكُنْ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَوْ كُنْتَ نَبِيًّا، لَكُنْتَ مِنَّا وَعَلَى دِينِنَا. وَقِيلَ: حَاجُّوا الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَصْحَابُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَقَبْلَتُنَا أَقْدَمُ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، فَأُنْزِلَتْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَتُحَاجُونَنَا بِنُونَيْنِ، إِحْدَاهُمَا نُونُ الرَّفْعِ، وَالْأُخْرَى الضَّمِيرُ؟ وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي النُّونِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ حَذْفَ النُّونِ. أَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ زَيْدٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَوَجْهُهَا أَنَّهُ لَمَّا الْتَقَى مِثْلَانِ، وَكَانَ قَبْلَ الْأَوَّلِ حَرْفُ مَدٍّ وَلِينٍ، جَازَ الْإِدْغَامُ كَقَوْلِكَ: هَذِهِ دَارُ رَاشِدٍ، لِأَنَّ الْمَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْحَرَكَةِ فِي نَحْوِ: جَعَلَ لَكَ. وَأَمَّا جَوَازُ حَذْفِ النون الأولى، فوجهه مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، بِكَسْرِ النُّونِ، وَأَنْشَدُوا:
تَرَاهُ كَالثُّغَامِ يَعُلُّ مِسْكًا يسوء الفاليات إذا قليني
يريد: قلينني. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلرَّسُولِ، أَوْ لِلسَّامِعِ، وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ مَصْحُوبًا بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَالْوَاوُ ضَمِيرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ، إِذْ قَالُوا:
لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. وَقِيلَ: ضَمِيرُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ. وَالْمُحَاجَّةُ هُنَا: الْمُجَادَلَةُ. وَالْمَعْنَى: أَتُجَادِلُونَنَا فِي شَأْنِ اللَّهِ وَاصْطِفَائِهِ النَّبِيَّ مِنَ الْعَرَبِ دُونَكُمْ، وَتَقُولُونَ لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ لَأَنْزَلَ عَلَيْنَا، وَتَرَوْنَكُمْ أَحَقَّ بِالنَّبُوَّةِ مِنَّا؟
وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، يَعْنِي أَنَّهُ مَالِكُهُمْ كُلِّهِمْ، فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعُبُودِيَّةِ، فَلَهُ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْكَرَامَةِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَعَ اعْتِرَافِنَا كُلِّنَا أَنَّا مَرْبُوبُونَ لرب
(١) سورة الفاتحة: ١/ ٥.
(٢) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٦.
657
وَاحِدٍ، فَلَا يُنَاسِبُ الْجِدَالُ فِيمَا شَاءَ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَمَا خَصَّ بِهِ بَعْضَ مَرْبُوبَاتِهِ مِنَ الشَّرَفِ وَالزُّلْفَى، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي كُلِّهِمْ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَتُجَادِلُونَنَا فِي دِينِ اللَّهِ، وَتَقُولُونَ إِنَّ دِينَكُمْ أَفْضَلُ الْأَدْيَانِ، وَكِتَابَكُمْ أَفْضَلُ الْكُتُبِ؟ وَالظَّاهِرُ إِنْكَارُ الْمُجَادَلَةِ فِي اللَّهِ، حَيْثُ زَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ، وَحَيْثُ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَحَيْثُ زَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّ اللَّهَ لَهُ وَلَدٌ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ شَيْخٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، إِلَى مَا يَدَّعُونَهُ فِيهِ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كَيْفَ يَدْعُونَ ذَلِكَ، وَالرَّبُّ وَاحِدٌ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِقَادُ فِيهِ وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْ تَثْبُتَ صِفَاتُهُ الْعُلَا، وَيُنَزَّهُ عَنِ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ.
وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، الْمَعْنَى: وَلَنَا جَزَاءُ أَعْمَالِنَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شرا فَشَرٌّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمُجَازِي عَلَى الْأَعْمَالِ، فَلَا تَنْبَغِي الْمُجَادَلَةُ فِيهِ وَلَا الْمُنَازَعَةُ. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ: وَلَمَّا بَيَّنَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْجَزَاءِ، ذَكَرَ مَا يُمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ، وَعَدَمِ الْإِشْرَاكِ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّصَارَى وَفِي الْيَهُودِ، لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ، فَقَدْ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّا لَمْ نَشُبْ عَقَائِدَنَا وَأَفْعَالَنَا بِشَيْءٍ مِنَ الشِّرْكِ، كَمَا ادَّعَتِ الْيَهُودُ فِي الْعِجْلِ، وَالنَّصَارَى فِي عِيسَى. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ بِالذَّمِّ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُخْتَصِّ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُشْتَرِكِ نَفْيٌ لِذَلِكَ الْمُخْتَصِّ عَمَّنْ شَارَكَ فِي الْمُشْتَرَكِ، وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِطْرَادًا، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ مَعْنًى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَدْحًا لِفَاعِلِهِ وَذَمًّا لِتَارِكِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ
وَهِيَ مُنَبِّهَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ، كَانَ حَقِيقًا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَهْلُ الْكَرَامَةِ، وَقَدْ كَثُرَتْ أَقْوَالُ أَرْبَابِ الْمَعَانِي فِي الْإِخْلَاصِ.
فَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَأَلْتُ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِخْلَاصِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ عَنِ الْإِخْلَاصِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي».
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِخْلَاصُ: أَنْ لَا يُشْرِكَ فِي دِينِهِ، وَلَا يُرَائِي فِي عَمَلِهِ أَحَدًا. وَقَالَ الْفُضَيْلُ: تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا. وَقَالَ ابن معاذ:
تمييزا لعمل مِنَ الذُّنُوبِ، كَتَمْيِيزِ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. وَقَالَ الْبُوشَنْجِيُّ: هُوَ مَعْنًى لَا يَكْتُبُهُ الْمَلَكَانِ، وَلَا يُفْسِدُهُ الشَّيْطَانُ، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، أَيْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ.
658
وَقَالَ رُوَيْمٌ: هُوَ ارْتِفَاعُ عَمَلِكَ عَنِ الرُّؤْيَةِ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ الْمُرْعَشِيُّ: أَنْ تَسْتَوِيَ أَفْعَالُ الْعَبْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْمَكْفُوفُ: أَنْ يَكْتُمَ الْعَبْدُ حَسَنَاتِهِ، كَمَا يَكْتُمُ سَيِّئَاتِهِ.
وَقَالَ سَهْلٌ: هُوَ الْإِفْلَاسُ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى احْتِقَارِ الْعَمَلِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ:
لِلْمُرَائِي ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ: يَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ، وَيَنْشَطُ إِذَا كَانَ فِي النَّاسِ، وَيَزِيدُ فِي الْعَمَلِ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ عَلَى وَجْهِ الشَّفَقَةِ وَالنَّصِيحَةِ فِي الدِّينِ، لِيُنَبَّهُوا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْمُجَادَلَةَ مِنْكُمْ لَيْسَتْ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الصِّحَّةِ، وَلَا هِيَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. وَلَيْسَ مَقْصُودُنَا بِهَذَا التَّنْبِيهِ دَفْعَ ضَرَرٍ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُنَا نُصْحُكُمْ وَإِرْشَادُكُمْ إِلَى تَخْلِيصِ اعْتِقَادِكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَنْ تُخْلِصُوا كَمَا أَخْلَصْنَا، فَنَكُونَ سَوَاءً فِي ذَلِكَ.
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: أَمْ تَقُولُونَ بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ. فَأَمَّا قِرَاءَةُ التَّاءِ، فيحتمل أَمْ فِيهِ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِيهِ أَمْ مُتَّصِلَةً، فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ وُقُوعِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: الْمُحَاجَّةُ فِي اللَّهِ، وَالِادِّعَاءُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَهُودًا وَنَصَارَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ صَحِبَهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُسْتَفْهِمِ عَنْهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَمْ فِيهِ مُنْقَطِعَةً، فَتُقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، التَّقْدِيرُ: بَلْ أَتَقُولُونَ، فَأَضْرَبَ عَنِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَانْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اللَّاحِقَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ أَيْضًا، أَيْ أَنَّ نِسْبَةَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ، بِشَهَادَةِ الْقَوْلِ الصِّدْقِ الَّذِي أَتَى بِهِ الصَّادِقُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا «١»، وَبِشَهَادَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْحَنِيفِيَّةِ، وَبِشَهَادَةِ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ لِمَنِ اقْتَفَى طَرِيقَةَ عِيسَى، وَبِأَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلٌ بِلَا بُرْهَانٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْيَاءِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ أَمْ فِيهَا مُنْقَطِعَةٌ.
وَحَكَى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُنْقَطِعَةٍ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: أَتَقُومُ أَمْ يَقُومُ عَمْرٌو؟ فَالْمَعْنَى: أَيَكُونُ هَذَا أَمْ هَذَا؟ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا الْمِثَالُ يَعْنِي: أَتَقُومُ أَمْ يَقُومُ عَمْرٌو؟ غَيْرُ جَيِّدٍ، لِأَنَّ الْقَائِلَ فِيهِ وَاحِدٌ، وَالْمُخَاطَبَ وَاحِدٌ، وَالْقَوْلَ فِي الْآيَةِ مِنَ اثْنَيْنِ، وَالْمُخَاطَبَ اثنان غير أن، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ مُعَادَلَةُ أَمْ لِلْأَلِفِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَعْنَوِيِّ، كَانَ مَعْنَى قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا، أَيُحَاجُّونَ يَا مُحَمَّدُ، أَمْ يقولون؟ انتهى. ومعنى بقوله:
لِأَنَّ الْقَائِلَ فِيهِ وَاحِدٌ، يَعْنِي فِي الْمِثَالِ الَّذِي هُوَ: أَيَقُومُ أَمْ يَقُومُ عمرو؟ فالناطق بهاتين
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٦٧.
659
الْجُمْلَتَيْنِ هُوَ وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ وَالْمُخَاطَبُ وَاحِدٌ، يَعْنِي الَّذِي خُوطِبَ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَالْمُعَادَلَةُ وَقَعَتْ بَيْنَ قِيَامِ الْمُوَاجَهِ بِالْخِطَابِ وَبَيْنَ قِيَامِ عَمْرٍو وَقَوْلُهُ. وَالْقَوْلُ فِي الْآيَةِ مِنَ اثْنَيْنِ، يَعْنِي أَنَّ أَتُحَاجُّونَنَا مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ، إِذْ أُمِرَ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بذلك، وأ تقولون بِالتَّاءِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ وَالْمُخَاطَبُ اثْنَانِ غير أن، أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَوْلُهُ أَتُحَاجُّونَنَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ لِلرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، لَا تَكُونُ إِلَّا مُنْقَطِعَةً. انْتَهَى. وَيُمْكِنُ الِاتِّصَالُ فِيهَا مَعَ قِرَاءَةِ التَّاءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِفَاتِ، إِذْ صَارَ فِيهِ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَالضَّمِيرُ لِنَاسٍ مَخْصُوصِينَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ أَمْ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا مُنْقَطِعَةً، وَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُحَاجَّتَهُمْ فِي اللَّهِ وَنِسْبَةَ أَنْبِيَائِهِ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ «١» الْآيَاتِ. وَإِذَا جَعَلْنَاهَا مُتَّصِلَةً، كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُتَضَمِّنٍ وُقُوعَ الْجُمْلَتَيْنِ، بَلْ إِحْدَاهُمَا، وَصَارَ السُّؤَالُ عَنْ تَعْيِينِ إِحْدَاهُمَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، إِذْ وَقَعَا مَعًا. وَالْقَوْلُ في أو في قول: هُوداً أَوْ نَصارى، قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. وَقَوْلُهُ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى، وأنها للتفصيل، أَيْ قَالَتِ الْيَهُودُ: هُمْ يَهُودُ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: هُمْ نَصَارَى.
قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ: الْقَوْلُ فِي القراءات فِي أَأَنْتُمْ، كَهُوَ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «٢»، وَقَدْ تَوَسَّطَ هُنَا الْمَسْئُولُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ تَقَدُّمِهِ وَتَأَخُّرِهِ، إِذْ يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَقُولَ: أَأَعْلَمُ أَنْتُمْ أَمِ اللَّهُ؟ وَيَجُوزُ: أَأَنْتُمْ أَمِ اللَّهُ أَعْلَمُ؟ وَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ اللَّهِ فِي الْعِلْمِ حَتَّى يَسْأَلَ: أَهُمْ أَزْيَدُ عِلْمًا أَمِ اللَّهُ؟ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَعَلَى تَقْدِيرٍ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ عِلْمٌ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ حَسَّانَ:
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ كُلُّهُ، هُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ الَّذِي هُوَ شَرُّ كُلُّهِ، هُوَ هَاجِيهِ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «٣»، وَلِأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ إِنَّمَا حَدَثَتَا بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ، وَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُمَيَّزِينَ عَنِ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٦٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٦.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٦٧.
660
الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَخَرَجَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَخْرَجَ مَا يُتَرَدَّدُ فِيهِ، لِأَنَّ أَتْبَاعَ أَحْبَارِهِمْ رُبَّمَا تَوَهَّمُوا، أَوْ ظَنُّوا، أَنَّ أُولَئِكَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى لِسَمَاعِهِمْ ذَلِكَ منهم، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَدًّا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ لِأَنَّ أَحْبَارَهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بُطْلَانَ مَقَالَتِهِمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، لَكِنَّهُمْ كَتَمُوا ذَلِكَ وَنَحَلُوهُمْ إِلَى مَا ذَكَرُوا، فَنَزَلُوا لِكَتْمِهِمْ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي الشَّيْءِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ، لِأَنَّ مَنْ خُوطِبَ بِهَذَا الْكَلَامِ بَادَرَ إِلَى أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَقْطَعَ لِلنِّزَاعِ.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ كَانُوا مُبَايِنِينَ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ كَتَمُوا ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، وَأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ، فَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ الْجَائِي بَعْدَ مَنَ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ «١»، وَالْمَنْفِيُّ عَنْهُمُ التَّفْضِيلُ فِي الْكَتْمِ الْيَهُودُ، وَقِيلَ: الْمُنَافِقُونَ تَابَعُوا الْيَهُودَ عَلَى الْكَتْمِ. وَالشَّهَادَةُ هِيَ أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مَعْصُومُونَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ الْبَاطِلَتَيْنِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ، أَوْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتِهِ، وَالْأَمْرِ بِتَصْدِيقِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ أَوِ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ.
مِنَ اللَّهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مُتَعَلِّقَةً بِلَفْظِ كَتَمَ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ كَتَمَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ شَهَادَةً عِنْدَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى مَنْعِ أَنْ يَصِلَ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَأَنْ يُؤَدُّوا إِلَيْهِمْ شَهَادَةَ الْحَقِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ، إِذِ الظَّرْفُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: شَهَادَةٌ كَائِنَةٌ عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ، أَيِ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَشْهَدَهُ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، وَحَصَلَتْ عِنْدَهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَاسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «٢» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذَا الْوَجْهِ: فَمِنْ عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقَةٌ بِعِنْدَهُ، وَالتَّحْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الظَّرْفِ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَنِسْبَةُ التَّعَلُّقِ إِلَى الظَّرْفِ مَجَازٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ كَتَمَ شَهَادَةَ اللَّهِ الَّتِي عِنْدَهُ أَنَّهُ شَهِدَ بِهَا، وَهِيَ شَهَادَتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ. وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: شَهَادَةً مِنَ اللَّهِ، مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ: هَذِهِ شَهَادَةٌ مِنِّي لِفُلَانٍ، إِذَا شَهِدْتَ لَهُ، وَمِثْلُهُ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «٣». انْتَهَى. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ: أَنَّ مِنَ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِشَهَادَةٍ، أَيْ كَائِنَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ وَجْهٌ ثَالِثٌ في العامل
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١٤.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٧.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ١.
661
فِي مِنْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ: أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْوَجْهِ قَبْلَهُ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَاحِدٌ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ اثْنَانِ، وَكَانَ جَعْلُ مِنْ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِشَهَادَةٍ، أَحْسَنَ مِنْ تَعَلُّقِ مِنْ بِكَتَمَ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْأَظْلَمِيَّةِ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ قَدِ اسْتَوْدَعَهَا اللَّهُ إِيَّاهُ فَكَتَمَهَا. وَعَلَى التَّعَلُّقِ بِكَتَمَ، تَكُونُ الْأَظْلَمِيَّةُ حَاصِلَةً لِمَنْ كَتَمَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ شَهَادَةً مُطْلَقَةً وَأَخْفَاهَا عَنْهُمْ، وَلَا يَصِحُّ إِذْ ذَاكَ الْأَظْلَمِيَّةُ، لِأَنَّ فَوْقَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا تَكُونُ الْأَظْلَمِيَّةُ فِيهِ أَكْثَرَ، وَهُوَ كَتْمُ شَهَادَةٍ اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ مِنْ بِكَتَمَ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَتَمُوا هَذِهِ الشَّهَادَةَ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ كَتَمْنَا هَذِهِ الشَّهَادَةَ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَظْلَمَ مِنَّا، فَلَا نَكْتُمُهَا، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكِتْمَانِهِمْ شَهَادَةَ اللَّهِ لِمُحَمَّدٍ بِالنُّبُوَّةِ فِي كُتُبِهِمْ وَسَائِرِ شَهَادَاتِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَقَدَّمَهَا الْإِنْكَارُ، لِمَا نَسَبُوهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ. فَالَّذِي يَلِيقُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَأَتْبَاعِهِ، لِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، وَعَالِمُونَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ الْيَقِينِ، فَلَا يُفْرَضُ فِي حَقِّهِمْ كِتْمَانُ ذَلِكَ.
وَذُكِرَ فِي (رَيِّ الظَّمْآنِ) : أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً حَصَلَتْ لَهُ؟ كَقَوْلِكَ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِنْ زَيْدٍ؟ مِنْ جُمْلَةِ الْكَاتِمِينَ لِلشَّهَادَةِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَبَنُوهُ يَهُودًا وَنَصَارَى. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ كَتَمَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَّنْ يَكْتُمُ الشَّهَادَةَ أَظْلَمَ مِنْهُ، لَكِنْ لَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ مَعَ عَدْلِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْكَذِبِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. انْتَهَى. وَهَذَا الْوَجْهُ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا مِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَدْلُولُ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ، فَزَعَمَ قَائِلُهُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ عِنْدَنَا إِلَّا فِي الضَّرَائِرِ. وَأَيْضًا، فَيَبْقَى قَوْلُهُ: مِمَّنْ كَتَمَ، مُتَعَلِّقٌ: إِمَّا بِأَظْلَمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ بَدَلَ عَامٍّ مِنْ خَاصٍّ، وَلَيْسَ هَذَا النَّوْعُ بِثَابِتٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ زَعَمَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ. وَقَدْ تَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ مَا أَدَّى ظَاهِرُهُ إِلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ، وَجَعَلُوهُ مِنْ وَضْعِ الْعَامِّ مَوْضِعَ الْخَاصِّ، لِنَدُورِ مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يَكُونُ مِنْ مُتَعَلِّقِهِ بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَائِنًا مِنَ الْكَاتِمِينَ الشَّهَادَةَ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَدْلُولُ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْأَظْلَمِيَّةِ لِمَنْ جَرَّ بِمِنْ يَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَيْ إِنْ كَتَمَهَا، فَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ. وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنًى لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيُنَزَّهُ كِتَابُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ.
662
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تفسير هذه الجملة عند قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، أَفَتَطْمَعُونَ «١» وَلَا يَأْتِي إِلَّا عَقِبَ ارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ، فَتَجِيءُ مُتَضَمِّنَةً وَعِيدًا، وَمُعَلِّمَةً أَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ أَمْرَهُمْ سُدًى، بَلْ هُوَ مُحَصِّلٌ لِأَعْمَالِهِمْ، مُجَازٍ عَلَيْهَا.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ: تَقَدَّمَ الكلام على شرح هذه الْجُمَلِ، وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَكْرَارٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ إِثْرَ شَيْءٍ مُخَالِفٍ لِمَا وَرَدَتِ الْجُمَلُ الْأَوْلَى بِإِثْرِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ السِّيَاقُ، فَلَا تَكْرَارَ. بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُولَى وَرَدَتْ إِثْرَ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَيْهِمْ، وَهَذِهِ وَرَدَتْ عَقِبَ أَسْلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُمْ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ وَالسِّيَاقُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى فَضْلِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ، يُجَازَوْنَ بِمَا كَسَبُوا، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَاسْتُبْعِدَ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَسْلَافُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ مُصَرِّحٌ بِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ، فَالتَّكْرَارُ حَسَنٌ لِاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ وَالسِّيَاقِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ وَصِيَّةً يُوصُونَ بِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ أَوْصَى بِمِلَّتِهِ الْحَنِيفِيَّةِ بَنِيهِ، وَأَنَّ يَعْقُوبَ أَوْصَى بِذَلِكَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ وَصِيَّتِهِ اخْتِيَارَ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ، لِيُسَهِّلَ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُمْ، وَيَحُضَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ إِلَّا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُؤَالَ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ عَمَّا يَعْبُدُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَأَجَابُوهُ بِمَا قَرَّتْ بِهِ عَيْنُهُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ وَمُوَافَقَةِ آبَائِهِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالِانْقِيَادِ لِأَحْكَامِهِ. وَحِكْمَةُ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ لَمَّا وَصَّاهُمْ بِالْحَنِيفِيَّةِ، اسْتَفْسَرَهُمْ عَمَّا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ، وَهَلْ يَقْبَلُونَ الْوَصِيَّةَ؟ فَأَجَابُوهُ بِقَبُولِهَا وَبِمُوَافَقَةِ مَا أَحَبَّهُ مِنْهُمْ، لِيَسْكُنَ بِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ خَلَّفَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَصَدَرَ سُؤَالُ يَعْقُوبَ بِتَقْرِيعِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا شَهِدُوا وَصِيَّةَ يَعْقُوبَ، إِذْ فَاجَأَهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ، فَدَعْوَاهُمُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِمْ بَاطِلَةٌ، إِذْ لَمْ يَحْضُرُوا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ تُنْبِئْهُمْ بِذَلِكَ تَوْرَاتُهُمْ وَلَا إِنْجِيلُهُمْ، فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ، إِذْ لَمْ يَتَحَصَّلْ لَا عَنْ عِيَانٍ وَلَا عَنْ نَقْلٍ، وَلَا ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يستدل عليها بالعقل.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٧٤- ٧٥.
663
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ قَدْ مَضَتْ لِسَبِيلِهَا، وَأَنَّهَا رَهِينَةٌ بِمَا كَسَبَتْ، كَمَا أَنَّكُمْ مَرْهُونُونَ بِأَعْمَالِكُمْ، وَأَنَّكُمْ لَا تُسْأَلُونَ عَنْهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا هم عليه من دَعْوَى الْبَاطِلِ.
وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْهِدَايَةَ فِي اتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ كَلَامِهِمْ، وَأَخَذَ فِي اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ الْمُبَايَنَةِ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُفْصِحُوا بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ هُوَ الدِّينُ الْحَنِيفُ، وَأَنَّهُمْ مُنْقَادُونَ لِلَّهِ اعْتِقَادًا وَأَفْعَالًا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، إِنْ وافقوكم عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ، فَقَدْ حَصَلَتِ الْهِدَايَةُ لَهُمْ، وَرَتَّبَ الْهِدَايَةَ عَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانِ، فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى فَسَادِ تَرْتِيبِ الْهِدَايَةِ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِنْ تَوَلَّوْا فَهُمُ الْأَعْدَاءُ الْمُشَاقُّونَ لَكَ، وَأَنَّكَ لَا تُبَالِي بِشِقَاقِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ كَافِيكَ أَمْرَهُمْ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ كَافِيَهُ فَهُوَ الْغَالِبُ، فَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ظُهُورِهِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ صِبْغَةَ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ هِيَ صِبْغَةُ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَتْ صِبْغَةُ اللَّهِ، فَلَا صِبْغَةَ أَحْسَنُ مِنْهَا، وَأَنَّ تَأْثِيرَ هَذِهِ الصِّبْغَةِ هُوَ ظُهُورُهَا عَلَيْهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، تَعَالَى، فَقَالَ:
وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَهُمْ أَيْضًا عَلَى طَرِيقِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ فِي اللَّهِ وَلَا يَحْسُنُ النِّزَاعُ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّنَا كُلِّنَا، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ أَنَّهُ لَا يُجَادِلُ فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ رَبُّ الْجَمِيعِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُجَازِي الْجَمِيعَ بِقَوْلِهِ: وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا انْفَرَدُوا بِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ لَهُ، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى غَيْرُ مُخْلِصِينَ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ.
ثُمَّ اسْتَفْهَمَهُمْ أَيْضًا عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، عَنْ مَقَالَتِهِمْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهُودًا وَنَصَارَى، وَأَنَّ دَأْبَهُمُ الْمُجَادَلَةُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَتَارَةً فِي اللَّهِ وَتَارَةً فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِمْ بَلِ اللَّهُ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْمَقَالَةَ لَمْ تَكُنْ عَنْ دَلِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ، بَلْ مُجَرَّدِ عِنَادٍ، وَأَنَّهُمْ كَاتِمُونَ لِلْحَقِّ، دَافِعُونَ لَهُ، فَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْ كَاتِمِ شَهَادَةٍ اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْكُمْ فِي الْمُجَادَلَةِ فِي اللَّهِ، وَفِي نِسْبَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، إِذْ عِنْدَهُمُ الشَّهَادَةُ مِنَ اللَّهِ بِأَحْوَالِهِمْ. ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفُلُ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ مُنْفَرِدَةً بِعَمَلِهَا، كَمَا أَنْتُمْ كَذَلِكَ، وأنكم غير مسؤولين عَمَّا عَمِلُوهُ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ مِنَ ابْتِدَاءِ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى انْتِهَاءِ الْكَلَامِ فِيهِ، عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِيهِ وَتَعَدُّدِ مَبَانِيهِ، كَأَنَّهَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فِي حُسْنِ مَسَاقِهَا وَنَظْمِ اتِّسَاقِهَا،
664
مُرْتَقِيَةً فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى ذِرْوَةِ الْإِحْسَانِ، مُفْصِحَةً أَنَّ بَلَاغَتَهَا خَارِجَةٌ عَنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ، مُذَكِّرَةً قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ «١».
جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ هُدِيَ إِلَى عَمَلٍ بِهِ وَفَهْمٍ، وَوَفَّى مِنْ تَدَبُّرِهِ أَوْفَرَ سَهْمٍ، وَوُقِيَ فِي تَفَكُّرِهِ مِنْ خطأ ووهم.
بعونه تعالى تم الجزء الأول من البحر المحيط بإخراجه الجديد ويليه الجزء الثاني مبتدئا بأول الجزء الثاني من القرآن الكريم بقوله تعالى:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ الآية ١٤٣ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٨.
665

[الجزء الثاني]

[تتمة سورة البقرة]
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٢ الى ١٥٧]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦)
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
5
الْقِبْلَةُ: الْجِهَةُ الَّتِي يَسْتَقْبِلُهَا الْإِنْسَانُ، وَهِيَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: يَقُولُونَ فِي كَلَامِهِمْ لَيْسَ لَهُ قِبْلَةٌ، أَيْ جِهَةٌ يَأْوِي إِلَيْهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا تَقَابَلَ رَجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِبْلَةُ الْآخَرِ. وَجَاءَتِ الْقِبْلَةُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْجِهَةُ، عَلَى وَزْنِ الْهَيْئَاتِ، كَالْقِعْدَةِ وَالْجِلْسَةِ.
الْوَسَطُ: اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وُصِفَ بِهِ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْخِيَارِ مِنَ الشَّيْءِ، لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْخَلَلُ، وَلِكَوْنِهِ اسْمًا كَانَ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعَ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ حَبِيبٌ: كَانَتْ هِيَ الْوَسَطُ الْمَحْمِيُّ، فَاكْتَنَفَتْ بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفًا. وَوَسَطُ الْوَادِي: خَيْرُ مَوْضِعٍ فِيهِ، وَأَكْثَرُهُ كَلَأً وَمَاءً. وَيُقَالُ: فُلَانٌ مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ، وَأَنَّهُ لَوَاسِطَةُ قَوْمِهِ، وَوَسَطُ قَوْمِهِ: أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ، وَأَهْلِ الْحَسَبِ فِيهِمْ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَهُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ
وَقَدْ وَسَطَ سِطَةً وَوَسَاطَةً، وَقَالَ:... وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَسَطًا
وَأَمَّا وَسْطُ، بِسُكُونِ السِّينِ، فَهُوَ طَرَفُ الْمَكَانِ، وَلَهُ أَحْكَامٌ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ. أَضَاعَ
6
الرَّجُلُ الشَّيْءَ: أَهْمَلَهُ وَلَمْ يَحْفَظْهُ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ مِنْ ضَاعَ يَضِيعُ ضَيَاعًا، وَضَاعَ الْمِسْكُ يَضُوعُ: فَاحَ. الِانْقِلَابُ: الِانْصِرَافُ وَالِارْتِجَاعُ، وَهُوَ لِلْمُطَاوَعَةِ، قَلَبْتُهُ فَانْقَلَبَ.
عَقِبُ الرَّجُلِ: مَعْرُوفٌ، وَالْعَقِبُ: النَّسْلُ، وَيُقَالُ: عَقِبٌ، بِسُكُونِ الْقَافِ. الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ:
مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى. وَقِيلَ: الرَّأْفَةُ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ جَاءَ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى فَعُولٍ، كَضَرُوبٍ، وَجَاءَ عَلَى فَعِلٍ، كَحَذِرٍ، وَجَاءَ عَلَى فَعْلٍ، كَنَدْسٍ، وَجَاءَ عَلَى فَعْلٍ، كَصَعْبٍ.
التَّقَلُّبُ: التَّرَدُّدُ، وَهُوَ لِلْمُطَاوَعَةِ، قَلَبْتُهُ فَتَقَلَّبَ. الشَّطْرُ: النِّصْفُ، وَالْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْجِهَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولًا وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو
أَيْ نَحْوَهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَقُولُ لِأُمِّ زِنْبَاعٍ أَقِيمِي صُدُورَ الْعِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ
وَقَالَ:
وَقَدْ أَظَلَّكُمْ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمُ قِطَعًا
وَقَالَ ابْنُ أَحْمَرَ:
تَعْدُو بِنَا شَطْرَ نَجْدٍ وَهِيَ عَاقِدَةٌ قَدْ كَارَبَ الْعَقْدُ مِنْ إِيقَادِهِ الْحُقْبَا
وَقَالَ آخَرُ:
وَأَظْعَنُ بِالْقَوْمِ شَطْرَ الْمُلُوكِ أَيْ نَحْوَهُمْ، وَقَالَ:
إِنَّ الْعَشِيرَ بِهَا دَاءٌ مُخَامِرُهَا وَشَطْرُهَا نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ مَسْجُورُ
وَيُقَالُ: شَطَرَ عَنْهُ: بَعُدَ، وَشَطَرَ إِلَيْهِ: أَقْبَلَ، وَالشَّاطِرُ مِنَ الشَّبَابِ: الْبَعِيدُ مِنَ الْجِيرَانِ، الْغَائِبُ عَنْ مَنْزِلِهِ. يُقَالُ: شَطَرَ شُطُورًا، وَالشَّطِيرُ: الْبَعِيدُ، مَنْزِلٌ شَطِيرٌ: أَيْ بَعِيدٌ. الْحَرَامُ وَالْحَرَمُ وَالْحُرُمُ: الْمُمْتَنِعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذلك في قَوْلِهِ: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ «١» الِامْتِرَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْمِرْيَةِ، وَهِيَ الشَّكُّ. امْتَرَى فِي الشَّيْءِ: شَكَّ فِيهِ، وَمِنْهُ الْمِرَاءُ. مَارَيْتُهُ أَيْ جَادَلْتُهُ وَشَاكَكْتُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ. وَافْتَعَلَ: بِمَعْنَى تَفَاعَلَ. تَقُولُ:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨٥. [.....]
7
تَمَارَيْنَا وَامْتَرَيْنَا فِيهِ، كَقَوْلِكَ: تَحَاوَرْنَا وَاحْتَوَرْنَا. وِجْهَةٌ، قَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ الْمَازِنِيُّ وَالْمُبَرِّدُ وَالْفَارِسِيُّ: إِنَّ وِجْهَةً اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِثْبَاتُ الْوَاوِ أَصْلًا، إِذْ هُوَ اسْمٌ غَيْرُ مَصْدَرٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَوْ بَنَيْتَ فِعْلَةً مِنَ الْوَعْدِ لَقُلْتَ وِعْدَةً، وَلَوْ بَنَيْتَ مَصْدَرًا لَقُلْتَ عِدَةً. وَذَهَبَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ الْمَازِنِيُّ، فِيمَا نَقَلَ الْمَهْدَوِيُّ إِلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. قَالَ، بَعْدَ مَا ذَكَرَ حَذْفَ الْوَاوِ مِنَ الْمَصَادِرِ، وقد أثبتوا فَقَالُوا: وِجْهَةً فِي الْجِهَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِثْبَاتُ الْوَاوِ شَاذًّا، مُنَبِّهَةً عَلَى الْأَصْلِ الْمَتْرُوكِ فِي الْمَصَادِرِ.
وَالَّذِي سَوَّغَ عِنْدِي إِقْرَارَ الْوَاوِ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا، أَنَّهُ مَصْدَرٌ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى فِعْلِهِ، إِذْ لَا يُحْفَظُ وَجَهَ يَجِهُ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ جِهَةً. قَالُوا: وَعَدَ يَعِدُ عِدَّةً، إِذِ الْمُوجِبُ لِحَذْفِ الْوَاوِ مِنْ عِدَّةٍ هُوَ الْحَمْلُ عَلَى الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ حَذْفَهَا فِي الْمُضَارِعِ لِعِلَّةٍ مَفْقُودَةٍ فِي الْمَصْدَرِ. وَلَمَّا فُقِدَ يَجِهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ، لَمْ يُحْذَفْ مِنْ وِجْهَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَصْدَرًا لِيَجِهَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْهُ: تَوَجَّهَ وَاتَّجَهَ. فَالْمَصْدَرُ الْجَارِي هُوَ التَّوَجُّهُ وَالِاتِّجَاهُ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْمَكَانِ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ هُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ.
الِاسْتِبَاقُ: افْتِعَالٌ مِنَ السَّبْقِ، وَهُوَ الْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ أَوَّلًا، وَيَكُونُ افْتَعَلَ مِنْهُ، إِمَّا لِمُوَافَقَةِ الْمُجَرَّدِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَمَعْنَى سَبَقَ وَاحِدًا، أَوْ لِمُوَافَقَةِ تَفَاعَلَ، فَيَكُونُ اسْتَبَقَ وَتَسَابَقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. الْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى فِعْلَةٍ، أَوْ بِنَاءً عَلَى فَيْعِلَةٍ، فَحُذِفَ مِنْهُ، كَالْمَيِّتَةِ وَاللَّيِّنَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْحَذْفِ، قَالُوا: رَجُلٌ خَيِّرٌ، وَامْرَأَةٌ خَيِّرَةٌ، كَمَا قَالُوا: رَجُلٌ شَرٌّ، وَامْرَأَةٌ شَرَّةٌ، وَلَا يَكُونَانِ إِذْ ذَاكَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ. الْجُوعُ:
الْقَحْطُ، وَأَمَّا الْحَاجَةُ إِلَى الْأَكْلِ فَإِنَّمَا اسْمُهَا: الْغَرَثُ. يُقَالُ: غَرِثَ يَغْرَثُ غَرْثًا، فَهُوَ غَرِثٌ وَغَرْثَانُ، قَالَ:
مُغَرَّثَةً زُرْقًا كَأَنَّ عُيُونَهَا مِنَ الذَّمْرِ وَالْإِيحَاءِ نُوَارُ عَضْرَسِ
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْمُحَدِّثُونَ فِي الْغَرْثِ: الْجُوعَ اتِّسَاعًا.
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الْآيَةَ.
فَقَالَ
8
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْيَهُودُ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الْآيَةَ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا:
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، كَانُوا يَهُودًا وَنَصَارَى. ذَكَرُوا ذَلِكَ طَعْنًا فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ النَّسْخَ عِنْدَ الْيَهُودِ بَاطِلٌ، فَقَالُوا: الِانْتِقَالُ عَنْ قِبْلَتِنَا بَاطِلٌ وَسَفَهٌ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الْآيَةَ، فَبَيَّنَ مَا كَانَ هِدَايَةً، وَمَا كَانَ سَفَهًا. وَسَيَقُولُ، ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ يَصْدُرُ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَقَدِّمَةً فِي النُّزُولِ عَلَى الْآيَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ الْأَمْرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، فَتَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، إِذْ هُوَ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ. وَلِتَتَوَطَّنَ النَّفْسُ عَلَى مَا يَرِدُ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَتَسْتَعِدَّ لَهُ، فَيَكُونُ أَقَلَّ تَأْثِيرًا مِنْهُ إِذَا فَاجَأَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ بِهِ عِلْمٌ، وَلِيَكُونَ الْجَوَابُ مُسْتَعِدًّا لِمُنْكِرِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ، مُتَأَخِّرَةٌ فِي النُّزُولِ، وَأَنَّهُ نَزَلَ قَوْلِهِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ الْآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا وَيُصَحِّحُهُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمُتَقَدِّمُ، الَّذِي خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: سَيَقُولُ، أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ على هذا القول، وإن كَانُوا قَدْ قَالُوهُ، فَحِكْمَةُ الِاسْتِقْبَالِ أَنَّهُمْ، كَمَا صَدَرَ عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَاضِي، فَهُمْ أَيْضًا يَقُولُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَنْ وَضَعَ الْمُسْتَقْبَلَ مَوْضِعَ الْمَاضِي. وَإِنَّ مَعْنَى سَيَقُولُ: قَالَ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مَعَ السِّينِ لِبُعْدِ الْمَجَازِ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ عَارِيًا مِنَ السِّينِ، لَقَرُبَ ذَلِكَ وَكَانَ يَكُونُ حِكَايَةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ. وَالسُّفَهَاءُ: الْيَهُودُ، قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَأَهْلُ مَكَّةَ قَالُوا: اشْتَاقَ مُحَمَّدُ إِلَى مَوْلِدِهِ، وَعَنْ قَرِيبٍ يَرْجِعُ إِلَى دِينِكُمْ، رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. أَوِ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا: ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِالْمُسْلِمِينَ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ جَرَى تَسْمِيَةُ الْمُنَافِقِينَ بِالسُّفَهَاءِ فِي قَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ «١»، أَوِ الطَّوَائِفُ الثَّلَاثُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: وَخَصَّ بِقَوْلِهِ مِنَ النَّاسِ، لِأَنَّ السَّفَهَ أَصْلُهُ الْخِفَّةُ، يُوصَفُ بِهِ الْجَمَادُ. قَالُوا: ثَوْبٌ سَفِيهٌ، أَيْ خَفِيفُ النَّسْجِ وَالْهَلْهَلَةِ، وَرُمْحٌ سَفِيهٌ: أَيْ خَفِيفٌ سَرِيعُ النُّفُوذِ. وَيُوصَفُ بِهِ الْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ النَّاسِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ، لَاحْتَمَلَ النَّاسَ وَغَيْرَهُمْ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يُنْسَبُ إِلَى النَّاسِ حَقِيقَةً، وإلى غيرهم مجازا،
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣.
9
فَارْتَفَعَ الْمَجَازُ بِقَوْلِهِ: مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ، أَيْ مَا صَرَفَهُمْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ قِبْلَتِهِمْ. أَضَافَ الْقِبْلَةَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اسْتَقْبَلُوهَا زَمَنًا طَوِيلًا، فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ.
وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّوْلِيَةَ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ. هَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، بَلْ قَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ، الَّتِي عِيبَ التَّحَوُّلُ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا هِيَ الْكَعْبَةُ، وَأَنَّهُ كَانَ يصلي إليها عند ما فُرِضَتِ الصَّلَاةُ، لِأَنَّهَا قِبْلَةُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ. فَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ، زَارِينَ عَلَيْهِ وَعَائِبِينَ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، هَذَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا. وَالِاسْتِعْلَاءُ هنا مجاز، وحكمته الهم لِمُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ. صَارَتِ الْقِبْلَةُ لَهُمْ كَالشَّيْءِ الْمُسْتَعْلَى عَلَيْهِ، الْمُلَازَمِ دَائِمًا. وَفِي وَصْفِ الْقِبْلَةِ بِقَوْلِهِ: الَّتِي كانُوا عَلَيْها، مَا يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ اسْتِقْبَالِهَا، وَدَيْمُومَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: قِبْلَتِهِمْ وكانوا، ضَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى السُّفَهَاءِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا قِبْلَةَ الْيَهُودِ، وَهِيَ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَقِبْلَةَ النَّصَارَى، وَهِيَ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَالْعَرَبُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ صَلَاةٌ، فَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْجِهَاتِ. فَلَمَّا تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقَالُوا: كَيْفَ يَتَوَجَّهُ إلى غير هاتين الجهتين الْمَعْرُوفَتَيْنِ؟ وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَكَانَ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ؟ أَوْ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ غَيْرِ مَتْلُوٍّ؟ أَوْ بِتَخْيِيرِ اللَّهِ رَسُولِهِ فِي النَّوَاحِي؟ فَاخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ أَوْ بِاجْتِهَادِهِ بِغَيْرِ وَحْيٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. أَقْوَالٌ:
الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ: وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي صَلَّى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقِيلَ: سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَقِيلَ: تِسْعَةٌ، أَوْ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَقِيلَ: مِنْ وَقْتِ فُرِضَ الْخَمْسُ وَائْتِمَامِهِ بِجِبْرِيلَ، إِثْرَ الْإِسْرَاءِ، وَكَانَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، ثُمَّ هَاجَرَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَتَمَادَى يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِلَى رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ. وَقِيلَ: إِلَى جُمَادَى. وَقِيلَ: إِلَى نِصْفِ شَعْبَانَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتِي الظُّهْرِ، فَانْصَرَفَ بَالْآخْرَتَيْنِ إِلَى الْكَعْبَةِ
، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السنة بالقرآن، إِذْ صَلَاتُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْسَ فِيهَا قُرْآنٌ، وَاسْتُدِلَّ بِهَا أَيْضًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ النَّسْخَ بَدَاءٌ.
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ: الْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُبْطِلُ
10
مَقَالَتَهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ إِنْكَارَهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، يُكَلِّفُ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ مِنْهَا، وَأَنْ تُجْعَلَ قِبْلَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ هُنَا. وقد شرح المشرق بيت الْمَقْدِسِ، وَالْمَغْرِبَ بِالْكَعْبَةِ، لِأَنَّ الْكَعْبَةَ غَرْبِيُّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَكُونُ بِالضَّرُورَةِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ شَرْقِيَّهَا. يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: أَيْ مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يُشْبِهُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي قَوْلِهِ:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «١»، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ: وَتَقَدَّمَ أَنَّ هُدًى يَتَعَدَّى بِاللَّامِ وَبِإِلَى وَبِنَفْسِهِ، وَهُنَا عُدِّيَ بِإِلَى. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ فِيهَا، فَقِيلَ: الصُّبْحُ، وَقِيلَ: الظُّهْرُ، وَقِيلَ: الْعَصْرُ. وَكَذَلِكَ أَكْثَرُوا الْكَلَامَ فِي الْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ، بِأَشْيَاءَ لَا يَقُومُ عَلَى صِحَّتِهَا دَلِيلٌ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعِلَلٍ لَمْ يُشِرْ إِلَيْهَا الشَّرْعُ، وَلَا قَادَ نَحْوَهَا الْعَقْلُ، فَتَرَكْنَا نَقْلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا هَذَا، عَلَى عَادَتِنَا فِي ذَلِكَ. وَمَنْ طَلَبَ لِلْوَضْعِيَّاتِ تَعَالِيلَ، فَأَحْرَى بِأَنْ يَقِلَّ صَوَابُهُ وَيَكْثُرَ خَطَؤُهُ. وَأَمَّا مَا نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى حِكْمَتِهِ، أَوْ أَشَارَ، أَوْ قَادَ إِلَيْهِ النَّظَرُ الصَّحِيحُ، فَهُوَ الَّذِي لَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَا اسْتِفَادَةَ إِلَّا مِنْهُ. وَقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ:
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بِأَنَّهُ الْقِبْلَةُ الَّتِي هِيَ الْكَعْبَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعُهُ، فَالْكَعْبَةُ مِنْ بَعْضِ مَشْرُوعَاتِهِ.
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً: الْكَافُ: لِلتَّشْبِيهِ، وَذَلِكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ، وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا لِكَوْنِهِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ حَالًا. وَالْمَعْنَى: وَجَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا جَعْلًا مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ لَيْسَ إِلَى مَلْفُوظٍ بِهِ مُتَقَدِّمٍ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ اسْمٌ يُشَارُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، لَكِنْ تَقَدَّمَ لَفْظُ يَهْدِي، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْهُدَى، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ: يَجْعَلُهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «٢». قَابَلَ تَعَالَى الضَّلَالَ بِالْجَعْلِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، إِذْ ذَلِكَ الْجَعْلُ هُوَ الْهِدَايَةُ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْهَدْيِ هُنَا هُوَ ذَلِكَ الْجَعْلُ. وَتَبَيَّنَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ إِلَى آخِرِهِ، أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ قِبْلَتَهُمْ خَيْرًا مِنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ وَسَطًا. فَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ اخْتَلَفَتِ الْأَقَاوِيلُ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ. فَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ شَبَّهَ جَعْلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا بِهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيْ أَنْعَمْنَا عَلَيْكُمْ بِجَعْلِكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، مِثْلَ مَا سَبَقَ إِنْعَامُنَا عَلَيْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَصْدَرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ يَهْدِي، أي جعلناكم أمة
(١) سورة الفاتحة: ١/ ٦.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٣٩.
11
خِيَارًا مِثْلَ مَا هَدَيْنَاكُمْ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ شَبَّهَ جَعْلَهُمْ أُمَّةً وَسَطًا بِجَعْلِهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيْ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا مِثْلَ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْغَرِيبِ الَّذِي فِيهِ اخْتِصَاصُكُمْ بِالْهِدَايَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، فَلَا تَقَعُ الْهِدَايَةُ إِلَّا لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا جَعَلْنَا قِبْلَتَكُمْ خَيْرَ الْقِبَلِ، جَعَلْنَاكُمْ خَيْرَ الْأُمَمِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا جَعَلْنَا قِبْلَتَكُمْ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا جَعَلْنَا الْكَعْبَةَ وَسَطَ الْأَرْضِ، كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، دُونَ الْأَنْبِيَاءِ، وَفَوْقَ الْأُمَمِ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا «١» أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الِاصْطِفَاءِ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا.
وَمَعْنَى وَسَطًا: عُدُولًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِهِ عِبَارَةُ الْمُفَسِّرِينَ. وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَبَ الْمَصِيرُ فِي تَفْسِيرِ الوسط إليه. وقيل: خيار، أَوْ قِيلَ: مُتَوَسِّطِينَ فِي الدِّينِ بَيْنَ الْمُفْرِطِ وَالْمُقَصِّرِ، لَمْ يَتَّخِذُوا وَاحِدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَهًا، كَمَا فَعَلَتِ النَّصَارَى، وَلَا قَتَلُوهُ، كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ. وَاحْتَجَّ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ فَقَالُوا: أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ عَدَالَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَنْ خِيرَتِهِمْ، فَلَوْ أَقْدَمُوا عَلَى شَيْءٍ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً.
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ: تَقَدَّمَ شَرْحُ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِهِ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ «٢»، وَفِي شَهَادَتِهِمْ هُنَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ،
وَهِيَ شَهَادَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ نَصًّا فِي الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: وَقَدْ طَعَنَ الْقَاضِي فِي الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا ضَعِيفَةً، وَأَظُنُّهُ عَنَى بِالْقَاضِي هُنَا الْقَاضِي عَبْدَ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيَّ، لِأَنَّ الطَّعْنَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ لَا يُنَاسِبُ مَذَاهِبَ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا.
واختلف قائلو ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى يَشْهَدُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ إِذَا مَاتَ، كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، وَبِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ الرَّسُولُ:
«وَجَبَتْ»، يَعْنِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مُسْلِمٍ.
وَقِيلَ:
الشَّهَادَةُ الِاحْتِجَاجُ، أَيْ لِتَكُونُوا مُحْتَجِّينَ عَلَى النَّاسِ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لِتَنْقُلُوا إِلَيْهِمْ مَا عَلِمْتُمُوهُ مِنَ الْوَحْيِ وَالدِّينِ كَمَا نَقَلَهُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَكُونُ عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ، كَقَوْلِهِ: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ «٣»، أَيْ لِلنُّصُبِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لِيَكُونَ إجماعكم حجة،
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٣.
12
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، أَيْ مُحْتَجًّا بِالتَّبْلِيغِ. وَقِيلَ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأُمَمِ، الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، فِيمَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ الْأَخْيَارِ. وَأَسْبَابُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ، أَيْ شَهَادَةِ هَذِهِ الْعُدُولِ أَرْبَعَةٌ: بِمُعَايَنَةٍ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَبِخَبَرِ الصَّادِقِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَبِالِاسْتِفَاضَةِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَنْسَابِ وَبِالدَّلَالَةِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَمْلَاكِ، وَكَتَعْدِيلِ الشَّاهِدِ وَجَرْحِهِ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْإِشْهَادُ أَرْبَعَةٌ: الْمَلَائِكَةُ بِإِثْبَاتِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَالْأَنْبِيَاءُ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ، وَالْجَوَارِحُ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ بِالْبَصَرِ وَالْإِدْرَاكِ بِالْبَصِيرَةِ مُنَاسِبَةٌ شَدِيدَةٌ، سُمِّيَ إِدْرَاكُ الْبَصِيرَةِ: مُشَاهِدَةً وَشُهُودًا، وَسُمِّيَ الْعَارِفُ: شَاهِدًا وَمُشَاهِدًا، ثُمَّ سُمِّيَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى الشَّيْءِ: شَهَادَةً عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بِهَا صَارَ الشَّاهِدُ شَاهِدًا. وَقَدِ اخْتَصَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بِمَنْ يُخْبِرُ عَنْ حُقُوقِ النَّاسِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى جِهَاتٍ. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: أُمَّةً وَسَطاً، أَيْ عُدُولًا خِيَارًا. وَقَالَ بَقِيَّةُ الْعُلَمَاءِ: الْعَدَالَةُ وَصْفٌ عَارِضٌ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَقَدِ اخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، لِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَلِمَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَّاصِ.
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً: لَا خِلَافَ أَنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي شَهَادَتِهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ. الثَّانِي: شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ. الثَّالِثُ: يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ. الرَّابِعُ: تَزْكِيَتُهُ لَهُمْ وَتَعْدِيلُهُ إِيَّاهُمْ، قَالَهُ عَطَاءٌ، قَالَ: هَذِهِ الْأُمَّةُ شُهَدَاءُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَالرَّسُولُ شَهِيدٌ مُعَدِّلٌ مُزَكٍّ لَهُمْ. وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:
لِتَكُونُوا هِيَ، لَامُ كَيْ، أَوْ لَامُ الصيرورة عن مَنْ يَرَى ذَلِكَ، فَمَجِيءُ مَا بَعْدَهَا سَبَبًا لِجَعْلِهِمْ خِيَارًا، أَوْ عُدُولًا ظَاهِرًا. وَأَمَّا كَوْنُ شَهَادَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ سَبَبًا لِجَعْلِهِمْ خِيَارًا، فَظَاهِرٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى التَّزْكِيَةِ، أَوْ بِأَيِّ مَعْنًى فُسِّرَتْ شَهَادَتُهُ، فَفِي ذَلِكَ الشَّرَفُ التَّامُّ لَهُمْ، حَيْثُ كَانَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ الشَّاهِدَ عليهم. وَلَمَّا كَانَ الشَّهِيدُ كَالرَّقِيبِ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، جِيءَ بِكَلِمَةٍ عَلَى، وَتَأَخَّرَ حَرْفُ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: عَلَى النَّاسِ، عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ. جَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ، إِذِ الْعَامِلُ أَصْلُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَعْمُولِ. وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ:
عَلَيْكُمْ شَهِيداً فَتَقَدَّمَهُ مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ لِلْفَصَاحَةِ، وَلِأَنَّ شَهِيدًا أَشْبَهُ
13
بِالْفَوَاصِلِ وَالْمَقَاطِعِ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ: شَهِيدًا، تَمَامَ الْجُمْلَةِ، وَمَقْطَعُهَا دُونَ عَلَيْكُمْ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ عَلَى أَوَّلًا، لِأَنَّ الْغَرَضَ فِيهِ إِثْبَاتُ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْأُمَمِ وَتَأْخِيرُ عَلَى: لِاخْتِصَاصِهِمْ بِكَوْنِ الرَّسُولِ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ: أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ وَالْمَجْرُورِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى لَا يَقُومُ عَلَيْهَا بِرِهَانٌ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ تَعْلِيلِ جَعْلِهِمْ وَسَطًا بِكَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ، وَتَأَخَّرَ التَّعْلِيلُ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ كَذَلِكَ يَقَعُ. أَلَّا تَرَى أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ، ثُمَّ يَشْهَدُ الرَّسُولُ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا نُصَّ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُمْ إِذَا نَاكَرَتِ الْأُمَمُ رُسُلَهُمْ وَشَهِدَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، يُؤْتَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْأَلُ عَنْ حَالِ أُمَّتِهِ، فَيُزَكِّيهِمْ وَيَشْهَدُ بِصِدْقِهِمْ؟ وَإِنْ فُسِّرَتِ الشَّهَادَتَانِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الرَّسُولِ مُتَقَدِّمَةً فِي الزَّمَانِ، فَيَكُونُ التَّأْخِيرُ لِذِكْرِ شَهَادَةِ الرَّسُولِ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي، لِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِمْ أَشْرَفُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ عَلَى النَّاسِ. وَأَتَى بِلَفْظِ الرَّسُولِ، لِمَا فِي الدَّلَالَةِ بِلَفْظِ الرَّسُولِ عَلَى اتِّصَافِهِ بِالرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى أُمَّتِهِ. وَأَتَى بِجَمْعِ فُعَلَاءَ، الَّذِي هُوَ جَمْعُ فَعِيلٍ وَبِشَهِيدٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ لِلْمُبَالَغَةِ دُونَ قَوْلِهِ: شَاهِدِينَ، أَوْ إِشْهَادًا، أَوْ شَاهِدًا. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً عَلَى أَنَّ التَّزْكِيَةَ تَقْتَضِي قَبُولَ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: مَعْنَى شَهِيدًا: مُزَكِّيًا لَكُمْ، قَالُوا: وَعَلَيْكُمْ تَكُونُ بِمَعْنَى: لَكُمْ.
وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ: جَعَلَ هُنَا: بِمَعْنَى صَيَّرَ، فَيَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْقِبْلَةُ، وَالْآخَرُ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها. وَالْمَعْنَى: وَمَا صَيَّرْنَا قِبْلَتَكَ الْآنَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ أَوَّلًا عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ، أَيْ مَا صَيَّرْنَا مُتَوَجَّهَكَ الْآنَ فِي الصَّلَاةِ الْمُتَوَجَّهِ أَوَّلًا، لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي أَوَّلًا إِلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَارَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ. وَتَكُونُ الْقِبْلَةُ: هُوَ الْمَفْعُولَ الثَّانِي، وَالَّتِي كُنْتَ عليها: هو المفعول الأول، إِذِ التَّصْيِيرُ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. فَالْمُتَلَبِّسُ بِالْحَالَةِ الْأَوْلَى هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَالْمُتَلَبِّسُ بِالْحَالَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: جَعَلْتُ الطِّينَ خَزَفًا، وَجَعَلْتُ الْجَاهِلَ عَالِمًا؟ وَالْمَعْنَى هُنَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ:
وَمَا جَعَلْنَا الْكَعْبَةَ الَّتِي كَانَتْ قِبْلَةً لَكَ أَوَّلًا، ثُمَّ صُرِفْتَ عَنْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قِبْلَتَكَ الْآنَ إِلَّا لِنَعْلَمَ. وَوَهِمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذَلِكَ، فَزَعَمَ أَنَّ الَّتِي كنت عليها: هو المفعول الثَّانِي لِجَعَلَ، قَالَ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْقِبْلَةِ، إِنَّمَا هِيَ ثَانِي مَفْعُولَيْ جَعَلَ. تُرِيدُ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْكَعْبَةُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى
14
الْكَعْبَةِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، تَأَلُّفًا لِلْيَهُودِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَيَقُولُ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَسْتَقْبِلَهَا الْجِهَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا أَوَّلًا بِمَكَّةَ، يَعْنِي: وَمَا رَدَدْنَاكَ إِلَيْهَا إِلَّا امْتِحَانًا لِلنَّاسِ وَابْتِلَاءً، انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ التي كنت عليها: هو الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ. وَقِيلَ: هَذَا بَيَانٌ لِحِكْمَةِ جَعْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً. وَالْمَعْنَى: وَمَا جَعَلْنَا مُتَوَجَّهَكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَّا لِنَعْلَمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ اسْتِقْبَالَكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ، لِيَتَمَيَّزَ بِهِ الثَّابِتُ عَلَى دِينِهِ مِنَ الْمُرْتَدِّ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ صَالِحٌ بِأَنْ يُوصَفَ بِقَوْلِهِ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِمَا فِي وَقْتَيْنِ. وَقِيلَ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا صِفَةٌ لِلْقِبْلَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا قِبْلَةً إِلَّا لِنَعْلَمَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كنت عليها مَنْسُوخَةً إِلَّا لِنَعْلَمَ. وَقِيلَ: ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَمَا جَعَلْنَا صَرْفَ القبلة التي كنت عليها إِلَّا لِنَعْلَمَ، وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي عَلَى هَذَا قَوْلَهُ: لِنَعْلَمَ، كَمَا تَقُولُ: ضَرْبُ زِيدٍ لِلتَّأْدِيبِ، أَيْ كَائِنٌ وَمَوْجُودٌ لِلتَّأْدِيبِ، أَيْ بِسَبَبِ التَّأْدِيبِ. وَعَلَى كَوْنِ الَّتِي صِفَةً، يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقِبْلَةِ: الْكَعْبَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَّصِفٌ بِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقِبْلَةُ فِي الْآيَةِ:
الْكَعْبَةُ، وَكُنْتَ بِمَعْنَى: أَنْتَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «١» بِمَعْنَى: أَنْتُمْ. انْتَهَى.
وَهَذَا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ مَعْنًى، لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّهُ يؤول إِلَى زِيَادَةِ كَانَ الرَّافِعَةِ لِلِاسْمِ وَالنَّاصِبَةِ لِلْخَبَرِ، وَهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ. وَإِنَّمَا تَفْسِيرُ الْإِعْرَابِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، مَا نَقَلَهُ النَّحْوِيُّونَ، أَنَّ كَانَ تَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَمَنْ صَارَ إِلَى شَيْءٍ وَاتَّصَفَ بِهِ، صَحَّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى نِسْبَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ. فَإِذَا قُلْتَ: صِرْتَ عَالِمًا، صَحَّ أَنْ تَقُولَ: أَنْتَ عَالِمٌ، لِأَنَّكَ تُخْبِرُ عَنْهُ بِشَيْءٍ هُوَ فِيهِ. فَتَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنْتَ بِأَنْتَ، هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَهُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى، لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ. وَكَذَلِكَ مَنْ صَارَ خَيْرَ أُمَّةٍ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: أَنْتُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ.
إِلَّا لِنَعْلَمَ: اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ، وَفِيهِ حَصْرُ السَّبَبِ، أَيْ مَا سَبَّبَ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إِلَّا كَذَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ، ابْتِدَاءُ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى الظَّاهِرِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ حُدُوثُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَأُوِّلَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لِيَعْلَمَ رسولنا والمؤمنون، وأسند
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١١٠.
15
عِلْمَهُمْ إِلَى ذَاتِهِ، لِأَنَّهُمْ خَوَاصُّهُ وَأَهْلُ الزُّلْفَى لَدَيْهِ. فَيَكُونُ هَذَا مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، أَوْ عَلَى إِطْلَاقِ الْعِلْمِ عَلَى مَعْنَى التَّمْيِيزِ، لِأَنَّ بِالْعِلْمِ يَقَعُ التَّمْيِيزُ، أَيْ لِنُمَيِّزَ التَّابِعَ مِنَ النَّاكِصِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ «١»، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ مَجَازِ إِطْلَاقِ السَّبَبِ، وَيُرَادُ بِهِ الْمُسَبَّبُ. وَحُكِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ ذِكْرَ عِلْمِهِ وَقْتِ مُوَافَقَتِهِمُ الطَّاعَةَ أَوِ الْمَعْصِيَةَ، إِذْ بِذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. فَلَيْسَ الْمَعْنَى لِنُحْدِثَ الْعِلْمَ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لِنَعْلَمَ ذَلِكَ مَوْجُودًا، إِذِ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ فِي الْقِدَمِ مَنْ يَتْبَعُ الرَّسُولَ. وَاسْتَمَرَّ الْعِلْمُ حَتَّى وَقَعَ حُدُوثَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ فِي حِينِ الِاتِّبَاعِ وَالِانْقِلَابِ، وَاسْتَمَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ، وَيَكُونُ هَذَا قَدْ كَنَّى فِيهِ بِالْعِلْمِ عَنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ، أَيْ لِيَتَعَلَّقَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ فِي حَالِ وُجُودِهِ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْعِلْمِ التَّثْبِيتَ، أَيْ لِنُثَبِّتَ التَّابِعَ، وَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ السبب، ويراد به المسبب، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ، فَهُوَ ثَابِتُ الِاتِّبَاعِ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ الْجَزَاءُ، أَيْ لِنُجَازِيَ الطَّائِعَ وَالْعَاصِيَ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّهْدِيدُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بِذِكْرِ الْعِلْمِ، كَقَوْلِكَ: زِيدٌ عَصَاكَ، وَالْمَعْنَى: أَنَا أُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْمُسْتَقْبَلِ هُنَا الْمَاضِي، التَّقْدِيرُ: لَمَّا عَلِمْنَا، أَوْ لِعِلْمِنَا مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يُخَالِفُ. فَهَذِهِ كُلُّهَا تَأْوِيلَاتٌ فِي قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ، فِرَارًا مِنْ حُدُوثِ الْعِلْمِ وَتَجَدُّدِهِ، إِذْ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُسْتَحِيلٌ. وَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أُوِّلَ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ. وَنَعْلَمُ هُنَا مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمَوْصُولُ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْفِعْلُ بَعْدَهُ صِلَتُهُ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَعْلَمُ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ، كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُ أَزْيَدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَتَّبِعُ فِي مَوْضِعِ الْجَرِّ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بنعلم. وَقَدْ رُدَّ هَذَا الْوَجْهُ مِنَ الْإِعْرَابِ بِأَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ نَعْلَمُ، لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ، مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهَا بِقَوْلِهِ:
يَتَّبِعُ، الَّذِي هُوَ خَبَرٌ عَنْ مَنِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى عَلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنَعْلَمُ، كَقَوْلِكَ: عَلِمْتُ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ مِمَّنْ أَسَاءَ. وَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ الْفَصْلُ وَالتَّمْيِيزُ، إِذِ الْعِلْمُ لَا يَتَعَدَّى بِمَنْ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ التَّمْيِيزُ، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى بِمَنْ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: لِيُعْلَمَ، عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، إِذِ الْفَاعِلُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَحُذِفَ وَبُنِيَ الْفِعْلُ للمفعول،
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٧٩.
16
وَعِلْمُ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَادِثٌ، فَيَصِحُّ تَعْلِيلُ الْجَعْلِ بِالْعِلْمِ الْحَادِثِ، وَكَانَ التَّقْدِيرُ: لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ. وَأَتَى بِلَفْظِ الرَّسُولِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَى ذَلِكَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: كُنْتَ عَلَيْها، فَكَانَ يَكُونُ الْكَلَامُ مَنْ يَتَّبِعُكَ، لِمَا فِي لَفْظِهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ. وَجَاءَ الخطاب مكتنفا بذكر الرَّسُولِ مَرَّتَيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الْبَلَاغَةِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالرِّسَالَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَةُ وَالْمَتْبُوعِيَّةُ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ خَاصَّةً، أَتَى بِلَفْظِ الرَّسُولِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالتَّبْلِيغِ الْمَحْضِ. وَلَمَّا كَانَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ تَوَجُّهًا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَلِفَهُ الْإِنْسَانُ، وَلَهُ إِلَى ذَلِكَ نُزُوعٌ، أَتَى بِالْخِطَابِ دُونَ لَفْظِ الرِّسَالَةِ، فَقِيلَ: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها، فَهَذِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، حِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ هُنَا. وَقَوْلُهُ: يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ كِنَايَةٌ عَنِ الرُّجُوعِ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ إِيمَانٍ أَوْ شُغْلٍ. وَالرُّجُوعُ عَلَى الْعَقِبِ أَسْوَأُ أَحْوَالِ الرَّاجِعِ فِي مَشْيِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَلِذَلِكَ شُبِّهَ الْمُرْتَدُّ فِي الدِّينِ بِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِالْإِيمَانِ، فَلَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ، ارْتَابَ فَعَادَ إِلَى الْكُفْرِ، فَهَذَا انْقِلَابٌ مَعْنَوِيٌّ، وَالِانْقِلَابُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: عَلى عَقِبَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ نَاكِصًا عَلَى عَقِبَيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، لَمْ يَخْلُ فِي رُجُوعِهِ بِأَنَّهُ عَادَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، فَهُوَ قَدْ وَلَّى عَمَّا كَانَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَمَشَى أَدْرَاجَهُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ لَهُ، وَذَلِكَ مُبَالِغَةٌ فِي الْتِبَاسِهِ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُوصِلُهُ إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أَوَّلًا. قَالُوا: وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْمِحْنَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِ تَعْيِينِ الْقِبْلَةِ، أَوْ بِسَبَبِ تَحْوِيلِهَا. فَقِيلَ: بِالْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْعَرَبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُمْ ثُمَّ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُمْ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي، قَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِ، لَمَا تَغَيَّرَ رَأْيُهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَقَالُوا: مَرَّةً هُنَا وَمَرَّةً هُنَا، وَهَذَا أَشْبَهُ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي أَمْرِ النَّسَخِ أَعْظَمُ مِنَ الشُّبْهَةِ الْحَاصِلَةِ بِتَعْيِينِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ وَصَفَهَا اللَّهُ بِالْكِبَرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: عَلَى عَقْبَيْهِ، بِسُكُونِ الْقَافِ وَتَسْكِينُ عَيْنِ فَعِلَ، اسْمًا كَانَ أَوْ فِعْلًا، لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ.
وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ: اسْمُ كَانَتْ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى التَّوْلِيَةِ عَنِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَتَحْرِيرُهُ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ، أَيْ وَإِنْ كَانَتِ
17
الْجَعْلَةُ لَكَبِيرَةً، أَوْ يَعُودُ عَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا، وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قَبْلَ التَّحْوِيلِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّوْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَمَعْنَى كَبِيرَةً: أَيْ شَاقَّةً صَعْبَةً، وَوَجْهُ صُعُوبَتِهَا أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْعَادَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَلِفَ شَيْئًا، ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهُ، صَعُبَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّسْخِ وَجَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ. وَإِنْ هُنَا هِيَ الْمُخَفِّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ النَّاسِخَةِ.
وَاللَّامُ هِيَ لَامُ الْفَرْقِ بَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ وَالْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهَلْ هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ أُلْزِمَتْ لِلْفَرْقِ، أَمْ هِيَ لَامٌ اجْتُلِبَتْ لِلْفَرْقِ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، هَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَقُطْرُبٍ فِي إِنَّ الَّتِي يَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ إِنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: لَكَبِيرَةً بِالنَّصْبِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ خَبَرَ كَانَتْ. وَقَرَأَ الْيَزِيدِيُّ: لَكَبِيرَةٌ بِالرَّفْعِ، وَخَرَّجَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى زِيَادَةِ كَانَتْ، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ هِيَ لَكَبِيرَةٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ كَانَ الزَّائِدَةُ لَا عَمَلَ لَهَا، وَهُنَا قَدِ اتَّصَلَ بِهَا الضَّمِيرُ فَعَمِلَتْ فِيهِ، وَلِذَلِكَ اسْتَكَنَّ فِيهَا. وَقَدْ خَالَفَ أَبُو سَعِيدٍ، فَزَعَمَ أَنَّهَا إِذَا زِيدَتْ عَمِلَتْ فِي الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا، أَيْ كَانَ هُوَ، أَيِ الْكَوْنِ. وَقَدْ رُدَّ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا نُوزِعُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَانَ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ:
وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامِ لِاتِّصَالِ الضَّمِيرِ بِهِ وَعَمَلِ الْفِعْلِ فِيهِ، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ لَكَبِيرَةً خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لَهِيَ كَبِيرَةٌ. وَيَكُونُ لَامُ الْفَرْقِ دَخَلَتْ عَلَى جُمْلَةٍ فِي التَّقْدِيرِ، تِلْكَ الْجُمْلَةُ خَبَرٌ لِكَانَتْ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَهُوَ تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً عَلَى النَّاسِ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ نَفْيٌ أَوْ شُبْهَةٌ، إِنَّمَا سَبَقَهُ إِيجَابٌ. وَمَعْنَى هُدَى اللَّهِ، أَيْ هَدَاهُمْ لِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ، أَوْ عَصَمَهُمْ وَاهْتَدَوْا بِهِدَايَتِهِ، أَوْ خَلَقَ لَهُمُ الْهُدَى الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، أَوْ وَفَّقَهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَثَبَّتَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَفِيهِ إِسْنَادُ الْهِدَايَةِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ أَنَّ عَدَمَ صُعُوبَةِ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنْ ذَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ، فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُمْ لِهِدَايَتِهِ.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ:
قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذَا أَنَّ جَمَاعَةً مَاتُوا قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: السَّائِلُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ
18
مَعْرُورٍ مَعَ جَمَاعَةٍ، وَهَذَا مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ وَالْبَرَاءَ بْنَ مَعْرُورٍ مَاتَا قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ. وَقَدْ فُسِّرَ الْإِيمَانُ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ، وَكَنَّى عَنِ الصَّلَاةِ بِالْإِيمَانِ لَمَّا كَانَتْ صَادِرَةً عَنْهُ، وَهِيَ مِنْ شُعَبِهِ الْعَظِيمَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقِرَّ الْإِيمَانَ عَلَى مَدْلُولِهِ، إِذْ هُوَ يَشْمَلُ التَّصْدِيقَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِي وَقْتِ التَّحْوِيلِ. وَذَكَرَ الْإِيمَانَ، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَنْ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْعُمْدَةُ، وَالَّذِي تَصِحُّ بِهِ الْأَعْمَالُ. وَقَدْ كَانَ لَهُمْ ثَابِتًا فِي حَالِ تُوَجُّهِهِمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُضِيعُ إِيمَانُكُمْ، فَانْدَرَجَ تَحْتَهُ مُتَعَلِّقَاتُهُ الَّتِي لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهِ. وَكَانَ ذِكْرُ الْإِيمَانِ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الصَّلَاةِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ انْدِرَاجُ صَلَاةِ الْمُنَافِقِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَتَى بِلَفْظِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ عَمَّنْ مَاتَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، لِأَنَّ الْمُصَلِّينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مَاتُوا. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: لِيُضَيِّعَ، بِفَتْحِ الضَّادِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَأَضَاعَ وَضَيَّعَ الْهَمْزَةُ، وَالتَّضْعِيفُ، كِلَاهُمَا لِلنَّقْلِ، إِذْ أَصْلُ الْكَلِمَةِ ضَاعَ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: لَوْلَا ذكر سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَا اتَّصَلَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ. وَوَجْهُ تَقْرِيرِ الْإِشْكَالِ، أَنَّ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ النَّسْخَ إِلَّا مَعَ الْبَدَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَّا تَغَيَّرَ الْحُكْمُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَفْسَدَةً، أَوْ بَاطِلًا، فَوَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ، بِنَاءً عَلَى هَذَا السُّؤَالِ، أَنَّ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي أَتَوْا بِهَا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ ضَائِعَةً. فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّ النَّسْخَ نَقْلٌ مِنْ مَصْلَحَةٍ إِلَى مَصْلَحَةٍ، وَمِنْ تَكْلِيفٍ إِلَى تَكْلِيفٍ، وَالْأَوَّلُ كَالثَّانِي فِي أَنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِهِ قَائِمٌ. انْتَهَى.
وَإِذَا كَانَ الشَّكُّ إِنَّمَا تَوَلَّدَ مِمَّنْ يَجُوزُ الْبَدَاءَ عَلَى اللَّهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالصَّحَابَةِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، فَأَخْبَرَ عَنْ جَوَابِ سُؤَالِ الْمُنَافِقِ، أَوْ جُووِبَ عَلَى تَقْدِيرِ خُطُورِ ذَلِكَ بِبَالِ صَحَابِيٍّ لَوْ خَطَرَ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِقَادِهِ أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ أَفْضَلُ. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَخَبِ مِنْ أَنَّهُ لَوْلَا ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لَمَا اتَّصَلَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ، سَوَاءٌ أَصَحَّ ذِكْرُ السَّبَبِ أَمْ لَمْ يَصِحَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، كَانَ ذَلِكَ تَقْسِيمًا لِلنَّاسِ حَالَةَ الْجَعْلِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ، وَنَاكِصٌ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُضِيعُ إِيمَانَ الْمُتَّبِعِ، بَلْ عَمَلُهُ وَتَصْدِيقُهُ، قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ الْقِبْلَةُ، وَبَعْدَ أَنْ تُحَوَّلَ لَا يُضَيِّعُهُ اللَّهُ، إِذْ هُوَ الْمُكَلِّفُ بِمَا شَاءَ مِنَ التَّكَالِيفِ، فَمَنِ امْتَثَلَهَا، فَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ. وَلَمَّا كَانَ قَدْ يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ
19
الِاسْتِطْلَاعُ إِلَى حَالِ إِيمَانِ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فِي الحالتين، أخبر تعال أَنَّهُ لَا يُضَيِّعُهُ، وَأَتَى بِكَانَ الْمَنْفِيَّةِ بِمَا الْجَائِي بَعْدَهَا لَامُ الْجَحُودِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِلَامِ الْجُحُودِ.
فَقَوْلُكَ: مَا كَانَ زَيْدٌ لِيَقُومَ، أَبْلَغَ مِمَّا: كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ، لِأَنَّ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ: هُوَ نَفْيٌ لِلتَّهْيِئَةِ وَالْإِرَادَةِ لِلْقِيَامِ، وَفِي الثَّانِي: هُوَ نَفْيٌ لِلْقِيَامِ. وَنَفْيُ التَّهْيِئَةِ وَالْإِرَادَةِ لِلْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْفِعْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ إِرَادَتِهِ، وَنَفْيُ التَّهْيِئَةِ وَالصَّلَاحِ وَالْإِرَادَةِ لِلْفِعْلِ تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفِعْلِ، فَلِذَلِكَ كَانَ النَّفْيُ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ أَبْلَغَ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَهَذِهِ الْأَبْلَغِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ عَلَى تَقْدِيرِ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ خَبَرَ كَانَ الَّتِي بَعْدَهَا لَامُ الْجُحُودِ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ اللَّامَ بَعْدَهَا أَنْ مُضْمَرَةٌ يَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ الْفِعْلِ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ، وَذَلِكَ الْحَرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ:
سَمَوْتَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلًا لِتَسْمُو وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ: أَنَّ اللَّامَ هِيَ النَّاصِبَةُ، وَلَيْسَتْ أَنْ مُضْمَرَةً بَعْدَهُ، وَأَنَّ اللَّامَ بَعْدَهَا لِلتَّأْكِيدِ، وَأَنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَذِهِ اللَّامِ هُوَ خَبَرُ كَانَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ: مَا كَانَ زَيْدٌ يَقُومُ، وَمَا كَانَ زَيْدٌ لِيَقُومَ، إِلَّا مُجَرَّدَ التَّأْكِيدِ الَّذِي فِي اللَّامِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ: خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ ظَاهِرٌ، وَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهَا، أَيْ لِلُطْفِ رَأْفَتِهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ، نَقَلَكُمْ مِنْ شَرْعٍ إِلَى شَرْعٍ أَصْلَحَ لَكُمْ وَأَنْفَعَ فِي الدِّينِ، أَوْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا مَشَقَّةً عَلَى الَّذِينَ هَدَاهُمْ، أَوْ لَا يُضِيعُ إِيمَانَ مَنْ آمَنَ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَظْهَرُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي بِالنَّاسِ يَحْتَمِلُ الْجِنْسَ، كَمَا قَالَ: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ «١»، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «٢»، وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً «٣»، وَيَحْتَمِلُ الْعَهْدَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ:
لرؤوف، مَهْمُوزًا عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ حَيْثُ وَقَعَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
نُطِيعُ رَسُولَنَا وَنُطِيعُ رَبًّا هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا رؤوفا
(١) سورة الشورى: ٤٢: ١٩.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٦.
(٣) سورة غافر: ٤٠/ ٧.
20
وقرأ باقي السبعة: لرؤوف، مَهْمُوزًا عَلَى وَزْنَ نَدُسٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَقًّا كَحَقِّ الْوَالِدِ الرؤوف الرَّحِيمِ
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ:
وَشَرُّ الظَّالِمِينَ فَلَا تكنه يقابل عمه الرؤوف الرَّحِيمَ
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ: لَرَوُفٌ، بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَكَذَلِكَ سَهَّلَ كُلَّ هَمْزَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، سَاكِنَةً كَانَتْ أَوْ مُتَحَرِّكَةً. وَلَمَّا كَانَ نَفْيُ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مُبَالَغًا فِيهَا مِنْ حَيْثُ لَامُ الْجَحُودِ، نَاسَبَ إِثْبَاتُ الْجُمْلَةِ الْخَاتِمَةِ مُبَالِغًا فِيهَا، فَبُولِغَ فِيهَا بِإِنَّ وَبِاللَّامِ وَبِالْوَزْنِ عَلَى فَعَوْلٍ وَفَعِيلٍ، كُلُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَكَثْرَةِ الرَّأْفَةِ. وَتَأَخَّرَ الْوَصْفُ بِالرَّحْمَةِ لِكَوْنِهِ فَاصِلَةً، وَتَقَدَّمَ الْمَجْرُورُ اعْتِنَاءً بِالْمَرْءُوفِ بِهِمْ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ نَظَرَ الْأَمْرَ بِعَيْنِ التَّفْرِقَةِ، كَبُرَ عَلَيْهِ أَمْرُ التَّحْوِيلِ وَمَنْ نَظَرَ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ، ظَهَرَ لِبَصِيرَتِهِ وَجْهُ الصَّوَابِ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ: أَيْ مَنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ، فَالْمُخْتَلِفَاتُ مِنَ الْأَحْوَالِ لَهُ وَاحِدَةٌ، فَسَوَاءٌ غَيَّرَ، أَوْ قَرَّرَ، أَوْ أَثَبَتَ، أَوْ بَدَّلَ، أَوْ حَقَّقَ، أَوْ حَوَّلَ، فَهُمْ بِهِ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. قَالَ قَائِلُهُمْ:
حَيْثُمَا دَارَتِ الزُّجَاجَةُ دُرْنَا يَحْسَبُ الْجَاهِلُونَ أَنَا جُنِنَّا
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ: تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ: أَيُّهُمَا نَزَلَ قَبْلُ؟ وَنَرَى هُنَا مُضَارِعٌ بِمَعْنَى الْمَاضِي، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ مِمَّا يَصْرِفُ الْمُضَارِعَ إِلَى الْمَاضِي قَدْ، فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَمِنْهُ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ «١»، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ «٢»، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ «٣». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرِي لَقَوْمٌ قَدْ نَرَى أَمْسَ فِيهِمْ مَرَابِطَ لِلْأَمْهَارِ وَالْعَكَرِ الدُّثْرِ
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ نَرَى: رُبَّمَا نَرَى، وَمَعْنَاهُ: كَثْرَةُ الرُّؤْيَةِ، كقوله:
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ
(١) سورة النور: ٢٤/ ٦٤.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٩٧.
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ١٨. [.....]
21
انْتَهَى. وَشَرْحُهُ هَذَا عَلَى التَّحْقِيقِ مُتَضَادٌّ، لِأَنَّهُ شَرَحَ قَدْ نَرَى بِرُبَّمَا نَرَى. وَرُبَّ، عَلَى مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، إِنَّمَا تَكُونُ لِتَقْلِيلِ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ لِتَقْلِيلِ نَظِيرِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَاهُ كَثْرَةُ الرُّؤْيَةِ، فَهُوَ مُضَادٌّ لِمَدْلُولِ رُبَّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ. ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ، وَهُوَ كَثْرَةُ الرُّؤْيَةِ، لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِمَعْنَى الْكَثْرَةِ. هَذَا التَّرْكِيبُ، أَعْنِي تَرْكِيبَ قَدْ مَعَ الْمُضَارِعِ الْمُرَادِ مِنْهُ الْمَاضِي، وَلَا غَيْرَ الْمُضِيِّ، وَإِنَّمَا فُهِمَتِ الْكَثْرَةُ مِنْ مُتَعَلِّقِ الرُّؤْيَةِ، وَهُوَ التَّقَلُّبُ، لِأَنَّ مَنْ رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَا يُقَالُ فِيهِ: قَلَّبَ بَصَرَهُ فِي السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: قَلَّبَ إِذَا رَدَّدَ. فَالتَّكْثِيرُ، إِنَّمَا فُهِمَ مِنَ التَّقَلُّبِ الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ التَّقْلِيبِ، نَحْوَ: قَطَّعْتُهُ فَتَقَطَّعَ، وَكَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، وَمَا طَاوَعَ التَّكْثِيرَ فَفِيهِ التَّكْثِيرُ.
وَالْوَجْهُ هُنَا قِيلَ: أُرِيدَ بِهِ مَدْلُولُ ظَاهِرِهِ.
قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُحَوِّلَهُ إِلَى قِبْلَةِ مَكَّةَ.
وَقِيلَ: كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ لِيُؤْذَنَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ يَتَوَقَّعُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُحَوِّلَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهَا قِبْلَةُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَدْعَى لِلْعَرَبِ إِلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّهَا مَفْخَرُهُمْ وَمَزَارُهُمْ وَمَطَافُهُمْ، وَلِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ، فَكَانَ يُرَاعِي نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْوَحْيِ بِالتَّحْوِيلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ كَلَامُ النَّاسِ قَبْلَهُ. فَالْأَوَّلُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ لِيُصِيبَ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ. وَالثَّانِي: قَوْلُ السُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ، وَهُوَ لِيَتَأَلَّفَ الْعَرَبَ لِمَحَبَّتِهَا فِي الْكَعْبَةِ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْيَهُودِ: مَا عَلِمَ مُحَمَّدٌ دِينَهُ حَتَّى اتَّبَعَنَا، فَأَرَادَ مُخَالَفَتَهُمْ. وَقِيلَ: كَنَّى بِالْوَجْهِ عَنِ الْبَصَرِ، لِأَنَّهُ أَشْرَفُ، وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَلَبِ الرَّغَائِبِ. تَقُولُ: بَذَلَتْ وَجْهِي فِي كَذَا، وَفَعَلْتُ لِوَجْهِ فُلَانٍ. وَقَالَ:
رَجَعَتْ بِمَا أَبْغِي وَوَجْهِي بِمَائِهِ وَهُوَ مِنَ الْكِنَايَةِ بِالْكُلِّ عَنِ الْجُزْءِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بَصَرَ وَجْهِكَ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ، إِنَّمَا يُقَالُ: بَصَرُكَ وَعَيْنُكَ وَأَنْفُكَ لَا يَكَادُ يُقَالُ: أَنْفُ وَجْهِكَ، وَلَا خَدُّ وَجْهِكَ. فِي السَّمَاءِ: مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ تَقَلُّبٌ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِفِي، فَهِيَ عَلَى ظَاهِرِهَا. قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ «١»، أَيْ فِي نَوَاحِي السَّمَاءِ، فِي هَذِهِ الْجِهَةِ، وَفِي هَذِهِ الْجِهَةِ. وَقِيلَ: فِي بِمَعْنَى إِلَى. وَقِيلَ: فِي السَّمَاءِ متعلق بنرى، وَفِي: بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ قَدْ نَرَى مِنَ السَّمَاءِ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَرَى مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَلَا تَتَحَيَّزُ رُؤْيَتُهُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. وذكرت
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٩٦.
22
الرُّؤْيَةُ مِنَ السَّمَاءِ لِإِعْظَامِ تَقَلُّبِ وَجْهِهِ، لِأَنَّ السَّمَاءَ مُخْتَصَّةٌ بِتَعْظِيمِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا، وَيَكُونُ كَمَا جَاءَ: بِأَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ تَعَلُّقُ الْمَجْرُورِ بِالْمَصْدَرِ، وَأَنَّ فِي عَلَى حَقِيقَتِهَا. وَاخْتُصَّ التَّقَلُّبُ بِالسَّمَاءِ، لِأَنَّ السَّمَاءَ جِهَةٌ تَعُودُ مِنْهَا الرَّحْمَةُ، كَالْمَطَرِ وَالْأَنْوَارِ وَالْوَحْيِ، فَهُمْ يَجْعَلُونَ رَغْبَتَهُمْ حَيْثُ تَوَالَتِ النِّعَمُ، وَلِأَنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ جِبْرِيلَ، وَكَانَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ.
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ حَالًا مَحْذُوفَةً، التَّقْدِيرُ: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ طَالِبًا قِبْلَةً غَيْرَ الَّتِي أَنْتِ مُسْتَقْبِلُهَا. وَجَاءَ هَذَا الْوَعْدُ عَلَى إِضْمَارِ قَسَمٍ مُبَالِغَةً فِي وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الْقَسَمَ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهَا.
وَجَاءَ الْوَعْدُ قَبْلَ الْأَمْرِ لِفَرَحِ النَّفْسِ بِالْإِجَابَةِ، ثُمَّ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ، فَيَتَوَالَى السُّرُورُ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ بُلُوغَ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ الْوَعْدِ بِهِ آنَسُ فِي التَّوَصُّلِ مِنْ مُفَاجَأَةِ وُقُوعِ الْمَطْلُوبِ. وَنَكَّرَ الْقِبْلَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ قَبْلَهَا مَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مَعْهُودَةً، فَتُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ بِاللَّفْظِ قِبْلَةً مُعَيَّنَةً، وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا مَرَضِيَّةٌ لَهُ لِتَقَرُّبِهَا مِنَ التَّعْيِينِ، لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الرِّضَا هُوَ الْقَلْبُ، وَهُوَ كَانَ يُؤْثِرُ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ. قَالُوا:
وَرِضَاهُ لَهَا، إِمَّا لِمَيْلِ السَّجِيَّةِ، أَوْ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَصَالِحِ الدِّينِ. وَالْمَعْنَى: لَنَجْعَلَنَّكَ تَلِيَ اسْتِقْبَالَ قِبْلَةٍ مَرْضِيَّةٍ لَكَ، وَلَنُمَكِّنَنَّكَ مِنْ ذَلِكَ.
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: أَيِ اسْتَقْبِلْ بِوَجْهِكَ فِي الصَّلَاةِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ.
وَبِهَذَا الْأَمْرِ نَسَخَ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَغْنَى التَّلَبُّسُ بِالصَّلَاةِ عَنْ ذِكْرِهَا. وَمَنْ قَالَ نَزَلَتْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا ذَلِكَ، أَعْنِي: التَّوَجُّهَ فِي الصَّلَاةِ. وَأَقُولُ:
فِي قَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ الَّتِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ. وَأَرَادَ بِالْوَجْهِ: جُمْلَةَ الْبَدَنِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُهَا بِجُمْلَةِ الْبَدَنِ. وَكَنَّى بِالْوَجْهِ عَنِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَبِهِ يَتَمَيَّزُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ.
وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الشَّيْءِ، وَلِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ قَابَلَ قَوْلَهُ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ بِقَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الشَّطْرَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النِّصْفُ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النَّحْوُ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّطْرِ تِلْقَاؤُهُ وَجَانِبُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي: الْمُرَادُ مِنْهُ وَسَطُ الْمَسْجِدِ وَمُنْتَصَفُهُ، لِأَنَّ الشَّطْرَ هُوَ النِّصْفُ، وَالْكَعْبَةُ بُقْعَةٌ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ. وَالْوَاجِبُ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهِيَ
23
كَانَتْ فِي نِصْفِ الْمَسْجِدِ، فَحَسُنَ أَنْ يُقَالَ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ، يَعْنِي النِّصْفَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَكَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بُقْعَةِ الْكَعْبَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. أَنَّ الْمُصَلِّيَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَسْجِدِ، لَا إِلَى مُنْتَصَفِ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ الْكَعْبَةُ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ. وَأَنَّهُ لَوْ فَسَّرْنَا الشَّطْرَ بِالْجَانِبِ، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ، وَيَكُونُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى مُنْتَصَفِهِ الَّذِي هُوَ الْكَعْبَةُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وُجِّهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبَيْتِ كُلِّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا وُجِّهَ هُوَ وَأُمَّتُهُ حِيَالَ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، وَالْمِيزَابُ هُوَ قِبْلَةُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَهُنَاكَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ بِتَقْرِيبٍ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةٌ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ، فَوَلِّ وَجْهَكَ تِلْقَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَعْنَى الشَّطْرِ: النَّحْوُ، اخْتَلَفُوا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقِبْلَةُ هِيَ الْكَعْبَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّطْرِ: النَّحْوُ وَالْجِهَةُ، لِأَنَّ فِي اسْتِقْبَالِ عَيْنِ الْكَعْبَةِ حَرَجًا عَظِيمًا عَلَى مَنْ خَرَجَ لِبُعْدِهِ عَنْ مُسَامَتَتِهَا. وَفِي ذِكْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، دُونَ ذِكْرِ الْكَعْبَةِ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ هُوَ مُرَاعَاةُ جِهَةِ الْكَعْبَةِ، لَا مُرَاعَاةُ عَيْنِهَا. وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ أَمَامَهُ، لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، خِلَافًا لِلثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَخِلَافًا لِشَرِيكٍ الْقَاضِي، فِي أَنَّهُ يَنَظُرُ الْقَائِمُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَفِي الرُّكُوعِ إِلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ، وَفِي السُّجُودِ إِلَى مَوْضِعِ أَنْفِهِ، وَفِي الْقُعُودِ إِلَى مَوْضِعِ حِجْرِهِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ:
إِنَّمَا قُلْنَا يَنْظُرُ أَمَامَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ حَنَى رَأْسَهُ ذَهَبَ بِبَعْضِ الْقِيَامِ الْمُعْتَرَضِ عَلَيْهِ فِي الرَّأْسِ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ أَقَامَ رَأَسَهُ وَتَكَلَّفَ النَّظَرَ بِبَصَرِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَتِلْكَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَحَرَجٌ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ».
وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ: هَذَا عُمُومٌ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَحِلُّهَا الْإِنْسَانُ، أي في أيّ مَوْضِعٍ كُنْتُمْ، وَهُوَ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَكُنْتُمْ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ. وَحَيْثُ: هِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ مُضَافَةٌ إِلَى الْجُمْلَةِ، فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ، الْخَفْضَ بَعْدَهَا، وَمَا اقْتَضَى الْخَفْضَ لَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ، لِأَنَّ عَوَامِلَ الْأَسْمَاءِ لَا تَعْمَلُ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْإِضَافَةِ مُوَضِّحَةٌ لِمَا أُضِيفَ، كَمَا أَنَّ الصِّلَةَ مُوَضِّحَةٌ فينا في اسْمَ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُبْهَمٌ. فَإِذَا وَصَلَتْ بِمَا زَالَ مِنْهَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ،
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٧٨.
24
وَضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَجُوزِيَ بِهَا، وَصَارَتْ إِذْ ذَاكَ مِنْ عَوَامِلِ الْأَفْعَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا مَا شُرِطَ فِي الْمُجَازَاةِ بِهَا، وَخِلَافُ الْفَرَّاءِ فِي ذَلِكَ. فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ: وَهَذَا أَمْرٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا تَقَدَّمَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ حُكْمَهُ وَحُكْمَ أُمَّتِهِ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ، مَعَ مَزِيدِ عُمُومٍ فِي الْأَمَاكِنِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَبَيَّنَ أنهم في أيما حَصَلُوا مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا شَطْرَ الْمَسْجِدِ. وَلَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ المتشوف لِأَمْرِ التَّحْوِيلِ، بَدَأَ بِأَمْرِهِ أَوَّلًا ثُمَّ أَتْبَعَ أَمْرَ أُمَّتِهِ ثَانِيًا لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ تِلْقَاءَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّطْرِ: النَّحْوُ..
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: أَيْ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَحْبَارَهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
هُمُ الْيَهُودُ. لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ: أَيِ التوجه إلى المسجد الحرام، الْحَقُّ: الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ الْكَعْبَةُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الشَّطْرِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الثَّانِي، لِأَنَّ الشَّطْرَ هُوَ الْجِهَةُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَيْ يَعْرِفُونَ صِدْقَهُ وَنُبُوَّتَهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ. وَمُفَسِّرُ هَذِهِ الضَّمَائِرِ مُتَقَدِّمٌ. فَمُفَسِّرُ ضَمِيرِ التَّحْوِيلِ وَالتَّوَجُّهِ قَوْلُهُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ، فَيَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلُّوا، وَمُفَسِّرُ ضَمِيرِ الْقِبْلَةِ قَوْلُهُ: قِبْلَةً تَرْضاها، وَمُفَسِّرُ ضَمِيرِ الشَّطْرِ قَوْلُهُ:
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَمُفَسِّرُ ضَمِيرِ الرَّسُولِ ضَمِيرُ خِطَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْتِفَاتَانِ. وَالْعِلْمُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، لِأَنَّ مَعْمُولَهُ هُوَ أَنْ وَصِلَتُهَا، فَيَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ، وَعِلْمُهُمْ بِذَلِكَ، إِمَّا لِأَنَّ فِي كِتَابِهِمُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِي كِتَابِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَإِمَّا لِجَوَازِ النَّسْخِ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِي بِشَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. مِنْ رَبِّهِمْ: جَارٌّ وَمَجْرُورٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ ثَابِتًا مِنْ رَبِّهِمْ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحَوُّلَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يَكُنْ بِاجْتِهَادٍ، إِنَّمَا هُوَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي إِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَيْهِمْ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُسْتَقِرٌّ مِمَّنْ هُوَ مُعْتَنٍ بِإِصْلَاحِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ.
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ لِقَوْلِهِ: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَتَكُونُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي خِطَابِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفَلُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ،
25
تَحْرِيكًا لَهُمْ بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا عَلِمُوا مِنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ بِالشَّيْءِ تَقْتَضِي شِدَّةَ الْإِنْكَارِ وَعِظَمَ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْكَرُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لِمَجِيءِ ذَلِكَ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ مِنَ الْغَيْبَةِ. وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ، فَهُوَ إِعْلَامٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُهْمِلُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَلَا يَغْفَلُ عَنْهَا، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ الْوَعِيدَ.
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ عَنْ مُتَابَعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُ. أَعْلَمَهُ أَوَّلًا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَهُمْ يَكْتُمُونَهُ، وَلَا يُرَتِّبُونَ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ مُقْتَضَاهُ. ثُمَّ سَلَّاهُ عَنْ قَبُولِهِمُ الْحَقَّ، بِأَنَّهُمْ قَدِ انْتَهَوْا فِي الْعِنَادِ وَإِظْهَارِ الْمُعَادَاةِ إِلَى رُتْبَةٍ، لَوْ جِئْتَهُمْ فِيهَا بِجَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي كُلُّ مُعْجِزَةٍ مِنْهَا تَقْتَضِي قَبُولَ الْحَقِّ، مَا تَبِعُوكَ وَلَا سَلَكُوا طَرِيقَكَ. وَإِذَا كَانُوا لَا يَتَّبِعُونَكَ، مَعَ مَجِيئِكَ لَهُمْ بِجَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُتْبِعُوكَ إِذَا جِئْتَهُمْ بِمُعْجِزَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْمَعْنَى: بِكُلِّ آيَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَكَ إِلَى الْكَعْبَةِ هُوَ الْحَقُّ. وَاللَّامُ فِي: وَلَئِنْ، هِيَ الَّتِي تُؤْذِنُ بِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ مُتَقَدِّمٍ. فَقَدِ اجْتَمَعَ الْقَسَمُ الْمُتَقَدِّمُ الْمَحْذُوفُ، وَالشَّرْطُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، فَالْجَوَابُ لِلْقَسَمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا تَبِعُوا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْهُ الْفَاءُ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِمَا مَاضِي الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلِ. الْمَعْنَى: أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَكَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ قُيِّدَ فِي الْجُمْلَةِ، وَالشَّرْطَ مُسْتَقْبَلٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ مستقبلا، ضرورة أن الْمُسْتَقْبَلَ لَا يَكُونُ شَرْطًا فِي الْمَاضِي. وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الْمُثْبَتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ «١»، التَّقْدِيرُ: لَيَظَلَّنَّ أَوْقَعَ الْمَاضِي الْمَقْرُونَ بِاللَّامِ جَوَابًا لِلْقِسْمِ الْمَحْذُوفِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ اللَّامُ مَوْقِعَ الْمُسْتَقْبَلِ، فَهُوَ مَاضٍ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، مُسْتَقْبَلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الشَّرْطَ قُيِّدَ فِيهِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي الْآيَتَيْنِ مَحْذُوفٌ، سَدَّ مَسَدَّهُ جَوَابُ الْقِسْمِ، وَلِذَلِكَ أَتَى فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا، وَجَبَ مُضِيُّ فِعْلِ الشَّرْطِ لَفْظًا، إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، فَقَدْ يَأْتِي مُضَارِعًا. وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ إِنْ هُنَا بِمَعْنَى لَوْ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مَا فِي الْجَوَابِ، فَجَعَلَ مَا تَبِعُوا جَوَابًا لِإِنْ، لِأَنَّ إِنْ بِمَعْنَى لَوْ، فَكَمَا أَنَّ لَوْ تُجَابُ بِمَا، كَذَلِكَ أُجِيبَتْ إِنْ الَّتِي بِمَعْنَى لَوْ، وَإِنْ كَانَ إِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى لَوْ، لَمْ يَكُنْ جَوَابُهَا مُصَّدَرًا بِمَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْفَاءِ. تَقُولُ: إِنْ تَزُرْنِي فَمَا أَزُورُكَ، وَلَا يَجُوزُ: مَا أَزُورُكَ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ جَوَابِ إِنْ عَلَيْهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفَرَّاءُ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْقَسَمَ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الشرط، جاز أن
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٥١.
26
يَكُونَ الْجَوَابُ لِلشَّرْطِ دُونَ الْقَسَمِ. وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ، بَلِ الْجَوَابُ يَكُونُ لِلْقَسَمِ بِشَرْطِهِ الْمَذْكُورِ فِي النَّحْوِ. وَاسْتِعْمَالُ إِنْ بِمَعْنَى لَوْ قَلِيلٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ذَلِكَ، إِذَا سَاغَ إِقْرَارُهَا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجَاءَ جَوَابُ لَئِنْ كَجَوَابِ لَوْ، وَهِيَ ضِدُّهَا فِي أَنَّ لَوْ تَطْلُبُ الْمُضِيَّ وَالْوُقُوعَ، وَإِنْ تَطْلُبُ الِاسْتِقْبَالَ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يَتَرَتَّبُ قَبْلَهُمَا الْقَسَمُ. فَالْجَوَابُ إِنَّمَا هُوَ لِلْقَسَمِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ يَقَعُ مَوْقِعَ الْآخَرِ، هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ.
انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ تَثْبِيجٌ وَعَدَمُ نَصٍّ عَلَى الْمُرَادِ، لِأَنَّ أَوَّلَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْجَوَابَ لِإِنْ، وَقَوْلُهُ بَعْدُ: فَالْجَوَابُ إِنَّمَا هُوَ لِلْقَسَمِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ لَإِنْ، وَالتَّعْلِيلُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ يَقَعُ مَوْقِعَ الْآخَرِ، لَا يَصْلُحُ أَنْ يُعَلِّلَ بِهِ قَوْلَهُ: فَالْجَوَابُ إِنَّمَا هُوَ لِلْقَسَمِ، بَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا، لِأَنَّ الْجَوَابَ لَإِنْ، وَأُجْرِيَتْ فِي ذَلِكَ مَجْرَى لَوْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، فَلَيْسَ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، إِلَّا أَنَّ مَا تَبِعُوا جَوَابَ الْقَسَمِ، وَوُضِعَ فِيهِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالُوا لَئِنْ فَعَلْتَ مَا فَعَلَ، يُرِيدُ مَعْنَى مَا هُوَ فَاعِلٌ وَمَا يَفْعَلُ.
وَقَالَ أَيْضًا: وَقَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ «١» : أَيْ مَا يُمْسِكُهُمَا. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ: لَئِنْ وَلَوْ، تَقُومُ مَقَامَ الْأُخْرَى، وَيُجَابُ بِمَا يُجَابُ بِهِ، وَمِنْهُ: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «٢»، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَوْ أَرْسَلْنَا رِيحًا. وَكَذَلِكَ لَوْ يُجَابُ جَوَابُ لَئِنْ، كَقَوْلِكَ: لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ أُحْسِنُ إِلَيْكَ، هَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يُجَابُ إِحْدَاهُمَا بِجَوَابِ الْأُخْرَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقَدْرُ الْفِعْلِ الْمَاضِي الَّذِي وَقَعَ بَعْدَ لَئِنْ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، تَقْدِيرُهُ: لَا يَتَّبِعُونَ، وَلَيَظَلُّنَّ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ فِي قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ جَوَابُ إِنْ لِإِجْرَائِهَا مَجْرَى لَوْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أُوتُوا الْكِتابَ: الْعُمُومُ، وَقَدْ قَالَ بِهِ هُنَا قَوْمٌ.
وَقَالَ الْأَصَمُّ: الْمُرَادُ عُلَمَاؤُهُمُ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَفِي الْآيَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ ذَلِكَ خُصُوصُ مَا تَقَدَّمَ، وَخُصُوصُ مَا تَأَخَّرَ، فَكَذَلِكَ الْمُتَوَسِّطُ وَالْإِخْبَارُ بِإِصْرَارِهِمْ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُعَانِدِ، وَأَنَّهُ قَدْ آمَنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ أهل
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٤١.
(٢) سورة الروم: ٣٠/ ٥١.
27
الْكِتَابِ وَتَبِعُوا قِبْلَتَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ. قَالَ الْحَسَنُ وَالْجُبَّائِيُّ: أَرَادَ جَمِيعَهُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى اتِّبَاعِ قَبْلَتِكَ، عَلَى نَحْوِ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «١»، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ إِخْبَارًا عَنِ الْمَجْمُوعِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، لَا حُكْمَ عَلَى الْأَفْرَادِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ قَوْلِ الْأَصَمِّ: أَنَّهُ أُرِيدَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْخُصُوصُ، فَكَأَنَّهُ قال: كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ أُولَئِكَ الْمُخْتَصِّينَ بِالْعِنَادِ، الْمُسْتَمِرِّينَ عَلَى جُحُودِ الْحَقِّ، لَا يُؤْمِنُ وَلَا يَتَّبِعُ قِبْلَتَكَ. وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَفِيمَا يَفْعَلُونَهُ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَهُمْ فِيمَا يَرْتَكِبُونَ، وَأَنَّهُمْ مُسْتَطِيعُونَ لِأَنْ يَفْعَلُوا الْخَيْرَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، وَيَتْرُكُوا ضِدَّهُ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ. قِيلَ: وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَهُ، فَلَوِ اتَّبَعُوا قِبْلَتَهُ، لَزِمَ انْقِلَابُ خَبَرِ اللَّهِ الصِّدْقِ كَذِبًا، وَعِلْمِهِ جَهْلًا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَمَا اسْتَلْزَمَ الْمُحَالُ فَهُوَ مُحَالٌ. وَأَضَافَ تَعَالَى الْقِبْلَةَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْمُتَعَبِّدُ بِهَا وَالْمُقْتَدَى بِهِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا. أَيْأَسَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ اتِّبَاعِهِمْ قِبْلَتَهُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا اتِّبَاعَهُ عَنْ دَلِيلٍ لَهُمْ وَضَحَ، وَلَا عَنْ شُبْهَةٍ عَرَضَتْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ، وَمَنْ نَازَعَ عِنَادًا فَلَا يُرْجَى مِنْهُ انْتِزَاعٌ.
وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ: هَذِهِ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ. قِيلَ: وَمَعْنَاهَا النَّهْيُ، أَيْ لَا تَتَّبِعْ قِبْلَتَهُمْ، وَمَعْنَاهَا: الدَّوَامُ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْصُومٌ عَنِ اتِّبَاعِ قِبْلَتِهِمْ بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ، وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ بِهَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّ هَذِهِ الْقِبْلَةَ لَا تَصِيرُ مَنْسُوخَةً، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ رَفَعًا لِتَجْوِيزِ النَّسْخِ، أَوْ قَطَعَ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، عُدْ إِلَى قِبْلَتِنَا، وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَتَّبِعُكَ، مُخَادِعَةً مِنْهُمْ، فَأَيْأَسَهُمُ اللَّهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ قِبْلَتَهُمْ، أَوْ بَيَّنَ بِذَلِكَ حُصُولَ عِصْمَتِهِ، أَوْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَذُّرِ لِاخْتِلَافِ قِبْلَتَيْهِمْ، أَوْ جَاءَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، أَيْ مَا هُمْ بِتَارِكِي بَاطِلِهِمْ، وَمَا أَنْتَ بِتَارِكٌ حَقَّكَ. وَأَفْرَدَ الْقِبْلَةَ فِي قَوْلِهِ: قِبْلَتَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ مُثَنَّاةً، إِذْ لِلْيَهُودِ قِبْلَةٌ، وَلِلنَّصَارَى قِبْلَةٌ مُغَايِرَةٌ لِتِلْكَ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَتَا فِي كَوْنِهِمَا بَاطِلَتَيْنِ، فَصَارَ الِاثْنَانِ وَاحِدًا مِنْ جِهَةِ الْبُطْلَانِ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ الْمُقَابَلَةَ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ اسْمِيَّةً تَكَرَّرَ فِيهَا الِاسْمُ مَرَّتَيْنِ، وَمِنْ حَيْثُ أَكَّدَ النَّفْيَ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِتابِعٍ، وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْكَلَامِ قَبْلَهَا، لَا عَلَى الْجَوَابِ وَحْدَهُ، إِذْ لَا يَحِلُّ مَحَلَّهُ، لِأَنَّ نَفْيَ تَبَعِيَّتِهِمْ لِقِبْلَتِهِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَيْدًا فِي نَفْيِ تَبَعِيَّتِهِ قِبْلَتِهِمْ.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٣٥.
28
وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: بِتَابِعِ قِبْلَتِهِمْ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَكِلَاهُمَا فَصِيحٌ، أَعْنِي إِعْمَالَ اسْمِ الْفَاعِلِ هُنَا وَإِضَافَتَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَيِّهِمَا أَقْيَسُ.
وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ: الضَّمِيرُ فِي بَعْضُهُمْ عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْيَهُودَ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَةَ النَّصَارَى، وَلَا النَّصَارَى تَتَّبِعُ قِبْلَةَ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْيَهُودَ لَا تَتَنَصَّرُ، وَإِلَى أَنَّ النَّصَارَى لَا تَتَهَوَّدُ، وَذَلِكَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ إِفْرَاطِ الْعَدَاوَةِ وَالتَّبَاغُضِ. وَقَدْ رَأَيْنَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَثِيرًا مَا يَدْخُلُونَ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يُشَاهَدْ يَهُودِيًّا تَنَصَّرَ، وَلَا نَصْرَانِيًّا تَهَوَّدَ. وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضَيْنِ: مَنْ هُوَ بَاقٍ عَلَى دِينِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، هَذَا قَوْلُ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقِيلَ: أَحَدُ الْبَعْضَيْنِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْبَعْضُ الثَّانِي مَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُسَفِّهُ حِلْمَ الْآخَرِ وَيُكَفِّرُهُ، إِذْ تَبَايَنَتْ طَرِيقَتُهُمَا. أَلَا تَرَى إِلَى مَدْحِ الْيَهُودِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِهِ وَبَهْتَهُمْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ: أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى خِلَافِكَ، فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْقِبْلَةِ، وَقِبْلَةُ الْيَهُودِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِبْلَةُ النَّصَارَى مَطْلَعُ الشَّمْسِ.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ، اللَّامُ أَيْضًا مُؤْذِنَةٌ بِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: إِنَّكَ، وَتَعْلِيقُ وُقُوعِ الشَّيْءِ عَلَى شَرْطٍ لَا يَقْتَضِي إِمْكَانَ ذَلِكَ الشَّرْطِ. يَقُولُ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ صَعِدْتِ إِلَى السَّمَاءِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمَعْلُومٌ امْتِنَاعُ صُعُودِهَا إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «١»، قَالَ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «٢»، وَإِذَا اتَّضَحَ ذَلِكَ سَهُلَ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِحَالَةُ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ مُسْتَحِيلٌ. وَيَصِيرُ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، الَّتِي ظَاهِرُهَا الْوُقُوعُ عَلَى تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ الْوُقُوعِ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى: لَا يُعَدُّ ظَالِمًا، وَلَا تَكُونَهُ، لِأَنَّكَ لَا تَتَّبِعُ أَهْوَاءَهُمْ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْبَطُ عَمَلُكَ، لِأَنَّ إِشْرَاكَكَ مُمْتَنِعٌ، وَكَذَلِكَ لَا يُجْزَى أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جَهَنَّمَ، لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَنَّهُ إِلَهٌ. وَقَالُوا: مَا خُوطِبَ بِهِ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِمَّا لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ مِنْهُ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ أُمَّتِهِ، وَمَنْ يُمْكِنُ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْخِطَابُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهِ، حَتَّى يَحْصُلَ التَّبَاعُدُ مِنْهُ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إِيَّاكَ أَعْنِي: وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ.
(١) سورة التحريم: ٦٦/ ٦.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٩.
29
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ، بَعْدَ الْإِفْصَاحِ عَنْ حَقِيقَةِ حَالِهِ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَهُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ، كَلَامٌ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرِ بِمَعْنَى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَهُمْ مَثَلًا بَعْدَ وُضُوحِ الْبُرْهَانِ وَالْإِحَاطَةِ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ، إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الْمُرْتَكِبِينَ الظُّلْمَ الْفَاحِشَ. وَفِي ذَلِكَ لُطْفٌ لِلسَّامِعِينَ، وَزِيَادَةُ تَحْذِيرٍ وَاسْتِفْظَاعٌ بِحَالِ مَنْ يَتْرُكُ الدَّلِيلَ بَعْدَ إِنَارَتِهِ وَيَتَّبِعُ الْهَوَى، وَإِلْهَابٌ لِلثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْخِطَابِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِلرَّسُولِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِلرَّسُولِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِغَيْرِ الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّهُ بِهَذَا الْخِطَابِ. أَهْوَاءَهُمْ: تَقَدَّمَ أَنَّهُ جَمَعَ هَوَى، وَلَا يُجْمَعُ عَلَى أَهْوِيَةٍ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْهَوَى فِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ، وَأَصْلُهُ الْمَيْلُ وَالْمَحَبَّةُ، وَجُمِعَ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْمَصْدَرَ، لِاخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِمْ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا وَتَبَايُنِهَا.
مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ: أَيْ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ الَّتِي تُفِيدُ لَكَ الْعِلْمَ وَتُحَصِّلُهُ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. سَمَّى تِلْكَ الدَّلَائِلَ عِلْمًا، مُبَالِغَةً وَتَعْظِيمًا وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ شَرَفًا وَمَرْتَبَةً. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَوَجُّهَ الْوَعِيدِ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَشَدُّ مِنْ تَوَجُّهِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَدْ فُسِّرَ الْعِلْمُ هُنَا بِالْحَقِّ، يَعْنِي أَنَّ مَا جَاءَهُ مِنْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ هُوَ الْحَقُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْعِلْمُ هُنَا: الْبَيَانُ، وَجَاءَ فِي هَذَا الْمَكَانِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ، وَقَالَ قَبْلَ هَذَا: بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ «١»، وَجَاءَ فِي الرَّعْدِ: بَعْدِ مَا جاءَكَ «٢»، فَاخْتَصَّ مَوْضِعًا بِالَّذِي، وَمَوْضِعَيْنِ بِمَا، وَهَذَا الْمَوْضِعُ بِمَنْ. وَالَّذِي نَقُولُهُ فِي هَذَا: أَنَّهُ مِنَ اتِّسَاعِ الْعِبَارَةِ وَذِكْرِ الْمُتَرَادِفِ، لِأَنَّ مَا وَالَّذِي مَوْصُولَانِ، فَأَيًّا مِنْهُمَا ذَكَرْتَ، كَانَ فَصِيحًا حَسَنًا. وَأَمَّا الْمَجِيءُ بِمَنْ، فَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى ابْتِدَاءِ بَعْدِيَّةِ الْمَجِيءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:
بَعْدَ، فَهُوَ عَلَى مَعْنَى مِنْ، وَالتَّبْعَدِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُ بَعْدَ لَا يَقْتَضِيهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ دُخُولُ مَا مَكَانَ الَّذِي، لِأَنَّ الَّذِي أَخَصُّ، وَمَا أَشَدُّ إِبْهَامًا، فَحَيْثُ خَصَّ بِالَّذِي أُشِيرُ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ الدين، الذي هو الإسلام، الْمَانِعُ مِنْ مِلَّتِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَكَانَ اللَّفْظُ الْأَخَصُّ الْأَشْهَرُ أَوْلَى فِيهِ، لِأَنَّهُ عِلْمٌ بِكُلِّ أُصُولِ الدِّينِ، وَخَصَّ بِلَفْظِ مَا، مَا أشير به إلى العلم بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، أَحَدُهُمَا الْقِبْلَةُ، وَالْآخَرُ الْكِتَابُ، لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ «٣»، قال:
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٢٠.
(٢) سورة الرعد: ١٣/ ٣٧.
(٣) سورة الرعد: ١٣/ ٣٦.
30
وَأَمَّا دُخُولُ مِنْ، فَفَائِدَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَهِيَ بَيَانُ أَوَّلِ الْوَقْتِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنْ يُخَالِفَ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ، أَيْ ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ فِيهِ بِالتَّوَجُّهِ فِيهِ إِلَى نَحْوِ الْقِبْلَةِ، إِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ، كُنْتَ ظَالِمًا وَاضِعًا الْبَاطِلَ فِي مَوْضِعِ الْحَقِّ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي آذَنَتْ بِتَقْدِيرِهِ اللَّامُ فِي لَئِنْ، وَدَلَّ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَكُونُ جَوَابًا لَهُمَا، لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى. أَمَّا الْمَعْنَى، فَلِأَنَّ الِاقْتِضَاءَ مُخْتَلِفٌ. فَاقْتِضَاءُ الْقَسَمِ عَلَى أَنَّهُ لَا عَمَلَ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّ الْقَسَمَ إِنَّمَا جِيءَ بِهِ تَوْكِيدًا لِلْجُمْلَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهَا، وَمَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا، وَاقْتِضَاءُ الشَّرْطِ عَلَى أَنَّهُ عَامِلٌ فِيهِ، فَتَكُونُ الجملة في موضع جزم، وَعَمِلَ الشَّرْطُ لِقُوَّةِ طَلَبِهِ لَهُ. وَأَمَّا اللَّفْظُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ إِذَا كَانَتْ جَوَابَ قَسَمٍ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَزِيدِ رَابِطٍ، وَإِذَا كَانَتْ جَوَابَ شَرْطٍ، احْتَاجَتْ لِمَزِيدِ رَابِطٍ، وَهُوَ الْفَاءُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الْفَاءِ مَوْجُودَةً فِيهَا الْفَاءَ، فَلِذَلِكَ امْتُنِعَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْجُمْلَةَ جَوَابٌ لِلْقِسْمِ وَالشَّرْطِ مَعًا. وَدَخَلَتْ إِذَا بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا لِتَقْرِيرِ النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، وَكَانَ حَدُّهَا أَنْ تَتَقَدَّمَ أَوْ تَتَأَخَّرَ. فَلَمْ تَتَقَدَّمْ، لِأَنَّهُ سَبَقَ قَسَمٌ وَشَرْطٌ، وَالْجَوَابُ هُوَ لِلْقَسَمِ. فَلَوْ تَقَدَّمَتْ، لَتَوَهَّمَ أَنَّهَا لِتَقْرِيرِ النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، وَلَمْ يَتَأَخَّرْ، لِئَلَّا تَفُوتَ مُنَاسِبَةُ الْفَوَاصِلِ وَآخِرِ الْآيِ: فَتَوَسَّطَتْ وَالنِّيَّةُ بِهَا التَّأْخِيرُ لِتَقْرِيرِ النِّسْبَةِ.
وَتَحْرِيرُ مَعْنَى إِذَنْ صَعْبٌ، وَقَدِ اضْطَرَبَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهَا، وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا الْجَوَابُ وَالْجَزَاءُ. وَاخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي فَهْمِ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَالَّذِي تَحَصَّلَ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَقَعُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْبِقَهَا كَلَامٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَمَا بَعْدَهَا فِي اللَّفْظِ أَوِ التَّقْدِيرِ، وَإِنْ كَانَ مُسَبَّبًا عَمَّا قَبْلَهَا، فَهِيَ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدُلَّ عَلَى إِنْشَاءِ الِارْتِبَاطِ وَالشَّرْطِ، بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ الِارْتِبَاطُ مِنْ غَيْرِهَا. مِثَالُ ذَلِكَ أَزُورُكَ فَتَقُولُ: إِذَا أَزُورُكَ، فَإِنَّمَا تُرِيدُ الْآنَ أَنْ تَجْعَلَ فِعْلَهُ شَرْطًا لِفِعْلِكَ. وَإِنْشَاءُ السَّبَبِيَّةِ فِي ثَانِي حَالٍ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ، وَبِالْفِعْلِيَّةِ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ عَامِلَةً، وَلَعَمَلُهَا مذكورة فِي النَّحْوِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِجَوَابٍ ارْتَبَطَ بِمُتَقَدِّمٍ، أَوْ مُنَبِّهَةً على مسبب شروط حَصَلَ فِي الْحَالِ، وَهِيَ فِي الْحَالَيْنِ غَيْرُ عَامِلَةٍ، لِأَنَّ الْمُؤَكِّدَاتِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَالْعَامِلُ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ: إِنْ تَأْتِنِي إذن آتك، وو الله إِذَنْ لَأَفْعَلَنَّ. فَلَوْ أَسْقَطْتَ إِذَنْ، لَفُهِمَ الِارْتِبَاطُ. وَلَمَّا كَانَتْ فِي هَذَا الْوَجْهِ غَيْرَ مُعْتَمِدٍ عَلَيْهَا، جَازَ دُخُولُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الصَّرِيحَةِ نَحْوُ: أَزُورُكَ فَتَقُولُ:
31
إِذَنْ أَنَا أُكْرِمُكَ، وَجَازَ تَوَسُّطُهَا نَحْوُ: أَنَا إِذًا أُكْرِمُكَ، وَتَأَخُّرُهَا. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَجَاءَتْ إِذًا فِي الْآيَةِ مُؤَكِّدَةً لِلْجَوَابِ الْمُرْتَبِطِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا قَرَّرَتْ مَعْنَاهَا هُنَا لِأَنَّهَا كَثِيرَةُ الدَّوْرِ فِي الْقُرْآنِ، فَتُحْمَلُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مِنْ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ: هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ، كَابْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ مَنْ آمَنَ بِهِ مُطْلَقًا، أَقْوَالٌ. وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، أَوِ الْإِنْجِيلُ، أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، أَوِ الْقُرْآنُ. أَقْوَالٌ تَنْبَنِي عَلَى مَنِ الْمُرَادِ بِالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ، وَلَفْظُ آتَيْنَاهُمْ أَبْلَغُ مِنْ أُوتُوا، لِإِسْنَادِ الْإِيتَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مُعَبِّرًا عَنْهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَكَذَا مَا يَجِيءُ مِنْ نَحْوِ هَذَا، مُرَادًا بِهِ الْإِكْرَامُ نَحْوُ: هَدَيْنَا، وَاجْتَبَيْنَا، وَاصْطَفَيْنَا. قِيلَ: وَلِأَنَّ أُوتُوا قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبُولٌ، وَآتَيْنَاهُمْ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَهُ قَبُولٌ نَحْوُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ «١»، وإذ أُرِيدَ بِالْكِتَابِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، فَوَحَّدَ، لِأَنَّهُ صُرِفَ إِلَى الْمَكْتُوبِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ.
يَعْرِفُونَهُ: جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَجْرُورًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلظَّالِمِينَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الظَّالِمِينَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَمَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمُ الَّذِينَ، وَمَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ، أَعْنِي: وَعَلَى هَذِهِ الْأَعَارِيبِ يَكُونُ قَوْلُهُ:
يَعْرِفُونَهُ، جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، إِمَّا مِنَ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي آتَيْنَاهُمْ، أَوْ مِنَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ، لِأَنَّ فِي يَعْرِفُونَهُ ضَمِيرَيْنِ يَعُودَانِ عَلَيْهِمَا. وَالظَّاهِرُ هُوَ الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ، لِاسْتِقْلَالِ الْكَلَامِ جُمْلَةً مُنْعَقِدَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَلِظَاهِرِ انْتِهَاءِ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَعْرِفُونَهُ عَائِدٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ، وَرَجَّحَهُ التَّبْرِيزِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: يَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً جَلِيَّةً، يُمَيِّزُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِالْوَصْفِ الْمُعَيِّنِ الْمُشَخِّصِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَاللَّفْظُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَجَازَ الْإِضْمَارُ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى السَّامِعِ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِضْمَارِ فِيهِ تَفْخِيمٌ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لشهرته وكونه علما معلوم بِغَيْرِ إِعْلَامٍ. انْتَهَى. وَأَقُولُ: لَيْسَ كَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُ إِضْمَارٌ قَبْلَ الذِّكْرِ: بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٨٩.
32
تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا ضَمَائِرُ خِطَابٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ. وَحِكْمَةٌ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَاخْتَرْنَاهُمْ لِتَحَمُّلِ الْعِلْمِ وَالْوَحْيِ، يَعْرِفُونَ هَذَا الَّذِي خَاطَبْنَاهُ فِي الْآيِ السَّابِقَةِ وَأَمَرْنَاهُ وَنَهَيْنَاهُ، لَا يَشُكُّونَ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَلَا فِي صِدْقِ أَخْبَارِهِ، بِمَا كَلَّفْنَاهُ مِنَ التَّكَالِيفِ الَّتِي مِنْهَا نُسِخَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ بِالْكَعْبَةِ، لِمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ وَنَعْتِهِ، وَالنَّصِّ عَلَيْهِ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَقَدِ اتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَتَبَيَّنَتْ حِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ. وَيُؤَيِّدُ كَوْنَ الضَّمِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ الْآيَةَ، فَكَيْفَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا عُمَرُ، لَقَدْ عَرَفْتُهُ حِينَ رَأَيْتُهُ، كَمَا أَعْرِفُ ابْنِي، وَمَعْرِفَتِي بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدُّ مِنْ مَعْرِفَتِي بِابْنِي. فَقَالَ عُمَرُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَقَدْ نَعَتَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِنَا، وَلَا أَدْرِي مَا يَصْنَعُ النِّسَاءُ. فَقَالَ عُمَرُ: وَفَّقَكَ اللَّهُ يَا ابْنَ سَلَامٍ فَقَدْ صَدَقْتَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْأَثَرُ مُخْتَصَرًا بِمَا يُرَادِفُ بَعْضَ أَلْفَاظِهِ وَيُقَارِبُهَا، وَفِيهِ: فَقَبَّلَ عُمَرُ رَأَسَهُ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ لِلرَّسُولِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ مَعْرِفَةُ الْوَجْهِ وَتَمَيُّزِهِ، لَا مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ النَّسَبِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَعْرِفُونَ صِدْقَهُ وَنُبُوَّتَهُ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ التَّحَوُّلُ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ أَيْضًا، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالرَّبِيعُ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: عَلَى الْعِلْمِ. وَقِيلَ: عَلَى كَوْنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ قَالَ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، فَإِنْ تَعَلَّقَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ حُصُولُهَا بِالرُّؤْيَةِ وَالْوَصْفِ، أَوْ بِالْقُرْآنِ، فَحَصَلَتْ مِنْ تَصْدِيقِ كِتَابِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَتِهِ، أَوْ بِالْقِبْلَةِ، أَوِ التَّحْوِيلِ، فَحَصَلَتْ بِخَبَرِ الْقُرْآنِ وَخَبَرِ الرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ بِالْخَوَارِقِ.
كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، الْكَافُ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ عِرْفَانًا مِثْلَ عِرْفَانِهِمْ. أَبْنَاءَهُمْ: أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَعْرِفَةِ الْمَحْذُوفِ، كَانَ التَّقْدِيرُ: يَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةً مُمَاثِلَةً لِمَعْرِفَةِ أَبْنَائِهِمْ. وَظَاهِرُ هَذَا التَّشْبِيهِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ أُرِيدَ بِهَا مَعْرِفَةُ الْوَجْهِ وَالصُّورَةِ، وَتَشْبِيهُهَا بِمَعْرِفَةِ الْأَبْنَاءِ يُقَوِّي ذَلِكَ، وَيُقَوِّي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، حَتَّى تَكُونَ الْمَعْرِفَتَانِ تَتَعَلَّقَانِ بِالْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، وَهُوَ آكَدُ فِي التَّشْبِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ وَقَعَ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ مُتَعَلِّقُهَا الْمَعْنَى، وَمَعْرِفَةٍ مُتَعَلِّقُهَا
33
الْمَحْسُوسُ. وَظَاهِرُ الْأَبْنَاءِ الِاخْتِصَاصُ بِالذُّكُورِ، فَيَكُونُونَ قَدْ خُصُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مُبَاشَرَةً وَمُعَاشَرَةً لِلْآبَاءِ، وَأَلْصَقُ وَأَعْلَقُ بِقُلُوبِ الْآبَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَبْنَاءِ: الْأَوْلَادُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ. وَكَانَ التَّشْبِيهُ بِمَعْرِفَةِ الْأَبْنَاءِ آكَدَ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْأَنْفُسِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُرُّ عَلَيْهِ بُرْهَةٌ مِنَ الزَّمَانِ لَا يَعْرِفُ فِيهَا نَفْسَهُ، بِخِلَافِ الْأَبْنَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَمُرُّ عَلَيْهِ زَمَانٌ إِلَّا وَهُوَ يَعْرِفُ ابْنَهُ.
وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ: أَيْ مِنَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ، وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، مِنْ عُلَمَاءِ اليهود والنصارى، عَلَى أَحْسَنِ التَّفَاسِيرِ فِي الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَذَا الْفَرِيقِ جُهَّالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ «١»، لِلْإِخْبَارِ عَنْ هَذَا الْفَرِيقِ أَنَّهُمْ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ عَالِمُونَ بِهِ، وَلِوَصْفِ الْأُمِّيِّينَ هُنَاكَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ.
وَالْحَقُّ الْمَكْتُومُ هُنَا هُوَ نَعْتُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَوْ أَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْقِبْلَةُ، أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ حَقٍّ.
وَهُمْ يَعْلَمُونَ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ عَالِمَيْنِ بِأَنَّهُ حَقٌّ. وَيَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُؤَكِّدَةً، لِأَنَّ لَفْظَ يَكْتُمُونَ الْحَقَّ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ بِهِ، لِأَنَّ الْكَتْمَ هُوَ إِخْفَاءٌ لِمَا يُعْلَمُ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْعِلْمِ هُوَ مَا عَلَى الْكَاتِمِ مِنَ الْعِقَابِ، أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْعِقَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَى كَاتِمِ الْحَقِّ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ حَالًا مُبَيِّنَةً.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ: قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ الْحَقِّ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ هُوَ مِنْ رَبِّكَ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَقِّ الْمَكْتُومِ، أَيْ مَا كَتَمُوهُ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَيَكُونُ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يَعْرِفُونَهُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحَقِّ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ الرَّسُولُ، أَوِ الْحَقُّ الَّذِي كَتَمُوهُ، أَوْ لِلْجِنْسِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنْ غَيْرِهِ، أَيْ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَقٌّ فَهُوَ مِنَ اللَّهِ، كَالَّذِي عَلَيْهِ الرَّسُولُ، وَمَا لَمْ تَثْبُتْ حَقِيقَتُهُ، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ، كَالْبَاطِلِ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب: الْحَقَّ بِالنَّصْبِ،
وَأُعْرِبَ بِأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ الْمَكْتُومِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يَكْتُمُونَ الْحَقَّ مِنْ رَبِّكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ عَلَى أَنْ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٧٨.
34
يَكُونَ مَعْمُولًا لِيَعْلَمُونِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَكُونُ مِمَّا وقع فبه الظَّاهِرُ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ، أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَهُ كَائِنًا مِنْ رَبِّكَ، وَذَلِكَ سَائِغٌ حَسَنٌ فِي أَمَاكِنِ التَّفْخِيمِ وَالتَّهْوِيلِ، كَقَوْلِهِ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ أَيْ يَسْبِقُهُ شَيْءٌ. وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْزَمِ الْحَقَّ مِنْ رَبِّكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بَعْدَهُ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْأُمَّةُ. وَدَلَّ الْمُمْتَرِينَ عَلَى وُجُودِهِمْ، وَنَهَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، وَالنَّهْيُ عَنْ كَوْنِهِ مِنْهُمْ أَبْلَغَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ. فَقَوْلُكَ: لَا تَكُنْ ظَالِمًا، أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: لَا تَظْلِمْ، لِأَنَّ لَا تَظْلِمْ نَهْيٌ عَنِ الِالْتِبَاسِ بِالظُّلْمِ. وَقَوْلُكُ: لَا تَكُنْ ظَالِمًا نَهْيٌ عَنِ الْكَوْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْكَوْنِ عَلَى صِفَةٍ، أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ، إِذِ النَّهْيُ عَنِ الْكَوْنِ عَلَى صِفَةٍ يَدُلُّ بِالْوَضْعِ عَلَى عُمُومِ الْأَكْوَانِ الْمُسْتَقْبِلَةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عُمُومُ تِلْكَ الصِّفَةِ. وَالنَّهْيُ عَنِ الصِّفَةِ يَدُلُّ بِالْوَضْعِ عَلَى عُمُومِ تِلْكَ الصِّفَةِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومٍ، وَيَسْتَلْزِمُ عُمُومًا، وَبَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومٍ فَقَطْ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَبْلَغَ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ النَّهْيُ عَنِ الْكَوْنِ. قَالَ تَعَالَى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «١»، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ «٢». وَالْكَيْنُونَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ مُتَعَلِّقَ النَّهْيِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَظْلِمْ فِي كُلِّ أَكْوَانِكَ، أَيْ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ أَكْوَانِكَ، فَلَا يَمُرُّ بِكَ وَقْتٌ يُوجَدُ فِيهِ مِنْكَ ظُلْمٌ، فَتَصِيرُ كَانَ فِيهِ نَصًّا عَلَى سَائِرِ الْأَكْوَانِ، بِخِلَافِ لَا تَظْلِمْ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْأَكْوَانَ. وَأَكَّدَ النَّهْيَ بِنُونِ التَّوْكِيدِ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ، وَكَانَتِ الْمُشَدَّدَةُ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي التَّأْكِيدِ مِنَ الْمُخَفَّفَةِ. وَالْمَعْنَى: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ يَشُكُّونَ فِي الْحَقِّ، لِأَنَّ مَا جَاءَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ شَكٌّ وَلَا جِدَالٌ، إِذْ هُوَ الْحَقُّ الْمَحْضُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَ فِيهِ رَيْبَ وَلَا شك.
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
، لَمَّا ذَكَرَ الْقِبْلَةَ الَّتِي أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا، وَهِيَ الْكَعْبَةُ، وَذَكَرَ مِنْ تَصْمِيمِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى عَدَمِ اتِّبَاعِهَا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ طَائِفَتِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مُصَمِّمَةٌ عَلَى عَدَمِ اتِّبَاعِ صَاحِبِهَا، أَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ بِفِعْلِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُقَدِّرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ هُوَ مُوَجِّهُ كُلٍّ مِنْهُمْ إِلَى قِبْلَتِهِ. فَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ، إِذْ وَفَّقَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ وَاخْتَارَهُمْ لِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلِكُلٍّ: مَنَّوْنًا، وِجْهَةٌ: مَرْفُوعًا،
(١) سورة يونس: ١٠/ ٩٥. [.....]
(٢) سورة هود: ١١/ ١٧.
35
هُوَ مُوَلِّيهَا: بِكَسْرِ اللَّامِ اسْمُ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: هُوَ مُوَلَّاهَا، بِفَتْحِ اللَّامِ اسْمُ مَفْعُولٍ وَهِيَ، قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ قَوْمٌ شَاذًّا: وَلِكُلِّ وِجْهَةٍ، بِخَفْضِ اللَّامِ مِنْ كُلِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وِجِهَةٍ: بِالْخَفْضِ مَنَّوْنًا عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٍّ تَنْوِينُ عِوَضٍ مِنَ الْإِضَافَةِ، وَذَلِكَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ كُلٍّ الْمَحْذُوفُ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ. فَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ أَهْلِ صَقْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وِجْهَةٌ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْآفَاقِ، إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، وَرَاءَهَا وَقُدَّامَهَا، وَيَمِينَهَا وَشِمَالَهَا، لَيْسَتْ جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِهَا بِأَوْلَى أَنْ تَكُونَ قِبْلَةً مِنْ غَيْرِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ نَبِيٍّ قِبْلَةٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ مَلَكٍ وَرَسُولٍ صَاحِبِ شَرِيعَةٍ جِهَةُ قِبْلَةٍ، فَقِبْلَةُ الْمُقَرَّبِينَ الْعَرْشُ، وَقِبْلَةُ الرُّوحَانِيِّينَ الْكُرْسِيُّ، وَقِبْلَةُ الْكُرُوبِيِّينَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَقِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَقِبْلَتُكَ الْكَعْبَةُ، وَقَدِ انْدَرَجَ فِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِوَجْهِهِ: قِبْلَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ، قَرَأَ:
وَلِكُلٍّ قِبْلَةٌ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا قِبْلَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: وِجْهَةً: طَرِيقَةً، كَمَا قَالَ:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «١»، أَيْ لِكُلِّ نَبِيٍّ طَرِيقَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وِجْهَةً: أَيْ صَلَاةً يُصَلُّونَهَا، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ مُوَلِّيهَا عَائِدٌ عَلَى كُلٍّ عَلَى لَفْظِهِ، لَا عَلَى مَعْنَاهُ، أَيْ هُوَ مُسْتَقْبِلُهَا وَمُوَجِّهٌ إِلَيْهَا صَلَاتَهُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي لِمُوَلِّيهَا مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ هُوَ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ أَوْ نَفْسَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالرَّبِيعُ، وَيُؤَيِّدُ أَنَّ هُوَ عَائِدٌ عَلَى كُلِّ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: هُوَ مُوَلَّاهَا. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ، أَيِ اللَّهُ مُوَلِّيهَا إِيَّاهُ، اتَّبَعَهَا مَنِ اتَّبَعَهَا وَتَرَكَهَا مَنْ تَرَكَهَا. فَمَعْنَى هُوَ مُوَلِّيهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: شَارِعُهَا وَمُكَلِّفُهُمْ بِهَا. وَالْجُمْلَةُ مِنَ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِوِجْهَةٍ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: وَلِكُلِّ وِجْهَةٍ عَلَى الْإِضَافَةِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: هِيَ خَطَأٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْدَمَ عَلَى الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ بِالْخَطَأِ، لَا سِيَّمَا وَهِيَ مَعْزُوَّةٌ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ، أَحَدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ وُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَعْنَى: وَلِكُلِّ وِجْهَةٍ اللَّهُ مُوَلِّيهَا، فَزِيدَتِ اللَّامُ لِتَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ، كَقَوْلِكَ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ، وَلِزَيْدٍ أَبُوهُ ضَارِبُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعَامِلَ إِذَا تَعَدَّى لِضَمِيرِ الِاسْمِ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى ظَاهِرِهِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ. لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتُهُ، وَلَا: لِزَيْدٍ أَنَا ضَارِبُهُ. وَعَلَيْهِ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا تَعَدَّى لِلضَّمِيرِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. كَانَ قَوِيًّا، وَاللَّامُ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الظَّاهِرِ إِذَا تَقَدَّمَ لِيُقَوِّيَهُ لِضَعْفِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ مُتَقَدِّمًا، ولا يمكن أن
(١) سورة المائدة: ٥/ ٤٨.
36
يَكُونَ الْعَامِلُ قَوِيًّا ضَعِيفًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ النَّحْوِيُّونَ قَوْلَهُ هَذَا:
سُرَاقَةُ لِلْقُرْآنِ يَدْرُسُهُ وَلَيْسَ نَظِيرَ مَا مَثَّلَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ، أَيْ زَيْدًا ضَرَبْتُ، لِأَنَّ ضَرَبْتُ فِي هَذَا الْمِثَالِ لَمْ يَعْمَلْ فِي ضَمِيرِ زَيْدٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ عَامِلٌ فِي لِكُلِّ وِجْهَةٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ مُوَلِّيهَا، كَتَقْدِيرِنَا زَيْدًا أَنَا ضَارِبُهُ، أَيْ أَضْرِبُ زَيْدًا أَنَا ضَارِبُهُ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، لِأَنَّ الْمُشْتَغَلَ عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَرَّ بِحَرْفِ الْجَرِّ. تَقُولُ: زَيْدًا مَرَرْتُ بِهِ، أَيْ لَابَسْتُ زَيْدًا، وَلَا يَجُوزُ: بِزَيْدٍ مَرَرْتُ بِهِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ مَرَرْتُ بِهِ، بَلْ كُلُّ فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، إِذَا تَسَلَّطَ عَلَى ضَمِيرِ اسْمٍ سَابِقٍ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ، فَلَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ السَّابِقِ أَنْ يُجَرَّ بِحَرْفِ جَرٍّ، وَيُقَدَّرُ ذَلِكَ الْفِعْلِ لِيَتَعَلَّقَ بِهِ حَرْفُ الْجَرِّ، بَلْ إِذَا أَرَدْتَ الِاشْتِغَالَ نَصَبْتَهُ، هَكَذَا جَرَى كَلَامُ الْعَرَبِ. قَالَ تَعَالَى: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً «١». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَثَعْلَبَةَ الْفَوَارِسِ أَمْ رَبَاحًا عَدَلْتَ به طُهَيَّةَ وَالْخِشَابَا
وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ: لِزَيْدٍ أَبُوهُ ضَارِبُهُ، فَتَرْكِيبٌ غَيْرُ عَرَبِيٍّ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا تَتَوَجَّهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ وِجْهَةٍ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِمُوَلِّيهَا، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ مُوَلٍّ، وَهُوَ الْهَاءُ، وَتَكُونُ عَائِدَةٌ عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَاتِ وَالطَّوَائِفِ، وَأَنَّثَ عَلَى مَعْنَى الطَّوَائِفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَكُلُّ وِجْهَةٍ اللَّهُ مُوَلِّي الطَّوَائِفَ أَصْحَابَ الْقِبْلَاتِ؟ فالجواب: أنه منع من هَذَا التَّقْدِيرَ نَصُّ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ إِلَى وَاحِدٍ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ اللَّامُ عَلَى مَفْعُولِهِ، إِذَا تَقَدَّمَ. أَمَّا مَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا اللَّامُ إِذَا تَقَدَّمَ، وَلَا إِذَا تَأَخَّرَ. وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ. وَمُوَلٍّ هُنَا اسم فاعل من فعل يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ هَذَا التَّقْدِيرُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: أَيْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ لِكُلِّ وُجْهَةٍ وَلَاكِمُوهَا، وَلَا تَعْتَرِضُوا فِيمَا أَمَرَكُمْ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، أَيْ إِنَّمَا عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ فِي الْجَمِيعِ. وَقَدَّمَ قَوْلَهُ: لِكُلِّ وِجْهَةٍ عَلَى الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، لِلِاهْتِمَامِ بِالْوِجْهَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ.
انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَهُوَ تَوْجِيهٌ لَا بأس به.
(١) سورة الإنسان: ٧٦/ ٣١.
37
سْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
: هَذَا أَمْرٌ بِالْبِدَارِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَنَاسَبَ هَذَا أَنَّ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ شَرِيعَةً، أَوْ قِبْلَةً، أَوْ صَلَاةً، فَيَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَيْهَا. قَالَ قَتَادَةُ:
الِاسْتِبَاقُ فِي أَمْرِ الْكَعْبَةِ رَغْمًا لِلْيَهُودِ بِالْمُخَالَفَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ: سَارِعُوا إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَاسْتَبِقُوا الْفَاضِلَاتِ مِنَ الْجِهَاتِ، وَهِيَ الْجِهَاتُ الْمُسَامِتَةُ لِلْكَعْبَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ. وَذَكَرْنَا أَنَّ اسْتَبِقْ بِمَعْنَى: تَسَابَقْ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ. إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ «١»، أَيْ نَتَسَابَقُ، كَمَا تَقُولُ.
تَضَارَبُوا. وَاسْتَبَقَ لَا يَتَعَدَّى، لِأَنَّ تَسَابَقَ لَا يَتَعَدَّى، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ، إِذَا بَنَيْتَ مِنْ لَفْظٍ، مَعْنَاهُ: تَفَاعَلَ لِلِاشْتِرَاكِ، صَارَ لَازِمًا، تَقُولُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، ثُمَّ تَقُولُ: تَضَارَبْنَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ إِلَى هُنَا مَحْذُوفَةٌ، التَّقْدِيرُ: فَاسْتَبِقُوا إِلَى الْخَيْرَاتِ. قَالَ الرَّاعِي:
ثَنَائِي عَلَيْكُمْ آلَ حَرْبٍ وَمَنْ يَمِلْ سِوَاكُمْ فَإِنِّي مُهْتَدٍ غَيْرُ مَائِلِ
يُرِيدُ وَمَنْ يَمِلْ إلى سواكم يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
: هَذِهِ جُمْلَةٌ تَتَضَمَّنُ وَعْظًا وَتَحْذِيرًا وَإِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ، ومعنى: أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
: أَيْ يَبْعَثُكُمْ وَيَحْشُرُكُمْ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَأَنْتُمْ لَا تُعْجِزُونَهُ، وَافَقْتُمْ أَمْ خَالَفْتُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: أَيْنَمَا تَكُونُوا مِنَ الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا، أَيْ يَجْمَعُكُمْ وَيَجْعَلُ صَلَاتَكُمْ كُلَّهَا إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَأَنَّكُمْ تُصَلُّونَ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الحرام، قاله الزمخشري. نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَسِيقَتْ بَعْدَ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ لَا يُسْتَبْعَدُ إِتْيَانُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَشْلَاءِ الْمُتَمَزِّقَةِ فِي الْجِهَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَإِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنَاتِ، وَهَذَا مِنْهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِأَنْ تَجِيءُ كَالْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهَا، فَكَانَ الْمَعْنَى: إِتْيَانُ اللَّهِ بِكُمْ جَمِيعًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لِكُلٍّ وِجْهَةً يَتَوَلَّاهَا، أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُوَلِّيَ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ أَيْ مَكَانٍ خَرَجَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْمَدِينَةِ.
فَبَيَّنَ بِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي تَسَاوِي الْحَالَيْنِ إِقَامَةً وَسَفَرًا فِي أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، ثُمَّ عَطَفَ عليه: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، ليبين مساواتهم له فِي ذَلِكَ، أَيْ فِي
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١٧.
38
حَالَةِ السَّفَرِ، وَالْأُولَى فِي حَالَةِ الْإِقَامَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ: وَمِنْ حَيْثُ بِالْفَتْحِ، فَتَحَ تَخْفِيفًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي حَيْثُ فِي قَوْلِهِ: حَيْثُ شِئْتُما.
وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ: هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ اسْتِقْبَالَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ هُوَ الْحَقُّ، أَيِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا يَعْرِضُ لَهُ نَسْخٌ وَلَا تَبْدِيلٌ. وَفِي الْأَوَّلِ قَالَ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، حَيْثُ كَانَ الْكَلَامُ مَعَ سُفَهَائِهِمُ الَّذِينَ اعْتَرَضُوا فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا: أَنَّ علماءهم يَعْلَمُونَ أَنَّ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَخَتَمَ آخَرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا خَتَمَ بِهِ آخِرَ تِلْكَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فِي امْتِثَالِ هَذَا التَّكْلِيفِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ التَّحْوِيلُ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، وَذَلِكَ هُوَ مَحْضُ التَّعَبُّدِ.
فَالْجِهَاتُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَارِئِ تَعَالَى مُسْتَوِيَةٌ، فَكَوْنُهُ خَصَّ بِاسْتِقْبَالِ هَذِهِ زَمَانًا، وَنَسَخَ ذَلِكَ بِاسْتِقْبَالِ جِهَةٍ أُخْرَى مُتَأَبِّدَةٍ، لَا يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ فِي بَادِي الرَّأْيِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَبُّدٌ مَحْضٌ. فَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ إِلَّا امْتِثَالُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، بَلْ هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَيْهَا، الْمُجَازِي بِالثَّوَابِ مَنِ امْتَثَلَ أَمْرَهُ، وَبِالْعِقَابِ مَنْ خَالَفَهُ. وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فِي الْمَكَانَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ فِي الْمَكَانَيْنِ، فَحَيْثُ نَبَّهَ عَلَى اسْتِدْلَالِ حِكْمَتِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى أَفْعَالِهِ، ذَكَرَ الرَّبَّ الْمُقْتَضِي لِلنِّعَمِ، لِنَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى الْمُنْعِمِ، وَنَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِكْرِ الْوَعِيدِ، ذَكَرَ لَفْظَ اللَّهِ الْمُقْتَضِي لِلْعِبَادَةِ الَّتِي مَنْ أَخَلَّ بِهَا اسْتَحَقَّ أَلِيمَ الْعَذَابِ.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا كُرِّرَتْ تَوْكِيدًا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا فَقَطْ، لَا أَنَّ ذَلِكَ تَوْكِيدٌ لِلْآيَةِ الْأُولَى، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الأولى فِي الْإِقَامَةِ، وَالثَّانِيَةَ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَهِيَ فِي السَّفَرِ، فَهِيَ تَأْكِيدٌ لِلثَّانِيَةِ. وَحِكْمَةُ هَذَا التَّأْكِيدِ تَثْبِيتُ هَذَا الْحُكْمِ، وَتَقْرِيرُ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ مِنْ مَظَانِّ الْفِتْنَةِ وَالشُّبْهَةِ وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لِلطَّعْنِ فِي تَبْدِيلِ قِبْلَةٍ بِقِبْلَةٍ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ صَعْبًا عَلَيْهِمْ، فَأَكَّدَ بِذَلِكَ أَمْرَ النَّسْخِ وَثَبَّتَ. وَكَانَ التَّأْكِيدُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ بِتَكْرِيرِ هَذِهِ الْجُمَلِ مَرَّتَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ الْمَعْهُودُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَهُوَ أَنْ تُعَادَ الْجُمْلَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: كُرِّرَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ، لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كُلُّ أَحَدٍ، فَكَانَ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ لَوْ لَمْ يُكَرِّرْ. وَهَذَا الْمَعْنَى فِي التَّكْرِيرِ يُرْوَى عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وقع التَّكْرِيرُ فِي الْقِصَصِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ أَوَّلَ الْوَقَائِعِ الَّتِي ظَهَرَ النَّسْخُ فِيهَا فِي شَرْعِنَا، كُرِّرَتْ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ وَإِزَالَةِ
39
الشُّبْهَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُخَصَّصَاتٍ تُخْرِجُهَا بِذَلِكَ عَنِ التَّأْكِيدِ. فَقِيلَ:
الْأُولَى مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلِّ وَجْهَكَ، نَسْخٌ لِلْقِبْلَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ، وَالثَّالِثَةُ لِلدَّوَامِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ. وَقِيلَ: الْأُولَى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالثَّانِيَةُ خَارِجُ الْمَسْجِدِ، وَالثَّالِثَةُ خَارِجُ الْبَلَدِ. وَقِيلَ: الْخُرُوجُ الْأَوَّلُ إِلَى مَكَانٍ تُرَى فِيهِ الْكَعْبَةُ، وَالثَّانِي إِلَى مَكَانٍ لَا تُرَى فِيهِ، فَسَوَّى بَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. وَقِيلَ: الْخُرُوجُ الْأَوَّلُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ السَّبَبِ، وَهُوَ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَالثَّانِي مُتَّصِلٌ بِانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ، وَهُوَ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالثَّانِي لِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ، وَالثَّالِثُ لِجَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُ وَهُوَ فِي الْبَلَدِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْبَلَدِ إِلَى أَقْطَارِ الْأَرْضِ، فَسَوَّى بَيْنِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ لِلْأَقْرَبِ حُرْمَةً لَا تَثْبُتُ لِلْأَبْعَدِ. وَقِيلَ: التَّخْصِيصُ حَصَلَ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ بِأَمْرٍ، فَالْأَوَّلُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَمْرَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ، حَتَّى أَنَّهُمْ شَاهَدُوا ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالثَّانِي فِيهِ شَهَادَةُ اللَّهِ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، وَالثَّالِثُ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، فَقَطَعَ بِذَلِكَ قَوْلَ الْمُعَانِدِينَ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ مَقْرُونٌ بِإِكْرَامِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالْقِبْلَةِ الَّتِي كَانُوا يُحِبُّونَهَا، وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ والسلام، بقوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
، أَيْ لِكُلِّ صَاحِبِ دَعْوَةِ قِبْلَةٌ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا، فَتَوَجَّهُوا أَنْتُمْ إِلَى أَشْرَفِ الْجِهَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهَا الْحَقُّ، وَالثَّالِثُ مَقْرُونٌ بِقَطْعِ اللَّهِ حُجَّةَ مَنْ خَاصَمَهُ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: رُبَّمَا خَطَرَ فِي بَالِ جَاهِلٍ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ ذَلِكَ لِرِضَا نَبِيِّهِ لِقَوْلِهِ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَأَزَالَ هَذَا الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، أَيْ مَا حَوَّلْنَاكَ لِمُجَرَّدِ الرِّضَا، بَلْ لِأَجْلِ أَنْ هَذَا التَّحْوِيلَ هُوَ الْحَقُّ، فَلَيْسَتْ كَقِبْلَةِ الْيَهُودِ الَّتِي يَتَّبِعُونَهَا بِمُجَرَّدِ الْهَوَى، ثُمَّ أَعَادَ ثَالِثًا، وَالْمُرَادُ: دُومُوا عَلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ. وَقِيلَ: كرر وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ، فَحَثَّ بِإِحْدَاهُمَا عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، فِي أَيْ مَكَانٍ كَانَ الْإِنْسَانُ، نَائِيًا كَانَ عَنْهَا، أَوْ دَانِيًا مِنْهَا، وَذَلِكَ فِي حَالِ التَّمَكُّنِ وَالِاخْتِيَارِ، وَحَثَّ بِالْأُخْرَى عَلَى التَّوَجُّهِ بِالْقَلْبِ نَحْوَهُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ فِي حَالَةِ الْمُسَابَقَةِ، وَفِي النَّافِلَةِ فِي حَالَةِ السَّفَرِ، وَعَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ.
لِئَلَّا يَكُونَ: هَذِهِ لَامُ كَيْ، وَأَنَّ بَعْدَهَا لَا النَّافِيَةُ، وَقَدْ حَجَزَ بِهَا بَيْنَ أَنْ وَمَعْمُولِهَا الَّذِي هُوَ يَكُونُ، كَمَا أَنَّهُمْ حَجَزُوا بِهَا بَيْنَ الْجَازِمِ وَالْمَجْزُومِ فِي قولهم: أن لَا تَفْعَلَ أَفْعَلُ.
وَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ: لَا مَا بَعْدَهَا يَاءٌ، بَعْدَهَا لَامُ أَلْفٍ، فَجَعَلُوا صُورَةً لِلْهَمْزَةِ الْيَاءَ، وَذَلِكَ
40
عَلَى حَسَبِ التَّخْفِيفِ الَّذِي قَرَأَ بِهِ نَافِعٌ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِبْدَالِ هَذِهِ الْهَمْزَةِ يَاءً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْقِيقِ: وَهَذِهِ أَنْ وَاجِبَةُ الْإِظْهَارِ هُنَا، لِكَرَاهَتِهِمُ اجْتِمَاعَ لَامِ الْجَرِّ مَعَ لَا النَّافِيَةِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَلَقًا فِي اللَّفْظِ، وَهِيَ جَائِزَةُ الْإِظْهَارِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِذَا أَثْبَتُوهَا، فَهُوَ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْأَقَلُّ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِذَا حَذَفُوهَا، فَلِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهَا ضَرُورَةَ أَنَّ اللَّامَ لَا تَكُونُ النَّاصِبَةَ، لِأَنَّهَا قَدْ ثَبَتَ لَهَا أَنْ تَعْمَلَ فِي الْأَسْمَاءِ الْجَرَّ، وَعَوَامِلُ الْأَسْمَاءِ لَا تَعْمَلُ فِي الْأَفْعَالِ.
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ: أَيِ احْتِجَاجٌ. وَالنَّاسُ: قِيلَ هُوَ عُمُومٌ فِي الْيَهُودِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: الْيَهُودُ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُمْ: يُخَالِفُنَا مُحَمَّدٌ فِي قِبْلَتِنَا، وَقَدْ كَانَ يَتْبَعُهَا، أَوْ لَمْ يَنْصَرِفْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ حَقٌّ إِلَّا بِرَأْيِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ، أَوْ مَا دَرَى مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَيْنَ قِبْلَتُهُمْ حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ. وَقِيلَ: مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُمْ: قَدْ رَجَعَ مُحَمَّدٌ إِلَى قِبْلَتِنَا، وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا حِينَ صَارَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ. وَقِيلَ: النَّاسُ عَامٌّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَقُومُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ إِلَّا حُجَّةً بَاطِلَةً، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: يُوَافِقُ الْيَهُودَ مَعَ قَوْلِهِ: إِنِّي حَنِيفٌ أَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ لَا يَقِينَ لَكُمْ وَلَا تَثْبُتُونَ عَلَى دِينٍ، أَوْ قَالُوا:
مَا لَكَ تَرَكْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ؟ إِنْ كَانَتْ ضَلَالَةً فَقَدْ دِنْتَ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ هُدًى فَقَدْ نَقَلْتَ عَنْهُ، أَوْ قَوْلُهُمُ: اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ وَدِينِ قَوْمِهِ، أَوْ قَوْلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ: إِنَّهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى قِبْلَةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، فَحَوَّلَهُ اللَّهُ، لِئَلَّا يَقُولُوا: نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ يَتَحَوَّلُ فَمَا تَحَوَّلَ، فَيَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ حُجَّةً، فَأَذْهَبَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ بِذَلِكَ. وَاللَّامُ فِي لِئَلَّا لَامُ الْجَرِّ، دَخَلَتْ عَلَى إِنْ وَمَا بَعْدَهَا فَتَتَقَدَّرُ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ لِانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ. وَتَتَعَلَّقُ هَذِهِ اللَّامُ، قِيلَ: بِمَحْذُوفٍ، أَيْ عَرَّفْنَاكُمْ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي قِبْلَتِكُمْ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يكون. وقيل: تتعلق بولوا، وَالْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَأْنِيثُهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَقَدْ حَسُنَ ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ بِمَجْرُورَيْنِ، فَسَهُلَ التَّذْكِيرُ جِدًّا، وَخَبَرُ كَانَ قوله: للناس، وعليكم: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِلْحُجَّةِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ عَلَيْهَا انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاحْتِجَاجِ، وَمَعْمُولُ الْمَصْدَرِ الْمُنْحَلِّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وَالْفِعْلِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى عَامِلِهِ. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْكُمْ بِحُجَّةٍ، هَكَذَا نَقَلُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكُمُ الْخَبَرَ، وَلِلنَّاسُ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ يَكُونُ، لِأَنَّ كَانَ النَّاقِصَةَ قَدْ تَعْمَلُ فِي الظَّرْفِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ.
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا جَعَلُوهَا أَدَاةَ اسْتِثْنَاءٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
41
وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ زَيْدٍ: أَلَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ لَامِ أَلَّا، إِذْ جَعَلُوهَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ وَالِاسْتِفْتَاحِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ يَكُونُ إِعْرَابُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مُبْتَدَأً، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِأَنَّهُ سَلَكَ بِالَّذِينَ مَسْلَكَ الشَّرْطِ، وَالْفِعْلُ الْمَاضِي الْوَاقِعُ صِلَةً هُوَ مُسْتَقْبَلُ. الْمَعْنَى: كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَظْلِمُ مِنَ النَّاسِ، فَلَا تَخَافُوا مَطَاعِنَهُمْ فِي قِبْلَتِكُمْ. وَاخْشَوْنِي: فَلَا تُخَالِفُوا أَمْرِي، وَلَوْلَا دُخُولُ الْفَاءِ لَتَرَجَّحَ نَصْبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، أَيْ لَا تَخْشَوُا الَّذِينَ ظَلَمُوا، لَا تَخْشَوْهُمْ، لَكِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فِي زِيَادَةِ الْفَاءِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يكون الذين نصبا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ عَلَى الْإِغْرَاءِ. وَنَقَلَ السَّجَاوَنْدِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ إِلَى الَّذِينَ، جَعَلَهَا حَرْفَ جَرٍّ، وَتَأَوَّلَهَا بِمَعْنَى مَعَ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ إِمْكَانًا حَسَنًا، كَانَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ حُجَّةً لِأَحَدٍ مِنَ الْيَهُودِ، إِلَّا لِلْمُعَانِدِينَ مِنْهُمُ الْقَائِلِينَ: مَا تَرَكَ قِبْلَتِنَا إِلَى الْكَعْبَةِ إِلَّا مَيْلًا إِلَى دِينِ قَوْمِهِ وَحَبًّا لِبَلَدِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ لَلَزِمَ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ حُجَّةٍ كَانَتْ تَكُونُ لِلْمُتَّصِفِينَ مِنْهُمْ لَوْ لَمْ يُحَوِّلْ حَتَّى احْتَرَزَ مِنْ تِلْكَ الْحُجَّةِ وَلَمْ يُبَالِ بِحُجَّةِ الْمُعَانِدِينَ؟ قُلْتُ: كَانُوا يَقُولُونَ: مَا لَهُ لَا يُحَوِّلُ إِلَى قِبْلَةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي نَعْتِهِ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَطْلَقَ اسْمَ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْلِ الْمُعَانِدِينَ؟ قُلْتُ:
لِأَنَّهُمْ يَسُوقُونَهُ سِيَاقَ الْحُجَّةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْحُجَّةَ الدَّاحِضَةَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي النَّازِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها اسْتِهْزَاءً، وَفِي قَوْلِهِمْ: تَحَيَّرَ مُحَمَّدٌ فِي دِينِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَمْ تَنْبَعِثْ إِلَّا مِنْ عَابِدِ وَثَنٍ، أَوْ مِنْ يَهُودِيٍّ، أَوْ مِنْ مُنَافِقٍ.
وَسَمَّاهَا تَعَالَى: حُجَّةً، وَحَكَمَ بِفَسَادِهَا حِينَ كَانَتْ مِنْ ظَلَمَةٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدِ اتَّضَحَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ اتِّصَالُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإِنَّهُمْ يَتَعَلَّقُونَ عَلَيْكُمْ بِالشُّبْهَةِ، يَضَعُونَهَا مَوْضِعَ الْحُجَّةِ، وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ. وَمَثَارُ الْخِلَافِ هُوَ: هَلِ الْحُجَّةُ هُوَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ الصَّحِيحُ؟ أَوِ الْحُجَّةُ هُوَ الِاحْتِجَاجُ وَالْخُصُومَةُ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ عَرَّفَكُمُ اللَّهُ أَمْرَ الِاحْتِجَاجِ فِي الْقِبْلَةِ فِي قَوْلِهِ تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، بِاحْتِجَاجِهِ فِيمَا قَدْ وَضَحَ لَهُ، كَمَا تَقُولُ: مَا لَكَ عَلَيَّ حُجَّةٌ إِلَّا
42
الظُّلْمَ، أَوْ إِلَّا أَنْ تَظْلِمَنِي، أَيْ مَا لَكَ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّكَ تَظْلِمُنِي. وَأَجَازَ قُطْرُبٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِئَلَّا تَثْبُتَ حُجَّةٌ لِلنَّاسِ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ، بِتَوْلِيَةِ وُجُوهِكُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ.
وَنَقَلَ السَّجَاوَنْدِيُّ أَنَّ قُطْرُبًا قَرَأَ: إِلَّا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَهُوَ بَدَلٌ أَيْضًا عَلَى إِظْهَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، كَقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ «١»، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِيهِ إِبْدَالَ الظَّاهِرِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، بَدَلَ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ. وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنَّ إِلَّا فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ:
مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ دَارُ الْخَلِيفَةِ إِلَّا دَارَ مَرْوَانَا
وَقَوْلُهُ:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ
التَّقْدِيرُ: عِنْدَهُ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا، وَدَارُ مَرْوَانَ وَالْفَرْقَدَانِ وَإِثْبَاتُ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ سَائِغٌ فِيمَا ادَّعَى فِيهِ أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَكَانَ أبو عبيدة يضعف في النَّحْوِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ عِنْدَ حُذَّاقِ النَّحْوِيِّينَ، وَأَضْعَفُ مِنْ هَذَا زَعْمُ مَنْ زَعْمُ أَنَّ إِلَّا بِمَعْنَى بَعْدَ، أَيْ بَعْدَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «٢»، أَيْ بَعْدَ مَا قَدْ سلف، وإِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «٣»، أَيْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى، وَلَوْلَا أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، مَا ذَكَرْتُهُمَا لِضَعْفِهِمَا. فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي: هَذَا فِيهِ تَحْقِيرٌ لِشَأْنِهِمْ، وَأَمْرٌ بِاطِّرَاحِهِمْ، وَمُرَاعَاةٌ لِأَمْرِهِ تَعَالَى. وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي فَلَا تَخْشَوْهُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّاسِ، أَيْ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أَيْ فَلَا تَخْشَوُا الظَّالِمِينَ.
وَنَهَى عَنْ خَشْيَتِهِمْ فِيمَا يُزَخْرِفُونَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ.
وَأَمَرَ بِخَشْيَتِهِ هُوَ فِي تَرْكِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَلَا تَخْشَوْهُمْ فِي الْمُبَايَنَةِ، وَاخْشَوْنِي فِي الْمُخَالَفَةِ، وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. وقد ذكرنا شَرْحَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي ذِكْرِ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَرِيبٍ مِنْ هَذَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَخْشَوْا أن
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٧٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢٢ و ٢٣.
(٣) سورة الدخان: ٤٤/ ٥٦.
43
أَرُدَّكُمْ فِي دِينِكُمْ وَاخْشَوْنِي، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يُسَاعِدُهُ قَوْلُهُ: فَلَا تَخْشَوْهُمْ. قَالَ بَعْضُهُمْ:
ذَكَرَ الْخَشْيَةَ هُنَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْخَوْفَ، لِأَنَّ الْخَشْيَةَ حَذَرٌ مِنْ أَمْرٍ قَدْ وَقَعَ، وَالْخَوْفُ حَذَرٌ مِنْ أَمْرٍ لَمْ يَقَعْ. وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ وَالِاسْتِعْمَالُ أَنَّ الْخَشْيَةَ وَالْخَوْفَ مُتَرَادِفَانِ، وَقَالَ تَعَالَى:
فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ «١»، كَمَا قَالَ هُنَا: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي.
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِئَلَّا يَكُونَ، وَكَانَ الْمَعْنَى: عَرَّفْنَاكُمْ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي قِبْلَتِكُمْ، وَالْحُجَّةُ لَكُمْ لِانْتِفَاءِ حُجَجِ النَّاسِ عَلَيْكُمْ، وَلِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ، فَيَكُونُ التَّعْرِيفُ مُعَلَّلًا بِهَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ، وَالْفَصْلُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَمَا بَعْدَهُ كَلَا فَصْلٍ، إِذْ هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْعِلَّةِ الْأُولَى. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، وَكِلَاهُمَا مَعْلُولُهُمَا الْخَشْيَةُ السَّابِقَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاخْشَوْنِي لِأُوَفِّقَكُمْ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مُؤَخَّرٍ، التَّقْدِيرُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عَرَّفْتُكُمْ قِبْلَتِي، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ. وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ بِمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْقِبْلَةِ، أَوْ بِمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ مِنْ ثَوَابِ الطَّاعَةِ، أَوْ بِمَا حَصَلَ لِلْعَرَبِ مِنَ الشَّرَفِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَوْ بِإِبْطَالِ حُجَجِ الْمُحْتَجِّينَ عَلَيْهِمْ، أَوْ بِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، أَوْ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ، أَوِ النِّعْمَةِ سُنَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْقُرْآنِ، وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسِّتْرِ، وَالْعَافِيَةِ، وَالْغِنَى عَنِ النَّاسِ أَوْ بِشَرَائِعِ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةٌ صَدَرَتْ مَصْدَرَ الْمِثَالِ، لَا مَصْدَرَ التَّعْيِينِ، وَكُلٌّ فِيهَا نِعْمَةٌ. وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ: تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي لَعَلَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجِيئِهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «٢»، فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَوَاقِعِهَا فِيهِ. وَالْمَعْنَى: لِتَكُونُوا عَلَى رَجَاءِ إِدَامَةِ هِدَايَتِي إِيَّاكُمْ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، أَوْ لِكَيْ تَهْتَدُوا إِلَى قِبْلَةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَالظَّاهِرُ رَجَاءُ الْهِدَايَةِ مُطْلَقًا.
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ: الْكَافُ هُنَا لِلتَّشْبِيهِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَاخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ، فَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ إِتْمَامًا مِثْلَ إِتْمَامِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ فِيكُمْ. وَمُتَعَلِّقُ الْإِتْمَامَيْنِ مُخْتَلِفٌ، فَالْإِتْمَامُ الْأَوَّلُ بِالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْإِتْمَامُ الثَّانِي بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْنَا فِي الدُّنْيَا. أَوِ الْإِتْمَامُ الْأَوَّلُ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ الْأُولَى لِإِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «٣»، وَالْإِتْمَامُ الثَّانِي بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ:
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ «٤»، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ اهْتِدَاءً مِثْلَ إِرْسَالِنَا
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٧٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢١.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٢٨.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١٢٩.
44
فِيكُمْ رَسُولًا، وَيَكُونُ تَشْبِيهُ الْهِدَايَةِ بِالْإِرْسَالِ فِي التَّحَقُّقِ وَالثُّبُوتِ، أَيِ اهْتِدَاءً ثَابِتًا متحققا، كتحقق إِرْسَالِنَا فِيكُمْ رَسُولًا، وَيَكُونُ تَشْبِيهُ الْهِدَايَةِ بِالْإِرْسَالِ فِي التَّحَقُّقِ وَالثُّبُوتِ، أَيِ اهْتِدَاءً ثَابِتًا مُتَحَقِّقًا، كَتَحَقُّقِ إِرْسَالِنَا وَثُبُوتِهِ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، أَيْ جَعْلًا مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ الْمُؤْذِنِ بِالِانْقِطَاعِ. وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ نِعْمَتِي، أَيْ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ مُشَبِّهَةً إِرْسَالَنَا فِيكُمْ رَسُولًا، أَيْ مُشَبِّهَةً نِعْمَةَ الْإِرْسَالِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَقِيلَ: الْكَافُ مُنْقَطِعَةٌ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَهَا، وَمُتَعَلِّقَةٌ بِالْكَلَامِ بَعْدَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا ذَكَرْتُكُمْ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ، فَاذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ. انْتَهَى.
فَيَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيِ اذْكُرُونِي ذِكْرًا مِثْلَ ذِكْرِنَا لَكُمْ بِالْإِرْسَالِ، ثُمَّ صَارَ مِثْلَ ذِكْرِ إِرْسَالِنَا، ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: كَمَا أَتَاكَ فُلَانٌ فَائْتِهِ بِكَرَمِكَ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَخْفَشِ وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ كَيْسَانَ وَالْأَصَمِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَلَى حَالَةٍ لَا تَقْرَءُونَ كِتَابًا، وَلَا تَعْرِفُونَ رَسُولًا، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْكُمْ، أَتَاكُمْ بِأَعْجَبِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فَقَالَ: «كَمَا أَوْلَيْتُكُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَجَعَلْتُهَا لَكُمْ دَلِيلًا، فَاذْكُرُونِي بِالشُّكْرِ، أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي»، وَيُؤَكِّدُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ «١». وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ يَظْهَرُ، وَهُوَ إِذَا عَلِقَتْ بِمَا بَعْدَهَا أَنْ، لَا تَكُونُ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ بَلْ لِلتَّعْلِيلِ، وَهُوَ مَعْنًى مَقُولٌ فِيهَا إِنَّهَا تُرَدُّ لَهُ وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «٢»، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا تَشْتُمُ النَّاسَ كَمَا لَا تُشْتَمُ أَيْ: وَاذْكُرُوهُ لِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ، وَلَا تَشْتُمِ النَّاسَ لِكَوْنِكَ لَا تُشْتَمُ، أَيِ امْتَنِعْ مِنْ شَتْمِ النَّاسِ لِامْتِنَاعِ النَّاسِ مِنْ شَتْمِكَ. وَمَا: فِي كَمَا، مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَرَسُولًا بَدَلٌ مِنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: كَالَّذِي أَرْسَلْنَاهُ رَسُولًا، إِذْ يَبْعُدُ تَقْرِيرُ هَذَا التَّقْدِيرِ مَعَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَمَعَ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَفِيهِ وُقُوعُ مَا عَلَى آحَادِ مَنْ يَعْقِلُ. وَكَذَلِكَ جَعَلَ مَا كَافَّةً، لِأَنَّهُ لَا يذهب إلى ذلك إلا حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْسَبِكَ مِنْهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ، لِوِلَايَتِهَا الْجُمَلَ الِاسْمِيَّةَ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٦٤.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٩٨.
45
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ كَمَا النَّشْوَانُ وَالرَّجُلُ الْحَلِيمُ
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ: كَمَا أَرْسَلْنَا، مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، قَدْ رَدَّهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: لِأَنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ لَهُ جَوَابٌ، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَا قَبْلَهُ لِاشْتِغَالِهِ بِجَوَابِهِ، قَالَ: لَوْ قُلْتُ كَمَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَأَكْرِمْنِي أُكْرِمْكَ، لَمْ تَتَعَلَّقِ الْكَافُ مِنْ كَمَا بِأَكْرِمْنِي، لِأَنَّ لَهُ جَوَابًا، وَلَكِنْ تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ آخَرَ، أَوْ بِمُضْمَرٍ، وَكَذَلِكَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، هُوَ أَمْرٌ لَهُ جَوَابٌ، فَلَا تَتَعَلَّقُ كَمَا بِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُجَاوَبُ بِجَوَابَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُكَ:
إِذَا أَتَاكَ فُلَانٌ فَائْتِهِ تُرْضِهِ، فَتَكُونُ كَمَا وَفَاذْكُرُونِي جَوَابَيْنِ لِلْأَمْرِ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ.
وَتَقُولُ: كَمَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَأَكْرِمْنِي، يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ الْكَافَ مُتَعَلِّقَةً بِأَكْرِمْنِي، إِذْ لَا جَوَابَ لَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَرَجَّحَ مَكِّيٌّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وهو: لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ، لِأَنَّ سِيَاقَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِبَيَانِ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا أَجَبْنَا دَعْوَتَهُ فِيكُمْ، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَكِّيٌّ مِنْ إِبْطَالِ أَنْ، تَكُونَ كَمَا مُتَعَلِّقَةً بِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْكَافَ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلتَّشْبِيهِ، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ. فَإِنْ كَانَتْ لِلتَّشْبِيهِ، فَتَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ تَقَدُّمُ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفِعْلِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَكْرِمْنِي إِكْرَامًا مِثْلَ إِكْرَامِي السَّابِقِ لَكَ أُكْرِمُكَ، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ هَذَا الْمَصْدَرِ. وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ، فَيَجُوزُ أَيْضًا تَقَدُّمُ ذَلِكَ عَلَى الْفِعْلِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَكْرِمْنِي لِإِكْرَامِي لَكَ أُكْرِمْكَ، لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ هَذَا الْمَصْدَرِ وَهَذِهِ الْعِلَّةِ عَلَى الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِيهِمَا، وَتَجْوِيزُ مَكِّيٍّ ذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُجَاوِبُ بِجَوَابَيْنِ وَتَسْمِيَتُهُ، كَمَا وَفَاذْكُرُونِي جَوَابَيْنِ لِلْأَمْرِ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ كَمَا لَيْسَ بِجَوَابٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ التَّشْبِيهَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُشْبِهُ الْجَوَابَ، وَكَذَلِكَ التَّعْلِيلُ. أَمَّا الْمَصْدَرُ التَّشْبِيهِيُّ، فَهُوَ وَصْفٌ فِي الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَلَيْسَ مُتَرَتَّبًا عَلَى وُقُوعِ مُطْلَقِ الْفِعْلِ، بَلْ لَا يَقَعُ الْفِعْلُ إِلَّا بِذَلِكَ الْوَصْفِ. وَعَلَى هَذَا لَا يُشْبِهُ الْجَوَابَ، لِأَنَّ الْجَوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى نَفْسِ وُقُوعِ الْفِعْلِ.
وَأَمَّا التَّعْلِيلُ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ، بَلِ الْفِعْلُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ نَقِيضُ الجواب، لِأَنَّ الْجَوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ، وَالْعِلَّةُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ نَقِيضُ الْجَوَابِ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ، وَالْعِلَّةُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهَا وُجُودُ الْفِعْلِ، فَلَا تَشْبِيهَ بَيْنِهِمَا، وَإِنَّمَا يُخْدَشُ عِنْدِي فِي تَعَلُّقِ كَمَا بِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُونِي، هُوَ الْفَاءُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، وَلَوْلَا الْفَاءُ لَكَانَ التَّعَلُّقُ وَاضِحًا، وَتَبْعُدُ زِيَادَةُ الْفَاءِ. فَبِهَذَا يَظْهَرُ تَعَلُّقُ كَمَا بِمَا قَبْلَهَا، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهُ إِتْمَامِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْهِدَايَةِ لِاسْتِقْبَالِ قِبْلَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ.
46
وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَدَلُّ الدَّلَائِلِ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ السَّابِقَةِ، بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ الْمُتَّصِفِ بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ إِلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَصَفَهُ تَعَالَى بِهَا، وَجَعَلَ ذَلِكَ إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ ثانيا أمر لا يزداد عَلَيْهِ شَيْءٌ يَنْسَخُهُ، فَهِيَ آخِرُ الْقِبْلَاتِ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ. كَمَا أَنَّ إِرْسَالَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ آخِرُ إِرْسَالَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. فَشَبَّهَ إِتْمَامَ تِلْكَ النِّعْمَةِ، الَّتِي هِيَ كَمَالُ نِعْمَةِ اسْتِقْبَالِ الْقِبَلِ، بِهَذَا الْإِتْمَامِ الَّذِي هُوَ كَمَالُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَفِي إِتْمَامِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ عِزُّ لِلْعَرَبِ، وَشَرَفٌ وَاسْتِمَالَةٌ لِقُلُوبِهِمْ، إِذْ كَانَ الرَّسُولُ مِنْهُمْ، وَالْقِبْلَةُ الَّتِي يستقبلونها في الصلاة بيتهم الَّذِي يَحُجُّونَهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ويعظمونه.
رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ: فِيهِ اعْتِنَاءٌ بِالْعَرَبِ، إِذْ كَانَ الْإِرْسَالُ فِيهِمْ، وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ رِسَالَتُهُ عَامَّةً. وَكَذَلِكَ جَاءَ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ «١»، وَيُشْعِرُ هَذَا الِامْتِنَانُ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ أَنْ يُرْسَلَ وَلَا يُبْعَثَ فِي الْعَرَبِ رَسُولٌ غَيْرُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلِذَلِكَ أَفْرَدَهُ فَقَالَ: رَسُولًا مِنْهُمْ «٢»، وَوَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ كُلُّهَا مُعْجِزٌ لَهُمْ، وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْهُمْ، وَتَالِيًا عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ، وَمُعَلِّمًا لَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَمَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ. وَقَدَّمَ كَوْنَهُ مِنْهُمْ، أَيْ يَعْرِفُونَهُ شَخْصًا وَنَسَبًا وَمَوْلِدًا وَمَنْشَأً، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ ذَاتِ الشَّخْصِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا يَصْدُرُ مِنْ أَفْعَالِهِ. وَأَتَى ثَانِيًا بِصِفَةِ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا هِيَ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ، الْبَاقِيَةُ إِلَى الْأَبَدِ.
وَأَضَافَ الْآيَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمِنْ تِلَاوَتِهِ تُسْتَفَادُ الْعِبَادَاتُ وَمَجَامِعُ الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَتَنْبُعُ الْعُلُومُ. وَأَتَى ثَالِثًا بِصِفَةِ التَّزْكِيَةِ، وَهِيَ التَّطْهِيرُ مِنْ أَنْجَاسِ الضلال، لأن ذلك ناشىء عَنْ إِظْهَارِ الْمُعْجِزِ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى تَوْفِيقَهُ وَقَبُولَهُ لِلْحَقِّ. وَأَتَى رَابِعًا بِصِفَةِ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، لأن ذلك ناشىء عَنْ تَطْهِيرِ الْإِنْسَانِ، بِاتِّبَاعِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَيُعَلِّمُهُ إِذْ ذَاكَ وَيُفْهِمُهُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ. وَأَتَى بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّجَدُّدِ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ وَالتَّزْكِيَةَ وَالتَّعْلِيمَ تَتَجَدَّدُ دَائِمًا. وَأَمَّا الصِّفَةُ الْأَوْلَى، وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ بِمُتَجَدِّدَةٍ، بَلْ هُوَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ «٣» بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا، فَلْيُنْظَرْ هناك.
(١) سورة الجمعة: ٦٢/ ٢. [.....]
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٢٩.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٢٩.
47
وَخَتَمَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَهُوَ ذِكْرُ عَامٍّ بَعْدَ خَاصٍّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَلَا الْحِكْمَةَ. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ: قَصَصُ مَنْ سَلَفَ، وَقَصَصُ مَا يَأْتِي مِنَ الْغُيُوبِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدَّمَ التَّزْكِيَةَ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَفِي دُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ قَدَّمَ التَّعْلِيمَ عَلَى التَّزْكِيَةِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِالتَّزْكِيَةِ.
فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ التَّطْهِيرُ مِنَ الْكُفْرِ، كَمَا شَرَحْنَاهُ، وَهُنَاكَ هُوَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُمْ خِيَارٌ أَزْكِيَاءُ، وَذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَعْلِيمِ الشَّرَائِعِ وَالْعَمَلِ بِهَا. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ: أَيِ اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ، أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ بِالدُّعَاءِ وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَقُولُ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ سَاعَةً، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ سَاعَةً، وَأَنَا أَكْفِيكَ مَا بَيْنَهُمَا، أَوِ اثْنُوا عَلَيَّ، أُثْنِ عَلَيْكُمْ.
وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ».
وَفِيهِ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: «يُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ».
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مضاف، أي اذْكُرُوا نِعْمَتِي أَذْكُرْكُمْ بِالزِّيَادَةِ. وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِالنِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ. وَقِيلَ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ عِنْدَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَقِيلَ: اذْكُرُونِي بِتَوْحِيدِي وَتَصْدِيقِ نَبِيِّي. وَقِيلَ: بِمَا فَرَضْتُ عَلَيْكُمْ، أَوْ نَدَبْتُكُمْ إِلَيْهِ، أَذْكُرْكُمْ، أَيْ أُجَازِكُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدٍ، فَاذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ. وَقِيلَ:
فَاذْكُرُونِي فِي الرَّخَاءِ بِالطَّاعَةِ وَالدُّعَاءِ، أَذْكُرْكُمْ فِي الْبَلَاءِ بِالْعَطِيَّةِ وَالنَّعْمَاءِ، قَالَهُ ابْنُ بحر.
وَقِيلَ: اذْكُرُونِي بِالسُّؤَالِ أَذْكُرْكُمْ بِالنَّوَالِ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالتَّوْبَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالْعَفْوِ عَنِ الْحَوْبَةِ، أَوِ اذْكُرُونِي فِي الدُّنْيَا أَذْكُرْكُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَوِ اذْكُرُونِي فِي الْخَلَوَاتِ أَذْكُرْكُمْ فِي الْفَلَوَاتِ، أَوِ اذْكُرُونِي بِمَحَامِدِي أَذْكُرْكُمْ بِهِدَايَتِي، أَوِ اذْكُرُونِي بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ أَذْكُرْكُمْ بِالْخَلَاصِ وَمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالْمُوَافَقَاتِ أَذْكُرْكُمْ بِالْكَرَامَاتِ، أَوِ اذْكُرُونِي بِتَرْكِ كُلِّ حَظٍّ أَذْكُرْكُمْ بِأَنْ أُقِيمَكُمْ بِحَقِّي بَعْدَ فَنَائِكُمْ عَنْكُمْ، أَوِ اذْكُرُونِي بِقَطْعِ الْعَلَائِقِ أَذْكُرْكُمْ بِنَعْتِ الْحَقَائِقِ، أَوِ اذْكُرُونِي لِمَنْ لَقِيتُمُوهُ أَذْكُرْكُمْ لِكُلِّ مَنْ خَاطَبْتُهُ، قَالَ: وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ، أَوِ اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، أَحِبُّونِي أُحِبُّكُمْ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالتَّذَلُّلِ أَذْكُرْكُمْ بِالتَّفَضُّلِ، أَوِ اذْكُرُونِي بِقُلُوبِكُمْ أَذْكُرْكُمْ بِتَحْقِيقِ مَطْلُوبِكُمْ، أَوِ اذْكُرُونِي عَلَى الْبَابِ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ أَذْكُرْكُمْ عَلَى بِسَاطِ الْقُرْبِ بِإِكْمَالِ النِّعْمَةِ، أَوِ اذْكُرُونِي بتصفية السر أَذْكُرْكُمْ بِتَوْفِيَةِ الْبِرِّ، أَوِ اذْكُرُونِي فِي حَالِ سُرُورِكُمْ أَذْكُرْكُمْ فِي قُبُورِكُمْ، أَوِ اذْكُرُونِي وَأَنْتُمْ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ أَذْكُرْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ لَا تَنْفَعُ النَّدَامَةُ، أَوِ اذكروني بالرهبة أذكركم بِالرَّغْبَةِ. وَقَالَ
48
الْقُشَيْرِيُّ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، الذِّكْرُ اسْتِغْرَاقُ الذَّاكِرِ فِي شُهُودِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ اسْتِهْلَاكُهُ فِي وُجُودِ الْمَذْكُورِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا أَثَرٌ يُذْكَرُ، فَيُقَالُ: قَدْ كَانَ فُلَانٌ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ «١». وَإِنَّمَا الدُّنْيَا حَدِيثٌ حَسَنٌ فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّمَا الدُّنْيَا مَحَاسِنُهَا طَيِّبُ مَا يَبْقَى مِنَ الْخَبَرِ
وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ: الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ: الْحَمْدُ، وَالتَّسْبِيحُ، وَالتَّمْجِيدُ، وَقِرَاءَةُ كُتُبِ اللَّهِ وَبِالْقَلْبِ، وَهُوَ: الْفِكْرُ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّكَالِيفِ، وَالْأَحْكَامِ، وَالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَالْفِكْرِ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْفِكْرِ فِي أَسْرَارِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَصِيرَ كُلُّ ذَرَّةٍ كَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ الْمُحَاذِيَةِ لِعَالَمِ التَّقْدِيسِ، فَإِذَا نَظَرَ الْعَبْدُ إِلَيْهَا، انْعَكَسَ شُعَاعُ بَصَرِهِ مِنْهَا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ، وَبِالْجَوَارِحِ، بِأَنْ تَكُونَ مُسْتَغْرِقَةً فِي الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا، خَالِيَةً عَنِ الْأَعْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، سَمَّى اللَّهُ الصَّلَاةَ ذِكْرًا بِقَوْلِهِ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «٢». انْتَهَى. وَقَالُوا: الذِّكْرُ هُوَ تَنْبِيهُ الْقَلْبِ لِلْمَذْكُورِ وَالتَّيَقُّظُ لَهُ، وَأُطْلِقَ عَلَى اللِّسَانِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ. وَلَمَّا كَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ، صَارَ هُوَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ. فَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ سِرِّيٌّ وَجَهْرِيٌّ، وَالذِّكْرِ بِالْقَلْبِ دَائِمٌ وَمُتَحَلِّلٌ، وَبِهِمَا أَيْضًا دَائِمٌ وَمُتَحَلِّلٌ. فَبِاللِّسَانِ ذِكْرُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الذِّكْرِ،
وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ذِكْرًا».
خَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ»
وَخَرَّجَ أَيْضًا قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أنا مع عبدي إذ هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ»
. وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ، فَقِيلَ لَهُ: نَذْكُرُ اللَّهَ وَلَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا حَلَاوَةً، فَقَالَ: احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى أَنْ زَيَّنَ جَارِحَةً مِنْ جَوَارِحِكُمْ بِطَاعَتِهِ، وَبِالْقَلْبِ هُوَ ذِكْرُ الْعَارِفِينَ وَخَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ،
وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ ﷺ ذِكْرًا
، وَمَعْنَاهُ اسْتِقْرَارُ الذِّكْرِ فِيهِ حَتَّى لَا يَخْطُرَ فِيهِ غَيْرُ الْمَذْكُورِ: قَالَ الشَّاعِرُ:
سِوَاكَ بِبَالِي لَا يَخْطُرُ إِذَا مَا نَسِيتُكَ مَنْ أَذْكُرُ
وَبِهِمَا: هُوَ ذِكْرُ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ ثَلَاثُ الْمَقَامَاتِ، أَدْوَمُهَا أَفْضَلُهَا. انْتَهَى.
وَقَدْ طَالَ بِنَا الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَتَرَكْنَا أَشْيَاءَ مِمَّا ذَكَرَهُ النَّاسُ، وَهَذِهِ التَّقْيِيدَاتُ وَالتَّفْسِيرَاتُ التي فسر بها الذكران، لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ١٦.
(٢) سورة الجمعة: ٦٢/ ٩.
49
مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ. وَأَمَّا دَلَالَةُ اللَّفْظِ فَهِيَ طَلَبُ مُطْلَقِ الذِّكْرِ، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ هُوَ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ. وَالذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ لَا يَكُونُ ذِكْرَ لَفْظِ الْجَلَالَةِ مُفْرَدًا مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِسْنَادٍ، وَأَوْلَاهَا الْأَذْكَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي الْآثَارِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ جَاءَ التَّرْغِيبُ فِي ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنْهَا، وَالْوَعْدُ عَلَى ذِكْرِهَا بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ. وَتِلْكَ الْأَذْكَارُ تَتَضَمَّنُ: الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ، وَالْحَمْدَ لَهُ، وَالْمَدْحَ لِجَلَالِهِ، وَالْتِمَاسَ الْخَيْرِ مِنْ عِنْدِهِ. فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ، وَأَمَرَ الْعَبْدَ بِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَظِّمُوا اللَّهَ، وَأَثْنُوا عَلَيْهِ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ. وَسُمِّيَ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرًا، فَقَالَ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، لَمَّا كَانَ نَتِيجَةَ الذِّكْرِ وَنَاشِئًا عَنْهُ سَمَّاهُ ذِكْرًا. وَاشْكُرُوا لِي تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشُّكْرِ، وَعَدَّاهُ هُنَا بِاللَّامِ، وَكَذَلِكَ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «١»، وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي ذُكِرَ أَنَّهَا تَارَةً تَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ، وَتَارَةً تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ لَجَاءٍ التَّمِيمِيُّ:
هُمْ جَمَعُوا بُؤْسِي وَنُعْمِي عَلَيْكُمْ فَهَلَّا شَكَرْتَ الْقَوْمَ إِذْ لَمْ تُقَابِلْ
وَفِي إِثْبَاتِ هَذَا النَّوْعِ مِنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَتَعَدَّى تَارَةً بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ، بِحَقِّ الْوَضْعِ فِيهِمَا خِلَافٌ. وَقَالُوا: إِذَا قُلْتَ: شَكَرْتُ لِزَيْدٍ، فَالتَّقْدِيرُ: شَكَرْتُ لِزَيْدٍ صَنِيعَهُ، فَجَعَلُوهُ مِمَّا يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِحَرْفِ جَرٍّ وَلِآخَرَ بِنَفْسِهِ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِقَوْلِهِ: وَاشْكُرُوا لِي مَا أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاشْكُرُوا لِي، وَاشْكُرُونِي بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَلِي أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ مَعَ الشُّكْرِ وَمَعْنَاهُ: نِعْمَتِي وَأَيَادِيَّ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: شَكَرْتُكَ، فَالْمَعْنَى: شَكَرْتُ لَكَ صَنِيعَكَ وَذَكَرْتُهُ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، إِذْ مَعْنَى الشُّكْرِ: ذِكْرُ الْيَدِ وَذِكْرُ مُسْدِيهَا مَعًا، فَمَا حُذِفَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ اخْتِصَارٌ لِدَلَالَةِ مَا بَقِيَ عَلَى مَا حُذِفَ، انْتَهَى كَلَامُهُ، وَيَحْتَاجُ، كَوْنُهُ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِنَفْسِهِ، وَلِلْآخَرِ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَتَقُولُ:
شَكَرْتُ لِزَيْدٍ صَنِيعَهُ، لِسَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ، وَحِينَئِذٍ يُصَارُ إِلَيْهِ.
وَلا تَكْفُرُونِ: هو مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَا تَكْفُرُوا نِعْمَتِي. وَلَوْ كَانَ مِنَ الْكُفْرِ ضِدِّ الْإِيمَانِ، لَكَانَ: وَلَا تَكْفُرُوا، أَوْ وَلَا تَكْفُرُوا بِي. وَهَذِهِ النُّونُ نُونُ الْوِقَايَةِ، حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَهَا تَخْفِيفًا لِتَنَاسُبَ الْفَوَاصِلِ. قِيلَ: الْمَعْنَى وَاشْكُرُوا لِي بِالطَّاعَةِ، وَلَا تَكْفُرُونِ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى الشُّكْرِ هُنَا: الِاعْتِرَافُ بِحَقِّ الْمُنْعِمِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَكْفُرُونِ. وَهُنَا ثَلَاثُ جُمَلٍ: جملة الأمر بالذكر،
(١) سورة لقمان: ٣١/ ١٤.
50
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ، وَجُمْلَةُ النهي عن الكفران. فبدىء أَوَّلًا بِجُمْلَةِ الذِّكْرِ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الثَّنَاءُ وَالْمَدْحُ الْعَامُّ وَالْحَمْدُ لَهُ تَعَالَى، وَذُكِرَ لَهُ جَوَابٌ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ. وَثَنَّى بِجُمْلَةِ الشُّكْرِ، لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ عَلَى شَيْءٍ خَاصٍّ، وَقَدِ انْدَرَجَ تَحْتَ الْأَوَّلِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى جَوَابٍ. وَخَتَمَ بِجُمْلَةِ النَّهْيِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالشُّكْرِ، لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ لِيَدُلَّ عَلَى عُمُومِ الْأَزْمَانِ، وَلَا يُمْكِنُ التَّكْلِيفُ بِاسْتِحْضَارِ الشُّكْرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَقَدْ يُذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ. وَنَهَى عَنِ الْكُفْرَانِ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الِامْتِنَاعَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، بدىء بِالْأَمْرِ. وَذَكَرْنَا الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ»
، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: سَيَرْجِعُ مُحَمَّدٌ إِلَى دِينِنَا، كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا. هَزَّهُمْ بِهَذَا النِّدَاءِ الْمُتَضَمِّنِ هَذَا الْوَصْفَ الشَّرِيفَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ مَجْعُولًا فِعْلًا مَاضِيًا فِي صِلَةِ الَّذِينَ، دَالًّا عَلَى الثُّبُوتِ وَالِالْتِبَاسِ بِهِ فِي تَقَدُّمِ زَمَانِهِمْ، لِيَكُونُوا أَدْعَى لِقَبُولِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ الشَّاقِّ، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ هُمَا رُكْنَا الْإِسْلَامِ. فَالصَّبْرُ قَصْرُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ وَالصَّلَاةُ ثَمَرَتُهُ، وَهِيَ مِنْ أَشَقِّ التَّكَالِيفِ لِتَكَرُّرِهَا.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ طَعْنِ الْكُفَّارِ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَالصَّلَاةِ إِلَيْهَا أَذًى كَثِيرًا، فَأُمِرُوا عِنْدَ ذَلِكَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُهُمُ الصَّبْرَ هُنَا: بِأَنَّهُ الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ بِالطَّعْنِ عَلَى التَّحَوُّلِ وَالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَعْضِهِمْ قَالَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الصَّوْمِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِرَمَضَانَ: شَهْرُ الصَّبْرِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِهَادِ لِقَوْلِهِ، بَعْدُ: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ. وَالْأَوْلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، فَتَنْدَرِجُ هَذِهِ الْأَفْرَادُ تَحْتَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: الصَّبْرُ مِنِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا خَيْرَ فِي جَسَدٍ لَا رَأْسَ لَهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شرح هذه الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ: أَيْ بِالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ، كَمَا قَالَ: اهْجُهُمْ، وروح القدس
(١) سورة البقرة: ٢/ ٤١.
51
مَعَكَ. وَقَالَ تَعَالَى: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَهُوَ الْغَالِبُ، وَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ نَاشِئَةً عَنِ الصَّبْرِ، وَصَارَ الصَّبْرُ أَصْلًا لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، فَانْدَرَجَ الْمُصَلُّونَ تَحْتَ الصَّابِرِينَ انْدِرَاجَ الْفَرْعِ تَحْتَ الْأَصْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَاكَ: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ «١»، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهَا عَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ وَأَشَقُّ نَتَائِجِ الصَّبْرِ.
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، قِيلَ:
سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قِيلَ لِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: مَاتَ فُلَانٌ وَذَهَبَ عَنْهُ نَعِيمُ الدُّنْيَا وَلَذَّتُهَا، فَأُنْزِلَتْ. نُهُوا عَنْ قَوْلِهِمْ عَنِ الشُّهَدَاءِ أَمْوَاتٌ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، وَارْتِفَاعُ أَمْوَاتٍ وَأَحْيَاءٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمْ أَمْوَاتٌ، بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَلْ أَحْيَاءٌ، مُنْدَرِجًا تَحْتَ قَوْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ بَلْ قُولُوا هُمْ أَحْيَاءٌ. لَكِنْ يُرَجَّحُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ حَيَاتَهُمْ لَا شُعُورَ لَكُمْ بِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ مَجَازٌ. وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: أَمْوَاتٌ بِانْقِطَاعِ الذِّكْرِ، بَلْ أَحْيَاءٌ بِبَقَائِهِ وَثُبُوتِ الْأَجْرِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي مَنْ لَا يَبْقَى لَهُ ذِكْرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوَلَدِ، وَغَيْرِهِ مَيِّتًا. وَقِيلَ: أَمْوَاتٌ بِالضَّلَالِ، بَلْ أَحْيَاءٌ بِالطَّاعَةِ وَالْهُدَى، كَمَا قَالَ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «٢». وَإِذَا حُمِلَ الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ النَّهْيِ عَنْ قَوْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ بِالْبَعْثِ، فَيُثَابُونَ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الْوَقْتِ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْحَيَاةِ: بَقَاءُ أَرْوَاحِهِمْ دُونَ أَجْسَادِهِمْ، إِذْ أَجْسَادُهُمْ نُشَاهِدُ فَسَادَهَا وفناءها. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَبِقَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ مَعْنَاهُ: لَا تَشْعُرُونَ بِكَيْفِيَّةِ حَيَاتِهِمْ. وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى بِإِحْيَاءٍ أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَنُورٍ، لَمْ يَظْهَرْ لِنَفْيِ الشُّعُورِ مَعْنًى، إِذْ هُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِالْبَعْثِ، وَبِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هُدًى. فَلَا يُقَالُ فِيهِ: وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، لِأَنَّهُمْ قَدْ شَعَرُوا بِهِ وَبِقَوْلِهِ: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ «٣».
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الشَّهِيدَ حَيُّ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ عَدَمُ الشُّعُورِ بِهِ مِنَ الْحَيِّ غَيْرِهِ. فَنَحْنُ نَرَاهُمْ عَلَى صِفَةِ الْأَمْوَاتِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، كَمَا قَالَ تعالى:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٤٥.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٢٢.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ١٧٠.
52
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «١»، وَكَمَا تَرَى النَّائِمَ عَلَى هيئة، وَهُوَ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يَنْعَمُ بِهِ أَوْ يَتَأَلَّمُ بِهِ. وَنَقَلَ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِ (دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ) مِنْ تَأْلِيفِهِ، حِكَايَةً عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، أَنَّهُ حَفَرَ فِي مَكَانٍ، فَانْفَتَحَتْ طَاقَةٌ، فَإِذَا شَخْصٌ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفٌ يَقْرَأُ فِيهِ وَأَمَامَهُ رَوْضَةٌ خَضْرَاءُ، وَذَلِكَ بِأُحُدٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، لِأَنَّهُ رَأَى فِي صَفْحَةِ وَجْهِهِ جُرْحًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ، إِمَّا أَرْوَاحُهُمْ، وَإِمَّا أَجْسَادُهُمْ وَأَرْوَاحُهُمْ، فَاخْتُلِفَ فِي مُسْتَقَرِّهَا. فَقِيلَ: قُبُورُهُمْ يُرْزَقُونَ فِيهَا. وَقِيلَ: فِي قِبَابٍ بِيضٍ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ فِيهَا، قَالَهُ أَبُو بَشَّارٍ السُّلَمِيُّ. وَقِيلَ: فِي طَيْرٍ بِيضٍ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَمَسَاكِنُهُمْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ وَيَجِدُونَ رِيحَهَا، وَلَيْسُوا فِيهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الشُّهَدَاءُ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ».
وَرُوِيَ: فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُمْ فِي قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ».
وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ، فَهِيَ أَحْوَالٌ لِطَوَائِفَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَارِثَةَ: «إِنَّهُمْ فِي الْفِرْدَوْسِ».
وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْأَرْوَاحَ لَا تَفْنَى، وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الْبَدَنِ. فَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ مُنَعَّمَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ مُعَذَّبَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهِيدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ الرِّزْقُ، فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا «٢». وَقَالَ الْحَسَنُ: الشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ، تُعْرَضُ أَرْزَاقُهُمْ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، فَيَصِلُ إِلَيْهِمُ الرَّوْحُ وَالْفَرَحُ، كَمَا تُعْرَضُ النَّارُ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ غُدْوَةً وَعَشِيًّا، فَيَصِلُ إِلَيْهِمُ الْوَجَعُ. وَقَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهِيدِ جُمْلَةً فَيُحْيِيهَا وَيُوصِلَ إِلَيْهَا النَّعِيمَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي حَجْمِ الذَّرَّةِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لِرِزْقِ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ وَلَا لِمُسْتَقَرِّهَا، وَإِنَّمَا جَرَى ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، اتِّبَاعًا لِلْمُفَسِّرِينَ، حَيْثُ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِلَّا فَمَظِنَّةُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «٣»، حَيْثُ ذَكَرَ الْعِنْدِيَّةَ وَالرِّزْقَ، وَظَاهِرُ
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٨٨.
(٢) سورة غافر: ٤٠/ ٤٦.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ١٦٩.
53
قَوْلِهِ: لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْعُمُومُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ، كَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلَا يُخَصَّصُ هَذَا الْعُمُومُ بِهَذَا السَّبَبِ، بَلِ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ لِأَقْرِبَاءِ الشُّهَدَاءِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، فهم مغبوطون لا محزونون عَلَيْهِمْ.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ:
تَقَدَّمَ أَنَّ الِابْتِلَاءَ: هُوَ الِاخْتِبَارُ، لِيُعْلَمُ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِ الْمُخْتَبَرِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ هُنَا: الْإِجَابَةُ، وَالضَّمِيرُ الَّذِي لِلْخِطَابِ. قِيلَ: هُوَ لِلصَّحَابَةِ فَقَطْ، قَالَهُ عَطَاءٌ. خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِالْوَاقِعِ، كَانَ قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُ، بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُفَاجِئُ، فَإِنَّهَا أَصْعَبُ عَلَى النَّفْسِ، وَزِيَادَةَ ثَوَابٍ وَأَجْرٍ عَلَى ما يحصل لهم من انْتِظَارِ الْمُصِيبَةِ، وَإِخْبَارًا بِمُغَيَّبٍ يَقَعُ وَفْقَ مَا أَخْبَرَ، وَتَمْيِيزًا لِمَنْ أَسْلَمَ مُرِيدًا وَجْهَ اللَّهِ مِمَّنْ نَافَقَ، وَازْدِيَادَ إِخْلَاصٍ فِي حَالِ الْبَلَاءِ عَلَى إِخْلَاصِهِ فِي حَالِ الْعَافِيَةِ، وَحَمْلًا لِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ عَلَى النَّظَرِ في دلائل الإسلام، إذا رَأَى هَؤُلَاءِ الْمُبْتَلِينَ صَابِرِينَ عَلَى دِينِهِمْ ثَابِتِي الْجَأْشِ فِيهِ، مَعْ مَا ابْتُلُوا بِهِ. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَكَّةَ، خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ إِعْلَامًا أَنَّهُ أَجَابَ دَعْوَةَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِيهِمْ، وَلِيَبْقُوا يَتَوَقَّعُونَ الْمُصِيبَةَ، فَتُضَاعَفُ عَلَيْهِمُ الْمُصِيبَاتُ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ، وَيَكُونُ آخِرَ الزَّمَانِ، قَالَ كَعْبٌ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا تَحْمِلُ النَّخْلَةُ إِلَّا ثمرة، فيكون هَذَا الْإِخْبَارُ تَحْذِيرًا وَمَوْعِظَةً عَلَى الرُّكُونِ إِلَى الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا، وَيَكُونُ إِخْبَارًا بِالْمُغَيَّبَاتِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَا يُرَادُ بِهِ مُعَيَّنٌ، بَلْ هُوَ عَامٌّ، لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ وَلَا بِمُخَاطَبٍ خَاصٍّ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَنُصِيبَنَّ بِكَذَا، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَحْذِيرٌ، وَأَنَّهُ لِلصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ الْآيَةَ، وَقَبْلَهَا: وَاشْكُرُوا لِي، وَالشُّكْرُ يُوجِبُ زِيَادَةَ النِّعَمِ وَالِابْتِلَاءُ بِمَا ذُكِرَ، يُنَافِيهِ ظَاهِرًا، وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّ إِتْمَامَ الشَّرَائِعِ إِتْمَامٌ للنعمة، وذلك يُوجِبُ الشُّكْرَ. وَالْقِيَامُ بِتِلْكَ الشَّرَائِعِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، فَأَمَرَ فِيهَا بِالصَّبْرِ، وَأَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ أَوَّلًا فَشَكَرَ، وَابْتُلِيَ ثَانِيًا فَصَبَرَ، لِيَنَالَ دَرَجَتَيِ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ، فَيَكْمُلُ إِيمَانُهُ. كَمَا
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْإِيمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ».
بِشَيْءٍ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْإِلْصَاقِ، وَأَفْرَدَهُ لِيَدُلَّ عَلَى التَّقْلِيلِ، إِذْ لَوْ جَمَعَهُ فَقَالَ: بِأَشْيَاءَ، لَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ ضُرُوبًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا بَعْدَهُ. وَقَدْ قَرَأَ الضَّحَّاكُ: بِأَشْيَاءَ، فَلَا يَكُونُ حَذْفٌ فِيمَا بَعْدَهَا، فَيَكُونُ مِنْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، بِخِلَافِ
54
قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: بِشَيْءٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَذْفٍ أَيْ شَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَشَيْءٍ مِنَ الْجُوعِ، وَشَيْءٍ مِنْ نَقْصٍ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِطَرَفٍ مِنْ كَذَا وَكَذَا. وَالْخَوْفُ:
خَوْفُ الْعَدُوِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ حَصَلَ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْجُوعُ: الْقَحْطُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ. وَقِيلَ: الْجُوعُ: الْفَقْرُ، عَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ أَيْضًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ: بِالْخُسْرَانِ وَالْهَلَاكِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِالصَّدَقَاتِ.
وَالْأَنْفُسِ: بِالْقَتْلِ وَالْمَوْتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِالْأَمْرَاضِ، وَقِيلَ: بِالشَّيْبِ. وَالثَّمَرَاتِ: يَعْنِي الْجَوَائِحَ فِي الثَّمَرَاتِ، وَقِلَّةَ النَّبَاتِ، وَانْقِطَاعَ الْبَرَكَاتِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: قَدْ يَكُونُ نَقْصُهَا بِالْجُدُوبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِتَرْكِ عِمَارَةِ الضِّيَاعِ لِلِاشْتِغَالِ بِالْجِهَادِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ يَرِدُ مِنَ الْوُفُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: بِظُهُورِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالثَّمَرَاتُ:
مَوْتُ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ ثَمَرَةُ قَلْبِهِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ: أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُؤَنُ الْجِهَادِ وَكُلَفُهُ، فَالْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ، وَالْجُوعُ بِهِ وَبِالْأَسْفَارِ إِلَيْهِ، وَنَقْصُ الْأَمْوَالِ بِالنَّفَقَاتِ فِيهِ، وَالْأَنْفُسِ بِالْقَتْلِ، وَالثَّمَرَاتِ بِإِصَابَةِ الْعَدُوِّ لَهَا، أَوِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا بِسَبَبِ الْجِهَادِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَطَفَ وَنَقْصٍ عَلَى قَوْلِهِ: بِشَيْءٍ، أَيْ: وَلَنَمْتَحِنَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَبِنَقْصٍ، وَيُحَسِّنُ الْعَطْفُ تَنْكِيرَهَا، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْخَوْفِ وَالْجُوعِ فَيَكُونَ تَقْدِيرُهُ: وَشَيْءٍ مِنْ نَقْصٍ. وَمِنَ الْأَمْوَالِ: مُتَعَلِّقٌ بِنَقْصٍ، لِأَنَّهُ مَصْدَرُ نَقَصَ، وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَقَدْ حُذِفَ، أَيْ:
وَنَقْصِ شَيْءٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصفة لِنَقْصٍ. وَتَكُونَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، أَيْ وَنَقْصِ شَيْءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَتَكُونُ مِنْ إِذْ ذَاكَ لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالُوا: يجوز أن تكون من عِنْدَ الْأَخْفَشِ زَائِدَةً، أَيْ وَنَقْصِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ. وَأَتَى بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ مُقْسِمًا عَلَيْهَا، تَأْكِيدًا لِوُقُوعِ الِابْتِلَاءِ، وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَيْهِ صَرِيحٌ فِي إِضَافَةِ أَسْبَابِ الْبَلَايَا إِلَيْهِ. وَأَنَّ هَذِهِ الْمِحَنَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَعْدَهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عُقُوبَاتٍ، بَلْ إِذَا قَارَنَهَا الصَّبْرُ أَفَادَتْ دَرَجَةً عَالِيَةً فِي الدِّينِ.
وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي الْعَطْفِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي: فَأَخْبَرَ أَوَّلًا بِالِابْتِلَاءِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَهُوَ تَوَقُّعُ مَا يَرِدُ مِنَ الْمَكْرُوهِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى الِابْتِلَاءِ بِشَيْءٍ مِنَ الْجُوعِ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْخَوْفِ بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فُسِّرَ بِهِ مِنَ الْقَحْطِ، أَوِ الْفَقْرِ، أَوِ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَكْلِ، إِلَّا عَلَى تَفْسِيرِ
55
الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ. وَلَا تَرَقِّيَ بَيْنَ نَقْصٍ وَشَيْءٍ، عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ عَطْفِ نَقْصٍ عَلَى بِشَيْءٍ، بَلِ التَّرَقِّي فِي الْعَطْفِ بَعْدَ وَنَقْصٍ، فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْأَمْوَالِ، ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الْأَنْفُسِ.
وَأَمَّا وَالثَّمَرَاتِ، فَجَاءَ كَالتَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ، لِأَنَّهَا تَنْدَرِجُ تَحْتَ الْأَمْوَالِ، فَلَا تَرَقِّيَ فِيهَا.
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ: خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ تَتَأَتَّى مِنْهُ الْبِشَارَةُ، أَيْ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّصْرِ، أَوْ عَلَى الطَّاعَةِ بِالْجَزَاءِ، أَوْ عَلَى الْمَصَائِبِ بِالثَّوَابِ، أَقْوَالٌ: وَالْأَحْسَنُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ، أَيْ كُلُّ مَنْ صَبَرَ صَبْرًا مَحْمُودًا شَرْعًا، فَهُوَ مُنْدَرِجٌ فِي الصَّابِرِينَ. قَالُوا: وَالصَّبْرُ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّهُ يَتَعَارَضُ فِيهِ الْعَقْلُ وَالشَّهْوَةُ، وَهُوَ بَدَنِيٌّ. وَهُوَ: إِمَّا فِعْلِيٌّ، كَتَعَاطِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَإِمَّا احْتِمَالٌ، كَالصَّبْرِ عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَنَفْسِيٌّ، وَهُوَ قَمْعُ النَّفْسِ عَنْ مُشْتَهَيَاتِ الطَّبْعِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ شَهْوَةِ الْفَرْجِ وَالْبَطْنِ، سُمِّيَ عِفَّةً. وَإِنْ كَانَ مِنِ احْتِمَالِ مَكْرُوهٍ، اخْتَلَفَتْ أَسَامِيهِ بِاخْتِلَافِ الْمَكْرُوهِ. فَفِي الْمُصِيبَةِ يُقْتَصَرُ عَلَيْهِ بِاسْمِ الصَّبْرِ، وَيُضَادُّهُ الْجَزَعُ. وَإِنْ كَانَ فِي الْغِنَى، سُمِّيَ ضَبْطَ النَّفْسِ، وَيُضَادُّهُ الْبَطَرُ. وَإِنْ كَانَ فِي حَرْبٍ، سُمِّيَ شَجَاعَةً، وَيُضَادُّهُ الْجُبْنُ. وَإِنْ كَانَ فِي نَائِبَةٍ مُضْجِرَةٍ، سُمِّي سَعَةَ صَدْرٍ، وَيُضَادُّهُ الضَّجَرُ. وَإِنْ كَانَ فِي إِخْفَاءِ كَلَامٍ، سُمِّيَ كِتْمَانًا، وَيُضَادُّهُ الْإِعْلَانُ. وَإِنْ كَانَ فِي فُضُولِ الدُّنْيَا، سُمِّيَ زُهْدًا، وَيُضَادُّهُ الْحِرْصُ. وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسِيرٍ مِنَ الْمَالِ، سُمِّي قَنَاعَةً، وَيُضَادُّهُ الشَّرَهُ. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ أَقْسَامَ ذَلِكَ وَسَمَّى جَمِيعَهَا صَبْرًا، فَقَالَ: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ «١»، أَيِ الْمُصِيبَةِ وَالضَّرَّاءِ، أَيِ الْفَقْرِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أَيِ الْمُحَارَبَةِ. قَالَ الْقَفَّالُ:
لَيْسَ الصَّبْرُ أَنْ لَا يَجِدَ الْإِنْسَانُ أَلَمَ الْمَكْرُوهِ، وَلَا أَنْ لَا يَكْرَهَ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى تَرْكِ إِظْهَارِ الْجَزَعِ، وَإِنْ ظَهَرَ دَمْعُ عَيْنٍ، أَوْ تَغَيُّرُ لَوْنٍ، وَلَوْ ظَهَرَ مِنْهُ أَوَّلُ مَا لَا يُعَدُّ مَعَهُ صَابِرًا ثُمَّ صَبَرَ، لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ إِلَّا سِلْوَانًا.
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ: يَجُوزُ فِي الَّذِينَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى النَّعْتِ لِلصَّابِرِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِعْرَابِ، أَوْ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ، فَيَكُونُ مَقْطُوعًا، أو مرفوعا على إضمارهم عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الْقَطْعِ، وَإِمَّا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، كَأَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: مَنِ الصَّابِرُونَ؟ قِيلَ: هم الذين الَّذِينَ إِذَا. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُبْتَدَأً، وَأُولَئِكَ عَلَيْهِمْ خَبَرُهُ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ. مُصِيبَةٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَصَابَتْ، وَصَارَ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِالشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ، وَصَارَتْ كِنَايَةً عَنِ الدَّاهِيَةِ، فَجَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ وَوَلِيَتِ الْعَوَامِلَ. وَأَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ: مِنَ التَّجْنِيسِ الْمُغَايِرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ اسْمًا وَالْأُخْرَى فِعْلًا، ومنه:
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧٧.
56
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «١»، إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ «٢»
وَالْمُصِيبَةُ: كُلُّ مَا أَذَى الْمُؤْمِنَ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ أَهْلٍ، صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ، حَتَّى انْطِفَاءِ الْمِصْبَاحِ لِمَنْ يَحْتَاجُهُ يُسَمَّى: مُصِيبَةً. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ انْطِفَاءِ مِصْبَاحِهِ.
وَالْمَعْنَى فِي إِذَا هُنَا: عَلَى التَّكْرَارِ وَالْعُمُومِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي إِذَا، أَتَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ، أَمْ وُضِعَتْ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ؟
قَوْلَانِ لِلنَّحْوِيِّينَ.
قالُوا إِنَّا لِلَّهِ: قَالُوا: جَوَابُ إِذَا، وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ صِلَةٌ لِلَّذِينَ. وَإِنَّا: أَصْلُهُ إِنَّنَا، لِأَنَّهَا إِنْ دَخَلَتْ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ، فَحُذِفَتْ نُونٌ مِنْ إِنَّ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَحْذُوفَةُ هِيَ الثَّانِيَةَ، لِأَنَّهَا ظَرْفٌ، وَلِأَنَّهَا عُهِدَ فِيهَا الْحَذْفُ إِذَا خُفِّفَتْ، فَقَالُوا: إِنْ زَيْدٌ لَقَائِمٌ، وَهُوَ حَذْفٌ هُنَا لِاجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ، فَلِذَلِكَ عَمِلَتْ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنَ الْحَذْفِ لا لهذه العلة، لا نفصل الضَّمِيرُ وَارْتَفَعَ وَلَمْ تَعْمَلْ، لِأَنَّهَا إِذَا خُفِّفَتْ هَذَا التَّخْفِيفَ لَمْ تَعْمَلْ فِي الضَّمِيرِ. وَلِلَّهِ: مَعْنَاهُ الْإِقْرَارُ بِالْمُلْكِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِينَا بِمَا يُرِيدُ مِنَ الْأُمُورِ.
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ: إِقْرَارٌ بِالْبَعْثِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى مُصِيبَةِ الْمَوْتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ، وَتَذْكِيرٌ أَنَّ مَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ دُونَهَا فَهُوَ قَرِيبٌ يَنْبَغِي أن يصبر لَهُ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ الْمَقُولَتَيْنِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ نُفُوسَنَا وَأَمْوَالَنَا وَأَهْلِينَا لِلَّهِ لَا يَظْلِمُنَا فِيمَا يَصْنَعُهُ بِنَا. الثَّانِي: أَسْلَمْنَا الْأَمْرَ لِلَّهِ وَرَضِينَا بِقَضَائِهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ يَعْنِي: لِلْبَعْثِ لِثَوَابِ الْمُحْسِنِ وَمُعَاقَبَةِ الْمُسِيءِ. الثَّالِثُ: رَاجِعُونَ إِلَيْهِ فِي جَبْرِ الْمُصَابِ وَإِجْزَالِ الثَّوَابِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهُ إِقْرَارٌ بِالْمَمْلَكَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِقْرَارٌ بِالْهَلَكَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ إِسْنَادَ الْإِصَابَةِ إِلَى الْمُصِيبَةِ، لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِيَعُمَّ مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ. فَمَا كَانَ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ، لِأَنَّ فِي الْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ تَفْوِيضًا لِلْأُمُورِ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَتَكْلِيفُهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ فِي الْإِنْصَافِ مِنْهُ، وَلَا يَتَعَدَّى، كَأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ إِنَّا لِلَّهِ، يُدَبِّرُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَفِي الثَّانِي: إِنَّا إِلَيْهِ، يُنْصِفُ لَنَا كَيْفَ يَشَاءُ. وَقِيلَ: إِنَّا لِلَّهِ، دَلِيلٌ عَلَى الرِّضَا بِمَا نَزَلَ بِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، دَلِيلٌ عَلَى الرِّضَا فِي الْحَالِ بِكُلِّ مَا سَيَنْزِلُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ. فَالْفَرْضُ: التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقَدَرِهِ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَدَاءِ
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٥٧. [.....]
(٢) سورة الواقعة: ٥٦/ ١.
57
فرائضه. والنفل: إظهارا لقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، وَفِي إِظْهَارِهِ فَوَائِدُ مِنْهَا: غَيْظُ الْكُفَّارِ لِعِلْمِهِمْ بِجِدِّهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ.
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، أُولَئِكَ مُبْتَدَأٌ، وَصَلَوَاتٌ: ارْتِفَاعُهَا عَلَى الْفَاعِلِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَيْ: أُولَئِكَ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِالْمُفْرَدِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ صَلَوَاتٍ مُبْتَدَأً، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِهِ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْمُبْتَدَأِ بِالْجُمْلَةِ. وَالصَّلَاةُ: مِنَ اللَّهِ الْمَغْفِرَةُ، قاله ابن عباس أو الثَّنَاءُ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، أَوِ الْغُفْرَانُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَالرَّحْمَةُ: قِيلَ هِيَ الصَّلَوَاتُ، كُرِّرَتْ تَأْكِيدًا لَمَّا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ، كَقَوْلِهِ رَأْفَةً وَرَحْمَةً «١». وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ: كَشْفُ الْكُرْبَةِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ. وَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْعَدْلَانِ وَنِعْمَ الْعِلَاوَةُ، وَتَلَا: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ الْآيَةَ، يَعْنِي بِالْعَدْلَيْنِ: الصَّلَوَاتِ وَالرَّحْمَةَ، وَبِالْعِلَاوَةِ: الِاهْتِدَاءَ. وَفِي قَوْلِهِ: أُولَئِكَ، اسْمُ الْإِشَارَةِ الْمَوْضُوعُ لِلْبُعْدِ دَلَالَةً عَلَى بُعْدِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، كَمَا جَاءَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «٢». وَالْكِنَايَةُ عَنْ حُصُولِ الْغُفْرَانِ وَالثَّنَاءِ بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ بِحَرْفِ عَلَى، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ مُنْغَمِسُونَ فِي ذَلِكَ، قَدْ غَشِيَتْهُمْ وَتَجَلَّلَتْهُمْ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ لَهُمْ. وَجَمَعَ صَلَوَاتٍ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُطْلَقَ صَلَاةٍ، بَلْ صَلَاةٌ بَعْدَ صَلَاةٍ، وَنُكِّرَتْ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ الْعُمُومُ. وَوَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مِنْ رَبِّهِمْ، لِيَدُلَّ بِمِنْ عَلَى ابْتِدَائِهَا مِنَ اللَّهِ، أَيْ تَنْشَأُ تِلْكَ الصَّلَوَاتُ وَتَبْتَدِئُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً، فَيَكُونُ ثَمَّ حَذْفَ مُضَافٍ، أَيْ صَلَوَاتٌ مِنْ صَلَوَاتِ رَبِّهِمْ. وَأَتَى بِلَفْظِ الرَّبِّ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةِ التَّرْبِيَةِ وَالنَّظَرِ لِلْعَبْدِ فِيمَا يُصْلِحُهُ وَيُرَبِّهِ بِهِ. وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِالرَّحْمَةِ الصَّلَوَاتُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ بِصِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، لِأَنَّهَا قَدْ تَقَيَّدَتْ. وَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِهَا مَا يُغَايِرُ الصَّلَوَاتِ، فَيُقَدَّرُ: وَرَحْمَةٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ قَدْ حُذِفَتِ الصِّفَةُ لِمَا تَقَدَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: مِنْ رَبِّهِمْ، مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ، فَلَا يَكُونُ صِفَةً، بَلْ يَكُونُ مَعْمُولًا لِلرَّافِعِ لِصَلَوَاتٍ، وَتَرَتَّبَ عَلَى مَقَامِ الصَّبْرِ. وَمَقَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّفْوِيضِ لِلَّهِ تَعَالَى، هَذَا الْجَزَاءُ الْجَزِيلُ وَالثَّنَاءُ الْجَمِيلُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وَأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرْضَاهُ»
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «من تذكر
(١) سورة الحديد: ٥٧/ ٢٧.
(٢) سورة لقمان: ٣١/ ٥.
58
مُصِيبَتَهُ، فَأَحْدَثَ اسْتِرْجَاعًا، وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَهُ يَوْمَ أُصِيبَ».
وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ مَشْهُورٌ، حَيْثُ أَخْلَفَهَا اللَّهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ:
مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ فِي الْمُصِيبَةِ مَا أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَلَوْ أُعْطِيهَا أَحَدٌ قَبْلَهَا لِأُعْطِيَهَا يَعْقُوبُ. أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ حين فقد يوسف؟ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «١» !.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ: إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْهُمْ بِالْهِدَايَةِ، وَمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْهِدَايَةِ فَلَنْ يَضِلَّ أَبَدًا. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ ثَابِتَةٌ تَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، إِذْ كُلُّ وَصْفٍ لَهُ يَبْرُزُ في جملة مستقلة. وبدىء بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا أَهَمُّ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأُخِّرَتْ هَذِهِ لِأَنَّهَا تَنَزَّلَتْ مِمَّا قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْجَزَاءُ الْجَزِيلُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَمَّنْ سَبَقَتْ هِدَايَتُهُ. وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: هُمْ. وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، كَأَنَّ الْهِدَايَةَ انْحَصَرَتْ فِيهِمْ وَبِاسْمِ الْفَاعِلِ، لِيَدُلَّ عَلَى الثُّبُوتِ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُتَجَدِّدَةِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ فَيُخْبَرُ عَنْهَا بِالْفِعْلِ، بَلْ هِيَ وَصْفٌ ثَابِتٌ. وَقِيلَ:
الْمُهْتَدُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَإِجْزَالِ الْأَجْرِ. وَقِيلَ: إِلَى تَسْهِيلِ الْمُصَابِ وَتَخْفِيفِ الْحُزْنِ. وَقِيلَ: إِلَى الِاسْتِرْجَاعِ. وَقِيلَ: إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَهَذِهِ التَّقْيِيدَاتُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا فِي اللَّفْظِ، فَالْأَوْلَى الْحَمْلُ عَلَى الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ، وَنَظِيرُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ قَوْلُهُ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «٢». وَالْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ: هُمُ الْمُهْتَدُونَ، كَالْكَلَامِ على: الْمُفْلِحُونَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مَزِيدَ التَّوْكِيدِ فِي الْأَمْرِ بِتَوْلِيَةِ وَجْهِهِ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ، وَبِتَوْلِيَتِهِمْ وُجُوهَهُمْ شَطْرَهُ لِلِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِ نَسْخِ الْقِبْلَةِ، حَيْثُ كَانَ النَّسْخُ صَعْبًا عَلَى النُّفُوسِ، حَيْثُ أَلِفُوا أَمْرًا، وَأُمِرُوا بِتَرْكِهِ وَالِانْتِقَالِ إِلَى غَيْرِهِ، وَخُصُوصًا عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى النَّسْخَ. فَلِذَلِكَ كُرِّرَ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِذَلِكَ وَفِعْلِهِ لِانْتِفَاءِ حُجَجِ النَّاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ بِأَمْرٍ مِنْهُ تَعَالَى، لَمْ تَبْقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ عَلَى مُمْتَثِلِ أَمْرِ اللَّهِ، لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ ثَانِيًا، كَأَمْرِهِ أَوَّلًا. وَهُوَ قَدْ أَمَرَ أَوَّلًا بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَمَرَ آخِرًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ. فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ خَالَفَ. وَاسْتَثْنَى مِنَ النَّاسِ مَنْ ظَلَمَ، لِأَنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ حُجَجُهُ، وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً، وَلَا تَشْغِيبَاتُهُ وَتَمْوِيهَاتُهُ، لِأَنَّهُ قَامَ بِهِ وَصْفٌ يَمْنَعُهُ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَالْبَلْجُ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِخَشْيَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ خَشْيَةِ النَّاسِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا خَشُوا الله تعالى امتثلوا
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٨٤.
(٢) سورة لقمان: ٣١/ ٥. وسورة البقرة: ٢/ ٥.
59
أَوَامِرَهُ وَاجْتَنِبُوا مَنَاهِيَهُ. وَعَطَفَ عَلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ عِلَّةً أُخْرَى، وَهِيَ إِتْمَامُ النِّعْمَةِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ إِذْ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْمَأْلُوفِ، وَلِتَحْصِيلِ الْهِدَايَةِ. وَشَبَّهَ هَذَا الْإِتْمَامَ بِإِتْمَامِ نِعْمَةِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ فِيهِمْ، إِذْ هَذِهِ النِّعْمَةُ هِيَ الْأَصْلُ، وَهِيَ مَنْبَعُ النِّعَمِ وَالْهِدَايَةِ، ثُمَّ وَصَفَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي رُزِقُوا مِنْهَا الْحَظَّ الْأَكْمَلَ، وَهِيَ تِلَاوَةُ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ «١» ؟ فَكَيْفَ بِمَزِيدِ التَّزْكِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ مَنِ الْأَرْجَاسِ وَالْحَيَاةُ السَّرْمَدِيَّةُ فِي النَّاسِ؟
أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ
وَقَالَ آخَرٌ:
مَحَلُّ الْعَلَمِ لَا يَأْوِي تُرَابًا وَلَا يَبْلَى عَلَى الزَّمَنِ الْقَدِيمِ
ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالذِّكْرِ لِهَذِهِ النِّعَمِ لِئَلَّا يَنْسَوْهَا، وَبِالشُّكْرِ عَلَيْهَا لِأَنْ يَزِيدَهُمْ مِنَ النِّعَمِ. ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ كُفْرَانِهَا، لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعَمِ يَقْتَضِي زَوَالَهَا وَاسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. ثُمَّ نَادَى مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ ثَانِي نِدَاءٍ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، لِيُقْبِلُوا عَلَى مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ. فَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِهِمَا تُحَصِّلُ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ مَنْ صَبَرَ ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا لِلشُّهَدَاءِ إِنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَذَكَرَ أَنَّا لَا نَشْعُرُ نَحْنُ بِحَيَاتِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَبْتَلِيهِمْ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ فِيهِ الصَّبْرُ، وَهُوَ شَيْءٌ مِنَ الْبَلَايَا الَّتِي ذَكَرَهَا تَعَالَى. ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُبَشِّرَ الصَّابِرِينَ عَلَى مَا ابْتُلُوا بِهِ الْمُسَلِّمِينَ لِقَضَاءِ اللَّهِ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا صَرِيحًا أَنَّهُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَمَمَالِيكُهُ، وَإِلَيْهِ مَآبُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ، يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَمَا أَرَادَ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذَا الْوَصْفِ، فَعَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ الصَّلَاةُ وَالرَّحْمَةُ، وَهُوَ الْمُهْتَدِي الَّذِي ثَبَتَتْ هدايته ورسخت.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٧]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٥١.
60
الصَّفَا: أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِقَوْلِهِمْ: صَفْوَانٌ، وَلِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الصَّفْوِ، وَهُوَ الْخَالِصُ.
وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُفْرَدِهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ، وَمُفْرَدُهُ صَفَاةٌ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ يُجْمَعُ عَلَى فُعُولٍ وَأَفْعَالٍ، قَالُوا: صَفِيٌّ وَأَصْفَاءٌ. مِثْلُ: قِفِيٌّ وَأَقْفَاءٌ. وَتُضُمُّ الصَّادُ فِي فُعُولٍ وَتُكْسَرُ، كَعِصِيٍّ، وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ. وَقِيلَ: الْحَجَرُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ مِنْ طِينٍ، أَوْ تُرَابٍ يَتَّصِلُ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاشْتِقَاقُ. وَقِيلَ: هُوَ الصَّخْرَةُ الْعَظِيمَةُ. الْمَرْوَةُ:
وَاحِدَةُ الْمَرْوِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، قَالَ:
فَتَرَى الْمَرْوَ إِذَا مَا هَجَّرَتْ عَنْ يَدَيْهَا كَالْفَرَاشِ الْمُشْفَتِّرِ
وَقَالُوا: مروان فِي جَمْعِ مَرْوَةٍ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي جَمْعِ تَصْحِيحِ مَرْوَةٍ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ الَّتِي فِيهَا لِينٌ. وَقِيلَ: الْحِجَارَةُ الصَّلْبَةُ. وَقِيلَ: الصِّغَارُ الْمُرْهَفَةُ الْأَطْرَافِ. وَقِيلَ:
61
الْحِجَارَةُ السُّودُ. وَقِيلَ: الْبِيضُ. وَقِيلَ: الْبِيضُ الصَّلْبَةُ. وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ فِي الْآيَةِ: عَلَمَانِ لِجَبَلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَزِمَتَا فِيهِمَا لِلْغَلَبَةِ، كَهُمَا فِي الْبَيْتِ: لِلْكَعْبَةِ، وَالنَّجْمِ:
لِلثُّرَيَّا، الشَّعَائِرُ: جَمَعَ شَعِيرَةٍ أَوْ شَعَارَةٍ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: سَمِعْتُ الْأَزْهَرِيَّ يَقُولُ: هِيَ الْعَلَائِمُ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ بِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ مَوْقِفٍ وَمَشْهَدٍ وَمَسْعًى وَمَذْبَحٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَنَا هَذِهِ الْمَادَّةُ، أَعْنِي مَادَّةَ شَعَرَ، أَيْ أَدْرَكَ وَعَلِمَ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: بَيْتُنَا شِعَارٌ: أَيْ عَلَامَةٌ، وَمِنْهُ إِشْعَارُ الْهَدْيِ. الْحَجُّ: الْقَصْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَالَ الرَّاجِزُ:
لَرَاهِبٌ يَحُجُّ بَيْتَ الْمَقْدِسْ فِي مَنْقَلٍ وَبَرْجَدٍ وَبُرْنُسْ
وَالِاعْتِمَارُ: الزِّيَارَةُ. وَقِيلَ: الْقَصْدُ، ثُمَّ صَارَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَلَمَيْنِ لِقَصْدِ الْبَيْتِ وَزِيَارَتِهِ لِلنُّسُكَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ، وَهُمَا فِي الْمَعَانِي: كَالْبَيْتِ وَالنَّجْمِ فِي الْأَعْيَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَاتَانِ الْمَادَّتَانِ فِي يُحَاجُّوكُمْ وَفِي يَعْمُرُ. الْجُنَاحُ: الْمَيْلُ إِلَى الْمَأْثَمِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْإِثْمِ.
يُقَالُ: جَنَحَ إِلَى كَذَا جُنُوحًا: مَالَ، وَمِنْهُ جُنْحُ اللَّيْلِ: مَيْلُهُ بِظُلْمَتِهِ، وَجَنَاحُ الطَّائِرِ. تَطَوَّعَ:
تَفَعَّلَ مِنَ الطَّوْعِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ. اللَّيْلُ: قِيلَ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، مِثْلُ: تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ، ولا يحفظ جمعا لِلَّيْلِ، وَأَخْطَأَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ اللَّيَالِيَ جَمْعُ اللَّيْلِ، بَلِ اللَّيَالِي جَمْعُ لَيْلَةٍ، وَهُوَ جَمْعٌ غَرِيبٌ، وَنَظِيرُهُ: كَيْكَةُ وَالْكَيَاكِي، وَالْكَيْكَةُ: الْبَيْضَةُ، كَأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمَا لَيْلَاهُ وَكَيْكَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّوَهُّمِ قَوْلُهُمْ فِي تَصْغِيرِ ليلة: لييلية، وَقَدْ صَرَّحُوا بِلَيْلَاةٍ فِي الشِّعْرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فِي كُلِّ يَوْمٍ وَبِكُلِّ لَيْلَاةٍ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَلِفُ إِشْبَاعًا نَحْوَ:
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعَقْرَابِ وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: بَعْضُ الطَّيْرِ يُسَمَّى لَيْلًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وَلَدُ الْحُبَارَى. وَأَمَّا النَّهَارُ:
فَجَمْعُهُ نَهَرٌ وَأَنْهِرَةٌ، كَقَذَلٍ وَأَقْذِلَةٍ، وَهُمَا جَمْعَانِ مَقِيسَانِ فِيهِ. وَقِيلَ: النَّهَارُ مُفْرَدٌ لَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، كَقَوْلِكَ: الضِّيَاءُ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْلَا الثَّرِيدَانِ هَلَكْنَا بِالضُّمَرِ ثَرِيدُ لَيْلٍ وَثَرِيدٌ بِالنَّهَرِ
وَيُقَالُ: رَجُلٌ نَهَرٌ، إِذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي النَّهَارِ، وَفِيهِ مَعْنَى النَّسَبِ. قَالُوا: وَالنَّهَارُ مِنْ
62
طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيٍّ: «إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ»
، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ «١». وَظَاهِرُ اللُّغَةِ أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ الْإِسْفَارِ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ:
وَيَغْلِبُ أَوَّلُ النَّهَارِ طُلُوعَ الشَّمْسِ. زَادَ النَّضْرُ: وَلَا يُعَدُّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ النَّهَارِ. وقال الزجاج، في (كتاب الْأَنْوَاءِ) : أَوَّلُ النَّهَارِ ذُرُورُ الشَّمْسِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخَرِ لَيْلَةٍ حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلَا
وَالْمِصْرُ: الْقَطْعُ. وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ:
إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ فَإِنَّهَا أَمَارَةُ تَسْلِيمِي عَلَيْكِ فَوَدِّعِي
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا نَهَارٌ، وَمِنَ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَادَّةُ نَهَرَ فِي قَوْلِهِ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «٢».
الْفُلْكُ: السُّفُنُ، وَيَكُونُ مُفْرَدًا وَجَمْعًا. وَزَعَمُوا أَنَّ حَرَكَاتِهِ فِي الْجَمْعِ لَيْسَتْ حَرَكَاتِهِ فِي الْمُفْرَدِ، وَإِذَا اسْتُعْمِلَ مفرد أثنى، قَالُوا: فَلَكَانِ. وَقِيلَ: إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، فَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ، وَأَنَّ حَرَكَاتِهِ فِي الْجَمْعِ حَرَكَاتُهُ فِي الْمُفْرِدِ، وَلَا تُقَدَّرُ بِغَيْرِهَا. وَإِذَا كَانَ مُفْرَدًا فَهُوَ مُذَكَّرٌ، كَمَا قَالَ: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «٣». وَقَالُوا: وَيُؤَنَّثُ تَأْنِيثَ الْمُفْرَدِ، قَالَ: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا، إِذْ يَكُونُ هُنَا اسْتُعْمِلَ جَمْعًا، فَهُوَ مِنْ تَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ يُوصَفُ بِالَّتِي، كَمَا تُوصَفُ بِهِ الْمُؤَنَّثَةُ. وَقِيلَ: وَاحِدُ الْفُلْكِ، فَلَكٌ، كَأُسْدٍ وَأَسَدٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الدَّوَرَانِ، وَمِنْهُ:
فَلَكُ السَّمَاءِ الَّذِي تَدُورُ فِيهِ النُّجُومُ، وَفَلَكَةُ الْمِغْزَلِ، وَفَلَكَةُ الْجَارِيَةِ: اسْتِدْرَارُ نَهْدِهَا. بَثَّ:
نَشَرَ وَفَرَّقَ وَأَظْهَرَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَفِي الْأَرْضِ مَبْثُوثًا شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ وَمُضَارِعُهُ: يَبُثُّ، عَلَى الْقِيَاسِ فِي كُلِّ ثُلَاثِيٍّ مُضَعَّفٍ مُتَعَدٍّ أَنَّهُ يَفْعُلُ إِلَّا مَا شَذَّ.
الدَّابَّةُ: اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ، وَرُدَّ قَوْلُ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهُ الطَّيْرَ بقول علقمة:
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥.
(٣) سورة الشعراء: ٢٦/ ١١٩.
63
كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
وَيَقُولُ الْأَعْشَى:
دَبِيبَ قَطَا الْبَطْحَاءِ فِي كُلِّ مَنْهَلِ وَفِعْلُهُ: دَبَّ يَدِبُّ، وَهَذَا قِيَاسُهُ لِأَنَّهُ لَازِمٌ، وَسُمِعَ فِيهِ يَدُبُّ بِضَمِّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ، وَالْهَاءُ فِي الدَّابَّةِ لِلتَّأْنِيثِ، إِمَّا عَلَى مَعْنَى نَفْسِ دَابَّةٍ، وَإِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ، لِكَثْرَةِ وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. التَّصْرِيفُ: مَصْدَرُ صَرَفَ، وَمَعْنَاهُ: رَاجِعٌ لِلصَّرْفِ، وَهُوَ الرَّدُّ.
صَرَفْتُ زَيْدًا عَنْ كَذَا: رَدَدْتُهُ. الرِّيَاحُ: جَمْعُ رِيحٍ، جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَيَاؤُهُ وَاوٌ لِأَنَّهَا مِنْ رَاحَ يَرُوحُ، وَقُلِبَتْ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَحِينَ زَالَ مُوجِبُ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْكَسْرُ، ظَهَرَتِ الْوَاوُ، قالوا: أَرْوَاحٌ، كَجَمْعِ الرُّوحِ. قَالَ الشاعر:
أريت بِهَا الْأَرْوَاحُ كُلَّ عَشِيَّةٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا آلُ نُؤْيٍ مُنَضَّدِ
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ لَحَنَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ عُمَارَةُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ بِلَالِ بْنِ جَرِيرٍ، فَاسْتَعْمَلَ الْأَرْيَاحَ فِي شِعْرِهِ، وَلَحَنَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّ الْأَرْيَاحَ لَا يَجُوزُ، فَقَالَ لَهُ عُمَارَةُ: أَلَا تَسْمَعَ قَوْلَهُمْ: رِيَاحٌ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَاتِمٍ: هَذَا خِلَافُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ وَرَجَعَ. انْتَهَى. وَفِي مَحْفُوظِي قَدِيمًا أَنِ الْأَرْيَاحَ جَاءَتْ فِي شِعْرِ بَعْضِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ الَّذِينَ يُسْتَشْهَدُ بِكَلَامِهِمْ، كَأَنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى الْمُفْرَدِ، وَإِنْ كَانَتْ عِلَّةُ الْقَلْبِ مَفْقُودَةً فِي الْجَمْعِ، كَمَا قَالُوا: عِيدٌ وَأَعْيَادٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الْعَوْدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الْبَدَلَ جَعَلَهُ كالحرف الأصلي.
السحاب: اسْمُ جِنْسٍ، الْمُفْرَدُ سَحَابَةٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْسَحِبُ، كَمَا يُقَالُ لَهُ: حَبَى، لِأَنَّهُ يَحْبُو، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. التَّسْخِيرُ: هُوَ التَّذْلِيلُ وَجُعِلَ الشَّيْءُ دَاخِلًا تَحْتَ الطَّوْعِ. قَالَ الرَّاغِبُ: التَّسْخِيرُ: الْقَهْرُ عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْإِكْرَاهِ. الْحُبُّ: مَصْدَرُ حَبَّ يَحِبُّ، وَقِيَاسُ مُضَارِعِهِ يُحِبُّ بِالضَّمِّ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُضَاعَفِ الْمُتَعَدِّي، وَقِيَاسُ الْمَصْدَرِ الْحَبُّ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَيُقَالُ: أَحَبَّ، بِمَعْنَى: حَبَّ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَمَحْبُوبٌ أَكْثَرُ مِنْ مُحِبٍّ، وَمُحِبٌّ أَكْثَرُ مِنْ حَابَّ، وَقَدْ جَاءَ جَمْعُ الْحُبِّ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
ثَلَاثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبُّ عَلَاقَةٍ وَحُبُّ تِمِلَّاقٍ وَحُبٌّ هُوَ الْقَتْلُ
وَالْحُبُّ: إِنَاءٌ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَاءَ. الْجَمِيعُ: فَعِيلٌ مِنَ الْجَمْعِ، وَكَأَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، فَلِذَلِكَ يُتْبَعُ تَارَةً بِالْمُفْرَدِ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ «١»، وَتَارَةً بِالْجَمْعِ: جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «٢»،
(١) سورة القمر: ٥٤/ ٤٤.
(٢) سورة يس: ٣٦/ ٣٢.
64
وَيَنْتَصِبُ حَالًا: جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو جَمِيعًا، وَيُؤَكَّدُ بِهِ بِمَعْنَى كُلِّهِمْ: جَاءَ الْقَوْمُ جَمِيعُهُمْ، أَيْ كُلُّهُمْ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّمَانِ، إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الشُّمُولِ فِي نِسْبَةِ الْفِعْلِ. تَبَرَّأَ:
تَفَعَّلَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: بَرِئْتُ مِنَ الدِّينِ. بَرَاءَةً: وَهُوَ الْخُلُوصُ وَالِانْفِصَالُ وَالْبُعْدُ. تَقَطَّعَ: تَفَعَّلَ مِنَ الْقَطْعِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ. الْأَسْبَابُ: جَمَعَ سَبَبٍ، وَهُوَ الْوَصْلَةُ إِلَى الْمَوْضِعِ، وَالْحَاجَةِ مِنْ بَابٍ، أَوْ مَوَدَّةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. قِيلَ: وَقَدْ تُطْلَقُ الْأَسْبَابُ عَلَى الْحَوَادِثِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنِيَةِ يَلْقَهَا وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَأَصْلُ السَّبَبِ: الْحَبْلُ، وَقِيلَ: الَّذِي يُصْعَدُ بِهِ، وَقِيلَ: الرَّابِطُ الْمُوصِلُ. الْكَرَّةُ:
الْعَوْدَةُ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَالْفِعْلُ كَرَّ يَكِرُّ كَرًّا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَكُرُّ عَلَى الْكَتِيبَةِ لَا أُبَالِي أَحَتْفِي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا
الْحَسْرَةُ: شِدَّةُ النَّدَمِ، وَهُوَ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ بِانْحِسَارِهِ عَنْ مِأَمُولِهِ..
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، سَبَبُ النُّزُولِ: أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَحُجُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانَتْ مَنَاةُ خَزَفًا وَحَدِيدًا، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا، فَأُنْزِلَتْ. وَخُرِّجَ هَذَا السَّبَبُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّحَرُّجِ عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا أَقْوَالٌ. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَثْنَى عَلَى الصَّابِرِينَ، وَكَانَ الْحَجُّ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الْمُفْنِيَةِ لِلْمَالِ وَالْبَدَنِ وَكَانَ أَحَدَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، نَاسَبَ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، كَمَا ذَكَرْنَا، قِيلَ: عَلَمَانِ لِهَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ، وَالْأَعْلَامُ لَا يُلْحَظُ فِيهَا تَذْكِيرُ اللَّفْظِ وَلَا تَأْنِيثُهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: طَلْحَةُ وَهِنْدٌ؟ وَقَدْ نَقَلُوا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: ذُكِّرَ الصَّفَا، لِأَنَّ آدَمَ وَقَفَ عَلَيْهِ، وَأُنِّثَتِ الْمَرْوَةُ، لِأَنَّ حَوَّاءَ وَقَفَتْ عَلَيْهَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ يُدْعَى إِسَافًا، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ يُدْعَى نَائِلَةَ، فَاطَّرَدَ ذَلِكَ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَقُدِّمَ الْمُذَكَّرُ. نَقَلَ الْقَوْلَيْنِ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ دُوِّنَ فِي كِتَابٍ مَا ذَكَرْتُهُ. وَلِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ كَلَامٌ مَنْقُولٌ عَنْهُمْ فِي الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، رَغِبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ. وَلَيْسَ الْجَبَلَانِ لِذَاتِهِمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ إِنَّ طَوَافَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَمَعْنَى مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ: مَعَالِمِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: مَعْنَى مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ مِنْ مَوَاضِعِ عِبَادَتِهِ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مضاف فِي الْأَوَّلِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْجَرِّ. وَلَمَّا كَانَ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، إِنَّمَا يَكُونُ عِبَادَةً إِذَا كَانَ بَعْضَ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ، وَمَنْ شَرْطِيَّةٌ. فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
65
بِهِما
، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يَطَّوَّفَ. وَقَرَأَ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَشَهْرٌ: أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ لَا، نَحْوَ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «١» ؟ وَقَوْلُهُ:
وَمَا أَلُومُ البيض أن لا تسخرا إِذَا رَأَيْنَ الشَّمَطَ الْقَفَنْدَرَا
فَتَتَّحِدُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي فِعْلِ الشَّيْءِ هُوَ رَفْعٌ فِي تَرْكِهِ، إِذْ هُوَ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا «٢». فَعَلَى هَذَا تَكُونُ لَا عَلَى بَابِهَا لِلنَّفْيِ، وَتَكُونُ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِيهَا رَفْعُ الْجُنَاحِ فِي فِعْلِ الطَّوَافِ نَصًّا، وَفِي هَذِهِ رَفْعُ الْجُنَاحِ فِي التَّرْكِ نَصًّا، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَيْسَ الطَّوَافُ بِهِمَا وَاجِبًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَهُ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ رُكْنٌ، كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ، فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ، أَوْ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ، كَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةِ، أَوْ إِنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، أَوْ ثَلَاثَةً فَأَقَلَّ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ شَوْطٍ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، كَأَبِي حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، يَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ جَلِيٍّ يَنْسَخُ هَذَا النَّصَّ الْقُرْآنِيَّ. وَقَوْلُ عَائِشَةَ لِعُرْوَةَ حِينَ قَالَ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، فَمَا نَرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا؟ فَقَالَتْ:
يَا عُرَيَّةُ، كَلَّا، لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا. كَلَامٌ لَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الْإِثْمِ عَمَّنْ طَافَ بِهِمَا، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الطَّوَافِ، لِأَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ إِبَاحَةُ الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا كُنْتَ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. وَظَاهِرُ هَذَا الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَمَنْ سَعَى بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ صُعُودٍ عَلَيْهِمَا، لَمْ يُعَدَّ طَائِفًا. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مُطْلَقِ الطَّوَافِ، لَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ، وَلَا عَدَدٍ. وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الرَّمَلَ فِي السَّعْيِ سُنَةٌ.
وَرَوَى عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ شَاءَ سَعَى بِمَسِيلِ مَكَّةَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَسْعَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي الرَّمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي. وَكَانَ عُمَرُ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ: إِنْ مَشَيْتُ، فَقَدْ رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي، وَإِنْ سَعَيْتُ، فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى. وَسَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ.
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَزُولَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ سَبَبِهِ، وَيُحْتَمَلَ مَشْرُوعِيَّتُهُ دَائِمًا، وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ. وَالرُّكُوبُ فِي السَّعْيِ بَيْنَهُمَا مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حنيفة
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٠.
66
وَأَصْحَابِهِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ الرُّكُوبُ فِي السَّعْيِ، وَلَا فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَعَلَيْهِ إِذْ ذَاكَ دَمٌ. وَإِنْ طَافَ رَاكِبًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَعَادَ إِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْبَيْتِ، وَإِلَّا أَهْدَى.
وَشَكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ».
ولم يجىء فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِدَمٍ. وَفَرَّقَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ: إِنْ طَافَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرٍ أَجْزَاهُ، أَوْ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ لَمْ يُجْزِهِ. وَكَوْنُ الضَّمِيرِ مُثَنَّى فِي قَوْلِهِ: بِهِمَا، لَا يُدْلِ عَلَى الْبَدَاءَةِ بِالصَّفَا، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ فِي السَّعْيِ أَجْزَأَهُ، وَمَشْرُوعِيَّةُ السَّعْيِ، عَلَى قَوْلِ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ، الْبَدَاءَةُ بِالصَّفَا. فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يُلْغَى ذَلِكَ الشَّوْطُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، لَمْ يَجْزِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا: إِنْ لَمْ يُلْغِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ نَزَّلَهُ بِمَنْزِلَةِ التَّرْتِيبِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَطَّوَّفَ وَأَصْلُهُ يَتَطَوَّفُ، وَفِي الْمَاضِي كَانَ أَصْلُهُ تَطَوَّفَ، ثُمَّ أُدْغِمَ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، فَاحْتَاجَ إِلَى اجْتِلَابِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، لِأَنَّ الْمُدْغَمَ فِي الشَّيْءِ لَا بُدَّ مِنْ تَسْكِينِهِ، فَصَارَ اطَّوَّفَ، وَجَاءَ مُضَارِعُهُ يَطَّوَّفُ، فَانْحَذَفَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِتَحْصِينِ الْحَرْفِ الْمُدْغَمِ بِحَرْفِ الْمُضَارَعَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَمْزَةَ: أَنْ يَطُوفَ بِهِمَا، مَنْ طَافَ يَطُوفُ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو السمال: يُطَافُ بِهِمَا، وَأَصْلُهُ: يَطْتَوِفُ، يَفْتَعِلُ، وَمَاضِيهِ: اطْتَوَفَ افْتَعَلَ، تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ، وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا، فَقُلِبَتْ أَلِفًا، وَأُدْغِمَتِ الطَّاءُ فِي التَّاءِ بَعْدَ قَلْبِ التَّاءِ طَاءً، كَمَا قَلَبُوا فِي اطَّلَبَ، فَهُوَ مُطَّلِبٌ، فَصَارَ: اطَّافَ، وَجَاءَ مُضَارِعُهُ: يَطَّافُ، كَمَا جَاءَ يطلب: ومصدر أطوف: اطوّفا، وَمَصْدَرُ اطَّافَ: اطِّيَافًا، عَادَتِ الْوَاوُ إِلَى أَصْلِهَا، لِأَنَّ مُوجِبَ إِعْلَالِهَا قَدْ زَالَ، ثُمَّ قُلِبَتْ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، كَمَا قَالُوا: اعتاد اعْتِيَادًا، وَأَنْ يَطَّوَّفَ أَصْلُهُ، فِي أَنْ يَطَّوَّفَ، أَيْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي الطَّوَافِ بِهِمَا، فَحَذَفَ الْحَرْفَ مَعَ أَنْ، وَحَذْفُهُ قِيَاسٌ مَعَهَا إِذَا لَمْ يُلْبَسْ، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، أَمَوْضِعُهَا بَعْدَ الْحَذْفِ جَرٌّ أَمْ نَصْبٌ؟ وَجَوَّزَ بَعْضُ مَنْ لَا يُحْسِنُ عِلْمَ النَّحْوِ أَنْ يَكُونَ: أَنْ يَطَّوَّفَ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا أَيْضًا، قَالَ التَّقْدِيرُ: فَلَا جُنَاحَ الطَّوَافُ بِهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي حَالِ تَطَوُّفِهِ بِهِمَا، قَالَ: وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ الْعَامِلُ فِي الْجَرِّ، وَهِيَ حَالٌ مِنَ الْهَاءِ فِي عَلَيْهِ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ سَاقِطَانِ، وَلَوْلَا تَسْطِيرُهُمَا فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ لَمَا ذَكَرْتُهُمَا.
وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً: التَّطَوُّعُ: مَا تَتَرَغَّبُ بِهِ مِنْ ذَاتِ نَفْسِكَ مِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْكَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي حديث ضمام: هل عيّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ، أَيْ تَتَبَرَّعَ. هَذَا
67
هُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ التَّبَرُّعَ بِأَيِّ فِعْلِ طَاعَةٍ كَانَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَوْ بِالنَّفْلِ عَلَى وَاجِبِ الطَّوَافِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ بِالْعُمْرَةِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ أَوْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، أَوْ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ أَسْقَطَ وُجُوبَ السَّعْيِ، لَمَّا فَهِمَ الْإِبَاحَةَ فِي التَّطَوُّفِ بِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما، حَمَلَ هَذَا عَلَى الطَّوَافِ بِهِمَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ تَبَرَّعَ بِالطَّوَافِ بَيْنَهُمَا، أَوْ بِالسَّعْيِ فِي الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، أَقْوَالٌ سِتَّةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: تَطَوَّعَ فِعْلًا مَاضِيًا هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ «١»، فَيَحْتَمِلُ مَنْ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: يَطَوَّعْ مُضَارِعًا مَجْزُومًا بِمَنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَافَقَهُمَا زَيْدٌ وَرُوَيْسٌ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَانْتِصَابُ خَيْرًا عَلَى الْمَفْعُولِ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِخَيْرٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَرَأَ: يَتَطَوَّعُ بِخَيْرٍ. وَيَطَّوَّعُ أَصْلُهُ: يَتَطَوَّعُ، كَقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأُدْغِمَ. وَأَجَازُوا جَعْلَ خَيْرًا نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَمَنْ يَتَطَوَّعْ تَطَوُّعًا خَيْرًا.
فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَإِذَا كَانَتْ مَنْ مَوْصُولَةً فِي احْتِمَالِ أَحَدِ وَجْهَيْ مَنْ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ تَطَوَّعَ فِعْلًا مَاضِيًا، فَهِيَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ تَطَوَّعَ إِذْ ذَاكَ تَكُونُ صِلَةً. وَشُكْرُ اللَّهِ الْعَبْدَ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا بِالثَّنَاءِ.
وَعِلْمُهُ هُنَا هُوَ عِلْمُهُ بِقَدْرِ الْجَزَاءِ الَّذِي لِلْعَبْدِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ، أَوْ بِنِيَّتِهِ وَإِخْلَاصِهِ فِي الْعَمَلِ. وَقَدْ وَقَعَتِ الصِّفَتَانِ هُنَا الْمَوْقِعَ الْحَسَنَ، لِأَنَّ التَّطَوُّعَ بِالْخَيْرِ يَتَضَمَّنُ الْفِعْلَ وَالْقَصْدَ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ الشُّكْرِ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ، وَذِكْرَ الْعِلْمِ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ، وَأُخِّرَتْ صِفَةُ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً، عَلَى الشُّكْرِ، كَمَا أَنَّ النِّيَّةَ مُقَدَّمَةٌ على الفعل لتواخي رؤوس الْآيِ.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى: الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَكِتْمَانِهِمْ آيَةَ الرَّجْمِ وَأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُعَاذًا سَأَلَ الْيَهُودَ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ ﷺ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَالْكَاتِمُونَ هُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَعُلَمَاءُ النَّصَارَى، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَحْبَارُ الْيَهُودِ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَابْنُ صُورِيَّا، وَزَيْدُ بْنُ التَّابُوهِ. مَا أَنْزَلْنَا: فِيهِ خُرُوجٌ مِنْ ظَاهِرٍ إِلَى ضَمِيرِ متكلم. والبينات: هي
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٤. [.....]
68
الْحُجَجُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْهُدَى: الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِهِ، أَوِ الْبَيِّنَاتُ وَالْهُدَى وَاحِدٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَوْكِيدٌ، وَهُوَ مَا أَبَانَ عَنْ نُبُوَّتِهِ وَهَدَى إِلَى اتِّبَاعِهِ. أَوِ الْبَيِّنَاتُ: الرَّجْمُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ، وَالْهُدَى: أَمْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتُهُ وَاتِّبَاعُهُ. وَتَتَعَلَّقُ مَنْ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ كَائِنًا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى.
مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ: الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي بَيَّنَاهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مَا أَنْزَلْنَا، وَضَمِيرُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَاهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَيَّنَّاهُ مُطَابِقَةً لِقَوْلِهِ: أَنْزَلْنَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: بَيَّنَهُ: جَعَلَهُ ضَمِيرَ مُفْرَدٍ غَائِبٍ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ إِلَى ضَمِيرِ غَائِبٍ. والناس هُنَا: أَهْلُ الْكِتَابِ، وَالْكِتَابُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَقِيلَ: النَّاسُ أمة محمد صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. وَالْأَوْلَى وَالْأَظْهَرُ: عُمُومُ الْآيَةِ فِي الْكَاتِمِينَ، وَفِي النَّاسِ، وَفِي الْكِتَابِ وَإِنْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَهِيَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِنْ دِينِ اللَّهِ يُحْتَاجُ إِلَى بَثِّهِ وَنَشْرِهِ، وَذَلِكَ مُفَسَّرٌ فِي
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»
، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ فِي بَثِّهِ. وَقَدْ فَهِمَ الصَّحَابَةُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْعُمُومَ، وَهُمُ الْعَرَبُ الْفُصَّحُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِمْ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا: لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ. وَقَدِ امْتَنَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ تَحْدِيثِهِ بِبَعْضِ مَا يَخَافُ مِنْهُ فَقَالَ: لَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ اسْتِحْقَاقُ اللَّعْنَةِ عَلَى مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ، بَلْ يَجِبُ التَّعْلِيمُ وَالتَّبْيِينُ، وَإِنْ لَمْ يَسْأَلُوا، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «١».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَزْمٍ الْقُرْطُبِيُّ، فِيمَا سَمِعَ مِنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن أبي نَصْرٍ الْحُمَيْدِيُّ الْحَافِظُ: الْحَظُّ لِمَنْ آثَرَ الْعِلْمَ وَعَرَفَ فَضْلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ جُهْدَهُ وَيُقْرِئَهُ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَيُحَقِّقَهُ مَا أَمْكَنَهُ، بَلْ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَهْتِفَ بِهِ عَلَى قَوَارِعِ طُرُقِ الْمَارَّةِ ويدعو إليه في شوارع السَّابِلَةِ وَيُنَادِي عَلَيْهِ فِي مَجَامِعِ السَّيَّارَةِ، بَلْ لَوْ تَيَسَّرَ لَهُ أَنْ يَهَبَ الْمَالَ لِطُلَّابِهِ وَيُجْرِيَ الْأُجُورَ لِمُقْتَبِسِيهِ وَيُعْظِمَ الْأَجْعَالَ لِلْبَاحِثِينَ عَنْهُ وَيُسَنِّيَ مَرَاتِبَ أَهْلِهِ صَابِرًا فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَالْأَذَى، لَكَانَ ذَلِكَ حَظًّا جَزِيلًا وَعَمَلًا جَيِّدًا وَسَعْدًا كَرِيمًا وَإِحْيَاءً لِلْعِلْمِ، وَإِلَّا فَقَدَ دَرَسَ وَطُمِسَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا آثَارٌ لَطِيفَةٌ وَأَعْلَامٌ دَائِرَةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. وَاسْتَحَقُّوا هذا الأمر
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٨٧.
69
الْفَظِيعَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ اللَّاعِنِينَ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ كِتْمَانُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ لِلنَّاسِ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِيهِ لَبْسٌ، فَعَمَدُوا إِلَى هَذَا الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ فَكَتَمُوهُ، فَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ هَذَا الْعِقَابَ. وَجَاءَ بِأُولَئِكَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْبَعِيدِ، تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ الْقَبِيحِ، وَأَبْرَزَ الْخَبَرَ فِي صُورَةِ جُمْلَتَيْنِ تَوْكِيدًا وَتَعْظِيمًا، وَأَتَى بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الْمُقْتَضِي التَّجَدُّدَ لِتَجَدُّدِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ. وَلِذَلِكَ أَتَى صِلَةُ الَّذِينَ فِعْلًا مُضَارِعًا لِيَدُلَّ أَيْضًا عَلَى التَّجَدُّدِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ هُوَ تَجَدُّدُ كِتْمَانٍ. وَجَاءَ بِالْجُمْلَةِ الْمُسْنَدُ فِيهَا الْفِعْلُ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجَازِي عَلَى مَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الذَّنْبِ. وَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ، لِأَنَّ لَعْنَةَ اللَّاعِنِينَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى لَعْنَةِ اللَّهِ لِلْكَاتِمِينَ. وَأُبْرِزَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِلَفْظِ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى نَسَقِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، لَكَانَ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ، لَكِنَّ فِي إِظْهَارِ هَذَا الِاسْمِ مِنَ الْفَخَامَةِ مَا لَا يَكُونُ فِي الضمير. واللاعنون: كُلُّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ اللَّعْنُ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمُؤْمِنُو الثَّقَلَيْنِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ أَوْ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ غَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَعُذِّبَ فَصَاحَ، إِذْ يَسْمَعُهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ أَوِ الْبَهَائِمُ وَالْحَشَرَاتُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَذَلِكَ لِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْجَدْبِ بِذُنُوبِ عُلَمَاءِ السُّوءِ الْكَاتِمِينَ، أَوِ الطَّارِدُونَ لَهُمْ إِلَى النَّارِ حِينَ يَسُوقُونَهُمْ إِلَيْهَا، لِأَنَّ اللَّعْنَ هُوَ الطَّرْدُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ قَالَهُ قَتَادَةُ أَوِ الْمُتَلَاعِنُونَ، إِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ أَحَدٌ مِنْهُمُ اللَّعْنَ انْصَرَفَ إِلَى الْيَهُودِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَمَنْ أَطْلَقَ اللَّاعِنُونَ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ أَجْرَاهُ مَجْرَى مَا يَعْقِلُ، إِذْ صَدَرَتْ مِنْهُ اللَّعْنَةُ، وَهِيَ مِنْ فِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ، وَذَلِكَ لِجَمْعِهِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، ضَرْبٌ مِنَ الْبَدِيعِ، وَهُوَ التَّجْنِيسُ المغاير، وهو أن يكون إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ اسْمًا وَالْأُخْرَى فِعْلًا.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَمَعْنَى تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ عَنِ الْكِتْمَانِ إِلَى الْإِظْهَارِ. وَأَصْلَحُوا مَا أَفْسَدُوا مِنْ قُلُوبِهِمْ بِمُخَالَطَةِ الْكُفْرِ لَهَا، أَوْ مَا أَفْسَدُوا مِنْ أَحْوَالِهِمْ مَعَ اللَّهِ، أَوْ أَصْلَحُوا قَوْمَهُمْ بِالْإِرْشَادِ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْإِضْلَالِ. وَبَيَّنُوا:
أَيِ الْحَقَّ الَّذِي كَتَمُوهُ، أَوْ صِدْقَ تَوْبَتِهِمْ بِكَسْرِ الْخَمْرِ وَإِرَاقَتِهَا، أَوْ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلم، أَوِ اعْتَرَفُوا بِتَلْبِيسِهِمْ وَزُورِهِمْ، أَوْ مَا أَحْدَثُوا مِنْ تَوْبَتِهِمْ، لِيَمْحُوا سَيِّئَةَ الْكُفْرِ عَنْهُمْ وَيُعْرَفُوا بِضِدٍّ مَا كَانُوا يُعْرَفُونَ بِهِ، وَيَقْتَدِي بِهِمْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
فَأُولئِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ وَالتَّبْيِينِ. أَتُوبُ عَلَيْهِمْ: أَيْ أَعْطِفُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَا تَلْحَقُهُ لَعْنَةٌ. وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ:
70
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وَخَتَمَ بِهِمَا تَرْغِيبًا فِي التَّوْبَةِ وَإِشْعَارًا بِأَنَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ هُمَا لَهُ، فَمَنْ رَجَعَ إِلَيْهِ عَطَفَ عَلَيْهِ وَرَحِمَهُ.
وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ جُمْلَةً، مِنْهَا أَنَّ كِتْمَانَ الْعِلْمِ حَرَامٌ، يَعْنُونَ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ لِقَوْلِهِ: مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُعَلِّمُ لَا يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا لِذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أُمُورِ الشَّرَائِعِ، فَلَا تَحَرُّجَ فِي كَتْمِهَا.
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً.
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ».
أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ قَالُوا: وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمُسْتَنْبَطُ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَإِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يُحَرَّجُ عَلَيْهِ، كَمَا فَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ، مَا لَمْ يُسْأَلْ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا: تَحْرِيمُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ، وَقَدْ أَجَازَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُهُ الْقُرْآنَ حَتَّى يُسْلِمَ، وَلَا تَعْلِيمُ الْخَصْمِ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ لِيَقْطَعَ بِهَا مَالَهُ، وَلَا السُّلْطَانَ تَأْوِيلًا يَتَطَرَّقُ بِهِ إِلَى مَكَارِهِ الرَّعِيَّةِ، وَلَا تَعْلِيمُ الرُّخَصِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا تُجْعَلُ طَرِيقًا إِلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ. وَمِنْهَا: وُجُوبُ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ إِلَّا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولُ قَوْلِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى يَعُمُّ الْمَنْصُوصَ وَالْمُسْتَنْبَطَ وَجَوَازُ لَعْنِ مَنْ مَاتَ كَافِرًا، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا فَائِدَةَ فِي لَعْنِ مَنْ مَاتَ أَوْ جُنَّ مِنَ الْكُفَّارِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ لَعْنِ الْكُفَّارِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُعَيَّنُ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ. وَقَدْ لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قُومًا بِأَعْيَانِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ لَعْنِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنُ الْعَاصِي وَالْمُتَجَاهِرِ بِالْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ خِلَافًا، وَبَعْضُهُمْ تَفْصِيلًا، فَأَجَازَهُ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ التَّوْبَةَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرَّعَا أَنْ يُظْهِرَ التَّائِبُ خِلَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا، فَبِالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارِ شَرَائِعِهِ، أَوْ عَاصِيًا، فَبِالرُّجُوعِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمُجَانَبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، أَوْ عَنْ ذَنْبٍ وَاحِدٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَوْبَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّوْبَةِ مُشَبَّعًا.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ: لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مَنْ كَتَمَ الْعِلْمَ وَحَالَ مَنْ تَابَ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكُفْرِ، وَبَالَغَ فِي اللَّعْنَةِ، بِأَنْ جَعَلَهَا مُسْتَعْلِيَةً عَلَيْهِ، وَقَدْ تَجَلَّلَتْهُ وَغَشِيَتْهُ، فَهُوَ تَحْتَهَا، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزِلَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ قَبْلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ حَالَ
71
الْكَاتِمِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ التَّائِبِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ مِنْهُمْ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْكَاتِمِينَ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيَا حَالَ الْحَيَاةِ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ مَلْعُونُونَ أَيْضًا بَعْدَ الْمَمَاتِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ كُفَّارٌ، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَوَاوُ الْحَالِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِثْبَاتُهَا أَفْصَحُ مِنْ حَذْفِهَا، خِلَافًا لِمَنْ جَعَلَ حَذْفَهَا شَاذًّا، وَهُوَ الْفَرَّاءُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ خبر إِنَّ، وَلَعْنَةُ اللَّهِ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ عَلَيْهِمْ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ خَبْرٌ عَنْ أُولَئِكَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ لَعْنَةُ فَاعِلًا بِالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ بِكَوْنِهِ خبرا لِذِي خَبَرٍ، فَيُرْفَعُ مَا بَعْدَهُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، فَتَكُونُ قَدْ أَخْبَرَتْ عَنْ أُولَئِكَ بِمُفْرَدٍ، بِخِلَافِ الْإِعْرَابِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّكَ أَخْبَرْتَ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ، بِالرَّفْعِ. وَخَرَّجَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ جَمِيعُ مَنْ وَقَفْنَا عَلَى كَلَامِهِ مِنَ الْمُعْرِبِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَدَّرُوهُ: أَنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، أَوْ: أَنْ يَلْعَنَهُمُ اللَّهُ. وَهَذَا الَّذِي جَوَّزُوهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعَطْفِ عَلَى الْمَوْضِعِ، مِنْ أَنَّ شَرْطَهُ أن يكون ثم طالب ومحرز لِلْمَوْضِعِ لَا يَتَغَيَّرُ، هَذَا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ لَعْنَةً هُنَا مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَعْمَلُ، وَأَنَّهُ يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ لَا يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ الْعِلَاجُ. وَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْكُفَّارِ، أُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحُدُوثِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «١»، لَيْسَ الْمَعْنَى أَلَا أَنْ يَلْعَنَ اللَّهُ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَقَوْلُهُمْ لَهُ ذَكَاءُ الْحُكَمَاءِ. لَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا عَلَى الْحُدُوثِ وَتَقْدِيرُ الْمَصْدَرَيْنِ مُنْحَلَّيْنِ لِأَنْ وَالْفِعْلِ، بَلْ صَارَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ: لَهُ وَجْهٌ وَجْهُ الْقَمَرِ، وَلَهُ شُجَاعَةٌ شُجَاعَةُ الْأَسَدِ، فَأَضَفْتَ الشَّجَاعَةَ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّعْرِيفِ، لَا عَلَى مَعْنَى أَنْ يَشْجَعَ الْأَسَدُ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَتَقَدَّرُ هَذَا الْمَصْدَرُ، أَعْنِي لَعْنَةُ اللَّهِ بِأَنْ وَالْفِعْلِ، فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ لَا مُحْرِزَ لِلْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ لَا طَالِبَ لَهُ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ رَفَعْتَ الْفَاعِلَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى تُنَوِّنَ الْمَصْدَرَ؟ فَقَدْ تَغَيَّرَ الْمَصْدَرُ بِتَنْوِينِهِ، وَلِذَلِكَ حَمَلَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُمْ: هَذَا ضَارَبُ زَيْدٍ غَدًا وَعَمْرًا، عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ: أَيْ وَيَضْرِبُ عَمْرًا، وَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى مَوْضِعِ زَيْدٍ لِأَنَّهُ لَا مُحْرِزَ لِلْمَوْضِعِ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ نَصَبْتَ زَيْدًا لَقُلْتَ: هَذَا ضَارَبٌ زَيْدًا وَتُنَوِّنُ؟ وَهَذَا أَيْضًا عَلَى تَسْلِيمِ مَجِيءِ الْفَاعِلِ مَرْفُوعًا بَعْدَ الْمَصْدَرِ المنون، فهي مسألة
(١) سورة هود: ١١/ ١٨.
72
خِلَافٍ. الْبَصْرِيُّونَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زِيدٍ عَمْرًا. وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ:
لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَلْ إِذَا نُوِّنَ الْمَصْدَرَ لَمْ يجىء بَعْدَهُ فَاعِلٌ مَرْفُوعٌ. وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ، وَلَيْسَ لِلْبَصْرِيِّينَ حُجَّةٌ عَلَى إِثْبَاتِ دَعْوَاهُمْ مِنَ السَّمَاعِ، بَلْ أَثْبَتُوا ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنْ وَالْفِعْلِ. فَمَنْعُ هَذَا التَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ، فَيَكُونُ عَامِلًا. سَلَّمْنَا، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لِلْمَجْرُورِ بَعْدَهُ مَوْضِعًا. سَلَّمْنَا، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ. وَتَتَخَرَّجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى وُجُوهٍ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ.
أَوَّلَاهَا: أَنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ لَمَّا لَمْ يُمْكِنُ الْعَطْفُ، التَّقْدِيرُ: وَتَلْعَنُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا خَرَّجَ سِيبَوَيْهِ فِي: هَذَا ضَارَبٌ زَيْدٍ وَعَمْرًا: أَنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ: وَيَضْرِبُ عَمْرًا. الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى لَعْنَةِ اللَّهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ أُعْرِبَ الْمُضَافُ إليه بإعرابه نحو: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «١». الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً حُذِفَ خَبَرُهُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ يَلْعَنُونَهُمْ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ الْعُمُومُ، فَقِيلَ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، إِذْ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَصَارَ عَامًّا، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنَّاسِ مَنْ يُعْتَدُّ بِلَعْنَتِهِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّةً، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْكَافِرُونَ يَلْعَنُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَيَقُولُونَ: فِي الدُّنْيَا لَعَنَ اللَّهُ الْكَافِرَ، فَيَتَأَتَّى الْعُمُومُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، بَدَأَ تَعَالَى بِنَفْسِهِ، وَنَاهِيكَ بِذَلِكَ طَرْدًا وَإِبْعَادًا. قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ «٢» ؟ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ هِيَ الَّتِي تَجُرُّ لَعْنَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: وَمَا لِي لَا ألعن من لعنه اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ؟ وَكَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ ابْنَهُ سَأَلَهُ: هَلْ يَلْعَنُ؟ وَذَكَرَ شَخْصًا مُعَيَّنًا. فَقَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، هَلْ رَأَيْتَنِي أَلْعَنُ شَيْئًا قَطُّ؟ ثُمَّ قَالَ: وَمَا لِي لا ألعن من لعنه اللَّهُ فِي كِتَابِهِ؟ قَالَ فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، وَأَيْنَ لَعْنَةُ اللَّهِ؟ قَالَ: قَالَ تَعَالَى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «٣». ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَلَائِكَةِ، لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنْ عِظَمِ شَأْنِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِمْ وَطَهَارَتِهِمْ. ثُمَّ ثَلَّثَ بِالنَّاسِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَهُوَ شَاقٌّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مُفَاجَأَةَ الْمُمَاثِلِ مَنْ يَدَّعِي الْمُمَاثَلَةَ بِالْمَكْرُوهِ أَشُقُّ، بِخِلَافِ صُدُورِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْلَى.
خالِدِينَ فِيها: أَيْ فِي اللَّعْنَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَعُودُ عليها في اللفظ
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٨٢.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٦٠.
(٣) سورة هود: ١١/ ١٨.
73
إِلَّا اللَّعْنَةُ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى النَّارِ، أُضْمِرَتْ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهَا، وَلِكَثْرَةِ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: خَالِدِينَ فِيهَا، وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى النَّارِ، وَلِدَلَالَةِ اللَّعْنَةِ عَلَى النَّارِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فَهُوَ فِي النَّارِ. لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ: سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ تِلْوَ قَوْلِهِ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ «١»، الْآيَةَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. إِلَّا أَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُخَفَّفُ هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي خَالِدِينَ، أَيْ غَيْرُ مُخَفَّفٍ عَنْهُمُ الْعَذَابُ. فَهِيَ حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ، أَيْ حَالٌ مِنْ حَالٍ، لِأَنَّ خَالِدِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ. وَمَنْ أَجَازَ تَعَدِّيَ الْعَامِلِ إِلَى حَالَيْنِ لِذِي حَالٍ وَاحِدٍ، أَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُخَفَّفُ، حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَلَيْهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: لَا يُخَفَّفُ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَفِي آخِرِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، هُنَاكَ: وَلَا يُنْصَرُونَ، نَفَى عَنْهُمُ النَّصْرَ، وَهُنَا: وَلَا هُمْ يُنْظُرُونَ، نَفَى الْإِنْظَارَ، وَهُوَ تَأْخِيرُ الْعَذَابِ.
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ الْآيَةَ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ، صِفْ وَانْسِبْ لَنَا رَبَّكَ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ وَهَذِهِ الْآيَةُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ فِي الْكَعْبَةِ
، وَقِيلَ حَوْلَهَا، ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَنَزَلَتْ. وَظَاهِرُ الْخِطَابِ أَنَّهُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْعِبَادَةُ، فَهُوَ إِعْلَامٌ لَهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِمَنْ قَالَ: صِفْ لَنَا رَبَّكَ وَانْسِبْهُ، أَوْ خِطَابًا لِمَنْ يَعْبُدُ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ مِنْ صَنَمٍ وَوَثَنٍ وَنَارٍ. وَإِلَهٌ: خَبَرٌ عَنْ إِلَهِكُمْ، وَوَاحِدٌ: صِفَتُهُ، وَهُوَ الْخَبَرُ فِي الْمَعْنَى لِجَوَازِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِلَهٍ، وَمَنْعِ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْحَالِ الْمُوَطِّئَةِ، كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلًا صَالِحًا. وَالْوَاحِدُ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ النَّظِيرِ، أَوِ الْقَدِيمِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ شَيْءٌ، أَوِ الَّذِي لَا أَبْعَاضَ لَهُ وَلَا أَجْزَاءَ، أَوِ الْمُتَوَحِّدُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ. أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ أَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ. تَقُولُ: فُلَانٌ وَاحِدٌ فِي عَصْرِهِ، أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا بِوَاحِدٍ مَبْدَأَ الْعَدَدِ.
لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ: تَوْكِيدٌ لِمَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَنَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ. وَهِيَ جُمْلَةٌ جَاءَتْ لِنَفْيِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْآلِهَةِ، ثُمَّ حَصَرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَدَلَّتِ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى نِسْبَةِ الْوَاحِدِيَّةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَدَلَّتِ الثَّانِيَةُ عَلَى حَصْرِ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ مِنَ اللَّفْظِ النَّاصِّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ الْأَوْلَى تَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ الْوَاحِدِيَّةُ ثَبَتَتْ لَهُ الإلهية.
(١) سورة الْبَقَرَةِ: ٢/ ٨٦.
74
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ الِاسْمِ بَعْدَ لَا فِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ «١»، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ اسْمِ لَا عَلَى الْمَوْضِعِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا. كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي قَوْلِكَ: زَيْدٌ مَا الْعَالِمُ إِلَّا هُوَ، لِأَنَّ لَا لَا تَعْمَلُ فِي الْمَعَارِفِ، هَذَا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ بَعْدَ لَا الَّتِي يُبْنَى الِاسْمُ مَعَهَا هُوَ مَرْفُوعٌ بِهَا، وَأَمَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ مَرْفُوعًا بِهَا، بَلْ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ لَا مَعَ الْمَبْنِيِّ مَعَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَعْلُ الْمُبْتَدَأِ نَكِرَةً، وَالْخَبَرِ مَعْرِفَةً، وَهُوَ عَكْسُ مَا اسْتَقَرَّ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ. وَتَقْرِيرُ الْبَدَلِ فِيهِ أَيْضًا مُشْكِلٌ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ إِلَهٍ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، لَا تَقُولُ: لَا رَجُلَ إِلَّا زِيدٌ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بَدَلًا مِنْ إِلَهٍ وَلَا مِنْ رَجُلٍ فِي قَوْلِكَ: لَا رَجُلَ إِلَّا زِيدٌ، إِنَّمَا هُوَ بدل من الضمير المستكن فِي الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا رَجُلَ إِلَّا زِيدٌ، فَالتَّقْدِيرُ: لَا رَجُلٌ كَائِنٌ أَوْ مَوْجُودٌ إِلَّا زِيدَ. كَمَا تَقُولُ: مَا أَحَدٌ يَقُومُ إِلَّا زِيدٌ، فَزَيْدٌ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَقُومُ لَا مِنْ أَحَدٍ، وَعَلَى هَذَا يَتَمَشَّى مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَلَيْسَ بَدَلًا عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ لَا، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ مَرْفُوعٌ مِنْ ضَمِيرٍ مَرْفُوعٍ، ذَلِكَ الضَّمِيرُ هُوَ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ لَا. وَلَوْلَا تَصْرِيحُ النَّحْوِيِّينَ أنه يَدُلُّ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ اسْمِ لَا، لَتَأَوَّلْنَا كَلَامَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ بَدَلٌ مِنَ اسْمِ لَا، أَيْ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى اسْمِ لَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ هُوَ بَدَلٌ مِنْ إِلَهٍ عَلَى الْمَحَلِّ، قَالَ: وَلَا يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ هَاهُنَا، لِأَنَّ الرَّفْعَ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى الثَّانِي، وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْأَوَّلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ: مَا قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زِيدٌ، وَإِلَّا زِيدًا، مِنْ حَيْثُ أَنَّ زَيْدًا مُسْتَثْنًى مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. إِلَّا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابُ، فَأَعْرَبُوا مَا كَانَ تَابِعًا لِمَا قَبْلَهُ بَدَلًا، وَأَعْرَبُوا هَذَا مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِتْبَاعَ أَوْلَى لِلْمُشَاكَلَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَالنَّصْبُ جَائِزٌ، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا.
وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، أَمْكَنَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّ إِلَهَنَا وَاحِدٌ، فَلَعَلَّ إِلَهَ غَيْرِنَا مُغَايِرٌ لِإِلَهِنَا، فَلَا جَرَمَ. أَزَالَ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِبَيَانِ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَقَوْلُهُ: لَا إِلَهَ يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ الشَّامِلَ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ: إِلَّا اللَّهُ، أَفَادَ التَّوْحِيدَ التَّامَّ الْمُطْلَقَ الْمُحَقَّقَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، كَمَا يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا إِلَهَ لَنَا، أَوْ فِي الْوُجُودِ، إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مطابق
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢.
75
لِلتَّوْحِيدِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ لَنَا، كَانَ تَوْحِيدًا لِإِلَهِنَا لَا تَوْحِيدًا لِلْإِلَهِ الْمُطْلَقِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى بَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَرْقٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْرَارًا مَحْضًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَحْذُوفُ فِي الْوُجُودِ، كَانَ هَذَا نَفْيًا لِوُجُودِ الْإِلَهِ الثَّانِي. أَمَّا لَوْ لَمْ يُضْمَرْ، كَانَ نَفْيًا لِمَاهِيَّةِ الْإِلَهِ الثَّانِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ أَقْوَى فِي التَّوْحِيدِ الصِّرْفِ مِنْ نَفْيِ الْوُجُودِ، فَكَانَ إِجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا قَدَّمَ النَّفْيَ عَلَى الْإِثْبَاتِ، لِغَرَضِ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَنَفْيِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ. انْتَهَى الْكَلَامُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ المرسي فِي (رَيِّ الظَّمْآنِ) : هَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ لِسَانَ الْعَرَبِ. فَإِنَّ لَا إِلَهَ فِي مَوْضِعِ الْمُبْتَدَأِ، عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ اسْمُ لَا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، لَا بُدَّ مِنْ خَبَرٍ لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ لِلَا، فَمَا قَالَهُ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْإِضْمَارِ فَاسِدٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذَا لَمْ يُضْمَرْ كَانَ نَفْيًا لِلْمَاهِيَّةِ، قُلْنَا: نَفْيُ الْمَاهِيَّةِ هُوَ نَفْيُ الْوُجُودِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَنَا إِلَّا مَعَ الْوُجُودِ، فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ لَا مَاهِيَّةَ وَلَا وُجُودَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْمَاهِيَّةَ عَرِيَّةً عَنِ الْوُجُودِ، وَالدَّلِيلُ يَأْبَى ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَمَا قَالَهُ مِنْ تَقْدِيرِ خَبَرِ لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا إِلَهَ، كَلَامٌ، فَمِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ، لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ مسنده وَمَسْنَدٍ إِلَيْهِ. فَالْمُسْنَدُ إِلَيْهِ هُوَ إِلَهٌ، وَالْمَسْنَدُ هُوَ الْكَوْنُ الْمُطْلَقُ، وَلِذَلِكَ سَاغَ حَذْفُهُ، كَمَا سَاغَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ: لَوْلَا زَيْدٌ لَأَكْرَمْتُكَ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: لَوْلَا زَيْدٌ مَوْجُودٌ، لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ تَعْلِيقِيَّةٌ، أَوْ شَرْطِيَّةٌ عِنْدَ مَنْ يُطْلِقَ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُسْنَدٍ وَمُسْنَدٍ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ نَقَلُوا أَنَّ الْخَبَرَ بَعْدَ لَا، إِذَا عُلِمَ، كَثُرَ حَذْفُهُ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ، وَوَجَبَ حَذْفُهُ عِنْدَ التَّمِيمِيِّينَ. وَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ كَوْنًا مُطْلَقًا، كَانَ مَعْلُومًا، لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ النَّفْيُ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيَ الْعُمُومِ، فَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ هُوَ نَفْيُ الْوُجُودِ، لِأَنَّهُ لَا تَنْتَفِي الْمَاهِيَّةُ إِلَّا بِانْتِفَاءِ وَجُودِهَا، بِخِلَافِ الْكَوْنِ الْمُقَيَّدِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إِلَى تَعْيِينِهِ، فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ نَحْوُ: لَا رَجُلَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا زَيْدٌ، إِلَّا إِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَةٌ مِنْ خَارِجٍ فَيُعْلَمُ، فَيَجُوزُ حَذْفُهُ.
الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ: ذَكَرَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مُنَبِّهًا بِهِمَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ لَهُ، لِأَنَّ مِنَ ابْتَدَأَكَ بِالرَّحْمَةِ إِنْشَاءً بَشَرًا سَوِيًّا عَاقِلًا وَتَرْبِيَةً فِي دَارِ الدُّنْيَا مَوْعُودًا الْوَعْدَ الصِّدْقِ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الْآخِرَةِ، جَدِيرٌ بِعِبَادَتِكَ لَهُ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَطْمَعَكَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي
76
سِعَةِ رَحْمَتِهِ. وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَقِيبَ آيَةٍ مَخْتُومَةٍ بِاللَّعْنَةِ وَالْعَذَابِ لِمَنْ مَاتَ غَيْرَ مُوَحِّدٍ لَهُ تَعَالَى، إِذْ غَالِبُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَتْ آيَةُ عَذَابٍ، ذُكِرَتْ آيَةُ رَحْمَةٍ، وَإِذَا ذُكِرَتْ آيَةُ رَحْمَةٍ، ذُكِرَتْ آيَةُ عَذَابٍ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَيَجُوزُ ارْتِفَاعُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ هُوَ، وَعَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ لِقَوْلِهِ: وَإِلَهُكُمْ، فَيَكُونُ قَدْ قَضَى هَذَا الْمُبْتَدَأَ ثَلَاثَةَ أَخْبَارٍ: إِلَهٌ وَاحِدٌ خَبَرٌ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ، وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ خَبَرٌ ثَالِثٌ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِهُوَ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُنَا لَيْسَ بِجُمْلَةٍ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: مَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ إِلَّا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ زَيْدٍ.
قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الصِّفَةِ لِهُوَ، لِأَنَّ الْمُضْمَرَ لَا يُوصَفُ. انْتَهَى. وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ، إِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ للمدح، وكان الضمير الغائب. وَأَهْمَلَ ابْنُ مَالِكٍ الْقَيْدَ الْأَوَّلَ، فَأَطْلَقَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ يُجِيزُ وَصْفَ الضَّمِيرِ الْغَائِبِ.
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «إن هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ».
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ وَإِلهُكُمْ الْآيَةَ، قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ فَنَزَلَ: إِنَّ فِي خَلْقِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَاخْتِصَاصُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْخَلْقِ الْغَرِيبِ وَالْبِنَاءِ الْعَجِيبِ اسْتِدْلَالًا بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَبِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ، وَعَرَّفَهُمْ طَرِيقَ النَّظَرِ، وَفِيمَ يَنْظُرُونَ. فَبَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ فَقَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ. وَخَلْقُهَا: إِيجَادُهَا وَاخْتِرَاعُهَا، أَوْ خَلْقُهَا وَتَرْكِيبُ أَجْرَامِهَا وَائْتِلَافُ أَجْزَائِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: خَلْقُ فُلَانٍ حَسَنٌ: أَيْ خِلْقَتُهُ وَشَكْلُهُ. وَقِيلَ:
خَلْقٌ هُنَا زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ فِي السموات وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ إِرَادَةُ تَكْوِينِ الشَّيْءِ.
وَالْآيَاتُ فِي المشاهد من السموات وَالْأَرْضِ، لَا فِي الْإِرَادَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْأَسْمَاءِ لَمْ تَثْبُتْ فِي اللِّسَانِ، وَلِأَنَّ الْخَلْقَ لَيْسَ هُوَ الْإِرَادَةُ، بَلِ الْخَلْقُ ناشىء عَنِ الْإِرَادَةِ.
قَالُوا: وَجَمَعَ السموات لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ، كُلُّ سَمَاءٍ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ جِنْسِ الأحرى، وَوَحَّدَ الْأَرْضَ لِأَنَّهَا كُلَّهَا مِنْ تُرَابٍ. وَبَدَأَ بِذِكْرِ السَّمَاءِ لِشَرَفِهَا وَعِظَمِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالْأَمْلَاكِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَآيَاتُهَا: ارْتِفَاعُهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ تَحْتَهَا، وَلَا عَلَائِقَ مِنْ فَوْقِهَا، ثُمَّ مَا فِيهَا مِنَ النَّيِّرِينَ، الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ السَّيَّارَةِ وَالْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَةِ، شَارِقَةٍ وَغَارِبَةٍ، نَيِّرَةٍ وَمَمْحُوَّةٍ، وَعِظَمِ أَجْرَامِهَا وَارْتِفَاعِهَا، حَتَّى قَالَ أَرْبَابُ الْهَيْئَةِ: إِنَّ الشَّمْسَ قَدْرُ الْأَرْضِ مِائَةٍ وَأَرْبَعٍ وَسِتِّينَ مَرَّةً، وَإِنَّ أَصْغَرَ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ قَدْرُ الْأَرْضِ سَبْعِ مَرَّاتٍ، وَإِنَّ الْأَفْلَاكَ عَظِيمَةُ الْأَجْرَامِ، قَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ مَقَادِيرَهَا، وَإِنَّهَا سَبْعَةُ
77
أَفْلَاكٍ، يَجْمَعُهَا الْفَلَكُ الْمُحِيطُ. وَقَدْ صَحَّ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ».
وَصَحَّ أَيْضًا:
«أَنَّ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَآيَةُ الْأَرْضِ: بَسْطُهَا، لَا دِعَامَةَ مِنْ تَحْتِهَا وَلَا عَلَائِقَ مِنْ فَوْقِهَا، وَأَنْهَارُهَا وَمِيَاهُهَا وَجِبَالُهَا وَرَوَاسِيهَا وَشَجَرُهَا وَسَهْلُهَا وَوَعْرُهَا وَمَعَادِنُهَا، وَاخْتِصَاصُ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا بما هيىء لَهُ، وَمَنَافِعُ نَبَاتِهَا وَمَضَارُّهَا. وَذَكَرَ أَرْبَابُ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْأَرْضَ نُقْطَةٌ فِي وَسَطِ الدَّائِرَةِ لَيْسَ لَهَا جِهَةٌ، وَأَنَّ الْبِحَارَ مُحِيطَةٌ بِهَا، وَالْهَوَاءَ مُحِيطٌ بِالْمَاءِ، وَالنَّارَ مُحِيطَةٌ بِالْهَوَاءِ، وَالْأَفْلَاكَ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ (بِالدَّقَائِقِ) خِلَافًا عَنِ النَّاسِ الْمُتَقَدِّمِينَ: هَلِ الْأَرْضُ وَاقِفَةٌ أَمْ مُتَحَرِّكَةٌ؟ وَفِي كُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذَيْنِ مَذَاهِبُ كَثِيرَةٌ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِوُقُوفِهَا، أَوْ لِتَحَرُّكِهَا. وَكَذَلِكَ تَكَلَّمُوا عَلَى جِرْمِ السموات وَلَوْنِهَا وَعِظَمِهَا وَأَبْرَاجِهَا، وَذَكَرَ مَذَاهِبَ لِلْمُنَجِّمِينَ وَالْمَانَوِيَّةِ، وَتَخَالِيطَ كَثِيرَةً. وَالَّذِي تَكَلَّمَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْهَيْئَةِ هُوَ شَيْءٌ اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ خَلْقِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِالْوَحْيِ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً «١»، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً «٢».
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ: اخْتِلَافُهُمَا بِإِقْبَالِ هَذَا وَإِدْبَارِ هَذَا، أَوِ اخْتِلَافُهُمَا بِالْأَوْصَافِ فِي النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، أَوْ تَسَاوِيهِمَا، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقُدِّمَ اللَّيْلُ عَلَى النَّهَارِ لِسَبْقِهِ فِي الْخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ»
. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ النُّورَ سَابِقٌ عَلَى الظُّلْمَةِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ انْبَنَى الْخِلَافُ فِي لَيْلَةِ الْيَوْمِ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: تَكُونُ لَيْلَةُ الْيَوْمِ هِيَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: لَيْلَةُ الْيَوْمِ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي النَّهَارِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ: لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا نَهَارًا.
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ: أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ الْفُلْكَ نُوحٌ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ،
وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ضَعْهَا عَلَى جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ.
فَالسَّفِينَةُ طَائِرٌ مَقْلُوبٌ، وَالْمَاءُ فِي أَسْفَلِهَا نَظِيرُ الْهَوَاءِ فِي أَعْلَاهَا، قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَآيَتُهَا تَسْخِيرُ اللَّهِ إِيَّاهَا حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَوُقُوفُهَا فَوْقَهُ مَعَ ثِقَلِهَا وَتَبْلِيغِهَا الْمَقَاصِدَ. وَلَوْ رَمَيْتَ
(١) سورة الطلاق: ٦٥/ ١١.
(٢) سورة الجن: ٧٢/ ٢٨.
(٣) سورة يس: ٣٦/ ٣٧.
78
فِي الْبَحْرِ حَصَاةً لَغَرِقَتْ. وَوَصَفَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْجَرَيَانِ، لِأَنَّهَا آيَتُهَا الْعُظْمَى، وَجَعَلَ الصِّفَةَ مَوْصُولًا، صِلَتُهُ تَجْرِي: فِعْلٌ مُضَارِعٌ يَدُلُّ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ يُرَادُ مِنْهَا. وَذَكَرَ مَكَانَ تِلْكَ الصِّفَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا لَا تَجْرِي إِلَّا فِي الْبَحْرِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ، وَأَسْنَدَ الْجَرَيَانَ لِلْفُلْكِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ، وَكَانَ لَهَا مِنْ ذَاتِهَا صِفَةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلْجَرْيِ. بِما يَنْفَعُ النَّاسَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً، أَيْ تَجْرِي مَصْحُوبَةً بِالْأَعْيَانِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَتَاجِرِ وَالْبَضَائِعِ الْمَنْقُولَةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلْحَالِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً، أَيْ ينفع النَّاسُ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ للغز وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا، فَتَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ النَّفْعِ، وَإِنْ كَانَتْ تَجْرِي بِمَا يَضُرُّ، لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ.
وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ: أَيْ مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ. مِنَ الْأَوْلَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ تَتَعَلَّقُ بِأَنْزَلَ، وَفِي أَنْزَلَ ضَمِيرُ نَصْبٍ عَائِدٌ عَلَى مَا، أَيْ وَالَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ السماء. ومن الثَّانِيَةُ مَعَ مَا بَعْدَهَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنَ السَّماءِ، بَدَلُ اشْتِمَالٍ، فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ، وَتَتَعَلَّقُ بِأَنْزَلَ. وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ تَتَعَلَّقُ بِأَنْزَلَ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، لِأَنَّ مَعْنَيَيْهِمَا مُخْتَلِفَانِ. فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها: عَطْفٌ عَلَى صِلَةِ مَا، الَّذِي هُوَ أَنْزَلَ بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّعْقِيبِ وَسُرْعَةِ النَّبَاتِ، وَبِهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَكَنَّى بِالْإِحْيَاءِ عَنْ ظُهُورِ مَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنَ النَّبَاتِ، وَبِالْمَوْتِ عَنِ اسْتِقْرَارِ ذَلِكَ فِيهَا وَعَدَمِ ظُهُورِهِ. وَهُمَا كِنَايَتَانِ غَرِيبَتَانِ، لِأَنَّ مَا بَرَزَ مِنْهَا بِالْمَطَرِ جَعَلَ تَعَالَى فِيهِ الْقُوَّةَ الْغَاذِيَةَ وَالنَّامِيَةَ وَالْمُحَرِّكَةَ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ فَهُوَ كَامِنٌ فِيهَا، كَأَنَّهُ دَفِينٌ فيها، وهي لَهُ قَبْرٌ.
وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ: إِنْ قُدِّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الصِّلَتَيْنِ، احْتَاجَتْ إِلَى ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي فِيهَا عَائِدٌ عَلَى الْأَرْضِ وَتَقْدِيرُهُ: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. لَكِنَّ حَذْفَ هَذَا الضَّمِيرِ، إِذَا كَانَ مَجْرُورًا بِالْحَرْفِ، لَهُ شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمَوْصُولِ، أَوِ الْمَوْصُوفِ بِالْمَوْصُولِ، أَوِ الْمُضَافِ إِلَى الْمَوْصُولِ حَرْفُ جَرٍّ، مِثْلُ مَا دَخَلَ عَلَى الضَّمِيرِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنْ يَتَّحِدَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْحَرْفَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْمَجْرُورُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ وَجَارِّهِ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَحْصُورًا، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَحْصُورِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا لِلرَّبْطِ. وَهَذَا الشَّرْطُ مَفْقُودٌ هُنَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ قَوْلَهُ: وَبَثَّ فِيها، عَطْفٌ عَلَى أَنْزَلَ أَمْ أَحْيَا؟ قُلْتُ:
الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى أَنْزَلَ دَاخِلٌ تَحْتِ حُكْمِ الصِّلَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ عَطْفٌ
79
عَلَى أَنْزَلَ، فَاتَّصَلَ بِهِ وَصَارَا جَمِيعًا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَاءٍ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. وَيَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى أَحْيَا عَلَى مَعْنَى فَأَحْيَا بِالْمَطَرِ الْأَرْضَ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، لِأَنَّهُمْ يَنْمُونَ بِالْخِصْبِ وَيَعِيشُونَ بِالْحَيَاةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
وَكَيْفَمَا قَدَّرْتَ مِنْ تقديرية، لزم أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ، سَوَاءٌ أَعَطَفْتَهُ عَلَى أَنْزَلَ، أَوْ عَلَى فَأَحْيَا، لِأَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ. وَالَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَى الْآيَةِ، أَنَّهَا عَلَى حَذْفِ مَوْصُولٍ لِفَهْمِ الْمَعْنَى مَعْطُوفٍ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلَ، التَّقْدِيرُ: وَمَا بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الْآيَاتِ، لِأَنَّ مَا بَثَّ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فِيهِ آيَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي أَشْكَالِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا وَانْتِقَالَاتِهَا وَمَضَارِّهَا وَمَنَافِعِهَا وَعَجَائِبِهَا، وَمَا أُودِعَ فِي كُلِّ شَكْلٍ، شَكْلٍ مِنْهَا مِنَ الْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَلَطَائِفِ الصَّنْعَةِ الْغَرِيبَةِ، وَذَلِكَ مِنِ الْفِيلِ إِلَى الذَّرَّةِ، وَمَا أَوْجَدَ تَعَالَى فِي الْبَحْرِ مِنْ عَجَائِبِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُبَايِنَةِ لِأَشْكَالِ الْبَرِّ. فَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي إِفْرَادُهُ بِالذِّكْرِ، لَا أَنَّهُ يُجْعَلَ مَنْسُوقًا فِي ضِمْنِ شَيْءٍ آخَرَ وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ الِاسْمِيِّ، غير أن عِنْدَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى اسْمِيَّتِهَا لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ الْبَصْرِيُّونَ لَا يَقِيسُونَهُ، فَقَدْ قَاسَهُ غَيْرُهُمْ، قال بعض طي:
مَا الَّذِي دَأْبُهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ وَهَوَاهُ أَطَاعَ مُسْتَوَيَانِ
أَيْ: وَالَّذِي أَطَاعَ، وَقَالَ حَسَّانٌ:
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أَيْ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، وقال آخر:
فو الله مَا نِلْتُمْ وَمَا نِيلَ مِنْكُمُ بِمُعْتَدِلٍ وُفِّقَ وَلَا مُتَقَارِبِ
يُرِيدُ: مَا الَّذِي نلتم وما نيل منكم، وَقَدْ حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «١»، أَيْ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ «٢». وَقَدْ يَتَمَشَّى التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ عَلَى ارْتِكَابِ حَذْفِ الضَّمِيرِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَوَازِ حَذْفِهِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ، قال:
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٦.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٣٦.
80
وَإِنَّ لِسَانِي شَهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا وَهُوَ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ
يُرِيدُ: مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ:
لَعَلَّ الَّذِي أَصْعَدَتْنِي أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الْأَرْضِ إِنْ لَمْ يُقَدِّرِ الْخَيْرَ قَادِرُ
يُرِيدُ: أَصْعَدَتْنِي بِهِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فِي موضع المفعول، ومن تَبْعِيضِيَّةٌ. وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، وكل دَابَّةٍ هُوَ نَفْسُ الْمَفْعُولِ، وَعَلَى حَذْفِ الْمَوْصُولِ يَكُونُ مَفْعُولُ بَثَّ مَحْذُوفًا، أَيْ: وَبَثَّهُ، وَتَكُونُ مِنْ حَالِيَّةً، أَيْ: كَائِنًا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، فَهِيَ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَوْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ فِي هُبُوبِهَا قُبُولًا وَدُبُورًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا، وَفِي أَوْصَافِهَا حَارَّةً وَبَارِدَةً وَلَيِّنَةً وَعَاصِفَةً وَعَقِيمًا وَلِوَاقِحَ وَنَكْبَاءَ، وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي بَيْنَ مَهَبَّيْ رِيحَيْنِ. وَقِيلَ: تَارَةً بِالرَّحْمَةِ، وَتَارَةً بِالْعَذَابِ. وَقِيلَ:
تَصْرِيفُهَا أَنْ تَأْتِيَ السُّفُنَ الْكِبَارَ بِقَدْرِ مَا يَحْمِلُهَا، وَالصِّغَارَ كَذَلِكَ، وَيَصْرِفُ عَنْهَا مَا يَضُرُّ بِهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِكِبَرِ الْقُلُوعِ وَلَا صِغَرِهَا، فَإِنَّهَا لَوْ جَاءَتْ جَسَدًا وَاحِدًا لَصَدَمَتِ الْقُلُوعَ وَأَغْرَقَتْ.
وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي أَنْوَاعِ الرِّيحِ وَاشْتِقَاقِ أَسْمَائِهَا وَفِي طَبَائِعِهَا، وَفِيمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الْآثَارِ، وَفِيمَا قِيلَ فِيهَا مِنَ الشِّعْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ غَرَضِنَا. وَالرِّيحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ شَفَّافٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي تَقْلَعُ الْأَشْجَارَ وَتَعْفِي الْآثَارَ وَتَهْدِمُ الدِّيَارَ وَتُهْلِكُ الْكُفَّارَ، وَتَرْبِيَةِ الزَّرْعِ وَتَنْمِيَتِهِ وَاشْتِدَادِهِ بِهَا، وَسُوقِ السَّحَابِ إِلَى الْبَلَدِ الْمَاحِلِ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي إِفْرَادِ الرِّيحِ وَجَمْعِهِ فِي أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا. هَذَا، وَفِي الشَّرِيعَةِ وَفِي الْأَعْرَافِ:
يُرْسِلُ الرِّياحَ «١»، واشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ «٢»، وأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «٣»، وتَذْرُوهُ الرِّياحُ «٤»، وَفِي الْفُرْقَانِ: أَرْسَلَ الرِّياحَ «٥»، ومَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ «٦»، وَفِي الرُّومِ:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ «٧»، وَفِي فَاطِرٍ: أَرْسَلَ الرِّياحَ «٨»، وَفِي الشُّورَى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ «٩». فَأَفْرَدَ حَمْزَةُ إِلَّا فِي الْفُرْقَانِ، وَالْكِسَائِيُّ إِلَّا فِي الْحِجْرِ، وَجَمْعَ نَافِعٌ الْجَمِيعَ وَالْعَرَبِيَّانِ إَلَّا فِي إِبْرَاهِيمَ وَالشُّورَى، وَابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبَقَرَةِ وَالْحِجْرِ وَالْكَهْفِ وَالشَّرِيعَةِ
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٥٧.
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٨. [.....]
(٣) سورة الحجر: ١٥/ ٢٢.
(٤) سورة الكهف: ١٨/ ٤٥.
(٥) سورة الفرقان: ٢٥/ ٤٨.
(٦) سورة النمل: ٢٧/ ٦٣.
(٧) سورة الروم: ٣٠/ ٤٨.
(٨) سورة فاطر: ٣٥/ ٩.
(٩) سورة الشورى: ٤٢/ ٣٣.
81
فَقَطْ. وَفِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ هُنَا وَتَصْرِيفِ الْأَرْوَاحِ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَوْحِيدِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ. وَجَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعَةً مَعَ الرَّحْمَةِ مُفْرَدَةً مَعَ الْعَذَابِ، إِلَّا فِي يُونُسَ فِي قَوْلِهِ:
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «١».
وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا».
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّ رِيحَ الْعَذَابِ شَدِيدَةٌ مُلْتَئِمَةُ الْأَجْزَاءِ كَأَنَّهَا جِسْمٌ وَاحِدٌ، وَرِيحُ الرَّحْمَةِ لينة متقطعة، فَلِذَلِكَ هِيَ رِيَاحٌ، وَهُوَ مَعْنَى يَنْشُرُ، وَأُفْرِدَتْ مَعَ الفلك، لأن ريح أجزاء السُّفُنِ إِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ مُتَّصِلَةٌ. ثُمَّ وُصِفَتْ بِالطَّيِّبِ فَزَالَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رِيحِ الْعَذَابِ، انْتَهَى. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْجِنْسَ، فَهُوَ كَقِرَاءَةِ الْجَمْعِ. وَالرِّيَاحُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، فَيَكُونُ تَصْرِيفِ مَصْدَرًا مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، أَيْ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ، السَّحَابَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَهَا فِيهِ تَأْثِيرٌ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ فِي الْمَعْنَى مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَفِي اللَّفْظِ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ وَتَصْرِيفِ اللَّهِ الرِّيَاحَ.
وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ، تَسْخِيرُهُ: بَعْثُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقِيلَ: تَسْخِيرُهُ: ثُبُوتُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِلَا عَلَاقَةٍ تُمْسِكُهُ. وَوُصِفَ السَّحَابُ هُنَا بِالْمُسَخَّرِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّذْكِيرُ: كَهَذَا وَكَقَوْلِهِ: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «٢»، وَالتَّأْنِيثُ عَلَى مَعْنَى تَأْنِيثِ الْجَمْعِ، فَتَارَةً يُوصَفُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدَةُ الْمُؤَنَّثَةُ، وَتَارَةً يُوصَفُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا «٣». قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: السَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَطَرِ، وَلَوْلَا السَّحَابُ لَأَفْسَدَ الْمَطَرُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ. فَقِيلَ: السَّحَابُ يَأْخُذُ الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: يَغْتَرِفُهُ مِنْ بِحَارِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِ، وَلِلْفَلَاسِفَةِ فِيهِ أَقْوَالٌ. وَجُعِلَ مُسَخَّرًا بِاعْتِبَارِ إِمْسَاكِهِ الْمَاءَ، إِذِ الْمَاءُ ثَقِيلٌ، فَبَقَاؤُهُ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ هُوَ عَلَى خِلَافِ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ بِالْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ الَّذِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، يَأْتِي بِهِ اللَّهُ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَيَرُدُّهُ عِنْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ، أَوْ سُوقُهُ بِوَاسِطَةِ تَحْرِيكِ الرِّيحِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ.
بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ: انْتِصَابُ بَيْنَ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْمُسَخَّرُ، أَيْ سُخِّرَ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَائِنًا بَيْنَ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْمُسَخَّرِ. لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: دَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى اسْمِ إِنَّ لِحَيْلُولَةِ الْخَبَرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، إِذْ
(١) سورة يونس: ١٠/ ٢٢.
(٢) سورة القمر: ٥٤/ ٢٠.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ٥٧.
82
لَوْ كَانَ يَلِيهَا، مَا جَازَ دُخُولُهَا، وَهِيَ لَامُ التَّوْكِيدِ، فَصَارَ فِي الْجُمْلَةِ حَرْفَا تَأْكِيدٍ: إِنَّ وَاللَّامُ.
وَلِقَوْمٍ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَيْ كَائِنَةً لِقَوْمٍ. وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِقَوْمٍ، لِأَنَّهُ لَا يَتَفَكَّرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَاقِلًا، فَإِنَّهُ يُشَاهَدُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَبَاهِرِ حِكْمَتِهِ. وَقَدْ أُثِرَ فِي الْأَثَرِ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَجَّ بِهَا، أَيْ لَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِهَا.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ، لَمْ يَكْتَفِ بِالْإِخْبَارِ حَتَّى أَوْرَدَ دَلَائِلَ الِاعْتِبَارِ. ثُمَّ مَعَ كَوْنِهَا دَلَائِلَ، بَلْ هِيَ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَكَانَتْ أَوْضَحَ لِمَنْ يَتَأَمَّلُ وَأَبْهَرَ لِمَنْ يَعْقِلُ، إِذِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ النَّفْعُ بَاعِثٌ عَلَى الْفِكْرِ. لَكِنْ لَا تَنْفَعُ هَذِهِ الدَّلَائِلُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ الْمَوْهُوبِ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ ثَمَانِيَةٌ، وَإِنْ جَعَلْنَا: وَبَثَّ فِيهَا، عَلَى حَذْفِ مَوْصُولٍ، كَمَا قَدَّرْنَاهُ فِي أَحَدِ التَّخْرِيجَيْنِ، كَانَتْ تِسْعَةً، وَهِيَ بِاعْتِبَارٍ تَصِيرُ إِلَى أَرْبَعَةٍ: خَلْقٌ، وَاخْتِلَافٌ، وَإِنْزَالُ مَاءٍ، وَتَصْرِيفٌ.
فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْخَلْقِ، لِأَنَّهُ الْآيَةُ الْعُظْمَى وَالدَّلَالَةُ الْكُبْرَى عَلَى الْإِلَهِيَّةِ، إِذْ ذَلِكَ إِبْرَازٌ وَاخْتِرَاعٌ لِمَوْجُودٍ مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «١» ؟ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ «٢». ودل الْخَلْقِ عَلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ، مِنْ وَاجِبِيَّةِ الْوُجُودِ وَالْوَحْدَةِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ والإرادة، وقدّم السموات عَلَى الْأَرْضِ لِعَظَمِ خَلْقِهَا، أَوْ لِسَبْقِهِ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ.
ثُمَّ أَعْقَبَ ذِكْرَ خلق السموات وَالْأَرْضِ بِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وهو أمر ناشىء عَنْ بَعْضِ الْجَوَاهِرِ الْعُلْوِيَّةِ النيرة التي تضمنتها السموات. ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْفُلْكِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَاخْتِلَافِ الْفُلْكِ، أَيْ ذَهَابِهَا مَرَّةً كَذَا وَمَرَّةً كَذَا عَلَى حَسَبِ مَا تُحَرِّكُهَا الْمَقَادِيرُ الْإِلَهِيَّةُ، وَهُوَ أَمْرٌ ناشىء عَنْ بَعْضِ الْأَجْرَامِ السُّفْلِيَّةِ الْجَامِدَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْأَرْضُ.
ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأُمُورٍ اشْتَرَكَ فِيهَا الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ وَالْعَالَمُ السُّفْلِيُّ، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَنَشْرُ مَا كَانَ دَفِينًا فِي الْأَرْضِ بِالْأَحْيَاءِ. وَجَاءَ هَذَا الْمُشْتَرَكُ مُقَدَّمًا فِيهِ السَّبَبُ عَلَى الْمُسَبَّبِ، فَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْفَاءِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى السبب عند بعضهم.
(١) سورة النحل: ١٦/ ١٧.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٢٠.
83
ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتِمُّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ ذِكْرِ جَرَيَانِ الْفُلْكِ وَإِنْزَالِ الْمَاءِ وَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ. وَقَدَّمَ الرِّيَاحَ عَلَى السَّحَابِ، لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الْفُلْكِ، وَتَأَخَّرَ السَّحَابُ لِتَأَخُّرِ إِنْزَالِ الْمَاءِ فِي الذِّكْرِ عَلَى جَرَيَانِ الْفُلْكِ.
فَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْغَرِيبِ فِي الذِّكْرِ، حَيْثُ بَدَأَ أولا باختراع السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ مَا نَشَأَ عَنِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، ثُمَّ أَتَى ثَالِثًا بِذِكْرِ مَا نَشَأَ عَنِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، ثُمَّ أَتَى بِالْمُشْتَرِكِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا لَا تَتِمُّ النِّعْمَةُ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ التَّصْرِيفُ الْمَشْرُوحُ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ ذَكَرَهَا تَعَالَى عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ مُدْرَكٌ بِالْبَصَائِرِ، وَقِسْمٌ مدرك بالأبصار. فخلق السموات وَالْأَرْضِ مُدْرَكٌ بِالْعُقُولِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مُشَاهَدٌ لِلْأَبْصَارِ.
وَالْمَشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ انْتِسَابُهُ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ، مُسْتَدَلٌّ عَلَيْهِ بِالْعُقُولِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَلَمْ يَقُلْ: لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُبْصِرُونَ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ، إِذْ مَآلُ مَا يُشَاهَدُ بِالْبَصَرِ رَاجِعٌ بِالْعَقْلِ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً: لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى التَّوْحِيدَ بِالدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ، أعقب ذلك بذكر من لَمْ يُوَفَّقْ. وَاتِّخَاذُهُ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِيُظْهِرَ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْمَنْهَجَيْنِ. وَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنُهُ الضِّدُّ، وَأَنَّهُ مَعَ وُضُوحِ هَذِهِ الْآيَاتِ، لَمْ يُشَاهِدْ هَذَا الضَّالُّ شَيْئًا مِنْهَا. وَلَفْظُ النَّاسُ عَامٌّ، وَالْأَحْسَنُ حَمْلُهُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. فَالْأَنْدَادُ، بِاعْتِبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ، اتَّبَعُوا مَا رَتَّبُوهُ لَهُمْ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ. قَالَ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «١». وَالْأَنْدَادُ، بِاعْتِبَارِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ هِيَ الْأَصْنَامُ، اتَّخَذُوهَا آلِهَةً وَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْخُصُوصُ. فَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: عُبَّادُ الْأَوْثَانِ، وَالْأَوْلَى الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَرُجِّحَ كَوْنُهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: يُحِبُّونَهُمْ، فَأَتَى بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ، وَبِاسْتِبْعَادِ مَحَبَّةِ الْأَصْنَامِ، وَبِقَوْلِهِ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَالتَّبَرُّؤُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا العقلاء.
ومن: مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَأَفْرَدَ يَتَّخِذُ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ، ومن دون الله متعلق بيتخذ، ودون هُنَا بِمَعْنَى غَيْرِ، وَأَصْلُهَا أَنْ يَكُونَ ظَرْفَ مَكَانٍ، وَهِيَ نَادِرَةُ التَّصَرُّفِ إِذْ ذَاكَ. قَالَ ابن عطية: ومن دُونِ: لَفْظٌ يُعْطِي غَيْبَةَ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ دُونَ عَنِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي فِيهَا
(١) سورة التوبة: ٩/ ٣١.
84
الْكَلَامُ، وَتَفْسِيرُ دُونَ بِسِوَى، أَوْ بِغَيْرِ، لَا يَطَّرِدُ. انْتَهَى. تَقُولُ: فَعَلْتُ هَذَا مِنْ دُونِكَ، أَيْ وَأَنْتَ غَائِبٌ. وَتَقُولُ: اتَّخَذْتُ مِنْكَ صَدِيقًا، وَاتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقًا. فَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ اتَّخَذَ مِنْ شَخْصِ غَيْرِهِ صَدِيقًا. وَتَقُولُ: قَامَ الْقَوْمُ دُونَ زَيْدٍ. فَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ هَذَا:
أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقُمْ، فَدَلَالَتُهَا دَلَالَةُ غَيْرَ فِي هَذَا. وَالَّذِي ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ، هُوَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ كَوْنِهَا تَكُونُ ظَرْفَ مَكَانٍ، وَأَنَّهَا قَلِيلَةُ التَّصَرُّفِ نَادِرَتُهُ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ أَيْضًا أَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى رَدِيءٍ، تَقُولُ: هَذَا ثَوْبٌ دُونَ أَيْ رَدِيءٌ، فَإِذَا كَانَتْ ظَرْفًا، دَلَّتْ عَلَى انْحِطَاطِ الْمَكَانِ، فَتَقُولُ: قَعَدَ زَيْدٌ دُونَكَ، فَالْمَعْنَى: قَعَدَ زَيْدٌ مَكَانًا دُونَ مَكَانِكَ، أَيْ مُنْحَطًّا عَنْ مَكَانِكَ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَدْتَ بِدُونِ الظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ تَقُولُ: زِيدٌ دُونَ عَمْرٍو فِي الشَّرَفِ، تُرِيدُ الْمَكَانَةَ لَا الْمَكَانَ. وَوَجْهُ اسْتِعْمَالِهَا بِمَعْنَى غَيْرَ انْتِقَالُهَا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ فِيهِ خَفَاءٌ، وَنَحْنُ نُوَضِّحُهُ فَنَقُولُ: إِذَا قُلْتَ: اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقًا، فَأَصْلُهُ: اتَّخَذْتُ مِنْ جِهَةٍ وَمَكَانٍ دُونَ جِهَتِكَ وَمَكَانِكَ صَدِيقًا، فَهُوَ ظَرْفٌ مَجَازِيٌّ. وَإِذَا كَانَ الْمَكَانُ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ الصَّدِيقُ مَكَانُكَ وَجِهَتُكَ مُنْحَطَّةٌ عَنْهُ وَهِيَ دُونُهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ غَيْرًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ إِيَّاهُ، ثُمَّ حَذَفْتَ الْمُضَافَ وَأَقَمْتَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرًا، فَصَارَتْ دَلَالَتُهُ دَلَالَةَ غَيْرٍ بِهَذَا التَّرْتِيبِ، لَا أَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِذَلِكَ. وَانْتَصَبَ أَنْدَادًا هنا على المفعول بيتخذ، وَهِيَ هُنَا مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى وَاحِدٍ، نَحْوَ قَوْلِكَ: اتَّخَذْتُ مِنْكَ صَدِيقًا، وَهِيَ افْتَعَلَ مِنَ الْأَخْذِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النِّدِّ وَعَلَى اتَّخَذَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْأَنْدَادُ:
الرُّؤَسَاءُ الْمُتَّبَعُونَ، يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْأَنْدَادُ:
الرُّؤَسَاءُ الْمُتَّبَعُونَ، يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْأَنْدَادُ:
الْأَوْثَانُ، وَجَاءَ الضَّمِيرُ فِي يُحِبُّونَهُمْ ضَمِيرُ مَنْ يَعْقِلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْأَنْدَادُ: الْمَجْمُوعَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً. وَجَاءَ التَّغْلِيبُ لِمَنْ يَعْقِلُ فِي الضَّمِيرِ فِي: يُحِبُّونَهُمْ، أَيْ يُعَظِّمُونَهُمْ وَيَخْضَعُونَ لَهُمْ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ يُحِبُّونَهُمْ صِفَةٌ لِلْأَنْدَادِ، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي يَتَّخِذُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِمَنْ، إِذَا جَعَلْتَهَا نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَجَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي يُحِبُّونَهُمْ ضَمِيرَ أَنْدَادٍ، أَوْ ضَمِيرَ مَنْ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى مَنْ جَمْعًا عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ الْحَمْلُ عَلَى اللَّفْظِ فِي يَتَّخِذُ، إِذْ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ، وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَهُوَ شَرْطٌ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ.
كَحُبِّ اللَّهِ، الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْحُبِّ الْمَحْذُوفِ، عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُعْرِبِينَ، التَّقْدِيرُ: عَلَى الْأَوَّلِ يُحِبُّونَهُمُوهُ، أَيِ الْحُبُّ مُشْبِهًا حُبَّ اللَّهِ، وَعَلَى الثَّانِي
85
تَقْدِيرُهُ: حُبًّا مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ الْمَنْصُوبِ، وَالْفَاعِلُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: كَحُبِّهِمُ اللَّهَ، أَوْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنَ الْحُبَّيْنِ، حُبِّ الْأَنْدَادِ وَحُبِّ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حُبٌّ: مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ عَلَى التَّقْدِيرِ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُضْمَرِ، تَقْدِيرُهُ: كَحُبِّكُمُ اللَّهَ، أَوْ كَحُبِّهِمْ، حَسْبَمَا قَدَّرَ كُلَّ وَجْهٍ مِنْهُمَا فِرْقَةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَقَوْلُهُ: مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُضْمَرِ، لَا يَعْنِي أَنَّ الْمَصْدَرَ أُضْمِرَ فِيهِ الْفَاعِلُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مُضْمَرًا لِمَا قَدَّرَهُ كَحُبِّكُمْ أَوْ كَحُبِّهِمْ، فَأَبْرَزَهُ مُضْمَرًا حِينَ أَظْهَرَ تَقْدِيرَهُ، أَوْ يَعْنِي بِالْمُضْمَرِ الْمَحْذُوفَ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي اصْطِلَاحِ النَّحْوِيِّينَ، أَعْنِي أَنْ يُسَمَّى الْحَذْفُ إِضْمَارًا. وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ، لِأَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْفَاعِلَ مَعَ الْمَصْدَرِ لَا يُحْذَفُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُضْمَرًا فِي الْمَصْدَرِ. وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، كَالزَّيْتِ وَالْقَمْحِ، وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ لَا يُضْمَرُ فِيهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَحُبِّ اللَّهِ: كَتَعْظِيمِ اللَّهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ، أَيْ كَمَا يُحِبُّ اللَّهُ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ مَنْ يُحِبُّهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْبِسٍ. وَقِيلَ: كَحُبِّهِمُ اللَّهَ، أَيْ يُسَوُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِي مَحَبَّتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِاللَّهِ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ، فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «١». انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَاخْتَارَ كَوْنَ الْمَصْدَرِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ. أَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي الْمَصْدَرِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ؟ فَيَجُوزُ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زِيدٍ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، ثُمَّ يُضَافُ إِلَيْهِ، أَمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، يَفْصِلُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مِنْ فِعْلٍ لَمْ يُبْنَ إِلَّا لِلْمَفْعُولِ نَحْوَ: عَجِبْتُ مِنْ جُنُونٍ بِالْعِلْمِ زِيدٍ، لِأَنَّهُ مِنْ جُنِنْتَ الَّتِي لَمْ تُبْنَ إِلَّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَوْ مِنْ فِعْلٍ يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى لِلْفَاعِلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْنَى لِلْمَفْعُولِ فَيَجُوزُ فِي الْأَوَّلِ، وَيَمْتَنِعُ فِي الثَّانِي، وَأَصَحُّهَا الْمَنْعُ مُطْلَقًا.
وَتَقْرِيرُ هَذَا كُلِّهِ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ رَدَّ الزَّجَّاجُ قَوْلَ مَنْ قَدَّرَ فَاعِلَ الْمَصْدَرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ ضَمِيرَهُمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَالْفَرَّاءِ، وَالْمُبَرِّدِ، وَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَقْضِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، وَرُجِّحَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ ضَمِيرَ الْمُتَّخِذِينَ، أَيْ يُحِبُّونَ الْأَصْنَامَ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ، لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوهَا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَوَّوْا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَوْثَانِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَلَطِيفِ فِطْرَتِهِ وَذِلَّةِ الْأَصْنَامِ وَقِلَّتِهَا. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: يَحِبُّونَهُمْ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ، وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ: مِنْ حَبَّ طَبَّ، وَجَاءَ مُضَارِعُهُ عَلَى يحب، بكسر
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٦٥. [.....]
86
الْعَيْنِ شُذُوذًا، لِأَنَّهُ مُضَاعَفٌ مُتَعَدٍّ، وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومَ الْعَيْنِ نَحْوَ: مَدَّهُ يمده، وجره يَجُرُّهُ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ: قَالَ الرَّاغِبُ: الْحُبُّ أَصْلُهُ مِنَ الْمَحَبَّةِ، حَبَبْتُهُ: أَصَبْتُ حَبَّةَ قَلْبَهُ، وَأَصَبْتُهُ بِحَبَّةِ الْقَلْبِ، وَهِيَ فِي اللَّفْظِ فُعْلٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ انْفِعَالٌ. وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي اللَّهِ، فَالْمَعْنَى: أَصَابَ حَبَّةَ قَلْبِ عَبْدِهِ، فَجَعَلَهَا مَصُونَةً عَنِ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ وَسَائِرِ أَعْدَاءِ اللَّهِ. انْتَهَى. وَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: حُبُّ الْعَبْدِ لِلَّهِ: تَعْظِيمُهُ وَالتَّمَسُّكُ بِطَاعَتِهِ، وَحُبُّ اللَّهِ الْعَبْدَ: إِرَادَةُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَإِثَابَتُهُ. وَأَصْلُ الْحُبِّ فِي اللُّغَةِ: اللُّزُومُ، لِأَنَّ الْمُحِبَّ يَلْزَمُ حَبِيبَهُ مَا أَمْكَنَ. اه. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَهُمُ الْمُتَّخِذُونَ الْأَنْدَادَ، وَمُتَعَلِّقُ الْحُبِّ الثَّانِي فِيهِ خِلَافٌ. فَقِيلَ: مَعْنَى أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ: أَيْ مِنْهُمْ لِلَّهِ، لِأَنَّ حُبَّهُمْ لِلَّهِ بِوَاسِطَةٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ مِنْهُمْ لِأَوْثَانِهِمْ، قَالَهُ غَيْرُهُ. وَمُقْتَضَى التَّمْيِيزِ بِالْأَشَدِّيَّةِ، إِفْرَادُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ بِالْمَحَبَّةِ، أَوْ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمُوجِبِ الْحُبِّ، أَوْ لِمَحَبَّتِهِمْ إِيَّاهُ بِالْغَيْبِ، أَوْ لِشَهَادَتِهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالْمَحَبَّةِ، إِذْ قَالَ تَعَالَى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ «١»، أَوْ لِإِقْبَالِ الْمُؤْمِنِ عَلَى رَبِّهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، أَوْ لِعَدَمِ انْتِقَالِهِ عَنْ مَوْلَاهُ وَلَا يَخْتَارُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الصَّنَمِ وَهُوَ الضَّارُّ النَّافِعُ، أَوْ لِكَوْنِ حُبِّهِ بِالْعَقْلِ وَالدَّلِيلِ، أَوْ لِامْتِثَالِهِ أَمْرَهُ حَتَّى فِي الْقِيَامَةِ حِينَ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَبَدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا أَنْ يَقْتَحِمَ النَّارَ، فَيُبَادِرُونَ إليها، فَتَبْرُدُ عَلَيْهِمُ النَّارُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ تَحْتَ الْعَرْشِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، وَيَأْمُرُ مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمُ النَّارَ فيجزعون، قاله ان جُبَيْرٍ. تِسْعَةُ أَقْوَالٍ ثَبَتَتْ نَقَائِضُهَا وَمُقَابِلَاتُهَا لِمُتَّخِذِ الْأَنْدَادِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا خَصَائِصُ مَيَّزَ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ فِي حُبِّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ خصيصيه. وَالْمَجْمُوعُ هُوَ الْمُقْتَضِي لِتَمْيِيزِ الْحُبِّ، فَلَا تَبَايُنَ بَيْنَ الْأَقْوَالِ عَلَى هَذَا، لِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ مِنْهَا لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الْحَصْرِ فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ مِثَالٌ مِنْ أَمْثِلَةِ مُقْتَضَى التَّمْيِيزِ.
وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ: عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِرَادَةِ، لَا تَعَلُّقَ لَهَا إِلَّا بِالْجَائِزَاتِ، فَيَسْتَحِيلُ تَعَلُّقُ الْمَحَبَّةِ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ. فَإِذَا قُلْنَا: يُحِبُّ اللَّهَ، فَمَعْنَاهُ: يُحِبُّ طَاعَةَ اللَّهِ وَخِدْمَتَهُ وَثَوَابَهُ وَإِحْسَانَهُ. وَحَكَى عَنْ قَوْمٍ سَمَّاهُمْ هُوَ بِالْعَارِفِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: نُحِبُّ اللَّهَ لِذَاتِهِ، كَمَا نُحِبُّ اللَّذَّةَ لِذَاتِهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِالْكَمَالِ، وَالْكَمَالُ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَدَلَ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ عَنْ أَحَبَّ إِلَى أَشَدُّ حُبًّا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ أفعل التفضيل وفعل التعجب مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ. وَأَنْتَ لَوْ قُلْتَ: مَا أَحَبَّ
(١) سورة المائدة: ٥/ ٥٤.
87
زَيْدًا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعَجُّبًا مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ، إِنَّمَا يَكُونُ تَعَجُّبًا مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِالْمَفْعُولِ، فَيَنْتَصِبَ الْمَفْعُولُ بِهِ كَانْتِصَابِ الْفَاعِلِ. لَا تَقُولُ: مَا أَضْرِبَ زَيْدًا، عَلَى أَنَّ زَيْدًا حَلَّ بِهِ الضَّرْبُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ زَيْدٌ أَحَبُّ لِعَمْرٍو، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ زَيْدًا هُوَ الْمَحْبُوبُ لِعَمْرٍو. فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، عَدَلَ إِلَى التَّعَجُّبِ وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ بِمَا يُسَوَّغُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَتَقُولُ: مَا أَشَدَّ حُبَّ زِيدٍ لِعَمْرٍو، وَزَيْدٌ أَشَدُّ حُبًّا لِعَمْرٍو مِنْ خَالِدٍ لِجَعْفَرٍ. عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ شَذُّوا فَقَالُوا: مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ فِعْلِ الْمَفْعُولِ عَلَى جِهَةِ الشُّذُوذِ، وَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ لِيَأْتِيَ عَلَى الشَّاذِّ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالْقِيَاسِ، وَيَعْدِلَ عَلَى الصَّحِيحِ الْفَصِيحِ. وَانْتِصَابُ حُبًّا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَهُوَ مِنَ التَّمْيِيزِ الْمَنْقُولِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ:
حُبُّهُمْ لِلَّهِ أَشَدُّ مِنْ حُبِّ أُولَئِكَ لِلَّهِ، أَوْ لِأَنْدَادِهِمْ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ.
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: وَإِذْ تَرَوْنَ، بالتاء من فوق أن الْقُوَّةَ، وَأَنَّ بِفَتْحِهِمَا. وَقَرَأَ ابن عامر: إذ يرون، بِضَمِّ الْيَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْفَتْحِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: وَلَوْ تَرَى، بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ أن القوة، وأن بِكَسْرِهِمَا. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ: وَلَوْ يَرَى، بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ أَنَّ الْقُوَّةَ، وَأَنَّ بِفَتْحِهِمَا. وَقَرَأَتْ طَائِفَةٌ: وَلَوْ يَرَى، بالياء من أسفل أن الْقُوَّةَ، وَإِنَّ بِكَسْرِهِمَا. وَلَوْ هنا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَوَابٍ، وَاخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ قَبْلَ أَنَّ الْقُوَّةَ، فَيَكُونُ أَنَّ الْقُوَّةَ مَعْمُولًا لِذَلِكَ الْجَوَابِ، التَّقْدِيرُ: عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، لَعَلِمْتَ أَيُّهَا السَّامِعُ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، أَوْ لَعَلِمْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ فِي وَلَوْ تَرَى لَهُ. وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ خُوطِبَ، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ لِتَقْوِيَةِ عِلْمِهِ بِمُشَاهَدَةِ مِثْلِ هَذَا.
وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ، قَدَّرَ الْجَوَابَ: لَقُلْتَ إِنَّ الْقُوَّةَ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ:
وَلَوْ تَرَى مَنْ هُوَ؟ أَهْوَ السَّامِعُ؟ أَمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَاسْتَعْظَمْتَ حَالَهُمْ. وَأَنَّ الْقُوَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ مَكْسُورَةً، فِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ مِثْلُ: لَوْ قَدِمْتَ عَلَى زَيْدٍ لَأَحْسَنَ إِلَيْكَ، إِنَّهُ مُكْرِمٌ لَلضِّيفَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْدِيرُ ذَلِكَ: وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَفَزَعِهِمْ مِنْهُ وَاسْتِعْظَامِهِمْ لَهُ، لَأَقَرُّوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ. فَالْجَوَابُ مُضْمَرٌ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي إِنَّ انْتَهَى. وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ بِمُرَادِفِ، إِذْ وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي وَقْتِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ، وَأَيْضًا فَقَدَّرَ جَوَابَ لَوْ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَرَتِّبٍ عَلَى مَا يَلِي لَوْ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ السَّامِعِ، أَوِ النَّبِيِّ ﷺ الظَّالِمِينَ فِي وَقْتِ
88
رُؤْيَتِهِمْ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِقْرَارُهُمْ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جميعا. وصار نَظِيرَ قَوْلِكَ: يَا زَيْدُ لَوْ تَرَى عَمْرًا فِي وَقْتِ ضَرْبِهِ، لَأَقَرَّ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَإِقْرَارُهُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ لَيْسَتْ مُتَرَتِّبَةً عَلَى رُؤْيَةِ زَيْدٍ. وَعَلَى مَنْ قَرَأَ: وَلَوْ يَرَى، بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَفَتَحَ، أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْجَوَابِ: لَعَلِمُوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُ يَرَى هُوَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَإِنْ كَانَ ضَمِيرًا يُقَدَّرُ وَلَوْ يَرَى هُوَ، أَيِ السَّامِعُ، كَانَ التَّقْدِيرُ: لَعَلِمَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ الْجَوَابَ مَحْذُوفًا بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ، وَتَقْدِيرُهُ: عَلَى قِرَاءَةِ وَلَوْ تَرَى بِالْخِطَابِ، لَاسْتَعْظَمْتَ مَا حَلَّ بِهِمْ، وَعَلَى قِرَاءَةِ وَلَوْ يَرَى لِلْغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَمِيرُ السَّامِعِ كَانَ التَّقْدِيرُ: لَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ ظَلَمُوا هُوَ الْفَاعِلَ، كَانَ التَّقْدِيرُ: لَاسْتَعْظَمُوا مَا حَلَّ بِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْجَوَابُ مُقَدَّرًا آخَرَ الْكَلَامَ، وَكَانَتْ أَنَّ مَفْتُوحَةً، فَتَوْجِيهُ فَتْحِهَا عَلَى تَقْدِيرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِيَرَى فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، أَيْ وَلَوْ رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ، فَتَكُونُ أَنَّ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَمَنْ كَسَرَ إِنَّ مَعَ قِرَاءَةِ التَّاءِ فِي تَرَى، وَقَدَّرَ الْجَوَابَ آخِرَ الْكَلَامِ، فَهِيَ، وَإِنْ كَانَتْ مَكْسُورَةً عَلَى مَعْنَى الْمَفْتُوحَةٍ، دَالَّةٌ عَلَى التَّعْلِيلِ، تَقُولُ: لَا تُهِنْ زَيْدًا إِنَّهُ عَالِمٌ، وَلَا تُكْرِمُ عَمْرًا إِنَّهُ جَاهِلٌ، فَهِيَ عَلَى مَعْنَى الْمَفْتُوحَةِ مِنَ التَّعْلِيلِ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ لَوْ وَجَوَابِهَا الْمَحْذُوفِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَكَسَرَ الْهَمْزَتَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ جَوَابُ لَوْ، أَيْ لَقَالُوا إِنَّ الْقُوَّةَ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَاسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ، وَمَفْعُولُ: تَرَى مَحْذُوفٌ، أَيْ وَلَوْ رَأَى الظَّالِمُونَ حَالَهُمْ. وَتَرَى فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عِرْفَانِيَّةً. وَإِذَا جُعِلَتْ أَنَّ مَعْمُولَةً لِيَرَى، جَازَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى عَلِمَ التَّعْدِيَةِ إِلَى اثْنَيْنِ، سَدَّتْ أَنَّ مَسَدَّهُمَا، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا، إِشَارَةٌ إِلَى مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، أَوْ يَكُونُ عَامًّا، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ من الكفار. لكن سِيَاقَ مَا بَعْدَهُ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُمْ مُتَّخِذُو الْأَنْدَادِ.
وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ: إِذْ يَرَوْنَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، هُوَ مِنْ أَرَيْتَ الْمَنْقُولَةِ مِنْ رَأَيْتَ، بِمَعْنَى أَبْصَرْتَ. وَدَخَلَتْ إِذْ، وَهِيَ لِلظَّرْفِ الْمَاضِي، فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمُسْتَقْبِلَاتِ، تَقْرِيبًا لِلْأَمْرِ وَتَصْحِيحًا لِوُقُوعِهِ، كما يقع الماضي الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ «١»، وَكَمَا جَاءَ:
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٥٠.
89
بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَى وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ
لِأَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدٍ غَارَةً لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِنْ نِهَابِ نُفُوسِ
وَحَذْفُ جَوَابِ لَوْ، لَفَهْمِ الْمَعْنَى، كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ «١»، وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «٢»، وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «٣»، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ كَلَامِ المفسرين فيها. قَالَ عَطَاءٌ: الْمَعْنَى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ حِينَ تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَهَنَّمُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ تَلْتَقِطُهُمْ كَمَا يَلْتَقِطُ الْحَمَامُ الْحَبَّةَ، لَعَلِمُوا أَنَّ الْقُوَّةَ وَالْقُدْرَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَقِيلَ: لَوْ يَعْلَمُونَ فِي الدُّنْيَا مَا يَعْلَمُونَهُ، إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ، لَأَقَرُّوا بِأَنَّ الْقُوَّةَ لله جميعا، أي لتبرأوا مِنَ الْأَنْدَادِ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ. وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ: لَوِ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ وَيَقْوَى عَلَى تَعْذِيبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَامْتَنَعُوا عَمَّا يُوجِبُ الْجَزَاءَ بِالْعَذَابِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ يَعْلَمُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ارْتَكَبُوا الظُّلْمَ الْعَظِيمَ بِشِرْكِهِمْ، أَنَّ الْقُدْرَةَ كُلَّهَا لِلَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنِ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ دُونَ أَنْدَادِهِمْ، وَيَعْلَمُونَ شِدَّةَ عِقَابِهِ لِلظَّالِمِينَ، إِذْ عَايَنُوا الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكَانَ مِنْهُمْ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصْفِ مِنَ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ ووقوع العلم بِظُلْمِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَحَكَى الرَّاغِبُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ الْقُوَّةَ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ، قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. انْتَهَى. وَيَصِيرُ الْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى قُوَّةَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: قِرَاءَةُ الْيَاءِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ التَّاءِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ قَدْ عَلِمُوا قَدْرَ مَا يُشَاهِدُهُ الْكُفَّارُ وَيُعَايِنُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمَّا الْمُتَوَعِّدُونَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ، فَوَجَبَ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَيْهِمْ. انْتَهَى. وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، أَعْنِي التَّاءَ وَالْيَاءَ، لِأَنَّهُمَا مُتَوَاتِرَتَانِ. وَانْتِصَابُ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْعَامِلِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ. وَالْقُوَّةُ هُنَا مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، التَّقْدِيرُ: أَنَّ الْقُوَى مُسْتَقِرَّةٌ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حالا من الْقُوَّةِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْقُوَّةِ أَنَّ، وَأَنَّ لَا تعمل في
(١) سورة سبأ: ٣٤/ ٥١.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٢٧.
(٣) سورة الرعد: ١٣/ ٣١.
90
الْأَحْوَالِ. وَهَذَا التَّرْكِيبُ أَبْلَغُ هُنَا مِنْ أَنْ لَوْ قُلْتَ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ، إِذْ تَدُلُّ هُنَا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِهَذَا الْوَصْفِ. وأن الْقُوَّةَ لِلَّهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْقُوَى ثَابِتَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ لَهُ تَعَالَى، وَتَأَخَّرَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعَذَابِ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ شِدَّةَ الْعَذَابِ هِيَ مِنْ آثَارِ الْقُوَّةِ.
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ: لَمَّا ذَكَرَ مُتَّخِذِي الْأَنْدَادِ ذَكَرَ أَنَّ عِبَادَتَهُمْ لَهُمْ وَإِفْنَاءَ أَعْمَارِهِمْ فِي طَاعَتِهِمْ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُمْ سَبَبُ نَجَاتِهِمْ، لَمْ تُغْنِ شَيْئًا، وَأَنَّهُمْ حِينَ صاروا أحوج إليهم، تبرأوا منهم. وَإِذْ: بَدَلٌ مِنْ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ. وَقِيلَ: مَعْمُولَةٌ لِقَوْلِهِ شَدِيدُ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ اذْكُرُوا الَّذِينَ اتَّبَعُوا، هُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَقَادَتُهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَمُقَاتِلٌ وَالزَّجَّاجُ، أَوِ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ كَانُوا يُوَسْوِسُونَ وَيُرُونَهُمُ الْحَسَنَ قَبِيحًا وَالْقَبِيحَ حَسَنًا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْضًا وَالسُّدِّيُّ أَوْ عَامٌّ فِي كُلِّ مَتْبُوعٍ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: اتُّبِعُوا الْأَوَّلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالثَّانِي مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ بِالْعَكْسِ. فعلى قراءة الجمهور: تبرؤ الْمَتْبُوعُونَ بِالنَّدَمِ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ بِالْعَجْزِ عَنِ الدَّفْعِ، أَوْ بِالْقَوْلِ: إِنَّا لَمْ نُضِلَّ هَؤُلَاءِ، بَلْ كَفَرُوا بِإِرَادَتِهِمْ وَتَعَلَّقَ الْعِقَابُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ، وَلَمْ يَتَأَتَّ مَا حَاوَلُوهُ مِنْ تَعْلِيقِ ذُنُوبِهِمْ عَلَى مَنْ أَضَلَّهُمْ. أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ، الْأَخِيرُ أَظْهَرُهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّبَرُّؤُ بِالْقَوْلِ. قَالَ تَعَالَى: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «١». وَتَبَرُّؤُ التَّابِعِينَ هُوَ انْفِصَالُهُمْ عَنْ مَتْبُوعِيهِمْ وَالنَّدَمُ عَلَى عِبَادَتِهِمْ، إِذْ لَمْ يُجْدِ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئًا، وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَرَأَوُا الْعَذَابَ الظَّاهِرُ. أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ، هِيَ وَمَا بَعْدَهَا، قَدْ عُطِفَتَا عَلَى تَبَرَّأَ، فَهُمَا دَاخِلَانِ فِي حَيِّزِ الظَّرْفِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْحَالِ فِيهِمَا، والعامل تبرأ، أي تبرأوا فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ بِهِمْ، لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَزْدَادُ فِيهَا الْخَوْفُ وَالتَّنَصُّلُ مِمَّنْ كَانَ سَبَبًا فِي الْعَذَابِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْحَالِ فِي: وَرَأَوُا الْعَذَابَ، وَلِلْعَطْفِ فِي: وَتَقَطَّعَتْ عَلَى تَبَرَّأَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ: كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ لَا مَنْجَى لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا مُخَلِّصَ، وَلَا تَعَلُّقَ بِشَيْءٍ يُخَلِّصُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْأَسْبَابِ أَقْوَالٌ: الْوَصَلَاتُ عَنْ قَتَادَةَ، وَالْأَرْحَامُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ، أَوِ الْأَعْمَالُ الملتزمة عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ، أَوِ الْعُهُودُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي رَوْقٍ، أَوْ وَصَلَاتُ الكفر، أو
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٦٣.
91
مَنَازِلُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا فِي الْجَاهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ أَسْبَابُ النَّجَاةِ، أَوِ الْمَوَدَّاتُ. وَالظَّاهِرُ دُخُولُ الْجَمِيعِ فِي الْأَسْبَابِ، لِأَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ. وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ نَوْعٌ يُسَمَّى التَّرْصِيعَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَسْجُوعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ «١»، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَهُوَ مُحَسِّنٌ الْحَذْفَ لِضَمِيرِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: اتَّبَعُوا، إِذْ لَوْ جَاءَ اتَّبَعُوهُمْ، لَفَاتَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَدِيعِ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ قَوْلُ أَبِي الطِّيبِ:
فِي تَاجِهِ قَمَرٌ فِي ثَوْبِهِ بَشَرٌ فِي دِرْعِهِ أَسَدٌ تَدْمَى أَظَافِرُهُ
وَقَوْلُنَا مِنْ قَصِيدٍ عَارَضْنَا بِهِ بَانَتْ سُعَادُ:
فَالنَّحْرُ مَرْمَرَةٌ وَالنَّشْرُ عَنْبَرَةٌ وَالثَّغْرُ جَوْهَرَةٌ وَالرِّيقُ مَعْسُولُ
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا، الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى يطيعوا الله ويتبرأوا مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا حُشِرُوا جَمِيعًا، مِثْلَ مَا تَبَرَّأَ الْمَتْبُوعُونَ أَوَّلًا مِنْهُمْ. وَلَوْ: هُنَا لِلتَّمَنِّي. قِيلَ: وَلَيْسَتِ الَّتِي لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ جَوَابُهَا بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَنَتَبَرَّأَ، كَمَا جَاءَ جَوَابُ لَيْتَ فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ «٢»، وَكَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَوْ نُبِشَ الْمَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ فَتُخْبِرُ بِالذَّنَائِبِ أَيُّ زِيرِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَوْ هَذِهِ هِيَ الَّتِي لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَأُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي، وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ جَوَابُهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ:
بِيَوْمِ الشَّعْثَمَيْنِ لَقَرَّ عَيْنًا وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ
وَأَنَّ مَفْتُوحَةً بَعْدَ لَوْ، كَمَا فُتِحَتْ بَعْدَ لَيْتَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ:
يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهُ حَتَّى يَعُودَ الْبَحْرُ كَيْنُونَهُ
وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَنْتَصِبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ، وَأَنَّهَا إِذَا سَقَطَتِ الْفَاءُ، انْجَزَمَ الْفِعْلُ هَذَا الْمَوْضِعَ، لِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ إِنَّمَا اسْتَثْنَوْا جَوَابَ النَّفْيِ فَقَطْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى هَذَا الْمَوْضِعُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعِ الْجَزْمُ فِي الْفِعْلِ الْوَاقِعِ جوابا للو التي
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٧.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٧٣.
92
أُشْرِبَتْ مَعْنَى التَّمَنِّي إِذَا حُذِفَتِ الْفَاءُ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهَا مُشْرَبَةً مَعْنَى التَّمَنِّي، لَيْسَ أَصْلَهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالْحَمْلِ عَلَى حَرْفِ التَّمَنِّي الَّذِي هُوَ لَيْتَ. وَالْجَزْمُ فِي جَوَابِ لَيْتَ بَعْدَ حَذْفِ الْفَاءِ، إِنَّمَا هُوَ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، أَوْ دَلَالَتِهَا عَلَى كَوْنِهِ مَحْذُوفًا بَعْدَهَا، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، فَصَارَتْ لَوْ فَرْعَ فَرْعٍ، فَضَعُفَ ذَلِكَ فِيهَا. وَالْكَافُ فِي كَمَا: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ السابقين، فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَمَا فِي كَمَا: مَصْدَرِيَّةٌ، التَّقْدِيرُ: تبرأوا مِثْلَ تَبَرُّئِهِمْ، أَوْ فَنَتَبَرَّأَهُ، أَيْ فَنَتَبَرَّأَ التَّبَرُّؤَ مُشَابِهًا لِتَبَرُّئِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْكَافُ مِنْ قَوْلِهِ: كَمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ، إِمَّا لِمَصْدَرٍ، أَوْ لِحَالٍ، تَقْدِيرُهَا: مُتَبَرِّئِينَ. كَمَا انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ عَلَى النَّعْتِ، إِمَّا لِمَصْدَرٍ، فَهُوَ كَلَامٌ وَاضِحٌ، وَهُوَ الْإِعْرَابُ الْمَشْهُورُ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ لِحَالٍ، تَقْدِيرُهَا: مُتَبَرِّئِينَ كَمَا، فَغَيْرُ وَاضِحٍ، لِأَنَّا لَوْ صَرَّحْنَا بِهَذِهِ الْحَالِ، لَمَا كَانَ كَمَا مَنْصُوبًا عَلَى النَّعْتِ لِمُتَبَرِّئِينَ، لِأَنَّ الْكَافَ الداخلة على ما المصدرية هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، لَا مِنْ صِفَاتِ الْفَاعِلِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَنْتَصِبْ عَلَى النَّعْتِ لِلْحَالِ، لِأَنَّ الْحَالَ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْفَاعِلِ، وَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ هَذِهِ الْحَالِ، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ تَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً، وَلَا نَرْتَكِبُ كَوْنَ الْحَالِ مُؤَكَّدَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَلْفُوظًا بِهَا. أَمَّا أَنْ تُقَدَّرَ حَالًا وَنَجْعَلَهَا مُؤَكَّدَةً، فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَالتَّوْكِيدُ يُنَافِي الْحَذْفَ، لِأَنَّ مَا جِيءَ بِهِ لِتَقْوِيَةِ الشَّيْءِ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ أَيْضًا. فَلَوْ صُرِّحَ بِهَذِهِ الْحَالِ، لِمَا سَاغَ فِي كَمَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْحَالِ الْمُصَرَّحِ بِهَا، مِثَالُ ذَلِكَ: هُمْ مُحْسِنُونَ إِلَيَّ كَمَا أَحْسَنُوا إِلَى زَيْدٍ. فَكَمَا أَحْسَنُوا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ مُحْسِنِينَ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْإِحْسَانِ، التَّقْدِيرُ: عَلَى الْإِعْرَابِ الْمَشْهُورِ إِحْسَانًا مِثْلَ إِحْسَانِهِمْ إِلَى زَيْدٍ.
كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ: الْكَافُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ، وَقَدَّرُوهُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَوْ حَشْرُهُمْ كَذَلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْكَافِ وَحَذْفَ مبتدأ، أو كلاهما عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّشْبِيهِ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ مِثْلُ إِرَاءَتِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَالَ، يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذَلِكَ، إِشَارَةً إِلَى تَبَرُّؤِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. وَالْأَجْوَدُ تَشْبِيهُ الْإِرَاءَةِ بَالْأِرَاءَةِ، وَجَوَّزُوا فِي يُرِيهِمْ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً عُدِّيَتْ بِالْهَمْزَةِ، فَتَكُونُ حَسَرَاتٍ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، وَأَنْ تَكُونَ قَلْبِيَّةً، فَتَكُونُ مَفْعُولًا ثَالِثًا، قَالُوا: وَيَكُونُ ثَمَّ حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ. وَتَحَسَّرَ: يَتَعَدَّى بِعَلَى،
93
تَقُولُ: تَحَسَّرْتُ عَلَى كَذَا، فَعَلَى هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: حَسَرَاتٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ حَسَرَاتٍ كَائِنَةٍ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى تُشْعِرُ بِأَنَّ الحسرات مستعلية عليهم. وأعمالهم، قِيلَ: هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي صَنَعُوهَا، وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ عَمِلُوهَا، وَأَنَّهُمْ مَأْخُوذُونَ بِهَا. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّهَا الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ التي ارتكبوها، فوجب لهم بِهَا النَّارُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالسُّدِّيُّ: الْمَعْنَى أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَرَكُوهَا، فَفَاتَتْهُمُ الْجَنَّةُ، وَأُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: تُرْفَعُ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَنْظُرُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ فِيهَا، لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: تِلْكَ مَسَاكِنُكُمْ لَوْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَرِثُونَهُمْ، فَذَلِكَ حِينَ يَنْدَمُونَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، إِنَّ أَعْمَالَهُمْ قَدْ أَحْبَطَ ثَوَابَهَا كُفْرُهُمْ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُثَابُ مَعَ كُفْرِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَسُئِلَ: هَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: «لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»
، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «١». وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَعْمَالُهُمُ الَّتِي تَقَرَّبُوا بِهَا إِلَى رُؤَسَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا الْأَعْمَالُ الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا رُؤَسَاءَهُمْ وَقَادَتَهُمْ، وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي. وَكَانَتْ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهَا مَسْطُورَةً فِي صَحَائِفِهِمْ، وَتَيَقَّنُوا الْجَزَاءَ عَلَيْهَا، وَكَانَ يُمْكِنُهُمْ تَرْكُهَا وَالْعُدُولُ عَنْهَا، لَوْ شَاءَ اللَّهُ.
وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ النَّارِ، إِذْ لَا يُقَالُ: مَا زِيدٌ بِخَارِجٍ مِنْ كَذَا إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ. وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى دُخُولِهِمْ، إِنَّمَا تَقَدَّمَ رُؤْيَتُهُمُ الْعَذَابَ وَمُفَاوَضَةٌ بِسَبَبِ تَبَرُّؤِ الْمَتْبُوعِينَ مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَجَاءَ الْخَبَرُ مَصْحُوبًا بِالْبَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْكِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمْ بِمَنْزِلَتِهِ فِي قَوْلِهِ:
هُمْ يَفْرِشُونَ اللَّبْدَ كُلَّ طَمْرَهْ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ أَمْرِهِمْ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ، لَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، لَا يَكُونُ فِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، إِنَّ الفاسق يخلد في النَّارَ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمُنْتَخَبِ: إِنَّ الْأَصْحَابَ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، إِلَى آخَرِ كَلَامِهِ، فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَا دلالة في الآية
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٣.
94
عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ. لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَا زيد بمنطلق، وإنما فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ انْطِلَاقِ زِيدٍ، وَأَمَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِنَفْيِ الِانْطِلَاقِ، أَوْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي نَفْيِ الِانْطِلَاقِ، فَلَا إِنَّمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ، أَعْنِي الِاخْتِصَاصَ، بِنَفْيِ الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، إِذِ الْمُشَارَكَةُ فِي ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ، وَهَلِ النَّفْيُ إِلَّا مُرَكَّبٌ عَلَى الْإِيجَابِ؟ فَإِذَا قُلْتَ: زِيدٌ مُنْطَلِقٌ، فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الِاخْتِصَاصِ، وَلَا شَيْءٍ مِنَ الْمُشَارَكَةِ، فَكَذَلِكَ النَّفْيُ، وَكَوْنُهُ قَابِلًا لِلْخُصُومَةِ وَالِاشْتِرَاكِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: زِيدٌ مُنْطَلِقٌ لَا غَيْرَهُ، وَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ مَعَ غَيْرِهِ؟.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ. إِخْبَارَهُ تَعَالَى بِأَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ مَعَالِمِهِ الَّتِي جَعَلَهَا مَحْمَلًا لِعِبَادَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ غِشْيَانُ الْمُشْرِكِينَ لَهَا، وَتَقَرُّبُهُمْ بِالْأَصْنَامِ عَلَيْهَا.
وَصَرَّحَ بِرَفْعِ الْإِثْمِ عَمَّنْ طَافَ بِهِمَا مِمَّنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ تَبَرَّعَ بِخَيْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ لِفِعْلِهِ، عَلِيمٌ بِنِيَّتِهِ، لَمَّا كَانَ التَّطَوُّعُ يَشْتَمِلُ عَلَى فِعْلٍ وَنِيَّةٍ، خَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَنَاسِبَتَيْنِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَتَمَ مَا أَنْزِلَ اللَّهُ مِنْ الْحُكْمِ الْإِلَهِيِّ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَمَنْ يُسَوَّغُ مِنْهُ اللَّعْنُ مِنْ صَالِحِي عِبَادِهِ. ثُمَّ اسْتَثْنَى مَنْ تَابَ وَأَصْلَحُ، وَبَيَّنَ مَا كَتَمَ. وَلَمْ يَكْتَفِ بِالتَّوْبَةِ فَقَطْ حَتَّى أَضَافَ إِلَيْهَا الْإِصْلَاحَ، لِأَنَّ كَتْمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْإِفْسَادِ، إِذْ فِيهِ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى غَيْرِ الْمِنْهَجِ الشَّرْعِيِّ. وَأَضَافَ التَّبْيِينَ لِمَا كَتَمَ حَتَّى يَتَّضِحَ لِلنَّاسِ وُضُوحًا بَيِّنًا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَأَنَّهُ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَسَلَكَ نَقِيضَ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِزَوَالِ مَا قَرَّرَ أَوَّلًا مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ.
وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَثْنِينَ، أَنَّهُ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُ عِنْدَهُ ذَنْبٌ، وَإِنْ كَانَ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ، إِذَا تَابَ الْعَبْدُ مِنْهُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، بِصِفَتِي الْمُبَالَغَةِ الَّتِي فِي فَعَّالٍ وَفَعِيلٍ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّسِمِينَ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَحَالَ مَنِ ارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ، ثُمَّ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ وَتَابَ إِلَى اللَّهِ. ذَكَرَ حَالَ مَنْ وَافَى عَلَى الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ تَحْتَ لَعْنَةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَالنَّاسِ، وَأَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي اللَّعْنَةِ، غَيْرُ مُخَفَّفٍ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، ولا مرجئون إِلَى وَقْتٍ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ كُفْرُ مُعْظَمِ الْكُفَّارِ إِنَّمَا هُوَ لِاتِّخَاذِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً «١» ؟ أَأَنْتَ قُلْتَ
(١) سورة ص: ٣٨/ ٥.
95
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١» ؟ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «٢»،
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ فيقولون كنا نعبد عزيزا».
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَجَزَّأُ، وَلَا لَهُ مَثِيلٌ فِي صِفَاتِهِ. ثُمَّ حَصَرَ الْإِلَهِيَّةَ فِيهِ، فَتَضْمَنَ ذَلِكَ أَنَّهُ هُوَ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ، فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِنَ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالرَّحِيمِيَّةِ. ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ بِالْإِلَهِيَّةِ. فَبَدَأَ بِذِكْرِ اخْتِرَاعِ الْأَفْلَاكِ الْعُلْوِيَّةِ، وَالْجِرْمِ الْكَثِيفِ الْأَرْضِيِّ، وَمَا يَكُونُ فِيهِمَا مِنَ اخْتِلَافِ مَا بِهِ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ، مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ النَّاشِئَيْنِ عَمَّا أَوْدَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَاخْتِلَافِ الْفُلْكِ ذاهبة وآئبة بِمَا يَنْفَعُ النَّاسُ النَّاشِئُ ذَلِكَ عَمَّا أُودِعَ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَمَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ، مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ، وَتَشَقُّقِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، وَانْتِشَارِ الْعَالَمِ فِيهَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ فِي الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ، وَأَشْيَاءَ فِي الْجِرْمِ الْأَرْضِيِّ، ذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا هُوَ بَيْنَ الْجِرْمَيْنِ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ، إِذْ كَانَ بِذَلِكَ تَتِمُّ النِّعْمَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِصَلَاحِ الْعَالِمِ فِي مَنَافِعِهِمُ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ هِيَ آيَاتٌ لِلْعَاقِلِ، تَدُلُّهُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِصَاصِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، إِذْ مَنْ عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْلَمُونَ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اقْتِدَارٌ عَلَى شيء مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَأَنَّهُمْ بَعْضُ مَا حَوَتْهُ الدَّائِرَةُ الْعُلْوِيَّةُ وَالدَّائِرَةُ السُّفْلِيَّةُ، وَأَنَّ نِسْبَتَهُمْ إِلَى مَنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الِافْتِقَارِ وَالتَّغَيُّرِ، فَلَا مَزِيَّةَ لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ إِلَّا عِنْدَ مَنْ سُلِبَ نُورَ الْعَقْلِ، وَغَشِيتْهُ ظُلُمَاتُ الْجَهْلِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى، بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ، أَنَّ مِنَ النَّاسِ مُتَّخِذِي أَنْدَادٍ، وَأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَهُمْ وَيُحِبُّونَهُمْ مِثْلَ مَحِبَّةِ اللَّهِ، فَهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي الْمَحَبَّةِ، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ «٣». ثُمَّ ذَكَرَ أن من الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ حُبًّا لِلَّهِ من هؤلاء لأصناهم. ثُمَّ خَاطَبَ مَنْ خَاطَبَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، حِينَ عَايَنُوا نَتِيجَةَ اتِّخَاذِهِمُ الْأَنْدَادَ، وَهُوَ الْعَذَابُ، الْحَالُّ بِهِمْ، أَيْ لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا. ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَنْدَادَهُمْ لَا طَاقَةَ لَهَا وَلَا قُوَّةَ بِدَفْعِ الْعَذَابِ عَمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْقُوَى وَالْقُدَرِ هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى تَبَرُّؤَ الْمَتْبُوعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَقْتَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ وَزَالَتِ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ التَّابِعِينَ تَمَنَّوُا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا حتى يؤمنوا ويتبرأوا مِنْ مَتْبُوعِيِهِمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ التَّمَنِّي وَلَا يُمْكِنُ أن يقع، فهو تمني مستحيل، لأن الله
(١) سورة المائدة: ٥/ ١١٦.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٣٠.
(٣) سورة النحل: ١٦/ ١٧.
96
تَعَالَى قَدْ حَكَمَ وَأَمْضَى أَنْ لَا عَوْدَةَ إِلَى الدُّنْيَا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بَعْدَ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ، أَرَاهُمْ أَعْمَالَهُمْ نَدَامَاتٍ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ، لِيَتَضَاعَفَ بِذَلِكَ الْأَلَمُ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِمَا خَتَمَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ وَالشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَطَا نِقْمَاتِهِ، وَنَسْتَنْزِلُ مِنْ كَرَمِهِ الْعَمِيمِ نشر رحماته.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٧٦]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
الْحَلَالُ: مُقَابِلُ الْحَرَامِ وَمُقَابِلُ الْمُحَرَّمِ. يُقَالُ شَيْءٌ حَلَالٌ: أَيْ سَائِغٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَشَيْءٌ حَرَامٌ: مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَرَجُلٌ حَلَالٌ: أَيْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ. قِيلَ: وَسُمِّيَ حَلَّالًا لِانْحِلَالِ عَقْدِ الْمَنْعِ مِنْهُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ حَتَّى يَحِلَّ، بِكَسْرِ الْحَاءِ فِي الْمُضَارِعِ، عَلَى قِيَاسِ الْفِعْلِ الْمُضَاعَفِ اللَّازِمِ. وَيُقَالُ: هَذَا حَلٌّ، أَيْ حَلَالٌ، وَيُقَالُ: حَلَّ بَلَّ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَحَلَّ
97
بِالْمَكَانِ: نَزَلَ بِهِ، وَمُضَارِعُهُ جَاءَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، وَحَلَّ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: حَانَ وَقْتَ أَدَائِهِ.
الْخُطْوَةُ، بِضَمِّ الْخَاءِ: مَا بَيْنَ قَدَمَيِ الْمَاشِي مِنَ الْأَرْضِ، وَالْخَطْوَةُ، بِفَتْحِهَا: الْمَرَّةُ مِنَ الْمَصْدَرِ. يقال: خطا يخطو خَطْوًا: مَشَى. وَيُقَالُ: هُوَ وَاسِعُ الْخَطْوِ. فَالْخُطْوَةُ بِالضَّمِّ، عِبَارَةٌ عَنِ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَخْطُو فِيهَا، كَالْغُرْفَةِ وَالْقَبْضَةِ، وَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنِ الشَّيْءِ الْمَعْرُوفِ وَالْمَقْبُوضِ، وَفِي جَمْعِهَا بِالْأَلِفِ وَالْيَاءِ لُغًى ثَلَاثٌ: إِسْكَانُ الطَّاءِ كَحَالِهَا فِي الْمُفْرَدِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَنَاسٍ مِنْ قِيسٍ، وَضَمَّةُ الطَّاءِ اتِّبَاعًا لِضَمَّةِ الْخَاءِ، وَفَتْحُ الطَّاءِ. وَيُجْمَعُ تَكْسِيرًا عَلَى خُطًى، وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي فِعْلَةٍ الِاسْمِ. الْفَحْشَاءُ: مَصْدَرٌ كَالْبَأْسَاءِ، وَهُوَ فَعْلَاءٌ مِنَ الْفُحْشِ، وَهُوَ قُبْحُ الْمَنْظَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بِمُعَطَّلِ
ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْمَعَانِي. أَلْفَى: وَجَدَ، وَفِي تَعَدِّيهَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ خِلَافٌ، وَمَنْ مَنَعَ جَعْلَ الثَّانِي حَالًا، وَالْأَصَحُّ كَوْنُهُ مَفْعُولًا لِمَجِيئِهِ مَعْرِفَةً، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى زِيَادَةِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. النَّعِيقُ: دُعَاءُ الرَّاعِي وَتَصْوِيتُهُ بِالْغَنَمِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَانْعَقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإِنَّمَا مَنَّتْكَ نَفْسُكَ فِي الْخَلَاءِ ضَلَالَا
وَيُقَالُ: نَعَقَ الْمُؤَذِّنُ، وَيُقَالُ: نَعَقَ يَنْعَقُ نَعِيقًا وَنُعَاقًا وَنَعْقًا، وَأَمَّا نَغَقَ الْغُرَابُ، فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ. وَقِيلَ أَيْضًا: يُقَالُ بِالْمُهْمِلَةِ فِي الْغُرَابِ. النِّدَاءُ: مَصْدَرُ نَادَى، كَالْقِتَالِ مَصْدَرُ قَاتَلَ، وَهُوَ بِكَسْرِ النون، وقد يضم. قِيلَ: وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلدُّعَاءِ، وَقِيلَ: مُخْتَصٌّ بِالْجَهْرِ، وَقِيلَ: بِالْبُعْدِ، وَقِيلَ: بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ أَنْدَى صَوْتًا مِنْ فُلَانٍ، أَيْ أَقْوَى وَأَشَدُّ وَأَبْعَدُ مَذْهَبًا. اللَّحْمُ: مَعْرُوفٌ. يُقَالُ: لَحُمَ الرَّجُلُ لِحَامَةً، فَهُوَ لَحِيمٌ: ضَخْمٌ.
وَلَحَمَ يَلْحَمُ، فَهُوَ لَحِمٌ: اشْتَاقَ إِلَى اللَّحْمِ. وَلَحَمَ النَّاسَ يُلْحِمُهُمْ: أَطْعَمَهُمُ اللَّحْمَ، فَهُوَ لَاحِمٌ. وَأَلْحَمَ، فَهُوَ مُلْحِمٌ: كَثُرَ عِنْدَهُ اللَّحْمُ. الْخِنْزِيرُ: حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ، وَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ، فَهُوَ فِعْلِيلٌ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ نُونَهُ زَائِدَةٌ، وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ خَزَرِ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ كَذَلِكَ يَنْظُرُ. يُقَالُ:
تَخَازَرَ الرَّجُلُ: ضَيَّقَ جَفْنَهُ لِيُحَدِّدَ النَّظَرَ، وَالْخَزَرُ: ضِيَقُ الْعَيْنِ وَصِغَرُهَا، وَيُقَالُ: رَجُلٌ أَخْزَرُ: بَيِّنُ الْخَزَرِ. وَقِيلَ: هُوَ النَّظَرُ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ، فَيَكُونُ كَالتَّشَوُّشِ. الْإِهْلَالُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمِنْهُ الْإِهْلَالُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْهِلَالُ لِارْتِفَاعِ الصَّوْتِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَيُقَالُ: أَهَلَّ الْهِلَالُ وَاسْتَهَلَّ، وَيُقَالُ: أَهَلَّ بِكَذَا: رَفَعَ صَوْتَهُ. قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ:
98
يُهِلُّ بِالْفَدْفَدِ رُكْبَانُنَا كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرْ
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا بَهِجٌ مَتَى تَرَهُ يُهِلُّ وَيَسْجُدُ
وَمِنْهُ: إِهْلَالُ الصَّبِيِّ وَاسْتِهْلَالُهُ، وَهُوَ صِيَاحُهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَضْحَكُ الذِّئْبُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ وَتَرَى الذِّئْبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ
الْبَطْنُ: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ عَلَى فُعُولٍ قِيَاسٌ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى بُطْنَانٍ، وَيُقَالُ: بَطَنَ الْأَمْرُ يَبْطُنُ، إِذَا خَفِيَ. وَبَطُنَ الرَّجُلُ، فَهُوَ بَطِينٌ: كَبُرَ بَطْنُهُ. وَالْبِطْنَةُ: امْتِلَاءُ الْبَطْنِ بِالطَّعَامِ. وَيُقَالُ: الْبِطْنَةُ تذهب الفطنة.
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ: هَذَا ثَانِي نِدَاءٍ وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَلَفْظُهُ عَامٌّ. قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي كُلِّ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَرَوَى الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ وَخُزَاعَةَ وَبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقِيلَ: فِي ثَقِيفٍ وَخُزَاعَةَ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. قِيلَ: وَبَنِي مُدْلِجٍ، حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، وَحَرَّمُوا الْبَحِيرَةَ وَالسَّوَائِبَ وَالْوَصِيلَةَ وَالِحَامَ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا، كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا وَاللَّفْظُ عَامًّا، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذَا لِمَا قَبْلَهُ، أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ التَّوْحِيدَ وَدَلَائِلَهُ، وَمَا لِلتَّائِبِينَ وَالْعَاصِينَ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِنْعَامِهِ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، لِيَدُلَّ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُؤْثَرُ فِي قَطْعِ الْإِنْعَامِ. وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: لَمَّا حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ حَالِ مَنْ يَصِيرُ عَمَلُهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً، أَمَرَهُمْ بِأَكْلِ الْحَلَالِ، لِأَنَّ مَدَارَ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ. كُلُوا: أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَتَسْوِيغٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُوجِدُ لِلْأَشْيَاءِ، فَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا عَلَى مَا يُرِيدُ.
مِمَّا فِي الْأَرْضِ، مِنْ: تَبْعِيضِيَّةٌ، وَمَا: مَوْصُولَةٌ، وَمِنْ: فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، نَحْوَ:
أَكَلْتُ مِنَ الرَّغِيفِ، وحلالا: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الصِّلَةِ الْمُنْتَقَلِ مِنَ العامل فيها إليها. وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: حَلَالًا: نَعْتٌ لِمَفْعُولِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ شَيْئًا حَلَّالًا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا بَعِيدٌ وَلَمْ يُبَيِّنَ وَجْهَ بُعْدِهِ، وَبُعْدُهُ أَنَّهُ مِمَّا حُذِفَ الْمَوْصُوفِ، وَصِفَتُهُ غَيْرُ خَاصَّةٍ، لِأَنَّ الْحَلَالَ يَتَّصِفُ بِهِ الْمَأْكُولُ وَغَيْرُ الْمَأْكُولِ. وَإِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ هَكَذَا، لَمْ يَجُزْ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَتُهَا مَقَامَهُ. وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَنْتَصِبَ حَلَالًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِكُلُوا، وَبِهِ ابْتَدَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُتَعَلِّقَةً بِكُلُوا، أَوْ مُتَعَلِّقَةً
99
بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ حَالًا، وَالتَّقْدِيرُ: كُلُوا حَلَالًا مِمَّا فِي الْأَرْضِ. فَلَمَّا قُدِّمَتِ الصِّفَةُ صَارَتْ حَالًا، فَتَعَلَّقَتْ بِمَحْذُوفٍ، كَمَا كَانَتْ صِفَةً تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَقْصِدُ الْكَلَامِ لَا يُعْطِي أَنْ تَكُونَ حَلَالًا مَفْعُولًا بِكُلُوا، تَأَمَّلْ. انْتَهَى.
طَيِّبًا: انْتَصَبَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: حَلَالًا، إِمَّا مُؤَكَّدَةً لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَمَعْنَى حَلَالًا وَاحِدٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَإِمَّا مُخَصَّصَةً لِأَنَّ مَعْنَاهُ مُغَايِرٌ لِمَعْنَى الْحَلَالِ وَهُوَ الْمُسْتَلَذُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ أَكْلُ الْحَيَوَانِ الْقَذِرِ وَكُلُّ مَا هُوَ خَبِيثٌ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ طَيِّبًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَكْلًا طَيِّبًا، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي كُلُوا تَقْدِيرُهُ: مُسْتَطْيِبِينَ، وَهَذَا فَاسِدٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ طَيِّبًا اسْمُ فَاعِلٍ وَلَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلضَّمِيرِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ جَمْعٌ، وَطَيِّبٌ مُفْرَدٌ، وَلَيْسَ طَيِّبٌ بِمَصْدَرٍ، فَيُقَالُ: لَا يَلْزَمُ الْمُطَابَقَةُ. وَأَمَّا الْمَعْنَى: فَلِأَنَّ طَيِّبًا مُغَايِرٌ لِمَعْنَى مُسْتَطْيِبِينَ، لِأَنَّ الطَّيِّبَ مِنْ صِفَاتِ الْمَأْكُولِ، وَالْمُسْتَطْيَبُ مِنْ صِفَاتِ الْآكِلِ. تَقُولُ: طَابَ لِزَيْدِ الطَّعَامُ، وَلَا تَقُولُ: طَابَ زَيْدٌ الطَّعَامَ، فِي مَعْنَى اسْتَطَابَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ طَيِّبًا: طَاهِرًا مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: حَلَالًا مُطْلَقَ الشَّرْعِ، طَيِّبًا مُسْتَلَذَّ الطَّبْعِ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ: الْحَلَالُ: الَّذِي انْحَلَّتْ عَنْهُ عُقْدَةُ الْخَطَرِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ حَرَامًا لِجِنْسِهِ كَالْمَيْتَةِ، وَإِمَّا لَا لِجِنْسِهِ كَمِلْكِ الْغَيْرِ، إِذْ لَمْ يُأْذَنْ فِي أَكْلِهِ. وَالطَّيِّبُ لُغَةً الطَّاهِرُ، وَالْحَلَّالُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ طَيِّبٌ، كَمَا أَنَّ الْحَرَامَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَبِيثٌ، وَالْأَصْلُ فِي الطِّيبِ مَا يُسْتَلَذُّ، وَوُصِفَ بِهِ الطَّاهِرُ وَالْحَلَالُ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ النَّجِسَ تَكْرَهُهُ النَّفْسُ، وَالْحَرَامَ لَا يُسْتَلَذُّ، لِأَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْهُ. انْتَهَى. وَالثَّابِتُ فِي اللُّغَةِ: أَنَّ الطَّيِّبَ هُوَ الطَّاهِرُ مِنَ الدَّنَسِ. قَالَ:
وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ وَقَالَ آخَرُ
وَلِيَ الْأَصْلُ الَّذِي فِي مِثْلِهِ يُصْلِحُ الآبر زرع المؤتبر
طيبوا الْبَاءَةِ سَهْلٌ وَلَهُمْ سُبُلٌ إِنْ شِئْتَ فِي وَحْشٍ وَعِرْ
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْحَلَالُ الطَّيِّبُ: هُوَ مَا لَا يسأل عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْحَلَالُ الَّذِي لَا تَبِعَةَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَبَالَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْحَلَالُ مَا يُجَوِّزُهُ الْمُفْتِي، وَالطَّيِّبُ مَا يَشْهَدُ لَهُ الْقَلْبُ بِالْحِلِّ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْحَظْرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مِلْكُ اللَّهِ تَعَالَى، فلابد مِنْ إِذْنِهِ فِيمَا يُتَنَاوَلُ مِنْهَا، وَمَا عَدَا مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ
100
يَبْقَى عَلَى الْحَظْرِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ مَا جَمَعَ الْوَصْفَيْنِ الْحِلِّ وَالطَّيِّبِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي أَكْلِهِ. إِمَّا تَمَلُّكُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ، أَوِ ادِّخَارُهُ، أَوْ سَائِرُ الِانْتِفَاعَاتِ بِهِ غَيْرَ الْأَكْلِ، فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ. فَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ بِنَصٍّ آخَرَ، أَوْ إِجْمَاعٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْقِيَاسَ، أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَكْلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ.
وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَقُنْبُلٌ وَحَفْصٌ وَعَبَّاسٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْبَرْجَمِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَبِالْوَاوِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَبِالْوَاوِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَالِ: خُطَوَاتِ، بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَبِالْوَاوِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ لُغًى ثَلَاثٌ فِي جَمْعِ خُطْوَةٍ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالسَّجَاوِنْدِيُّ أَنَّ أَبَا السَّمَالِ قَرَأَ: خَطَوَاتٍ، بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَبِالْوَاوِ، جَمْعَ خَطْوَةٍ، وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الْخَطْوِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَقَتَادَةٌ وَالْأَعْمَشُ وَسَلَامٌ: خُطُؤَاتِ، بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَقِيلَ: الْهَمْزَةُ أَصْلٌ، وَهُوَ مِنَ الْخَطَأِ جَمْعُ خَطَأَةٍ، إِنْ كَانَ سُمِعَ، وَإِلَّا فَتَقْدِيرًا.
وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ مِنَ الْخَطَأِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ، وَفَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ خَطَايَاهُ، وَتَفْسِيرُهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَسَّرَ بِالْمُرَادِفِ، أَوْ فَسَّرَ بِالْمَعْنَى. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ خُطْوَةٍ، لَكِنَّهُ تَوَهَّمَ ضَمَّةَ الطَّاءِ أَنَّهَا عَلَى الْوَاوِ فَهَمَزَ، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يُهْمَزُ. قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ مَا سَنَّ مِنَ الْمَعَاصِي. يُقَالُ: اتَّبَعَ زَيْدٌ خُطُوَاتِ عَمْرٍو وَوَطِئَ على عقبيه، إذا سَلَكَ مَسْلَكَهُ فِي أَحْوَالِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُطُوَاتُهُ أَعْمَالُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَطَايَاهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: طَاعَتُهُ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: مَا يَنْقُلُهُمْ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ إِلَى مَعْصِيَةٍ، حَتَّى يَسْتَوْعِبُوا جَمِيعَ الْمَعَاصِي، مَأْخُوذٌ مِنْ خَطْوِ الْقَدَمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: طُرُقَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
مُحَقَّرَاتُ الذُّنُوبِ. وَقَالَ المؤرّج آثَارُهُ وَقَالَ عَطَاءٌ: زَلَّاتُهُ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى صَدَرَتْ مِنْ قَائِلِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. وَالْمَعْنَى بِهَا كُلِّهَا النَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ لَهُمُ الْأَكْلَ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، نَهَاهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَعَنِ التَّخَطِّي إِلَى أَكْلِ الْحَرَامِ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي إِلَى الْمَرْءِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الشُّبْهَةِ، فَيُزَيِّنُ بِذَلِكَ مَا لَا يَحِلُّ، فَزَجَرَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَالشَّيْطَانُ هَنَا إِبْلِيسُ، وَالنَّهْيُ هُنَا عَنِ اتِّبَاعِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْمَعَاصِي، لَا أَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الْجَمْعَ، فَلَا يَكُونُ نَهْيًا عَنِ الْمُفْرَدِ.
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ: تَعْلِيلٌ لِسَبَبِ هَذَا التَّحْذِيرِ مِنَ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ، لِأَنَّ مَنْ ظَهَرَتْ
101
عَدَاوَتُهُ وَاسْتَبَانَتْ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ لَا يُتَّبَعَ فِي شَيْءٍ وَأَنْ يُفَرَّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِكْرٌ إِلَّا فِي إِرْدَاءِ عَدُوِّهِ.
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ: لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ عَدُوٌّ، أَخَذَ يَذْكُرُ ثَمَرَةَ الْعَدَاوَةِ وَمَا نَشَأَ عَنْهَا، وَهُوَ أَمْرُهُ بِمَا ذَكَرَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِنَّمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ».
وَفِي الْخِلَافِ فِيهَا، أَتُفِيدُ الْحَصْرَ أَمْ لَا؟ وَأَمْرُ الشَّيْطَانِ، إِمَّا بِقَوْلِهِ فِي زَمَنِ الْكَهَنَةِ وَحَيْثُ يُتَصَوَّرُ، وَإِمَّا بِوَسْوَسَتِهِ وَإِغْوَائِهِ. فَإِذَا أُطِيعَ، نَفَذَ أَمْرُهُ بِالسُّوءِ، أَيْ بِمَا يَسُوءُ فِي الْعُقْبَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السُّوءُ مَا لَا حَدَّ لَهُ. وَالْفَحْشَاءُ، قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ الزِّنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
كُلُّ مَا بَلَغَ حَدَّا مِنَ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ يَتَفَاحَشُ حِينَئِذٍ. وَقِيلَ: مَا تَفَاحَشَ ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: مَا قَبُحَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا. وَقَالَ طَاوُسٌ: مَا لَا يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْبُخْلُ.
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: يُرِيدُ بِهِ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِ، وَجَعَلُوهُ شَرْعًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ قَوْلُهُمْ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ. انْتَهَى. قِيلَ: وَظَاهِرُ هَذَا تَحْرِيمُ الْقَوْلِ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ الْقَائِلُ مِنْ دِينِ اللَّهِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الرَّأْيُ وَالْأَقْيِسَةُ وَالشَّبَهِيَّةُ وَالِاسْتِحْسَانُ. قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَمِّ مَنْ قَلَّدَ الْجَاهِلَ وَاتَّبَعَ حُكْمَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ كَانَ الشَّيْطَانُ آمِرًا مَعَ قَوْلِهِ: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «٢» ؟
قُلْتُ: شَبَّهَ تَزْيِينِهِ وَبَعْثَهُ عَلَى الشَّرِّ بِأَمْرِ الْآمِرِ، كَمَا تَقُولُ: أَمَرَتْنِي نَفْسِي بِكَذَا، وتحته رَمَزَ إِلَى أَنَّكُمْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُورِينَ لِطَاعَتِكُمْ لَهُ وَقَبُولِكُمْ وَسَاوِسَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ يُطْعِمُهَا وَيُعْطِيهَا مَا اشْتَهَتْ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا: الضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى كَفَّارِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ وَصْفَهُمْ، وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ بِآبَائِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ، حِينَ احْتُضِرَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ ذَكَّرُوهُ بِدِينِ أَبِيهِ وَمَذْهَبِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِأَسْلَافِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ، مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً «٣»، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١. [.....]
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٦٥.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٦٥.
102
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُمْ أُبْرِزُوا فِي صُورَةِ الْغَائِبِ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْ فِعْلِهِ، حَيْثُ دُعِيَ إِلَى اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الْهُدَى وَالنُّورُ. فَأَجَابَ بِاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ أَبِيهِ، وَكَأَنَّهُ يُقَالُ: هَلْ رَأَيْتُمْ أَسْخَفَ رَأْيًا وَأَعْمَى بَصِيرَةً مِمَّنْ دُعِيَ إِلَى اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَرَدَّ ذَلِكَ وَأَضْرَبَ عَنْهُ؟ وَأَثْبَتَ أَنَّهُ يَتَّبِعَ مَا وُجَدَ عَلَيْهِ أَبَاهُ؟ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَهُوَ قَبُولُ الشَّيْءِ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِبْطَالِهِ فِي الْعَقَائِدِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَاتِّبَاعُ أَبْنَائِهِمْ لِآبَائِهِمْ تَقْلِيدٌ فِي ضَلَالٍ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِينَ اللَّهِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا إِلَّا بِهِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا، التَّكْرَارُ. وَبَنَى قِيلَ لَمَّا لَمْ يُسَمِّ فَاعِلَهُ، لِأَنَّهُ أَخْصَرَ، لِأَنَّهُ لَوْ ذُكِرَ الْآمِرُونَ لَطَالَ الْكَلَامُ، لِأَنَّ الْآمِرَ بِذَلِكَ هُوَ الرَّسُولُ وَمَنْ يَتَّبِعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِعْلَامٌ بِتَعْظِيمِ مَا أَمَرُوهُمْ بِاتِّبَاعِهِ أَنْ نَسَبَ إِنْزَالَهُ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْمُشَرِّعُ لِلشَّرَائِعِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَلَا يعارض باتباع آبائهم رؤوس الضَّلَالَةِ. وَأَدْغَمَ الْكِسَائِيُّ لَامَ بَلْ فِي نُونِ نَتَّبِعُ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ غَيْرُهُ. وَبَلْ هُنَا عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: لَا نَتَّبِعُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَعَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَلْفَيْنَا، وَلَيْسَتْ هُنَا مُتَعَدِّيَةً إِلَى اثْنَيْنِ، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى وَجَدَ، الَّتِي بِمَعْنَى أَصَابَ.
أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ: الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمَصْحُوبِ بِالتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَأَمَّا الْوَاوُ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَمَعْنَاهُ: أَيَتَّبِعُونَهُمْ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ وَلَا يَهْتَدُونَ لِلصَّوَابِ؟
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْوَاوُ لِعَطْفِ جُمْلَةِ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةٍ، لِأَنَّ غَايَةَ الْفَسَادِ فِي الِالْتِزَامِ أَنْ يَقُولُوا: نَتَّبِعُ آبَاءَنَا وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ، فَقَرَّرُوا عَلَى الْتِزَامِ هَذَا، أَيْ هَذِهِ حَالُ آبَائِهِمْ.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ، مُخَالِفٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ إِنَّهَا لِلْعَطْفِ، لِأَنَّ وَاوَ الْحَالِ لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمَصْحُوبَةَ بِلَوْ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ، هِيَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ. فَإِذَا قَالَ: اضْرِبْ زَيْدًا وَلَوْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ، الْمَعْنَى: وَإِنْ أَحْسَنَ، وَكَذَلِكَ: اعْطُوَا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، الْمَعْنَى فِيهَا: وَإِنْ. وَتَجِيءُ لَوْ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهَا، لَكِنَّهَا جَاءَتْ لِاسْتِقْصَاءِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْفِعْلُ، وَلِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ وُجُودُ الْفِعْلِ فِي كُلِّ حَالٍ، حَتَّى فِي هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ الْفِعْلَ. وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ: اضْرِبْ زَيْدًا وَلَوْ أَسَاءَ
103
إِلَيْكَ، وَلَا أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا، وَلَا رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْوَاوُ فِي وَلَوْ فِي الْمُثُلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَاطِفَةٌ عَلَى حَالٍ مُقَدَّرَةٍ، وَالْعَطْفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لِلْحَالِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهَا عَطَفَتْ جُمْلَةً حَالِيَّةً عَلَى حَالٍ مُقَدَّرَةٍ. وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، وَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لِلْعَطْفِ مِنْ حَيْثُ ذَلِكَ الْعَطْفُ، وَالْمَعْنَى:
وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنْكَارُ اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ، حَتَّى فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا تُنَاسِبُ أَنْ يُتَّبَعُوا فِيهَا، وَهِيَ تَلَبُّسُهُمْ بِعَدَمِ الْعَقْلِ وَعَدَمِ الْهِدَايَةِ. وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِهِ الْوَاوِ الدَّاخِلَةِ عَلَى لَوْ، إِذَا كَانَتْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهَا. وَإِنْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ الْوَاقِعَةُ حَالًا فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ذِي الْحَالِ، لِأَنَّ مَجِيئَهَا عَارِيَةً مِنَ الْوَاوِ يُؤْذِنُ بِتَقْيِيدِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ بِهَذِهِ الْحَالِ، فَهُوَ يُنَافِي اسْتِغْرَاقَ الْأَحْوَالِ حَتَّى هَذِهِ الْحَالِ. فَهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ: أَكْرِمْ زَيْدًا لَوْ جَفَاكَ، أَيْ إِنْ جَفَاكَ، وَبَيْنَ أَكْرِمْ زَيْدًا وَلَوْ جَفَاكَ. وَانْتِصَابُ شَيْئًا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فَعَمَّ جَمِيعَ الْمَعْقُولَاتِ، لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فتعم، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيُ الْوَحْدَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا بَلْ أَشْيَاءً. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ شَيْئًا مِنَ الْعَقْلِ، وَإِذَا انْتَفَى، انْتَفَى سَائِرُ الْعُقُولِ، وَقَدَّمَ نَفْيَ الْعَقْلِ، لِأَنَّهُ الَّذِي تَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ، وَأَخَّرَ نَفْيَ الْهِدَايَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى نَفْيِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْهِدَايَةَ لِلصَّوَابِ هِيَ نَاشِئَةٌ عَنِ الْعَقْلِ، وَعَدَمُ الْعَقْلِ عَدَمٌ لَهَا.
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ، إِذَا أُمِرُوا بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَرَجَعُوا إِلَى مَا أَلِفُوهُ مِنَ اتباع الباطل الذي نشأوا عَلَيْهِ وَوَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا مَا يُقَالُ لَهُمْ، وَصَمُّوا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، وَخَرِسُوا عَنِ النُّطْقِ بِهِ، وَعَمُوا عَنْ إِبْصَارِ النُّورِ السَّاطِعِ النَّبَوِيِّ. ذَكَرَ هَذَا التَّشْبِيهَ الْعَجِيبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُنَبِّهًا عَلَى حَالَةِ الْكَافِرِ فِي تَقْلِيدِهِ أَبَاهُ وَمُحَقِّرًا نَفْسَهُ، إِذْ صَارَ هُوَ فِي رُتْبَةِ الْبَهِيمَةِ، أَوْ فِي رُتْبَةِ دَاعِيهَا، عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي هَذَا التَّشْبِيهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا بُدَّ فِي فَهْمِ مَعْنَاهَا مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ. وَاخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
الْمَثَلُ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الْكَافِرِ بِالْمَنْعُوقِ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مضروب بتشبيه داعي والكافر بِالنَّاعِقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الدَّاعِي وَالْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ. فَعَلَى أَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الْكَافِرِ
104
بِالنَّاعِقِ، قِيلَ: يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قِلَّةِ فَهْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ، كَمَثَلِ الرُّعَاةِ يُكَلِّمُونَ الْبَهْمَ، وَالْبَهْمُ لَا تَعْقِلُ شَيْئًا. وَقِيلَ: يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كفروا في دعائهم آلهتهم الَّتِي لَا تَفْقَهُ دُعَاءَهُمْ، كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ مِنْ نَعِيقِهِ بِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهُ فِي عَنَاءٍ وَنِدَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُعَائِهِ الْآلِهَةَ وَعِبَادَتِهِ الْأَوْثَانَ إِلَّا الْعَنَاءُ. قال الزمخشري: وقد ذكر هَذَا الْقَوْلُ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَحَظَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذَا الْقَوْلِ تَمَامَ التَّشْبِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَكَمَا أَنَّ الْمَنْعُوقَ بِهِ لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، فَكَذَلِكَ مَدْعُوُّ الْكَافِرِ مِنَ الصَّنَمِ، وَالصَّنَمُ لَا يَسْمَعُ، فَضَعُفَ عِنْدَهُ هَذَا الْقَوْلُ. وَنَحْنُ نَقُولُ: التَّشْبِيهُ وَقَعَ فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ، لَا فِي خُصُوصِيَّاتِ الْمَدْعُوِّ، فَشُبِّهَ الْكَافِرُ فِي دُعَائِهِ الصَّنَمَ بِالنَّاعِقِ بِالْبَهِيمَةِ، لَا فِي خُصُوصِيَّاتِ الْمَنْعُوقِ بِهِ. وَقِيلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، أَعْنِي قَوْلَ مَنْ قَالَ التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُمْ وَأَصْنَامَهُمْ أَنَّ النَّاعِقَ هُنَا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ النَّاعِقَ بِالْبَهَائِمِ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الصَّائِحُ فِي جَوْفِ الْجِبَالِ، فَيُجِيبُهُ مِنْهَا صَوْتٌ يُقَالُ لَهُ الصَّدَا، يُجِيبُهُ وَلَا يَنْفَعُهُ.
فَالْمَعْنَى: بِمَا لَا يَسْمَعُ مِنْهُ النَّاعِقُ إِلَّا دُعَاءَهُ وَنِدَاءَهُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ يَكُونُ الْفَاعِلُ بِيَسْمَعُ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى مَا، وَهُوَ الْمَنْعُوقُ بِهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْفَاعِلُ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الَّذِي يَنْعِقُ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى مَا الرَّابِطُ لِلصِّلَةِ بِالْمَوْصُولِ مَحْذُوفًا لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: بِمَا لَا يَسْمَعُ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ شُرُوطُ جَوَازِ الْحَذْفِ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ جَرِّ الْمَوْصُولِ بِغَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ مَا يَتَعَلَّقَانِ بِهِ، فَالْحَرْفُ الْأَوَّلُ بَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِيَنْعِقُ، وَالثَّانِي مِنْ تَعَلَّقَ بِيَسْمَعُ. وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ مِثْلُ هَذَا، قَالَ: وَقِيلَ المراد بالذين كَفَرُوا: الْمَتْبُوعُونَ لَا التَّابِعُونَ، وَمَعْنَاهُ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ أَتْبَاعِهِمْ، وَكَوْنُ أَتْبَاعِهِمْ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْخَيْبَةُ وَالْخُسْرَانُ، كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِالْغَنَمِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الْكَافِرِ بِالْمَنْعُوقِ بِهِ، وَهُوَ الْبَهَائِمُ الَّتِي لَا تَعْقِلُ مِثْلُ: الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْحَمِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَالسُّدِّيِّ. وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ مُصَحِّحِ هَذَا التَّشْبِيهِ، فَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دعاتهم إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ سَمَاعِهِمْ إِيَّاهُ، كَمَثَلِ بَهَائِمِ الَّذِي يَنْعِقُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ قَيْدٍ فِي الْأَوَّلِ، وَحَذْفِ مُضَافٍ مِنَ الثَّانِي. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عَدَمِ فَهْمِهِمْ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، كَمَثَلِ الْمَنْعُوقِ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ غَيْرَ الصَّوْتِ. فَيُرَادُ بِالَّذِي يَنْعِقُ، الَّذِي يُنْعَقُ بِهِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ عِنْدَهُمْ. قَالُوا:
105
كَمَا تَقُولُ: دَخَلَ الْخَاتَمُ فِي يَدِي وَالْخُفُّ فِي رِجْلِي. وَكَقَوْلِهِمْ: عَرَضَ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ، وَأَوْرَدُوا مِمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُ مَقْلُوبُ جُمْلَةٍ. وَذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، أَوْ إِنْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ، فَهُوَ مِنِ الْقِلَّةِ بِحَيْثُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ دَاعِي الْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ:
وَمَثَلُ دَاعِي الَّذِينَ كَفَرُوا. فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَلَا يَكُونُ مِنْ تَشْبِيهِ الْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ، وَلَا بِالْمَنْعُوقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ دَاعِي الْكَافِرِ فِي دُعَائِهِ إِيَّاهُ بِالنَّاعِقِ بِالْبَهَائِمِ، فِي كَوْنِ الْكَافِرِ لَا يَفْهَمُ مِمَّا يُخَاطِبُهُ بِهِ دَاعِيهِ إِلَّا دَوِيَّ الصَّوْتِ دُونَ إِلْقَاءِ ذِهْنٍ وَلَا فِكْرٍ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالنَّاعِقِ بِالْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ مِنَ النَّاعِقِ بِهَا إِلَّا دُعَاءَهُ وَنِدَاءَهُ، وَلَا تَفْهَمُ شَيْئًا آخَرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَا لَا يَسْمَعُ الْأَصَمُّ الْأَصْلَخُ، الَّذِي لَا يَسْمَعُ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِ صَوْتَهُ بِكَلَامِهِ إِلَّا النِّدَاءَ وَالصَّوْتَ لَا غَيْرَ، مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِلْحُرُوفِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَثَلَ مَضْرُوبٌ بِتَشْبِيهِ الدَّاعِي وَالْكَافِرِ بِالنَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ، فَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ سِيبَوَيْهِ فِي الْآيَةِ. أَنَّ الْمَعْنَى: مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا، كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ فَقِيلَ: هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنَى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَقِيلَ: هُوَ تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفَيْنِ: حَذْفٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ حَذْفُ دَاعِيهِمْ، وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الثَّانِي، وَحَذْفٌ مِنَ الثَّانِي، وَهُوَ حَذْفُ الْمَنْعُوقِ بِهِ، وَقَدْ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْأَوَّلِ فَشَبَّهَ دَاعِيَ الْكُفَّارِ بِرَاعِي الْغَنَمِ فِي مُخَاطَبَتِهِ مَنْ لَا يَفْهَمُ عَنْهُ، وَشَبَّهَ الْكُفَّارَ بِالْغَنَمِ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَسْمَعُونَ مِمَّا دُعُوا إِلَيْهِ إِلَّا أَصْوَاتًا، وَلَا يَعْرِفُونَ مَا وَرَاءَهَا. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ حَذْفٌ كَثِيرٌ، إِذْ فِيهِ حَذْفُ مَعْطُوفَيْنِ، إِذِ التَّقْدِيرُ الصِّنَاعِيُّ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَدَاعِيهِمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ. وَذَهَبَ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ وَتِلْمِيذُهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ خَرُوفٍ، وَالْأُسْتَاذُ أبو علي الشلوبين وَقَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَحْسِنُهُ، وَإِنَّهُ مِنْ بَدِيعِ كَلَامِهَا، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ «١» التَّقْدِيرُ: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَدْخُلُ، وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجْ بَيْضَاءُ، فَحَذَفَ تَدْخُلُ لِدَلَالَةِ تَخْرُجْ، وَحَذَفَ وَأَخْرِجْهَا لِدَلَالَةِ وَأَدْخِلْ، قَالُوا: وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ
(١) سورة النمل: ٢٧/ ١٢.
106
لَمْ يُرِدْ أَنْ يُشَبِّهَ فَتْرَتَهُ بِانْتِفَاضِ الْعُصْفُورِ حِينَ يَبُلُّهُ الْقَطْرُ، لِكَوْنِهِمَا حَرَكَةً وَسُكُونًا، فَهُمَا ضِدَّانِ، وَلَكِنَّ تَقْدِيرُهُ: إِنِّي إِذَا ذَكَرْتُكِ عَرَانِي انْتِفَاضٌ ثُمَّ أَفْتُرُ، كَمَا أَنَّ الْعُصْفُورَ إِذَا بَلَّلَهُ الْقَطْرُ عَرَاهُ فَتْرَةٌ ثُمَّ يَنْتَفِضُ، غَيْرَ أَنَّ وَجِيبَ قَلْبِهِ وَاضْطِرَابِهِ قَبْلَ الْفَتْرَةِ، وَفَتْرَةُ الْعُصْفُورِ قَبْلَ انْتِفَاضِهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا فِي التَّشْبِيهِ، إِنَّمَا هِيَ عَلَى مُرَاعَاةِ تَشْبِيهِ مُفْرَدٍ بِمُفْرَدٍ، وَمُقَابَلَةُ جُزْءٍ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ بِجُزْءٍ مِنَ الْكَلَامِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ التَّشْبِيهُ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ، فَلَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ مُقَابَلَةُ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، بَلْ يُنْظَرُ فِيهِ إِلَى الْمَعْنَى.
وَعَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّشْبِيهِ حَمَلَ الْآيَةَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ، قَالَ الرَّاغِبُ: فَلَمَّا شَبَّهَ قِصَّةَ الْكَافِرِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّاعِي لَهُمْ إِلَى الْحَقِّ بِقِصَّةِ النَّاعِقِ، قَدَّمَ ذِكْرَ النَّاعِقِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا يَكُونُ مِنْهُ وَمِنَ الْمَنْعُوقِ بِهِ. وَعَلَى هَذَا مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «١»، وقوله تعالى: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
«٢». فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، فَنَقُولُ: ومثل الَّذِينَ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ كَمَثَلِ، وَالْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ. شَبَّهَ الصِّفَةَ بِالصِّفَةِ، أَيْ صِفَتُهُمْ كَصِفَةِ الَّذِي يَنْعِقُ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، فَقَوْلُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ عَيْنَ الصِّفَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْكَافِ الَّتِي تُعْطِي التَّشْبِيهَ. بَلْ لَوْ جَاءَ دُونَ الْكَافِ لَكُنَّا نَعْتَقِدُ حَذْفَهَا، لِأَنَّ بِهِ تَصْحِيحَ الْمَعْنَى. وَالَّذِي يَنْعِقُ، لَا يُرَادُ بِهِ مُفْرَدٌ، بَلِ الْمُرَادُ الْجِنْسُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ: كَالنَّاعِقِ بِالْبَهَائِمِ، أَوْ كَالْمُصَوِّتِ فِي الْجِبَالِ الَّذِي لَا يُجِيبُهُ مِنْهَا إِلَّا الصَّدَا، أَوْ كَالْمُصَوِّتِ بِالْأَصَمِّ الْأَصْلَخِ، أَوِ كَالْمَنْعُوقِ بِهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ. وَقِيلَ: كَالْمُصَوِّتِ بِشَيْءٍ بَعِيدٍ مِنْهُ، فَهُوَ لَا يَسْمَعُ مِنْ أَجْلِ الْبُعْدِ، فَلَيْسَ لِلْمُصَوِّتِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا النِّدَاءُ الَّذِي يُنْصِبُهُ وَيُتْعِبُهُ. وَقِيلَ: وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِالرَّاعِي لِلضَّأْنِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَبْلَهِ الْحَيَوَانِ، فَهِيَ تُحَمِّقُ رَاعِيَهَا. وَفِي الْمَثَلِ: أَحْمَقُ مِنْ رَاعِي ضَأْنٍ ثَمَانِينَ.
وَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةَ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ، يَوْمَ هَوَازِنَ: رَاعِي ضَأْنٍ وَاللَّهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَاءَ إِلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ هَوَازِنَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا مَعَهُمُ الْمَالَ وَالنِّسَاءَ، فَلَمَّا لَقِيَهُ دُرَيْدٌ قَالَ:
أَرَاكَ سُقْتَ الْمَالَ وَالنِّسَاءَ؟ فَقَالَ: يُقَاتِلُونَ عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ. فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: أَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْكَ رَاعِيَ ضَأْنٍ وَاللَّهِ لأصحبتك، وقال الشاعر:
أصبحت هزأ لِرَاعِي الضَّأْنِ يَهْزَأُ بِي مَاذَا يَرِيبُكَ مِنِّي رَاعِيَ الضان
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦١.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١١٧.
107
إِلَّا دُعاءً وَنِداءً: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، لِأَنَّ قَبْلَهُ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ مُتَعَدٍّ لَمْ يَأْخُذْ مَفْعُولَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا وَأَنْ إِلَّا زَائِدَةٌ، وَالدُّعَاءُ وَالنِّدَاءُ مَنْفِيٌّ سَمَاعُهُمَا، وَالتَّقْدِيرُ: بِمَا لَا يَسْمَعُ دُعَاءً وَلَا نِدَاءً، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِزِيَادَةِ إِلَّا، قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْأَصْمَعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
حَرَاجِيجَ مَا تَنْفَكُّ إِلَّا مُنَاخَةً عَلَى الْخَسْفِ أَوْ نَرْمِي بِهَا بَلَدًا قَفْرَا
وَضَعُفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُثْبِتْ زِيَادَةَ إِلَّا فِي مَكَانٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَنُثْبِتُ لَهَا الزِّيَادَةَ، وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ هُنَا سُؤَالًا فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً، لَيْسَ الْمَسْمُوعُ إِلَّا الدُّعَاءَ وَالنِّدَاءَ، فَكَيْفَ ذَمَّهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِلَّا الدُّعَاءَ؟ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَسْمَعُونَ إِلَّا الْمَسْمُوعَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ في الكلام إيجارا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: لَا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَ مَا يُقَالُ لَهُمْ، كَمَا لَا يُمَيِّزُ الْبَهَائِمُ بَيْنَ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تُصَوِّتُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَفْهَمُ شَيْئًا يَسِيرًا، وَقَدْ أَدْرَكَتْهُ بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ وَكَثْرَةِ الْمُعَاوَدَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا سَمَاعُ النِّدَاءِ دُونَ إِدْرَاكِ الْمَعَانِي وَالْأَعْرَاضِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِنَّمَا ثَنَّى فَقَالَ:
إِلَّا دُعاءً وَنِداءً، لِأَنَّ الدُّعَاءَ طَلَبُ الْفِعْلِ، وَالنِّدَاءَ إِجَابَةُ الصَّوْتِ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمِ. فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ: لَمَّا تَقَرَّرَ فَقْدُهُمْ لِمَعَانِي هَذِهِ الْحَوَاسِّ، قَضَى بِأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. كَمَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ: الْعَقْلُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ يُعْطِيهَا هَذِهِ الْحَوَاسَّ، إِذْ لَا بُدَّ فِي كَسْبِهَا مِنَ الْحَوَاسِّ. انْتَهَى. قِيلَ: وَالْمُرَادُ الْعَقْلُ الِاكْتِسَابِيُّ، لِأَنَّ الْعَقْلَ الْمَطْبُوعَ كَانَ حَاصِلًا لَهُمْ، وَالْعَقْلُ عَقْلَانِ: مَطْبُوعٌ وَمَكْسُوبٌ. وَلَمَّا كَانَ الطَّرِيقُ لِاكْتِسَابِ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثِ، كَانَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْهَا فَقْدًا لِلْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ، وَلِهَذَا قِيلَ: مَنْ فَقَدَ حِسَّا فَقَدْ فَقَدَ عَقْلًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ: لَمَّا أَبَاحَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَكْلَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَكَانَتْ وُجُوهُ الْحَلَالِ كَثِيرَةً، بَيَّنَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، لِكَوْنِهِ أَقَلَّ. فَلَمَّا بَيَّنَ مَا حَرَّمَ، بَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى التَّحْلِيلِ حَتَّى يَرِدَ مَنْعٌ آخَرُ. وَهَذَا مِثْلُ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ»
، فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْمُبَاحِ إِلَى ذِكْرِ الْمَحْظُورِ، لِكَثْرَةِ الْمُبَاحِ وَقِلَّةِ الْمَحْظُورِ، وَهَذَا مِنِ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ.
والذين آمَنُوا: جَمْعُ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَاللَّفْظُ عَامٌّ وَالْمُرَادُ خَاصٌّ. وَقِيلَ: هذا الخطاب مؤكد لقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ.
108
وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ النَّاسِ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، مَيَّزَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا النِّدَاءِ، تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى خُصُوصِيَّتِهِمْ. وَظَاهِرُ كُلُوا: الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ الْمَعْهُودِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَنَبَّهَ بِالْأَكْلِ عَلَى وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، إِذْ كَانَ الْأَكْلُ أَعْظَمَهَا، إِذْ به تقوم البنية. قِيلَ: وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى مَا خَصَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ بِالْمَأْكُولَاتِ، بَلْ بِسَائِرِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلُبْسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالطَّيِّبَاتُ. قِيلَ: الْحَلَالُ، وَقِيلَ: الْمُسْتَلَذُّ الْمُسْتَطَابُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُ حَلَالًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، فَصَارَ هَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ فِي أَنَّ مُتَعَلِّقَةَ الْمُسْتَلَذَّ الْحَلَالَ. مَا رَزَقْنَاكُمْ: فِيهِ إِسْنَادُ الرِّزْقِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، لِمَا فِي الرِّزْقِ مِنَ الِامْتِنَانِ وَالْإِحْسَانِ. وَإِذَا فَسَّرَ الطَّيِّبَاتِ بِالْحَلَالِ، كَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى حَلَالٍ وَإِلَى حَرَامٍ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ، مِنْ أَنَّ الرِّزْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَلَالًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الرِّزْقِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَمَنْ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ الرِّزْقُ حَرَامًا قَالَ: الْمُرَادُ كُلُوا مِنْ مُسْتَلَذِّ مَا رَزَقْنَاكُمْ، وَهُوَ الْحَلَالُ، أَمَرَ بِذَلِكَ وَأَبَاحَهُ تَعَالَى دَفْعًا لِمَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ التَّنَوُّعَ فِي الْمَطَاعِمِ وَالتَّفَنُّنَ فِي إِطَابَتِهَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ، فَكَانَ تَخْصِيصُ الْمُسْتَلَذِّ بِالذِّكْرِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ: هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ، إِذْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى اسْمِ الْغَائِبِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ الظَّاهِرَ مُتَضَمِّنٌ لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ الَّتِي منها وصف الأنعام والرزق وَالشُّكْرِ، لَيْسَ عَلَى هَذَا الْإِذْنُ الْخَاصُّ، بَلْ يَشْكُرُ على سائر الإنعامات والامتنانات الَّتِي مِنْهَا هَذَا الِامْتِنَانُ الْخَاصُّ. وَجَاءَ هُنَا تَعْدِيَةُ الشُّكْرِ بِاللَّامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: كُلُوا، قَالُوا: وَهُوَ عِنْدَ دَفْعِ الضَّرَرِ وَاجِبٌ، وَمَعَ الضَّيْفِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِذَا خَلَا عَنِ الْعَوَارِضِ كَانَ مُبَاحًا، وَكَذَا هُوَ فِي الْآيَةِ. وَالثَّانِي:
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ، وَهُوَ أَمْرٌ وَلَيْسَ بِإِبَاحَةٍ. قِيلَ: وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الشُّكْرِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَلْبِ، أَوْ بِاللِّسَانِ، أَوْ بِالْجَوَارِحِ. فَبِالْقَلْبِ هُوَ الْعِلْمُ بِصُدُورِ النِّعْمَةِ مِنَ الْمُنْعِمِ، أَوِ الْعَزْمُ عَلَى تَعْظِيمِهِ بِاللِّسَانِ، أَوِ الْجَوَارِحِ. أَمَّا ذَلِكَ الْعِلْمُ فَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ كَمَالِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَنْسَى ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ ضَرُورِيًّا، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِيجَابُهُ؟ وَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى تَعْظِيمِهِ بِاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، فَذَلِكَ الْعَزْمُ الْقَلْبِيُّ تَابِعٌ لِلْإِقْرَارِ اللِّسَانِيِّ وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ.
فَإِذَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ، كَانَ الْعَزْمُ بِأَنْ لَا يَجِبَ أَوْلَى. وَأَمَّا الشُّكْرُ بِاللِّسَانِ، فَإِمَّا أَنْ يُفَسَّرَ بِالِاعْتِرَافِ لَهُ بِكَوْنِهِ مُنْعِمًا، أَوْ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. فَهَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ
109
الْمَنْدُوبَاتِ. وَأَمَّا الشُّكْرُ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالٍ دَالَّةٍ عَلَى تَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ غَيْرُ هَذَا الْقَائِلِ الَّذِي تَلَخَّصَ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْظِيمِ، وَإِظْهَارُ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ أَوْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ إِنْ وُجِدَتْ هُنَاكَ. وَهَذَا الْبَحْثُ فِي وُجُوبِ الشُّكْرِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهِ، كَانَ يُنَاسِبُ فِي أَوَّلِ شُكْرِ أَمْرٍ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ «١».
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى إِذْ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وَهُوَ قَوْلٌ كُوفِيٌّ، وَلَا يُرَادُ بِالشَّرْطِ هُنَا إِلَّا التَّثَبُّتُ وَالْهَزُّ لِلنُّفُوسِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: الْعِبَادَةُ لَهُ وَاجِبَةٌ، فَالشُّكْرُ لَهُ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ هُوَ مُتَحَقِّقُ الْعُبُودِيَّةِ إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي، لَا تُرِيدُ بِذَلِكَ التَّعْلِيقَ الْمَحْضَ، بَلْ تُبْرِزُهُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ، لِيَكُونَ أدعى للطاعة وأهزلها.
وقيل: عبر بالعبادة عن الْعِرْفَانِ، كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «٢».
قِيلَ: مَعْنَاهُ لِيَعْرِفُونِ، فيكون المعنى: أشكروا لله إِنْ كُنْتُمْ عَارِفِينَ بِهِ وَبِنِعَمِهِ، وَذَلِكَ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْعِبَادَةِ عَنْ إِرَادَةِ الْعِبَادَةِ، أَيِ اشْكُرُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ عِبَادَتَهُ، لِأَنَّ الشُّكْرَ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّ أَنَّكُمْ تَخْتَصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَتُقِرُّونَ أَنَّهُ مَوْلَى النِّعَمِ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْرِي.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِيَّا هُنَا مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَقُدِّمَ لِكَوْنِ الْعَامِلِ فِيهِ وَقَعَ رَأْسَ آيَةٍ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ، لِأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَوْلِكَ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «٣»، وَهَذَا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا انْفِصَالُ الضَّمِيرِ، وَهُوَ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْعَامِلِ أَوْ تَأَخَّرَ، لَمْ يَنْفَصِلْ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، قَالَ:
إليك حتى بلغت إياكا إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِنَّمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ «٤». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَرَّمَ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، وَمَا بَعْدَهُ نُصِبَ، فَتَكُونُ مَا مُهَيِّئَةً فِي إِنَّمَا هَيَّأَتْ إِنَّ لِوِلَايَتِهَا الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِرَفْعِ الْمَيْتَةِ وَمَا بَعْدَهَا، فَتَكُونُ مَا مَوْصُولَةً اسْمَ إِنَّ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ إِنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ الْمَيْتَةَ، وما بعدها خبران. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: حُرِّمَ، مشددا مبنيا للمفعول،
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٥٢.
(٢) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٦.
(٣) سورة الفاتحة: ١/ ٥.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١١.
110
فَاحْتَمَلَتْ مَا وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً اسْمَ إِنَّ، وَالْعَائِدُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي حرم والميتة خبران. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ ما مهيئة والميتة مَرْفُوعٌ بِحَرَّمَ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: إِنَّمَا حَرُمَ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً جَعَلَهُ لَازِمًا، والميتة وَمَا بَعْدَهَا مَرْفُوعٌ. وَيُحْتَمَلُ مَا الْوَجْهَيْنِ مِنَ التَّهْيِئَةِ والوصل، والميتة فَاعِلُ يَحْرُمُ، إِنْ كَانَتْ مَا مُهَيِّئَةً، وَخَبَرُ إِنَّ، إِنْ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: الْمَيِّتَةُ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَصْلٌ لِلتَّخْفِيفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّخْفِيفِ فِي قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ «١»، وَهُمَا لُغَتَانِ جَيِّدَتَانِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ:
لَيْسَ من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
قِيلَ: وَحَكَى أَبُو مُعَاذٍ عَنِ النَّحْوِيِّينَ الْأَوَّلِينَ، أَنَّ الْمَيْتَ بِالتَّخْفِيفِ: الَّذِي فَارَقَتْهُ الرُّوحُ، وَالْمَيِّتُ بِالتَّشْدِيدِ: الَّذِي لَمْ يَمُتْ، بَلْ عَايَنَ أَسْبَابَ الْمَوْتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَوْتِ.
وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِأَكْلِ الْحَلَالِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، فَصَّلَ هُنَا أَنْوَاعَ الْحَرَامِ، وَأَسْنَدَ التَّحْرِيمَ إِلَى الْمَيْتَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْأَكْلُ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، وَلِأَنَّ السَّابِقَ الْمُبَاحَ هُوَ الْأَكْلُ فِي قَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ. فَالْمَمْنُوعُ هُنَا هُوَ الْأَكْلُ، وَهَكَذَا حَذْفُ الْمُضَافِ يُقَدَّرُ بِمَا يُنَاسِبُ. فَقَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ «٢»، الْمَحْذُوفُ: وَطْءٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَطْءُ أُمَّهَاتِكُمْ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ «٣»، أَيْ وَطْءُ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ. فَسَائِرُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعَاتِ مُحَرَّمٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ، إِمَّا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَكْلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ، وَإِمَّا بِدَلِيلِ سَمْعِيٍّ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَسْنَدَ التَّحْرِيمَ إِلَى الْمَيْتَةِ، وَمَا نَسَّقَ عَلَيْهَا وَعَلَّقَهُ بِعَيْنِهَا، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَأْكِيدِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَتَنَاوُلِ سَائِرِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، فَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَاسْتَنْبَطَ هَذَا الْقَوْلُ تَحْرِيمَ سَائِرِ الِانْتِفَاعَاتِ مِنَ اللَّفْظِ. وَالْأَظْهَرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَخَصُّصِ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ بِأَنَّهُ الْأَكْلُ.
وَظَاهِرُ لَفْظِ الْمَيْتَةِ يَتَنَاوَلُ الْعُمُومَ، وَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ. قَالَ قَوْمٌ: خُصَّ هَذَا الْعُمُومُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ «٤»، وبما
روي
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٩.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢٣.
(٣) سورة النساء: ٤/ ٢٤.
(٤) سورة المائدة: ٥/ ٩٦.
111
مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «حلت لَنَا مَيْتَتَانِ».
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ لَمْ يَدْخُلْ قَطُّ فِي هَذَا الْعُمُومِ. انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى لَمْ يَدْخُلْ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ، فَلَا نُسَلِّمُ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ عَنَى لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِرَادَةِ، فَهُوَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّ الْمُخَصَّصَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الدُّخُولَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الَّذِي خُصِّصَ بِهِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ فِي الْمَيْتَاتِ مَا يَحِلُّ وَهُوَ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ. قُلْتُ: قَصَدَ مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ وَيَتَعَارَفُونَهُ فِي الْعَادَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: أَكَلَ فُلَانٌ مَيْتَةً، لَمْ يَسْبِقِ الْفَهْمُ إِلَى السَّمَكِ وَالْجَرَادِ؟ كَمَا لَوْ قَالَ: أَكَلَ دَمًا، لَمْ يَسْبِقْ إِلَى الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ. وَلِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ وَالتَّعَارُفِ قَالُوا: مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا، فَأَكَلَ سَمَكًا، لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ أَكَلَ لَحْمًا فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا «١»، وَشَبَّهُوهُ بِمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً، فَرَكِبَ كَافِرًا، لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ دَابَّةً فِي قَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
«٢». انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمُلَخَّصُ مَا يَقُولُهُ: إِنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ» ؟
فَلَوْ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي الدَّلَالَةِ، لَمَا احْتِيجَ إِلَى تَقْرِيرٍ شَرْعِيٍّ فِي حِلِّهِ، إِذْ كَانَ يَبْقَى مَدْلُولًا عَلَى حِلِّهِ بِقَوْلِهِ: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعُمُومِ مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ وَيَتَعَارَفُونَهُ فِي الْعَادَةِ، كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُخَاطَبِ شُعُورٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا عِلْمٌ بِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ، وَعُلِّقَ الْحُكْمُ عَلَى الْعَامِّ، لَانْدَرَجَ فِيهِ ذَلِكَ الْفَرْدُ الَّذِي لَا شُعُورَ لِلْمُخَاطَبِ بِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ مَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «نَهَى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ».
فَهَذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ فِيهِ بِكُلِّ ذِي نَابٍ. وَالْمُخَاطَبُ، الَّذِينَ هُمُ الْعَرَبُ، لَا عِلْمَ لَهُمْ بِبَعْضِ أَفْرَادِ ذِي النَّابِ، وَذَلِكَ الْفَرْدُ مُنْدَرِجٌ فِي الْعُمُومِ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ، كَمَا فِي بِلَادِنَا، بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، حَيَوَانٌ مُفْتَرِسٌ يُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالدُّبِّ وَبِالسَّمْعِ، وَهُوَ ذُو أَنْيَابٍ يَفْتَرِسُ الرَّجُلَ وَيَأْكُلُهُ، وَلَا يُشْبِهُ الْأَسَدَ، وَلَا الذِّئْبَ، وَلَا النَّمِرَ، وَلَا شَيْئًا مِمَّا يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَلَا نَعْلَمُهُ خُلِقَ بِغَيْرِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ. فَهَذَا لَا يَذْهَبُ أَحَدٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُنْدَرِجًا فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ، بَلْ شَمِلَهُ النَّهْيُ، كَمَا شَمِلَ غَيْرَهُ مِمَّا تَعَاهَدَهُ الْعَرَبُ وَعَرِفُوهُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ نِيطَ بِالْعُمُومِ وَعُلِّقَ بِهِ، فَهُوَ مُعَلَّقٌ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، حَتَّى بِمَا كَانَ لَمْ
(١) سورة النحل: ١٦/ ١٤. [.....]
(٢) سورة الأنفال: ٨/ ٥٥.
112
يُخْلَقْ أَلْبَتَّةَ وَقْتَ الْخِطَابِ، ثُمَّ خُلِقَ شَكْلًا مُبَايِنًا لِسَائِرِ الْأَشْكَالِ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ، وَيُحْكَمُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا تَمْثِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِالْإِيمَانِ، فَلِلْإِيمَانِ أَحْكَامٌ مَنُوطَةٌ بِهَا، وَيُؤَوَّلُ التَّحْقِيقُ فِيهَا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِإِرَادَةِ خُرُوجِ بَعْضِ الأفراد منه.
والْمَيْتَةَ: مَا مَاتَ دُونَ ذَكَاةٍ مِمَّا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي السَّمَكِ الطَّافِي، وَهُوَ مَا مَاتَ فِي الْمَاءِ فَطَفَا. فَذَهَبَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ حَلَالٌ. وَمَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَكْلِهِ.
وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْحَنَفِيِّينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا مَا مَاتَ مِنَ الْجَرَادِ بِغَيْرِ تَسَبُّبٍ، فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَعِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنِ نَافِعٍ حَلَالٌ، وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ وَسَحْنُونٍ تَقْيِيدَاتٌ فِي الْجَرَادِ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ. هَذَا حُكْمُ الْمَيْتَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَكْلِ. وَأَمَّا الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، نَحْوَ: الْجِلْدِ، وَالشَّعْرِ، وَالرِّيشِ، وَاللَّبَنِ، وَالْبَيْضِ، وَالْأَنْفِحَةِ، وَالْجَنِينِ، وَالدُّهْنِ، والعظم، والقرن، والناب، والغصب، فَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ وَتَقْيِيدٌ كَثِيرٌ يُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَصَانِيفِهِمْ.
وَالدَّمَ: ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَيَتَخَصَّصُ بِالْمَسْفُوحِ لِآيَةِ الْأَنْعَامِ. فَإِذَا كَانَ مَسْفُوحًا، فَلَا خِلَافَ فِي نَجَاسَتِهِ وَتَحْرِيمِهِ. وَفِي دَمِ السَّمَكِ الْمُزَايِلِ لَهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الدَّمِ الْمُتَحَلِّلِ بِالْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ الشَّاقِّ إِخْرَاجُهُ، وَكَذَلِكَ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي يَسِيرِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ الْخِلَافَ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ، وَفِي مِقْدَارِ الْيَسِيرِ، وَالْخِلَافَ فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالذُّبَابِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ، فَيُطَالَعُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى حِكْمَةً فِي تَحْرِيمِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَا جَاءَ نَصٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ تَعَبَّدَنَا تَعَالَى بِجَوَازِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، لَكَانَ ذَلِكَ شَرْعًا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ جُمُودُ الدَّمِ فِيهَا بِالْمَوْتِ، وَأَنَّهُ يُحْدِثُ أَذًى لِلْآكِلِ. وَفِي تَحْرِيمِ الدَّمِ أَنَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ يَجْمُدُ، فَهُوَ فِي الْأَذَى كَالْجَامِدِ فِي الْمَيْتَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْحِسَّ يُكَذِّبُ ذَلِكَ. وَجَدْنَا مَنْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَيَشْرَبُ الدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ، صُوَرُهُمْ وَسِحَنُهُمْ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُرَى وَأَجْمَلِهِ، وَلَا يَحْدُثُ لَهُمْ أَذًى بذلك.
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهُ هُوَ لَحْمُهُ فَقَطْ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ دَاوُدُ، رَأْسُ الظَّاهِرِيَّةِ، فَقَالَ: الْمُحَرَّمُ اللَّحْمُ دُونَ الشَّحْمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ: الْمُحَرَّمُ لَحْمُهُ وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ. وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّحْمُ بِالذِّكْرِ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ، لِكَوْنِ اللَّحْمِ هُوَ
113
مُعْظَمَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ. كَمَا نَصَّ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْمُرَادُ حَظْرُ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ فِي الصَّيْدِ. وَكَمَا نَصَّ عَلَى تَرْكِ الْبَيْعِ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «١»، لِأَنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ مَا كَانُوا يَبْتَغُونَ بِهِ مَنَافِعَهُمْ، فَهُوَ أَشْغَلُ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْأُمُورِ الشَّاغِلَةِ عَنِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا لَهُ ذَكَرَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ دُونَ شَحْمِهِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ الشَّحْمَ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ اللَّحْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَحْمٌ سَمِينٌ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ شَحِيمٌ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُمْ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الشَّحْمَ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ اللَّحْمِ، لِأَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ يُمَازِجُهُ شَيْءٌ آخَرَ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَدْلُولِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ مَثَلًا رَجُلٌ لَابِنٌ، أَوْ رَجُلٌ عَالِمٌ؟ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ أَوِ الْعِلْمَ دَاخِلٌ فِي ذِكْرِ الرَّجُلِ، وَلَا أَنَّ ذِكْرَ الرَّجُلِ مُجَرَّدًا عَنِ الْوَصْفَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخُصٌّ ذِكْرُ اللَّحْمِ مِنِ الْخِنْزِيرِ لِيَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِهِ، ذُكِيَّ أَوْ لَمْ يُذَكَّ، وَلِيَعُمَّ الشَّحْمَ وَمَا هُنَاكَ مِنَ الْغَضَارِيفِ وَغَيْرِهَا.
وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّحْمِ لَا يَعُمُّ الشَّحْمَ وَمَا هُنَاكَ مِنَ الْغَضَارِيفِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَمَا هُنَاكَ مِنْ غُضْرُوفٍ وَغَيْرِهِ، وليس له اسم يخصه. إذا أُطْلِقَ ذَلِكَ الِاسْمُ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْآخَرُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَا بِمُطَابَقَةٍ، وَلَا تَضَمُّنٍ. فَإِذَنْ، تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْحُكْمِ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ الْمَجْمُوعُ، لَدَلَّ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَجْمُوعِ. وَقَوْلُهُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّ دَاوُدَ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ اللَّحْمُ دُونَ الشَّحْمِ؟ إِلَّا أَنْ يَذْهَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى مَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ الْجُوَيْنِيِّ، مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ فِي الْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ دَاوُدَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَهُ إِجْمَاعًا. وَقَدِ اعْتَدَّ أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ لَهُمُ الْفَهْمُ التَّامُّ وَالِاجْتِهَادُ، قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ الْجُوَيْنِيُّ بِأَزْمَانٍ، بِخِلَافِ دَاوُدَ، وَنَقَلُوا أَقَاوِيلَهُ فِي كُتُبِهِمْ، كَمَا نَقَلُوا أَقَاوِيلَ الْأَئِمَّةِ، كَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ.
وَدَانَ بِمَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ وَطَرِيقَتِهِ نَاسٌ وَبِلَادٌ وَقُضَاةٌ وَمُلُوكُ الْأَزْمَانِ الطَّوِيلَةِ، وَلَكِنَّهُ فِي عَصْرِنَا هذا قد خمل هَذَا الْمَذْهَبُ. وَلَمَّا كَانَ اللَّحْمُ يَتَضَمَّنُ عِنْدَ مَالِكٍ الشَّحْمَ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ حَالِفٌ أَنْ لا يأكل لحما، فأكل شَحْمًا، أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فَقَالَا:
لَا يَحْنَثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا، فَأَكَلَ لَحْمًا. وَقَالَ تَعَالَى: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما «٢». وَالْإِجْمَاعُ، أَنَّ اللَّحْمَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَى الْيَهُودِ، فَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ لَفْظِ الْآخَرِ.
(١) سورة الجمعة: ٦٢/ ٩.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٤٦.
114
وَاخْتَلَفُوا فِي الِانْتِفَاعِ بِشِعْرِهِ، فِي خَرَزِ وَغَيْرِهِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَكْرَهُ الْخَرَزَ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ الْإِبَاحَةُ أَيْضًا. وَهَلْ يَتَنَاوَلُ لَفْظُ الْخِنْزِيرِ خِنْزِيرَ الْبَحْرِ؟ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ؟ فَمَنَعُوا مِنْ أَكْلِهِ؟ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لَا يُؤْكَلُ خِنْزِيرُ الْمَاءِ، وَلَا إِنْسَانُهُ، وَلَا كَلْبُهُ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ خِنْزِيرِ الْمَاءِ، فَتَوَقَّفَ وَقَالَ: أَنْتُمْ تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَنَا أَتَّقِيهِ وَلَا أُحَرِّمُهُ. وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ قَالُوا:
تَفَرَّدَ النَّصَارَى بِأَكْلِهِ، فَنُهِيَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ أَكْلِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى أَنْ تُقَاطِعُوهُمْ، إِذْ كَانَ الْخِنْزِيرُ مِنْ أَنْفَسِ طَعَامِهِمْ. وَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مَمْسُوخًا، فَغَلَّظَ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ لِخُبْثِ أَصْلِهِ.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْغَيْرَةَ وَيَذْهَبُ بِالْأَنَفَةِ، فَيَتَسَاهَلُ النَّاسُ فِي هَتْكِ الْمُحَرَّمِ وَإِبَاحَةِ الزِّنَا، وَلَمْ تُشِرِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّعْلِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرُوهَا.
وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أَيْ مَا ذُبِحَ لِلْأَصْنَامِ وَالطَّوَاغِيتِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، أَوْ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ، أَوْ مَا ذُكِرَ اسْمُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ،
أَوْ مَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّبَاهِي، قَالَهُ عَلِيٌّ
وَالْحَسَنُ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي الْإِبِلِ الَّتِي نَحَرَهَا غَالِبٌ أَبُو الْفَرَزْدَقِ: إِنَّهَا مِمَّا أُهِلَّ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، فَتَرَكَهَا النَّاسُ، رَاعَى عَلِيٌّ النِّيَّةَ فِي ذَلِكَ.
وَمَنَعَ الْحَسَنُ مِنْ أَكْلِ جَزُورٍ ذَبَحَتْهَا امْرَأَةٌ لِلَعِبِهَا وَقَالَ: إِنَّهَا نَحَرَتْ لِصَنَمٍ. وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ أَكْلِ مَا يَذْبَحُهُ الْأَعَاجِمُ لِأَعْيَادِهِمْ وَيَهْدُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَالَتْ: لَا تَأْكُلُوهُ، وَكُلُوا مِنْ أَشْجَارِهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ تَحْرِيمُ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَيَنْدَرِجُ فِي لَفْظِ غَيْرِ اللَّهِ الصَّنَمُ وَالْمَسِيحُ وَالْفَخْرُ وَاللَّعِبُ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ إِهْلَالًا، لِأَنَّهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِاسْمِ الْمَذْبُوحِ لَهُ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ وَكَثُرَ حَتَّى صَارَ اسْمًا لِكُلِّ ذَبِيحَةٍ جُهِرَ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يُجْهَرْ، كَالْإِهْلَالِ بِالتَّلْبِيَةِ صَارَ عَلَمًا لِكُلِّ مُحْرِمٍ رَفَعَ صَوْتَهُ أَوْ لَمْ يَرْفَعْهُ. وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، وَهِيَ الْأَوْثَانُ، أَجَازَ ذَبِيحَةَ النَّصْرَانِيِّ، إِذَا سَمَّى عَلَيْهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَطَاءٌ وَمَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ إِذَا سَمَّوْا عَلَيْهَا اسْمَ الْمَسِيحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، لِأَنَّ الْإِهْلَالَ لِغَيْرِ اللَّهِ، هُوَ إِظْهَارُ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اسْمِ الْمَسِيحِ وَاسْمِ غَيْرِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُهِلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا تَأْكُلُوا.
وَأُهِلَّ: مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هو
115
وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا، إِذْ هِيَ مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي. وَمَعْنَى أهل بكذا، أي صالح. فَالْمَعْنَى: وَمَا صِيحَ بِهِ، أَيْ فِيهِ، أَيْ فِي ذَبْحِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ كُلِّ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، صِيحَ فِي ذَبْحِهِ أَوْ لَمْ يُصَحْ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَفِي ذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ خِلَافٌ. وَكَذَلِكَ فِيمَا حُرِّمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ بِالْكِتَابِ. أَمَّا مَا حَرَّمُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ، فَذَلِكَ لَنَا حَلَالٌ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَالِكٍ: الْكَرَاهَةَ فِيمَا سَمَّى عَلَيْهِ الْكِتَابِيُّ اسْمَ الْمَسِيحِ، أَوْ ذَبَحَهُ لِكَنِيسَةٍ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ التَّحْرِيمَ.
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ «١». وَقَالَ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ «٢»، فَلَمْ يُقَيِّدْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاضْطِرَارَ، وَقَيَّدَهُ فِيمَا قَبْلُ. فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ يَكُونُ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ. وَفِي الْأُولَى بِقَوْلِهِ: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَادٍ عَلَيْهِمْ. فَيَدْخُلُ فِي الْبَاغِي وَالْعَادِي: قُطَّاعُ السَّبِيلِ، وَالْخَارِجُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَالْمُسَافِرُ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ، وَالْغَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَا شَاكَلَهُ، وَلِغَيْرِ هَؤُلَاءِ هِيَ الرُّخْصَةُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْرُجُ بَاغِيًا عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ، أَوْ كَانَ بَاغِيًا عَلَى الْإِمَامِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ: غَيْرُ قاصد فساد وَتَعَدٍّ، بِأَنْ يَجِدَ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مَنْدُوحَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: غَيْرُ بَاغٍ فِي الْمَيْتَةِ فِي الْأَكْلِ، وَلَا عَادٍ بِأَكْلِهَا، وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهَا، وَهُوَ يَرْجِعُ لِمَعْنَى الْقَوْلِ قَبْلَهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: وَأَبَاحَ هَؤُلَاءِ لِلْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْأَكْلَ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ الاضطرار، كما أبا حوا لِأَهْلِ الْعَدْلِ. وَقَالَ السُّدِّيِّ: غَيْرَ بَاغٍ، أَيْ مُتَزَيِّدٍ عَلَى إِمْسَاكِ رَمَقِهِ وَإِبْقَاءِ قُوَّتِهِ، فَيَجِيءُ أَكْلُهُ شَهْوَةً، وَلَا عَادٍ، أَيْ مُتَزَوِّدٍ. وَقِيلَ: غَيْرَ بَاغٍ، أَيْ مُسْتَحِلٍّ لَهَا، وَلَا عَادٍ، أَيْ مُتَزَوِّدٍ مِنْهَا. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: غَيْرَ بَاغٍ، أَيْ مُجَاوِزٍ الْقَدْرَ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ، وَلَا عَادٍ، أَيْ لَا يَقْصِدُهُ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَهُ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ، أَنَّهُ لَا إِثْمَ فِي تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لِلْمُضْطَرِّ الَّذِي لَيْسَ بِبَاغٍ وَلَا عَادٍ. وَإِنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّقْيِيدِ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ، لِأَنَّ آية الأنعام فيها
(١) سورة المائدة: ٥/ ٣.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١١٩.
116
حَوَالَةً عَلَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، لِأَنَّهُ قَالَ: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ. وَتَفْصِيلُ الْمُحَرَّمِ هُوَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَالِاضْطِرَارُ فِيهِمَا مُقَيَّدٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا فِي الْآيَةِ الَّتِي أُحِيلَتْ عَلَى غَيْرِهَا. وَالظَّاهِرُ فِي الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّهُمَا مَتَى أُطْلِقَتَا، تَبَادَرَ الذِّهْنُ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي جَوَازِ مِقْدَارِ مَا يُأْكَلُ مِنِ الْمَيْتَةِ، وَفِي التَّزَوُّدِ مِنْهَا، وَفِي شُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ قِيَاسًا عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَفِي أَكْلِ ابْنِ آدَمَ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، قَالُوا: وَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَخِنْزِيرًا، أَكَلَ الْمَيْتَةَ، قَالُوا: لِأَنَّهَا أُبِيحَتْ لَهُ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَالْخِنْزِيرُ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ جَاءَ بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ. فَالْمَعْنَى: فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَرُتْبَتُهَا فِي الْإِبَاحَةِ لِلْأَكْلِ مِنْهَا مُتَسَاوِيَةٌ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ بِالْإِبَاحَةِ، وَالْمُضْطَرُّ مُخَيَّرٌ فِيمَا يَأْكُلُ مِنْهَا. فَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ سَافَرَ لِغَزْوٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ تِجَارَةٍ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ بَاغِيًا فِي أَخْذِ مَالٍ، أَوْ عَادِيًا فِي تَرْكِ صَلَاةٍ أَوْ زَكَاةٍ، لَمْ يَكُنْ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ مَانِعًا مِنَ اسْتِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ. وَأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ التَّرْخِيصِ لِلْبَاغِي، أَوِ الْعَادِي الْحَاضِرِ، وَفِي نَقْلِ هَذَيْنِ الْإِجْمَاعَيْنِ نَظَرٌ.
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي حَرَكَةِ النُّونِ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ، وَأَنِ احْكُمْ «١»، وَلكِنِ انْظُرْ «٢»، وَشَبَهِهِ وَحَرَكَةِ الدَّالِّ مِنْ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ «٣»، وَالتَّاءِ مِنْ: وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ «٤»، وَحَرَكَةِ التَّنْوِينِ مِنْ: فَتِيلًا انْظُرْ «٥»، وَنَحْوِهِ، وَحَرَكَةِ اللَّامِ مِنْ نَحْوِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ «٦»، وَالْوَاوِ مِنْ نَحْوِ: أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «٧»، فَكَسَرَ ذَلِكَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَحَرَّكَهَا أَبُو عَمْرٍو، إِلَّا فِي اللَّامِ وَالْوَاوِ وَعَبَّاسٌ وَيَعْقُوبُ، إِلَّا فِي الْوَاوِ وَضَمَّ بَاقِيَ السَّبْعَةِ، إِلَّا ابْنَ ذَكْوَانَ، فَإِنَّهُ كَسَرَ التَّنْوِينَ. وَعَنْهُ في: بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا «٨»، وخَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ «٩» خِلَافٌ، وَضَابِطُ هَذَا أَنَّهُ يَكُونُ ضَمَّةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لَازِمَةً، فَإِنْ كَانَتْ عَارِضَةً، فَالْكَسْرُ نَحْوَ: أَنِ امْشُوا «١٠»، وَتَوْجِيهُ الْكَسْرِ أَنَّهُ حَرَكَةُ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَالضَّمُّ أنه اتباع.
(١) سورة المائدة: ٥/ ٤٩.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٤٣.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ١٠.
(٤) سورة يوسف: ١٢/ ٣١.
(٥) سورة النساء: ٤/ ٤٩- ٥٠.
(٦) سورة الإسراء: ١٧/ ١١٠.
(٧) سورة الإسراء: ١٧/ ١١٠.
(٨) سورة الأعراف: ٧/ ٤٩.
(٩) سورة إبراهيم: ١٤/ ٢٦. [.....]
(١٠) سورة ص: ٣٨/ ٦.
117
وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِالسَّاكِنِ، لِأَنَّهُ حَاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ، أَوْ لِيَدُلُّوا عَلَى أَنَّ حَرَكَةَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ الْمَحْذُوفَةِ كَانَتْ ضَمَّةً. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو السَّمَالِ: فَمَنِ اضْطِرَّ، بِكَسْرِ الطَّاءِ، وَأَصْلُهُ اضْطَرَرَ، فَلَمَّا أُدْغِمَ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الرَّاءِ إِلَى الطَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: فَمَنِ اطَّرَّ، بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ، وَذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ. وَمَعْنَى الِاضْطِرَارِ: الِالْجَاءُ بِعَدَمٍ، وَغَرَثٍ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أُكْرِهَ وَغُلِبَ عَلَى أَكْلِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَانْتِصَابُ غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن في اضْطُرَّ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ في الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ الْمَعْطُوفِ عَلَى قوله: اضطر، وقدره: فَمَنِ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ. قَدَّرَهُ كَذَلِكَ الْقَاضِي وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لِيَجْعَلَا ذَلِكَ قَيْدًا فِي الْأَكْلِ، لَا فِي الِاضْطِرَارِ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا لَاقَاهُ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُقَدَّرُ بَعْدَ قَوْلِهِ: غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْأَوْلَى، لِأَنَّ فِي تَقْدِيرِ قَبْلَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَصْلًا بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الِاتِّصَالُ بِمَا بَعْدَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ. وعاد: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ عَدَا، وَلَيْسَ اسْمَ فَاعِلٍ مَنْ عَادَ، فَيَكُونُ مَقْلُوبًا، أَوْ مَحْذُوفًا مِنْ بَابِ شَاكَ وَلَاثَ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَنْقَاسُ، وَلَا نَصِيرُ إِلَيْهِ إِلَّا لِمُوجِبٍ، وَلَا مُوجِبَ هُنَا لِادِّعَاءِ الْقَلْبِ. وَأَصْلُ الْبَغْيِ، كَمَا تَقَدَّمَ، هُوَ طَلَبُ الْفَسَادِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي
وقال:
لا يمنعك مِنْ بِغَاءِ الْخَيْرِ تِعْقَادُ التَّمَائِمِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، الْإِثْمُ: تَحَمُّلُ الذَّنْبِ، نَفَى بِذَلِكَ عَنْهُ الْحَرَجَ. وَالْمَحْذُوفُ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ مِنْ قَوْلِنَا: فَأَكَلَ، لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لا ينفي الْإِثْمَ عَمَّنْ لَمْ يُوجِدْ مِنْهُ الِاضْطِرَارُ، وَلَا يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى الِاضْطِرَارِ وَحْدَهُ، بَلْ عَلَى الْأَكْلِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الِاضْطِرَارِ، فِي حَالِ كَوْنِ الْمُضْطَرِّ لَا بَاغِيًا وَلَا عَادِيًا. وَظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّهُ مَتَى كَانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ فَأَكَلَ، أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ، لِأَنَّهُ يُطْلَقُ أَنَّهُ بَاغٍ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ، فَإِنَّهُ يُبِيحُ لَهُ الْأَكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَظَاهِرُ بِنَاءِ اضْطُرَّ حُصُولُ مُطْلَقِ الضَّرُورَةِ بِشَغَبٍ، أَوْ إِكْرَاهٍ، سَوَاءٌ حَصَلَ الِاضْطِرَارُ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ نَفْيُ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنَ الْإِثْمِ عَنْهُ إِذَا أَكَلَ، لَا وُجُوبُ الْأَكْلِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ الْأَكْلُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةً، بَلْ ذَلِكَ
118
عَزِيمَةٌ وَاجِبَةٌ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ كَانَ عَاصِيًا. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ، دَخَلَ النَّارَ، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ قَاتِلُ نَفْسِهِ بِتَرْكِهِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً اقْتَضَى الْمَنْعَ مِنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ إِبَاحَتَهَا لِلْمُضْطَرِّ فِي تِلْكَ الْحَالِ الْمُقَيَّدَةِ لَهُ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى غَفُورٌ رَحِيمٌ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِصَدَدِ أَنْ يُخَالِفَ، فَيَقَعُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَكْلِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ غَفُورٌ لِلْعُصَاةِ إِذَا تَابُوا، رَحِيمٌ بِهِمْ. أَوْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ، إِذَا اضْطُرَّ فَأَكَلَ مَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَهُوَ تَعَالَى غَفُورٌ لَهُ ذَلِكَ، رَحِيمٌ بِأَنْ أَبَاحَ لَهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ. أَوْ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْحُرْمَةِ قَائِمٌ فِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي تَنَاوُلِهَا مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا التَّرْخِيصِ وَالْإِبَاحَةِ بِالْمَغْفِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ الْغُفْرَانِ صِفَةَ الرَّحْمَةِ، أَيْ لِأَجْلِ رَحْمَتِي بِكُمْ أَبَحْتُ لَكُمْ ذَلِكَ..
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ:
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، كَانُوا يُصِيبُونَ مِنْ سَفَلَتِهِمْ هَدَايَا، وَكَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ مِنْهُمْ. فَلَمَّا بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ، غَيَّرُوا صِفَتَهُ وَقَالُوا: هَذَا نَعْتُ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حَتَّى لَا يَتَّبِعُوهُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُلُوكَ سَأَلُوا علماء هم قَبْلَ الْمَبْعَثِ: مَا الَّذِي تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ؟ فَقَالُوا: نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ نَبِيًّا مِنْ بَعْدِ الْمَسِيحِ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ، بِتَحْرِيمِ الرِّبَا وَالْخَمْرِ وَالْمَلَاهِي وَسَفْكِ الدِّمَاءِ. فَلَمَّا بُعِثَ، قَالَتِ الْمُلُوكُ لِلْيَهُودِ: هَذَا الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ؟ فَقَالُوا، طَمَعًا فِي أَمْوَالِ الْمُلُوكِ: لَيْسَ هَذَا بِذَلِكَ النَّبِيِّ. فَأَعْطَاهُمُ الْمُلُوكُ الْأَمْوَالَ، فَأُنْزِلَتْ إِكْذَابًا لَهُمْ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي كُلِّ كَاتِمِ حَقٍّ، لِأَخْذِ غَرَضٍ أَوْ إِقَامَةِ غَرَضٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَيَهُودِيٍّ وَمُشْرِكٍ وَمُعَطِّلٍ. وَإِنْ صَحَّ سَبَبُ نُزُولٍ، فَهِيَ عَامَّةٌ، وَالْحُكْمُ لِلْعُمُومِ. وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا، فَيَتَنَاوَلُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ كَتَمَ الْحَقَّ مُخْتَارًا لِذَلِكَ، لِسَبَبِ دُنْيَا يُصِيبُهَا.
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ مَلَكًا بِهِ، أَيْ بِالْكِتَابِ عَلَى رَسُولِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَى أَنْزَلَ اللَّهُ، أَيْ أَظْهَرَ، كَقَوْلِهِ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ «١»، أَيْ أُظْهِرُ. فَكَوْنُ الْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَظْهَرَ اللَّهُ، فَيَكُونُ الْإِظْهَارُ فِي مُقَابَلَةِ الْكِتْمَانِ. وَفِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ هُنَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ التَّوْرَاةُ، فَيَكُونُ الْكَاتِمُونَ أَحْبَارَ الْيَهُودِ، كَتَمُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيَّرُوهَا، وَكَتَمُوا آيَاتٍ فِي التَّوْرَاةِ، كَآيَةِ الرجم
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٩٣.
119
وَشِبْهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَوَحَّدَ اللَّفْظَ عَلَى الْمَكْتُوبِ، وَيَكُونُ الْكَاتِمُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَصَفَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِي الْكِتَابَيْنِ، وَنَعَتَهُ فِيهِمَا وَسَمَّاهُ فَقَالَ: يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «١»، وَقَالَ: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ».
وَالطَّائِفَتَانِ أَنْكَرُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ شَهِدَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ بِذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ مَوْجُودَةٌ فيهما، إلا أن فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي التَّوْرَاةِ فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ، وَفِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ مِنَ السِّفْرِ الْأَوَّلِ، وَفِي الْفَصْلِ الْعِشْرِينَ مِنَ السِّفْرِ الْخَامِسِ. وَمِنْهَا فِي الْإِنْجِيلِ مَوَاضِعُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، قَدْ ذَكَرَ جَمِيعَهَا، مَنْ تَعَرَّضَ لِلْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْكِتَابُ الْمَكْتُوبُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَكُلُّ كَاتِمٍ لِحَقٍّ وَسَاتِرٍ لِأَمْرٍ مَشْرُوعٍ.
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا: لَمَّا تَعَوَّضُوا عَنِ الْكَتْمِ شَيْئًا مِنْ سُحْتِ الدُّنْيَا، أَشْبَهَ ذَلِكَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، لِانْطِوَائِهِمَا عَلَى عِوَضٍ وَمُعَوَّضٍ عَنْهُ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اشتراء. وبه: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْكِتْمَانِ، أَوِ الْكِتَابِ، أَوْ عَلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ: مَا أَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ، أَظْهَرُهَا الْآخِرُ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ بِكَتْمِ مَا أَنْزَلَ الله به. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ عَائِدًا عَلَى الْكَتْمِ، أَنَّهُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ عَائِدًا عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: يَكْتُمُونَ، وَفِي هَذَا عَائِدًا عَلَى مَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «٣»، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، إِلَّا فِعْلَ الِاشْتِرَاءِ جُعِلَ عِلَّةً هُنَاكَ، وَهُنَا جُعِلَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: يَكْتُمُونَ، وَرَتَّبَ الْخَبَرَ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْكَتْمِ وَالِاشْتِرَاءِ، لِأَنَّ الْكَتْمَ لَيْسَتْ أَسْبَابُهُ مُنْحَصِرَةً فِي الِاشْتِرَاءِ، بَلِ الِاشْتِرَاءُ بَعْضُ أَسْبَابِهِ. فَكَتْمُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ وَتَبْدِيلُ صِفَتِهِ، كَانَ لِأُمُورٍ مِنْهَا الْبَغْيُ، بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «٤». وَمِنْهَا الْخَسَارَةُ، لِكَوْنِهِ مِنَ الْعَرَبِ لَا مِنْهُمْ.
وَمِنْهَا طَلَبُ الرِّيَاسَةِ، وَأَنْ يَسْتَتْبِعُوا أَهْلَ مِلَّتِهِمْ. وَمِنْهَا تَحْصِيلُ أَمْوَالِهِمْ وَرِشَاءُ مُلُوكِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ.
أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ: أَتَى بِخَبَرِ إِنَّ جُمْلَةً، لِأَنَّهَا أَبْلَغُ مِنَ الْمُفْرَدِ، وَصَدَّرَ بِأُولَئِكَ، إِذْ هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ دَالٌّ عَلَى اتِّصَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «٥» ثم أخبر عن
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٧.
(٢) سورة الصف: ٦١/ ٦.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٧٩.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٩٠.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ٥.
120
أُولَئِكَ بِأَخْبَارٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّ الرِّشَاءَ الَّتِي هُمْ يَأْكُلُونَهَا تَصِيرُ فِي أَجْوَافِهِمْ نَارًا، فَلَا يُحِسُّونَ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَمَنَعَ تَعَالَى أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّهَا نَارٌ، اسْتِدْرَاجًا وَإِمْلَاءً لَهُمْ. وَيَكُونُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ تَجَوُّزٍ، لِأَنَّهُ حَالَةَ الْأَكْلِ لَمْ يَكُنْ نَارًا، إِنَّمَا بَعْدُ صَارَتْ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ أَيْضًا. وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ:
جَمِيعُ مَا أَكَلُوهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّشَاءِ فِي الدُّنْيَا يُجْعَلُ نَارًا فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُطْعِمُهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: يَأْمُرُ الزَّبَانِيَةَ أَنْ تُطْعِمَهُمُ النَّارَ لِيَكُونَ عُقُوبَةَ الْأَكْلِ مِنْ جِنْسِهِ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُمْ يُجَازَوْنَ عَلَى مَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ كَتْمِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالِاشْتِرَاءِ بِهِ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ، بِالنَّارِ. وَإِنَّ مَا اكْتَسَبُوهُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ مَآلُهُ إِلَى النَّارِ. وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَنَافِعِ مَا تُصْرَفُ فِيهِ الْأَمْوَالُ.
وَذَكَرَ فِي بُطُونِهِمْ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْأَكْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْبَطْنِ، فَصَارَ نَظِيرُ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «١». أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ مَلْءِ الْبَطْنِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ أَكَلَ فِي بَطْنِهِ، وَفُلَانٌ أَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ. أَوْ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ، إِذْ يُقَالُ: أَكَلَ فُلَانٌ مَالَهُ، إذا بَذَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ. وَجَعَلَ الْمَأْكُولَ النَّارَ، تَسْمِيَةً لَهُ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَبَبُ النَّارِ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُونَ: أَكَلَ فُلَانٌ الدَّمَ، يُرِيدُونَ الدِّيَةَ، لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الدَّمِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ أَنَّ حَيًّا يَقْبَلُ الْمَالَ فِدْيَةً لَسُقْنَا إِلَيْهِ الْمَالَ كَالسَّيْلِ مُفْعَمَا
وَلَكِنْ لَنَا قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ رِضَا الْعَارِ وَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا
وَقَالَ آخَرُ:
أَكَلْتُ دَمًا إِنْ لَمْ أَرْعَكَ بِضَرْبَةٍ بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وَقَالَ آخَرُ:
تَأْكُلُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَكَافَا أَيْ ثَمَنَ أَكَافٍ، وَمَعْنَى التَّلَبُّسِ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ كَثِيرٌ، وَمِنْ ذَلِكَ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا «٢»، وَمِنْ ذَلِكَ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذهب والفضة، إنما يجرجر فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ، وَذَكَرَ فِي بُطُونِهِمْ تَنْبِيهًا على شرههم وَتَقْبِيحًا لِتَضْيِيعِ أَعْظَمِ النِّعَمِ لِأَجَلِ الْمَطْعُومِ الَّذِي هُوَ أحسن
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٣٨.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٠.
121
مُتَنَاوَلٍ، قَالَهُ الرَّاغِبُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوَهُ، قَالَ: وَفِي ذِكْرِ الْبَطْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، بِأَنَّهُمْ بَاعُوا آخِرَتَهُمْ بِحَظِّهِمْ مِنَ الْمَطْعَمِ الَّذِي لَا خَطَرَ لَهُ، وَعَلَى هِجْنَتِهِمْ بِطَاعَةِ بُطُونِهِمْ.
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ: هَذَا الْخَبَرُ الثَّانِي عَنْ أُولَئِكَ، وَظَاهِرُهُ نَفْيُ الْكَلَامِ مُطْلَقًا، أَعْنِي مُبَاشَرَتَهُمْ بِالْكَلَامِ، فَيَكُونُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي السُّنَّةِ، مِمَّا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُحَاوِرُهُمْ بِالْكَلَامِ، مُتَأَوَّلًا بِأَنَّهُ يَأْمُرُ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ، نَحْوَ قَوْلِهِ تعالى: قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «١»، وَيَكُونُ فِي نَفْيِ كَلَامِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ، دَلَالَةٌ عَلَى الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَى شَخْصٍ صَرَمَهُ وَقَطَعَ كَلَامَهُ؟ لِأَنَّ فِي التَّكَلُّمِ، وَلَوْ كَانَ بِشَرٍّ، تَأْنِيسًا مَا وَالْتِفَاتًا إِلَى الْمُكَلَّمِ. وَقِيلَ: مَعْنَى وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ: أَيْ يَغْضَبُ عَلَيْهِمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ الْكَلَامِ، إِذْ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مَا ظَاهِرُهُ: أَنَّهُ يُكَلِّمُ الْكَافِرِينَ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ، إِذْ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يكلمهم، كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «٢»، وَالسُّؤَالُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْلِيمِ، وَقَالَ: قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ. فَالْمَعْنَى: لَا يُكَلِّمُهُمْ كَلَامَ خَيْرٍ وَإِقْبَالٍ وَتَحِيَّةٍ، وَإِنَّمَا يُكَلِّمُهُمْ كَلَامًا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ بِالتَّحِيَّةِ. وَقِيلَ: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، تَعْرِيضٌ بِحِرْمَانِهِمْ حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي تَكْرِمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِكَلَامِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ، لِأَنَّ مَنْ كَلَّمْتَهُ، كُنْتَ قَدِ اسْتَدْعَيْتَ كَلَامَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُسْتَدْعَى كَلَامُهُمْ فَيَكُونُ نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «٣»، فَنَفَى الْكَلَامَ، وَهُوَ يُرَادُ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْكَلَامِ.
وَلا يُزَكِّيهِمْ: هَذَا هُوَ الْخَبَرُ الثَّالِثُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَقْبَلُ أَعْمَالَهُمْ كَمَا يَقْبَلُ أَعْمَالَ الْأَزْكِيَاءِ، أَوْ لَا يُنْزِلُهُمْ مَنْزِلَةَ الْأَزْكِيَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُصْلِحُ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: زَكَّى فَلَانَا، إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ:
لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ كُفْرِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: لَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعَذَابِ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يُسَمِّيهِمْ أَزْكِيَاءً.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: هَذَا هُوَ الْخَبَرُ الرَّابِعُ لِأُولَئِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «٤»، فِي أَوَّلِ السُّورَةِ. وَتَرَتَّبَ عَلَى الْكِتْمَانِ وَاشْتِرَاءِ الثَّمَنِ القليل هذه الأخبار
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٠٨.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٩٢.
(٣) سورة المرسلات: ٧٧/ ٣٦.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١٠.
122
الْأَرْبَعَةُ، وَانْعَطَفَتْ بِالْوَاوِ الْجَامِعَةِ لَهَا. وَعَطَفَ الْأَخْبَارَ بِالْوَاوِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، بِخِلَافِ أَنْ لَا تَكُونَ مَعْطُوفَةً، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَتَفْصِيلًا. وَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا قَبْلَهَا، وَمُنَاسِبٌ عَطْفُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، لِمَا نَذْكُرُهُ فَنَقُولُ: مَتَى ذُكِرَ وَصْفٌ وَرُتِّبَ عَلَيْهِ أَمْرٌ، فَلِلْعَرَبِ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأُمُورُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْأَوْصَافِ مُقَابَلَةً لَهَا، الْأَوَّلُ مِنْهَا لِأَوَّلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَالثَّانِي لِلثَّانِي، فَتَحْصُلُ الْمُقَابَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَمِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ، حَيْثُ قُوبِلَ الْأَوَّلُ بِالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي بِالثَّانِي. وَتَارَةً يَكُونُ الْأَوَّلُ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ مُجَاوِرًا لِمَا يَلِيهِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، فَتَحْصُلُ الْمُقَابَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبِ اللَّفْظِيِّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اشْتِرَاءَهُمُ الثَّمَنَ الْقَلِيلَ، وَكَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ مَطَاعِمِهِمُ الْخَسِيسَةِ الْفَانِيَةِ، بَدَأَ أَوَّلًا فِي الْخَبَرِ بِقَوْلِهِ: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. ثُمَّ قَابَلَ تَعَالَى كِتْمَانَهُمُ الدِّينَ وَالْكِتْمَانُ، هُوَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا بِهِ بَلْ يُخْفُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، فَجُوزُوا عَلَى مَنْعِ التَّكَلُّمِ بِالدِّينِ أَنْ مُنِعُوا تَكْلِيمَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَابْتَنَى عَلَى كِتْمَانِهِمُ الدِّينَ، وَاشْتِرَائِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ وَأَخْبَارُ سُوءٍ، حَيْثُ غَيَّرُوا نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَادَّعُوا أَنَّ النَّبِيَّ الْمُبْتَعَثَ هُوَ غَيْرُ هَذَا، فَقُوبِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِقَوْلِهِ: وَلا يُزَكِّيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ أَخِيرًا مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَرَتَّبَ عَلَى اشْتِرَاءِ الثَّمَنِ الْقَلِيلِ قوله: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، وَعَلَى الْكِتْمَانِ قَوْلَهُ: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَعَلَى مَجْمُوعِ الْوَصْفَيْنِ قَوْلَهُ: وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. فَبَدَأَ أَوَّلًا: بِمَا يُقَابِلُ فَرْدًا فَرْدًا، وَثَانِيًا: بِمَا يُقَابِلُ الْمَجْمُوعَ. وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى مُشْتَمِلَةً عَلَى فِعْلٍ مُسْنَدٍ إِلَى اللَّهِ، كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي قَابَلَهَا فِيهِ فِعْلٌ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الثَّانِيَةُ مُسْنَدَةً إِلَيْهِمْ، لَيْسَ فِيهَا إِسْنَادٌ إِلَى اللَّهِ، جَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْمُقَابَلَةُ لَهَا مُسْنَدَةً إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَأْتِ مَا يُطْعِمُهُمُ اللَّهُ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. وَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَبْلَهَا، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا إِبَاحَةَ الطَّيِّبَاتِ، ثُمَّ فَصَّلَ أَشْيَاءً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ جَزَاءَ مَنْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَمِمَّا أَنْزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا أَنْ يَقَعَ الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، من كتم ما أنزل اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَاشْتِرَائِهِمْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، أُولَئِكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى الْكَاتِمِينَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ، وَذِكْرُ مَا أُوعِدُوا بِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى مُسْتَوْعَبًا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ: لَمَّا قَدَّمَ حَالَهُمْ فِي
123
الدُّنْيَا، بِأَنَّهُمُ اعْتَاضُوا مِنَ الْهُدَى الضَّلَالَةَ، ذَكَرَ نَتِيجَةَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمُ اعْتَاضُوا مِنَ الْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ الْهُدَى. وَسَبَبُ النّعِيمِ الْأَطْوَلِ السَّرْمَدِيِّ، الْعَذَابَ الْأَطْوَلَ السَّرْمَدِيَّ، الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الضَّلَالَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا عَالِمِينَ بِالْحَقِّ، وَكَتَمُوهُ لِغَرَضٍ خَسِيسٍ دُنْيَاوِيٍّ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ اشْتِرَاءً لِلْعَذَابِ بِالْمَغْفِرَةِ. وَفِي لَفْظِ اشْتَرَوُا إِشْعَارٌ بِإِيثَارِهِمُ الضَّلَالَةَ وَالْعَذَابَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْتَرِي إِلَّا مَا كَانَ لَهُ فِيهِ رَغْبَةٌ وَمَوَدَّةٌ. وَاخْتِيَارٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْخَسَارَةِ، وَعَدَمِ النَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ.
فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ: اخْتُلِفَ فِي مَا، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَعَجُّبِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ جَاءَ: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ «١»، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ «٢». وَأَجْمَعَ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَا التَّعَجُّبِيَّةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَاخْتَلَفُوا، أَهِيَ نَكِرَةٌ تَامَّةٌ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ؟ أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ صَحِبَهَا مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ؟ أَوِ مَوْصُولَةٌ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا صِلَةٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ؟ أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا صِفَةٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ؟ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. الْأَوَّلُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ، وَالثَّانِي قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ لِلْأَخْفَشِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَفْعَلَ بَعْدَ مَا التَّعَجُّبِيَّةُ، أَهْوَ فِعْلٌ؟ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، أَمِ اسْمٌ؟ وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ الْخِلَافُ فِي الْمَنْصُوبِ بَعْدَهُ، أَهْوَ مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مُشَبَّهٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ؟ وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْكَلَامَ هُوَ تَعَجُّبٌ، فَالتَّعَجُّبُ هُوَ اسْتِعْظَامُ الشَّيْءِ وَخَفَاءُ حُصُولِ السَّبَبِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ رَاجِعٌ لِمَنْ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ، أَيْ هُمْ مِمَّنْ يَقُولُ فِيهِمْ مَنْ رَآهُمْ: مَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ! وَاخْتَلَفَ قَائِلُو التَّعَجُّبِ، أَهْوَ صَبْرٌ يَحْصُلُ لَهُمْ حَقِيقَةً إِذَا كَانُوا فِي النَّارِ؟ فَذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْأَصَمُّ وَقَالَ: إِذَا قِيلَ لَهُمْ: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «٣»، سَكَتُوا وَانْقَطَعَ كَلَامُهُمْ، وَصَبَرُوا عَلَى النَّارِ لِيَأْسِهِمْ مِنَ الْخَلَاصِ. وَضَعُفَ قَوْلُ الْأَصَمِّ، بِأَنَّ ظَاهِرَ التَّعَجُّبِ، أَنَّهُ مِنْ صَبْرِهِمْ فِي الْحَالِ، لَا أَنَّهُمْ سَيَصْبِرُونَ، وَبِأَنَّ أَهْلَ النَّارِ قَدْ يَقَعُ مِنْهُمُ الْجَزَعُ. وَقِيلَ: الصَّبْرُ مَجَازٌ عَنِ الْبَقَاءِ فِي النَّارِ، أَيْ مَا أَبْقَاهُمْ فِي النَّارِ. أَمْ هُوَ صَبْرٌ يُوصَفُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا؟ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَاخْتُلِفَ، أَهْوَ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ؟ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، قَالُوا: مَعْنَاهُ مَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى عَمَلٍ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى النَّارِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عُلَمَاءَ بِأَنَّ مَنْ عَانَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ الْمُؤَرِّجُ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، كَمَا تَقُولُ: مَا أَشْبَهَ
(١) سورة عبس: ٨٠/ ١٧. [.....]
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٣٨.
(٣) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٠٨.
124
سَخَاءَكَ بِحَاتِمٍ، أَيْ بِسَخَاءِ حَاتِمٍ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَقُطْرُبٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْمُؤَرِّجِ. وَقِيلَ: أَصْبَرَ هُنَا بِمَعْنَى أَجْرَأَ، وَهِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ، فَيَكُونُ لَفْظُ أَصْبَرَ إِذْ ذَاكَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ مَعْنَاهَا الْمُتَبَادِرِ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ حَبْسِ النَّفْسِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ، وَمَعْنَى الْجَرَاءَةِ، أَيْ مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَخْبَرَنِي الْكِسَائِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَاضِي الْيَمَنِ أَنَّ خَصْمَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ، فَوَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَحَلَفَ لَهُ خَصْمُهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ! أَيْ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى اللَّهِ! وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ. فَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ أُرِيدَ بِهِ العمل، أي ما أعلمهم بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ! قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ أُرِيدَ بِهِ قِلَّةُ الْجَزَعِ، أَيْ مَا أَقَلَّ جَزَعَهُمْ مِنَ النَّارِ! وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ أُرِيدَ بِهِ الرِّضَا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرَّاضِيَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ رَاضِيًا بِمَعْلُولِهِ وَلَازِمِهِ، إِذَا عُلِمَ ذَلِكَ اللُّزُومُ. فَلَمَّا أَقْدَمُوا عَلَى مَا يُوجِبُ النَّارَ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ، صَارُوا كَالرَّاضِينَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَالصَّابِرِينَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا يَقُولُ لِمَنْ تَعَرَّضَ لِغَضَبِ السُّلْطَانِ: مَا أَصْبَرَكَ عَلَى الْقَيْدِ وَالسِّجْنِ! وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ! تَعَجُّبٌ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْتِبَاسِهِمْ بِمُوجِبَاتِ النَّارِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ مِنْهُمْ.
انْتَهَى كَلَامُهُ، وَانْتَهَى الْقَوْلُ فِي أَنَّ الْكَلَامَ تَعَجُّبٌ. وَذَهَبَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى وَالْمُبَرِّدُ إِلَى أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ لَا تَعَجُّبِيَّةٌ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ بِهِمْ، أَيْ: أَيِّ شَيْءٍ صَبَّرَهُمْ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَرَكُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْبَاطِلَ؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ. يُقَالُ: صَبَّرَهُ وَأَصْبَرَهُ بِمَعْنًى: أَيْ جَعَلَهُ يَصْبِرُ، لَا أَنْ أَصْبَرَ هُنَا بِمَعْنَى: حَبَسَ وَاضْطَرَّ، فَيَكُونُ أَفْعَلُ بِمَعْنَى:
فَعَلَ، خِلَافًا لِلْمُبَرِّدِ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ أَصْبَرَ بِمَعْنَى: صَبَّرَ، وَلَا نَعْرِفُ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ، أَيْ يُجْعَلُ ذَا صَبْرٍ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَا نَافِيَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ مَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، أَيْ مَا يَجْعَلُهُمْ يَصْبِرُونَ عَلَى الْعَذَابِ، فَتَلَخَّصَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ التَّعَجُّبُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالنَّفْيُ، وَتَلَخَّصَ فِي التَّعَجُّبِ، أَهْوَ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ؟
وَكِلَاهُمَا: أَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، ذَلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا تقدم من الْوَعِيدِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ أَوْ إِلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوِ الْعَذَابِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوِ الِاشْتِرَاءِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، تقريعا عَلَى بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: نَزَّلَ الْكِتابَ، وَسَيُذْكَرُ أَيْ ذَلِكَ الِاشْتِرَاءُ بِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَوَرَدَ أَخْبَارُهُ بِهِ، أَوِ الْكِتْمَانُ. وَأَبْعَدُهَا أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَخْبَارِ اللَّهِ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَعَلَى
125
سَمْعِهِمْ، وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ، وَأَنَّهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. وَاخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ ذَلِكَ فَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَتَكُونُ الْبَاءُ فِي بِأَنَّ اللَّهَ مُتَعَلِّقَةً بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَقِيلَ: مَرْفُوعٌ، وَاخْتَلَفُوا، أَهْوَ فَاعِلٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَبَ ذَلِكَ لَهُمْ؟ أَمْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ ذَلِكَ؟ أَيْ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ. فَاخْتَلَفُوا، أَمْ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ؟ أَيْ ذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ ثَابِتٌ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الْعَذَابُ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ لَيْسَ مُجَرَّدَ تَنْزِيلِ اللَّهِ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ، بَلْ مَا تَرَتَّبَ عَلَى تَنْزِيلِهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ وَكِتْمَانِهِ، وَأَقَامَ السَّبَبَ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ. وَالتَّفْسِيرُ الْمَعْنَوِيُّ: ذَلِكَ الْعَذَابُ حَاصِلٌ لَهُمْ بِكِتْمَانِ مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنِ الْكِتَابِ الْمَصْحُوبِ بِالْحَقِّ، أَوِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ بِالْحَقِّ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِأَنَّ اللَّهَ، فَيَتَعَلَّقُ الْبَاءُ بِهَذَا الْخَبَرِ الْمُقَدَّرِ، وَالْكِتَابُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، أَوِ الْقُرْآنُ، أَوْ كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، أَوْ مَا كَتَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ بِقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، فَيَكُونُ الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ. بِالْحَقِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
بِالْعَدْلِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضِدُّ الْبَاطِلِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ: بِالْوَاجِبِ، وَحَيْثُمَا ذُكِرَ بِالْحَقِّ فَهُوَ الْوَاجِبُ.
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ، قِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، وَاخْتِلَافُهُمْ: كِتْمَانُهُمْ بَعْثَ عِيسَى، ثُمَّ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. آمَنُوا بِبَعْضٍ، وَهُوَ مَا أَظْهَرُوهُ، وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، وَهُوَ مَا كَتَمُوهُ. وَقِيلَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَاخْتِلَافُ كُفْرِهِمْ بِمَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَصَصِ عِيسَى وَأُمِّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَبِإِنْكَارِ الْإِنْجِيلِ، وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ حَتَّى تَلَاعَنُوا وَتَقَاتَلُوا. وَقِيلَ: كُفَّارُ الْعَرَبِ، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَبَعْضُهُمْ: هُوَ مُفْتَرًى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ. قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَقَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، وَقَالُوا: دَارَسْتَ، وَقَالُوا: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: بَعْضُهُمْ قَالَ: سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ: شِعْرٌ، وَبَعْضُهُمْ: كهانة، وبعضهم: ساطير، وَبَعْضُهُمُ: افْتِرَاءٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ الْإِخْبَارُ عَمَّنْ صَدَرَ مِنْهُمُ الِاخْتِلَافُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ فِي مُعَادَاةٍ وَتَنَافُرٍ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَظِنَّةُ التَّبَاغُضِ وَالتَّبَايُنِ، كَمَا أَنَّ الِائْتِلَافَ مَظِنَّةُ التَّحَابِّ وَالِاجْتِمَاعِ. وَفِي الْمُنْتَخَبِ: الْأَقْرَبُ، حَمْلُ الْكِتَابِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَتِ الْبِشَارَةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْقَوْمَ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ وَكَتَمُوهُ، وَعَرَفُوا تَأْوِيلَهُ. فَإِذَا أَوْرَدَ تَعَالَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ فِي إِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ بِهِ،
126
فَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كِتَابَهُمُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ، دُونَ الْقُرْآنِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ: تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ إِمَّا مَأْخُوذٌ مِنْ كَوْنِ هَذَا يَصِيرُ فِي شِقٍّ وَهَذَا فِي شِقٍّ، أَوْ مِنْ كَوْنِ هَذَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَكَنَّى بِالشِّقَاقِ عَنِ الْعَدَاوَةِ، وَوَصَفَ الشِّقَاقَ بِالْبُعْدِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الْحَقِّ، أَوْ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنِ الْأُلْفَةِ. أَوْ كَنَّى بِهِ عَنِ الطُّولِ، أَيْ فِي مُعَادَاةٍ طَوِيلَةٍ لَا تَنْقَطِعُ. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ هُوَ سَبَبُ اعْتِقَادِ كُلِّ طَائِفَةٍ أَنَّ كِتَابَهَا هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ غَيْرَهُ افْتِرَاءٌ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ. كُتُبُ اللَّهِ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ نِدَاءَ النَّاسِ ثَانِيًا، وَأَمْرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، وَنَهْيَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ، وَذِكْرَ خُطُوَاتِهِ، كَأَنَّهُمْ يَقْتَفُونَ آثاره، ويطؤون عَقِبَهُ.
فَكُلَّمَا خَطَا خُطْوَةً، وَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي اتِّبَاعِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْعَدُوُّ الْمُظْهِرُ لِعَدَاوَتِهِ. ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ الْعَدَاوَةِ حَتَّى ذَكَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعَاصِي. وَلَمَّا كَانَ لَهُمْ مَتْبُوعًا وَهُمْ تَابَعُوهُ، نَاسَبَ ذِكْرُ الْأَمْرِ، إِذْ هُمْ مُمْتَثِلُونَ مَا زَيَّنَ لَهُمْ وَوَسْوَسَ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا بِهِ أَمْرَهُمْ، وَهُوَ أَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَالْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ عَنِ اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ شِدَّةَ إِعْرَاضِهِمْ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَاقْتِفَاءَ اتِّبَاعِ آبَائِهِمْ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ مَسْلُوبِي الْعَقْلِ وَالْهِدَايَةِ، لَكَانُوا مُتَّبِعِيهِمْ، مُبَالَغَةً فِي التَّقْلِيدِ الْبَحْتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَجَرْيًا لِخَلَفِهِمْ عَلَى سَلَفِ سُنَنِهِمْ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَثَلَ الْكُفَّارِ وَدَاعِيهِمْ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، مَثَلُ النَّاعِقِ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا مُجَرَّدَ أَلْفَاظٍ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى، الَّتِي هِيَ مَانِعَةٌ مِنْ وُصُولِ الْعُلُومِ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، لِأَنَّ طرق العقل والعلم منسدة عَلَيْهِمْ. ثُمَّ نَادَى الْمُؤْمِنِينَ نِدَاءً خَاصًّا، وَأَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيَّبِ وَبِالشُّكْرِ لِلَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِمَّا حَرَّمَ، وَأَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْهَا حَالَ الِاضْطِرَارِ، وَشَرَطَ فِي تَنَاوُلِ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُضْطَرُّ بَاغِيًا وَلَا عَادِيًا. وَلَمَّا أَحَلَّ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ مَا حَرَّمَ هُنَا، ذَكَرَ أَحْوَالَ مَنْ كتم ما أنزل الله وَاشْتَرَى بِهِ النَّزْرَ الْيَسِيرَ، لِتَعْتَبِرَ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِحَالِ مَنْ كَتَمَ الْعِلْمَ وَبَاعَهُ بِأَخَسِّ ثَمَنٍ، إِذْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ إِلَّا النَّارَ، أَيْ مَا يُوجِبُ أَكْلَهُ النَّارَ. وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ حِينَ يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ تَكْلِيمَ رَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ. وَذَكَرَ أَنَّهُمْ مَعَ انْتِفَاءِ التَّعْلِيمِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الرُّتَبِ للمرؤوس مِنَ الرَّئِيسِ، حَيْثُ أَهَّلَهُ لِمُنَاجَاتِهِ وَمُحَادَثَتِهِ، وَانْتِفَاءُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ لَهُمُ الْعَذَابُ الْمُؤْلِمُ. ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَمِّهِمْ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ آثَرُوا الضَّلَالَ عَلَى الْهُدَى، وَالْعَذَابَ عَلَى النَّعِيمِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ بِصَدَدِ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْ جَلَدِهِمْ عَلَى النَّارِ، وَأَنَّ
127
مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ بِسَبَبِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ فَخَالَفُوهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هُمْ فِي مُعَادَاةٍ لا تنقطع.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٧ الى ١٨٢]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
قِبَلُ: ظَرْفُ مَكَانٍ، تَقُولُ: زِيدَ قِبَلَكَ. وَشَرْحُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُكَ فِيهِ. وَقَدْ يَتَّسِعُ فِيهِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى: الْعِنْدِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. تَقُولُ لِي: قِبَلَ زَيْدٍ دَيْنٌ.
الرِّقَابُ: جَمْعُ رَقَبَةٍ، وَالرَّقَبَةُ: مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَكَانَهَا مِنَ الْبَدَنِ مَكَانُ الرَّقِيبِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْقَوْمِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ: أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ، وَلَا يُقَالُ:
أَعْتَقَ اللَّهُ عُنُقَهُ، لِأَنَّهَا لَمَّا سُمِّيَتْ رَقَبَةً، كَانَتْ كَأَنَّهَا تُرَاقِبُ الْعَذَابَ. وَمِنْ هَذَا يُقَالُ لِلَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ: رَقُوبٌ، لِأَجْلِ مُرَاعَاتِهَا مَوْتَ وَلَدِهَا. قَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: وَفِعَالٌ جَمْعٌ يَطَّرِدُ لِفَعْلَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتِ اسْمًا نَحْوَ: رَقَبَةٍ وَرِقَابٍ، أَوْ صِفَةً نَحْوَ: حَسَنَةٍ وَحِسَانٍ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالرَّقَبَةِ
128
عَنِ الشَّخْصِ بِجُمْلَتِهِ. الْبَأْسَاءُ: اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبُؤْسِ، إِلَّا أَنَّهُ مُؤَنَّثٌ وَلَيْسَ بِصِفَةٍ، وَقِيلَ:
هُوَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ. وَالْبُؤْسُ وَالْبَأْسَاءُ: الْفَقْرُ، يُقَالُ مِنْهُ: بَئِسَ الرَّجُلُ، إِذَا افْتَقَرَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَمْ يَكُ فِي بُؤْسٍ إِذَا بَاتَ لَيْلَةً يُنَاغِي غَزَالًا سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلَا
وَالْبَأْسُ: شِدَّةُ الْقِتَالِ، وَمِنْهُ
حَدِيثُ عَلِيٍّ: كُنَّا إِذَا اشْتَدَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيُقَالُ: بَؤُسَ الرَّجُلُ، أَيْ شَجُعَ. الضَّرَّاءُ: مِنَ الضُّرِّ، فَقِيلَ: لَيْسَ بِصِفَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ صِفَةٌ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضُرٍّ أَوْ مَضَرَّةٍ».
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ:
الضَّرَّاءُ، بِالْفَتْحِ: ضِدَّ النَّفْعِ، وَالضُّرُّ، بالضم. الزمانة. القصاص: مصد قَاصَّ يُقَاصُّ مُقَاصَّةً وَقِصَاصًا نَحْوُ: قَاتَلَ يُقَاتِلُ مُقَاتَلَةً وَقِتَالًا. وَالْقِصَاصُ: مُقَابَلَةُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، وَمِنْهُ: قَتْلُ مَنْ قَتَلَ بِالْمَقْتُولِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَصَصْتُ الْأَثَرَ: أَيُ اتَّبَعْتُهُ، لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ بِدَمِ الْمَقْتُولِ، وَمِنْهُ قَصُّ الشَّعْرِ: اتِّبَاعُ أَثَرِهِ. الْحُرُّ: مَعْرُوفٌ، تَقُولُ: حَرَّ الْغُلَامُ يَحَرُّ حُرِّيَّةً فَهُوَ حُرٌّ، وَجَمْعُهُ، أَعْنِي فَعْلًا الصِّفَةُ عَلَى أَحْرَارٍ محفوظ. وقالوا مرّوا إمرارا، فَإِنْ كَانَتْ فَعْلًا صِفَةً للآدميين، جمعت بالواو وَالنُّونُ، وَكَمَا أَنَّ أَحْرَارًا مَحْفُوظٌ فِي الْجَمْعِ، كَذَلِكَ حَرَائِرُ مَحْفُوظٌ فِي جَمْعِ حُرَّةٍ مُؤَنَّثَةٍ. الْقَتْلَى: جَمْعُ قَتِيلٍ، وَهُوَ مُنْقَاسٌ فِي فَعِيلٍ، الْوَصْفُ بِمَعْنَى مَمَاتٍ أَوْ مُوجِعٍ.
الْأُنْثَى: مَعْرُوفٌ، وَهِيَ فُعْلَى، الْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلٌ لِلْمَرْأَةِ.
وَيُقَالُ لِلْخُصْيَتَيْنِ أُنْثَيَانِ، وَهَذَا الْبِنَاءُ لَا تَكُونُ أَلِفُهُ إِلَّا لِلتَّأْنِيثِ، وَلَا تَكُونُ لِلْإِلْحَاقِ، لِفَقْدِ فُعْلَلٍ فِي كَلَامِهِمْ. الْأَدَاءُ: بِمَعْنَى التَّأْدِيَةِ، أَدَّيْتُ الدَّيْنَ: قَضَيْتُهُ، وَأَدَّى عَنْكَ رِسَالَةً: بَلَّغَهَا أَنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، أَيْ لَا يُبَلِّغُ. أُولُوا: مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي هِيَ فِي الرَّفْعِ بِالْوَاوِ، وَفِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ بِالْيَاءِ. وَمَعْنَى أُولُوا: أَصْحَابٌ، وَمُفْرَدُهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَهُوَ ذُو بِمَعْنَى: صَاحِبٍ. وَأُعْرِبَ هَذَا الْإِعْرَابُ عَلَى جِهَةِ الشُّذُوذِ، وَمُؤَنَّثُهُ أُولَاتُ بِمَعْنَى:
صَاحِبَاتٍ، وَإِعْرَابُهَا كَإِعْرَابِهَا، فَتُرْفَعُ بِالضَّمَّةِ وَتُجَرُّ وَتُنْصَبُ بِالْكَسْرَةِ، وَهُمَا لَازِمَانِ لِلْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِ جِنْسٍ ظَاهِرٍ، وَكُتِبَا فِي الْمُصْحَفِ بِوَاوٍ بَعْدَ الْأَلْفِ، وَلَوْ سَمَّيْتَ بِأُولُوا، زِدْتَ نُونًا فَقُلْتَ: جَاءَ مِنْ أُولُونَ، وَرَأَيْتُ أُولِينَ، وَمَرَرْتُ بِأُولِينَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّهَا حَالَةَ إِضَافَتِهَا مُقَدَّرٌ سُقُوطُ نُونٍ مِنْهَا لِأَجَلِ الْإِضَافَةِ. كَمَا تَقُولُ: ضَارِبُو زَيْدٍ، وَضَارِبِينَ زَيْدًا.
الْأَلْبَابِ: جَمْعُ لُبٍّ، وَهُوَ الْعَقْلُ الْخَالِي مِنَ الْهَوَى، سُمِّيَ بِذَلِكَ، إِمَّا لِبِنَائِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَلَبَّ بِالْمَكَانِ، وَلَبَّ بِهِ: أَقَامَ، وَإِمَّا مِنَ اللُّبَابِ، وَهُوَ الْخَالِصُ. وَهَذَا الْجَمْعُ مُطَّرِدٌ، أَعْنِي أَنْ يُجْمَعَ فُعْلٌ اسْمٌ عَلَى أَفْعَالٍ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وكسرها، قالوا: لببت.
129
ولبيت وَمَجِيءُ الْمُضَاعَفِ عَلَى فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ شَاذٌّ، اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِفَعْلَ نَحْوَ: عَزَّ يَعِزُّ، وَخَفَّ يَخِفُّ. فَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ شَاذًّا: لبيت، وَسَرِرْتُ، وَفَلِلْتُ، وَدَمِمْتُ، وَعَزِزْتُ. وَقَدْ سُمِعَ الْفَتْحُ فِيهَا إلا في: لبيت، فَسُمِعَ الْكَسْرُ كَمَا ذَكَرْنَا. الْجَنَفُ: الْجَوْرُ، جَنِفَ، بِكَسْرِ النُّونِ، يَجْنَفُ، فَهُوَ جَنِفٌ وَجَانِفٌ عَنِ النَّحَّاسِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ضَيْمِي وَقَدْ جَنِفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ
وَقِيلَ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
تَجَانَفَ عَنْ حُجْرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتِي وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا
وَقَالَ آخَرُ:
هُمُ الْمَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ
وَيُقَالُ: أَجْنَفَ الرَّجُلُ، جَاءَ بِالْجَنَفِ، كَمَا يُقَالُ: أَلَامَ الرَّجُلُ، أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ، وَأَخَسَّ: أَتَى بِخَسِيسٍ.
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَمُقَاتِلٌ، وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَانَتِ الْيَهُودُ تُصَلِّي لِلْمَغْرِبِ وَالنَّصَارَى لِلْمَشْرِقِ، وَيَزْعُمُ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ الْبِرَّ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَسُفْيَانُ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ، سَأَلَ رَجُلٌ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ، فَدَعَاهُ وَتَلَاهَا عَلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَصَلَّى إِلَى أَيِّ نَاحِيَةٍ ثُمَّ مَاتَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَلَمَّا هَاجَرَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَتِ الْفَرَائِضُ، وَحُدَّتِ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ.
وَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا إِنْكَارُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَحْوِيلَهُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُمْ بِأَقْبَحِ الذِّكْرِ مِنْ كِتْمَانِهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَاشْتِرَائِهِمْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَذِكْرُ مَا أُعِدَّ لَهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِمَّا يُظْهِرُونَ بِهِ شِعَارَ دِينِهِمْ إِلَّا صَلَاتُهُمْ، وَزَعْمُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْبِرُّ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ نَهْيٌ لَهُمْ أَنْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ شَرِيعَتِهِمْ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ كَمَا تَعَلَّقَ
130
أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ مَا فِي طَاقَتِهِمْ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ لَيْسَ الْبِرَّ بِنَصْبِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِرَفْعِ الرَّاءِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: لَا تَحْسَبَنَّ الْبِرَّ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا: لَيْسَ الْبِرَّ بِأَنْ تُوَلُّوا، فَمَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الْبِرَّ جعله خبر ليس، وأن تُوَلُّوا فِي مَوْضِعِ الِاسْمِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يَلِيَ الْمَرْفُوعَ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى، وَهُوَ أَنْ جُعِلَ فِيهَا اسْمُ لَيْسَ: أَنْ تُوَلُّوا، وَجُعِلَ الْخَبَرُ الْبِرَّ، وَأَنْ وَصِلَتُهَا أَقْوَى فِي التَّعْرِيفِ مِنَ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ: أَنَّ تَوَسُّطَ خَبَرِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اسْمِهَا قَلِيلٌ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ تَشْبِيهًا لَهَا: بِمَا.. أَرَادَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا حَرْفٌ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَوْسِيطُ خَبَرِ مَا، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَبِوُرُودِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ وَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ
وَقَالَ الْآخَرُ.
أَلَيْسَ عَظِيمًا أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ وَلَيْسَ عَلَيْنَا في الخطوب معوّل
وقرأه: بِأَنْ تُوَلُّوا، عَلَى زِيَادَةِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ كَمَا زَادُوهَا فِي اسْمِهَا إِذَا كَانَ أَنْ وَصِلَتَهَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَيْسَ عَجِيبًا بِأَنَّ الْفَتَى يُصَابُ بِبَعْضِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ
أَدْخَلَ الْبَاءَ عَلَى اسْمِ لَيْسَ، وَإِنَّمَا مَوْضِعُهَا الْخَبَرُ، وَحَسُنَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ ذِكْرُ الْعَجِيبِ مَعَ التَّقْرِيرِ الَّذِي تُفِيدُهُ الْهَمْزَةُ، وَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَعْجَبُ بِأَنَّ الْفَتَى، وَلَوْ قُلْتَ: أَلَيْسَ قَائِمًا بِزَيْدٍ لَمْ يَجُزْ.
وَالْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَانْتِصَابُ قِبَلَ عَلَى الظَّرْفِ وَنَاصِبُهُ تُوَلُّوا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا أَكْثَرُوا الْخَوْضَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ حَتَّى وَقَعَ التَّحْوِيلُ إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَزَعَمَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى قِبْلَتِهِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ الْبِرَّ فِيمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ خَارِجٌ مِنَ الْبِرِّ.
131
وَقِيلَ: لَيْسَ الْبِرَّ الْعَظِيمَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَذْهَلُوا بِشَأْنِهِ عَنْ سَائِرِ صُنُوفِ الْبِرِّ أَمْرَ الْقِبْلَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ قِبْلَةُ النَّصَارَى مَشْرِقُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ مِيلَادُ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَكاناً شَرْقِيًّا
«١» وَالْيَهُودُ مَغْرِبُهُ وَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ.
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ الْبِرُّ: مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ الذَّوَاتَ إِلَّا مَجَازًا، فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ: الْبِرُّ، هُوَ نَفْسَ مَنْ آمَنَ، عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْمَعْنَى: وَلَكِنَّ الْبَارَّ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفٍ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ: وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَوْ مِنَ الثَّانِي أَيْ: بِرُّ مَنْ آمَنَ، قَالَهُ قُطْرُبٌ، وَعَلَى هَذَا خَرَّجَهُ سِيبَوَيْهِ، قَالَ فِي كِتَابِهِ: وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ وَإِنَّمَا هُوَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. انْتَهَى.
وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ السَّابِقَ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ كَوْنِ الْبِرِّ هُوَ تَوْلِيَةَ الْوَجْهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَالَّذِي يُسْتَدْرَكُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْفَى، وَنَظِيرُ ذَلِكَ: لَيْسَ الْكَرَمُ أَنْ تَبْذُلَ دِرْهَمًا، وَلَكِنَّ الْكَرَمَ بَذْلُ الْآلَافِ، فَلَا يُنَاسِبُ: وَلَكِنَّ الْكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الْآلَافَ إِلَّا إِنْ كَانَ قَبْلَهُ: لَيْسَ الْكَرِيمُ بِبَاذِلِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَكِنَّ الْبَرَّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْمَ فَاعِلٍ، تَقُولُ: بَرَرْتُ أَبَرُّ، فَأَنَا بَرٌّ وَبَارٌّ، قِيلَ: فَبُنِيَ تَارَةً عَلَى فَعْلٍ، نَحْوَ: كَهْلٍ، وَصَعْبٍ، وَتَارَةً عَلَى فَاعِلٍ، وَالْأَوْلَى ادِّعَاءُ حَذْفِ الْأَلِفِ مِنَ الْبَرِّ، وَمِثْلُهُ: سَرٌّ، وَقَرٌّ، وَرَبٌّ، أَيْ: سَارٌّ، وَقَارٌّ، وَبَارٌّ، وَرَابٌّ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَنْ آمَنَ، مَعْنَاهُ الْإِيمَانُ لَمَّا وَقَعَ مَنْ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ جُعِلَ خَبَرًا لِلْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الِاسْمَ خَبَرًا لِلْفِعْلِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
لَعَمْرُكَ مَا الْفِتْيَان أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى وَلَكِنَّمَا الْفِتْيَانُ كل فتى ندب
جَعَلَ نَبَاتَ اللِّحْيَةِ خَبَرًا لِلْفَتَى، وَالْمَعْنَى: لَعَمْرُكَ مَا الْفُتُوَّةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: ولكن بِسُكُونِ النُّونِ خَفِيفَةً، وَرَفْعِ الْبِرِّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ مُشَدَّدَةً وَنَصْبِ الْبِرِّ، وَالْإِعْرَابُ وَاضِحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا «٢».
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إن كان الْإِيمَانِ مُصَرَّحًا بِهَا كَمَا جَاءَ
فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وملائكته
(١) سورة مريم: ١٩/ ١٦.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٠٢.
132
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي الْآيَةِ بِالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْكِتَابِ يَتَضَمَّنُهُ، وَمَضْمُونُ الْآيَةِ: أَنَّ الْبِرَّ لَا يَحْصُلُ بِاسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بَلْ بِمَجْمُوعِ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ أَخَلُّوا بِذَلِكَ، أمّا اليهود فللتجسم وَلِقَوْلِهِمْ:
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «١» وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِقَوْلِهِمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «٢».
الثَّانِي: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِهِ حَيْثُ قَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً «٣» وَالنَّصَارَى أَنْكَرُوا الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ.
وَالثَّالِثُ: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْيَهُودُ عَادَوْا جِبْرِيلَ.
وَالرَّابِعُ: الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ، وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ أَنْكَرُوا الْقُرْآنَ.
وَالْخَامِسُ: الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّينَ، وَالْيَهُودُ قَتَلُوهُمْ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ طَعَنَا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
وَالسَّادِسُ: بَذْلُ الْأَمْوَالِ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ أَلْقَوُا الشُّبَهَ لِأَخْذِ الْأَمْوَالِ.
وَالسَّابِعُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالْيَهُودُ يَمْتَنِعُونَ مِنْهَا.
وَالثَّامِنُ: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالْيَهُودُ نَقَضُوهُ.
وَهَذَا النَّفْيُ السَّابِقُ، وَالِاسْتِدْرَاكُ لَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ بِرًّا، ثُمَّ حَكَمَ بِأَنَّ الْبِرَّ أُمُورٌ.
أَحَدُهَا: الصَّلَاةُ، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَيُحْمَلُ النَّفْيُ لِلْبِرِّ عَلَى نَفْيِ مَجْمُوعِ الْبِرِّ، لَا عَلَى نَفْيِ أَصْلِهِ، أَيْ: لَيْسَ الْبِرُّ كُلُّهُ هُوَ هَذَا، وَلَكِنَّ الْبِرَّ هُوَ مَا ذُكِرَ، وَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ أَصْلِ الْبِرِّ، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَهُمُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بَعْدَ النَّسْخِ كَانَ إِثْمًا وَفُجُورًا، فَلَا يُعَدُّ فِي الْبِرِّ، أَوْ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ لَا يَكُونُ بِرًّا إِذَا لَمْ تُقَارِنْهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِرًّا مَعَ الْإِيمَانِ وَتِلْكَ الشَّرَائِطِ.
وَقَدَّمَ الْمَلَائِكَةَ وَالْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَصِدْقِ الْكُتُبِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ اعْتُبِرَ فِيهِ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ، لأن
(١) سورة التوبة: ٩/ ٣٠.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٣٠.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٨٠، وسورة آل عمران: ٣/ ٢٤.
133
الْمَلَكَ يُوجَدُ أَوَّلًا ثُمَّ يَحْصُلُ بِوَسَاطَةِ تَبْلِيغِهِ نُزُولُ الْكُتُبِ، ثُمَّ يَصِلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ إِلَى الرَّسُولِ، فَرُوعِيَ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ الْخَارِجِيُّ، لَا التَّرْتِيبُ الذِّهْنِيُّ.
وَقُدِّمَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَهُ مَبْدَأٌ، وَوَسَطٌ، وَمُنْتَهًى، وَمَعْرِفَةُ الْمَبْدَأِ وَالْمُنْتَهَى هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَصَالِحِ الْوَسَطِ فَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالرِّسَالَةِ، وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْمَلَائِكَةِ الْآتِينَ بِالْوَحْيِ، وَالْمُوحَى بِهِ: وَهُوَ الْكِتَابُ، وَالْمُوحَى إِلَيْهِ: وَهُوَ الرَّسُولُ.
وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ عَلَى أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ: إِيتَاءُ الْمَالِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ لِأَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَشْرَفُ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَلِأَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ النَّافِعَةَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَنْشَأُ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَبِهَذِهِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ الْإِيمَانِ، حَصَلَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يَسْتَدْعِي الْإِيمَانَ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَبَقَائِهِ وَعِلْمِهِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَتَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَإِرَادَتِهِ وَكَوْنِهِ سَمِيعًا وَبَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، وَكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَالِّيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَالْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِمَا يَلْزَمُ، مِنْ أَحْكَامِ: الْمَعَادِ، وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ. وَالْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ أَدَائِهِمُ الرِّسَالَةَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ. وَالْإِيمَانَ بِالْكِتَابِ يَقْتَضِي التَّصْدِيقَ بِكُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ. وَالْإِيمَانَ بِالنَّبِيِّينَ يَقْتَضِي التَّصْدِيقَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِمْ وَشَرَائِعِهِمْ.
قَالَ الرَّاغِبُ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَدَّمَ هُنَا ذِكْرَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَخَّرَهُ فِي قَوْلِهِ:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «١» قِيلَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي تَرْتِيبًا مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَعْرِفُ الْآخِرَةَ، وَلَا يُعْنَى بِهَا وَهِيَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الْحَقَائِقِ عِنْدَهُ، فَأَخَّرَ ذِكْرَهُ. وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنُ أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ أَمْرُ الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ وَيَتَحَرَّاهُ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ الله تعالى، ثم أمر الْآخِرَةِ، فَقَدَّمَ ذِكْرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْبِرَّ مُرَاعَاةُ اللَّهِ وَمُرَاعَاةُ الْآخِرَةِ ثُمَّ مُرَاعَاةُ غَيْرِهِمَا. انْتَهَى كَلَامُهُ..
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ إِيتَاءُ الْمَالِ هُنَا قِيلَ: كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ نُسِخَ بِالزَّكَاةِ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ جَمَعَ هُنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّكَاةِ.
(١) سورة النساء: ٤/ ١٣٦.
134
وَقِيلَ: هِيَ الزَّكَاةُ، وَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَصَارِفَهَا، وَضُعِّفَ بِعَطْفِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أنه غيرها.
قيل: هِيَ نَوَافِلُ الصَّدَقَاتِ وَالْمَبَارِّ، وَضُعِّفَ بِقَوْلِهِ آخِرَ الْآيَةِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وَقَفَ التَّقْوَى عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ نَدْبًا لَمَا وَقَفَ التَّقْوَى، وَهَذَا التَّضْعِيفُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ بِالتَّقْوَى مَنِ اتَّصَفَ بِمَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَفْرُوضِ وَالْمَنْدُوبِ، فَلَمْ يُفْرِدِ التَّقْوَى، ثُمَّ اتَّصَفَ بِالْمَنْدُوبِ فَقَطْ وَلَا وَقَفَهَا عَلَيْهِ، بَلْ لَوْ جَاءَ ذِكْرُ التَّقْوَى لِمَنْ فَعَلَ الْمَنْدُوبَ سَاغَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ فِي الْمَنْدُوبِ فَلَأَنْ يُطِيعَهُ فِي الْمَفْرُوضِ أَحْرَى وَأَوْلَى.
وَقِيلَ: هُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ غَيْرُ الزَّكَاةِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: رَفْعُ الْحَاجَاتِ الضرورية مثل إطعام لِلْمُضْطَرِّ، فَأَمَّا مَا
رُوِيَ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَنْحِتُ كُلَّ حَقٍّ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُقَدَّرَةِ.
أَمَّا مَا لَا يَكُونُ مُقَدَّرًا فَغَيْرُ مَنْسُوخٍ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ التَّصَدُّقِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَعَلَى الْمَمْلُوكِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ.
عَلى حُبِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ آتَى وَهُوَ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُعْطِي الْمَالَ مُحِبًّا لَهُ، أَيْ:
فِي حَالِ مَحَبَّتِهِ لِلْمَالِ وَاخْتِيَارِهِ وَإِيثَارِهِ، وَهَذَا وَصْفٌ عَظِيمٌ، أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مُتَعَلِّقَةً بِشَيْءٍ تَعَلُّقَ الْمُحِبِّ بِمَحْبُوبِهِ، ثُمَّ يُؤْثِرُ بِهِ غَيْرَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي حُبِّهِ عَائِدٌ عَلَى الْمَالِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَمِنْ قَوَاعِدِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعُودُ عَلَى غَيْرِ الْأَقْرَبِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَصْدَرَ فَاعِلُهُ الْمُؤْتِي، كَمَا فَسَّرْنَاهُ، وَقِيلَ: الْفَاعِلُ الْمُؤْتُونَ، أَيْ حُبُّهُمْ لَهُ وَاحْتِيَاجُهُمْ إِلَيْهِ وَفَاقَتُهُمْ، وَإِلَى الْأَوَّلِ ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْ: أَعْطَى الْمَالَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ فَآثَرَ بِهِ غَيْرَهُ، فَقَوْلُ ابْنِ الْفَضْلِ: أَنَّهُ أَعَادَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ آتَى، أَيْ:
عَلَى حُبِّ الْإِيتَاءِ، بَعِيدٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَإِنَّهُ يَعُودُ عَلَى غَيْرِ مُصَرَّحٍ بِهِ، وَعَلَى أَبْعَدِ مِنَ الْمَالِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يَكَادُ يُمْدَحُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ هَوَى نَفْسِهِ وَمُرَادُهَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ:
135
وَقَوْلُ مَنْ أَعَادَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَبْعَدُ، لِأَنَّهُ أَعَادَهُ عَلَى لَفْظٍ بَعِيدٍ مَعَ حُسْنِ عَوْدِهِ عَلَى لَفْظٍ قَرِيبٍ، وَفِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجِيءُ قَوْلُهُ عَلى حُبِّهِ اعْتِرَاضًا بَلِيغًا أَثْنَاءَ الْقَوْلِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالِاعْتِرَاضِ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ فِي النَّحْوِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِجُمْلَةٍ، وَلَهَا مَحَلٌّ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَإِنْ أَرَادَ بِالِاعْتِرَاضِ فَصْلًا بَيْنَ الْمَفْعُولَيْنِ بِالْحَالِ فَيَصِحُّ، لَكِنْ فِيهِ إِلْبَاسٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَصْلًا بَلِيغًا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْقَوْلِ.
ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ أَمَّا ذَوُو الْقُرْبَى فَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْكَ بِوِلَادَةٍ، وَلَا وَجْهَ لِقَصْرِ ذَلِكَ عَلَى الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ، لِأَنَّ الحرم حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَأَمَّا الْقَرَابَةُ فَهِيَ لَفْظَةٌ لُغَوِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْقَرَابَةِ فِي النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ يَتَفَاوَتُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ. وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي صِلَةِ الْقَرَابَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ، فِي قَوْلِهِ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «١» فاغنى عن إعادته.
ذَوِي الْقُرْبى وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمَعْطُوفَاتِ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، الْمالَ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ هُوَ إِيتَاءَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ قَدَّمَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ اعْتِنَاءً بِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ السُّهَيْلِيِّ فَإِنَّ الْمالَ عِنْدَهُ هُوَ المفعول الأول، وذَوِي الْقُرْبى وَمَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، فَأَتَى التَّقْدِيمُ على أصله عنده. والْيَتامى مَعْطُوفٌ عَلَى ذَوِي الْقُرْبى حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَذْفٍ أَيْ ذَوِي الْيَتَامَى، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنَ الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ وَلَا يَعْرِفُ وُجُوهَ مَنَافِعِهِ، وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ أَخْطَأَ، فَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا عَارِفًا بِمَوَاقِعِ حَقِّهِ، وَالصَّدَقَةُ تُؤْكَلُ أَوْ تُلْبَسُ، جَازَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ خَصَّ الْيَتِيمَ بِغَيْرِ الْبَالِغِ، وَأَمَّا مَنَ الْبَالِغُ وَالصَّغِيرُ عِنْدَهُ يَنْطَلِقُ عليها يَتِيمٌ، فَيُدْفَعُ لِلْبَالِغِ وَلِوَلِيِّ الصغير. انتهى.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨٣.
136
وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُضَافِ لِصِدْقِ: آتَيْتُ زَيْدًا مَالًا، وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ هُوَ الْأَخْذَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَكِيلِهِ.
وَابْنَ السَّبِيلِ: الضَّيْفِ، قَالَهُ قَتَادَةٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ أَوِ الْمُسَافِرُ يَمُرُّ عَلَيْكَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
وَسُمِّيَ: ابْنَ السَّبِيلِ بِمُلَازَمَتِهِ السَّبِيلَ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، كَمَا قِيلَ لِطَائِرٍ يُلَازِمُ الْمَاءَ ابْنُ مَاءٍ، وَلِمَنْ مَرَّتْ عَلَيْهِ دُهُورٌ: ابْنُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ.
وَقِيلَ: سُمِّيَ ابْنَ سَبِيلٍ لِأَنَّ السَّبِيلَ تُبْرِزُهُ، شَبَّهَ إِبْرَازَهَا لَهُ بِالْوِلَادَةِ، فَأُطْلِقَتْ عَلَيْهِ البنوّة مجازا والمنقطع فِي بَلَدٍ دُونَ بَلَدِهِ، وَبَيْنَ الْبَلَدِ الَّذِي انْقَطَعَ فِيهِ وَبَيْنَ بَلَدِهِ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَوِ الَّذِي يُرِيدُ سَفَرًا وَلَا يَجِدُ نَفَقَةً، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَالسَّائِلُونَ: هُمُ الْمُسْتَطْعِمُونَ، وَهُوَ الَّذِي تَدْعُوهُ الضَّرُورَةُ إِلَى السُّؤَالِ فِي سَدِّ خَلَّتِهِ، إِذْ لَا تُبَاحُ لَهُ الْمَسْأَلَةُ إِلَّا عِنْدَ ذَلِكَ.
وَمَنْ جَعَلَ إِيتَاءَ الْمَالِ لِهَؤُلَاءِ لَيْسَ هُوَ الزَّكَاةَ، أَجَازَ إِيتَاءَهُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ السُّؤَالِ وَيُحْمَلُ عَلَى غير حال الضرورة.
والرِّقابِ:
هُمُ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ، قَالَهُ عَلِيٌّ
وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالشَّافِعِيُّ.
أَوْ: عَبِيدٌ يُشْتَرَوْنَ وَيُعْتَقُونَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ.
أَوِ: الْأُسَارَى يُفْدَوْنَ وَتُفَكُّ رِقَابُهُمْ مِنَ الْأَسْرِ وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِيتَاءُ هُوَ الزَّكَاةَ فَاخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي إِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ، وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَنْ يَشْتَرِيهِ فَيُعْتِقُهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الزَّكَاةِ فَيَجُوزُ الْأَمْرَانِ، وَجَاءَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِيمَنْ يُؤْتِي الْمَالَ تَقْدِيمًا، الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى، لِأَنَّ الْفَقِيرَ الْقَرِيبَ أَوْلَى بِالصَّدَقَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِلْجَمْعِ فِيهَا بَيْنَ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ القرابة من أو كد الْوُجُوهِ فِي صَرْفِ الْمَالِ إِلَيْهَا، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَقُّ بِهَا الْإِرْثُ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ ثُمَّ أَتْبَعَ بِالْيَتَامَى لِأَنَّهُ مُنْقَطِعُ الْحِيلَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ
137
لِصِغَرِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِالْمَسَاكِينِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَشْتَدُّ بِهِمْ، ثُمَّ بِابْنِ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ قَدْ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ بِالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ لِأَنَّ حَاجَتَهُمَا دُونَ حَاجَةِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
قَالَ الرَّاغِبُ: اخْتِيرَ هَذَا التَّرْتِيبُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى مَنْ يَتَفَقَّدُ الْإِنْسَانُ لِمَعْرُوفِهِ أَقَارِبَهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِالْيَتَامَى، وَالنَّاسُ فِي الْمَكَاسِبِ ثَلَاثَةٌ: مَعِيلٌ غَيْرُ مَعُولٍ، وَمَعُولٌ مَعِيلٌ، وَمَعُولٌ غَيْرُ مَعِيلٍ. وَالْيَتِيمُ: مَعُولٌ غَيْرُ مَعِيلٍ، فَمُوَاسَاتُهُ بَعْدَ الْأَقَارِبِ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ حَاضِرًا وَلَا غَائِبًا، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنَ السَّبِيلِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّائِلِينَ الَّذِينَ مِنْهُمْ صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الرِّقَابَ الَّذِينَ لَهُمْ أَرْبَابٌ يَعُولُونَهُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَخَّرَ ذِكْرَهُ أَقَلُّ فَقْرًا مِمَّنْ قَدَّمَ ذِكْرَهُ عَلَيْهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَكُّ أَسْرَاهُمْ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَتِيمِ: هَلْ يُعْطَى مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ بِمُجَرَّدِ الْيُتْمِ عَلَى جِهَةِ الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا؟ أَوْ لَا يُعْطِي حَتَّى يَكُونَ فَقِيرًا؟ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أُرِيدَ بِالْإِيتَاءِ السَّابِقِ الزَّكَاةُ كَانَ ذِكْرُ هَذَا تَوْكِيدًا، وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَقَاوِيلُ فِيهِ إِذَا لَمْ يُرَدْ بِهِ الزَّكَاةُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ فِيهِ أَشْيَاءُ لَمْ تُذْكَرْ فِي مَصْرِفِ هَذَا والإيتاء، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الزَّكَاةِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَتُكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَتَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، فَلِذَلِكَ قُدِّمَتْ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ:
وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ عَلَى صِلَةِ مَنْ، وَصِلَةُ مَنْ آمَنَ وَآتَى، وَتَقَدَّمَتْ صِلَةُ مَنْ الَّتِي هِيَ: آمَنَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَبَّدِ بِهَا، وَهُوَ رَأْسُ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ. وَثَنَّى بِإِيتَاءِ الْمَالِ مَنْ ذُكِرَ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَرِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَمِنْ مَنَاقِبِهَا الْجَلِيَّةِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ وَأَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ، يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ حَتَّى هُمْ يُحْسِنُونَ لِلْقَرَابَةِ وَإِنْ كَانُوا مُسِيئِينَ لَهُمْ، وَيَحْتَمِلُونَ مِنْهُمْ مَا لَا يَحْتَمِلُونَ مِنْ غَيْرِ الْقَرَابَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ طَرَفَةَ الْعَبْدِيِّ:
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ
فَمَا لِي أَرَانِي وَابْنَ عَمِّيَ مَالِكًا مَتَّى أَدْنُ مِنْهُ يَنْأَ عَنِّي وَيَبْعُدِ
وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى قَصِيدَةُ الْمُقَنَّعِ الْكِنْدِيِّ الَّتِي أَوَّلُهَا:
138
يُعَاتِبُنِي فِي الدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا دُيُونِي فِي أَشْيَاءَ تُكْسِبُهُمْ حَمْدَا
وَمِنْهَا:
لَهُمْ جُلُّ مَالِي إِنْ تَتَابَعَ لِي غِنَى وَإِنْ قَلَّ مَالِي لَمْ أُكَلِّفْهُمْ رِفْدَا
وَكَانُوا يُحْسِنُونَ إِلَى الْيَتَامَى وَيَلْطُفُونَ بِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ:
إِذَا بَعْضُ السِّنِينَ تَعَرَّقَتْنَا كَفَى الْأَيْتَامَ فَقْدُ أَبِي الْيَتِيمِ
وَيَفْتَخِرُونَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ مِنَ الْأَضْيَافِ وَالْمُسَافِرِينَ، كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَرِيهِمُ وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ
وَقَالَ الْمُقَنَّعُ وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ نَازِلًا وَقَالَ آخَرُ
وَرُبَّ ضَيْفٍ طَرَقَ الْحَيَّ سُرَى صَادَفَ زَادًا وَحَدِيثًا مَا اشْتَهَى
وَقَالَ مُرَّةُ بْنُ مَحْكَانَ:
لَا تَعْذِلِينِي عَلَى إِتْيَانِ مَكْرُمَةٍ نَاهَبْتُهَا إِذْ رَأَيْتُ الْحَمْدَ مُنْتَهَبَا
فِي عُقْرِ نَابٍ وَلَا مَالٌ أَجْوَدُ بِهِ وَالْحَمْدُ خَيْرٌ لِمَنْ يَنْتَابُهُ عَقِبَا
وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ الأرت:
وإني لقوّال لعافيّ: مَرْحَبَا... وَلِلطَّالِبِ الْمَعْرُوفِ: إِنَّكَ واجده
وإني لمما أَبْسُطُ الْكَفَّ بِالنَّدَى إِذَا شَنِجَتْ كَفُّ الْبَخِيلِ وَسَاعِدُهْ
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِهِمُ الْكَرِيمَةِ جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ الَّذِي يَنْطَوِي عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مقدمة لإيتاء الزكاة، يحرص عَلَيْهَا بِذَلِكَ، إِذْ مَنْ كَانَ سَبِيلُهُ إِنْفَاقَ مَالِهِ عَلَى الْقَرَابَةِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وإيتاء السَّبِيلِ عَلَى سَبِيلِ الْمَكْرُمَةِ، فَلَأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْفَاقَهُ مِنَ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ طُهْرَتُهُ وَيَرْجُو بِذَلِكَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عِنْدَهُ أَوْكَدُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِ.
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا: وَالْمُوفُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَنْ آمَنَ، وَقِيلَ: رَفْعُهُ عَلَى إِضْمَارِ، وَهُمُ الْمُوفُونَ، وَالْعَامِلُ فِي: إِذَا، الْمُوفُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَأَخَّرُ الْإِيفَاءُ بِالْعَهْدِ
139
عَنْ وَقْتِ الْمُعَاهَدَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِيفَاءِ وَالْعَهْدِ فِي قَوْلِهِ: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «١» وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَالْمُوفِينَ، نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ.
وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: بِعُهُودِهِمْ عَلَى الْجَمْعِ.
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ: انْتَصَبَ: وَالصَّابِرِينَ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْقَطْعُ إِلَى الرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ فِي صِفَاتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالتَّرَحُّمِ، وَعَطْفُ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالْأَعْمَشُ، وَيَعْقُوبُ: وَالصَّابِرُونَ، عَطْفًا عَلَى: الْمُوفُونَ، وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِذَا ذُكِرَتِ الصِّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي معرض المدح والذم، والأحسن أَنْ تُخَالَفَ بِإِعْرَابِهَا وَلَا تُجْعَلَ كُلُّهَا جَارِيَةً عَلَى مَوْصُوفِهَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ من موضع الْإِطْنَابِ فِي الْوَصْفِ وَالْإِبْلَاغِ فِي الْقَوْلِ، فَإِذَا خُولِفَ بِإِعْرَابِ الْأَوْصَافِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلَامِ، وَضُرُوبٌ مِنَ الْبَيَانِ، وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ فِي الْإِعْرَابِ يَكُونُ وَجْهًا وَاحِدًا أو جملة وَاحِدَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ الرَّاغِبُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَوَفَّى، كَمَا قَالَ: وَأَقَامَ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
اللَّفْظُ، وَهُوَ أَنَّ الصِّلَةَ مَتَى طَالَتْ كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْمَوْصُولِ دُونَ الصِّلَةِ لِئَلَّا يَطُولَ وَيَقْبُحَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الشَّرِيعَةِ، وَغَيْرُ مُسْتَفَادٍ إِلَّا مِنْهَا، وَالْحِكْمَةُ الْعَقْلِيَّةُ تَقْتَضِي الْعَدَالَةَ دُونَ الْجَوْرِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، وَهُوَ مِمَّا تَقْضِي بِهِ الْعُقُودُ الْمُجَرَّدَةُ، صَارَ عَطْفُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَحْسَنَ، وَلَمَّا كَانَ الصَّبْرُ مِنْ وَجْهٍ مَبْدَأَ الْفَضَائِلِ، وَمِنْ وَجْهٍ جَامِعًا لِلْفَضَائِلِ، إِذْ لَا فَضِيلَةَ إِلَّا وَلِلصَّبْرِ فِيهَا أَثَرٌ بَلِيغٌ، غَيَّرَ إِعْرَابَهُ تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى تفسير قوله حِينَ الْبَأْسِ أَنَّهُ: حَالَةُ الْقِتَالِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي: الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَأْسَاءَ هُوَ الْفَقْرُ وَأَنَّ الضَّرَّاءَ الزَّمَانَةُ فِي الْجَسَدِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ.
وَقِيلَ: الْبَأْسَاءُ: الْقِتَالُ، وَالضَّرَّاءُ: الْحِصَارُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَهَذَا مِنْ باب الترقي
(١) سورة البقرة: ٢/ ٤٠.
140
فِي الصَّبْرِ مِنَ الشَّدِيدِ إِلَى أَشَدَّ، فَذَكَرَ أَوَّلًا الصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ، ثُمَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَرَضِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْفَقْرِ، ثُمَّ الصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْفَقْرِ وَالْمَرَضِ.
قَالَ الرَّاغِبُ: اسْتَوْعَبَ أَنْوَاعَ الصَّبْرِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُوتِ فَلَا يَنَالُهُ، وَهُوَ: الْبَأْسَاءُ، أَوْ فِيمَا يَنَالُ جِسْمَهُ مِنْ أَلَمٍ وسقم، وهو: الضراء فِي مُدَافَعَةِ مُؤْذِيهِ، وَهُوَ: البأساء. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَعَدَّى الصَّابِرِينَ إِلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ بِفِي لِأَنَّهُ لَا يُمْدَحُ الْإِنْسَانُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا إِذَا صَارَ لَهُ الْفَقْرُ وَالْمَرَضُ كَالظَّرْفِ، وَأَمَّا الْفَقْرُ وَقْتًا مَا، أَوِ الْمَرَضُ وَقْتًا مَا، فَلَا يَكَادُ يُمْدَحُ الْإِنْسَانُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ أَحَدٌ. وَأَمَّا الْقِتَالُ فَعَدَّى الصَّابِرِينَ إِلَى ظَرْفِ زَمَانِهِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا تَكَادُ تَدُومُ، وَفِيهَا الزَّمَانُ الطَّوِيلُ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِ الْقِتَالِ، فَلَمْ تَكُنْ حَالَةُ الْقِتَالِ تُعَدَّى إِلَيْهَا بِفِي الْمُقْتَضِيَةِ لِلظَّرْفِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ فِيهَا، كَالْجِرْمِ الْمَحْسُوسِ، وَعَطْفُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْبِرِّ اسْتِكْمَالَهَا وَجَمْعَهَا، فَمَنْ قَامَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا لَمْ يُوصَفْ بِالْبِرِّ، وَلِذَلِكَ خَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَالَ: لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أَشَارَ: بِأُولَئِكَ، إِلَى الَّذِينَ جَمَعُوا تِلْكَ الْأَوْصَافَ الْجَلِيَّةَ، مِنَ الِاتِّصَافِ بِالْإِيمَانِ وَمَا بَعْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يُؤْتَى بِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى، أَيْ: يُشَارُ بِهِ إِلَى مَنْ جَمَعَ عِدَّةَ أَوْصَافٍ سَابِقَةٍ، كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ «١» وَالصِّدْقُ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ فَيَكُونُ مُقَابِلَ الْكَذِبِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُطَابِقُ أَقْوَالَهُمْ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْخَبَرِ فَإِذَا أَخْبَرُوا بِشَيْءٍ كَانَ صِدْقًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْكَذِبُ، وَمِنْهُ:
«لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صَادِقًا، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا».
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالصِّدْقِ: الصِّدْقُ فِي الْأَحْوَالِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الرِّيَاءِ أَيْ: أَخْلَصُوا أَعْمَالَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ، بَلْ قَصَدُوا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا عِنْدَ الظن بهم،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٥.
141
كَمَا تَقُولُ: صَدَقَنِي الرُّمْحُ، أَيْ: وَجَدْتُهُ عِنْدَ اخْتِبَارِهِ كَمَا أَخْتَارُ وَكَمَا أَظُنُّ بِهِ، وَالتَّقْوَى هُنَا اتِّقَاءُ عَذَابِ اللَّهِ بِتَجَنُّبِ مَعَاصِيهِ، وَامْتِثَالِ طَاعَتِهِ.
وَتَنَوَّعَ هُنَا الْخَبَرُ عَنْ أُولَئِكَ، فَأَخْبَرَ عَنْ أُولَئِكَ الْأُوَلِ: بِالَّذِينَ صَدَقُوا، وَهُوَ مَفْصُولٌ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ اتِّصَافِهِمْ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ وَثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، وَأَخْبَرَ عَنْ أُولَئِكَ الثَّانِي: بِمَوْصُولٍ صِلَتُهُ اسْمُ الْفَاعِلِ لِيَدُلَّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ لَهُمْ لَا يَتَجَدَّدُ، بَلْ صَارَ سَجِيَّةً لَهُمْ وَوَصْفًا لَازِمًا، وَلِكَوْنِهِ أَيْضًا وَقَعَ فَاصِلَةَ آيَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا لَمَا كَانَ يَقَعُ فَاصِلَةً.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى: رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالشَّعْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ أَعِزَّةٍ أَقْوِيَاءَ لَا يَقْتُلُونَ بِالْعَبْدِ مِنْهُمْ إِلَّا سَيِّدًا، وَلَا بِالْمَرْأَةِ إِلَّا رَجُلًا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، وَأَبُو مَالِكٍ: نَزَلَتْ فِي فَرِيقَيْنِ قتل أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ، وَالْآخَرُ كَافِرٌ مُعَاهِدٌ، كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِتَالٌ، فَقُتِلَ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَعَبِيدٍ، فَنَزَلَتْ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الرَّجُلِ قِصَاصًا بِدِيَةِ الرَّجُلِ، وَدِيَةَ الْمَرْأَةِ قِصَاصًا بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَدِيَةَ الْعَبْدِ قِصَاصًا بِدِيَةِ الْعَبْدِ. ثُمَّ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا.
وَقِيلَ: نزلت في حين مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا قَتْلَى وَجِرَاحَاتٌ لَمْ يَأْخُذْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُمَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ. وقال مقاتل بن حبان: هُمَا قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا طَوْلٌ عَلَى الْأُخْرَى فِي الْكَثْرَةِ وَالشَّرَفِ، وَكَانُوا يَنْكِحُونَ نِسَاءَهُمْ بِغَيْرِ مُهُورٍ، وَأَقْسَمُوا لَيَقْتُلُنَّ بِالْعَبْدِ الْحُرَّ، وَجَعَلُوا جِرَاحَاتِهِمْ ضِعْفَيْ جِرَاحَاتِ أُولَئِكَ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ فَرَضُوا
، وَفِي ذَلِكَ قَالَ قَائِلُهُمْ:
هُمُ قَتَلُوا فِيكُمْ مَظِنَّةَ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةً ثُمَّ اسْتَمَرُّوا فَأَرْبَعُوا
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ غَنِيٍّ قَتَلَ شَاسَ بْنَ زُهَيْرٍ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ أَبُوهُ زُهَيْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ فَقَالُوا لَهُ، وَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ يَذُبُّ عَنْهُمْ: سَلْ فِي قَتْلِ شَاسٍ، فَقَالَ: إِحْدَى ثَلَاثٍ لَا يُرْضِينِي غَيْرُهُنَّ، فَقَالُوا: مَا هُنَّ؟ فَقَالَ: تحيون شأسا، أو تملؤون دَارِي مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ، أَوْ تَدْفَعُونَ لِي غَنِيًّا بِأَسْرِهَا فَأَقْتُلُهَا، ثُمَّ لَا أَرَى أَنِّي أَخَذْتُ عِوَضًا.
142
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا حَلَّلَ مَا حَلَّلَ قَبْلُ، وَحَرَّمَ مَا حَرَّمَ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِذِكْرِ مَنْ أَخَذَ مَالًا مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَأَنَّهُ مَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ إِلَّا النَّارَ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ انْتِظَامَ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنِ اتَّصَفَ بِالْبِرِّ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي انْطَوَوْا عَلَيْهَا، أَخَذَ يَذْكُرُ تَحْرِيمَ الدِّمَاءِ، وَيَسْتَدْعِي حِفْظَهَا وَصَوْنَهَا، فَنَبَّهَ بِمَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَنَبَّهَ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ مَالٍ بِسَبَبِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَكَانَ تَقْدِيمُ تَبْيِينِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ مِنَ الْمَأْكُولِ عَلَى تَبْيِينِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِالْمَأْكُولِ، لِأَنَّ بِهِ قِوَامَ الْبِنْيَةِ، وَحِفْظَ صُورَةِ الْإِنْسَانِ.
ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ مُتْلِفِ تِلْكَ الصُّورَةِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا يَنْدُرُ مِنْهُ وُقُوعُ الْقَتْلِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ بَعِيدٌ مِنْهُ وُقُوعُ ذَلِكَ، وَكَانَ ذِكْرُ تَقْدِيمِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَعَمُّ، وَنَبَّهَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ، وَإِنَّ عَرَضَ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِالْبِرِّ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْرِجًا لَهُ عَنِ الْبِرِّ، وَلَا عَنِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى.
وَأَصْلُ الْكِتَابَةِ: الْخَطُّ الَّذِي يُقْرَأُ، وَعَبَّرَ بِهِ هُنَا عَنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَالْإِثْبَاتِ، أَيْ:
فُرِضَ وَأُثْبِتَ، لِأَنَّ مَا كُتِبَ جَدِيرٌ بِثُبُوتِهِ وَبَقَائِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنْ مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَسَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ.
وَقِيلَ: مَعْنَى كُتِبَ: أُمِرَ، كَقَوْلِهِ: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ «١» أَيِ: الَّتِي أُمِرْتُمْ بِدُخُولِهَا.
وَقِيلَ: يَأْتِي كَتَبَ بِمَعْنَى جَعَلَ، وَمِنْهُ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «٢» فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «٣» وَتَعَدِّي كَتَبَ هُنَا بِعَلَى يُشْعِرُ بالفرض والوجوب، وفِي الْقَتْلى فِي هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِ الْقَتْلَى، مِثْلَ: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ».
وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَجَبَ عَلَيْكُمُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ بِسَبَبِ قَتْلِ الْقَتْلَى بِغَيْرِ مُوجِبٍ، وَيَكُونُ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقَ الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يُجْرَى مَجْرَاهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ إِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الدَّمِ اسْتِيفَاءَهُ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ خِطَابًا مَعَ الْقَاتِلِ، وَالتَّقْدِيرُ، يَا أيها القاتلون، كتب
(١) سورة المائدة: ٥/ ٢١.
(٢) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢٢.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٦. [.....]
143
عَلَيْكُمْ تَسْلِيمُ النَّفْسِ عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْوَلِيِّ بِالْقِصَاصِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ، إِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ قَتْلَهُ، أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَيَنْقَادَ لِقِصَاصِهِ الْمَشْرُوعِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِخِلَافِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ، فَإِنَّ لَهُمَا الْهَرَبُ مِنَ الْحَدِّ، وَلَهُمَا أَنْ يَسْتَتِرَا بِسِتْرِ اللَّهِ، وَلَهُمَا أَنْ لَا يَعْتَرِفَا.
وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ الْوُقُوفُ عِنْدَ قَاتِلِ وَلِيِّهِ، وَأَنْ لَا يَتَعَدَّى عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ بِأَنْ تَقْتُلَ غَيْرَ قَاتِلِ قَتِيلِهَا مِنْ قَوْمِهِ، وَهَذَا الْكَتْبُ فِي الْقِصَاصِ مَخْصُوصٌ بِأَنْ لَا يَرْضَى الْوَلِيُّ بِدِيَةٍ أَوْ عَفْوٍ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ هُوَ الْغَايَةُ عِنْدَ التَّشَاحُنِ، وَأَمَّا إِذَا رَضِيَ بِدُونِ الْقِصَاصِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ عَفْوٍ فَلَا قِصَاصَ.
قَالَ الرَّاغِبُ: فَإِنْ قِيلَ: عَلَى مَنْ يَتَوَجَّهُ هَذَا الْوُجُوبُ؟ قِيلَ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ، وَهُوَ الْقَاتِلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهُوَ الْإِمَامُ إِذَا طَلَبَهُ الْوَلِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ المعاونة والرضى، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى، بَلْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، وَالْقَصْدُ بِالْآيَةِ مَنْعُ التَّعَدِّي، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَعَدَّوْنَ فِي الْقَتْلِ، وَرُبَّمَا لَا يَرْضَى أَحَدُهُمْ إِذَا قُتِلَ عَبْدُهُمْ إِلَّا بِقَتْلِ حُرٍّ. اه كَلَامُهُ.
وَتَلَخَّصَ فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْأَئِمَّةُ وَمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ الْقَاتِلُونَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَهْيَ ناسخة أو مَنْسُوخَةٌ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي نَسْخِ التَّرَاجُعِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، إِذَا قَتَلَ الرَّجُلَ امْرَأَةً كَانَ وَلَيُّهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِهِ مَعَ تَأْدِيَةِ نِصْفِ الدِّيَةِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ دِيَةِ الرَّجُلِ وَتَرْكِهِ،. وَإِنْ كَانَ قَاتِلُ الرَّجُلِ امْرَأَةً، كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِ الْمَرْأَةِ وَأَخْذِ نِصْفِ دِيَةِ الرجل، وإن شاؤوا أَخَذُوا الدِّيَةَ كَامِلَةً وَلَمْ يَقْتُلُوهَا.
قَالَ: فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. اه. وَلَا يَكُونُ هَذَا نَسْخًا، لِأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ لَيْسَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ فَيُنْسَخُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى كِتَابَةَ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بَيَّنَ مَنْ يَقَعُ بَيْنَهُمُ الْقِصَاصُ فَقَالَ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى، وَاخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمَلِ، فَقِيلَ: يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْأُنُوثَةِ، فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا إِلَّا بَيْنَ الْحُرَّيْنِ، وَبَيْنَ
144
الْعَبْدَيْنِ، وَبَيْنَ الْأُنْثَيَيْنِ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يُؤْخَذُ الْحُرُّ إِلَّا بِالْحُرِّ، وَلَا يُؤْخَذُ الْعَبْدُ إِلَّا بِالْعَبْدِ، وَلَا تُؤْخَذُ الْأُنْثَى إِلَّا بِالْأُنْثَى.
رُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَفِيهَا إِجْمَالٌ فَسَّرَتْهُ آيَةُ الْمَائِدَةِ.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ. ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ.
وَقِيلَ: لَا تَدَلُّ عَلَى الْحَصْرِ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ بين المذكور، أَلَا تَرَى أَنَّ عُمُومَ: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى تَقْتَضِي قِصَاصَ الْحُرَّةِ بِالرَّقِيقَةِ؟ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ لِتَصَادُمِ الْعُمُومَانِ.
وَقَوْلُهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، وَقَوْلُهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ ذِكْرٌ لِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْجُزْئِيَّاتِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ فِيهِ، وَأُعِيدَ ذِكْرُ الْأُنْثَى تَوْكِيدًا وَتَهَمُّمًا بِإِذْهَابِ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً حُكْمَ الْمَذْكُورِينَ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ حُرٌّ عَبْدًا أَوْ عَبْدٌ حُرًّا، وَذَكَرٌ أُنْثَى، أَوْ أُنْثَى ذَكَرًا.
وَقَالَا: إِنَّهُ إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً فَإِنْ أَرَادَ أَوْلِيَاؤُهَا قَتَلُوا بِهَا صَاحَبَهُمْ وَوَفَّوْا أَوْلِيَاءَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا اسْتَحْيَوْهُ وَأَخَذُوا مِنْهُ دِيَةَ الْمَرْأَةِ. وَإِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ رَجُلًا فَإِنْ أَرَادَ أَوْلِيَاؤُهُ قَتَلُوهَا وَأَخَذُوا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِلَّا أَخَذُوا دِيَةَ صَاحِبِهِمْ وَاسْتَحْيَوْهَا، وَإِذَا قَتَلَ الْحُرُّ الْعَبْدَ فَإِنْ أَرَادَ سَيِّدُ الْعَبْدِ قَتَلَ وَأَعْطَى دِيَةَ الْحُرِّ إِلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَحْيَى وَأَخَذَ قِيمَةَ الْعَبْدِ.
وَقَدْ أُنْكِرُ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَرَوْنَ الرُّجُوعَ بِشَيْءٍ، وَفِرْقَةٌ تَرَى الْإِتْبَاعَ بِفَضْلِ الدِّيَاتِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ إِذَا قتل مسلم حُرًّا بِمُحَدَّدٍ، وَظَاهِرُ عُمُومِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ أَنَّ الْوَالِدَ يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، قَالَ: إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا قُتِلَ بِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَصَدَ إِلَى قَتْلِهِ مِثْلَ أَنْ يُضْجِعَهُ وَيَذْبَحَهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ الَّتِي لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا فِي ادِّعَاءِ الْخَطَأِ قُتِلَ بِهِ، وإن قتله يرمى بشيء أو يضرب، فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْتَلُ، وَالْآخَرُ: لَا يُقْتَلُ.
145
وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، وَعَلَيْهِ الدية في ماله، قَالَ بِذَلِكَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَسَوُّوا بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يُقَادُ الْجَدُّ بِابْنِ الِابْنِ، وَكَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْجَدِّ لِابْنِ ابْنِهِ، وَلَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ قَتْلُ الِابْنِ بِأَبِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا قَتْلُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ لَوِ انْفَرَدَ إِذَا شَارَكَ مَنْ لَا يَجِبُ عليه القتل كالمخطىء وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْأَبِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ لَا يُقْتَلُ بِابْنِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَى الْأَبِ الْقَاتِلِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَالصَّبِيُّ وَالْمُخْطِئُ وَالْمَجْنُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَى عَاقِلَةِ الْمُشْتَرِكِينَ مِمَّنْ ذُكِرَ الدِّيَةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَى الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ الْمُشَارِكِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ إِذَا قَتَلَا عَبْدًا، وَالْمُسْلِمُ وَالنَّصْرَانِيُّ إِذَا قَتَلَا نَصْرَانِيًّا، وَإِنْ شَارَكَهُ قَاتِلُ خَطَأٍ فَعَلَى الْعَامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَجِنَايَةُ الْمُخْطِئِ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ بقتل الْحُرُّ بِالْعَبْدِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يُقْتَلُ بِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ بِهِ. قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: إِنْ قَتَلَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ وَكُلُّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلَى بِأَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ الْقَتْلُ، مِنْ مُثَقَّلِ حَجَرٍ، أَوْ خَشَبَةٍ، أَوْ عَصًا، أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.
وَالشَّافِعِيِّ، وَالْجُمْهُورِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ بِمُثَقَّلٍ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَدَمُ تَعْيِينِ الْآلَةِ الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ،
146
وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَقَالَ ابْنُ الْغُنَيْمِ، عَنْ مَالِكٍ: إِنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ، أَوْ عَصًا، أَوْ نَارٍ أَوْ تَغْرِيقٍ قُتِلَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِهِ فَلَا يَزَالُ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ مَا قَتَلَ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ زَادَ عَلَى فِعْلِ الْقَاتِلِ.
وَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ: يُقْتَلُ بِمِثْلِ الَّذِي قَتَلَ بِهِ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ بِخَشَبٍ، أَوْ بِخَنْقٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ: إِنْ ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ حَتَّى مَاتَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ حَبَسَهُ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ حَتَّى مَاتَ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يُضْرَبُ مِثْلَ ضَرْبِهِ وَلَا يُضْرَبُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ المثلة ويقولون: يجزي ذَلِكَ كُلِّهِ السَّيْفُ. قَالَ: فَإِنْ غَمَسَهُ فِي الْمَاءِ حَتَّى مَاتَ، فَلَا يَزَالُ يُغْمَسُ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَمُوتَ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ فَقَطْ لِقَوْلِهِ: فِي الْقَتْلى وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ. وَهُوَ: أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ إِلَّا فِي الْأَنْفُسِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ الْجِرَاحَاتِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ فِي الْجِنَايَاتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ جَرَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ جَرَى عَلَيْهِ فِي الْجِرَاحِ، وَلَا يُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنَ الْعَبْدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. وَاتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ ظَاهِرِهَا، وَأَجْمَعُوا، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ، إِلَّا خِلَافًا شَاذًّا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَتَلَ نَفَرًا مِنْ صَنْعَاءَ بِامْرَأَةٍ، وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ وَبِالْعَبْدِ، وَالْعَبْدِ بِالْحُرِّ، وَقَدْ وَهَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي نِسْبَتِهِ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الذَّكَرَ لَا يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى، وَلَا خِلَافَ عَنْهُمَا فِي أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهَا.
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إِذَا قَتَلَتِ امْرَأَةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَتَلَهَا هُوَ فَعَلَيْهِ الْقَوْدُ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحَاتِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، إِلَى أَنَّهُ لا قصاص من بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا فِي
147
الْأَنْفُسِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ وَاقِعٌ فِيمَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، إِلَّا أَنَّ اللَّيْثَ قَالَ: إِذَا جَنَى الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ عَقَلَهَا وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ.
وَأَعْرَبَ هذه الجمل مبتدأ وخبر، وَهِيَ ذَوَاتٌ ابْتُدِئَ بِهَا، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ أَخْبَارٌ عَنْهَا، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً، فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ بِالْبَصْرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلسَّبَبِ، وَيَتَعَلَّقُ بِكَوْنٍ خَاصٍّ لَا بِكَوْنٍ مُطْلَقٍ، وَقَامَ الْجَارُّ مَقَامَ الْكَوْنِ الْخَاصِّ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذِ الْكَوْنُ الْخَاصُّ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا، إِذِ الدَّلِيلُ عَلَى حَذْفِهِ قَوِيٌّ إِذْ تَقَدَّمَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، فَالتَّقْدِيرُ: الْحُرُّ مَقْتُولٌ بِالْحُرِّ، أَيْ: بِقَتْلِهِ الْحُرَّ، فَالْبَاءُ لِلسَّبَبِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ الْعَامِلِ كَوْنًا مُطْلَقًا، وَلَوْ قُلْتَ: الْحُرُّ كَائِنٌ بِالْحُرِّ، لَمْ يَكُنْ كَلَامًا إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ مُضَافًا قَدْ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، فَيَجُوزُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَتْلُ الْحُرِّ كَائِنٌ بِالْحُرِّ، أي: بقتل الْحُرَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُرُّ مَرْفُوعًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا قَبْلَهُ، التقدير: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِقَتْلِهِ الْحُرَّ، إِذْ فِي قَوْلِهِ: الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى دَلَالَةٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ.
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ كَانَ لَهُمُ الْقَتْلُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَهْلَ الْإِنْجِيلِ كَانَ لَهُمُ الْعَفْوُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَوْدٌ، وَجَعَلَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِمَنْ شَاءَ الْقَتْلَ، وَلِمَنْ شَاءَ أَخْذَ الدِّيَةِ، وَلِمَنْ شَاءَ الْعَفْوَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمْ تَحِلَّ الدِّيَةُ لِأَحَدٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ كَانَ الْقِصَاصَ أَوِ الْعَفْوَ. وَلَا أَرْشَ بَيْنَهُمْ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ الدِّيَةَ وَالْعَفْوَ لَا أَرْشَ بَيْنَهُمْ، فَخَيَّرَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ.
وَارْتِفَاعُ: مَنْ، عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهِيَ شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ: مَنْ، هُوَ الْقَاتِلُ وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ ومِنْ أَخِيهِ عائد عليه، وَشَيْءٍ: هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يسم فاعله، وهو معنى الْمَصْدَرِ، وَبُنِيَ عَفَا، لِلْمَفْعُولِ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا، لِأَنَّ اللَّازِمَ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ «١» وَالْأَخُ هُوَ الْمَقْتُولُ، أَيْ: مِنْ دَمِ أَخِيهِ أَوْ وَلِيِّ الدَّمِ، وَسَمَّاهُ أَخًا لِلْقَاتِلِ اعْتِبَارًا بِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوِ اسْتِعْطَافًا لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ لكونه
(١) سورة الحاقة: ٦٩/ ١٣.
148
مُلَابِسًا لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلدَّمِ وَمُطَالِبٌ بِهِ كَمَا تَقُولُ: قُلْ لِصَاحِبِكَ كَذَا، لِمَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَهَذَا الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فَهُوَ يُرَادُ بِهِ الدَّمُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ رُجِعَ إِلَى أَخْذِ الدِّيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَهْدِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا الْقِصَاصُ، وَإِمَّا الدِّيَةُ. لِأَنَّ الدِّيَةَ تَضَمَّنَتْ عَافِيًا وَمَعْفُوًّا عَنْهُ، وَلَيْسَ إِلَّا وَلِيَّ الدَّمِ وَالْقَاتِلَ، وَالْعَفْوُ لَا يَتَأَتَى إِلَّا مِنَ الْوَلِيِّ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الْأَمْرِ عَنْ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالْقَاتِلِ فَلْيُتْبِعِ الْقَاتِلُ ذَلِكَ الْعَفْوَ بِمَعْرُوفٍ. وَعَفَا يَتَعَدَّى بِعَنْ إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الْجِنَايَةِ، تَقُولُ: عَفَوْتُ عَنْ زَيْدٍ، وَعَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِ زَيْدٍ، فَإِذَا عَدَّيْتَ إِلَيْهِمَا مَعًا تَعَدَّتْ إِلَى الْجَانِي بِاللَّامِ، وَإِلَى الذَّنْبِ بِعَنْ، تَقُولُ:
عَفَوْتُ لِزَيْدٍ عَنْ ذَنْبِهِ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ عَنْ جِنَايَتِهِ، وَحُذِفَ عَنْ جِنَايَتِهِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَلَا يُفَسَّرُ عُفِيَ بِمَعْنَى تُرِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مُعَدًّى إِلَّا بِالْهَمْزَةِ، وَمِنْهُ: «أَعْفُوا اللِّحَى» وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُضَمَّنَ عَفَى مَعْنَى تَرَكَ وَإِنْ كَانَ الْعَافِي عَنِ الذَّنْبِ تَارِكًا لَهُ لَا يُؤَاخِذُ بِهِ، لِأَنَّ التَّضْمِينَ لَا يَنْقَاسُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهُمْ عَفَا أَثَرَهُ إِذَا مَحَاهُ وَأَزَالَهُ، فَهَلَّا جَعَلْتَ مَعْنَاهُ: فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: عِبَارَةٌ قِيلَتْ فِي مَكَانِهَا، وَالْعَفْوُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ عِبَارَةٌ مُتَدَاوَلَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاسْتِعْمَالِ النَّاسِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنْهَا إِلَى أُخْرَى قَلِقَةٍ نَائِيَةٍ عَنْ مَكَانِهَا، وَتَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعَاطَى هذا العلم يجترىء إِذَا عَضَلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْمُشْكِلِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى اخْتِرَاعِ لُغَةٍ. وَادِّعَاءٍ عَلَى الْعَرَبِ مَا لَا تَعْرِفُ، وَهَذِهِ جُرْأَةٌ يُسْتَعَاذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ عَفَا يكون بمعنى محافلا يَبْعُدُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ إِسْنَادُ عَفَى لِمَرْفُوعِهِ إِسْنَادًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ مَفْعُولٌ بِهِ صَرِيحٌ، وَإِذَا كَانَ لَا يَتَعَدَّى كَانَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ مَجَازًا وَتَشْبِيهًا لِلْمَصْدَرِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، فَقَدْ يَتَعَادَلُ الْوَجْهَانِ أَعْنِي: كَوْنَ عَفَا اللَّازِمِ لِشُهْرَتِهِ فِي الْجِنَايَاتِ، وَعَفَا الْمُتَعَدِّي لِمَعْنَى مَحَا لِتَعَلُّقِهِ بِمَرْفُوعِهِ تَعَلُّقًا حَقِيقِيًّا.
وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَتَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعَاطَى هَذَا الْعِلْمَ إِلَى آخِرِهِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فِعْلُ غَيْرِ الْمَأْمُونِينَ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَلَا الْمَوْثُوقِ بِهِمْ فِي نَقْلِ الشَّرِيعَةِ، وَالْكَذِبُ مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي وَأَذْهَبِهَا لِخَاصَّةِ الْإِنْسَانِ، وَخُصُوصًا عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ يَصْحَبُ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ عَلَى حَالَةٍ تُكْرَهُ،
149
إِلَّا مَا كَانَ مِنْ الْكَاذِبِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلَ مُفَارِقٍ لَهُ، لَكِنْ لَا يُنَاسِبُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ هُنَا:
وَتَرَى كَثِيرًا إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ إِثْرَ قَوْلِهِ: فَإِنْ قُلْتَ إِلَى آخِرِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ حَمْلُ الْعَفْوِ عَلَى مَعْنَى الْمَحْوِ، وَهُوَ حَمْلٌ صَحِيحٌ وَاسْتِعْمَالٌ فِي اللُّغَةِ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْجُرْأَةِ، وَاخْتِرَاعِ اللُّغَةِ.
وَبُنِيَ الْفِعْلُ هُنَا لِلْمَفْعُولِ لِيَعُمَّ الْعَافِيَ كَانَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، هَذَا إِنْ أُرِيدَ بِأَخِيهِ الْمَقْتُولُ. أَيْ: مِنْ دَمِ أَخِيهِ، وَقِيلَ: شَيْءٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِ الدَّمِ أَوْ عَنْ كُلِّهِ، أَوْ أَنْ يَعْفُوَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَوْ كُلُّهُمْ، فَإِنَّهُ يَتِمُّ الْعَفْوُ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا الدِّيَةُ، وَقِيلَ: مَنْ عُفِيَ لَهُ هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ، وَعُفِيَ هُنَا بِمَعْنَى يُسِّرَ لَا عَلَى بَابِهَا فِي الْعَفْوِ، وَمِنْ أَخِيهِ: هُوَ الْقَاتِلُ، وَشَيْءٌ: هُوَ الدِّيَةُ، وَالْأُخُوَّةُ هِيَ: أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَخِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: الْمَقْتُولُ، أَيْ: مِنْ قِبَلِ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ مَالِكٍ، فَسَّرَ الْمَعْفُوَّ لَهُ بِوَلِيِّ الدَّمِ، وَالْأَخَ: بِالْقَاتِلِ، وَالْعَفْوَ بِالتَّيْسِيرِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ مَالِكٌ: إِذَا جَنَحَ الْوَلِيُّ إِلَى الْعَفْوِ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ خُيِّرَ الْقَاتِلُ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهَا أَوْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ.
وَغَيْرُ مَالِكٍ يَقُولُ: إِذَا رَضِيَ الْوَلِيُّ بِالدِّيَةِ فَلَا خِيَارَ لِلْقَاتِلِ، وَيَلْزَمُ الدِّيَةُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، وَرَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيُضَعِّفُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ عُفِيَ بِمَعْنَى: يُسِّرَ لَمْ يَثْبُتْ.
وَقِيلَ: هَذِهِ أَلْفَاظٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ الَّذَيْنِ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا، وَتَسَاقَطُوا الدِّيَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُقَاصَّةً، فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَمَنْ فَضَلَ لَهُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الدِّيَاتِ، وَتَكُونُ: عَفَا بِمَعْنَى: فَضَلَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عَفَا الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ، أَيْ: أَفْضَلَتِ الْحَالَةُ لَهُ، أَوِ الْحِسَابُ، أَوِ الْقَدَرُ، وَقِيلَ: هِيَ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ فِي الْفَضْلِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، أَيْ: مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ الْفَضْلُ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَعُفِيَ هُنَا بِمَعْنَى:
أُفْضِلَ، وَكَأَنَّ الْآيَةَ مِنْ أَوَّلِهَا بَيَّنَتِ الْحُكْمَ إِذَا لَمْ تَتَدَاخَلِ الْأَنْوَاعُ، ثُمَّ بَيَّنَتِ الْحُكْمَ إِذَا تَدَاخَلَتْ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا قُلْنَاهُ، وَقَدْ جَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ عُفِيَ بِمَعْنَى: تُرِكَ، فَيَرْتَفِعُ شَيْءٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ قَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ عُفِيَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ، وَأَنَّ ارْتِفَاعَ شَيْءٌ، هُوَ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَنَّ عُفِيَ بِمَعْنَى: تُرِكَ لَمْ يَثْبُتْ.
150
فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. ارْتِفَاعُ اتِّبَاعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْحُكْمُ، أَوِ الْوَاجِبُ كَذَا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَالْأَمْرُ اتِّبَاعٌ، وَجَوَّزَ أَيْضًا رَفْعَهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: فَلْيَكُنِ اتِّبَاعٌ، وَجَوَّزُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ وَتَقْدِيرُهُ: فَعَلَى الْوَلِيِّ اتِّبَاعُ الْقَاتِلِ بِالدِّيَةِ، وَقَدَّرُوهُ أَيْضًا مُتَأَخِّرًا تَقْدِيرُهُ، فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ تَقْدِيرِهِ: فَالْحَكَمُ أَوِ الْوَاجِبُ اتِّبَاعٌ، وَهَذَا سَبِيلُ الْوَاجِبَاتِ، كَقَوْلِهِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ «١» وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ فَيَأْتِي مَنْصُوبًا كَقَوْلِهِ: فَضَرْبَ الرِّقابِ «٢» انْتَهَى.
وَلَا أَدْرِي هَذِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ إِلَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِابْتِدَائِيَّةَ أَثْبَتُ وَآكَدُ مِنَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ «٣» فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي لَحِظَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا إِضْمَارُ الْفِعْلِ الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلْيَكُنْ، فَهُوَ ضَعِيفٌ إِذْ: كَانَ، لَا تُضْمَرُ غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ أَنِ الشَّرْطِيَّةِ، أَوْ: لَوْ، حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِهَا الدليل، وبِالْمَعْرُوفِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَاتِّبَاعٌ، وَارْتِفَاعُ: وَأَداءٌ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى اتِّبَاعٌ، فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ الْإِعْرَابِ مَا قَدَّرُوا فِي: فَاتِّبَاعٌ، وَيَكُونُ بِإِحْسَانٍ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَأَدَاءٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ يكون: وأداء، مُبْتَدَأً، وَبِإِحْسَانٍ، هُوَ الْخَبَرُ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاتِّبَاعٌ، جَوَابُ الشَّرْطِ إِنْ كَانَتْ مَنْ شَرْطًا، والداخلة فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ إِنْ كَانَتْ مَنْ مَوْصُولَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَنْ:
كِنَايَةً عَنِ الْقَاتِلِ وَأَخُوهُ: كِنَايَةً عَنِ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَوْصِيَةً لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ والعافي يحسن الْقَضَاءِ مِنَ الْمُؤَدِّي، وَحُسْنِ التَّقَاضِي مِنَ الطَّالِبِ، وَإِنْ كَانَ الْأَخُ كِنَايَةً عَنِ الْمَقْتُولِ كَانَتِ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ، عَائِدَةً عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ يصاحب يوجه مَا، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: عُفِيَ، دَلَالَةً عَلَى الْعَافِي فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «٤» إِذْ فِي الْعَشِيِّ دَلَالَةٌ عَلَى مَغِيبِ الشمس، وقول الشاعر:
لك الرجل الْحَادِي وَقَدْ مَنَعَ الضُّحَى وَطَيْرُ الْمَنَايَا فَوْقَهُنَّ أَوَاقِعُ
أَيْ: فَوْقَ الْإِبِلِ، لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: الْحَادِيَ، دَلَالَةً عَلَيْهِنَّ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْ كِنَايَةً عَنِ الْقَاتِلِ فَيَكُونُ أَيْضًا تَوْصِيَةً لَهُ وَلِلْوَلِيِّ بِحُسْنِ الْقَضَاءِ وَالتَّقَاضِي، أَيْ: فاتباع من الولي
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٩.
(٢) سورة محمد: ٤٧/ ٤.
(٣) سورة هود: ١١/ ٦٩.
(٤) سورة ص: ٣٨/ ٣٢.
151
بِالْمَعْرُوفِ، وَأَدَاءٌ مِنَ الْقَاتِلِ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، وَالِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يُعَنِّفَ عَلَيْهِ وَلَا يُطَالِبَهُ إِلَّا مُطَالَبَةً جَمِيلَةً، وَلَا يَسْتَعْجِلَهُ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ يُجْعَلُ انْتِهَاءَ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْأَدَاءُ بِالْإِحْسَانِ:
أَنْ لَا يَمْطُلَهُ وَلَا يَبْخَسَهُ شَيْئًا. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الِاتِّبَاعِ وَالْأَدَاءِ.
وَقِيلَ: اتِّبَاعُ الْوَلِيِّ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يَطْلُبَ مِنَ الْقَاتِلِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ،
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ زَادَ بَعِيرًا فِي إِبِلِ الدِّيَةِ وَفَرَائِضِهَا فَمِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ».
وَقِيلَ الِاتِّبَاعُ وَالْأَدَاءُ مَعًا مِنَ الْقَاتِلِ، وَالِاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يَنْقُصَهُ، وَالْأَدَاءُ بِالْإِحْسَانِ أَنْ لَا يُؤَخِّرَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ حِفْظُ الْجَانِبِ وَلِينُ الْقَوْلِ، وَالْإِحْسَانُ تَطْيِيبُ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ مَا أَوْجَبَهُ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ مَا يَتَعَاهَدُ الْعَرَبُ بَيْنَهَا مِنْ دِيَةِ الْقَتْلَى.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ الْآيَةَ. أَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِجَابَةُ الْقَاتِلِ إِلَى الْقَوَدِ مِنْهُ إِذَا اخْتَارَ ذَلِكَ وَاخْتَارَ الْمُسْتَحِقُّ الدِّيَةَ وَيَلْزَمُ الْقَاتِلَ الدِّيَةُ إِذَا اخْتَارَهَا الْوَلِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدٌ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ، وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِلَّا الْقِصَاصُ، وَلَا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إِلَّا بِرِضَى الْقَاتِلِ، فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يُقَدَّرُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ وَرَضِيَ الْمَعْفُوُّ عنه وَدَفَعَ الدِّيَةَ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَنَا الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَ تَفْسِيرِنَا: فَمَنْ عُفِيَ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ.
ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا شَرَعَهُ تَعَالَى مِنَ الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ إِذْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ كَانَ مَشْرُوعُهُمُ الْقِصَاصَ فَقَطْ، وَأَهْلُ الْإِنْجِيلِ مَشْرُوعُهُمُ الْعَفْوُ فَقَطْ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنِ الْعَفْوُ فِي أُمَّةٍ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طُرُقٌ مِنْ هَذَا النَّقْلِ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ خُيِّرَتْ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ، وَكَانَ الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ إِذْ فِيهِ انْتِفَاعُ الْوَلِيِّ بِالدِّيَةِ، وَحُصُولُ الْأَجْرِ بالعفو استبقاء مُهْجَةِ الْقَاتِلِ، وَبَذْلُ مَا سِوَى النَّفْسِ هَيِّنٌ فِي اسْتِبْقَائِهَا، وَأَضَافَ هَذَا التَّخْفِيفَ إِلَى الرَّبِّ لِأَنَّهُ الْمُصْلِحُ لِأَحْوَالِ عَبِيدِهِ، النَّاظِرُ لَهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَعَطْفُ وَرَحْمَةٌ عَلَى تَخْفِيفٌ لِأَنَّ مَنِ اسْتَبْقَى مُهْجَتَكَ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ إِتْلَافِهَا فَقَدْ رَحِمَكَ. وَأَيُّ: رَحْمَةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَلَعَلَّ الْقَاتِلَ الْمَعْفُوَّ عَنْهُ
152
يَسْتَقِلُّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي عَاشَهَا بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِ مَا يَمْحُو بِهِ هَذِهِ الْفِعْلَةَ الشَّنْعَاءَ، فَمِنَ الرَّحْمَةِ إِمْهَالُهُ لَعَلَّهُ يُصْلِحُ أَعْمَالَهُ.
فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أَيْ: مَنْ تَجَاوَزَ شَرْعَ اللَّهِ بعد القود وَأَخْذِ الدِّيَةِ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّمِ، أَوْ بِقَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَيَقْتُلُونَ بِالْوَاحِدِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْعَشَرَةَ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَنْ قُتِلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَ الْعَفْوِ، وَقِيلَ: مَنْ أَخَذَ الدِّيَةَ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْهَا. وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِتَقَدُّمِ الْعَفْوِ، وَأَخْذِ الْمَالِ، وَالِاعْتِدَاءُ، وَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْفِيفِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى التَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّخْفِيفِ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مَا شَرَحْنَاهُ بِهِ مِنَ الْعَفْوِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ تَخْفِيفًا هُوَ كَالْعِلَّةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْعَفْوِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَيَحْتَمِلُ: مَنْ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اعْتَدى أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً.
فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ جَوَابُ الشَّرْطِ، أَوْ خَبَرٌ عَنِ الْمَوْصُولِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْعَذَابِ أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا وَرَدَ مِنْ هَذِهِ التَّوَعُّدَاتِ إِنَّمَا هِيَ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ قَتْلُهُ قِصَاصًا، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ: وَقِيلَ: هُوَ قَتْلُهُ الْبَتَّةَ حَدًّا، وَلَا يُمَكِّنُ الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ مِنَ الْعَفْوِ قَالَهُ عِكْرِمَةُ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَقِيلَ: عَذَابُهُ أَنْ يَرُدَّ الدِّيَةَ وَيَبْقَى إِثْمُهُ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَقِيلَ: عَذَابُهُ تَمْكِينُ الْإِمَامِ مِنْهُ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَرَى، قَالَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَمَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّمِ هُوَ كَمَنْ قَتَلَ ابْتِدَاءً، إِنْ شَاءَ الْوَلِيُّ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ.
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الْحَيَاةُ الَّتِي فِي الْقِصَاصِ هِيَ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ قُتِلَ، أَمْسَكَ عَنِ الْقَتْلِ، فَكَانَ ذَلِكَ حَيَاةٌ لَهُ، والذي امْتَنَعَ مِنْ قَتَلَهُ، فَمَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، وَإِبْقَاءُ الْقَاتِلِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ، فَتُقَدَّمُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. أَوِ الْمَعْنَى: وَلَكُمْ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ حَمِيَ قَبِيلُةٌ أَنْ تَقْتَصَّ مِنْهُ، فَيَقْتَتِلُونَ، وَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ، فَلَمَّا شُرِعَ الْقِصَاصُ رَضُوا بِهِ وَسَلَّمُوا الْقَاتِلَ لِلْقَوْدِ، وَصَالَحُوا عَلَى الدِّيَةِ
153
وَتَرَكُوا الْقِتَالَ، فَكَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ، وَكَمْ قَتَلَ مُهَلْهِلٌ بِأَخِيهِ كُلَيْبٍ حَتَّى كَادَ يُفْنِي بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ.
وَقِيلَ: حَيَاةٌ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّهُ لَا يقتل غير خِلَافَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ:
حَيَاةٌ لِلْقَاتِلِ. وَقِيلَ: حَيَاةٌ لِارْتِدَاعِ مَنْ يَهُمُّ بِهِ فِي الْآخِرَةِ إِذِ اسْتُوفِيَ مِنْهُ الْقِصَاصُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُقْتَصَّ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. فَلَا تَحْصُلُ لَهُ تِلْكَ الْحَيَاةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنِ اقْتُصَّ مِنْهُ.
وَقَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ، أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّبَعِيُّ: وَلَكُمْ فِي الْقَصَصِ، أَيْ: فِيمَا قَصَّ عَلَيْكُمْ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ، وَقِيلَ: الْقَصَصُ: الْقُرْآنُ، أَيْ: لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، كَقَوْلِهِ: رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «١» وَكَقَوْلِهِ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «٢».
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْقِصَاصِ، أَيْ: أَنَّهُ إِذَا قُصَّ أَثَرُ الْقَاتِلِ قَصَصًا قُتِلَ كَمَا قَتَلَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ كَلَامٌ فَصِيحٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَابَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ قَتْلٌ وَتَفْوِيتٌ لِلْحَيَاةِ، وَقَدْ جُعِلَ مَكَانًا وَظَرْفًا لِلْحَيَاةِ، وَمِنْ إِصَابَةِ مَحَزِّ الْبَلَاغَةِ بِتَعْرِيفِ، الْقِصَاصِ، وَتَنْكِيرِ: الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَكُمْ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ، أَوْ نَوْعٌ مِنَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ الْحَيَاةُ الْحَاصِلَةُ بِالِارْتِدَاعِ عَنِ الْقَتْلِ.
لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِالِاقْتِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَتِ الْعَرَبُ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى: الْقَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ، وَقَالُوا: أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَقَالُوا: أَكَفُّ لِلْقَتْلِ.
وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مِنَ الْبَلَاغَةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْعَرَبِ يَقْتَضِي كَوْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: تَكْرِيرُ لَفْظِ الْقَتْلِ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّالِثُ: الِاقْتِصَارُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ هُوَ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَتْلَ ظُلْمًا هُوَ قَتْلٌ، وَلَا يَكُونُ نَافِيًا لِلْقَتْلِ. وَقَدِ انْدَرَجَ فِي قَوْلِهِمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَالْآيَةُ الْمُكَرَّمَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
أَمَّا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَفِيهِ أَنَّ نَوْعًا مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ الْقِصَاصُ سَبَبٌ لِنَوْعٍ مِنْ أنواع
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٥٢.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٢٢.
154
الْحَيَاةِ، لَا لِمُطْلَقِ الْحَيَاةِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَلَكُمْ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ، اتَّضَحَ كَوْنُ شَرْعِ الْقِصَاصِ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي: فَظَاهِرٌ لِعُذُوبَةِ الْأَلْفَاظِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ وَعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تَقْدِيرِ الْحَذْفِ، لِأَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا قُلْنَاهُ تكرارا للفظ، والحذف إذا نفي، أو أكف، أو أوفي، هو افعل تفضيل، فلابد مِنْ تَقْدِيرِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ أَنَفَى لِلْقَتْلِ مِنْ تَرْكِ الْقَتْلِ.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ: فَالْقِصَاصُ أَعَمُّ مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ فِي نَفْسٍ وَفِي غَيْرِ نَفْسٍ، وَالْقَتْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْسِ، فَالْآيَةُ أَعَمُّ وَأَنْفَعُ فِي تَحْصِيلِ الْحَيَاةِ.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ: فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مُشْعِرٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَتَرَتَّبَ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وُجُودُ الْحَيَاةِ.
ثُمَّ الْآيَةُ الْمُكَرَّمَةُ فِيهَا مُقَابَلَةُ الْقِصَاصِ بِالْحَيَاةِ فَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَيَانِ يُسَمَّى الطِّبَاقَ، وَهُوَ شِبْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا»
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وفي الْقِصَاصِ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَتَقْدِيمُ هَذَا الْخَبَرِ مُسَوِّغٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَتَفْسِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَكُونُ لَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وَنَبَّهَ بِالنِّدَاءِ نِدَاءِ ذَوِي الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ، إِذْ لَا يَعْرِفُ كُنْهَ مَحْصُولِهَا إِلَّا أولوا الْأَلْبَابِ الْقَائِلُونَ لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَهُمُ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِالْخِطَابِ، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «٢» لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «٣» لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ «٤» لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى «٥» لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «٦» وَذَوُو الْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْعَوَاقِبَ وَيَعْلَمُونَ جِهَاتِ الْخَوْفِ، إِذْ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْخَوْفُ، فَلِهَذَا خَصَّ بِهِ ذَوِي الْأَلْبَابِ.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيِ: الْقِصَاصُ، فَتَكُفُّونَ عَنِ الْقَتْلِ وَتَتَّقُونَ الْقَتْلَ حَذَرًا مِنَ الْقِصَاصِ أَوِ الِانْهِمَاكِ فِي الْقَتْلِ، أَوْ تَتَّقُونَ اللَّهَ بِاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، أَوْ تعملون عمل أهل
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٤٤.
(٢) سورة الرعد: ١٣/ ١٩، وسورة الزمر: ٣٩/ ٩.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٦٤، وسورة الرعد: ١٣/ ٤ وسورة النحل: ١٦/ ١٢.
(٤) سورة آل عمران: ٣/ ١٩٠، وسورة الروم: ٣٠/ ٢٤.
(٥) سورة طه: ٢٠/ ٥٤ و ١٢٨.
(٦) سورة ق: ٥٠/ ٣٧.
155
التَّقْوَى فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقِصَاصِ وَالْحُكْمِ بِهِ، وَهُوَ خِطَابٌ لَهُ فَضْلُ اخْتِصَاصٍ بِالْأَئِمَّةِ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، أُولَاهَا مَا سِيقَتْ لَهُ الْآيَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ.
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ. مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْقَتْلَ فِي الْقِصَاصِ، وَالدِّيَةِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى يَتَنَبَّهَ كُلُّ أَحَدٍ فَيُوصِي مُفَاجَأَةَ الْمَوْتِ، فَيَمُوتَ عَلَى غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى أَنَّ: كُتِبَ، أَصْلُهُ: الْعَطْفُ عَلَى. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وكُتِبَ عَلَيْكُمُ وَأَنَّ الْوَاوَ حُذِفَتْ لِلطُّولِ، بَلْ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ظَاهِرَةُ الِارْتِبَاطِ بِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَهُوَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَمَعْنَى حُضُورِ الْمَوْتِ أَيْ: حُضُورُ مُقَدِّمَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَعْرَاضِ الْمَخُوفَةِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ عَلَى أَسْبَابِ الْمَوْتِ مَوْتًا عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ «١» وَقَالَ عَنْتَرَةُ.
وَأَنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهِنْدُوَانِ
وَقَالَ جَرِيرٌ.
أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءُ
وَقَالَ غَيْرُهُ.
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا... قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ: إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وَالْخِطَابُ فِي: عَلَيْكُمْ، لِلْمُؤْمِنِينَ مُقَيَّدًا بِالْإِمْكَانِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّجَوُّزِ فِي حُضُورِ الْمَوْتِ، وَلَوْ جَرَى نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ: إِذَا حَضَرَكُمُ الْمَوْتُ، لَكِنَّهُ رُوعِيَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومِ فِي: عَلَيْكُمْ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، إِذَ الْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، ثُمَّ أُظْهِرَ ذَلِكَ الْمُضْمَرُ، إِذْ كَانَ يَكُونُ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَقِيلَ: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ، وَنَظِيرُ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى فِي الْعُمُومِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَسْتُ بِسَائِلٍ جَارَاتِ بَيْتِي أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ أَمْ شُهُودُ
فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ في رجالك لأنه رعى مَعْنَى الْعُمُومِ، إِذِ الْمَعْنَى وَلَسْتُ بِسَائِلٍ كُلَّ جَارَةٍ مِنْ جَارَاتِ بَيْتِي، فَجَاءَ قَوْلُهُ: أَغُيَّابٌ رِجَالُكِ، عَلَى مُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى. وَهَذَا شَيْءٌ غَرِيبٌ مُسْتَطْرَفٌ مِنْ علم العربية.
(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٧. [.....]
156
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَوْتِ هُنَا حَقِيقَتُهُ لَا مُقَدِّمَاتُهُ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْأَوْصِيَاءِ وَالْوَرَثَةِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ، إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ، إِنْفَاذُ الْوَصِيَّةِ وَالْعَمَلُ بِهَا، فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، بَلْ يُسْتَدَلُّ عَلَى وُجُوبِهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ.
إِنْ تَرَكَ خَيْراً يَعْنِي: مَالًا، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْخَيْرُ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ الْمَالُ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ «١» إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ «٢» فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً «٣» إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ «٤» وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْخَيْرِ، وَبِهِ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَغَيْرُهُمَا، قَالُوا: تَجِبُ فِيمَا قَلَّ وَفِيمَا كَثُرَ.
وَقَالَ أَبَانُ: مِائَتَا دِرْهَمِ فِضَّةً. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ عَلِيٌّ: وَقَتَادَةُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، وَقَالَ الْجَصَّاصُ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. هَذَا قَوْلُ مَنْ قَدَّرَ الْخَيْرَ بِالْمَالِ.
وَأَمَّا مَنْ قَدَّرَهُ بِمُطْلَقِ الْكَثْرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ، وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ، وَقِلَّتِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا أَرَى فَضْلًا فِي مَالٍ هُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ لِرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوصِي وَلَهُ عِيَالٌ، وَقَالَتْ فِي آخَرَ: لَهُ عِيَالٌ أَرْبَعَةٌ وَلَهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَإِنَّ هَذَا الشَّيْءَ يَسِيرٌ فَاتْرُكْهُ لِعَيَالِكَ.
وَعَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ مَوْلًى لَهُ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ وَلَهُ سَبْعُمِائَةٍ فَمَنَعَهُ، وَقَالَ: قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وَالْخَيْرُ: هُوَ الْمَالُ، وَلَيْسَ لَكَ مَالٌ.
انْتَهَى.
وَلَا يَدُلُّ عَدَمُ تَقْدِيرِ الْمَالِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَجِبْ، إِذِ الظَّاهِرُ التَّعْلِيقُ بِوُجُودِ مُطْلَقِ الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ غَيْرَ الظَّاهِرِ، فَيُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْإِيجَابِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ فِي الْخَيْرِ وَفِي تَسْمِيَتِهِ هُنَا وَجَعْلِهِ خَيْرًا إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَالٌ طَيِّبٌ لَا خَبِيثٌ، فَإِنَّ الْخَبِيثَ يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، وَيَأْثَمُ بِالْوَصِيَّةِ فِيهِ.
وَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَاجِبَةٌ، وَيُجْمَعُ لِلْوَارِثِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ والميراث بحكم الآيتين.
(١) سورة العاديات: ١٠٠/ ٨.
(٢) سورة ص: ٣٨/ ٣٢.
(٣) سورة النور: ٢٤/ ٣٣.
(٤) سورة هود: ١١/ ٨٤.
157
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ فِي التَّطَوُّعِ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ مُخَالِفًا لِلْمِيرَاثِ، بَلِ الْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ مِنْ تَوْرِيثِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِي قَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ «١».
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ كُتِبَ عَلَى الْمُحْتَضِرِ أَنْ يُوصِيَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِتَوْفِيرِ مَا أَوْصَى بِهِ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ أَنْصَابِهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَيُخَصَّصُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ بِأَنْ لَا يَكُونُوا وَارِثِينَ بَلْ أَرِقَّاءً أَوْ كُفَّارًا، كَمَا خُصِّصَ فِي الْمُوصَى بِهِ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وطاووس، وَالضَّحَّاكُ.
وَقَالَ: ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرِبَاءِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ جَائِزَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، وَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِهَا بُرْهَةً، وَنُسِخَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ يَرِثُ بِآيَةِ الْفَرَائِضِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَابْنُ زَيْدٍ: الْآيَةُ كُلُّهَا مَنْسُوخَةٌ. وَبَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ نَدْبًا، وَنَحْوُ هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَالِكٍ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَغَيْرُهُ: لَا وَصِيَّةَ، وَقِيلَ: كَانَتْ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فَنُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ،
وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ».
وَلِتَلَقِّي الْأُمَّةِ إِيَّاهُ بِالْقَبُولِ حَتَّى لَحِقَ بِالْمُتَوَاتِرِ. وَإِنْ كَانَ مِنَ الْآحَادِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَتَلَقَّوْنَ بِالْقَبُولِ إِلَّا الْمُثْبَتَ الَّذِي صَحَّتْ رِوَايَتُهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْوَصِيَّةُ لِلْقَرَابَةِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ فَمَعَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ تَرْكِهِمْ. وَقَالَ النَّاسُ، حِينَ مَاتَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَجَبًا لَهُ، أَعْتَقَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ رِيَاحٍ، وَأَوْصَى بِمَالِهِ لِبَنِي هَاشِمٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ وَلَا كَرَامَةَ، وَقَالَ طاووس: إِذَا أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى قَرَابَتِهِ وَنُقِضَ فِعْلُهُ، وَقَالَهُ جَابِرٌ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ إسحاق بن رَاهَوَيْهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، أَيْضًا، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى: يَبْقَى ثُلُثُ الْوَصِيَّةِ حَيْثُ جَعَلَهَا الْمَيِّتُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: إِذَا أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ وَتَرَكَ
(١) سورة النساء ٤/ ١١.
158
قَرَابَتَهُ جَازَ ذَلِكَ وَأُمْضِيَ، كَانَ الْمُوصَى لَهُ غَنِيًّا، أَوْ فَقِيرًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَظَاهِرُ: كَتْبِ، وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَنْ خَلَّفَ مَالًا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ:
لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عِنْدَهُ مَالٌ لِقَوْمٍ، فَأَمَّا مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَا وَدِيعَةَ عِنْدَهُ فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ، وَاسْتُدِلَّ
بِقَوْلِ النَّخَعِيِّ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُوصِ، وَبِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ، فَعَلَّقَ بِإِرَادَةِ الْوَصِيَّةِ.
وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا عَلَّقَهَا بِإِرَادَتِهِ. وَالْمُوصَى لَهُ، إِنْ كَانَ وَارِثًا وَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ جَازَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ. أَوْ قَاتِلًا عَمْدًا وَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ وَلَوْ أَوْصَى لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِمَالٍ، فَقَالَ: إِنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ وَإِلَّا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ وَإِلَّا كَانَ مِيرَاثًا. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَعْمَرٌ: يُمْضَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَلَوْ أَوْصَى الأجنبي بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَأَجَازَهُ الْوَرَثَةُ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُمُ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ أَجَازُوا ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتَّى يُجِيزُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَشُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِنِ اسْتَأْذَنَهُمْ فَأَذِنُوا فَكُلُّ وَارِثٍ بَائِنٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ، أَوْ كَانَ مِنْ عَمٍّ وَابْنِ عَمٍّ، أَنْ يَقْطَعَ نَفَقَتَهُ عَنْهُمْ إِنْ صَحَّ، فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: إِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي الصِّحَّةِ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، أَوْ فِي الْمَرَضِ فَلَا. وَقَوْلُ اللَّيْثِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ إِذَا أَجَازُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ.
وروي عن طاووس وَعَطَاءٍ: إِنْ أَجَازُوهُ فِي الْحَيَاةِ جَازَ عَلَيْهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ وَصِيَّةِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ فِي الصَّبِيِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَجُوزُ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ
159
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ الْمَنْعُ. لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُغَيِّرَ وَصِيَّتَهُ وَأَنْ يَرْجِعَ فِيهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَبَّرِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا دَبَّرَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: هُوَ وَصِيَّتُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ،
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ مُدَبَّرًا
، وَأَنَّ عَائِشَةَ بَاعَتْ مُدَبَّرَةً، وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ:
أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، فَلَهُ الرُّجُوعُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: فُلَانٌ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ التَّدْبِيرَ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَرْجِعْ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، فَكُلُّ هذا عندهم وصية.
وَاخْتَلَفُوا فِي الرُّجُوعِ فِي التَّدْبِيرِ بِمَاذَا يَكُونُ؟.
فَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا قَالَ: رَجَعْتُ فِي مُدَبَّرِي بَطَلَ التَّدْبِيرُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ إِلَّا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ رَجَعْتُ رُجُوعًا. وَمَنْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَلَمْ يُرِدِ الْوَصِيَّةَ وَلَا التَّدْبِيرَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ وَصِيَّةٌ؟ وَقَالَ أَشْهَبُ: هُوَ مُدَبَّرٌ.
وَكَيْفِيَّةُ الْوَصِيَّةِ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَكْتُبُونَهَا: هَذَا مَا أَوْصَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ «١» وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ، مِنْ أَهْلِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَقَّ تُقَاتِهِ، وَأَنْ يُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كانوا مؤمنين، ويوصوهم بِمَا أَوْصَى بِهِ إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «٢» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَبُنِيَ كُتِبَ لِلْمَفْعُولِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِلِاخْتِصَارِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَرْفُوعُ: كُتِبَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْوَصِيَّةُ، وَلَمْ يُلْحِقْ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ لِلْفِعْلِ لِلْفَصْلِ، لَا سِيَّمَا هُنَا، إِذْ طَالَ بِالْمَجْرُورِ وَالشَّرْطَيْنِ، وَلِكَوْنِهِ مُؤَنَّثًا غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، وَبِمَعْنَى الْإِيصَاءِ. وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْنَى: كُتِبَ، لِمُضِيِّ كُتِبَ وَاسْتِقْبَالِ الشَّرْطَيْنِ. وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَعْنَى: كُتِبَ الْوَصِيَّةُ عَلَى أَحَدِكُمْ إِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا فَلْيُوصِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَالْمَعْنَى: وَيَكُونُ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا جَاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يَقْتَضِي جَوَابًا فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمُقَدَّرُ جوابا للشرط الأول،
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٣٢.
160
وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّرْطِ الثَّانِي مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ دَلَّ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي شَرْطٌ فِي الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا لَفْظًا. وَاجْتِمَاعُ الشَّرْطَيْنِ غَيْرُ مَجْعُولٍ الثَّانِي جَوَابًا لِلْأَوَّلِ بِالْفَاءِ مِنْ أَصْعَبِ الْمَسَائِلِ النَّحْوِيَّةِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَوْفَيْنَاهُ فِيهِ فِي (كِتَابِ التَّكْمِيلِ) مِنْ تأليفنا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ.
وَقِيلَ: جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ مَحْذُوفٌ وَيُقَدَّرُ مِنْ مَعْنَى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةُ وَيُتَجَوَّزُ بِلَفْظِ: كُتِبَ، عَنْ لَفْظِ: يَتَوَجَّهُ إِيجَابُ الْوَصِيَّةِ عَلَيْكُمْ. حَتَّى يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا فيفسر الجواب، لأن مُسْتَقْبَلٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا ظَرْفًا مَحْضًا لَا شَرْطًا، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْعَامِلُ فِيهَا: كُتِبَ، عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَيَكُونُ جَوَابُ: إِنْ تَرَكَ خَيْراً مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ: كُتِبَ، عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ أَنْ يَكُونَ إِذَا مَعْمُولًا لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ وَمَوْصُولٌ، وَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُ الْمَوْصُولِ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمَعْمُولُ إِذَا كَانَ ظَرْفًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا مَحْضًا، وَهُوَ عِنْدَهُ الْمَصْدَرُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي نَحْوِ: الضَّارِبِ وَالْمَضْرُوبِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَوْجُودٌ هُنَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ فِي قَوْلِهِ.
أَبَعْلِيَ هَذَا بالرَّحَى المُتَقاعِسُ فَعَلَّقَ: بِالرَّحَى، بِلَفْظِ: الْمُتَقَاعِسِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَيُتَّجَهُ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ: كُتِبَ، هُوَ الْعَامِلُ فِي: إِذَا، وَالْمَعْنَى: تَوَجَّهَ إِيجَابُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مُقْتَضَى كِتَابِهِ إِذَا حَضَرَ، فَعَبَّرَ عَنْ تَوْجِيهِ الْإِيجَابِ: بكتب، لِيَتَنَظَّمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْأَزَلِ، وَالْوَصِيَّةُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ بكتب، وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ: إِذَا وَإِنْ، مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ كَمَا تَقُولُ: شَكَرْتُ فِعْلَكَ أَنْ جِئْتَنِي إِذَا كَانَ كَذَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ تَنَاقُضٌ لِأَنَّهُ قَالَ: الْعَامِلُ فِي إِذَا: كُتِبَ، وَإِذَا كَانَ الْعَامِلُ فِيهَا كُتِبَ تَمَحَّضَتْ لِلظَّرْفِيَّةِ وَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا، ثُمَّ قَالَ: وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ: إِذَا وَإِنْ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَإِذَا كَانَتْ إِذَا شَرْطًا فَالْعَامِلُ فِيهَا إِمَّا الْجَوَابُ، وَإِمَّا الْفِعْلُ بَعْدَهَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْعَامِلِ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ، وَيُفَرِّعُ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ هُوَ الْعَامِلُ فِي: إِذَا.
161
وَلَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَجَوَابُ الشَّرْطَيْنِ: إِذَا وَإِنْ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، وَمَا كَانَ مُقَدَّرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَلْفُوظُ بِهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ هُوَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ مِنْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مرفوع بكتب.
وَالزَّمَخْشَرِيُّ يُسَمِّي الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَاعِلًا وَهَذَا اصْطِلَاحُهُ، قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالْوَصِيَّةُ فَاعِلُ كُتِبَ، وَذُكِّرَ فِعْلُهَا لِلْفَاصِلِ، وَلِأَنَّهَا بِمَعْنَى: أَنْ يُوصِيَ، وَلِذَلِكَ ذُكِّرَ الرَّاجِعُ فِي قَوْلِهِ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ. اه.
وَنَبَّهْتُ عَلَى اصْطِلَاحِهِ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا المفعول الذي لم يسم فَاعِلُهُ فَاعِلًا سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ أَنْ تَرْتَفِعَ الْوَصِيَّةُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاءِ، وَالْخَبَرُ إِمَّا مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَعَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ. وَإِمَّا مَنْطُوقٌ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أَيْ: فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ جَوَابًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ: يكتب، مُضْمَرٌ. أَيِ: الْإِيصَاءُ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عطية في هَذَا الْوَجْهِ: وَيَكُونُ هَذَا الْإِيصَاءُ الْمُقَدَّرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْوَصِيَّةِ بَعْدُ، هُوَ الْعَامِلُ فِي إِذَا، وَتَرْتَفِعُ الْوَصِيَّةُ بِالِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَحْفَظْهُ وَيَكُونُ رَفْعُهَا بِالِابْتِدَاءِ بِتَقْدِيرِ. فَعَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ، أَوْ بِتَقْدِيرِ الْفَاءِ فَقَطْ كَأَنَّهُ قَالَ: فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ. اه. كَلَامُهُ. وَفِيهِ أَنَّ إِذَا مَعْمُولَةٌ لِلْإِيصَاءِ الْمُقَدَّرِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهِ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِبْدَاءُ تَنَاقُضِ ذَلِكَ، لِأَنَّ إِذَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْمُولَةٌ لِلْإِيصَاءِ لَا تَكُونُ شَرْطًا، وَمِنْ حَيْثُ إن الوصية فيه جواب إِذَا يَكُونُ شَرْطًا فَتَنَاقَضَا، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ شَرْطًا وَغَيْرَ شَرْطٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِيصَاءُ الْمُقَدَّرُ عَامِلًا فِي إِذَا أَيْضًا لِأَنَّكَ إِمَّا أَنْ تُقَدِّرَ هَذَا الْعَامِلَ فِي: إِذَا، لَفْظَ الْإِيصَاءِ بِحَذْفٍ، أَوْ ضَمِيرَ الْإِيصَاءِ: لَا، جائز أن يقدره لَفْظُ الْإِيصَاءِ حُذِفَ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ قَدَّرَ لَفْظَ: الْإِيصَاءِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَدِّرَهُ ضَمِيرَ الْإِيصَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِضَمِيرِ الْمَصْدَرِ لَمْ
162
يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ مِنْ شَرْطِ عَمَلِهِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنْ يَكُونَ مُظْهَرًا، وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ إِعْمَالُ لَفْظِ مضمر المصدر فمنويه أَحْرَى أَنْ لَا يَعْمَلَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفِيهِ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ كُلَّ شرط يقتضي جَوَابًا عَلَى حَذْفِهِ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ جَوَابًا لِشَرْطَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَيَّدَ سِيبَوَيْهِ.
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَحْفَظُهُ وَهُوَ تَحْرِيفٌ عَلَى سِيبَوَيْهِ، وَإِنَّمَا سِيبَوَيْهِ أَيَّدَهُ فِي كِتَابِهِ:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِتَقْدِيرِ فَعَلَيْهِ لوصية، أَوْ بِتَقْدِيرِ الْفَاءِ فَقَطْ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَكَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَصَفَّحْ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ، فَإِنَّ سِيبَوَيْهِ نَصَّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ عَنْهُ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَسَأَلْتُهُ، يَعْنِي الْخَلِيلَ، عَنْ قَوْلِهِ: إِنْ تَأْتِنِي أَنَا كَرِيمٌ، قَالَ: لَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ شَاعِرٌ مِنْ قِبَلِ: أَنَّ أَنَا كَرِيمٌ، يَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً، وَالْفَاءُ وَإِذَا لَا يَكُونَانِ إلّا معلقتين بما قبلها، فَكَرِهُوا أَنْ يَكُونَ هَذَا جَوَابًا حَيْثُ لَمْ يُشْبِهِ الْفَاءَ، وَقَدْ قَالَهُ الشَّاعِرُ مُضْطَرًّا، وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ السَّابِقَ.
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ...
وَذُكِرَ عَنِ الْأَخْفَشِ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِنَقْلِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي اضْطِرَارٍ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ تُقَامَ مَقَامَ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ: عَلَيْكُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى مَا نُقَرِّرُهُ، فَنَقُولُ: لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى أَحَدِهِمْ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا تَشَوَّفَ السَّامِعُ لِذِكْرِ الْمَكْتُوبِ مَا هُوَ، فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ مُبْتَدَأً، أَوْ خبرا لمبتدأ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَيَكُونُ جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا الْمَكْتُوبُ عَلَى أَحَدِنَا إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَتَرَكَ خَيْرًا؟ فَقِيلَ: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ هِيَ الْمَكْتُوبَةُ، أَوِ: الْمَكْتُوبُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَنَظِيرُهُ: ضُرِبَ بِسَوْطٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ زَيْدٌ الْمَضْرُوبُ أَوِ الْمَضْرُوبُ زَيْدٌ، فَيَكُونُ هذا جواب بالسؤال مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَنِ الْمَضْرُوبُ؟
وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ، وَأَقَلُّ تَكَلُّفًا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ
163
فَاعِلُهُ الْإِيصَاءَ، وَضَمِيرُ الْإِيصَاءِ، وَالْوَالِدَانِ مَعْرُوفَانِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «١».
وَالْأَقْرَبِينَ جَمْعُ الْأَقْرَبِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ دَخَلَ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَأَقْرَبُ مَا إِلَيْهِ الْوَالِدَانِ، فَصَارَ ذَلِكَ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، فَكَأَنَّهُمَا ذُكِرَا مَرَّتَيْنِ: تَوْكِيدًا وَتَخْصِيصًا عَلَى اتِّصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمَا، هَذَا مَدْلُولُ ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَعِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ: الْأَقْرَبُونَ الْأَوْلَادُ، أَوْ مَنْ عَدَا الْأَوْلَادِ، أَوْ جَمِيعُ الْقَرَابَاتِ، أَوْ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْأَقَارِبِ. أَقْوَالٌ.
بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: لَا يُوصِي بِأَزْيَدَ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَا لِلْغَنِيِّ دُونَ الْفَقِيرِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْأَخَلُّ فَالْأَخَلُّ، أَيِ: الْأَحْوَجُ فَالْأَحْوَجُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا حَيْفَ فِيهِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا مَوْكُولًا إِلَى اجْتِهَادِ الْمُوصِي، ثُمَّ بُيِّنَ ذَلِكَ وَقُدِّرَ: «بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ». وَقِيلَ: بِالْقَصْدِ الَّذِي تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ دُونَ إِضْرَارٍ بِالْوَرَثَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ يُوصُونَ بِالْمَالِ كُلِّهِ، وَقِيلَ:
بِالْمَعْرُوفِ مِنْ ماله غير المجهول.
وهذا الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إِلَى قَدْرِ مَا يُوصَى بِهِ، وَإِلَى تَمْيِيزِ مَنْ يُوصِي لَهُ، وَقَدْ لَخَّصَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَفَسَّرَهُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُوصِيَ لِلْغَنِيِّ وَيَدَعَ الْفَقِيرَ، وَلَا يَتَجَاوَزَ الثُّلُثَ، وَتَعَلَّقَ بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ: الْوَصِيَّةُ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ بِالْمَعْرُوفِ حَالًا مِنَ الْوَصِيَّةِ.
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ انْتَصَبَ: حَقًّا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَهَذَا تَأْبَاهُ الْقَوَاعِدُ النَّحْوِيَّةُ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: عَلَى الْمُتَّقِينَ إِذَنْ يَتَعَلَّقُ عَلَى بِ: حَقًّا، أَوْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَهُ، وَكِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يُخْرِجُهُ عَنِ التَّأْكِيدِ، أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِهِ فَلِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُؤَكَّدَ لَا يَعْمَلُ إِنَّمَا يَعْمَلُ الْمَصْدَرُ الَّذِي يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وَالْفِعْلِ أَوِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي الْأَمْرِ وَالِاسْتِفْهَامِ، عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا الْأَخِيرِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَأَمَّا جَعْلُهُ صفة:
لحقا أَيْ: حَقًّا كَائِنًا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنِ التَّأْكِيدِ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَتَخَصَّصُ بِالصِّفَةِ، وَجَوَّزَ الْمُعْرِبُونَ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، إِمَّا لِمَصْدَرٍ مِنْ: كتب عليكم،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨٣، وسورة النساء: ٤/ ٣٦، وسورة الأنعام: ٦/ ١٥١ وسورة الإسراء: ١٧/ ٢٣ والآية المقصودة هنا هي الأولى.
164
أَيْ: كَتْبًا حَقًّا، وَإِمَّا لمصدر مِنَ الْوَصِيَّةِ أَيْ إِيصَاءً حَقًّا، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أنه منصوب:
بالمتقين، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: عَلَى الْمُتَّقِينَ حَقًّا، كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا «١» لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الذِّهْنِ، وَلِتَقَدُّمِهِ عَلَى عَامِلِهِ الْمَوْصُولِ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِنْ مَعْنَى:
كُتِبَ، لِأَنَّ مَعْنَى: كُتِبَتِ الْوَصِيَّةُ، أَيْ: وَجَبَتْ وَحَقَّتْ، فَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، كَقَوْلِهِمْ: قَعَدْتُ جُلُوسًا، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كُتِبَ وَحَقًّا، الْوُجُوبُ، إِذْ مَعْنَى ذَلِكَ الْإِلْزَامُ عَلَى الْمُتَّقِينَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ: مَنِ اتَّقَى فِي أُمُورِ الْوَرَثَةِ أَنْ لَا يُسْرِفَ، وَفِي الْأَقْرَبِينَ أَنْ يُقَدِّمَ الْأَحْوَجَ فَالْأَحْوَجَ، وَقِيلَ: مَنِ اتَّبَعَ شَرَائِعَ الْإِيمَانِ الْعَامِلِينَ بِالتَّقْوَى قَوْلًا وَفِعْلًا، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَتَنْبِيهًا عَلَى عُلُوِّ مَنْزِلَةِ الْمُتَّقِينَ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: مَنِ اتَّقَى الْكُفْرَ وَمُخَالَفَةَ الْأَمْرِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ يَدُلُّ عَلَى نَدْبِ الْوَصِيَّةِ لَا عَلَى وُجُوبِهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَقَالَ: عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى مَا قَالَ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِالْمُتَّقِينَ: الْمُؤْمِنُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الْكُفْرَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ ذَلِكَ هنا..
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِمَعْنَى الْإِيصَاءِ، أَيْ: فَمَنْ بَدَّلَ الْإِيصَاءَ عَنْ وَجْهِهِ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ مِنَ الْأَوْصِيَاءِ وَالشُّهُودِ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ سَمَاعَ تَحَقُّقٍ وَتَثَبُّتٍ، وَعَوْدُهُ عَلَى الْإِيصَاءِ أَوْلَى مِنْ عَوْدِهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُرَاعَى فِي الضَّمَائِرِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنِ الْمُؤَنَّثِ الْمَجَازِيِّ، بَلْ يَسْتَوِي الْمُؤَنَّثُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ فِي ذَلِكَ تَقُولُ: هِنْدٌ خَرَجَتْ. وَالشَّمْسُ طَلَعَتْ، وَلَا يَجُوزُ طَلَعَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَالتَّذْكِيرُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى وَارِدٌ فِي لِسَانِهِمْ، وَمِنْهُ:
كَخُرْعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ ذهب إلى المعنى: الْقَضِيبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَقَضِيبِ الْبَانَةِ، وَمِنْهُ فِي الْعَكْسِ: جَاءَتْهُ كِتَابِي، فَاحْتَقَرَهَا عَلَى مَعْنَى الصَّحِيفَةِ.
وَالضَّمِيرُ فِي سَمِعَهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِيصَاءِ كَمَا شَرَحْنَاهُ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقِيلَ: الْهَاءُ، فِي: فَمَنْ بَدَّلَهُ عَائِدَةٌ إِلَى الْفَرْضِ، وَالْحُكْمِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنْ بَدَّلَ الْأَمْرَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَمَنْ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ: فَإِنَّما إِثْمُهُ وَتَكُونُ: مَنْ، عَامَّةً فِي كُلِّ مُبَدِّلٍ: مَنْ رَضِيَ بِغَيْرِ الْوَصِيَّةِ فِي كِتَابَةٍ، أَوْ قِسْمَةِ حُقُوقٍ، أو شاهد بغير
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٤.
165
شَهَادَةٍ، أَوْ يَكْتُمُهَا، أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَمْنَعُ حُصُولَ الْمَالِ وَوُصُولَهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وقيل:
المراد بمن: مُتَوَلِّي الْإِيصَاءِ دُونَ الْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الْعَدْلُ وَالْجَنَفُ وَالتَّبْدِيلُ وَالْإِمْضَاءُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: بمن: هُوَ الْمُوصِي، نُهِيَ عَنْ تَغْيِيرِ وَصِيَّتِهِ عَنِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْرِفُونَهَا إِلَى الْأَجَانِبِ، فَأُمِرُوا بِصَرْفِهَا إِلَى الْأَقْرَبِينَ.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ بَدَّلَهُ وَفِي قَوْلِهِ: بَعْدَ مَا سَمِعَهُ عَائِدًا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: بَعْدَ مَا سَمِعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَدِّلُ قَدْ عَلِمَ بِذَلِكَ، وَكَنَّى بِالسَّمَاعِ عَنِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ طَرِيقُ حُصُولِهِ. فَإِنَّما إِثْمُهُ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْإِيصَاءِ الْمُبَدَّلِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ بَدَّلَهُ، أَيْ: فَإِنَّمَا إِثْمُ التَّبْدِيلِ عَلَى الْمُبَدِّلِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا، فَإِنَّمَا وَبَالُهُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، فَإِنْ قَصَّرَ الْوَصِيُّ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، لَمْ يَلْحَقِ الْمَيِّتَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَرَاعَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى نسق اللَّفْظِ الْأَوَّلِ لَكَانَ: فَإِنَّمَا إِثْمُهُ، أَوْ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَيْهِ عَلَى الَّذِي يُبَدِّلُهُ، وَأَتَى فِي جُمْلَةِ الْجَوَابِ بِالظَّاهِرِ مَكَانَ الْمُضْمَرِ لِيُشْعِرَ بِعِلْيَةِ الْإِثْمِ الْحَاصِلِ، وَهُوَ التَّبْدِيلُ، وَأَتَى بِصِلَةِ: الَّذِينَ، مُسْتَقْبَلَةً جَرْيًا عَلَى الْأَصْلِ، إِذْ هُوَ مُسْتَقْبَلٌ.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِلْمُبَدِّلِينَ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَى تَبْدِيلِهِمْ شَرَّ الْجَزَاءِ، وَقِيلَ: سَمِيعٌ لِقَوْلِ الْمُوصِي، عَلِيمٌ بِفِعْلِ الْمُوصَى، وَقِيلَ: سَمِيعٌ لِوَصَايَاهُ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِ. وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَجِيئِهِ فِي أَثَرِ ذِكْرِ التَّبْدِيلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ.
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَوْفَ هُوَ الْخَشْيَةُ هُنَا، جَرْيًا عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ فِي الْخَوْفِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: بِتَوَقُّعِ الجنف أو الإثم من الْمُوصِي.
قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى: مَنْ خَشِيَ أَنْ يَجْنَفَ الْمُوصِي، وَيَقْطَعَ مِيرَاثَ طَائِفَةٍ، وَيَتَعَمَّدَ الْإِذَايَةَ أَوْ يَأْتِيَهَا دُونَ تَعَمُّدٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَنَفُ دُونَ إِثْمٍ، وَإِذَا تَعَمَّدَ فَهُوَ الْجَنَفُ فِي إِثْمٍ، فَوَعَظَهُ فِي ذَلِكَ وَرَدَّهُ، فَصَلُحَ بِذَلِكَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ عَنِ الْمُوصِي إِذَا عَمِلَتْ فِيهِ الْمَوْعِظَةُ وَرَجَعَ عَمَّا أَرَادَ مِنَ الْأَذِيَّةِ
166
رَحِيمٌ بِهِ. وَقِيلَ: يُرَادُ بِالْخَوْفِ هُنَا: الْعِلْمُ، أَيْ: فَمَنْ عَلِمَ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ «١».
وَقَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ.
أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا وَالْعُلْقَةُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالْعِلْمِ حَتَّى أُطْلِقَ عَلَى الْعِلْمِ الْخَوْفُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخَافُ شَيْئًا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مِمَّا يُخَافُ مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوْفَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ ظَنٍّ مَخْصُوصٍ، وَبَيْنَ الظَّنِّ وَالْعِلْمِ مُشَابَهَةٌ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَلِذَلِكَ صَحَّ إِطْلَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَعَلَى الْخَوْفِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ خَافَ، أَيْ عَلِمَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَنَّ الْمُوصِيَ حَافَ وَجَنَفَ وَتَعَمَّدَ إِذَايَةَ بَعْضِ وَرَثَتِهِ، فَأَصْلَحَ مَا وَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالشِّقَاقِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، أَيْ:
لَا يَلْحَقُهُ إِثْمُ التَّبْدِيلِ الْمَذْكُورِ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ تَبْدِيلُهَا، وَلَكِنَّهُ تَبْدِيلٌ لِمَصْلَحَةٍ، وَالتَّبْدِيلُ الَّذِي فِيهِ الْإِثْمُ إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيلُ الْهَوَى.
وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي عَطِيَّتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَأَعْطَى بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ في ذلك.
وقال طاووس: الْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي وَصِيَّتِهِ لِغَيْرِ وَرَثَتِهِ بِمَا يَرْجِعُ بَعْضُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَنْ يُوصِيَ لِلْأَجَانِبِ وَيَتْرُكَ الْأَقَارِبَ، فَيَرُدَّ إِلَى الْأَقَارِبِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْإِصْلَاحُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ بِآبَائِهِ وَأَقْرِبَائِهِ جَنَفًا عَلَى بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَقْرِبَاءِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ وَاقِعٍ، وَأَمْرٍ غَيْرِ وَاقِعٍ، فَإِنْ كانت
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٩.
167
الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً أَمَرَ الْمُوصِي بإصلاحه، وَرَدَّ مِنَ الْجَنَفِ إِلَى النَّصَفِ، وَإِنْ كَانَتْ مَاضِيَةً أَصْلَحَهَا الْمُوصَى إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُوصِيَ لِوَلَدِ ابْنَتِهِ، يَقْصِدُ بِهَا نَفْعَ ابْنَتِهُ، وَهَذَا راجع إلى قول طاووس الْمُتَقَدِّمِ.
وَإِذَا فَسَّرْنَا الْخَوْفَ بِالْخَشْيَةِ، فَالْخَوْفُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي أَمْرٍ مُرْتَبِطٍ وَالْوَصِيَّةُ قَدْ وَقَعَتْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَعْلِيقُهَا بِالْخَوْفِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُصْلِحَ إِذَا شَاهَدَ الْمُوصِيَ يُوصِي، فَظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الْجَنَفِ أَوِ التَّعَدِّي بِزِيَادَةِ غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، أَوْ نَقْصِ مُسْتَحِقٍّ، أَوْ عَدَلَ عَنْ مُسْتَحِقٍّ، فَأَصْلَحَ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَمَارَاتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِالْجَنَفِ وَالْإِثْمِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعَلِّقَ بِالْخَوْفِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَمْضِ بَعْدُ وَلَمْ تَقَعْ، أَوْ عَلَّقَ بِالْخَوْفِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ لِأَنَّهُ لَهُ أَنْ يَنْسَخَهَا أَوْ يُغَيِّرَهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَلَمْ يَصِرِ الْجَنَفُ أَوِ الْإِثْمُ مَعْلُومَيْنِ، لِأَنَّ تَجْوِيزَ الرُّجُوعِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ أَوْ عَلَّقَ بِالْخَوْفِ. وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ اسْتَقَرَّتْ وَمَاتَ الْمُوصِي، يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ مُصَالَحَةٌ عَلَى وَجْهٍ يَزُولُ بِهِ الْمَيْلُ وَالْخَطَأُ، فَلَمْ يَكُنِ الْجَنَفُ وَلَا الْإِثْمُ مُسْتَقِرًّا، فَعَلَّقَ بِالْخَوْفِ. وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَقْوَى، وَمَنْ: شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ: فَلَا إِثْمَ عليه: ومِنْ مُوصٍ مُتَعَلِّقٌ، بِخَافَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَائِنًا مِنْ مُوصٍ، وَتَكُونُ حَالًا، إِذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، كَقَوْلِهِ: جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَلَمَّا تَقَدَّمَ صَارَ حَالًا، وَيَكُونُ الْخَائِفُ فِي هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ، لَيْسَ الْمُوصِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: مِنْ، لِتَبْيِينِ جِنْسِ الْخَائِفِ، فَيَكُونُ الْخَائِفُ بَعْضَ الْمُوصِينَ عَلَى حَدِّ، مَنْ جَاءَكَ مِنْ رَجُلٍ فَأَكْرِمْهُ، أَيْ: مَنْ جَاءَكَ مِنَ الرِّجَالِ فَالْجَائِي رَجُلٌ، وَالْخَائِفُ هُنَا مُوصٍ.
وَالْمَعْنَى: فَمَنْ خَافَ مِنَ الْمُوصِي جنفا أو إثما من وَرَثَتِهِ وَمَنْ يُوصِي لَهُ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَى الْمُوصِي الْمُصْلِحِ، وَهَذَا مَعْنَى لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُفَسِّرُونَ، إِنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْمُوصِيَ مَخُوفٌ مِنْهُ لَا خَائِفٌ، وَأَنَّ الْجَنَفَ أَوِ الْإِثْمَ مِنَ الْمُوصِي لَا مَنْ وَرَثَتِهِ، وَلَا مَنْ يُوصِي لَهُ.
وَأَمَالَ حَمْزَةُ خافَ وَقَرَأَ هُوَ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بكر: موص، من، وصا وَالْبَاقُونَ:
مُوصٍ، مِنْ: أَوْصَى، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَنَفًا، بِالْجِيمِ وَالنُّونِ، وَقَرَأَ عَلِيٌّ: حَيْفًا، بِالْحَاءِ وَالْيَاءِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْجَنَفُ الْجَهَالَةُ بِمَوْضِعِ الْوَصِيَّةِ، وَالْإِثْمُ: الْعُدُولُ عَنْ مَوْضِعِهَا،
168
وَقَالَ عَطَاءٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْجَنَفُ: الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَثِمَ فِي إِيثَارِهِ بَعْضَ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْجَنَفُ: الْخَطَأُ، وَالْإِثْمُ الْعَمْدُ.
وَأَمَّا الْحَيْفُ فَمَعْنَاهُ: الْبَخْسُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُرِيدَ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ الْوَرَثَةِ دُونَ بَعْضٍ قال الفراء: تحيف: مال أَيْ: نَقَصَهُ مِنْ حَافَاتِهِ،
وَرُوِيَ: مَنْ حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ أُلْقِيَ فِي أَلْوَى، وَأَلْوَى وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.
فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ، أَوْ عَلَى الْمُوصَى لَهُمَا وَعَلَى الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقَاوِيلِ الَّتِي سَبَقَتْ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُمْ، إِذْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَفْظُ: الْمُوصِي، لَمَّا ذَكَرَ الْمُوصِيَ أَفَادَ مَفْهُومُ الْخِطَابِ أَنَّ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَأَداءٌ إِلَيْهِ «١» أَيْ: إِلَى الْعَافِي، لِدَلَالَةِ مَنْ عُفِيَ لَهُ، وَمِنْهُ مَا أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
فَقَالَ: أَيُّهُمَا، فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الشَّرِّ، لَكِنَّهُ تَقَدَّمَ الْخَيْرُ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الشَّرِّ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمُصْلِحَ هُوَ الْوَصِيُّ، وَالْمُشَاهِدُ وَمَنْ يَتَوَلَّى بَعْدَ مَوْتِهِ ذَلِكَ مِنْ وَالٍ، أَوْ وَلِيٍّ، أَوْ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ: فَمَنْ خافَ إِذَا ظَهَرَتْ لَهُمْ أَمَارَاتُ الْجَنَفِ أَوِ الْإِثْمِ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْخَائِفِ بِالْوَصِيِّ، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ هَذَا الْإِصْلَاحِ فَبِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ، أَوْ كَفٍّ لِلْعُدْوَانِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يَعْنِي: فِي تَبْدِيلِ الْوَصِيَّةِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَالضَّمِيرُ: عَلَيْهِ، عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ: فَأَصْلَحَ، وَضَمِيرُ: خَافَ، وَهُوَ:
مَنْ، وَهُوَ: الْخَائِفُ الْمُصْلِحُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن عُمَرَ الرَّازِيُّ، لَمَّا ذَكَرَ الْمُبَدِّلَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: وَكَانَ هَذَا مِنَ التَّبْدِيلِ بَيَّنَ مُخَالَفَتَهُ لِلْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ رَدَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدَدِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُصْلِحُ يُنْقِصُ الْوَصَايَا، وَذَلِكَ يَصْعُبُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، أَزَالَ الشُّبْهَةَ بِقَوْلِهِ: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي، وَصَرَفَ مَالَهُ عَنْ مَنْ أَحَبَّ إِلَى مَنْ يَكْرَهُ.
انْتَهَى. وَهَذَا يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الْإِصْلَاحَ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِكْثَارِ من
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧٨.
169
الْقَوْلِ، وَقَدْ يَتَخَلَّلُهُ بَعْضُ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا إِثْمَ فِيهِ إِذَا كَانَ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ إِذَا خَافَ مَنْ يُرِيدُ الصُّلْحَ إِفْضَاءَ تِلْكَ الْمُنَازَعَةِ إِلَى أَمْرٍ مَحْذُورٍ فِي الشَّرْعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قِيلَ: غَفُورٌ لِمَا كَانَ مِنَ الْخَائِفِ، وَقِيلَ: لِلْمُصْلِحِ رَحِيمٌ حَيْثُ رَخَّصَ، وَقِيلَ: غَفُورٌ لِلْمُوصِي فِيمَا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْجَنَفِ وَالْخَطَأِ وَالْعَهْدِ وَالْإِثْمِ إِذْ رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ، رَحِيمٌ لِلْمُصْلِحِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ مُتَجَاوِزٌ عَنْ مَا عَسَى أَنْ يسقط من المصلح ما لَمْ يَجُرْ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ، أَنَّ الْبِرَّ لَيْسَ هُوَ تَوْلِيَةُ الْوُجُوهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، بَلِ الْبِرُّ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا كُلِّفَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ، اعْتِقَادًا وَفِعْلًا وَقَوْلًا.
فَمِنَ الِاعْتِقَادِ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ هُمْ وَسَائِطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، وَكُتُبِهِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى أيدي الملائكة، وأنبيائه المتقين. تِلْكَ الْكُتُبَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَنِ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، مِنْ: إِيتَاءِ الْمَالِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالصَّبْرِ فِي الشَّدَائِدِ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَنِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ فَهُوَ الصَّابِرُ الْمُتَّقِي، وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ قَبْلُ مَا حَلَّلَ وَمَا حَرَّمَ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَنْ أَخَذَ مَالًا من غير حله، وعده بِالنَّارِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْبِرِّ التَّامِّ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي انْطَوَوْا عَلَيْهَا، أَخَذَ تَعَالَى يَذْكُرُ مَا حَرَّمَ مِنَ الدِّمَاءِ، وَيَسْتَدْعِي صَوْنَهَا، وَكَانَ تَقْدِيمُ ذِكْرِ الْمَأْكُولِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِالْأَكْلِ، فَشَرَعَ الْقِصَاصَ، وَلَمْ يُخْرِجْ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْقَتْلُ وَاقْتُصَّ مِنْهُ عَنِ الْإِيمَانِ، أَلَا تَرَاهُ قَدْ نَادَاهُ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَفَصَّلَ شَيْئًا مِنَ الْمُكَافَأَةِ فَقَالَ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى «١» ثُمَّ أَخْبَرَ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ عَفْوٌ مِنَ الْوَلِيِّ عَلَى دِيَةٍ فَلْيَتَّبِعِ الْوَلِيُّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُؤَدِّيَ الْجَانِي بِالْإِحْسَانِ لِيَزْرَعَ بِذَلِكَ الْوُدَّ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْوَلِيِّ، وَيُزِيلَ الْإِحَنَ، لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْعَفْوِ تَسْتَدْعِي عَلَى التآلف والتحاب وُصَفَاءَ الْبَوَاطِنِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْهُ تَعَالَى، إِذْ فِيهِ صَوْنُ نَفْسِ الْقَاتِلِ بِشَيْءٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، إِذْ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ بِمَنْ قَتَلَ، وَكَانَ عَاقِلًا، مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، إِذْ فِي ذلك إتلاف نفس
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧٨.
170
الْمَقْتُولِ وَإِتْلَافُ نَفْسِ قَاتِلِهِ، فَيَصِيرُ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْقِصَاصِ مُتَحَرِّزًا مِنْ أَنْ يَقْتُلَ فَيُقْتَلَ، فَيُحْيِي بِذَلِكَ مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ وَهُوَ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحَيَاتَيْهِمَا.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَشْرُوعِيَّةَ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَذَكَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَتَوَعَّدَ مَنْ بَدَّلَ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ مَا عَلِمَهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْمُوصَى إِلَيْهِمْ إِذَا كَانَ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا مِنَ الْمُوصِي، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مِنَ التَّبْدِيلِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِثْمُ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ حَاوِيَةً لِمَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُكَلَّفِ مِنْ بَدْءِ حَالِهِ وَهُوَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَخَتْمِ حَالِهِ وَهُوَ: الْوَصِيَّةُ عِنْدَ مَفَارَقَهِ هَذَا الْوُجُودِ، وَمَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا مِمَّا يَعْرِضُ مِنْ مَبَارِّ الطَّاعَاتِ، وَهَنَاتِ الْمَعَاصِي، مِنْ غَيْرِ اسْتِيعَابٍ لِأَفْرَادِ ذَلِكَ، بَلْ تَنْبِيهًا عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَمَا بَعْدَهَا وَعَلَى أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ، وَهُوَ:
قَتْلُ النَّفْسِ، فَتَعَالَى مَنْ كَلَامُهُ فَصْلٌ، وَحُكْمُهُ عدل.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٣ الى ١٨٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
171
الصيام والصوم: مصدران لصام، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مُمْسِكٍ صَائِمًا، وَمِنْهُ الصَّوْمُ فِي الْكَلَامِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً «١» أَيْ سُكُوتًا فِي الْكَلَامِ، وَصَامَتِ الرِّيحُ: أَمْسَكَتْ عَنِ الْهُبُوبِ، وَالدَّابَّةُ: أَمْسَكَتْ عَنِ الْأَكْلِ وَالْجَرْيِ، وَقَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
أَيْ: مُمْسِكَةٌ عَنِ الْجَرْيِ. وَتُسَمَّى الدَّابَّةُ الَّتِي لَا تَدُورُ: الصَّائِمَةَ، قَالَ الرَّاجِزُ.
وَالْبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ وَقَالُوا: صَامَ النَّهَارُ: ثَبَتَ حَرُّهُ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ وَاشْتَدَّ، وَقَالَ.
ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا وَقَالَ:
حَتَّى إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ وَمَالَ لِلشَّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ
وَمَصَامُ النُّجُومِ، إِمْسَاكُهَا عَنِ اليسر وَمِنْهُ.
كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي مَصَامِهَا فَهَذَا مَدْلُولُ الصَّوْمِ مِنَ اللُّغَةِ. وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهُوَ: إِمْسَاكٌ عَنْ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَيُبَيَّنُ فِي الْفِقْهِ.
الطَّاقَةُ، وَالطَّوْقُ: الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، وَيُقَالُ: طَاقَ وَأَطَاقَ كَذَا، أَيِ: اسْتَطَاعَهُ وَقَدَرَ عليه، قال أبو ذنب:
فَقُلْتُ لَهُ احْمِلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إِنَّهَا مُطَبَّعَةٌ مَنْ يَأْتِهَا لَا يَضِيرُهَا
الشَّهْرُ مَصْدَرُ: شَهَرَ الشَّيْءَ يَشْهَرُهُ، أَظْهَرَهُ وَمِنْهُ الشُّهْرَةُ، وَبِهِ سمي الشهر، وهو:
(١) سورة مريم: ١٩/ ٢٦.
172
الْمُدَّةُ الزَّمَانِيَّةُ الَّتِي يَكُونُ مبدؤ الْهِلَالِ فِيهَا خَافِيًا إِلَى أَنْ يَسْتَسِرَّ، ثُمَّ يَطْلُعُ خَافِيًا. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِشُهْرَتِهِ فِي حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِهِمْ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الشَّهْرُ الْهِلَالُ. قَالَ.
وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلَامَةِ الظُّفُرِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبَيَانِهِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا بِاسْمِ الْهِلَالِ إِذَا أَهَلَّ سُمِّيَ شَهْرًا، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: رَأَيْتُ الشَّهْرَ أَيْ: هِلَالَهُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ (شعر).
تَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهُوَ نَحِيلُ وَيُقَالُ: أَشْهَرْنَا، أَيْ: أَتَى عَلَيْنَا شَهْرٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ فِعْلًا إِلَّا هَذَا، وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: يُقَالُ شَهَرَ الْهِلَالُ إِذَا طَلَعَ، وَيُجْمَعُ الشَّهْرُ قِلَّةً عَلَى: أَفْعُلٍ، وَكَثْرَةً عَلَى: فُعُولٍ، وَهُمَا مَقِيسَانِ فِيهِ.
رَمَضَانُ عَلَمٌ عَلَى شَهْرِ الصَّوْمِ، وَهُوَ عَلَمُ جِنْسٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى: رَمَضَانَاتٍ وَأَرْمِضَةٍ، وَعُلْقَةُ هَذَا الِاسْمِ مِنْ مُدَّةٍ كَانَ فِيهَا فِي الرَّمَضِيِّ، وَهُوَ: شدة الحرة، كَمَا سُمِّيَ الشَّهْرُ رَبِيعًا مِنْ مُدَّةِ الرَّبِيعِ، وَجُمَادَى مِنْ مُدَّةِ الْجُمُودِ، وَيُقَالُ: رَمَضَ الصَّائِمُ يَرْمَضُ: احْتَرَقَ جَوْفُهُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، وَرَمَضَتِ الْفِصَالُ: أَحْرَقَ الرَّمْضَاءُ أَخْفَافَهَا فَبَرَكَتْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَانْزَوَتْ إِلَى ظِلِّ أُمَّهَاتِهَا، وَيُقَالُ: أَرْمَضَتْهُ الرَّمْضَاءُ: أَحْرَقَتْهُ، وَأَرْمَضَنِي الْأَمْرُ.
وَقِيلَ: سُمِّيَ رَمَضَانُ لِأَنَّهُ يَرْمَضُ الذُّنُوبَ، أَيْ: يُحْرِقُهَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقِيلَ:
لِأَنَّ الْقُلُوبَ تحترمنّ الْمَوْعِظَةِ فِيهِ وَالْفِكْرَةِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: مِنْ رَمَضْتُ النَّصْلَ: رَقَّقْتُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ لِيَرِقَّ، وَمِنْهُ: نَصْلٌ رَمِيضٌ وَمَرْمُوضٌ، عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ. وَكَانُوا يَرْمِضُونَ أَسْلِحَتَهُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ لِيُحَارِبُوا بِهَا فِي شَوَّالَ قَبْلَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ الْحَرَامِ، وَكَانَ هَذَا الشَّهْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى: نَاتِقًا أَنْشَدَ الْمُفَضَّلُ.
وفي ناتق أحلت لدى حرمة الْوَغَى وَوَلَّتْ عَلَى الْأَدْبَارِ فُرْسَانُ خَثْعَمَا
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الرَّمَضَانُ، مَصْدَرُ رَمِضَ إِذَا احْتَرَقَ مِنَ الرَّمْضَاءِ. انْتَهَى. وَيُحْتَاجُ فِي تَحْقِيقِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ إِلَى صِحَّةِ نَقْلٍ لِأَنَّ فَعَلَانًا لَيْسَ مَصْدَرَ فَعِلَ اللَّازِمِ، بَلْ إِنْ جَاءَ فِيهِ ذَلِكَ كَانَ شَاذًّا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مرتجلا لا مَنْقُولًا.
وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّمَضِ، وَهُوَ مَطَرٌ يَأْتِي قَبْلَ الْخَرِيفِ يُطَهِّرُ الْأَرْضَ مِنَ الْغُبَارِ.
173
الْقُرْآنُ: مَصْدَرُ قَرَأَ قُرْآنًا. قَالَ حَسَّانُ، رَضِيَ اللَّهُ عنه.
محوا باسمك عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا
أَيْ: وَقِرَاءَةً وَأُطْلِقَ عَلَى مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصَارَ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ فِي الْأَصْلِ، وَمَعْنَى: قُرْآنٍ، بِالْهَمْزِ:
الْجَمْعُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ السُّوَرَ، كَمَا قِيلَ فِي الْقَرْءِ، وَهُوَ: إِجْمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ أَوَّلًا، لِأَنَّ الْقَارِئَ يُلْقِيهِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مِنْ قَوْلِ العرب: ما قرأن هذه الناقة سلاقط: أَيْ: مَا رَمَتْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ فَالْأَظْهَرُ أن يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ النَّقْلِ وَالْحَذْفِ، أَوْ تَكُونَ النُّونُ أَصْلِيَّةً مِنْ:
قَرَنْتُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ: ضَمَمْتُهُ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَالْحُرُوفِ مُقْتَرِنٌ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ. أَوْ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالشَّرَائِعِ كَذَلِكَ، أو ما فيه من الدَّلَائِلِ وَمِنَ الْقَرَائِنِ، لِأَنَّ آيَاتِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَمَنْ زَعَمَ مِنْ: قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، أَيْ: جَمَعْتُهُ، فَقَوْلُهُ فَاسِدٌ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ.
السَّفَرُ: مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَلْقَتْ خِمَارَهَا، وَالْمَصْدَرُ السُّفُورُ. قَالَ الشَّاعِرُ.
وَكُنْتُ إِذَا مَا جِئْتُ لَيْلَى تَبَرْقَعَتْ فَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا الْغَدَاةَ سُفُورُهَا
وَتَقُولُ: سَفَرَ الرَّجُلُ أَلْقَى عِمَامَتَهُ، وَأَسْفَرَ الْوَجْهُ، وَالصُّبْحُ أَضَاءَ. الْأَزْهَرِيُّ سُمِّيَ مُسَافِرًا لِكَشْفِ قِنَاعِ الْكِنِّ عَنْ وَجْهِهِ، وَبُرُوزِهِ لِلْأَرْضِ الْفَضَاءِ، وَالسَّفْرُ، بِسُكُونِ الْفَاءِ:
الْمُسَافِرُونَ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ: كَالصَّحْبِ وَالرَّكْبِ، وَالسِّفْرُ مِنَ الْكُتُبِ: وَاحِدُ الْأَسْفَارِ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَمَّا تَضَمَّنَهُ.
الْيُسْرُ: السهولة، يسّر: سهّل، ويسر: سَهَّلَ، وَأَيْسَرَ: اسْتَغْنَى، وَيَسَرَ، مِنَ الْمَيْسِرِ، وَهُوَ: قِمَارٌ، مَعْرُوفٌ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ:
لَا يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا وَكُلُّ مَا يَسَرَ الْأَقْوَامُ مَغْرُومُ
وَسُمِّيَتِ الْيَدُ الْيُسْرَى تَفَاؤُلًا، أَوْ لِأَنَّهُ يَسْهُلُ بِهَا الْأَمْرُ لِمُعَاوَنَتِهَا الْيُمْنَى.
الْعُسْرُ: الصُّعُوبَةُ وَالضِّيقُ، وَمِنْهُ أَعْسَرَ إِعْسَارًا، وَذُو عُسْرَةٍ، أَيْ: ضِيقٍ.
الْإِكْمَالُ: الْإِتْمَامُ.
وَالْإِجَابَةُ: قَدْ يُرَادُ بِهَا السَّمَاعُ،
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: قَدْ
174
أَجَبْتُكَ. وَقَالُوا: دَعَا مَنْ لَا يُجِيبُ
، أَيْ: مَنْ لَا يَسْمَعُ، كَمَا أَنَّ السَّمَاعَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِجَابَةُ،
وَمِنْهُ: سَمِعَ اللَّهُ مِنْ حَمِدَهُ.
وَأَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ قَالَ:
دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ
وَجِهَةُ الْمَجَازِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَالْإِجَابَةُ حَقِيقَةُ إِبْلَاغِ السَّائِلِ مَا دَعَا بِهِ، وَأَجَابَ وَاسْتَجَابَ بمعنى، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، يُقَالُ: جَابَ يَجُوبُ:
قَطَعَ، فَكَأَنَّ الْمُجِيبَ اقْتَطَعَ لِلسَّائِلِ مَا سَأَلَ أَنْ يُعْطَاهُ، وَيُقَالُ: أَجَابَتِ السَّمَاءُ بِالْمَطَرِ، وَأَجَابَتِ الْأَرْضُ بِالنَّبَاتِ، كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَأَلَ صَاحِبَهُ فَأَجَابَهُ بِمَا سَأَلَ.
قَالَ زُهَيْرٌ.
وَغَيْثٍ مِنَ الْوَسْمِيِّ حُلْوٍ بَلَاغُهُ أَجَابَتْ رَوَابِيهِ النجا وهواطل
الرُّشْدُ: ضِدُّ الْغَيِّ، يُقَالُ: رَشَدَ بِالْفَتْحِ، رُشْدًا، وَرَشِدَ بِالْكَسْرِ رَشَدًا، وَأَرْشَدْتُ فُلَانًا: هَدَيْتُهُ، وَطَرِيقٌ أَرْشَدُ، أَيْ: قَاصِدٌ، وَالْمَرَاشِدُ: مَقَاصِدُ الطَّرِيقِ، وَهُوَ لِرِشْدَةٍ، أَيْ:
هُوَ لِحَلَالٍ، وَهُوَ خِلَافُ هُوَ لزنية، وأم راشد: المفازة، وَبَنُو رَشْدَانَ: بَطْنٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَبَنُو رَاشِدٍ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْبَرْبَرِ.
الرَّفَثُ: مَصْدَرُ رَفَثَ، وَيُقَالُ: أَرَفَثَ: تَكَلَّمَ بِالْفُحْشِ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزَّجَّاجُ، وَغَيْرُهُمَا: الرَّفَثُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
فَقِيلَ لَهُ: أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ: إِنَّمَا الرَّفَثُ عِنْدَ النِّسَاءِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبِنْيَةَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْهَا كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
وَقِيلَ: الرَّفَثُ: الْجِمَاعُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَيُرَيْنَ مِنْ أُنْسِ الْحَدِيثِ زَوَانِيًا وَلَهُنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نفار
وبقول الآخر.
175
وبقول الآخر:
فيأتوا يَرْفُثُونَ وَبَاتَ مِنَّا رِجَالٌ فِي سِلَاحِهِمُ رُكُوبَا
فظلنا هناك فِي نِعْمَةٍ وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرِ الرَّفَثْ
وَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ، إِذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْمُقَدِّمَاتِ: كَالْقُبْلَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْمُلَاعَبَةِ.
اخْتَانَ: مِنَ الْخِيَانَةِ، يُقَالُ: خَانَ خَوْنًا وَخِيَانَةً، إِذَا لَمْ يَفِ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْأَمَانَةِ، وَتَخَوَّنْتُ الشَّيْءَ: نَقَصْتُهُ، وَمِنْهُ الْخِيَانَةُ، وَهُوَ يَنْقُصُ الْمُؤْتَمَنَ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
بِآرِزَةِ الْفَقَارَةِ لَمْ يَخُنْهَا قِطَافٌ فِي الرِّكَابِ وَلَا خِلَاءُ
وَتَخَوَّنَهُ وَتَخَوَّلَهُ: تَعَهَّدَهُ.
الْخَيْطُ: مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى فُعُولٍ وَهُوَ فِيهِ مَقِيسٌ، أَعْنِي فِي فعل الاسم الياء الْعَيْنِ نَحْوَ: بَيْتٍ وَبُيُوتٍ، وَجَيْبٍ وَجُيُوبٍ، وَغَيْبٍ وَغُيُوبٍ، وَعَيْنٍ وَعُيُونٍ، وَالْخَيْطُ، بِكَسْرِ الْخَاءِ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّعَامِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَقَالَ أَلَا هَذَا صُوَارٌ وَعَانَةٌ وَخَيْطُ نعام يرتقي متفرق
البياض والسوداء: لَوْنَانِ مَعْرُوفَانِ، يُقَالُ مِنْهُمَا: بِيضٌ وَسُودٌ. فَهُوَ أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ، وَلَمْ يُعَلَّ الْعَيْنُ بِالنَّقْلِ وَالْقَلْبِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى مَا يَصِحُّ وَهُمَا: أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ.
الْعُكُوفُ: الْإِقَامَةُ، عَكَفَ بِالْمَكَانِ: أَقَامَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ «١» وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يَصِفُ الْجِفَانَ:
تَرَى حَوْلَهُنَّ الْمُعْتَفِينَ كَأَنَّهُمْ عَلَى صَنَمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ
وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ:
بَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفًا عُكُوفَ الْبَوَاكِيَ بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ
وَفِي الشَّرْعِ عبارة عن عكوف مخصوف، وَقَدْ بُيِّنَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
الْحَدُّ: قَالَ اللَّيْثُ: حَدُّ الشَّيْءِ: مُنْتَهَاهُ وَمُنْقَطَعُهُ، وَالْمُرَادُ بِحُدُودِ اللَّهِ مُقَدَّرَاتُهُ بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ.
الْإِدْلَاءُ: الْإِرْسَالُ لِلدَّلْوِ، اشْتُقَّ مِنْهُ فِعْلٌ، فَقَالُوا: أَدْلَى دَلْوَهُ، أَيْ: أَرْسَلَهَا لِيَمْلَأَهَا، وَقِيلَ: أَدْلَى فُلَانٌ بِمَالِهِ إِلَى الْحَاكِمِ: رَفَعَهُ. قَالَ:
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٣٨. [.....]
176
وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا حَاجَةٌ عَرَضَتْ بِبَابِ دَارِكَ أَدْلُوهَا بِأَقْوَامِ
وَيُقَالُ: أَدْلَى فُلَانٌ بِحُجَّتِهِ: قَامَ بِهَا، وَتَدَلَّى مِنْ كَذَا أَيْ: هَبَطَ. قَالَ:
كَتَيْسِ الظِّبَاءِ الْأَعْفَرِ انْضَرَجَتْ لَهُ عُقَابٌ تَدَلَّتْ مِنْ شَمَارِيخِ ثَهْلَانِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قبلها أَنَّهُ أَخْبَرَ تَعَالَى: أَوَّلًا: بِكَتْبِ الْقِصَاصِ وَهُوَ: إِتْلَافُ النُّفُوسِ، وَهُوَ مِنْ أَشَقِّ التَّكَالِيفِ، فَيَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ إِسْلَامُ نَفْسِهِ لِلْقَتْلِ، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِكَتْبِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ: إِخْرَاجُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ عَدِيلُ الرُّوحِ، ثُمَّ انْتَقَلَ ثَالِثًا إِلَى كَتْبِ الصِّيَامِ، وَهُوَ: مُنْهِكٌ لِلْبَدَنِ، مُضْعِفٌ لَهُ، مَانِعٌ وَقَاطِعٌ مَا أَلِفَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْغِذَاءِ بِالنَّهَارِ، فَابْتِدَاءٌ بِالْأَشَقِّ ثُمَّ بِالْأَشَقِّ بَعْدَهُ، ثُمَّ بالشاق فبهذا انْتِقَالٌ فِيمَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ فِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ ذَكَرَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةً:
الْإِيمَانَ، وَالصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، فَأَتَى بِهَذَا الرُّكْنِ الرَّابِعِ، وَهُوَ: الصَّوْمُ.
وَبِنَاءُ كُتِبَ لِلْمَفْعُولِ فِي هَذِهِ الْمَكْتُوبَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَحَذْفُ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، إذ هُوَ: اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهَا مَشَاقٌّ صَعْبَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَنَاسَبَ أَنْ لَا تُنْسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي كَتَبَهَا، وَحِينَ يَكُونُ الْمَكْتُوبُ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِ رَاحَةٌ وَاسْتِبْشَارٌ يُبْنَى الْفِعْلُ لِلْفَاعِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «١» كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «٢» أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «٣» وَهَذَا مِنْ لَطِيفِ عِلْمِ الْبَيَانِ.
أَمَّا بِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «٤» فَنَاسَبَ لِاسْتِعْصَاءِ الْيَهُودِ وَكَثْرَةِ مُخَالَفَاتِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِخِلَافِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ لِافْتِرَاقِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنَادَى الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ إِعْلَامِهِمْ بِهَذَا الْمَكْتُوبِ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ الصِّيَامُ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى اسْتِمَاعِ مَا يُلْقِي إِلَيْهِمْ مِنْ هَذَا التَّكْلِيفِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نِدَاءٍ فِي الْمَكْتُوبِ الثَّانِي لِانْسِلَاكِهِ مَعَ الْأَوَّلِ فِي نِظَامٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: حُضُورُ الْمَوْتِ بِقِصَاصٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَبَايَنَ هَذَا التَّكْلِيفُ الثَّالِثُ مِنْهَا، وَقَدَّمَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ الصَّرِيحِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ التَّرْتِيبِ الْعَرَبِيِّ بِعَكْسِ ذَلِكَ، نَحْوَ: ضُرِبَ زَيْدٌ بِسَوْطٍ، لِأَنَّ مَا احْتِيجَ فِي تَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَيْهِ إِلَى وَاسِطَةٍ دُونَ مَا تَعَدَّى إِلَيْهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، لِأَنَّ الْبُدَاءَةَ بِذِكْرِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ من ذكر
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٥٤.
(٢) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢١.
(٣) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢٢.
(٤) سورة المائدة: ٥/ ٤٥.
177
المكتوب لتعلق الكتب لمن نُودِيَ، فَتَعْلَمُ نَفْسُهُ أَوَّلًا أَنَّ الْمُنَادَى هُوَ الْمُكَلَّفُ، فَيَرْتَقِبُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَا كُلِّفَ بِهِ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الصِّيَامُ، لِلْعَهْدِ إِنْ كَانَتْ قَدْ سَبَقَتْ تَعَبُّدَاتُهُمْ بِهِ، أَوْ لِلْجِنْسِ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَسْبِقْ.
وَجَاءَ هَذَا الْمَصْدَرُ عَلَى فِعَالٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْبِنَائَيْنِ الْكَثِيرَيْنِ فِي مَصْدَرِ هَذَا النَّوْعِ من الفعل، وهو فعل الْوَاوِيُّ الْعَيْنِ، الصَّحِيحُ الْآخِرُ، وَالْبِنَاءَانِ هُمَا فُعُولٌ وَفِعَالٌ، وَعَدَلَ عَنِ الْفُعُولِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَ لِاسْتِثْقَالِ الْوَاوَيْنِ، وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ شَيْءٌ على الأصل: كالفؤور، وَلِثِقَلِ اجْتِمَاعِ الْوَاوَيْنِ هَمَزَ بعضهم فقال: الفؤور.
كَما كُتِبَ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَجْرُورَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ عَلَى مَا سَبَقَ، أَيْ: كَتْبًا مِثْلَ مَا كُتِبَ أَوْ كَتَبَهُ، أَيِ: الْكَتْبُ مِنْهَا كَتْبٌ، وَتَكُونُ السَّبَبِيَّةُ قَدْ وَقَعَ فِي مُطْلَقِ الْكَتْبِ وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلَّقُهُ مُخْتَلِفًا بِالْعَدَدِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعَطَاءٍ، وَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَا مَصْدَرِيَّةً.
وَقِيلَ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الصِّيَامِ، أَيْ: مُشْبِهًا مَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَتَكُونُ مَا مَوْصُولَةً أَيْ: مُشَبِهًا الَّذِي كُتِبَ عَلَيْكُمْ، وَذُو الْحَالِ هُوَ:
الصِّيَامُ، وَالْعَامِلُ فِيهَا الْعَامِلُ فِيهِ، وَهُوَ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ.
وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ لِصَوْمٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: صَوْمًا كَمَا، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ تَشْبِيهَ الصَّوْمِ بِالْكِتَابَةِ لَا يَصِحُّ، هَذَا إِنْ كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً فَفِيهِ أَيْضًا بُعْدٌ، لِأَنَّ تَشْبِيهَ الصَّوْمِ بِالْمَصُومِ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ.
وَأَجَازَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: الصِّيَامُ، قَالَ: إِذْ لَيْسَ تَعْرِيفُهُ بِمُسْتَحْسَنٍ لِمَكَانِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِيهِ مِمَّا فَسَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ، فَلِذَلِكَ جَازَ نَعْتُهُ بِكَمَا، إِذْ لَا يُنْعَتُ بِهَا إِلَّا النَّكِرَاتُ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ هَدْمٌ لِلْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ مِنْ وُجُوبِ تَوَافُقِ النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتِ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا، وَأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إِذَا كَانَتْ جِنْسِيَّةً جَازَ أَنْ يُوصَفَ مَصْحُوبُهَا بِالْجُمْلَةِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «١» وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ هَدْمِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ، وَتَلَخَّصَ فِي: مَا، مِنْ
(١) سورة يس: ٣٦/ ٣٧.
178
قَوْلِهِ: كَمَا، وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالْآخَرُ: أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، بِمَعْنَى. الَّذِي.
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: ظَاهِرُهُ عُمُومِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ مِنْ آدَمَ إِلَى زَمَانِنَا.
وَقَالَ عَلِيٌّ: أَوَّلُهُمْ آدَمُ، فَلَمْ يَفْتَرِضْهَا عَلَيْكُمْ
، يَعْنِي: أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ قَدِيمَةٌ أَصْلِيَّةٌ مَا أَخْلَى اللَّهُ أُمَّةً مِنَ افْتِرَاضِهَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَفْتَرِضْهَا عَلَيْكُمْ خَاصَّةً، وَقِيلَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا هُمُ النَّصَارَى.
قَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْمَصُومُ مُعَيَّنٌ وَهُوَ رَمَضَانُ فُرِضَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمُ النَّصَارَى، احْتَاطُوا لَهُ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ قَبْلَهُ وَيَوْمٍ بَعْدَهُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ حَتَّى بَلَّغُوهُ خَمْسِينَ يَوْمًا، فَصَعُبَ عَلَيْهِمْ فِي الْحَرِّ، فَنَقَلُوهُ إِلَى الْفَصْلِ الشَّمْسِيِّ.
قَالَ النَّقَّاشُ: وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ دَغْفَلٍ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ.
وَقِيلَ: بَلْ مَرِضَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ، فنذر إن برىء أَنْ يَزِيدَ فِيهِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ آخَرُ سَبْعَةً، ثُمَّ آخَرُ ثَلَاثَةً، وَرَأَوْا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ حَسَنَةٌ بِإِزَاءِ الْخَطَأِ فِي نَقْلِهِ.
وَقِيلَ: كَانَ النَّصَارَى أَوَّلًا يَصُومُونَ، فَإِذَا أَفْطَرُوا فَلَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يطؤون إِذَا نَامُوا، ثُمَّ انْتَبَهُوا فِي اللَّيْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ بِسَبَبِ عُمَرَ، وَقَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا، وَالرَّبِيعُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ.
قِيلَ: وَكَذَا كَانَ صَوْمُ الْيَهُودِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ: بِالَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقِيلَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا: هُمُ الْيَهُودُ خَاصَّةً، فُرِضَ عَلَيْنَا كَمَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ.
قَالَ الرَّاغِبُ: لِلصَّوْمِ فَائِدَتَانِ رِيَاضَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ عَنْ مَا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى قَدْرِ الْوُسْعِ. انْتَهَى. وَحِكْمَةُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ شَاقَّةٌ، فَإِذَا ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ مَفْرُوضًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ سَهُلَتْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ.
تَتَّقُونَ الظَّاهِرُ: تَعَلُّقُ، لَعَلَّ بكتب، أَيْ: سَبَبُ فَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ هُوَ رَجَاءُ حُصُولِ التَّقْوَى لَكُمْ، فَقِيلَ: الْمَعْنَى تَدْخُلُونَ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ، لِأَنَّ الصَّوْمَ شِعَارُهُمْ، وَقِيلَ:
تَجْعَلُونَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ النَّارِ وِقَايَةً بِتَرْكِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ الصَّوْمَ لِإِضْعَافِ الشَّهْوَةِ وَرَدْعِهَا، كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ».
179
وَقِيلَ: تَتَّقُونَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الصَّوْمِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
وَقِيلَ: تَتَّقُونَ الْمَعَاصِيَ، لِأَنَّ الصَّوْمَ يكف عن كثير ما تَشَوَّقُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
وَقِيلَ: تَتَّقُونَ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ، وَهَذَا رَاجِعٌ لِقَوْلِ السُّدِّيِّ.
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ إِنْ كَانَ مَا فُرِضَ صَوْمُهُ هُنَا هُوَ رَمَضَانُ، فَيَكُونُ قوله أياما معدودات عني بِهِ رَمَضَانُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَوَصَفَهَا بِقَوْلِهِ:
مَعْدُودَاتٍ، تَسْهِيلًا عَلَى الْمُكَلَّفِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ يَحْصُرُهَا الْعَدُّ لَيْسَتْ بِالْكَثِيرَةِ الَّتِي تَفُوتُ الْعَدَّ، وَلِهَذَا وَقَعَ الِاسْتِعْمَالُ بِالْمَعْدُودِ كِنَايَةً عَلَى الْقَلَائِلِ، كَقَوْلِهِ: فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ «١» لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «٢» وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ «٣».
وَإِنْ كَانَ مَا فُرِضَ صَوْمُهُ هُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَقِيلَ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ مَفْرُوضًا عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، فَيَكُونُ قوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ عني بِهَا هَذِهِ الْأَيَّامَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ: هِيَ الْأَيَّامُ البيض، وقيل: وهي: الثَّانِي عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَقِيلَ: الثَّالِثَ عَشَرَ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ،
وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ.
«إِنَّ الْبِيضَ هِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ»
فَإِنْ صَحَّ لَمْ يُمْكِنْ خِلَافُهُ.
وَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَاجِبًا، وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَصَامُوا كَذَلِكَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ نُسِخَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَمْرُ الْقِبْلَةِ، وَالصَّوْمُ، وَيُقَالُ: نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ وَأَيَّامٍ، وَقِيلَ: كَانَ صَوْمُ تِلْكَ الْأَيَّامِ تَطَوُّعًا، ثُمَّ فُرِضَ، ثُمَّ نُسِخَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ المرسي في (ري الظمآن) : احْتَجَّ مَنْ قَالَ أَنَّهَا غَيْرُ رَمَضَانَ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَوْمُ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ»
، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صَوْمًا آخَرَ كَانَ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ ذكر حكمها فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الصَّوْمُ هُوَ صَوْمَ رَمَضَانَ لَكَانَ هَذَا تَكْرِيرًا، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِدْيَةٌ يَدُلُّ عَلَى
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٠٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٨٠.
(٣) سورة يوسف: ١٢/ ٢٠.
180
التَّخْيِيرِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبٌ عَلَى التَّعْيِينِ، فَكَانَ غَيْرَهُ، وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيَّامِ: شَهْرُ رَمَضَانَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ يَحْتَمِلُ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ وَإِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى رَمَضَانَ فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِثْبَاتِ النَّسْخِ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَسْخِ كُلِّ صَوْمٍ وَجَبَ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ يَكُونَ نَاسِخًا لِصِيَامٍ وَجَبَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنَ التَّكْرَارِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ إِفْطَارِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ فِي الْحُكْمِ، بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ فِي الْمُقِيمِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، فَلَمَّا نُسِخَ عَنِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ وَأُلْزِمَ الصَّوْمَ، كَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ نَظُنَّ أَنَّ حُكْمَ الصَّوْمِ، لَمَّا انْتَقَلَ إِلَى التَّخْيِيرِ عَنِ التَّضْيِيقِ، يَعُمُّ الْكُلَّ حَتَّى يَكُونَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ مِنْ حَيْثُ تَغَيُّرُ الْحُكْمِ في الصوم، لما بَيَّنَ أَنَّ حَالَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ كَحَالِهِمَا أَوَّلًا، فَهَذِهِ فَائِدَةُ الْإِعَادَةِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِدْيَةٌ يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ إِلَى آخِرِهِ، لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ كَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا، ثُمَّ صَارَ مُعَيَّنًا. وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنَ النَّسْخِ فِي الْآيَةِ، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا، وَالْآيَةُ الَّتِي بَعْدُ تَدُلُّ عَلَى التَّضْيِيقِ، فَكَانَتْ نَاسِخَةً لَهَا، وَالِاتِّصَالُ فِي التِّلَاوَةِ لَا يُوجِبُ الِاتِّصَالَ فِي النُّزُولِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ: أَيَّاماً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: صُومُوا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: الصِّيَامُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، إِذْ لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، قَالَ: وَانْتِصَابُ أَيَّامًا بِالصِّيَامِ كَقَوْلِكَ: نَوَيْتُ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ- انْتَهَى كَلَامُهُ- وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ مَعْمُولَ الْمَصْدَرِ مِنْ صِلَتِهِ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَما كُتِبَ فَكَمَا كُتِبَ لَيْسَ لِمَعْمُولِ الْمَصْدَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْمُولٌ لِغَيْرِهِ عَلَى أَيِّ تَقْدِيرٍ قَدَّرْتَهُ مِنْ كَوْنِهِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَوْ فَرَّعْتَ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلصِّيَامِ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنَّ تَعْرِيفَ الصِّيَامِ جِنْسٌ، فَيُوصَفُ بِالنَّكِرَةِ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ ذِكْرِ مَعْمُولِهِ لَمْ يَجُزْ إِعْمَالُهُ، فَإِنْ قَدَّرْتَ الْكَافَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مِنَ الصِّيَامِ، كَمَا قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَضَعَّفْنَاهُ قَبْلُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: صَوْمًا كَمَا كُتِبَ، جَازَ أَنْ يَعْمَلَ فِي: أَيَّامًا، الصِّيَامُ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ الْعَامِلُ فِي: صَوْمًا، هُوَ الْمَصْدَرُ، فَلَا يَقَعُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِمَا لَيْسَ لِمَعْمُولٍ لِلْمَصْدَرِ، وَأَجَازُوا أَيْضًا انْتِصَابَ: أَيَّامًا، عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ كُتِبَ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى السَّعَةِ ثَانِيًا، وَالْعَامِلُ فِيهِ كُتِبَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْفَرَّاءُ، وَالْحَوْفِيُّ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ.
181
أَمَّا النَّصْبُ عَلَى الظَّرْفِ فَإِنَّهُ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ وَاقِعَةً فِي الْأَيَّامِ، لَكِنَّ مُتَعَلَّقَهَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْأَيَّامِ، فَلَوْ قَالَ الإنسان لوالده وَكَانَ وُلِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: سَرَّنِي وِلَادَتُكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لَمْ يَكُنْ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مَعْمُولًا لَسَرَّنِي، لِأَنَّ، السُّرُورَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلسُّرُورِ الَّذِي أَسْنَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِ اتِّسَاعًا فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِهِ ظَرْفًا لِكُتِبَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ.
وَالصَّوْمُ: نَفْلٌ وَوَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ مُعَيَّنُ الزَّمَانِ، وَهُوَ: صَوْمُ رَمَضَانَ وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ، وَمَا هُوَ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ: قَضَاءُ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ، وَصَوْمُ الْكَفَّارَةِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي زَمَانِهَا.
فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرَ الْمُعَيَّنَ، وَالنَّفْلَ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَبِنِيَّةٍ إِلَى الزَّوَالِ، وَقَضَاءَ رَمَضَانَ، وَصَوْمَ الْكَفَّارَةِ، ولا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ خَاصَّةً.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى الْمَشْهُورِ: أَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَاجِبٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ.
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ نِيَّةً وَاحِدَةً تَكْفِي عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا فَأَمْسَكَ فَهُوَ صَائِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ.
وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ بِمُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ أَوْ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا تَعَيَّنَ زَمَانُهُ يَصِحُّ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ، وَالْمُسَافِرُ إِذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ وَقَعَ عَمَّا نَوَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، فَلَوْ نَوَى هُوَ أَوِ الْمَرِيضُ التَّطَوُّعَ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: يَقَعُ التَّطَوُّعُ، وَإِذَا صَامَ الْمُسَافِرُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ جَازَ، قَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ النَّفْلُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
يَجُوزُ وَلَوْ أَوْجَبَ صَوْمَ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَصَامَ عَنِ التَّطَوُّعِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقَعُ عَلَى الْمَنْذُورِ، وَلَوْ صَامَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ الَّذِي أَوْجَبَهُ وَقَعَ عَنْ مَا نَوَى، وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ وَقَضَاءَ رَمَضَانَ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقَعُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَمُحَمَّدٌ قَالَ: عَنِ التَّطَوُّعِ، وَلَوْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ كَانَ عَلَى الْقَضَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَقَعُ عَلَى النَّفْلِ، وَلَوْ نَوَى الصَّائِمُ الْفِطْرَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْطُلُ صَوْمُهُ.
وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُذْكَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
182
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ اعْتِبَارُ مُطْلَقِ الْمَرَضِ بِحَيْثُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وَالْبُخَارِيُّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ الَّذِي يُؤْلِمُ، وَيُؤْذِي، وَيُخَافُ تَمَادِيهِ، وَتَزَيُّدُهُ وَسُمِعَ مِنْ لَفْظِ مَالِكٍ: أَنَّهُ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ وَيَبْلُغُ بِهِ التَّلَفَ إِذَا صَامَ، وَقَالَ مَرَّةً: شِدَّةُ الْمَرَضِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ: إِذَا لَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْمَرَضِ عَلَى الصِّيَامِ أَفْطَرَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
لَا يُفْطِرُ إِلَّا مَنْ دَعَتْهُ ضَرُورَةُ الْمَرَضِ إِلَيْهِ، وَمَتَى احْتَمَلَ الصَّوْمُ مَعَ الْمَرَضِ لَمْ يُفْطِرْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ خَافَ إِنْ تَزْدَادَ عَيْنُهُ وَجَعًا أَوْ حُمًّى شَدِيدَةً أَفْطَرَ.
وَظَاهِرُ اللَّفْظِ اعْتِبَارُ مُطْلَقِ السَّفَرِ زَمَانًا وَقَصْدًا.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَافَةِ الَّتِي تُبِيحُ الْفِطْرَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يُفْطِرَانِ وَيَقْصُرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ ثَلَاثٌ، وَالْمُعْتَبَرُ السَّيْرُ الْوَسَطُ لَا غَيْرُهُ مِنَ الْإِسْرَاعِ وَالْإِبْطَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: مَسَافَةُ الْفِطْرِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، وَهِيَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَقَالَ مَرَّةً: اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَمَرَّةً سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ وَفِي الْمَذْهَبِ: ثَلَاثُونَ مِيلًا، وَفِي غَيْرِ الْمَذْهَبِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ سَفَرَ الطَّاعَةِ مِنْ جِهَادٍ وَحَجٍّ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَطَلَبِ مَعَاشٍ ضَرُورِيٍّ مُبِيحٌ.
فَأَمَّا سَفَرُ التِّجَارَةِ وَالْمُبَاحُ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقَوْلُ بِالْإِجَازَةِ أَظْهَرُ، وَكَذَلِكَ سَفَرُ الْمَعَاصِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيْضًا، وَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَرْجَحُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ فِي رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبَيِّتَ الْفِطْرَ، قَالُوا: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُؤَمِّلِ السَّفَرِ أَنْ يُفْطِرَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، فَإِنْ أَفْطَرَ فَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يَلْزَمْهُ شَيْءٌ سَافَرَ، أَوْ لَمْ يُسَافِرْ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ سَافَرَ، أَوْ لَمْ يُسَافِرْ، وَقَالَ عِيسَى، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا قَضَاءُ يَوْمِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ أَفْطَرَ وَقَدْ أَرَادَ السَّفَرَ، وَلَبِسَ ثِيَابَ السفر، ورجل دَابَّتَهُ، فَأَكَلَ ثُمَّ رَكِبَ. وَقَالَ الْحَسَنُ يُفْطِرُ إِنْ شَاءَ فِي بَيْتِهِ يَوْمَ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ، وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا بَرَزَ عَنِ الْبُيُوتِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا بَلْ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرَّحْلِ.
وَمَنْ أَصْبَحَ صَحِيحًا ثُمَّ اعْتَلَّ أَفْطَرَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَلَوْ أَصْبَحَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ فَلَهُ أَنْ
183
يُفْطِرَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَقِيلَ: لَا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ نَهَضَ فِي سَفَرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَاخْتَلَفُوا إِنْ أَفْطَرَ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ قَالَ: يَقْضِي وَلَا يُكَفِّرُ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: يَقْضِي وَيَكَفِّرُ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَاخْتَارَهُ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عبد البر: لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فَقَدْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْ عَلى سَفَرٍ إِبَاحَةُ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ، وَلَوْ كَانَ بَيَّتَ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، قَالَهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ.
وَمَوْضِعُ أَوْ عَلى سَفَرٍ، نَصْبٌ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى خَبَرِ: كَانَ، وَمَعْنَى: أَوْ، هُنَا التَّنْوِيعُ، وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ وهو: أو مسافر إِلَى، أَوْ عَلَى سَفَرٍ، إِشْعَارًا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى السَّفَرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِيَارِ لِلْمُسَافِرِ، بِخِلَافِ الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْإِنْسَانَ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَهُوَ قَهْرِيٌّ، بِخِلَافِ السَّفَرِ فَكَأَنَّ السَّفَرَ مَرْكُوبُ الْإِنْسَانِ يَسْتَعْلِي عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى طَرِيقٍ، وَرَاكِبُ طَرِيقٍ إِشْعَارًا بِالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ مُسْتَوْلٍ عَلَى السَّفَرِ مُخْتَارٌ لِرُكُوبِ الطَّرِيقِ فِيهِ.
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِرَفْعُ عِدَّةٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، وَقَدَّرَ:
قَبْلُ، أَيْ: فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ وَبَعْدُ أَيْ: أَمْثَلُ لَهُ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أي: فَالْوَاجِبُ، أَوْ:
فَالْحُكْمُ عِدَّةٌ.
وقرىء: فَعِدَّةً، بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: فَلْيَصُمْ عِدَّةً، وَعِدَّةٌ هُنَا بِمَعْنَى مَعْدُودٍ، كَالرَّعْيِ وَالطَّحْنِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَصَوْمُ عِدَّةِ مَا أَفْطَرَ، وَبَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ مَحْذُوفٌ بِهِ يصح الكلام، التقدير: فافطر فعدة، ونظير فِي الْحَذْفِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «١» أَيْ: فضرب فانفلق. ونكر فَعِدَّةٌ وَلَمْ يَقُلْ: فَعِدَّتُهَا، أَيْ: فعدة
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ٦٣.
184
الْأَيَّامِ الَّتِي أُفْطِرَتِ اجْتِزَاءً، إِذِ الْمَعْلُومُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِدَّةٌ غَيْرُ مَا أَفْطَرَ فِيهِ مِمَّا صَامَهُ، وَالْعِدَّةُ هِيَ الْمَعْدُودُ، فكان التنكير أخصر ومِنْ أَيَّامٍ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ فَعِدَّةٌ، وَأُخَرَ:
صِفَةٌ لِأَيَّامٍ، وَصِفَةُ الْجَمْعِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ تَارَةً يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ وَتَارَةً يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ جَمْعِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ. فَمِنَ الْأَوَّلِ: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «١» وَمِنَ الثَّانِي: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ «٢» فمعدودات: جَمْعٌ لِمَعْدُودَةٍ. وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: يَوْمٌ مَعْدُودَةٌ، إِنَّمَا تَقُولُ:
مَعْدُودٌ، لِأَنَّهُ مُذَكَّرٌ، لَكِنْ جَازَ ذَلِكَ فِي جَمْعِهِ، وَعُدِلَ عَنْ أَنْ يُوصَفَ الْأَيَّامُ بِوَصْفِ الْوَاحِدَةِ المؤنث، فَكَانَ، يَكُونُ: مِنْ أَيَّامٍ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَصِيحًا كَالْوَصْفِ بِأُخَرَ لِأَنَّهُ كَانَ يُلْبِسُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ فَعِدَّةٌ، فَلَا يُدْرَى أَهُوَ وَصْفٌ لِعِدَّةٍ، أَمْ لِأَيَّامٍ، وَذَلِكَ لِخَفَاءِ الْإِعْرَابِ لِكَوْنِهِ مَقْصُورًا، بِخِلَافِ: أُخَرَ فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ صِفَةٌ لِأَيَّامٍ لِاخْتِلَافِ إِعْرَابِهِ مَعَ إِعْرَابِ فَعِدَّةٌ، أَفَلَا يَنْصَرِفُ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ، وَهِيَ جَمْعُ أُخْرَى مُقَابِلَةُ أُخَرَ؟
وآخر مقابل أخريين؟ لَا جَمْعُ أُخْرَى لِمَعْنَى أُخْرَةٍ، مُقَابِلَةُ الْأُخَرِ الْمُقَابِلِ لِلْأُوَلِ، فَإِنَّ أُخَرَ تَأْنِيثُ أُخْرَى لِمَعْنَى أُخْرَةٍ مَصْرُوفَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَا حُكْمًا وَمَدْلُولًا. أَمَّا اخْتِلَافُ الْحُكْمِ فَلِأَنَّ تِلْكَ غَيْرُ مَصْرُوفَةٍ، وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْمَدْلُولِ: فَلِأَنَّ مَدْلُولَ أُخْرَى، الَّتِي جَمْعُهَا أُخَرُ التي لا تتصرف، مَدْلُولُ: غَيْرٍ، وَمَدْلُولَ أُخْرَى الَّتِي جَمْعُهَا يَنْصَرِفُ مَدْلُولُ: مُتَأَخِّرَةٍ، وَهِيَ قَابِلَةُ الْأُولَى. قَالَ تَعَالَى: قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ»
فَهِيَ بِمَعْنَى: الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى «٤» وَأُخَرُ الَّذِي مُؤَنَّثُهُ: أُخْرَى مُفْرَدُهُ آخر التي لا تتصرف بِمَعْنَى:
غَيْرٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّصَلَ بِهِ إِلَّا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلُهُ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِكَ وَبِرَجُلٍ آخَرَ، وَلَا يَجُوزُ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الْفَرَسَ وَحِمَارًا آخَرَ، لِأَنَّ الْحِمَارَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْفَرَسِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ:
صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الرَّحْمَانُ وَابْنَتِهَا لَيْلَى، وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِهَا الْأُخَرِ
فَإِنَّهُ جَعَلَ: ابْنَتَهَا جَارَةً لَهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى مَسْأَلَةِ أُخْرَى فِي كِتَابِنَا (التَّكْمِيلِ).
قَالُوا: وَاتَّفَقَتِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ، وَأَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِذَا صَامَ، لِأَنَّهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَا، قَدَّرُوا حَذْفًا فِي الْآيَةِ، والأصل:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨٠.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٢٤.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ٣٩.
(٤) سورة الليل: ٩٢/ ١٣.
185
أَنْ لَا حَذْفَ، فَيَكُونُ الظاهر أن الله تعالى أَوْجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَلَوْ صَامَا لَمْ يُجْزِهِمَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا صَوْمُ عِدَّةِ مَا كَانَا فِيهِ مِنَ الْأَيَّامِ الْوَاجِبِ صَوْمُهَا عَلَى غَيْرِهِمَا.
قَالُوا: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ شَوَاذٌّ مِنَ النَّاسِ، وَنَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عُمَرُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ عَزِيمَةٌ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ، وَقَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَفَرَّقَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَقَالَ، فِيمَا لَخَّصْنَاهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِ (الْأَنْوَارِ الْأَجْلَى فِي اخْتِصَارِ الْمُحَلَّى) مَا نَصُّهُ: وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَافَرَ وَلَوْ عَاصِيًا مِيلًا فَصَاعِدًا الْفِطْرُ إِذَا فَارَقَ الْبُيُوتَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلْيُفْطِرِ الْمَرِيضُ وَيَقْضِيَ بَعْدُ، ويكره صومه ويجزى، وَحُجَجُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَثَبَتَ
بِالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ فِي السَّفَرِ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْمُحَنَّقِ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَجَابِرٌ، وَأَنَسٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ إِبَاحَةَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، بِقَوْلِهِ لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ وَقَدْ قَالَ: أَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»
وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا، وَتَقْدِيرُهُ: فَأَفْطِرْ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ وَأَنْ يَصُومَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُمَا: إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَهَبَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى الصَّوْمِ، وَقَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ وَنَحْنُ جِيَاعٌ نَرُوحُ إِلَى جُوعٍ، وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمَا: أَيْسَرُهُمَا أَفْضَلُهُمَا.
وَكَرِهَ ابْنُ حَنْبَلٍ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ، وَلَوْ صَامَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ، قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَزَادَ اللَّيْثُ: وَالْكَفَّارَةُ. وَعَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَانِ.
186
وَلَوْ أَفْطَرَ مُسَافِرٌ ثُمَّ قَدِمَ مِنْ يَوْمِهِ، أَوْ حَائِضٌ ثُمَّ طَهُرَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، فَقَالَ جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَأْكُلَانِ وَلَا يُمْسِكَانِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: يُمْسِكَانِ بَقِيَّةَ يومهما. عَنْ مَا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ.
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ فِي الْمُسَافِرِ: يُمْسِكُ وَيَقْضِي، وَفِي الْحَائِضِ: إِنْ طَهُرَتْ تَأْكُلُ..
وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ عِدَّةُ مَا أَفْطَرَ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، قَضَى تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَبَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إِلَى أَنَّهُ يَقْضِي شَهْرًا بِشَهْرٍ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ عَدَدِ الْأَيَّامِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقْضِي بِالْأَهِلَّةِ، وَرُوِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يَقْضِي شَهْرًا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَإِنْ كَانَ رَمَضَانُ ثَلَاثِينَ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَخِلَافُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ: إِذَا كَانَ مَا أَفْطَرَ فِيهِ بَعْضَ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْعَدَدِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءُ جَمِيعِهِ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أنه لا يلزم التَّتَابُعُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ،
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُجَاهِدٍ وَعُرْوَةَ: أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ
، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ، بَلْ تُسْتَحَبُّ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْقَضَاءِ. وَقَالَ دَاوُدُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ثَانِيَ شَوَّالٍ، فَلَوْ لَمْ يَصُمْهُ ثُمَّ مَاتَ أَثِمَ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَبِمَا ثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ، إِلَّا فِي شَعْبَانَ لِشُغْلٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ: مَنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَضَاءُ فَقَطْ عَنِ الْأَوَّلِ، وَيَصُومُ الثَّانِي. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَدَاوُدُ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ مَعَ الْقَضَاءِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي رُوِيَ وُجُوبُ الْإِطْعَامِ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِذَا فَرَّطَ فِي رَمَضَانَ الْأَوَّلِ، وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ مُدًّا مِنْ بُرٍّ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ الثَّانِيَ.
وَمَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى مَاتَ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ لَا فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو
187
عُبَيْدٍ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: يُصَامُ عَنْهُ، وَخَصَّصُوهُ بِالنَّذْرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يُطْعَمُ عَنْهُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ.
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُطِيقُونَهُ مُضَارِعُ أَطَاقَ، وَقَرَأَ حُمَيْدٌ يُطْوِقُونَهُ مِنْ أَطْوَقَ، كَقَوْلِهِمْ أَطْوَلَ فِي أَطَالَ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَصِحَّةُ حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي هَذَا النَّحْوِ شَاذَّةٌ مِنَ الْوَاوِ وَمِنَ الْيَاءِ، وَالْمَسْمُوعُ مِنْهُ: أَجْوَدُ، وَأَعْوَلُ، وَأَطْوَلُ. وَأَغْيَمَتِ السَّمَاءُ، وَأَخْيَلَتْ، وَأَغْيَلَتِ الْمَرْأَةُ وَأَطْيَبُ، وَقَدْ جَاءَ الْإِعْلَالُ فِي جَمِيعِهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالتَّصْحِيحُ كَمَا ذَكَرْنَا شَاذٌّ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، إِلَّا أَبَا زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ فَإِنَّهُ يَرَى التَّصْحِيحَ فِي ذَلِكَ مَقِيسًا اعْتِبَارًا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ النَّزْرَةِ الْمَسْمُوعِ فِيهَا الاعتلال وَالنَّقْلُ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عباس فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: يُطَوَّقُونَهُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ طَوَّقَ عَلَى وَزْنِ قَطَّعَ.
وَقَرَأَتْ عائشة، ومجاهد، وطاووس، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: يَطَّوَّقُونَهُ مِنَ اطَّوَّقَ، وَأَصْلُهُ تَطَوَّقَ عَلَى وَزْنِ تَفَعَّلَ، ثُمَّ أَدْغَمُوا التَّاءَ فِي الطَّاءِ، فَاجْتَلَبُوا فِي الْمَاضِي وَالْأَمْرِ هَمْزَةَ الْوَصْلِ. قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ تَفْسِيرٌ لَا قِرَاءَةٌ، خِلَافًا لِمَنْ أَثْبَتَهَا قِرَاءَةً، وَالَّذِي قَالَهُ النَّاسُ خِلَافُ مَقَالَةِ هَذَا الْقَائِلِ، وَأَوْرَدَهَا قِرَاءَةً.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ، مِنْهُمْ عِكْرِمَةُ: يَطِيقُونَهُ، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَابْنِ عباس، وقرىء أَيْضًا هَكَذَا لَكِنْ بِضَمِّ يَاءِ الْمُضَارِعِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَالَ:
هِيَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّوْقِ. قَالُوا: وَلَازِمَةٌ فِيهِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْيَاءِ فِي هَذَا الْمِثَالِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَشْدِيدُ الْيَاءِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ ضَعِيفٌ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا ضَعُفَ هَذَا، أَوِ امْتَنَعَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ عَلَى وَزْنِ تَفَعَّلَ، فَأَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ عَلَى وَزْنِ: تَفْعِيلٌ مِنَ الطَّوْقِ، كَقَوْلِهِمْ: تُدِيرُ الْمَكَانَ وَمَا بِهَا دَيَّارُ، فَأَصْلُهُ: تُطْيِوْقُونَ، اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَوَاوٌ، وَسُبِقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ، فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الْيَاءُ، فَقِيلَ: تَطَيَّقَ يَتَطَيَّقُ، فَهَذَا تَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ تَوْجِيهٌ نَحْوِيٌّ وَاضِحٌ.
فَهَذِهِ ست قرآت يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى الِاسْتِطَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ، فَالْمَبْنِيُّ مِنْهَا لِلْفَاعِلِ ظَاهِرٌ، وَالْمَبْنِيُّ مِنْهَا لِلْمَفْعُولِ مَعْنَاهُ: يُجْعَلُ مُطِيقًا لِذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ قِرَاءَةُ تَشْدِيدِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنَى التَّكْلِيفِ، أَيْ: يَتَكَلَّفُونَهُ أَوْ يُكَلَّفُونَهُ، وَمَجَازُهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّوْقِ بِمَعْنَى الْقِلَادَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مُقَلَّدُونَ ذَلِكَ، أَيْ: يُجْعَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ التَّكْلِيفِ، أَيْ: يَشُقُّ
188
عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ حَمَلَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الصَّوْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَالضَّحَّاكُ: كَانَ الصِّيَامُ عَلَى الْمُقِيمِينَ الْقَادِرِينَ مُخَيَّرًا فِيهِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ مَعْطُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
يُطِيقُونَهُ، أَوِ الصَّوْمَ، لِكَوْنِهِمْ كَانُوا شَبَابًا ثُمَّ عَجَزُوا عَنْهُ بِالشَّيْخُوخَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالسُّدِّيُّ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصَّوْمَ، وَهُوَ بِصِفَةِ الْمَرَضِ الَّذِي يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الصَّوْمَ، فَخُيِّرَ هَذَا بَيْنَ أَنْ يَصُومَ وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلْيَصُمْهُ فَزَالَتِ الرُّخْصَةُ إِلَّا لِمَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ: لَا، مَحْذُوفَةً، فَيَكُونَ الْفِعْلُ مَنْفِيًّا، وَقَدَّرَهُ: وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: حَذَفَ: لَا، وَهِيَ مُرَادَةٌ. قَالَ ابْنُ أَحْمَدَ.
آلَيْتُ أَمْدَحُ مُقْرِفًا أَبَدًا يَبْقَى الْمَدِيحُ وَيَذْهَبُ الرَّفْدُ
وَقَالَ الْآخَرُ:
فَخَالِفْ، فَلَا وَاللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَنْتَ لِلذُّلِّ عَارِفُ
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي
وَتَقْدِيرُ: لَا، خَطَأٌ لِأَنَّهُ مَكَانُ إِلْبَاسٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الْفَهْمُ، هُوَ: أَنَّ الْفِعْلَ مُثْبَتٌ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ: لَا، وَإِرَادَتُهَا إِلَّا فِي الْقَسَمِ، وَالْأَبْيَاتُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا هِيَ مِنْ بَابِ الْقَسَمِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ.
وَقِيلَ: الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الْمُرَادُ: الشَّيْخُ الْهَرِمُ، وَالْعَجُوزُ، أَيْ: يُطِيقُونَهُ بِتَكَلُّفٍ شَدِيدٍ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لَهُمُ الْفِطْرَ وَالْفِدْيَةَ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مُحْكَمَةٌ،
وَيُؤَيِّدُهُ تَوْجِيهُ مَنْ وَجَّهَ:
يُطَوَّقُونَهُ، عَلَى مَعْنَى: يَتَكَلَّفُونَ صَوْمَهُ وَيَتَجَشَّمُونَهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي وَالْعَجُوزِ الْهَرِمَةِ وَزَيْدٌ
عَنْ عَلِيٍّ: وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ
، وَالْآيَةُ عِنْدَ مَالِكٍ إِنَّمَا هِيَ فِي مَنْ يُدْرِكُهُ رَمَضَانُ وَعَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ الْمُتَقَدِّمِ، فَقَدْ كَانَ يُطِيقُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الصَّوْمَ، فَتَرَكَهُ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
189
وَقَالَ الْأَصَمُّ: يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّ لَهُمَا حَالَيْنِ: حَالٌ لَا يُطِيقَانِ فِيهِ الصَّوْمَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهَا فِي قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَحَالٌ يُطِيقَانِ، وَهِيَ حَالَةُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ الَّذَيْنِ لَا يَلْحَقُ بِهِمَا جَهْدٌ شَدِيدٌ لَوْ صَامَا، فَخُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَلَى الْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فَرْضَ الصِّيَامِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَسَمَهُمْ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُتَّصِفٌ بِمَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ، فَجَعَلَ حُكْمَ هَذَا أَنَّهُ إِذَا أَفْطَرَ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَمُطِيقٌ لِلصَّوْمِ، فَإِنْ صَامَ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَدَى:
ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الثَّانِي، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا كَانَ، ثُمَّ نُسِخَ.
وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ هُمُ الشُّيُوخُ وَالْعُجَّزُ، تَكُونُ الْآيَةُ مُحْكَمَةً عَلَى قَوْلِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِهَؤُلَاءِ، وَقِيلَ: يَتَنَاوَلُ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ الْهَرِمَ إِذَا أَفْطَرَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، هَكَذَا نَقَلَ بَعْضُهُمْ، وَلَيْسَ هَذَا الْإِجْمَاعُ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ نَقَلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَرَى الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الضَّعِيفِ وَاجِبَةً، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهَا. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَالِكٍ وَرَأْيُهُ فِي الْآيَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ، إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا، الْفِدْيَةُ، لِتَنَاوُلِ الْآيَةِ لَهُمَا، وَقِيَاسًا عَلَى الشَّيْخِ الْهَرِمِ، وَالْقَضَاءُ.
وَرُوِيَ فِي الْبُوَيْطِيُّ: لَا إِطْعَامَ عَلَيْهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَأَبْطَلَ الْقِيَاسَ عَلَى الشَّيْخِ الْهَرِمِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا. قَالَ: فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْفِدْيَةَ مَعَ الْقَضَاءِ كَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: الْفِدْيَةُ بِلَا قَضَاءٍ
، وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ تُفْطِرُ وَتَفْدِي وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، وَذَهَبَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا أَفْطَرَتْ تَقْضِي، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ، وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهَا تَقْضِي وَتَفْدِي. وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا الْمُرْضِعُ فَتَقَدَّمَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا إِذَا أَفْطَرَتْ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ تَقْضِي وَتَفْدِي. وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا إِطْعَامَ عَلَى الْمُرْضِعِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يُطْعِمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ
190
مُحَمَّدٍ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْمُزَنِيُّ. يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ:
نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَصَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ، وَقَالَ قَوْمٌ: عَشَاءٌ وَسَحُورٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: قُوتُ يَوْمٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ، يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ، مِنْ بُرٍّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَيْسِ بْنِ الْكَاتِبِ- الَّذِي كَانَ شَرِيكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- وَعَائِشَةِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ: أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ مُطْلَقُ طَعَامٍ، وَيَحْتَاجُ التَّقْيِيدُ إِلَى دَلِيلٍ.
وَلَوْ جُنَّ فِي رَمَضَانَ جَمِيعِهِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَفَاقَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ إِذْ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ الْعَقْلُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ: يَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا يَقْضِي الصَّلَاةَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ: إِذَا جُنَّ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، بِتَنْوِينِ الْفِدْيَةِ، وَرَفْعِ طَعَامُ، وَإِفْرَادِ مِسْكِينٍ، وَهِشَامٌ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ قَرَأَ: مَسَاكِينَ بِالْجَمْعِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، بِإِضَافَةِ الْفِدْيَةِ وَالْجَمْعِ وَإِفْرَادِ الْفِدْيَةِ، لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ. وَمَنْ نَوَّنَ كَانَ طَعَامُ بَدَلًا مِنْ فِدْيَةٌ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِلْفِدْيَةِ مَا هِيَ. وَمَنْ لَمْ يُنَوِّنْ فَأَضَافَ كَانَ فِي ذَلِكَ تَبْيِينٌ أَيْضًا وَتَخَصُّصٌ بِالْإِضَافَةِ، وَهِيَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى جِنْسِهِ، لِأَنَّ الْفِدْيَةَ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَالطَّعَامُ يَعُمُّ الْفِدْيَةَ وَغَيْرَهَا، وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِضَافَةُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ. قَالَ:
لِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَهَا ذَاتٌ، وَصِفَتُهَا أَنَّهَا طَعَامٌ، وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ طَعَامًا لَيْسَ بِصِفَةٍ، وَهُوَ هُنَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ كَمَا يُرَادُ بِعَطَاءٍ الْإِعْطَاءُ، أَوْ يَكُونَ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ كَمَا يُرَادُ بِالشَّرَابِ الْمَشْرُوبُ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَحْسُنُ بِهِ الْوَصْفُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَصْدَرًا فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهِ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَلَا مَعْنَى لَهَا هُنَا، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى فِعْلٍ وَلَا مُنْقَاسًا، فَلَا تَقُولُ: فِي مَضْرُوبٍ ضَرَابٌ، وَلَا فِي مَقْتُولٍ قَتَالٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَبِيهُ الرَّعْيِ وَالطَّحْنِ وَالدَّهْنِ، لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْمَفْعُولِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهَا، مَرَرْتُ بِرَجُلٍ طَعَامٌ خُبْزُهُ وَلَا شَرَابٌ مَاؤُهُ، فَيُرْفَعُ مَا بَعْدَهَا بِهَا؟ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهُوَ ضَعْفٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَمَنْ قَرَأَ مَسَاكِينَ، قَابَلَ الْجَمْعَ بِالْجَمْعِ، وَمَنْ أَفْرَدَ فَعَلَى مُرَاعَاةِ إِفْرَادِ الْعُمُومِ أَيْ: وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ يُطِيقُ الصَّوْمَ لِكُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُهُ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، وَنَظِيرُهُ
191
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً «١» أَيْ:
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. وَتَبَيَّنَ مِنْ إِفْرَادِ الْمِسْكِينِ أَنَّ الْحُكْمَ لِكُلِّ يَوْمٍ يُفْطِرُ فِيهِ مِسْكِينٌ، وَلَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الْجَمْعِ.
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أَيْ: مَنْ زَادَ عَلَى مِقْدَارِ الْفِدْيَةِ فِي الطَّعَامِ لِلْمِسْكِينِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَلَى عَدَدِ مَنْ يَلْزَمُهُ إِطْعَامُهُ، فَيُطْعِمُ مِسْكِينَيْنِ فَصَاعِدًا قَالَهُ ابن عباس، وطاووس، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ. أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ.
وَانْتِصَابُ خَيْراً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ: بِخَيْرٍ، لأنه تَطَوَّعَ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ضُمِّنَ: تَطَوَّعَ مَعْنَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، فَانْتَصَبَ خَيْرًا، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَتَقْدِيرُهُ، وَمَنْ فَعَلَ مُتَطَوِّعًا خَيْرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: تَطَوُّعًا خَيْرًا، وَدَلَّ وَصْفُ الْمَصْدَرِ بِالْخَيْرِيَّةِ عَلَى خَيْرِيَّةِ الْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ يَطَّوَّعْ، فَجَعَلَهُ مُضَارِعَ اطَّوَّعَ، وَأَصْلُهُ تَطَوَّعَ فَأُدْغِمَ، وَاجْتُلِبَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ. وَيَلْزَمُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَكُونَ: مَنْ شَرْطِيَّةً، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَالضَّمِيرُ فِي فَهُوَ، عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ تَطَوَّعَ، أَيْ: فَالتَّطَوُّعُ خَيْرٌ لَهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «٢» أَيِ: الْعَدْلُ، وَخَيْرٌ: خَبَرٌ: لِهُوَ، وَهُوَ، هُنَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاجِبِ، إِذَا كَانَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ تَطَوُّعٍ بِخَيْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ وَرَدَتْ فِي أَمْرِ الْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ، وَظَاهِرُ التَّطَوُّعِ: التَّخْيِيرُ فِي أَمْرِ الْجَوَازِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَأَنَّ الْفِعْلَ أَفْضَلُ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، فَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَالصَّوْمُ خَيْرٌ لَكُمْ. هَكَذَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ.
وَنَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنَّ قِرَاءَتَهُ: وَالصِّيَامُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَالْخِطَابُ لِلْمُقِيمِينَ الْمُطِيقِينَ الصَّوْمَ، أَيْ: خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْفِطْرِ وَالْفِدْيَةِ، أَوْ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، أَيْ: خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْفِطْرِ وَالْقَضَاءِ، أَوْ: لِمَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ مِنَ الْجَمِيعِ. أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ.
وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْآيَةِ، وَهُوَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ
(١) سورة النور: ٢٤/ ٤. [.....]
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٨.
192
أَيْ: وَأَنْ تَصُومُوا ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَفِيهِ حَضٌّ عَلَى الصَّوْمِ.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْذَفَ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَيْ: مَا شَرَعْتُهُ وَبَيَّنْتُهُ لَكُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، أَوْ فَضْلِ أَعْمَالِكُمْ وَثَوَابِهَا، أَوْ كَنَّى بِالْعِلْمِ عَنِ الْخَشْيَةِ أَيْ: تَخْشَوْنَ اللَّهَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَقْتَضِي خَشْيَتَهُ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «١».
شَهْرُ رَمَضانَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ شَهْرُ، وَقَرَأَهُ بالنصب مجاهد، وشهر: دين حَوْشَبٍ وَهَارُونُ الْأَعْوَرُ: عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَبُو عُمَارَةَ: عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَإِعْرَابُ شَهْرُ يَتَبَيَّنُ عَلَى المراد بقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَيَكُونُ رَفْعُ شَهْرُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَيَكُونُ ذِكْرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَقْدِمَةً لِفَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ بِذِكْرِ فَضِيلَتِهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّهْرَ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَيْكُمْ صَوْمُهُ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: الَّذِي أُنْزِلَ، صِفَةً. إِمَّا لِلشَّهْرِ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا، وَإِمَّا لِرَمَضَانَ فَيَكُونُ مَجْرُورًا.
وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَالْجُمْلَةُ بعد الصفة مِنْ قَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ وَتَكُونُ الْفَاءُ فِي: فَمَنْ، زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، وَلَا تَكُونُ هِيَ الدَّاخِلَةَ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ إِذَا كَانَ مِنْهَا لِلشَّرْطِ، لِأَنَّ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يُشْبِهُ الشَّرْطَ، قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ الْفَاءُ زَائِدَةً، بَلْ دَخَلَتْ هُنَا كَمَا دَخَلَتْ فِي خَبَرِ الَّذِي، وَمِثْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ «٢» وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الَّذِي، صِفَةٌ لِعَلَمٍ، أَوْ لِمُضَافٍ لِعَلَمٍ، فَلَيْسَ يُتَخَيَّلُ فِيهِ شَيْءٌ مَا مِنَ الْعُمُومِ، وَلِمَعْنَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَلَيْسَ كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَوْتَ هُنَا لَيْسَ مُعَيَّنًا، بَلْ فِيهِ عُمُومٌ. وَصِلَةُ الَّذِي مُسْتَقْبَلَةٌ، وَهِيَ: تَفِرُّونَ، وَعَلَى الْقَوْلِ، بِأَنَّ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ فَمَنْ شَهِدَ هِيَ الْخَبَرُ، يَكُونُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ تَكْرَارُ الْمُبْتَدَأِ بِلَفْظِهِ، أَيْ: فَمَنْ شَهِدَهُ مِنْكُمْ فَلْيَصُمْهُ، فَأَقَامَ لَفْظَ الْمُبْتَدَأِ مَقَامَ الضَّمِيرِ، وَحَصَلَ بِهِ الرَّبْطُ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٢٨.
(٢) سورة الجمعة: ٦/ ٨.
193
وَذَلِكَ لِتَفْخِيمِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أَيَّامُ رَمَضَانَ، فَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ شَهْرُ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ: شَهْرُ رَمَضَانَ، أَيِ: الْمَكْتُوبُ شَهْرُ رَمَضَانَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ: ذَلِكُمْ شَهْرُ وَهُوَ قَرِيبٌ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: الصِّيَامُ، أَيْ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ إِلَّا مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ: لَا، وَهُوَ عَكْسُ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ بِالْمَصَادِرِ كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ «١» وَقَوْلِ الْأَعْشَى:
لَقَدْ كَانَ فِي حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتَهُ تَقَضَّى لُبَانَاتٍ وَيَسْأَمُ سَائِمُ
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْكِسَائِيُّ بِالْعَكْسِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ صِيَامُهُ، لَكَانَ الْبَدَلُ إِذْ ذَاكَ صَحِيحًا. وَعُكِسَ: وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ قَوْلِ الْكِسَائِيِّ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَيَكُونَ مِنْ بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ تَقْدِيرُهُ: صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، لَكِنْ فِي ذَلِكَ مَجَازُ الْحَذْفِ وَالْفَصْلُ الْكَثِيرُ بِالْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَيَجُوزُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يكون بدلا من أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ، عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَرَأَ: أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ، بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيِ: الْمَكْتُوبُ صَوْمُهُ أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ. ذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ (الْبَدِيعِ) لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَانْتِصَابُ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَالرُّمَّانِيُّ وَفِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْإِغْرَاءِ تَقْدِيرُهُ الْزَمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْحَوْفِيُّ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلشَّهْرِ ذِكْرٌ وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَصُومُوا حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَجَوَّزَهُ الزمخشري قال: وقرىء بِالنَّصْبِ عَلَى: صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، أَوْ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنْ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ: وَأَنْ تَصُومُوا. انْتَهَى كَلَامُهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ تَصُومُوا صِلَةٌ لِأَنْ، وَقَدْ فَصَلْتَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١٧.
194
بَيْنَ مَعْمُولِ الصِّلَةِ وَبَيْنَهَا بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، لِأَنَّ تَصُومُوا فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ:
وَصِيَامُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، وَلَوْ قُلْتَ: أَنْ يضرب زيدا شديد، وَأَنْ تَضْرِبَ شَدِيدٌ زَيْدًا، لَمْ يَجُزْ.
وَأَدْغَمَتْ فِرْقَةٌ شَهْرَ رَمَضَانَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ لَا تَقْتَضِيهِ الْأُصُولُ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ فِيهِ، يَعْنِي بِالْأُصُولِ أَصُولَ مَا قَرَّرَهُ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الرَّاءِ فِي شَهْرُ حَرْفٌ صَحِيحٌ، فَلَوْ كَانَ فِي حَرْفِ عِلَّةٍ لَجَازَ بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ، نَحْوَ: هَذَا ثَوْبُ بَكْرٍ، لِأَنَّ فِيهِ لِكَوْنِهِ حَرْفَ عِلَّةٍ مدّا أمّا وَلَمْ تَقْصُرْ لُغَةُ الْعَرَبِ عَلَى مَا نَقَلَهُ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ، وَلَا عَلَى مَا اخْتَارُوهُ، بَلْ إِذَا صَحَّ النَّقْلُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ..
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: تَقَدَّمَ إِعْرَابُهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ ظَرْفٌ لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ يَعُمُّ الْجَمِيعَ ظَاهِرًا، وَلَمْ يُبَيَّنْ مَحَلُّ الْإِنْزَالِ،
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُنْزِلَ جَمِيعُهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَجَّمًا.
وَقِيلَ: الْإِنْزَالُ هُنَا هُوَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ مِمَّا عُبِّرَ بِكُلِّهِ عَنْ بعضه، والمعنى بدىء بِإِنْزَالِهِ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ.
أَوْ تكون الألف واللام فيه لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، كَمَا تَقُولُ: أَكَلْتُ اللَّحْمَ، لَا تُرِيدُ اسْتِغْرَاقَ الْأَفْرَادِ، إِنَّمَا تُرِيدُ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ.
وَقِيلَ مَعْنَى: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ
فَيَكُونُ الْإِنْزَالُ عُبِّرَ بِهِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ.
وَقِيلَ: أُنْزِلَ فِي فَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ الْقُرْآنُ، وَفِي شَأْنِهِ الْقُرْآنُ، كَمَا تَقُولُ: أُنْزِلَ فِي عَائِشَةَ قُرْآنٌ. وَالْقُرْآنُ الَّذِي نَزَلَ هُوَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: فِي فَضْلِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى. أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَيْ أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّفَرَةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ من عشرين شهرا، ونزل بِهِ جِبْرِيلُ فِي عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَهُ مُقَاتِلٌ.
وَرَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالتَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْهُ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَالْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ».
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: «نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي ثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْجِيلُ عِيسَى فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ»
، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ رِوَايَةَ وَاثِلَةَ أُخْبِرَ فِيهَا عَنِ ابْتِدَاءِ نُزُولِ الصُّحُفِ وَالْإِنْجِيلِ، وَرِوَايَةَ أَبِي ذَرٍّ أُخْبِرَ فِيهَا عَنِ انْتِهَاءِ النُّزُولِ.
195
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ الْقُرَانُ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى الرَّاءِ، وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ نُكِّرَ أَمْ عُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ، وَهَذَا الْمُخْتَارُ مِنْ تَوْجِيهِ قِرَاءَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ النُّونَ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الْهَمْزِ أَصْلِيَّةٌ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ فِي الشَّيْءِ ضَمَمْتُهُ.
هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ انْتِصَابُ: هُدًى، عَلَى الْحَالِ وَهُوَ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ: هَادِيًا لِلنَّاسِ، فَيَكُونُ: لِلنَّاسِ، مُتَعَلِّقًا بِلَفْظِ: هُدًى، لَمَّا وَقَعَ مَوْقِعَ هَادٍ، وَذُو الْحَالِ الْقُرْآنُ، وَالْعَامِلُ: أُنْزِلَ، وَهِيَ حَالٌ لَازِمَةٌ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ هُدًى هُوَ لَازِمٌ لَهُ، وَعُطِفَ قَوْلُهُ: وَبَيِّنَاتٍ، عَلَى: هُدًى، فَهُوَ حَالٌ أَيْضًا، وَهِيَ لَازِمَةٌ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ جَلِيَّاتٍ وَاضِحَاتٍ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، لِأَنَّ الْهُدَى: مِنْهُ خَفِيٌّ وَمِنْهُ جَلِيٌّ، فَنَصَّ بِالْبَيِّنَاتِ عَلَى الْجَلِيِّ مِنَ الْهُدَى، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَذَكَرَ عَلَيْهِ أَشْرَفَ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَبَيَّنُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْمَوْعِظَةُ.
مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ هَذَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: هُدًى وَبَيِّنَاتٍ، أَيْ: أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ هُدًى وَبَيِّنَاتٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ هُدَى اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَالْهُدَى وَالْفُرْقَانُ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ، فَهَذَا الْقُرْآنُ بَعْضُهَا، وَعَبَّرَ عَنِ الْبَيِّنَاتِ بِالْفُرْقَانِ، وَلَمْ يَأْتِ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ فَيُطَابِقَ الْعَجُزُ الصَّدْرَ لِأَنَّ فِيهِ مَزِيدَ مَعْنًى لَازِمٍ لِلْبَيِّنَاتِ، وَهُوَ كَوْنُهُ يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَمَتَى كَانَ الشَّيْءُ جَلِيًّا وَاضِحًا حَصَلَ بِهِ الْفَرْقُ، وَلِأَنَّ فِي لَفْظِ: الْفُرْقَانِ، مُؤَاخَاةً لِلْفَاصِلَةِ قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: شَهْرُ رَمَضانَ ثُمَّ قَالَ: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، ثُمَّ قَالَ: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَوَاخِي هَذِهِ الْفَوَاصِلِ، فَصَارَ الْفُرْقَانُ هُنَا أَمْكَنَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
وَلَا يَظْهَرُ هُنَا مَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْهُدَى وَالْفُرْقَانَ أُرِيدَ بِهِ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ بَعْضَ نَفْسِهِ، وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ: هُدًى الْأَوَّلُ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ، وَالثَّانِي عَلَى فُرُوعِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّامُ فِي الْهُدَى لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ الْأَوَّلُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. يَعْنِي: أَنَّهُ أَتَى بِهِ مُنَكَّرًا أَوَّلًا، ثُمَّ أَتَى بِهِ مُعَرَّفًا ثَانِيًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «١» فَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي عَصَاهُ فِرْعَوْنُ هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، فالمضروب هو
(١) سورة المزمل: ٧٣/ ١٥ و ١٦.
196
الْمَلْقِيُ؟ وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِجَعْلِ ضَمِيرِ النَّكِرَةِ مَكَانَ ذَلِكَ هَذَا الثَّانِي، فَيَصِحُّ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى فَعَصَاهُ فِرْعَوْنُ، أَوْ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُهُ لَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا، وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا، لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُوَ وَالْمُعْرِبُونَ: أَنَّ هُدًى مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَصْفٌ فِي ذِي الْحَالِ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَبَيِّنَاتٍ، فَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ: مِنَ الْهُدَى، الْمُرَادُ بِهِ الْهُدَى الْأَوَّلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: هُدًى، أَوْ لِقَوْلِهِ: وَبَيِّنَاتٍ، أَوْ لَهُمَا، أو متعلق بِلَفْظِ بَيِّنَاتٍ، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِهُدًى، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَصْفٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ الْأَوَّلُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ إِيَّاهُ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ بَعْضًا. كُلًّا بِالنِّسْبَةِ لِمَاهِيَّتِهِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِبَيِّنَاتٍ فَقَطْ، لِأَنَّ وَبَيِّنَاتٍ مَعْطُوفٌ عَلَى هُدًى، وَهُدًى حَالٌ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، وَالْحَالُ وَصْفٌ فِي ذِي الْحَالِ، فَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمَا حَالَيْنِ تَخَصَّصَ بِهِمَا ذُو الْحَالِ إِذْ هُمَا وَصْفَانِ، وَمِنْ حَيْثُ وُصِفَتْ بَيِّنَاتٍ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْهُدَى، خَصَّصَهَا بِهِ، فَوُقِفَ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ عَلَى قَوْلِهِ هُدًى وَبَيِّنَاتٍ مَعًا، وَمِنْ حَيْثُ جُعِلَتْ مِنَ الْهُدَى صِفَةً لِبَيِّنَاتٍ تَوَقَّفَ تَخْصِيصُ بَيِّنَاتٍ عَلَى هُدًى، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِلَفْظِ: وَبَيِّنَاتٍ، لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ تَقْيِيدٌ لِلْمُتَعَلَّقِ بِهِ، فَهُوَ كَالْوَصْفِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الْوَصْفُ.
وَأَيْضًا فَلَوْ جَعَلْتَ هُنَا مَكَانَ الْهُدَى ضَمِيرًا، فَقُلْتَ: وَبَيِّنَاتٍ مِنْهُ أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْهُدَى، لَمْ يَصِحَّ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانُ عَامَّيْنِ حَتَّى يَكُونَ هُدًى وَبَيِّنَاتٌ بَعْضًا مِنْهُمَا..
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الشَّهْرِ لِلْعَهْدِ، وَيَعْنِي بِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَلِذَلِكَ يَنُوبُ عَنْهُ الضَّمِيرُ، وَلَوْ جَاءَ: فمن شهد مِنْكُمْ فَلْيَصُمْهُ لَكَانَ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا أَبْرَزَهُ ظَاهِرًا لِلتَّنْوِيهِ بِهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، وَحَسَّنَ لَهُ أَيْضًا كَوْنُهُ مِنْ جُمْلَةٍ ثَانِيَةٍ.
وَمَعْنَى شُهُودِ الشَّهْرِ الْحُضُورُ فِيهِ. فَانْتِصَابُ الشَّهْرِ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُقِيمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِذَا كَانَ بِصِفَةِ التَّكْلِيفِ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، إِذِ الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلْيَصُمْهُ، وَقَالُوا عَلَى انْتِصَابِ الشَّهْرِ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَمَنْ شَهِدَ، حُذِفَ مَفْعُولُهُ تَقْدِيرُهُ الْمِصْرَ أَوِ الْبَلَدَ.
وَقِيلَ: انْتِصَابُ الشَّهْرِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ دُخُولَ الشَّهْرِ عَلَيْهِ وَهُوَ مُقِيمٌ لَزِمَهُ الصَّوْمُ، وَقَالُوا: يُتِمُّ الصَّوْمَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ
197
وَهُوَ مُقِيمٌ، أَقَامَ أَمْ سَافَرَ، وَإِنَّمَا يُفْطِرُ فِي السَّفَرِ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَلِيٌّ، وابن عباس، وعبيدة المسلماني، وَالنَّخَعِيُّ، وَالسُّدِّيُّ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَوَّلَ الشَّهْرِ أَوْ آخِرَهُ فَلْيَصُمْ مَا دَامَ مُقِيمًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الشَّهْرُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَكَذَلِكَ الْهَاءُ فِي: فَلْيَصُمْهُ، وَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، كَقَوْلِكَ: شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ وَالْمُسَافِرَ كِلَاهُمَا شَاهِدَانِ لِلشَّهْرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ دُخُولَ الشَّهْرِ، أَيْ: مَنْ حَضَرَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ هِلَالَ الشَّهْرِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ: شَهِدْتُ الْهِلَالَ، إِنَّمَا تَقُولُ: شَاهَدْتُ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ الصَّوْمُ كُلَّ مَنْ شَهِدَ الْهِلَالَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَمِنْكُمْ، فِي مَوْضِعِ الحال، ومن الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي شَهِدَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ كَائِنًا مِنْكُمْ.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنْكُمْ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِشَهِدَ، فَتَنَاقَضَ، لِأَنَّ جَعْلَهَا حَالًا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا، وَجَعْلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِشَهِدَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ حَالًا، فتناقض.
ومن، مِنْ قَوْلِهِ فَمَنْ شَهِدَ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وَقَدْ مَرَّ نَظَائِرُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِسُكُونِ اللَّامِ فِي: فَلْيَصُمْهُ، أَجْرَوْا ذَلِكَ مَجْرَى: فَعَلَ، فَخَفَّفُوا، وَأَصْلُهَا الْكَسْرُ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَعِيسَى الثقفي، وكذلك قرؤا لَامَ الْأَمْرِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ نَحْوَ: فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ «١» بِالْكَسْرِ، وَكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَشْهُورُ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَنَقَلَ صَاحِبُ (التَّسْهِيلِ) أَنَّ فَتْحَ لَامِ الْأَمْرِ لُغَةٌ، وَعَنِ ابْنِهِ أَنَّ تِلْكَ لُغَةُ بَنِي سُلَيْمٍ. وَقَالَ: حَكَاهَا الْفَرَّاءُ.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِمَا الْإِطْلَاقُ فِي أَنَّ فَتْحَ اللَّامِ لُغَةٌ، وَنَقَلَ صَاحِبُ كِتَابِ (الْإِعْرَابِ)، وَهُوَ: أَبُو الْحَكَمِ بْنُ عُذْرَةَ الْخَضْرَاوِيُّ، عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَفْتَحُ هَذِهِ اللَّامَ لِفَتْحَةِ الْيَاءِ بَعْدَهَا، قَالَ: فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْفَتْحُ إِنِ الكسر مَا بَعْدَهَا أَوْ ضُمَّ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَلِكَ نَحْوَ: لَيُنْبَذَنَّ، وَلَتُكْرِمْ زَيْدًا، وَلَيُكْرَمْ عَمْرًا وَخَالِدًا، وَقُومُوا فَلَأُصَلِّ لَكُمْ.
وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَذِكْرُ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٨٢.
198
فَائِدَةِ تَكْرَارِهَا عَلَى تَقْدِيرِ: أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ هُوَ قَوْلُهُ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْإِرَادَةِ فِي قَوْلِ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا «١» وَالْإِرَادَةُ هُنَا إِمَّا أَنْ تَبْقَى عَلَى بَابِهَا، فَتَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ صَاحِبُ (الْمُنْتَخَبِ) : يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَكُمْ بِمَا فِيهِ يُسْرٌ، وَإِمَّا أَنْ يُتَجَوَّزَ بِهَا عَنِ الطَّلَبِ، أَيْ: يَطْلُبُ اللَّهُ مِنْكُمُ الْيُسْرَ، وَالطَّلَبُ عِنْدَنَا غَيْرُ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ لَمْ يَكُنْ لِيَقَعَ عُسْرٌ وَهُوَ وَاقِعٌ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَرَادَ: يَتَعَدَّى إِلَى الْأَجْرَامِ بِالْبَاءِ، وَإِلَى الْمَصَادِرِ بِنَفْسِهِ، كَالْآيَةِ. وَيَأْتِي أَيْضًا مُتَعَدِّيًا إِلَى الْأَجْرَامِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمَصَادِرِ بِالْبَاءِ. قَالَ:
أَرَادَتْ عرار بِالْهَوَانِ وَمَنْ يُرِدْ عِرَارًا، لَعَمْرِي بِالْهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ
قَالُوا: يُرِيدُ هُنَا بِمَعْنَى أَرَادَ، فَهُوَ مُضَارِعٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي، وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَالَةُ الدَّائِمَةُ هُنَا، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ هُوَ الْمَوْضُوعُ لِمَا هُوَ كَائِنٌ لَمْ يَنْقَطِعْ، وَالْإِرَادَةُ صِفَةُ ذَاتٍ لَا صِفَةُ فِعْلٍ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ لَهُ تَعَالَى دَائِمًا، وَظَاهِرُ الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ. «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ يَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ».
وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أيسرهما، وفي القرآن: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «٢» وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «٣» فَيَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومِ فِي الْيُسْرِ فِطْرُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ اللَّذَيْنِ ذُكِرَ حُكْمُهُمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومِ فِي الْعُسْرِ صَوْمُهُمَا لِمَا فِي حَالَتَيِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعْسِيرِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ الْيُسْرَ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ، وَالْعُسْرَ الصَّوْمُ فِيهِ
، وَيُحْمَلُ تَفْسِيرُهُمْ عَلَى التَّمْثِيلِ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ، وناسب أن مثلوا
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦.
(٢) سورة الحج: ٢٢/ ٧٨.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٧.
199
بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ فِي سِيَاقِ مَا قَبْلَهَا، فَدَخَلَ فِيهَا مَا قَبْلَهَا دُخُولًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ كَافٍ عَنْ قَوْلِهِ: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَإِنَّمَا كُرِّرَ تَوْكِيدًا. انْتَهَى.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَيَحْيَى بْنُ وثاب، وابن هرمذ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: الْيُسُرَ وَالْعُسُرَ، بِضَمِّ السِّينِ فِيهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِالْإِسْكَانِ.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَرُوِيَ: مُشَدَّدَ الْمِيمِ مَفْتُوحَ الْكَافِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ، وَفِي اللَّامِ أَقْوَالٌ.
الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمَفْعُولِ، كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، الْمَعْنَى، وَيُرِيدُ إِكْمَالَ الْعِدَّةِ، وَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ مُقَدَّرَةٌ بِأَنْ، كَأَنَّ الْكَلَامَ: ويريد لأن تكلموا الْعِدَّةَ، هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَنَحْوُهُ، قَوْلُ أَبِي صَخْرٍ.
أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا تُخَيَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَمَا جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: كَأَنَّهُ قِيلَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَيُرِيدُ لِتُكْمِلُوا، لقوله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «١» وَفِي كَلَامِهِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْيُسْرِ، وَمُلَخَّصُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّامَ جَاءَتْ فِي الْمَفْعُولِ الْمُؤَخَّرِ عَنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مِمَّا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ قَلِيلٌ، أَوْ ضَرُورَةٌ، لَكِنْ يُحَسِّنُ ذَلِكَ هُنَا، بُعْدُهُ عَنِ الْفِعْلِ بِالْفَصْلِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْفِعْلُ مَفْعُولَهُ، وَهُوَ: الْيُسْرُ، وَفُصِلَ بَيْنَهُمَا بِجُمْلَةٍ وَهِيَ: وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، بَعُدَ الْفِعْلُ عَنِ اقْتِضَائِهِ، فَقُوِّيَ بِاللَّامِ، كَحَالِهِ إِذَا تَقَدَّمَ فَقُلْتُ لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ، لِأَنَّهُ بِالتَّقَدُّمِ وَتَأَخُّرِ الْعَامِلِ ضَعُفَ الْعَامِلُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَقُوِّيَ بِاللَّامِ، إِذْ أَصْلُ الْعَامِلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَأَصْلُ الْمَعْمُولِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ، لَكِنْ فِي هَذَا الْقَوْلِ إِضْمَارُ أَنْ بَعْدَ اللَّامِ الزَّائِدَةِ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ تَتَبُّعٌ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: وَهِيَ، يَعْنِي بِاللَّامِ مَعَ الْفِعْلِ، يَعْنِي تُكْمِلُوا مُقَدَّرَةً بِأَنْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَنْ مُضْمَرَةٌ بَعْدَهَا وَاللَّامُ حَرْفُ جَرٍّ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: كَأَنَّ الْكَلَامَ: وَيُرِيدُ لِأَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، فَأَظْهَرَ أَنْ بَعْدَ اللَّامِ، فَتَصْحِيحُ لَفْظِهِ أَنْ تَقُولَ: وَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ مُقَدَّرَانِ بَعْدَهَا، وَقَوْلُهُ: هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَنَحْوُهُ، قَوْلُ أَبِي صخر:
(١) سورة الصف: ٦١/ ٨.
200
أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا...
لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، زَعْمًا أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ لَامَ كَيْ فِي مَوْضِعِ أَنْ فِي أَرَدْتُ وَأَمَرْتُ. قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «١» يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «٢» وأَنْ يُطْفِؤُا «٣» إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ «٤». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا...
وَقَالَ تعالى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ «٥» وأَنْ أُسْلِمَ «٦» وَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ اللَّامَ هُنَا باقية على حالها وأن مُضْمَرَةٌ بَعْدَهَا، لَكِنَّ الْفِعْلَ قَبْلَهَا يُقَدِّرُهُ بِمَصْدَرٍ، كَأَنَّهُ قال:
الإرادة لِلتَّبْيِينِ، وَإِرَادَتِي لِهَذَا، وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى زِيَادَةِ اللَّامِ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ) فَتُطَالَعُ هُنَاكَ.
وَتَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَا قَالَ: مِنْ أَنَّهُ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ لَيْسَ كَمَا قَالَ: إِنَّمَا يَتَمَشَّى قَوْلُهُ: وَهِيَ، مع الفعل مقدرة بأن عَلَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، لَا عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ.
وَتَنَاقَضَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَالَ: هِيَ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمَفْعُولِ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ:
ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، الْمَعْنَى، وَيُرِيدُ إِكْمَالَ الْعِدَّةِ. ثُمَّ قَالَ: وَهِيَ مع الفعل مقدرة بأن، فَمِنْ حَيْثُ جَعَلَهَا الدَّاخِلَةَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنَ الْمَفْعُولِ، وَمِنْ حَيْثُ قَدَّرَهَا بِأَنْ كَانَتْ جُزْءًا مِنَ الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ إِنَّمَا يَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ الْفِعْلِ، فَهِيَ جُزْءٌ لَهُ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ جُزْءًا لِشَيْءٍ غَيْرِ جُزْءٍ لَهُ، فَتَنَاقَضَ.
وَأَمَّا تَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: الْيُسْرَ، فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا بِزِيَادَةِ اللَّامِ وَإِضْمَارِ: أَنْ، بَعْدَهَا، أَوْ يجعل اللَّامِ لِمَعْنَى: أَنْ، فَلَا تَكُونُ أَنْ مُضْمَرَةً بَعْدَهَا، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ لَامَ الْأَمْرِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ لَامَ الْأَمْرِ وَالْوَاوُ عَاطِفَةً جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جملة كَلَامٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْوَجْهَ فِيمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَيُضَعِّفُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ قَالُوا: أَمْرُ الْفَاعِلِ الْمُخَاطَبِ فِيهِ الْتِفَاتٌ، قَالُوا: أَحَدُهُمَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهُوَ إِقْرَارُ تَاءِ الخطاب ولام
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٦.
(٢) سورة الصف: ٦١/ ٨.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٣٢.
(٤) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٣. [.....]
(٥) سورة الأنعام: ٦/ ٧١.
(٦) سورة غافر: ٤٠/ ٦٦.
201
الْأَمْرِ قَبْلَهَا، وَاللُّغَةُ الْأُخْرَى هِيَ الْجَيِّدَةُ الْفَصِيحَةُ، وَهُوَ، أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عَارِيًا مِنْ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَمِنَ اللَّامِ، وَيُضَعِّفُ هَذَا الْقَوْلَ أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ على أَحَدٍ مِنَ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ بِإِسْكَانِ هَذِهِ اللَّامِ، فَلَوْ كَانَتْ لَامَ الْأَمْرِ لَكَانَتْ كَسَائِرِ أَخَوَاتِهَا مِنَ الْقِرَاءَةِ بِالْوَجْهَيْنِ فِيهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْجَرِّ لَا لَامُ الْأَمْرِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ كَلَامٍ، يَعْنِي: أَنَّهَا إِذَا كَانَتِ اللَّامُ لِلْأَمْرِ كَانَ الْعَطْفُ مِنْ قَبِيلِ الْجُمَلِ، وَإِذَا كَانَتْ كَاللَّامِ فِي: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، كَانَتْ مِنْ قِبَلِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ، وَاخْتَلَفَ قَائِلُو هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَقْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: لِتَعْمَلُوا مَا تَعْمَلُونَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَكُونُ هَذَا الْفِعْلُ الْمُعَلَّلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: إِرَادَةَ الْيُسْرِ. الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْوَاوِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ هُوَ الْمُعَلَّلُ، التَّقْدِيرُ: وَفَعَلَ هَذَا لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ وَقَدْ حُذِفَ مَعْلُولُهَا، التَّقْدِيرُ: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِيُسَهِّلَ عَلَيْكُمْ وَلِتُكْمِلُوا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُعَلَّلُ مُقَدَّرًا بَعْدَ التَّعْلِيلِ، تَقْدِيرُهُ: وَلَأَنْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ رَخَّصَ لَكُمْ هَذِهِ الرُّخْصَةَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُعَلَّلُ مُقَدَّرًا بَعْدَ قَوْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَتَقْدِيرُهُ: شَرَعَ ذَلِكَ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ مَا نَصُّهُ: شَرَعَ ذَلِكَ، يَعْنِي جُمْلَةَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الشَّاهِدِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ، وَأَمْرِ الْمُرَخَّصِ لَهُ بِمُرَاعَاةِ عِدَّةِ مَا أَفْطَرَ فِيهِ، وَمِنَ التَّرْخِيصِ فِي إِبَاحَةِ الْفِطْرِ فَقَوْلُهُ: لِتُكْمِلُوا، عِلَّةُ الْأَمْرِ بِمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ، وَلِتُكَبِّرُوا عِلَّةُ مَا عَلَّمَ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْفِطْرِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، عِلَّةُ التَّرْخِيصِ وَالتَّيْسِيرِ.
وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ اللَّفِّ لَطِيفُ الْمَسْلَكِ لَا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلّا النقاد الْمُحْذِقُ مِنْ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْعَهْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أَيْ: وَلِيُكْمِلَ مَنْ أَفْطَرَ فِي مَرَضِهِ أَوْ سَفَرِهِ عِدَّةَ الْأَيَّامَ الَّتِي أَفْطَرَ فِيهَا بِأَنْ يَصُومَ مِثْلَهَا، وَقِيلَ: عِدَّةَ الْهِلَالِ سَوَاءٌ كَانَتْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَمْ كَانَ ثَلَاثِينَ، فَتَكُونُ الْعِدَّةُ رَاجِعَةً إِذْ ذَاكَ إِلَى شَهْرِ رَمَضَانَ الْمَأْمُورِ بِصَوْمِهِ.
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَالْكَلَامُ فِي اللَّامِ
202
كَالْكَلَامِ فِي لَامِ: وَلِتُكْمِلُوا وَمَعْنَى التَّكْبِيرِ هُنَا تَعْظِيمُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ، بَلْ يُعَظَّمُ اللَّهُ وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِمَا شَاءَ مِنْ أَلْفَاظِ الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَقِيلَ: هُوَ التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي آخِرِ رَمَضَانَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ أَنْ يُكَبِّرُوا، وَقِيلَ: هُوَ التَّكْبِيرُ الْمَسْنُونُ فِي الْعِيدِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: هُوَ التَّكْبِيرُ يَوْمَ الْفِطْرِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مُدَّتِهِ وَفِي كَيْفِيَّتِهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُكَبِّرُ مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِلَى انْقِضَاءِ الْخُطْبَةِ وَيُمْسِكُ وَقْتَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَيُكَبِّرُ بِتَكْبِيرِهِ، وَقِيلَ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: مِنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِلَى خُرُوجِ الْإِمَامِ إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَالِكٌ: مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَعَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ: إِنْ خَرَجَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَا يُكَبِّرُ فِي طَرِيقِهِ وَلَا فِي جُلُوسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَإِنْ غَدَا بَعْدَ الطُّلُوعِ فَلْيُكَبِّرْ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمُصَلَّى وَإِذَا جَلَسَ حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ.
وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ، فَنَقَلَ الْأَثَرُ عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ إِلَى الْمُصَلَّى يَقْطَعُ قَالَ أَبُو يَعْلَى:
يَعْنِي: وَخَرَجَ الْإِمَامُ، وَنَقَلَ حنبل عنه أنه يَقْطَعَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ الْخُطْبَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَضْحَى، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ:
الْفِطْرُ وَالْأَضْحَى سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعُرْوَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى وَلَا يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ.
وَكَيْفِيَّتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثَلَاثًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَابِرٍ، وَقِيلَ: يُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ أَثْنَاءَ التَّكْبِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَانَ مَالِكٌ لَا يَجِدُ فِيهِ حَدًّا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَارَ عُلَمَاؤُنَا التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: كُلٌّ وَاسِعٌ، وَحُجَجُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَرَجَّحَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) أَنَّ إِكْمَالَ الْعِدَّةِ هُوَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَأَنَّ تَكْبِيرَ اللَّهِ هُوَ عِنْدَ الِانْقِضَاءِ عَلَى مَا هَدَى إِلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ. قَالَ: لِأَنَّ تَكْبِيرَ اللَّهِ بِمَعْنَى تَعْظِيمِهِ هُوَ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَفِي كُلِّ الطَّاعَاتِ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ انْتَهَى.
وَ: عَلَى، تَتَعَلَّقُ: بِتُكَبِّرُوا، وَفِيهَا إِشْعَارٌ بِالْعِلْيَةِ، كَمَا تَقُولُ: أَشْكُرُكَ عَلَى مَا أَسْدَيْتَ إِلَيَّ.
203
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا عَدَّى فعل التكبر بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ لِكَوْنِهِ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْحَمْدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَوْلُهُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، هُوَ تَفْسِيرُ مَعْنًى لَا تَفْسِيرُ إِعْرَابٍ، إِذْ لَوْ كَانَ تَفْسِيرَ إِعْرَابٍ لَمْ تَكُنْ: عَلَى، مُتَعَلِّقًا، بِتُكَبِّرُوا الْمُضَمَّنَةِ مَعْنَى الْحَمْدِ، إِنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِحَامِدِينَ الَّتِي قَدَّرَهَا، وَالتَّقْدِيرُ الْإِعْرَابِيُّ هُوَ، أَنْ تَقُولَ: كَأَنَّهُ قِيلَ:
وَلِتَحْمَدُوا اللَّهَ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، كَمَا قَدَّرَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِمْ: قَتَلَ اللَّهُ زِيَادًا عني أَيْ:
صَرَفَ اللَّهُ زِيَادًا عَنِّي بِالْقَتْلِ، وَفِي. قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ فِينَا فَوَارِسٌ بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الْأَبَاهِرِ وَالْكُلَى
أَيْ: تَحْكُمُونَ بِالْبَصِيرَةِ فِي طَعْنِ الْأَبَاهِرِ، وَالظَّاهِرُ فِي: مَا، أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: عَلَى هِدَايَتِكُمْ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ: مَا، بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: حَذَفُ الْعَائِدِ عَلَى: مَا، أَيْ: عَلَى الَّذِي هَدَاكُمُوهُ وَقَدَّرْنَاهُ مَنْصُوبًا لَا مَجْرُورًا بِإِلَى، وَلَا بِاللَّامِ لِيَكُونَ حَذْفُهُ أَسْهَلَ مِنْ حَذْفِهِ مَجْرُورًا. وَالثَّانِي: حَذْفُ مُضَافٍ بِهِ يَصِحُّ الْكَلَامُ، التَّقْدِيرُ: عَلَى اتِّبَاعِ الَّذِي هَدَاكُمُوهُ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا التَّقْدِيرَ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ مَعْنَى الْكَلَامِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى: هَدَاكُمْ، حُصُولُ الْهِدَايَةِ لَكُمْ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى، هِدَايَتُكُمْ لِمَا ضَلَّ فِيهِ النَّصَارَى مِنْ تَبْدِيلِ صِيَامِهِمْ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: الَّذِي، فَالْمَعْنَى عَلَى مَا أَرْشَدَكُمْ إِلَيْهِ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هُوَ تَرَجٍّ فِي حَقِّ الْبَشَرِ عَلَى نِعْمَةِ اللَّهِ فِي الْهِدَايَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَيَكُونُ الشُّكْرُ عَلَى الْهِدَايَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَشْكُرُونَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ ثَوَابِ طَاعَاتِكُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِرَادَةُ أَنْ تَشْكُرُوا، فَتَأَوَّلَ التَّرَجِّيَ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى الْإِرَادَةِ، وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ التَّرَجِّيَ مِنَ الْمَخْلُوقِ، إِذِ التَّرَجِّي حَقِيقَةً يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ، فَلِذَلِكَ أَوَّلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْإِرَادَةِ، وَجَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنَ الْبَشَرِ، والقولان متكافئان، وَإِذَا كَانَ التَّكْلِيفُ شَاقًّا نَاسَبَ أَنْ يُعَقَّبَ بِتَرَجِّي التَّقْوَى، وَإِذَا كَانَ تَيْسِيرًا وَرُخْصَةً نَاسَبَ أَنْ يُعَقَّبَ بِتَرَجِّي الشُّكْرِ، فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هذه الآية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لِأَنَّ قَبْلَهُ تَرْخِيصٌ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِالْفِطْرِ، وَقَوْلُهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَجَاءَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ:
204
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وَقَبْلَهُ وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لِأَنَّ الصِّيَامَ وَالْقِصَاصَ مِنْ أَشَقِّ التَّكَالِيفِ، وَكَذَا يَجِيءُ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ شَاقٌّ وَفِيمَا فِيهِ تَرْخِيصٌ أَوْ تَرْقِيَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَظَ ذَلِكَ حَيْثُ جَاءَ فَإِنَّهُ مِنْ مَحَاسِنِ عِلْمِ الْبَيَانِ.
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ سَبَبُ النُّزُولِ فِيمَا قَالَ الْحَسَنُ: أَنَّ قَوْمًا، قِيلَ: الْيَهُودُ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ، قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَمَّا نَزَلَ. وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «١» قَالَ قَوْمٌ: فِي أَيِّ سَاعَةٍ نَدْعُو؟
فَنَزَلَ وَإِذا سَأَلَكَ وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ طَلَبَ تَكْبِيرِهِ وَشُكْرِهِ بَيَّنَ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى ذِكْرِ مَنْ ذَكَرَهُ وَشُكْرِ مَنْ شَكَرَهُ، يَسْمَعُ نِدَاءَهُ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُ أو رغبته، تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ يَكُونَ وَلَا بُدَّ مَسْبُوقًا بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ.
وَالْكَافُ فِي: سَأَلَكَ، خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنْ فِي قَوْلِهِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أَيْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أُنْزِلَ عَلَيْكَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فَجَاءَ هَذَا الْخِطَابُ مُنَاسِبًا لِهَذَا الْمَحْذُوفِ. وَ: عِبَادِي، ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ:
إِمَّا الْيَهُودُ وَإِمَّا الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْخِلَافِ فِي السَّبَبِ، وَأَمَّا عِبَادِي. وَ: عَنِّي، فَالضَّمِيرُ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، لأنه سبق و: لتكبروا اللَّهَ، فَهُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَائِبٍ إِلَى مُتَكَلِّمٍ، وَ: عَنِّي، مُتَعَلِّقٌ بِسَأَلَكَ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا عَنْ ذَاتِهِ لِأَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ بِقَوْلِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ، وَالْقُرْبُ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قُرْبًا بِالْمَكَانِ، وَإِنَّمَا الْقُرْبُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى سَامِعًا لِدُعَائِهِ، مُسْرِعًا فِي إِنْجَاحِ طلب مَنْ سَأَلَهُ، فَمَثَّلَ حَالَةَ تَسْهِيلِهِ ذَلِكَ بِحَالَةِ مَنْ قَرُبَ مَكَانُهُ مِمَّنْ يَدْعُوهُ، فَإِنَّهُ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ يُجِيبُ دُعَاءَهُ. وَنَظِيرُ هَذَا الْقُرْبِ هُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «٢» وَمَا
رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هُوَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْنَاقِ رَوَاحِلِكُمْ».
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنِّي قَرِيبٌ، جَوَابُ إِذَا، وَثَمَّ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَقُلْ لَهُمْ إِنِّي قَرِيبٌ، لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الشَّرْطِ الْقُرْبُ، إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الْإِخْبَارُ عَنِ الْقُرْبِ.
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ أُجِيبُ: إما صفة لقريب، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وَرُوعِيَ الضَّمِيرُ فِي: فَإِنِّي، فَلِذَلِكَ جَاءَ أُجِيبُ، وَلَمْ يُرَاعَ الْخَبَرُ فَيَجِيءُ: يُجِيبُ، على طريقة
(١) سورة غافر: ٤٠/ ٦٠.
(٢) سورة ق: ٥٠/ ١٦.
205
الْإِسْنَادِ لِلْغَائِبِ طَرِيقَانِ لِلْعَرَبِ: أَشْهَرُهُمَا: مُرَاعَاةُ السَّابِقِ مِنْ تَكَلُّمٍ أَوْ خِطَابٍ كَهَذَا، وَكَقَوْلِهِمْ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ «١» بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «٢». وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: مُرَاعَاةُ الْخَبَرِ كَقَوْلِكَ: أَنَا رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْتَ امْرُؤٌ يُرِيدُ الْخَيْرَ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَّسِعٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عليها في كتابنا الموسوم بِ (مَنْهَجِ السَّالِكِ) وَالْعَامِلُ فِي: إِذَا، قَوْلُهُ أُجِيبُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ قَوْلُهُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ لَمَّا نَزَلَ: فَإِنِّي قَرِيبٌ وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: كَيْفَ يَكُونُ قَرِيبًا مَنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَلَى قَوْلِكَ سَبْعُ سَمَوَاتٍ فِي غِلَظٍ، سُمْكُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَفِي مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ مِثْلُ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: أُجِيبُ
: أَنَّ ذَلِكَ الْقُرْبَ هُوَ الْإِجَابَةُ وَالْقُدْرَةُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ عُمُومُ الدَّعَوَاتِ، إِذْ لَا يُرِيدُ دَعْوَةً وَاحِدَةً، وَالْهَاءُ فِي: دَعْوَةَ، هُنَا لَيْسَتْ لِلْمَرَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَصْدَرُ هُنَا بُنِيَ عَلَى فَعْلَةٍ نَحْوَ. رَحْمَةٍ، وَالظَّاهِرُ عُمُومُ الدَّاعِي لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى دَاعٍ مَخْصُوصٍ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ لَيْسَتْ لِلْعَهْدِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْعُمُومِ. وَالظَّاهِرُ تَقْيِيدُ الْإِجَابَةِ بِوَقْتِ الدُّعَاءِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ مَا سَأَلَهُ.
وَذَكَرُوا قُيُودًا فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَتَخْصِيصَاتٍ، فَقُيِّدَتِ الْإِجَابَةُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
التَّقْدِيرُ: إِنْ شِئْتُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ بِهَذَا الْقَيْدِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ، وَقِيلَ: بِوَفْقِ الْقَضَاءِ أَيْ: أُجِيبُ إِنْ وَافَقَ قَضَائِيَ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ، وَقِيلَ: يَكُونُ المسئول خير السائل، أَيْ: إِنْ كَانَ خَيْرًا. وَقِيلَ: يَكُونُ الْمَسْئُولُ غَيْرَ مُحَالٍ، وَقَدْ يَثْبُتُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَصَحِيحِ النَّقْلِ أَنَّ بَعْضَ الدُّعَاةِ لَا يُجِيبُهُ اللَّهُ إِلَى مَا سَأَلَ، وَلَا يُبَلِّغُهُ الْمَقْصُودَ مِمَّا طَلَبَ، فَخَصَّصُوا الدَّاعِيَ بِأَنْ يَكُونَ: مُطِيعًا مُجْتَنِبًا لِمَعَاصِيهِ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُطِيلُ السَّفَرَ: «أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ له» ؟.
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٤٧.
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ٥٥.
206
قَالُوا: وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَمَلَّ،
فَفِي (الصَّحِيحِ) : يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ
، يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي.
وَخُصِّصَ الدُّعَاءُ بِأَنْ يَدْعُوَا بِمَا لَيْسَ فِيهِ إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، وَلَا مَعْصِيَةٌ،
فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُوهُ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِمِثْلِهَا»
. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ، وَأَنْ لَا يُقْصَدَ فِيهِ السَّجْعُ، سَجْعُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَلْحُونٍ.
وَتُرْتَجَى الْإِجَابَةُ مِنَ الْأَزْمَانِ عِنْدَ السَّحَرِ، وَفِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، وَوَقْتِ الْفِطْرِ، وَمَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَمَا بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَأَوْقَاتِ الِاضْطِرَارِ، وَحَالَةِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَالصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالسَّاعَةِ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: وَهِيَ مِنَ الْإِقَامَةِ إِلَى فَرَاغِ الصَّلَاةِ: كَذَا وَرَدَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: بعد عصر الجمعة، وعند ما تَزُولُ الشَّمْسُ.
وَمِنَ الْأَمَاكِنِ: فِي الْكَعْبَةِ، وَتَحْتَ مِيزَابِهَا، وَفِي الْحَرَمِ، وَفِي حُجْرَةِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْجَامِعِ الْأَقْصَى.
وَإِذَا كَانَ الدَّاعِي بِالْأَوْصَافِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ قَبُولُ دُعَائِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فَلَا يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَا يَقْطَعْ رَجَاءَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ «١» وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لا يمنعن أحد مِنَ الدُّعَاءِ مَا يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَابَ دُعَاءَ شَرِّ الْخَلْقِ إِبْلِيسَ: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «٢».
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْإِجَابَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «٣» لِأَنَّ وَصْفَ الْإِنْسَانِ بِأَنَّ اللَّهَ أَجَابَ دَعْوَتَهُ صِفَةُ مَدْحٍ وَتَعْظِيمٍ، وَالْفَاسِقُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ، بَلِ الْفَاسِقُ قَدْ يَطْلُبُ الشَّيْءَ فَيَفْعَلُهُ اللَّهُ وَلَا يُسَمَّى إِجَابَةً.
قِيلَ: وَالدُّعَاءُ أَعْظَمُ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَنَّهُ إِظْهَارُ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّرْعُ قد ورد
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٥٣.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٣٦. وسورة ص: ٣٨/ ٧٩.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ٨٢.
207
بِالْأَمْرِ بِهِ، وَقَدْ دَعَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِالْأَمْرِ بِهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْجُهَّالِ أَنَّ الدُّعَاءَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَكَرَ شُبَهًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ رَدَّهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ، وَقَالُوا: الْأَوْلَى بِالْعَبْدِ التَّضَرُّعُ وَالسُّؤَالُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِظْهَارُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِمَا رُوِيَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ مِمَّنْ يَقُولُ فِيهِمْ بَعْضُ النَّاسِ، إِنَّهُمْ عُلَمَاءُ الْحَقِيقَةِ: يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا فَاللَّهُ مُتَكَفِّلٌ، فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ. إِنْ كَانَ فِي حَالَةِ الدُّعَاءِ أَصْلَحَ، وَقَلَبُهُ أَطْيَبَ، وَسَرُّهُ أَصْفَى، وَنَفْسُهُ أَزْكَى، فَلْيَدْعُ وَإِنْ كَانَ فِي التَّرْكِ أَصْلَحَ فَالْإِمْسَاكُ عَنِ الدُّعَاءِ أَوْلَى بِهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: تَرْكُ الدُّعَاءِ فِي كُلِّ حَالٍ أَصْلَحُ لِمَا فِيهِ مِنَ الثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَعَدَمِ الِاعْتِرَاضِ، وَلِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ وَالْعَارِفُ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: تَرْكُ الذُّنُوبِ هُوَ الدُّعَاءُ لِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا تَوَلَّى اللَّهُ أَمْرَهُ وَأَصْلَحَ شَأْنَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «١».
وَقَدْ تُؤُوِّلَتِ الْإِجَابَةُ وَالدُّعَاءُ هُنَا عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ عِبَارَةً عَنِ التَّوْحِيدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى الله، لأنك دعوته ووجدته، وَالْإِجَابَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَبُولِ لَمَّا سُمِّيَ التَّوْحِيدُ دُعَاءً سُمِّيَ الْقَبُولُ إِجَابَةً، لِتَجَانُسِ اللَّفْظِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِجَابَةَ هُوَ السَّمَاعُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَسْمَعُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ التَّوْبَةُ عَنِ الذُّنُوبِ لِأَنَّ التَّائِبَ يَدْعُو اللَّهَ عِنْدَ التَّوْبَةِ، وَالْإِجَابَةُ قَبُولُ التَّوْبَةِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ الْعِبَادَةُ» قَالَ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «٢» ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «٣» وَالْإِجَابَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَفَاءِ بِمَا ضُمِنَ لِلْمُطِيعِينَ مِنَ الثَّوَابِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: الْإِجَابَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِإِعْطَاءِ الْمَسْئُولِ وَبِمَنْعِهِ، فَالْمَعْنَى: إِنِّي أَخْتَارُ لَهُ خَيْرَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْعَطَاءِ وَالرَّدِّ.
(١) سورة الطلاق: ٦٥/ ٣.
(٢) سورة غافر: ٤٠/ ٦٠.
(٣) سورة غافر: ٤٠/ ٦٠.
208
وَكُلُّ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أَيْ: فَلْيَطْلُبُوا إِجَابَتِي لَهُمْ إِذَا دَعَوْنِي، قَالَهُ ثَعْلَبٌ، فَيَكُونُ: اسْتَفْعِلْ، قَدْ جَاءَتْ بِمَعْنَى الطَّلَبِ، كَاسْتَغْفِرْ، وَهُوَ الْكَثِيرُ فِيهَا: أَوْ فَلْيُجِيبُوا لِي إِذَا دَعَوْتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ كَمَا أَنِّي أُجِيبُهُمْ إِذَا دَعَوْنِي لِحَوَائِجِهِمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَغَيْرُهُمَا. وَيَكُونُ:
اسْتَفْعِلْ، فِيهِ بِمَعْنَى افْعَلْ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ «١» فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى «٢» إِلَّا أَنَّ تَعْدِيَتَهُ فِي الْقُرْآنِ بِاللَّامِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُعَدًّى بِنَفْسِهِ قَالَ:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النداء فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
أَيْ: فَلَمْ يُجِبْهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ، أَعْنِي كَوْنَ اسْتَفْعَلَ مُوَافِقَ أَفْعَلَ، قَوْلُهُمُ: اسْتَبْلَ بِمَعْنَى أَبْلَ، وَاسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ وَأَحْصَدَ، وَاسْتَعْجَلَ الشَّيْءَ وَأَعْجَلَ، وَاسْتَثَارَهُ وَأَثَارَهُ، وَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ مُوَافِقَةً أَفْعَلَ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَاسْتَفْعَلَ فِي قَوْلِهِ:
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «٣».
وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ: مَعْنَاهُ فَلْيَدْعُوا لِي، وَقَالَ الأخفش: فليذعنوا الإجابة، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَالرَّبِيعُ: فَلْيُطِيعُوا، وَقِيلَ: الِاسْتِجَابَةُ هُنَا التَّلْبِيَةُ، وَهُوَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَاللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَهَا بِالْكَسْرِ.
وَلْيُؤْمِنُوا بِي معطوف على: فليجيبوا لِي، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الْإِيمَانِ فِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَلِذَلِكَ يُؤَوَّلُ عَلَى الدَّيْمُومَةِ، أَوْ عَلَى إِخْلَاصِ الدِّينِ، وَالدَّعْوَةِ، وَالْعَمَلِ، أَوْ فِي الثَّوَابِ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ لِي بِالطَّاعَةِ أَوْ بِالْإِيمَانِ وَتَوَابِعِهِ، أَوْ بِالْإِيمَانِ فِي: أَنِّي أُجِيبُ دُعَاءَهُمْ، خَمْسَةُ أَقْوَالٍ آخِرُهَا لِأَبِي رَجَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ.
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: يُرْشَدُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ: يَرْشِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ، وذلك باختلاف عنهما، وقرىء أَيْضًا يَرْشَدُونَ بِفَتْحِهِمَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَجَابُوا لِلَّهِ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٩٥.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٠. [.....]
(٣) سورة الفاتحة: ١/ ٥.
209
وَآمَنُوا بِهِ كَانُوا عَلَى رَجَاءٍ مِنْ حُصُولِ الرُّشْدِ لَهُمْ، وَهُوَ الِاهْتِدَاءُ لِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَخَتْمُ الْآيَةِ بِرَجَاءِ الرُّشْدِ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، وَبِالْإِيمَانِ بِهِ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ إِلَّا وُصُولَكَ بِامْتِثَالِهِ إِلَى رَشَادِكَ فِي نَفْسِكَ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِكَ.
وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ شُبِّهَ بِالطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ فِي الْقُرْآنِ، نَاسَبَ ذِكْرُ الرَّشَادِ وَهُوَ:
الْهِدَايَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ»
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «٢» وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «٣».
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلِّهِ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَنَزَلَتْ، وَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَمْسَى حَلَّ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، أَوْ يَرْقُدَ، فَإِذَا صَلَّاهَا أَوْ رَقَدَ وَلَمْ يُفْطِرْ حَرُمَ عَلَيْهِ مَا حَلَّ لَهُ قَبْلُ إِلَى الْقَابِلَةِ، وَأَنَّ عُمَرَ، وَكَعْبًا الْأَنْصَارِيَّ، وَجَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَاقَعُوا أَهْلَهُمْ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ نَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ وَأَصْبَحَ صَائِمًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَزَلَتِ الآية في زلة ندرت، فَجُعِلَ ذَلِكَ سَبَبَ رُخْصَةٍ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، هذا إِحْكَامِ الْعِنَايَةِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ أَنَّهَا مِنْ تَمَامِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلصَّائِمِ، وَلَمَّا كَانَ افْتِتَاحُ آيَاتِ الصَّوْمِ بِأَنَّهُ: كُتِبَ عَلَيْنَا كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، اقْتَضَى عُمُومَ التَّشْبِيهِ فِي الْكِتَابَةِ، وَفِي الْعَدَدِ، وَفِي الشَّرَائِطِ، وَسَائِرِ تَكَالِيفِ الصَّوْمِ. وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ قَدْ أُمِرُوا بِتَرْكِ الْأَكْلِ بِالْحِلِّ، وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي صِيَامِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَنَامُوا، وَقِيلَ: بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا جَرَى لِعُمَرَ وَقَيْسٍ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، أَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، لُطْفًا بِهِمْ. وَنَاسَبَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي آخِرِ آيَةِ الصَّوْمِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وهذا من التيسير.
(١) سورة الفاتحة: ١/ ٦.
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ٥٢.
(٣) سورة الصافات: ٣٧/ ١١٨.
210
وَقَوْلُهُ: أُحِلَّ، يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ حَرَامًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ ذَلِكَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فِي جَمِيعِ اللَّيْلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَلَالًا، لَهُمْ إِلَى وَقْتِ النَّوْمِ أَوْ إِلَى بَعْدِ الْعِشَاءِ؟.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُحِلَّ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ به، وقرىء، أَحَلَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَنُصِبَ: الرَّفَثَ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذِ مَعْلُومٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الَّذِي يُحِلُّ وَيُحَرِّمُ هُوَ اللَّهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ولكم، مُتَعَلِّقٌ بِأَحَلَّ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ، لأن قبله ضمير غائب، وَانْتِصَابُ: لَيْلَةَ، عَلَى الظَّرْفِ، ولا يراد بليلة الْوَحْدَةُ بَلِ الْجِنْسُ، قَالُوا: وَالنَّاصِبُ لِهَذَا الظَّرْفِ: أَحَلَّ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ: لَيْلَةَ، لَيْسَ بِظَرْفٍ لِأَحَلَّ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ظَرْفٌ لِلرَّفَثِ، وَإِنْ كَانَتْ صِنَاعَةُ النَّحْوِ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ انْتِصَابُ لَيْلَةَ بِالرَّفَثِ، لِأَنَّ الرَّفَثَ مَصْدَرٌ وَهُوَ مَوْصُولٌ هُنَا، فَلَا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ، لَكِنْ يُقَدَّرُ لَهُ نَاصِبٌ، وَتَقْدِيرُهُ: الرَّفَثَ لَيْلَةَ الصِّيَامِ، فَحُذِفَ، وَجُعِلَ الْمَذْكُورُ مَبْنِيًّا لَهُ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ:
وَبَعْضُ الْحِلْمِ عند ا لجهل لِلذِّلَّةِ إِذْعَانُ
إِنَّ تَقْدِيرَهُ: إِذْعَانٌ لِلذِّلَّةِ إِذْعَانٌ، وَكَمَا خَرَّجُوا قَوْلَهُ: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «١» وإِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ «٢» أَيْ نَاصِحٌ لَكُمَا، وَقَالَ: لِعَمَلِكُمْ، فَمَا كَانَ مِنَ الْمَوْصُولِ قُدِّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أُضْمِرَ لَهُ عَامِلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَوْصُولُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَنْ يُجِيزُ تَقَدُّمَ الظَّرْفِ عَلَى نَحْوِ هَذَا الْمَصْدَرِ، وَأُضِيفَتِ: اللَّيْلَةُ، إِلَى الصِّيَامِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَكُونُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الصِّيَامُ يُنْوَى فِي اللَّيْلَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِصَوْمِ جُزْءٍ مِنْهَا صَحَّتِ الْإِضَافَةُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرَّفَثُ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: الرُّفُوثُ، وَكَنَّى بِهِ هُنَا عَنِ الْجِمَاعِ، وَالرَّفَثُ قَالُوا: هُوَ الْإِفْصَاحُ بِمَا يَجِبُ أَنْ يُكَنَّى عَنْهُ، كَلَفْظِ: النَّيْكِ، وَعَبَّرَ بِاللَّفْظِ الْقَرِيبِ مِنْ لَفْظِ النَّيْكِ تَهْجِينًا لِمَا وُجِدَ مِنْهُمْ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ، فَوَقَعُوا فِيهِ كَمَا قَالَ فِيهِ: تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَجَعَلَ ذَلِكَ خِيَانَةً، وَعُدِّيَ بِإِلَى، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ التَّعْدِيَةَ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ، وَحَسَّنَ اللَّفْظُ بِهِ هَذَا التَّضْمِينَ، فَصَارَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنَ الْكِنَايَاتِ الَّتِي جَاءَتْ في
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٢١.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٦٨.
211
الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَغَشَّاها «١» وَلا تَقْرَبُوهُنَّ «٢» فَأْتُوا حَرْثَكُمْ «٣» فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ.
وَالنِّسَاءُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَهُوَ نِسْوَةٌ، أَوْ جَمْعُ امْرَأَةٍ عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ، وَأَضَافَ: النِّسَاءَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ لِأَجْلِ الِاخْتِصَاصِ، إِذْ لَا يَحِلُّ الْإِفْضَاءُ إِلَّا لِمَنِ اخْتَصَّتْ بِالْمُفْضِي: إِمَّا بِتَزْوِيجٍ أَوْ مِلْكٍ.
هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ اللِّبَاسُ، أَصْلُهُ فِي الثَّوْبِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَرْأَةِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ هِيَ لِبَاسُكَ، وَفِرَاشُكَ، وَإِزَارُكَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُمَازَجَةِ.
وَلَمَّا كان يَعْتَنِقَانِ وَيَشْتَمِلُ كُلٌّ مِنْهُمَا على صَاحِبَهُ فِي الْعِنَاقِ، شُبِّهَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِاللِّبَاسِ الَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِنْسَانِ.
قَالَ الرَّبِيعُ: هُنَّ لِحَافٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِحَافٌ لَهُنَّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: هُنَّ سَكَنٌ لَكُمْ، أَيْ: يَسْكُنُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً «٤» وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، بَلْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالْبَيَانِ لِسَبَبِ الْإِحْلَالِ، وَهُوَ عَدَمُ الصَّبْرِ عَنْهُنَّ لِكَوْنِهِنَّ لَكُمْ فِي الْمُخَالَطَةِ كَاللِّبَاسِ، وَقَدَّمَ: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ، عَلَى قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، لِظُهُورِ احْتِيَاجِ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَالرَّجُلُ هُوَ الْبَادِئُ بِطَلَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلَا تَكَادُ الْمَرْأَةُ تَطْلُبُ ذَلِكَ الْفِعْلَ ابْتِدَاءً لِغَلَبَةِ الْحَيَاءِ عَلَيْهِنَّ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُنَّ تَسْتُرُ وَجْهَهَا عِنْدَ الْمُوَاقَعَةِ حَتَّى لَا تَنْظُرَ إِلَى زَوْجِهَا حَيَاءً وَقْتَ ذَلِكَ الْفِعْلِ.
جَمَعَتِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْبَيَانِ: الطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ، بِقَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمًا سَابِقًا، فَكَأَنَّهُ أُحِلَّ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، أَوْ مَا حُرِّمَ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ، وَالْكِنَايَةُ بِقَوْلِهِ: الرَّفَثُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَالِاسْتِعَارَةُ الْبَدِيعَةُ بِقَوْلِهِ: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ، وَأُفْرِدَ اللِّبَاسُ لِأَنَّهُ كَالْمَصْدَرِ، تَقُولُ: لَابَسْتُ مُلَابَسَةً وَلِبَاسًا.
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ: إِنْ كَانَتْ: عَلِمَ، مُعَدَّاةً تعدية عرف،
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٩.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٢.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٣.
(٤) سورة الفرقان: ٢٥/ ٤٧.
212
فَسَدَّتْ أَنَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ، أَوِ التَّعْدِيَةَ الَّتِي هِيَ لَهَا فِي الْأَصْلِ، فَسَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا نظير هذا. وتختانون: هُوَ مِنَ الْخِيَانَةِ، وَافْتَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى فَعَلَ، فَاخْتَانَ: بِمَعْنَى: خَانَ، كَاقْتَدَرَ بِمَعْنَى: قَدَرَ.
قِيلَ وَزِيَادَةُ الْحَرْفِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى، وَالِاخْتِيَانُ هُنَا مُعَبَّرٌ بِهِ عَمَّا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بِالْجِمَاعِ، وَبِالْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَكَانَ ذَلِكَ خِيَانَةً لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ وَبَالَ الْمَعْصِيَةِ عَائِدٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تَظْلِمُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتَنْقُصُونَ حَقَّهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ، تَسْتَأْثِرُونَ أَنْفُسَكُمْ فِيمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: تَتَعَهَّدُونَ أَنْفُسَكُمْ بِإِتْيَانِ نِسَائِكُمْ.
يُقَالُ: تَخَوَّنَ، وَتَخَوَّلَ، بِمَعْنَى: تَعَهَّدَ، فَتَكُونُ النُّونُ بَدَلًا مِنَ اللَّامِ لِأَنَّهُ بِاللَّامِ أَشْهَرُ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:
أَنْفُسِكُمْ، وَلَمْ يَقُلِ: اللَّهَ، وَظَاهِرُ الْكَلَامِ وُقُوعُ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ لِدَلَالَةِ كَانَ عَلَى ذَلِكَ، وَلِلنَّقْلِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ وَلَمْ يَقَعْ بَعْدُ، وَالْمَعْنَى:
تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ لَوْ دَامَتْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ، وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ لِوُجُودِ: كَانَ، وَلِأَنَّهُ إِضْمَارٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَلِمُنَافَاةِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ.
فَتابَ عَلَيْكُمْ أَيْ: قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ حِينَ تُبْتُمْ مِمَّا ارْتَكَبْتُمْ مِنَ الْمَحْظُورِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خَفَّفَ عَنْكُمْ بِالرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ «١» فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ «٢» لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ «٣» مَعْنَاهُ كُلُّهُ التَّخْفِيفُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَسْقَطَ عَنْكُمْ مَا افْتَرَضَهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، أَوْ بَعْدَ النَّوْمِ عَلَى الْخِلَافِ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ الثَّانِي: وَعَفا عَنْكُمْ أَيْ: عَنْ ذُنُوبِكُمْ فَلَا يُؤَاخِذُكُمْ، وَقَبُولُ التَّوْبَةِ هُوَ رَفْعُ الذَّنْبِ كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّوْبَةُ تَمْحُو الْحَوْبَةَ وَالْعَفْوُ تَعْفِيَةُ أَثَرِ الذَّنْبِ»
فَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَعَاقَبَ بَيْنَهُمَا لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَهَّلَ عَلَيْكُمْ أَمْرَ النِّسَاءِ فِيمَا يُؤْتَنَفُ، أَيْ: تَرَكَ لَكُمُ التَّحْرِيمَ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا شَيْءٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، أَيْ: مَتْرُوكٌ، وَيُقَالُ: أَعْطَاهُ عَفْوًا أَيْ سَهْلًا لَمْ يُكَلِّفْهُ إِلَى سُؤَالٍ، وَجَرَى الْفَرَسُ شَأْوَيْنِ عَفْوًا، أَيْ: مِنْ ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ إِزْعَاجٍ وَاسْتِدْعَاءٍ بِضَرْبٍ بِسَوْطٍ، أو نخس بمهماز.
(١) سورة المزمل: ٧٣/ ٢٠.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٩٢.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ١٨٧.
213
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى، الْآنَ، فِي قَوْلِهِ: قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ «١» أَيْ: فَهَذَا الزَّمَانُ، أَيْ: لَيْلَةَ الصِّيَامِ بَاشِرُوهُنَّ، وَهَذَا أَمْرٌ يُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ لِكَوْنِهِ وَرَدَ بَعْدَ النَّهْيِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَيْهِ، وَالْمُبَاشَرَةُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ: الْجِمَاعُ، وَقِيلَ:
الْجِمَاعُ فَمَا دُونَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ تَلَاصُقِ الْبَشَرَتَيْنِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُعَانَقَةُ وَالْمُلَامَسَةُ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجِمَاعُ، لِقَوْلِهِ: الرَّفَثُ، وَلِسَبَبِ النُّزُولِ، فَإِبَاحَتُهُ تَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ مَا دونه.
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي: اطْلُبُوا، وَفِي تَفْسِيرِ: مَا كتب الله، أقوال.
أحدها: أَنَّهُ الْوَلَدُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: لَمَّا أُبِيحَتْ لَهُمُ الْمُبَاشَرَةُ أُمِرُوا بِطَلَبِ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ وَأَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنَ الْوَلَدِ، وَكَأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُمْ ذَلِكَ لَا لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَقَطْ، لَكِنْ لِابْتِغَاءِ مَا شَرَعَ اللَّهُ النِّكَاحَ لَهُ مِنَ التَّنَاسُلِ:
«تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
الثَّانِي: هُوَ مَحَلُّ الْوَطْءِ أَيِ: ابْتَغُوا الْمَحَلَّ الْمُبَاحَ الْوَطْءِ فِيهِ دُونَ مَا لَمْ يُكْتَبْ لَكُمْ مِنَ الْمَحَلِّ الْمُحَرَّمِ لِقَوْلِهِ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ «٢».
الثَّالِثُ: هُوَ مَا أَبَاحَهُ بَعْدَ الْحَظْرِ، أَيِ: ابْتَغُوا الرُّخْصَةَ وَالْإِبَاحَةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ: وَابْنُ زَيْدٍ.
الرَّابِعُ: وَابْتَغُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، قَالَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ.
الْخَامِسُ: هُوَ الْقُرْآنُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزَّجَّاجُ. أَيِ: ابْتَغُوا مَا أُبِيحَ لَكُمْ وَأُمِرْتُمْ بِهِ، وَيُرَجِّحُهُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَمُعَاوِيَةِ بْنِ قُرَّةَ: وَاتَّبِعُوا مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَرُوِيَتْ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
السَّادِسُ: هُوَ الْأَحْوَالُ وَالْأَوْقَاتُ الَّتِي أُبِيحَ لَكُمُ الْمُبَاشَرَةُ فِيهِنَّ، لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ تَمْتَنِعُ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ والعدة والردّة.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٧١. [.....]
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٢.
214
السَّابِعُ: هُوَ الزَّوْجَةُ وَالْمَمْلُوكَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ «١».
الثَّامِنُ: أَنَّ ذَاكَ نَهْيٌ عَنِ الْعَزْلِ لِأَنَّهُ فِي الْحَرَائِرِ.
وكتب هُنَا بِمَعْنَى: جَعَلَ، كَقَوْلِهِ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «٢» أَوْ بِمَعْنَى: قَضَى، أَوْ بِمَعْنَى: أَثْبَتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ: فِي الْقُرْآنِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: ابْتَغُوا وَافْعَلُوا مَا أَذِنَ اللَّهُ لَكُمْ فِي فِعْلِهِ مِنْ غَشَيَانِ النِّسَاءِ فِي جَمِيعِ لَيْلَةِ الصِّيَامِ، وَيُرَجِّحُ هَذَا قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ:
وَأْتُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. وَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ لِمُخَالَفَتِهَا سَوَادَ الْمُصْحَفِ.
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا أَمْرُ إِبَاحَةٍ أَيْضًا، أُبِيحَ لَهُمْ ثَلَاثَةُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ لَيْلَةِ الصِّيَامِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ غَايَةُ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ مِنَ: الْجِمَاعِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ قِصَّةُ صِرْمَةَ بْنِ قَيْسٍ، فَإِحْلَالُ الْجِمَاعِ بِسَبَبِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَإِحْلَالُ الْأَكْلِ بِسَبَبِ صِرْمَةَ أَوْ غَيْرِهِ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ الْخَيْطُ الْمَعْهُودُ، وَلِذَلِكَ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ خَيْطًا أَبْيَضَ وَخَيْطًا أَسْوَدَ، فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَا لَهُ، إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
مِنَ الْفَجْرِ فَعَلِمُوا أَنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
رَوَى ذَلِكَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ نُزُولِ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَبَيْنَ نُزُولِ مِنَ الْفَجْرِ سَنَةٌ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ لَا يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ- وَهُمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ- وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ، فَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ لِمَعْنَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَأَمَّا مَنْ يُجَوِّزُهُ فَيَقُولُ: لَيْسَ بِعَبَثٍ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ وُجُوبَ الْخِطَابِ، وَيَعْزِمُ عَلَى فِعْلِهِ إِذَا اسْتَوْضَحَ الْمُرَادَ بِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ هَذَا عِنْدِي مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ النَّسْخِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِلَتْ بِهِ، أَعَنِي بِإِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ: مِنَ الْفَجْرِ، فَنُسِخَ حَمْلُ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ والخيط الأسود على
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٦، وسورة المعارج: ٧٠/ ٣٠.
(٢) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢٢.
215
ظَاهِرِهِمَا، وَصَارَا ذَلِكَ مَجَازَيْنِ، شَبَّهَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مَا يَبْدُو مِنَ الْفَجْرِ الْمُعْتَرِضِ فِي الْأُفُقِ، وَبِالْأَسْوَدِ مَا يَمْتَدُّ مَعَهُ مِنْ غَبَشِ اللَّيْلِ، شُبِّهَا بِخَيْطَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ إِلَى التَّشْبِيهِ قَوْلُهُ: مِنَ الْفَجْرِ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا مِنْ زَيْدٍ، فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ زَيْدٍ كَانَ اسْتِعَارَةً، وَكَانَ التَّشْبِيهُ هُنَا أَبْلَغَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا حَيْثُ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْحَالُ، أَوِ الْكَلَامُ، وَهُنَا لَوْ لَمْ يَأْتِ: مِنَ الْفَجْرِ، لَمْ يُعْلَمِ الِاسْتِعَارَةُ، وَلِذَلِكَ
فَهِمَ الصَّحَابَةُ الْحَقِيقَةَ مِنَ الْخَيْطَيْنِ قَبْلَ نُزُولِ: مِنَ الْفَجْرِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ، وَهُوَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، غَفَلَ عَنْ هَذَا التَّشْبِيهِ وَعَنْ بَيَانِ قَوْلِهِ: مِنَ الْفَجْرِ، فَحَمَلَ الْخَيْطَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَحَكَى ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ وَقَالَ: «إِنْ كَانَ وِسَادُكَ لَعَرِيضًا» وَرُوِيَ: «إنك لعريض القفاء».
إِنَّمَا ذَاكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ، وَالْقَفَا الْعَرِيضُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى قِلَّةِ فِطْنَةِ الرَّجُلِ، وَقَالَ:
عَرِيضُ الْقَفَا مِيزَانُهُ عَنْ شِمَالِهِ قَدِ انْحَصَّ مِنْ حَسْبِ الْقَرَارِيطِ شَارِبُهْ
وَكُلُّ مَا دَقَّ وَاسْتَطَالَ وَأَشْبَهَ الْخَيْطَ سَمَّتْهُ الْعَرَبُ خَيْطًا.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمَا فَجْرَانِ: أَحَدُهُمَا يبدو سواد مُعْتَرِضًا، وَهُوَ الْخَيْطُ الْأَسْوَدُ وَالْآخَرُ يَطْلُعُ سَاطِعًا يَمْلَأُ الْأُفُقَ، فَعِنْدَهُ الْخَيْطَانِ: هُمَا الْفَجْرَانِ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِامْتِدَادِهِمَا تَشْبِيهًا بِالْخَيْطَيْنِ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْفَجْرِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ الصُّبْحُ الصَّادِقُ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ، لَا الصُّبْحُ الْكَاذِبُ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيلُ، لِأَنَّ الْفَجْرَ هُوَ انْفِجَارُ النُّورِ، وَهُوَ بِالثَّانِي لَا بِالْأَوَّلِ، وَشُبِّهَ بِالْخَيْطِ وَذَلِكَ بِأَوَّلِ حَالِهِ، لِأَنَّهُ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَرْتَفِعُ مُسْتَطِيرًا، فَبِطُلُوعِ أَوَّلِهِ فِي الْأُفُقِ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ. هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ أَخَذَ النَّاسُ وَمَضَتْ عَلَيْهِ الْأَعْصَارُ وَالْأَمْصَارُ، وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ.
وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِمْسَاكُ بِتَبَيُّنِ الْفَجْرِ فِي الطُّرُقِ، وَعَلَى رؤوس الْجِبَالِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ، وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَطَاءٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ بِالنَّاسِ ثُمَّ قَالَ: الْآنَ تَبَيَّنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ
، وَمِمَّا قَادَهُمْ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّهَارِ، وَالنَّهَارُ عِنْدَهُمْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي النَّهَارِ، وَفِي تَعْيِينِهِ إِبَاحَةَ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِتَبَيُّنِ الْفَجْرِ لِلصَّائِمِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي التَّبَيُّنِ وَفَعَلَ شَيْئًا
216
مِنْ هَذِهِ، ثُمَّ انْكَشَفَ أَنَّهُ كَانَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ وَصَامَ، أَنَّهُ لَا قَضَاءَ لِأَنَّهُ غَيَّاهُ بِتَبَيُّنِ الْفَجْرِ لِلصَّائِمِ لَا بِالطُّلُوعِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلَيْنِ يَنْظُرَانِ لَهُ الْفَجْرَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَطْلُعْ. فَقَالَ اخْتَلَفْتُمَا، فَأَكَلَ وَبَانَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ أَبِي حنيفة.
وفي هذه التغيية أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى التَّبَيُّنِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاغْتِسَالُ قَبْلَ الْفَجْرِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ مَأْذُونًا فِيهَا إِلَى الْفَجْرِ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ إِلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْحَسَنُ يَرَى: أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا أَصْبَحَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ بَطَلَ صَوْمُهُ،
وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ وَهُوَ صَائِمٌ
، وَهَذِهِ التغيية إِنَّمَا هِيَ حَيْثُ يُمْكِنُ التَّبَيُّنُ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ، فَلَوْ كَانَتْ مُقْمِرَةً أَوْ مُغَيِّمَةً، أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُشَاهِدُ مَطْلَعَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ فِي دُخُولِ الْفَجْرِ، إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْعِلْمِ بِحَالِ الطُّلُوعِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ إِلَى التَّيَقُّنِ بِدُخُولِ وَقْتِ الطُّلُوعِ اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَا فِطْرَ إِلَّا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ: الْمُبَاشَرَةِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ. وَأَمَّا مَا عَدَاهَا مِنَ الْقَيْءِ، وَالْحُقْنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى الإباحة، فبقي عليها.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَقَالُوا: خُصَّتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِالذِّكْرِ لِمَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْقَيْءُ، وَالْحُقْنَةُ، فَالنَّفْسُ تَكْرَهُهُمَا، وَالسَّعُوطُ نَادِرٌ، فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهَا.
وَمِنَ الْأُولَى، هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، قِيلَ: وَهِيَ مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: حَتَّى يُبَايِنَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، كَمَا يُقَالُ: بَانَتِ الْيَدُ مِنْ زَنْدِهَا، أَيْ فارقته، ومن، الثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ هُوَ بَعْضُ الْفَجْرِ وأوله، ويتعلق أيضا بيتبين، وَجَازَ تَعَلُّقُ الْحَرْفَيْنِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَقَدِ اتَّحَدَ اللَّفْظُ لاختلاف المعنى، فمن الْأُولَى هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، ومن الثَّانِيَةُ هِيَ لِلتَّبْعِيضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ لِلْخَيْطَيْنِ مَعًا، عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، لِأَنَّ الْفَجْرَ عِنْدَهُ فَجْرَانِ، فَيَكُونُ الْفَجْرُ هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْإِفْرَادُ، بَلْ يكون جنسا.
217
وقيل: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَجْرِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْأَبْيَضُ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنًا مِنَ الْفَجْرِ، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلْبَيَانِ أَجَازَ ذَلِكَ هُنَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الَّذِي هُوَ الْفَجْرُ، مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، وَاكْتَفَى بِبَيَانِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ عَنْ بَيَانِ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، لأن بيان أحديهما بَيَانٌ لِلثَّانِي، وَكَانَ الِاكْتِفَاءُ بِهِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّبَيُّنِ، وَالْمَنُوطِ بِتَبْيِينِهِ: الْحُكْمُ مِنْ إِبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ. وَلِقَلَقِ اللَّفْظِ لَوْ صَرَّحَ بِهِ، إِذْ كَانَ: يَكُونُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَكُونُ مِنَ الْفَجْرِ بَيَانًا لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ، وَمِنَ اللَّيْلِ بَيَانًا لِلْخَيْطِ الْأَسْوَدِ.
وَلِكَوْنِ: مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، جَاءَ فَضْلَةً فَنَاسَبَ حَذْفُ بَيَانِهِ.
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ: تَقَدَّمَ ذِكْرُ وُجُوبِ الصَّوْمِ، فَلِذَلِكَ، لَمْ يُؤْمَرُ بِهِ هُنَا، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ غَايَتِهِ، فَذُكِرَتْ هُنَا الْغَايَةُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَى اللَّيْلِ وَالْغَايَةُ تَأْتِي إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا، لَمْ يَدْخُلْ فِي حكم ما قبلها، و: الليل، لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّهَارِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ، لَكِنْ مِنْ ضَرُورَةِ تَحَقُّقِ عِلْمِ انْقِضَاءِ النَّهَارِ دُخُولُ جُزْءٍ مَا مِنَ اللَّيْلِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْلُ الْكِتَابِ يُفْطِرُونَ مِنَ الْعِشَاءِ إِلَى الْعِشَاءِ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْخِلَافِ لَهُمْ، وَبِالْإِفْطَارِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَالْأَمْرُ بِالْإِتْمَامِ هُنَا لِلْوُجُوبِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ، فَإِتْمَامُهُ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ:
الْمُبَاشَرَةِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِهَا الْإِبَاحَةَ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ بِالنَّهَارِ، وَعَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْغُسْلِ إِلَى الْفَجْرِ، وَعَلَى نَفْيِ صَوْمِ الْوِصَالِ. انْتَهَى.
أَمَّا كَوْنُ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ بِالنَّهَارِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إِتْمَامُ الصَّوْمِ لَا إِنْشَاءُ الصَّوْمِ، بَلْ فِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِصَوْمٍ سَابِقٍ أُمِرْنَا بِإِتْمَامِهِ، فَلَا تَعَرُّضَ فِي الْآيَةِ لِلنِّيَّةِ بِالنَّهَارِ.
وَأَمَّا جَوَازُ تَأْخِيرِ الْغُسْلِ إِلَى الْفَجْرِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا، بَلْ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا.
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى نَفْيِ صَوْمِ الْوِصَالِ، فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّهُ غَيَّا وُجُوبَ إِتْمَامِ الصَّوْمِ بِدُخُولِ اللَّيْلِ فَقَطْ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوِصَالِ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ
218
الْوِصَالِ، فَحَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَقَدْ رُوِيَ الْوِصَالُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَأَبِي الْحَوْرَاءِ، وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ فِيهِ إِلَى السَّحَرِ، مِنْهُمْ: أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ وَهْبٍ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ وُجُوبُ الْإِتْمَامِ إِلَى اللَّيْلِ فَلَوْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ غَرَبَتْ فَأَفْطَرَ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَهَذَا مَا أَتَمَّ إِلَى اللَّيْلِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ إِسْحَاقُ وَأَهْلُ الظَّاهِرُ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ كَالنَّاسِي وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَفْطَرَ شَاكًّا فِي الْغُرُوبِ قَضَى وَكَفَّرَ وَفِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ قِيَاسًا عَلَى الشَّاكِّ فِي الْفَجْرِ، فَلَوْ قَطَعَ الْإِتْمَامَ متعمدا لجماع، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ، أَوْ بِأَكْلٍ وَشُرْبٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَمَا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ نَاسِيًا بِجِمَاعٍ فَكَالْمُتَعَمِّدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَفِي الْكَفَّارَةِ خِلَافٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِأَكْلٍ وَشُرْبٍ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ نَوَى الْفِطْرَ بِالنَّهَارِ وَلَمْ يَفْعَلْ، بَلْ رَفَعَ نِيَّةَ الصَّوْمِ، فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءٌ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَعِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّهُ يُفْطِرُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ لَهُ الصَّوْمُ، فَلَوْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ صَوْمٌ فَيُتِمَّهُ، قَالُوا: لَكِنَّ السُّنَّةَ أَوْجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكَ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ إِتْمَامِ الصَّوْمِ النَّفْلِ عَلَى مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ لِانْدِرَاجِهِ تَحْتَ عُمُومِ: وأَتِمُّوا الصِّيامَ.
وَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: الْمُرَادُ مِنْهُ صَوْمُ الْفَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَرَدَ لِبَيَانِ أَحْكَامِ الْفَرْضِ.
قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَقَائِقَ: لَمَّا عَلِمَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنَ الْحُظُوظِ، قَسَمَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فِي هَذَا الشَّهْرِ بَيْنَ حَقِّهِ وَحَظِّكَ، فقال في حقه وأَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. وَحَظِّكَ:
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ.
وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ لَمَّا أَبَاحَ لَهُمُ الْمُبَاشَرَةَ فِي لَيْلَةِ الصِّيَامِ، كَانُوا إِذَا كَانُوا مُعْتَكِفِينَ وَدَعَتْ ضَرُورَةُ أَحَدِهِمْ إِلَى الْجِمَاعِ خَرَجَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَضَى مَا فِي نَفْسِهِ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِمْ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَخَارِجَهُ وَظَاهِرُ الْآيَةِ وَسِيَاقُ الْمُبَاشَرَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ.
219
وَسَبَبُ النُّزُولِ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ هِيَ الْجِمَاعُ فَقَطْ، وَقَالَ بِذَلِكَ فِرْقَةٌ، فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْجِمَاعُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَقَعُ هُنَا عَلَى الْجِمَاعِ وَمَا يُتَلَذَّذُ بِهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وَأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَبْطُلُ بِالْجِمَاعِ. وَأَمَّا دَوَاعِي النِّكَاحِ: كَالنَّظْرَةِ وَاللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ بِشَهْوَةٍ فَيَفْسُدُ بِهِ الِاعْتِكَافُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ فَعَلَ فَأَنْزَلَ فَسَدَ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ فَعَلَ فَسَدَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، أَيْضًا: لَا يَفْسُدُ مِنَ الْوَطْءِ إِلَّا بِمَا مِثْلُهُ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ يُوجِبُ، وَصَحَّ
فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ
، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَانَتْ تَمَسُّهُ. قَالُوا: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ غَيْرُ مَحْظُورٍ، وَإِذَا كَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ مَعْنِيًّا بِهَا اللَّمْسُ، وَكَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فَالْجِمَاعُ أجرى وَأَوْلَى، لِأَنَّ فِيهِ اللَّمْسَ وَزِيَادَةً، وَكَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ الْمَعْنِيُّ بِهَا اللَّمْسَ مُقَيَّدَةً بِالشَّهْوَةِ.
وَالْعُكُوفُ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ النَّفْسِ فِي مَكَانٍ لِلْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ.
وَقَرَأَ قَتَادَةُ: وَأَنْتُمْ عَكِفُونَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: لَا تُبَاشِرُوهُنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الِاعْتِكَافِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ،
وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ، فَهُوَ سُنَّةٌ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَطْلُوبِيَّتِهِ، فَنَذْكُرُ شَرَائِطَهُ، وَشَرْطُهُ الصَّوْمُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ
، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ سُنَّةِ الْمُعْتَكِفِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ سَعِيدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ الصَّوْمُ شَرْطًا.
وَرَوَى طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَحْدِيدٌ فِي الزَّمَانِ، بَلْ كُلُّ مَا يُسَمَّى لُبْثًا فِي زَمَنٍ مَا، يُسَمَّى عُكُوفًا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَعْتَكِفُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، هَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
وَظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْعُكُوفِ أَيْضًا يَقْتَضِي جَوَازَ اعْتِكَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَحَدِهِمَا، فَعَلَى هَذَا، لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ فَقَطْ صَحَّ، أَوْ يَوْمٍ فَقَطْ صَحَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ سَحْنُونٌ:
لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ لَزِمَتْهُ بِلَيَالِيهَا.
وَفِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمُعْتَكَفِ، وَالِاشْتِغَالِ فِيهِ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَالدُّخُولِ إِلَيْهِ، وَفِي مُبْطِلَاتِهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقَهِ.
220
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاعْتِكَافِ كَوْنُهُ فِي الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشيء مقيد بِحَالٍ لَهَا مُتَعَلَّقٌ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحَالَ، إِذَا وَقَعَتْ مِنَ الْمَنْهِيِّينَ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُتَعَلَّقُ شَرْطًا فِي وُقُوعِهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ: لَا تَضْرِبْ زَيْدًا وَأَنْتَ رَاكِبٌ فَرَسًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّكَ مَتَى رَكِبْتَ فَلَا يَكُونُ رُكُوبُكَ إِلَّا فَرَسًا، فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَسْجِدِ فِي الِاعْتِكَافِ ضَعِيفٌ، فَذِكْرُ: الْمَسَاجِدِ، إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ غَالِبًا لَا يَكُونُ إِلَّا فِيهَا، لَا أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي الْمَسَاجِدِ، أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ الِاعْتِكَافُ بِمَسْجِدٍ، بَلْ كُلُّ مَسْجِدٍ هُوَ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ، والقول الآخر: أنه لا اعتكاف إلا في مسجد يُجْمَعُ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَائِشَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعُرْوَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا اعتكاف إلا في مسجد نَبِيٍّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبٍ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهَا مَسَاجِدُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَرَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَفِي مَسْجِدِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ لِلرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَمَسْكُوتٌ عَنْهُنَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لَا فِي غَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَلَا يُعْجِبُهُ فِي بَيْتِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَيْثُ شَاءَتْ.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْأَعْمَشُ: فِي الْمَسْجِدِ، عَلَى الْإِفْرَادِ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ: هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ. وَيُرَجِّحُ هَذَا قِرَاءَةُ مَنْ جَمَعَ فَقَرَأَ فِي الْمَسَاجِدِ.
وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ الْآيَةَ. أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ مَحَلَّ الْقُرْبَةِ مُقَدَّسٌ عَنِ اجْتِلَابِ الْحُظُوظِ. انْتَهَى.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ تِلْكَ مُبْتَدَأٌ مُخْبَرٌ عَنْهُ بِجَمْعٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الِاعْتِكَافِ، لِأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الصِّيَامِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى
221
هُنَا. وَكَانَتْ آيَةُ الصِّيَامِ قَدْ تَضَمَّنَتْ عِدَّةَ أَوَامِرَ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتْ عدة مناهي، ثُمَّ جَاءَ آخِرَهَا النَّهْيُ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَالَةِ الِاعْتِكَافِ، فَأُطْلِقَ عَلَى الْكُلِّ: حُدُودٌ، تَغْلِيبًا لِلْمَنْطُوقِ بِهِ، وَاعْتِبَارًا بِتِلْكَ الْمَنَاهِي الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الْأَوَامِرُ.
فَقِيلَ: حُدُودُ اللَّهِ، وَاحْتِيجَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِفِعْلِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ: فَلَا تَقْرَبُوهَا، وَحُدُودُ اللَّهِ: شُرُوطُهُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. أَوْ: فَرَائِضُهُ، قَالَهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ. أَوْ: مَعَاصِيهِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: مَحَارِمُهُ وَمَنَاهِيهِ، أَوِ الْحَوَاجِزُ هِيَ الْإِبَاحَةُ وَالْحَظْرُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَإِضَافَةُ الْحُدُودِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُنَا، وَحَيْثُ ذُكِرَتْ، تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي عَدَمِ الِالْتِبَاسِ بِهَا، وَلَمْ تَأْتِ مُنَكَّرَةً وَلَا مُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
فَلا تَقْرَبُوها النَّهْيُ عَنِ الْقُرْبَانِ لِلْحُدُودِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ الِالْتِبَاسِ بِهَا، وَهَذَا كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ».
وَالرَّتْعُ حَوْلَ الْحِمَّى وَقُرْبَانُهُ وَاحِدٌ، وَجَاءَ هُنَا: فَلَا تَقْرَبُوهَا، وَفِي مَكَانٍ آخَرَ:
فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ «١» وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ، لِأَنَّهُ غَلَّبَ هُنَا جِهَةَ النَّهْيِ، إِذْ هُوَ الْمُعَقِّبُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ فِعْلِهِ كَانَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِ أَبْلَغَ، وَأَمَّا حَيْثُ جَاءَ: فَلَا تَعْتَدُوهَا، فَجَاءَ عَقِبَ بَيَانِ عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَذِكْرِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ وَالْإِيلَاءِ وَالْحَيْضِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْهَى عَنِ التَّعَدِّي فِيهَا، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ «٢» جَاءَ بَعْدَ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ، وَذِكْرِ أَنْصِبَاءِ الْوَارِثِ، وَالنَّظَرِ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ، وَبَيَانِ عَدَدِ مَا يَحِلُّ مِنَ الزَّوْجَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ هَذَا كُلِّهُ التَّعَدِّيَ الَّذِي هُوَ مُجَاوَزَةُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ إِلَى مَا لَمْ يَشْرَعْهُ. وَجَاءَ قَوْلُهُ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، عَقِيبَ قَوْلِهِ: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ «٣» ثُمَّ وَعَدَ مَنْ أَطَاعَ بِالْجَنَّةِ، وَأَوْعَدَ مَنْ عَصَا وَتَعَدَّى حُدُودَهُ بِالنَّارِ، فَكُلُّ نَهْيٍ مِنَ الْقُرْبَانِ وَالتَّعَدِّي وَاقِعٌ فِي مَكَانِ مُنَاسَبَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعْنَى: لَا تَقْرَبُوهَا: لَا تَتَعَرَّضُوا لَهَا بِالتَّغْيِيرِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
«٤».
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٩.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٤.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١٢.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٢، وسورة الإسراء: ١٧/ ٣٤.
222
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْبَيَانِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي ذِكْرِ أَحْكَامِ الصَّوْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الْأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ الْبَلِيغَةِ يُبَيِّنُ آيَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى بَقِيَّةِ مَشْرُوعَاتِهِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: الْفَرَائِضُ الَّتِي بَيَّنَهَا، كَأَنَّهُ قَالَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ لِيَتَّقُوهُ بِأَنْ يَعْمَلُوا بِمَا أَنْزَلَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا عَلَى اعْتِقَادِ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ زَائِدَةً وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لِلتَّشْبِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُشَبَّهٍ وَمُشَبَّهٍ بِهِ.
لِلنَّاسِ: ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْنَاهُ خُصُوصٌ فِيمَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ لِلْهُدَى، بدلالة الآيات التي يتضمن إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ «١» انْتَهَى كَلَامُهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى دَعْوَى الْخُصُوصِ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ وَيُوَضِّحُهَا لَهُمْ، وَيَكْسِيهَا لَهُمْ حَتَّى تَصِيرَ حلية وَاضِحَةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تبينها تَبَيُّنُ النَّاسِ لَهَا، لِأَنَّكَ تَقُولُ: بَيَّنْتُ لَهُ فَمَا بين، كَمَا تَقُولُ:
عَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ.
وَنَظَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى يُبَيِّنُ، يَجْعَلُ فِيهِمُ الْبَيَانَ، فَلِذَلِكَ ادَّعَى أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْخُصُوصِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ فِي قَوْمٍ الْهُدَى، جَعَلَ فِي قَوْمٍ الضَّلَالَ، فَعَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ يَلْزَمُ أَنْ يُرَدَّ الْخُصُوصُ على ما قررناه يبقى عَلَى دَلَالَتِهِ الْوَضْعِيَّةِ مِنَ الْعُمُومِ، وَعَلَى تَفْسِيرِنَا التَّبْيِينَ يَكُونُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنَّا وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعَلَى تَفْسِيرِهِ يُنَازِعُ فِيهِ الْمُعْتَزِلِينَ.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ حَيْثُ ذُكِرَ التَّقْوَى فَإِنَّهُ يَكُونُ عَقِبَ أَمْرٍ فِيهِ مَشَقَّةٌ، وَكَذَلِكَ جَاءَ هُنَا لِأَنَّ مَنْعَ الْإِنْسَانِ مِنْ أَمْرٍ مُشْتَهًى بِالطَّبْعِ اشْتِهَاءً عَظِيمًا بِحَيْثُ هُوَ أَلَذُّ مَا لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْمَلَاذِّ الْجُسْمَانِيَّةِ شَاقٌّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَحْجُزُهُ عَنْ مُعَاطَاتِهِ إِلَّا التَّقْوَى، فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِهَا أَيْ: هُمْ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ حُصُولِ التَّقْوَى لَهُمْ بِالْبَيَانِ الَّذِي بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ.
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَابِسٍ الْكِنْدِيِّ، وَفِي عِدَّانَ بْنِ أَشْوَعَ الْحَضْرَمِيِّ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ، وَكَانَ امْرُؤُ الْقَيْسِ الْمَطْلُوبَ، وَعِدَّانُ الطَّالِبَ، فَأَرَادَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنْ يَحْلِفَ، فَنَزَلَتْ، فَحَكَّمَ عِدَّانَ فِي أَرْضِهِ وَلَمْ يُخَاصِمْهُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى بِالصِّيَامِ فَحَبَسَ نَفْسَهُ عَمَّا تَعَوَّدَهُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِالنَّهَارِ، ثُمَّ حَبَسَ نَفْسَهُ بِالتَّقْيِيدِ فِي مَكَانٍ تَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى صَائِمًا لَهُ، مَمْنُوعًا مِنَ اللَّذَّةِ الْكُبْرَى بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَكُونَ مَطْعَمُهُ وَمَشْرَبُهُ
(١) سورة الرعد: ١٢/ ٢٧، وسورة فاطر: ٣٥/ ٨.
223
إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ الْخَالِصِ الَّذِي يُنَوِّرُ الْقَلْبَ، وَيَزِيدُهُ بَصِيرَةً، وَيُفْضِي بِهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، فَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ المضي بِهِ إِلَى عَدَمِ قَبُولِ عِبَادَتِهِ مِنْ صِيَامِهِ وَاعْتِكَافِهِ، وَتَخَلَّلَ أَيْضًا بَيْنَ آيَاتِ الصِّيَامِ آيَةُ إِجَابَةِ سُؤَالِ الدَّاعِي، وَسُؤَالِ الْعِبَادِ اللَّهَ تَعَالَى، وَقَدْ جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ مَنْ كَانَ مَطْعَمُهُ حَرَامًا، وَمَلْبَسُهُ حَرَامًا، وَمَشْرَبُهُ حَرَامًا، ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ أَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ».
فَنَاسَبَ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُنَاسَبَةُ: أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الصَّوْمَ، كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ خَالَفَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيْنَهُمْ، فَأَحَلَّ لَهُمُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ، أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُوَافِقُوهُمْ فِي أَكْلِ الرِّشَاءِ مِنْ مُلُوكِهِمْ وَسَفَلَتِهِمْ وَمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنَ الرِّبَا، وَمَا يَسْتَبِيحُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «١» لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ «٢» أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «٣» وَأَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِيهِمْ قَوْلًا، وَفِعْلًا، وَصَوْمًا، وَفِطْرًا، وَكَسْبًا، وَاعْتِقَادًا، وَلِذَلِكَ وَرَدَ لَمَّا نُدِبَ إِلَى السُّحُورِ: «خَالِفُوا الْيَهُودَ» وَكَذَلِكَ أَمَرَهُمْ فِي الْحُيَّضِ مُخَالَفَتَهُمْ إِذْ عَزَمَ الصَّحَابَةُ عَلَى اعْتِزَالِ الْحُيَّضِ، إِذْ نَزَلَ فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ «٤» لِاعْتِزَالِ الْيَهُودِ، بِأَنْ لَا يُؤَاكِلُوهُنَّ، وَلَا يَنَامُوا مَعَهُنَّ فِي بَيْتٍ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ». فَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَتْرُكَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ.
وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوا، الْأَكْلُ الْمَعْرُوفُ، لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ. وَذَكَرَهُ دُونَ سَائِرِ وُجُوهِ الِاعْتِدَاءِ وَالِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْحَوَائِجِ، وَبِهِ يَقَعُ إِتْلَافُ أَكْثَرِ الْأَمْوَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ هُنَا مَجَازًا عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ، وَهَذَا الْخِطَابُ وَالنَّهْيُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِضَافَةُ الْأَمْوَالِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ. وَالْمَعْنَى: وَلَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «٥» أَيْ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَالضَّمِيرُ الَّذِي لِلْخِطَابِ يَصِحُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ تحتمه أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا وَمَنْهِيًّا عَنْهُ، وَآكِلًا وَمَأْكُولًا مِنْهُ، فَخَلَطَ الضَّمِيرَ لِهَذِهِ الصَّلَاحِيَّةِ، وكما يحرم أن يأكل يحرم أن يؤكل غَيْرَهُ، فَلَيْسَتِ الْإِضَافَةُ إِذْ ذَاكَ لِلْمَالِكِينَ حَقِيقَةً، بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ بِالْمُلَابَسَةِ. وَأَجَازَ قَوْمٌ الْإِضَافَةَ لِلْمَالِكِينَ، وَفَسَّرُوا الْبَاطِلَ بِالْمَلَاهِي وَالْقِيَانِ وَالشُّرْبِ، وَالْبَطَالَةِ بَيْنَكُمْ مَعْنَاهُ فِي مُعَامَلَاتِكُمْ وَأَمَانَاتِكُمْ، لِقَوْلِهِ: تُرِيدُونَهَا بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧٤.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٧٥.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٤٢.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٢.
(٥) سورة النساء: ٤/ ٢٩.
224
وَقَالَ الزَّجَّاجُ بِالظُّلْمِ، وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْجِهَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ مَشْرُوعَةً فَيَدْخُلُ فِي ذلك الغضب، وَالنَّهْبُ، وَالْقِمَارُ، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَالْخِيَانَةُ، وَالرِّشَاءُ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْمُنَجِّمُونَ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِي أَخْذِهِ الشَّرْعُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مَالٌ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ، فَيَجْحَدُ الْمَالَ وَيُخَاصِمُ صَاحِبَهُ. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ آثِمٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ فَيَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَعَهَا دَرَاهِمَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْضًا: هُوَ أَخْذُ الْمَالِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْغَبْنُ فِي الْبَيْعِ مَعَ مَعْرِفَةِ الْبَائِعِ بِحَقِيقَةِ مَا يَبِيعُ، لِأَنَّ الْغَبْنَ كَأَنَّهُ وَهَبَهُ. انْتَهَى.
وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَالنَّاصِبُ لِلظَّرْفِ: تَأْكُلُوا، وَالْبَيْنِيَّةُ مَجَازٌ إِذْ مَوْضُوعُهَا أَنَّهَا ظَرْفُ مَكَانٍ، ثُمَّ تُجُوِّزَ فِيهَا فَاسْتُعْمِلَتْ فِي أَشْخَاصٍ، ثُمَّ بَيْنَ الْمَعَانِي. وَفِي قَوْلِهِ: بَيْنَكُمْ، يَقَعُ لِمَا هُمْ يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا كَانَ يَطَّلِعُ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْمُنْكَرِ أَشْنَعُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهَذَا يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْإِضَافَةَ لَيْسَتْ لِلْمَالِكِينَ إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا الظَّرْفِ الدَّالِّ عَلَى التَّخَلُّلِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يُتَعَاطَى مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ:
انْتِصَابُ: بَيْنَكُمْ، عَلَى الْحَالِ مِنْ: أَمْوَالِكُمْ، فيتعلق بمحذوف أي: كائنة بَيْنَكُمْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْبَاءُ فِي: بِالْبَاطِلِ، لِلسَّبَبِ وَهِيَ تتعلق: بتأكلوا، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ بِالْبَاطِلِ، حَالًا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَأَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ.
وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ هُوَ مَجْزُومٌ بِالْعَطْفِ عَلَى النَّهْيِ، أَيْ وَلَا تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَلَا تُدْلُوا بِإِظْهَارِ لَا النَّاهِيَةِ. وَالظَّاهِرُ، أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: بِهَا، عَائِدٌ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَنُهُوا عَنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَخْذُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَالثَّانِي:
صَرْفُهُ لِأَخْذِهِ بِالْبَاطِلِ، وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى جواز النَّهْيِ بِإِضْمَارِ أَنْ وَجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّهُ قِيلَ: تُدْلُوا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، قَالَ:
وَهَذَا مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ أَنَّ مَعْنَى الظَّرْفِ هُوَ النَّاصِبُ، وَالَّذِي يَنْصِبُ فِي مِثْلِ هَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أَنْ مُضْمَرَةٌ انْتَهَى.
وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى أَنَّ الظرف ينصب فتقول بِهِ، وَأَمَّا إِعْرَابُ الْأَخْفَشِ هُنَا أَنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَتَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ ذَلِكَ هُنَا، فَتِلْكَ مَسْأَلَةُ: لَا تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ، بِالنَّصْبِ.
225
قَالَ النَّحْوِيُّونَ: إِذَا نَصَبْتَ كَانَ الْكَلَامُ نَهْيًا عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ فِي الْآيَةِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجَمْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَالنَّهْيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حُصُولَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ ضَرُورَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ حَرَامٌ سَوَاءٌ أُفْرِدَ أَمْ جُمِعَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؟.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَقْوَى، أَنَّ قَوْلَهُ لِتَأْكُلُوا عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَهَا، فَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ لَمْ تَصْلُحِ الْعِلَّةُ لَهُ، لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ لَا تَصْلُحُ الْعِلَّةُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى وُجُودِهِمَا، بَلْ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ: الْإِدْلَاءُ بِالْأَمْوَالِ إِلَى الْحُكَّامِ. وَالْإِدْلَاءُ هُنَا قِيلَ: مَعْنَاهُ الْإِسْرَاعُ بِالْخُصُومَةِ فِي الْأَمْوَالِ إِلَى الْحُكَّامِ، إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْحُجَّةَ تَقُومُ لَكُمْ. إِمَّا بِأَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْجَاحِدِ بَيِّنَةٌ أَوْ يَكُونَ الْمَالُ أَمَانَةً: كَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلسَّبَبِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَرْشُوا بِالْأَمْوَالِ الْحُكَّامَ لِيَقْضُوا لَكُمْ بِأَكْثَرَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَرَجَّحُ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَظِنَّةُ الرِّشَاءِ إِلَّا مَنْ عُصِمَ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّفْظَتَيْنِ مُتَنَاسِبَتَانِ تُدْلُوا، مِنْ إِرْسَالِ الدَّلْوِ، وَالرِّشْوَةُ مِنَ الرِّشَاءِ، كَأَنَّهَا يُمَدُّ بِهَا لِتُقْضَى الْحَاجَةُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَجْنَحُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَدْلَى فُلَانٌ بِحُجَّتِهِ، قَامَ بِهَا، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بِهَا عَائِدٌ عَلَى الْأَمْوَالِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، أَيْ: لَا تُدْلُوا بِشَهَادَةِ الزُّورِ إِلَى الْحُكَّامِ، فَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ الْإِدْلَاءِ هُمُ الشُّهُودَ، وَيَكُونُ الْفَرِيقُ مِنَ الْمَالِ مَا أَخَذُوهُ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ نُهُوا هُمُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ، وَيَكُونُ الْفَرِيقُ مِنَ الْمَالِ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، بِسَبَبِ شَهَادَةِ أُولَئِكَ الشُّهُودِ.
لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً أَيْ: قِطْعَةً وَطَائِفَةً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ قِيلَ. هِيَ أَمْوَالُ الْأَيْتَامِ، وَقِيلَ: هِيَ الْوَدَائِعُ. وَالْأَوْلَى الْعُمُومُ، وَأَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ أَخْذِ كُلِّ مَالٍ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ فِي الْحُكُومَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَ: مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ أَيْ: فَرِيقًا كَائِنًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ. بِالْإِثْمِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِتَأْكُلُوا، وَفُسِّرَ بِالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، وَقِيلَ: بِالرِّشْوَةِ، وَقِيلَ: بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَقِيلَ: بِالصُّلْحِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ ظَالِمٌ، وَالْأَحْسَنُ
226
الْعُمُومُ، فَكُلُّ مَا أُخِذَ بِهِ الْمَالُ وَمَآلُهُ إِلَى الْإِثْمِ فَهُوَ إِثْمٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِثْمِ التَّقْصِيرُ فِي الْأَمْرِ قَالَ الشَّاعِرُ:
جُمَالِيَّةٍ تعتلى بِالرِّدَافِ إِذَا كَذَّبَ الْآثِمَاتُ الْهَجِيرَا
أَيِ: الْمُقَصِّرَاتُ، ثُمَّ جَعَلَ التَّقْصِيرَ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالذَّنْبَ إِثْمًا.
وَالْبَاءُ فِي: بِالْإِثْمِ لِلسَّبَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْحَالِ أَيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِالْإِثْمِ، وَهُوَ الذَّنْبُ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: أَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ آثِمُونَ، وَمَا أُعِدَّ لَكُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا، وَخُصُوصًا حُقُوقَ الْعِبَادِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّ مَا أَقْضِي لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ».
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ تَحْرِيمُ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُبِيحُ لِلْخَصْمِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْأَمْوَالِ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فَاخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الظَّاهِرِ، وَيَكُونُ الْبَاطِنُ خِلَافَهُ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخِ عَقْدٍ بِشَهَادَةِ زُورٍ، وَالْمَحْكُومُ لَهُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ نَافِذٌ، وَهُوَ كَالْإِنْشَاءِ وَإِنْ كَانُوا شُهُودَ زُورٍ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَنْفَذُ ظَاهِرًا وَلَا يَنْفَذُ بَاطِنًا.
وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ آثِمٌ، وَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِأَخْذِ مَالٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَخَذُهُ، كَأَنْ يَلْقَى لِأَبِيهِ دَيْنًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ، فَحَكَمَ لَهُ بِهِ الْحَاكِمُ، فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ أَبَاهُ وَهَبَهُ، أَوْ أَنَّ الْمَدِينَ قَضَاهُ، أَوْ أَنَّهُ مُكْرَهٌ فِي الْإِقْرَارِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ بِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِيمَا يَأْخُذُهُ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ بَرَاءَةِ الْمُقِرِّ، وَعَدَمُ إِكْرَاهِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ نِدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ تَقْرِيبًا لَهُمْ، وَتَحْرِيكًا لِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنْ وُجُوبِ الصِّيَامِ، وَأَنَّهُ كَتَبَهُ عَلَيْنَا كَمَا كُتِبَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا تَأَسِّيًا فِي هَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ بِمَنْ قَبْلَنَا، فَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِنَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِرَجَاءِ تَقْوَانَا لَهُ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ قَلَّلَ هَذَا التَّكْلِيفَ بِأَنْ جَعَلَهُ: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أوّل: يَحْصُرُهَا الْعَدُّ مِنْ قِلَّتِهَا، ثُمَّ خَفَّفَ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِجَوَازِ الْفِطْرِ فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ وَسَفَرِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ عِدَّتِهَا إِذَا صَحَّ وَأَقَامَ، ثُمَّ
227
ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ وَأَرَادَ الْفِطْرَ فَأَفْطَرَ فَإِنَّهُ يَفْدِي بِإِطْعَامِ مَسَاكِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ التَّطَوُّعَ بِالْخَيْرِ، هُوَ خَيْرٌ، وَأَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ، وَالْفِدَاءِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنْ صِيَامِ الْأَيَّامِ الْقَلَائِلِ بِوُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَهَكَذَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ يُبْتَدَأُ فِيهَا أَوَّلًا بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ، يَنْتَهِي إِلَى الْحَدِّ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَسْتَقِرُّ الْحُكْمُ.
وَنَبَّهَ عَلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْمَفْرُوضِ بِأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ تَعَالَى مَنْ كَانَ شَهِدَهُ أَنْ يُصُومَهُ، وَعَذَرَ مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا، فَذَكَرَ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ عِدَّةِ مَا أَفْطَرَ إِذَا صَحَّ وَأَقَامَهُ كَحَالِهِ حِينَ كَلَّفَهُ صَوْمَ تِلْكَ الْأَيَّامِ، ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ التَّخْفِيفَ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ هُوَ لِإِرَادَتِهِ تَعَالَى بِالْمُكَلَّفِينَ لِلتَّيْسِيرِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ صَوْمِ الشَّهْرِ، وَإِبَاحَةَ الْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَإِرَادَةَ الْيُسْرِ بِنَا هُوَ لِتَكْمِيلِ الْعِدَّةِ، وَلِتَعْظِيمِ اللَّهِ، وَلِرَجَاءِ الشُّكْرِ، فَقَابَلَ كُلَّ مَشْرُوعٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَعْظِيمَ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، ذَكَرَ قُرْبَهُ بِالْمَكَانَةِ مِنْهُمْ، فَإِذَا سَأَلُوهُ أَجَابَهُمْ، وَلَا تَتَأَخَّرُ إِجَابَتُهُ تَعَالَى عِنْدَهُ عَنْ وَقْتِ دُعَائِهِ، ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمُ الِاسْتِجَابَةَ لَهُ إِذَا دَعَاهُمْ كَمَا هُوَ يُجِيبُهُمْ إِذَا دَعَوْهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالدَّيْمُومَةِ عَلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ أَصْلُ الْعِبَادَاتِ وَبِصِحَّتِهِ تَصِحُّ، ثُمَّ ذَكَرَ رَجَاءَ حُصُولِ الرَّشَادِ لَهُمْ إِذَا اسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى بِإِحْلَالِ مَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْهُ، وَهُوَ النِّكَاحُ فِي سَائِرِ اللَّيَالِي الْمَصُومِ أَيَّامُهَا، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُنَّ مِثْلُ اللِّبَاسِ لَكُمْ فَأَنْتُمْ لَا تَسْتَغْنُونَ عَنْهُنَّ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُخَالَفَةِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَا اكْتَفَى بِذِكْرِ الْإِخْبَارِ بِالتَّحْلِيلِ حَتَّى أَبَاحَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ فَقَالَ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، وَكَذَلِكَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَغَيَّا ثَلَاثَتَهُنَّ بِتَبْيِينِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَمْرَ وُجُوبٍ بِإِتْمَامِ الصِّيَامِ إِلَى اللَّيْلِ. وَلَمَّا كَانَ إِحْلَالُ النِّكَاحِ فِي سَائِرِ لَيَالِي الصَّوْمِ، وَكَانَ مِنْ أَحْوَالِ الصَّائِمِ الِاعْتِكَافُ، وَكَانَتْ مُبَاشَرَةُ النِّسَاءِ فِي الِاعْتِكَافِ حَرَامًا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ.
ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحَوَاجِزِ وَهِيَ: الْحُدُودُ، وَأَضَافَهَا إِلَيْهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي حَدَّهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَنَهَاهُمْ عَنْ قُرْبَانِهَا، فَضْلًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيهَا مُبَالَغَةً فِي التَّبَاعُدِ عَنْهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الْآيَاتِ وَيُوَضِّحُهَا وَهِيَ سَائِرُ الْأَدِلَّةِ وَالْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى شَرَائِعِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلِ هَذَا الْبَيَانِ الْوَاضِحِ فِي الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ لِيَكُونُوا عَلَى رَجَاءٍ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ الْمُفْضِيَةِ بِصَاحِبِهَا إِلَى طَاعَةِ
228
اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَأْكُلَ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْبَاطِلِ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي لَمْ يُبِحِ اللَّهُ الِاكْتِسَابَ بِهَا، وَنَهَاكُمْ أَيْضًا عَنْ رِشَاءِ حُكَّامِ السُّوءِ لِيَأْخُذُوا بِذَلِكَ شَيْئًا مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّونَهَا، وَقَيَّدَ النَّهْيَ وَالْأَخْذَ بِقَيْدِ الْعِلْمِ بِمَا يَرْتَكِبُونَهُ تَقْبِيحًا لَهُمْ، وَتَوْبِيخًا لَهُمْ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهَا وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ السيء كَانَ أَقْبَحَ فِي حَقِّهِ وَأَشْنَعَ مِمَّنْ يَأْتِي فِي الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ جَاهِلٌ فِيهَا. وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا.
وَلَمَّا كان افتتاح هذه الآيات الْكَرِيمَةِ بِالْأَمْرِ الْمُحَتَّمِ بِالصِّيَامِ وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي أُمِرَ فِيهَا بِاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، حَتَّى أَنَّهُ جَاءَ
في الحديث: «فإن امرئ سَبَّهُ، فَلْيَقُلْ:
إِنِّي صَائِمٌ»
.
وَجَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»
، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَمْنُوعَاتِهِ وَأَكْبَرِهَا الْأَكْلُ فِيهِ، اخْتَتَمَ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، لِيَكُونَ مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ الصَّائِمُ مِنَ الْحَلَالِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَيُرْجَى أَنْ يُتَقَبَّلَ عَمَلُهُ وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنَ «الصَّائِمِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ صَوْمِهِمْ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ». فَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِوَاجِبٍ مَأْمُورٍ بِهِ، وَاخْتُتِمَتْ بِمُحَرَّمٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَتَخَلَّلَ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ أَيْضًا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَالِيفٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى تَعَالَى عَنْهُ، أعاننا الله عليها.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٦]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
229
الْأَهِلَّةِ: جَمْعُ هِلَالٍ، وَهُوَ مَقِيسٌ فِي فِعَالٍ الْمُضَعَّفِ، نَحْوَ: عِنَانٍ وَأَعِنَّةٍ، وَشَذَّ فِيهِ فُعُلٌ قَالُوا: عُنُنٌ فِي: عِنَانٍ، وَحُجُجٌ فِي حِجَاجٍ.
وَالْهِلَالُ، ذَكَرَ صَاحِبُ (كِتَابِ شَجَرِ الدُّرِّ) فِي اللُّغَةِ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هِلَالِ السَّمَاءِ وَحَدِيدَةٍ كَالْهِلَالِ بِيَدِ الصَّائِدِ يُعَرْقِبُ بِهَا الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ، وَذُؤَابَةِ النَّعْلِ، وَقِطْعَةٍ مِنَ الْغُبَارِ، وَمَا أَطَاقَ مِنَ اللَّحْمِ بِظُفْرِ الْأُصْبُعِ، وَقِطْعَةٍ مِنْ رَحًى، وَسَلْخِ الْحَيَّةِ، وَمُقَاوَلَةِ الْأَجِيرِ عَلَى الشُّهُورِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي رِقَّةِ النَّسْجِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي التَّهْلِيلِ. وَجَمْعِ هَلَّةٍ وَهِيَ الْمُفْرِجَةُ، وَالثُّعْبَانِ، وَبَقِيَّةِ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ مُلَخَّصًا.
وَيُسَمَّى الَّذِي فِي السَّمَاءِ هِلَالًا لِلَيْلَتَيْنِ، وَقِيلَ: لِثَلَاثٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِهِ وَلَيْلَتَيْنِ مِنْ آخِرِهِ. وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ يُسَمَّى قَمَرًا. وقال الأصمعي: سمي هلال إِلَى أَنْ يُحَجَّرَ، وَتَحْجِيرُهُ أَنْ يَسْتَدِيرَ لَهُ كَالْخَيْطِ الرَّقِيقِ، وَقِيلَ: يُسَمَّى بِذَلِكَ إِلَى أَنْ يَبْهَرَ ضَوْءُهُ سَوَادَ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي سَبْعٍ. قَالُوا: وَسُمِّيَ هِلَالًا لِارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مِنْ قَوْلِهِمُ: اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ، وَالْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ، وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، أَوْ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّهْلِيلِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ الْهِلَالُ عَلَى الشَّهْرِ كَمَا يُطْلَقُ الشَّهْرُ عَلَى الْهِلَالِ، وَيُقَالُ: أَهَلَّ الْهِلَالُ، واستهل وأهللنا وَاسْتَهْلَلْنَاهُ، هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَالَ شَمِرٌ: يُقَالُ اسْتَهَلَّ الْهِلَالُ أَيْضًا يَعْنِي مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَهُوَ الْهِلَالُ، وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ وَأَنْشَدَ:
وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ بَعْدَ شَهْرٍ وَحَوْلٌ بَعْدَهُ حَوْلٌ جَدِيدُ
وَيُقَالُ أَيْضًا: اسْتَهَلَّ: بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، وَلَا يُقَالُ أَهَلَّ، وَيُقَالُ أَهْلَلْنَا عَنْ لَيْلَةِ كَذَا، وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: يُقَالُ أَهَلَّ الْهِلَالُ وَاسْتَهَلَّ، وَأَهْلَلْنَا الْهِلَالَ وَاسْتَهْلَلْنَاهُ،
230
انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي مَادَّةِ هَلَلَ، وَلَكِنْ أَعَدْنَا ذَلِكَ بِخُصُوصِيَّةِ لَفْظِ الْهِلَالِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هُنَا.
مَواقِيتُ: جَمْعُ مِيقَاتٍ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَالْمِيعَادِ بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ:
الْمِيقَاتُ مُنْتَهَى الْوَقْتِ، قَالَ تَعَالَى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً «١».
ثَقِفَ الشَّيْءَ: إِذَا ظَفِرَ بِهِ وَوَجَدَهُ عَلَى جِهَةِ الْأَخْذِ وَالْغَلَبَةِ، وَمِنْهُ: رَجُلٌ ثَقِفٌ سَرِيعُ الْأَخْذِ لِأَقْرَانِهِ، وَمِنْهُ: فَإِمَّا تثقفهم فِي الْحَرْبِ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثَقِفْتُمُوهُمْ أَحْكَمْتُمْ غَلَبَتَهُمْ، يُقَالُ: رَجُلٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ إِذَا كَانَ مُحْكِمًا لِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ الْأُمُورِ. انْتَهَى. وَيُقَالُ: ثَقِفَ الشَّيْءَ ثَقَافَةً إِذَا حَذَقَهُ، وَمِنْهُ أَخَذْتُ الثَّقَافَةَ بِالسَّيْفِ، والثقافة أَيْضًا حَدِيدَةٌ تَكُونُ لِلْقَوَّاسِ وَالرَّمَّاحِ يُقَوِّمُ بِهَا الْمُعْوَجَّ، وَثَقِفَ الشَّيْءَ: لَزِمَهُ، وَهُوَ ثَقِفٌ إِذَا كَانَ سَرِيعَ الْعِلْمِ، وَثَقِفْتُهُ: قَوَّمْتُهُ، وَمِنْهُ الرِّمَاحُ الْمُثَقَّفَةُ، أَيِ:
الْمُقَوَّمَةُ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ
يَعْنِي الرِّمَاحَ الْمُقَوَّمَةَ.
التَّهْلُكَةِ. عَلَى وَزْنِ تَفْعُلَةٍ، مَصْدَرٌ لِهَلَكَ، وتفعلة مصدرا قَلِيلٌ، حَكَى سِيبَوَيْهِ مِنْهُ: التَّضُرَّةَ وَالتَّسُرَّةَ، وَمِثْلُهُ مِنَ الْأَعْيَانِ: التَّنْصُبَةُ، وَالتَّنْفُلَةُ، يُقَالُ: هَلَكَ هَلَكًا وَهَلَاكًا وَتَهْلُكَةً وَهَلْكَاءَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَاءَ، وَمَفْعِلٌ مِنْ هَلَكَ جَاءَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، وَكَذَلِكَ بِالتَّاءِ، هُوَ مُثَلَّثُ حَرَكَاتِ الْعَيْنِ، وَالضَّمُّ فِي مَهْلِكٍ نَادِرٌ، وَالْهَلَاكُ فِي ذِي الرُّوحِ: الْمَوْتُ، وَفِي غَيْرِهِ: الْفَنَاءُ وَالنَّفَادُ.
وَكَوْنُ التَّهْلُكَةِ مَصْدَرًا حَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ عن أبي عبيدة، وقلة غَيْرُهُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَصْلُهَا التَّهْلِكَةُ كَالتَّجْرِبَةِ وَالتَّبْصِرَةِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مِنْ هَلَّكَ، يَعْنِي الْمُشَدَّدَ اللَّامِ، فَأُبْدِلَتْ مِنَ الْكَسْرَةِ ضَمَّةٌ، كَمَا جَاءَ الْجُوَارُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهَا حَمْلًا عَلَى شَاذٍّ، وَدَعْوَى إِبْدَالٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، أَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الشَّاذِّ فَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّ أَصْلَ تَفْعُلَةٍ ذَاتِ الضَّمِّ، عَلَى تَفْعِلَةٍ ذَاتِ الْكَسْرِ، وجعل
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٤٢. [.....]
231
تَهْلُكَةٍ مَصْدَرًا لِهَلَّكَ الْمُشَدَّدِ اللَّامِ، وَفَعَّلَ الصَّحِيحُ اللَّامِ غَيْرُ الْمَهْمُوزِ قِيَاسُ مَصْدَرِهِ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى تَفْعِيلٍ، نَحْوَ: كَسَّرَ تَكْسِيرًا، وَلَا يَأْتِي عَلَى تَفْعُلَةٍ، إِلَّا شَاذًّا، فَالْأَوْلَى جَعْلُ تَهْلُكَةٍ مَصْدَرًا، إِذْ قَدْ جَاءَ ذَلِكَ نَحْوَ: التَّضُرَّةِ. وَأَمَّا تَهْلِكَةٌ فَالْأَحْسَنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِهَلَكَ الْمُخَفَّفِ اللام، لأن بِمَعْنَى تَهْلُكَةٍ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَدْ جَاءَ فِي مَصَادِرِ فَعَلَ: تَفْعِلَةً قَالُوا: جَلَّ الرَّجُلُ تَجِلَّةً، أَيْ جَلَالًا، فَلَا يَكُونُ تَهْلِكَةٌ إِذْ ذَاكَ مَصْدَرًا لِهَلَّكَ الْمُشَدَّدِ اللَّامِ، وَأَمَّا إِبْدَالُ الضَّمَّةِ مِنَ الْكَسْرَةِ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَفِي غَايَةِ الشُّذُوذِ، وَأَمَّا تَمْثِيلُهُ بِالْجُوَارِ وَالْجِوَارِ فَلَا يُدَّعَى فِيهِ الْإِبْدَالُ، بَلْ يُبْنَى الْمَصْدَرُ فِيهِ عَلَى فُعَالٍ بِضَمِّ الْفَاءِ شُذُوذًا.
وَزَعَمَ ثَعْلَبٌ أَنَّ التَّهْلُكَةَ مَصْدَرٌ لَا نَظِيرَ لَهُ، إذا لَيْسَ فِي الْمَصَادِرِ غَيْرُهُ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِصَحِيحٍ، إِذْ قَدْ حَكَيْنَا عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ حَكَى التَّضُرَّةَ وَالتَّسُرَّةَ مَصْدَرَيْنِ.
وَقِيلَ: التَّهْلُكَةُ مَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَالْهَلَاكُ مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقِيلَ التَّهْلُكَةُ:
الشَّيْءُ الْمُهْلِكُ، وَالْهَلَاكُ حُدُوثُ التَّلَفِ، وَقِيلَ: التَّهْلُكَةُ كُلُّ مَا تَصِيرُ غَايَتُهُ إِلَى الْهَلَاكِ.
أُحْصِرْتُمْ قَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: أُحْصِرَ الرَّجُلُ رُدَّ عَنْ وَجْهٍ يُرِيدُهُ، قِيلَ: حَصَرَ وَأُحْصِرَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَهُ الشَّيْبَانِيُّ، وَالزَّجَّاجُ، وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَقَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ:
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ يَكُونَ تَبَاعَدَتْ عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وَقِيلَ: أُحْصِرَ بِالْمَرَضِ، وَحَصَرَهُ الْعَدُوُّ، قَالَهُ يَعْقُوبُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا: الرِّوَايَةُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَمْنَعُهُ الْخَوْفُ وَالْمَرَضُ: أُحْصِرَ، وَالْمَحْبُوسُ: حُصِرَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ أَيْضًا أَحُصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ، فَإِنْ حُبِسَ فِي سِجْنٍ أَوْ دَارٍ قِيلَ حُصِرَ فَهُوَ:
مَحْصُورٌ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَصْلُ الْحَصْرِ وَالْإِحْصَارِ: الْحَبْسُ، وَحُصِرَ فِي الْحَبْسِ أَقْوَى مِنْ أُحْصِرَ، وَقَالَ ابن فارس في (المجمل) : حُصِرَ بِالْمَرَضِ، وَأُحْصِرَ بِالْعَدُوِّ. ويقال: حصره صَدْرُهُ أَيْ: ضَاقَ، وَرَجُلٌ حَصِرٌ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَبُوحُ بِسِرِّهِ، قَالَ جَرِيرٌ:
وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا حَصِرًا بِسِرِّكَ يَا تَمِيمُ ضَنِينًا
وَالْحُصْرُ: احْتِبَاسُ الْغَائِطِ، وَالْحَصِيرُ: الْمَلِكُ، لِأَنَّهُ كَالْمَحْبُوسِ الحجاب. قَالَ لَبِيدٌ:
حَتَّى لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ وَالْحَصِيرُ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ سَقِيفٌ مِنْ بَرَدَى سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْضِمَامِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ، كَحَبْسِ الشَّيْءِ مَعَ غَيْرِهِ.
232
الْهَدْيِ الْهَدْيُ مَا يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، بِمَنْزِلَةِ الْهَدِيَّةِ يُهْدِيهَا الْإِنْسَانُ إِلَى غَيْرِهِ. يُقَالُ: أَهْدَيْتُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ هَدِيًّا وَهَدْيًا بِالتَّشْدِيدِ، وَالتَّخْفِيفِ، فَالتَّشْدِيدُ جَمْعُ هَدِيَّةٍ، كَمَطِيَّةٍ وَمَطِيٍّ، وَالتَّخْفِيفُ جَمْعُ هِدْيَةٍ كَجِذْيَةِ السَّرْجِ، وَجِذْيٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لِلْهَدْيِ، وَقِيلَ: التَّشْدِيدُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
فَلَمْ أَرَ مَعْشَرًا أَسَرُوا هَدِيًّا وَلَمْ أَرَ جَارَ بَيْتٍ يُسْتَبَاءُ
وَقِيلَ: الْهَدِيُّ، بِالتَّشْدِيدِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَقِيلَ: الْهَدْيُ بِالتَّخْفِيفِ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْهَدْيِ كَالرَّهْنِ وَنَحْوِهِ، فَيَقَعُ لِلْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ. وَفِي اللُّغَةِ مَا أُهْدِيَ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ مَتَاعٍ أَوْ نَعَمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يُسَمَّى هَدْيًا، لَكِنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ خَصَّتِ الْهَدْيَ بِالنَّعَمِ.
وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا يُسَمَّى مِنَ النَّعَمِ هَدْيًا عَلَى مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْحَلْقُ: مَصْدَرُ حَلَقَ يَحْلِقُ إِذَا أَزَالَ الشَّعَرَ بِمُوسَى أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُحَدَّدٍ وَنُورَةٍ، وَالْحَلْقُ مَجْرَى الطَّعَامِ بَعْدَ الْفَمِ.
الْأَذَى: مَصْدَرٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَلَمِ، تَقُولُ: آذَانِي زَيْدٌ إِيذَاءً آلَمَنِي.
الصَّدَقَةُ: مَا أُعْطِيَ مِنْ مَالٍ بِلَا عِوَضٍ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
النُّسُكُ: قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النُّسُكُ سَبَائِكُ الْفِضَّةِ، كُلُّ سَبِيكَةٍ مِنْهَا نَسِيكَةٌ، ثُمَّ قِيلَ لِلْمُتَعَبِّدِ: نَاسِكٌ لِأَنَّهُ خَلَّصَ نَفْسَهُ مِنْ دَنَسِ الْآثَامِ وَصَفَّاهَا، كَالنَّسِيكَةِ الْمُخَلَّصَةِ مِنَ الدَّنَسِ، ثُمَّ قِيلَ لِلذَّبِيحَةِ: نُسُكٌ، لِأَنَّهَا مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تتقرب بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ:
النُّسُكُ مَصْدَرُ نَسَكَ يَنْسَكُ نُسْكًا وَنُسُكًا، كَمَا تَقُولُ حَلُمَ الرَّجُلُ، حُلْمًا وَحُلُمًا.
الْأَمْنُ: زَوَالُ مَا يُحْذَرُ، يُقَالُ: أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنًا وَأَمَنَةً.
الثَّلَاثَةُ: عَدَدٌ مَعْرُوفٌ، وَيُقَالُ مِنْهُ: ثَلَّثْتُ الْقَوْمَ أُثَلِّثُهُمْ، أَيْ صَيَّرْتُهُمْ ثَلَاثَةً بِي.
وَالثَّلَاثُونَ عَدَدٌ مَعْرُوفٌ، وَالثُّلُثُ بِضَمِّ اللَّامِ وَتَسْكِينِهَا أَحَدُ أَجْزَاءِ الْمُنْقَسِمِ إلى ثلاثة، وثلث ممنوعا مِنَ الصَّرْفِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْعِقَابُ: مَصْدَرُ عَاقَبَ أَيْ جَازَى الْمُسِيءَ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَاقِبَةِ، كَأَنَّهُ يُرَادُ عَاقِبَةُ فعله المسيء.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ
نَزَلَتْ عَلَى سُؤَالِ قَوْمٍ مِنَ
233
الْمُسْلِمِينَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْهِلَالِ
، وَمَا فَائِدَةُ مِحَاقِهِ وَكَمَالِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِحَالِ الشَّمْسِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ.
وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ سَأَلَ هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنْمٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ. مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا مِثْلَ الْخَيْطِ ثم يزيد حتى يمتلىء، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ لَا يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَنَزَلَتْ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي الصِّيَامِ، وَأَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ مَقْرُونٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَكَذَلِكَ الْإِفْطَارُ فِي شَهْرِ شَوَّالٍ، وَلِذَلِكَ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ».
وَكَانَ أَيْضًا قَدْ تَقَدَّمَ كَلَامٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَهُوَ: الطَّوَافُ، وَالْحَجُّ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا.
وَكَانَ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، فَأَتَى بِالْكَلَامِ عَلَى الرُّكْنِ الْخَامِسِ وَهُوَ: الْحَجُّ، لِيَكُونَ قَدْ كَمُلَتِ الْأَرْكَانُ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ أُمَّةٌ أَقَلَّ سُؤَالًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا فَأُجِيبُوا مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوَّلُهَا وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ «١» وَالثَّانِي: هَذَا، وَسِتَّةٌ بَعْدَهَا، وَفِي غيرها: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ «٢» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ «٣» وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «٤» وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ «٥» وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ»
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ «٧» قِيلَ: اثْنَانِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ فِي الأول في شرح فِي شَرْحِ الْمَبْدَأِ، وَاثْنَانِ فِي الْآخِرِ فِي شَرْحِ الْمَعَادِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّهُ افْتُتِحَتْ سُورَتَانِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ «٨» الْأُولَى وَهِيَ الرَّابِعَةُ مِنَ السُّوَرِ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ، وَالثَّانِيَةُ وَهِيَ الرَّابِعَةُ أَيْضًا مِنَ السُّوَرِ فِي النِّصْفِ الْآخِرِ تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَعَادِ.
وَالضَّمِيرُ فِي يَسْأَلُونَكَ ضَمِيرُ جَمْعٍ عَلَى أَنَّ السَّائِلِينَ جَمَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْ سَأَلَ اثْنَيْنِ، كَمَا رُوِيَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِسْبَةِ الشَّيْءِ إِلَى جَمْعٍ وَإِنْ كَانَ مَا صَدَرَ إِلَّا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، قِيلَ: أَوْ لِكَوْنِ الِاثْنَيْنِ جَمْعًا عَلَى سَبِيلِ الِاتِّسَاعِ والمجاز.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٦.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٤.
(٣) سورة الأنفال: ٨/ ١.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٥.
(٥) سورة الكهف: ١٨/ ٨٣.
(٦) سورة طه: ٢٠/ ١٠٥.
(٧) سورة النازعات: ٧٩/ ٤٢.
(٨) سورة النساء: ٤/ ١، وسورة الحج: ٢٢/ ١.
234
والكاف: خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَ: يَسْأَلُونَكَ، خَبَرٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ السُّؤَالِ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبِ: وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ السُّؤَالِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حِكَايَةً عَنْ حَالٍ مَضَتْ.
وَ: عَنْ، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: يَسْأَلُونَكَ، يُقَالُ: سَأَلَ بِهِ وَعَنْهُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ السُّؤَالُ عَنْ ذَاتِ الْأَهِلَّةِ، بَلْ عَنْ حِكْمَةِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا، وَفَائِدَةِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ فَلَوْ كَانَتْ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مَا حَصَلَ التَّوْقِيتُ بِهَا.
وَالْهِلَالُ هُوَ مُفْرَدٌ وَجَمْعٌ بِاخْتِلَافِ أَزْمَانِهِ، قَالُوا: مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ هِلَالًا فِي شَهْرٍ، غَيْرَ كَوْنِهِ هِلَالًا فِي آخَرَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَنِ الْأَهِلَّةِ، بِكَسْرِ النُّونِ وَإِسْكَانِ لَامِ الْأَهِلَّةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، وَوَرْشٌ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ نَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ شَاذًّا بِإِدْغَامِ نُونِ: عَنْ فِي لَامِ الْأَهِلَّةِ بَعْدَ النَّقْلِ وَالْحَذْفِ.
قُلْ هِيَ أَيِ: الْأَهِلَّةُ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ هَذِهِ: الْحِكْمَةُ فِي زِيَادَةِ الْقَمَرِ وَنُقْصَانِهِ إِذْ هِيَ كَوْنُهَا مَوَاقِيتٌ فِي الْآجَالِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَيْمَانِ، وَالْعِدَدِ، وَالصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ، وَمُدَّةِ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ، وَالنُّذُورِ الْمُعَلَّقَةِ بِالْأَوْقَاتِ، وَفَضَائِلِ الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالْأَهِلَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «١» وَفِي قَوْلِهِ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «٢».
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْوَقْتُ الزَّمَانُ الْمَفْرُوضُ لِلْعَمَلِ، وَمَعْنَى: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ أَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أُمُورِ مُعَامَلَاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ. انْتَهَى.
وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْوَقْتُ مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ مُحَدَّدٌ فِي ذَاتِهِ، وَالتَّوْقِيتُ تَقْدِيرُ حَدِّهِ، وَكُلَّمَا قَدَّرْتَ لَهُ غَايَةً فَهُوَ مُوَقَّتٌ، وَالْمِيقَاتُ مُنْتَهَى الْوَقْتِ، وَالْآخِرَةُ مُنْتَهَى الْخَلْقِ، وَالْإِهْلَالُ مِيقَاتُ الشَّهْرِ، وَمَوَاضِعُ الْإِحْرَامِ مَوَاقِيتُ الْحَجِّ، لِأَنَّهَا مَقَادِيرُ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَالْمِيقَاتُ مِقْدَارٌ جُعِلَ عَلَمًا لِمَا يُقَدَّرُ مِنَ الْعَمَلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَفِي تَغْيِيرِ الْهِلَالِ بِالنَّقْصِ وَالنَّمَاءِ رَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الإحرام الفلكية
(١) سورة يونس: ١٠/ ٥.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ١٢.
235
لَا يُمْكِنُ تَطَرُّقُ التَّغْيِيرِ إِلَى أَحْوَالِهَا، فَأَظْهَرَ تَعَالَى الِاخْتِلَافَ فِي الْقَمَرِ وَلَمْ يُظْهِرْهُ فِي الشَّمْسِ لِيُعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ بِقُدْرَةٍ مِنْهُ تَعَالَى.
وَالْحَجُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِلنَّاسِ، قَالُوا: التَّقْدِيرُ وَمَوَاقِيتُ لِلْحَجِّ، فَحُذِفَ الثَّانِي اكْتِفَاءً بِالْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: لِتَعْرِفُوا بِهَا أَشْهُرَ الْحَجِّ وَمَوَاقِيتَهُ. وَلَمَّا كَانَ الْحَجُّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُطْلَبُ مِيقَاتُهُ وَأَشْهُرُهُ بِالْأَهِلَّةِ، أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ، وَكَأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، إِذْ قَوْلُهُ: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ، لَيْسَ الْمَعْنَى مَوَاقِيتَ لِذَوَاتِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: مَوَاقِيتُ لِمَقَاصِدِ النَّاسِ الْمُحْتَاجِ فِيهَا لِلتَّأْقِيتِ دِينًا وَدُنْيَا. فَجَاءَ قَوْلُهُ: وَالْحَجِّ، بَعْدَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ. فَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى النَّاسِ، بَلْ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي نَابَ النَّاسُ مَنَابَهُ فِي الْإِعْرَابِ. وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْمَقَاصِدُ يُفْضِي تَعْدَادُهَا إِلَى الْإِطْنَابِ، اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ:
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: إِفْرَادُ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ لِبَيَانِ أَنَّ الْحَجَّ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَشْهُرِ الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِفَرْضِ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نقل الحج على تِلْكَ الْأَشْهُرِ لِأَشْهُرٍ أُخَرَ، إِنَّمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي النَّسِيءِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْحَجِّ، بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: وَالْحِجِّ بِكَسْرِهَا فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ في قوله: حِجُّ الْبَيْتِ «١» فَقِيلَ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ وَبِالْكَسْرِ الِاسْمُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْحَجُّ، كَالرَّدِّ وَالسَّدِّ، وَالْحِجُّ، كَالذِّكْرِ، فَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حنيفة، ومالك عن جَوَازِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ لِعُمُومِ الْأَهِلَّةِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. قِيلَ: وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهَا عِدَّتَانِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ اكْتَفَتْ بِمُضِيِّ عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ لِلْعِدَّتَيْنِ، وَلَا تَسْتَأْنِفُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَيْضًا، وَلَا شُهُورًا، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ. وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا كَانَ ابْتِدَاؤُهَا بِالْهِلَالِ، وَكَانَتْ بِالشُّهُورِ، وَجَبَ اسْتِيفَاؤُهَا بِالْأَهِلَّةِ لَا بِعَدَدِ الْأَيَّامِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ آلَى مِنَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى أَنْ مَضَى الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ مُعْتَبَرٌ فِي اتِّبَاعِ الطَّلَاقِ بِالْأَهِلَّةِ دُونَ اعْتِبَارِ الثَّلَاثِينَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حِينَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَاتُ، وَالْأَيْمَانُ، وَالدُّيُونُ، مَتَى كَانَ ابْتِدَاؤُهَا بِالْهِلَالِ كَانَ جَمِيعُهَا كَذَلِكَ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ، وَبِذَلِكَ حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّوْمِ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ: إن
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٩٧.
236
الْمُسَاقَاتِ تَجُوزُ عَلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ سِنِينَ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ، وَدَلِيلٌ عَلَى مَنْ أَجَازَ الْبَيْعَ إِلَى الْحَصَادِ أَوِ الدِّرَاسِ أَوْ لِلْغِطَاسِ وَشِبْهِهِ وَهُوَ: مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَحْمَدُ وَكَذَلِكَ إِلَى قُدُومِ الْغُزَاةِ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْعُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَدَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ وَصْفِ الْهِلَالِ بِالْكِبَرِ أَوِ الصِّغَرِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: مَا فُصِّلَ، فَسَوَاءٌ رُئِيَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، فَإِنَّهُ لِلَّيْلَةِ الَّتِي رُئِيَ فِيهَا.
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى. قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا إِذَا حَجُّوا وَاعْتَمَرُوا يَلْتَزِمُونَ شَرْعًا أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ حَائِلٌ، فَكَانُوا يَتَسَنَّمُونَ ظُهُورَ بُيُوتِهِمْ عَلَى الْجُدْرَانِ،
وَقِيلَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ إِذَا أَحْرَمَ أَحَدُهُمْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لَمْ يَأْتِ حَائِطًا، وَلَا بَيْتًا، وَلَا دَارًا مِنْ بَابِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ نَقَبَ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ نَقْبًا بدخل مِنْهُ وَيَخْرُجُ، أَوْ يَنْصِبُ سُلَّمًا، يَصْعَدُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ خَرَجَ مِنْ خَلْفِ الْخَيْمَةِ وَالْفُسْطَاطِ، وَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَابِ حَتَّى يَحِلَّ إِحْرَامُهُ، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ بِرًّا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْحُمْسِ، وَهُمْ: قُرَيْشٌ، وَكِنَانَةُ، وَخُزَاعَةُ، وَثَقِيفٌ، وَخَثْعَمُ، وَبَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَبَنُو نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ. فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَوَقَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَقَالَ: إِنِّي أَحْمَسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا أَحْمَسُ». فَنَزَلَتْ.
ذَكَرَ هَذَا مُخْتَصَرًا السُّدِّيُّ.
وَرَوَى الرَّبِيعُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ دَخَلَ وَخَلْفَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَدَخَلَ وَخَرَقَ عَادَةَ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «لِمَ دَخَلْتَ وَأَنْتَ قَدْ أَحْرَمْتَ» ؟ قَالَ: دَخَلْتَ أَنْتَ فَدَخَلْتُ بِدُخُولِكَ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَحْمُسُ، إِنِّي مِنْ قَوْمٍ لَا يَدِينُونَ بِذَلِكَ». فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَنَا دِينِي دِينُكَ فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانَ يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقِيلَ: كَانَ الْخَارِجُ لِحَاجَةٍ لَا يَعُودُ مِنْ بَابِهِ مَخَافَةَ التَّطَيُّرِ بِالْخَيْبَةِ، وَيَبْقَى كَذَلِكَ حَوْلًا كَامِلًا.
وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ رَادًّا عَلَى مَنْ جَعَلَ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا بِرًّا، آمِرًا بِإِتْيَانِ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا، وهذه أسباب تضافرت عَلَى أَنَّ الْبُيُوتَ أُرِيدَ بِهَا الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّ الْإِتْيَانَ هُوَ الْمَجِيءُ إِلَيْهَا، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنِ ادِّعَاءِ الْمَجَازِ مَعَ مُخَالَفَةِ ما تضافرت مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أن الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتُ لِلْحَجِّ اسْتَطْرَدَ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْحَجِّ زَاعِمِينَ أَنَّهُ مِنَ الْبِرِّ، فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ، وَإِنَّمَا جَرَتِ
237
الْعَادَةُ بِهِ قَبْلَ الْحَجِّ أَنْ يَفْعَلُوهُ، فِي الْحَجِّ، وَلَمَّا ذَكَرَ سُؤَالَهُمْ عَنِ الْأَهِلَّةِ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، وَمَا حِكْمَةُ ذَلِكَ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ، فَأَفْعَالُهُ جَارِيَةٌ عَلَى الْحِكْمَةِ، رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ إِتْيَانِ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا، إِذَا أَحْرَمُوا، لَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي شَيْءٍ، وَلَا مِنَ الْبِرِّ، أَوْ لَمَّا وَقَعَتِ الْقِصَّتَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمَا مَعًا، وَوَصَلَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى.
وَأَمَّا حَمْلُ الْإِتْيَانِ وَالْبُيُوتِ عَلَى المجاز ففيه أقوال.
أحدها: أَنَّ ذَلِكَ ضَرْبُ، مَثَلٍ: الْمَعْنَى لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَسْأَلُوا الْجُهَّالَ، وَلَكِنِ اتَّقُوا وَاسْأَلُوا الْعُلَمَاءَ. فَهَذَا كَمَا يُقَالُ: أَتَيْتُ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا مَثَلًا لِمُخَالَفَةِ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ، وَذَلِكَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي النَّسِيءِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِهِ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ وَيَحِلُّونَ الْحَرَامَ، فَضُرِبَ مَثَلًا لِلْمُخَالَفَةِ، وَقِيلَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ تَحْتَ إِتْيَانِ كُلِّ وَاجِبٍ فِي اجْتِنَابِ كُلِّ مُحَرَّمٍ. قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ إِتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعُدُولِ عَنِ الطَّرِيقِ الصحيح، وإتيانها كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالطَّرِيقِ الصَّحِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْمَعْلُومِ عَلَى الْمَظْنُونِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصَّانِعَ حَكِيمٌ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الصَّوَابَ، وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْقَمَرِ فِي نُورِهِ مِنْ فِعْلِهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً وَحِكْمَةً، فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْمَعْلُومِ عَلَى الْمَجْهُولِ. أَمَّا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِعَدَمِ عِلْمِنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ لَيْسَ بِحَكِيمٍ فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْمَجْهُولِ عَلَى الْمَعْلُومِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَمَّا لَمْ تَعْلَمُوا حِكْمَتَهُ فِي اخْتِلَافِ الْقَمَرِ، صِرْتُمْ شَاكِّينَ فِي حِكْمَةِ الْخَالِقِ، فَقَدْ أَتَيْتُمْ مَا تَظُنُّونَهُ بِرًّا، إِنَّمَا الْبِرُّ أَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا فَتَسْتَدِلُّوا بِالْمَعْلُومِ، وَهُوَ حِكْمَةُ الْخَالِقِ عَلَى الْمَجْهُولِ، فَتَقْطَعُوا أَنَّ فِيهِ حِكْمَةً بَالِغَةً، وَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، قَالَهُ فِي (رِيِّ الظَّمْآنِ) وَهُوَ قَوْلٌ مُلَفَّقٌ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَمْثِيلًا لِتَعْكِيسِهِمْ فِي سُؤَالِهِمْ، وَأَنَّ مَثَلَهُمْ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يَتْرُكُ بَابَ الْبَيْتِ وَيَدْخُلُهُ مِنْ ظَهْرِهُ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ الْبِرُّ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ، بِأَنْ تَعْكِسُوا فِي مَسَائِلِكُمْ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى ذَلِكَ وَتَجَنَّبَهُ، وَلَمْ يَجْسُرْ عَلَى مِثْلِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها أَيْ: وَبَاشِرُوا الْأُمُورَ مِنْ وُجُوهِهَا الَّتِي يَجِبُ أَنْ
238
يباشر عَلَيْهَا، وَلَا تَعْكِسُوا، وَالْمُرَادُ وجوب توطئ النُّفُوسِ وَرَبْطِ الْقُلُوبِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ اللَّهِ حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاجِ شُبْهَةٍ، وَلَا اعْتِرَاضِ شَكٍّ فِي ذَلِكَ، حَتَّى لَا يُسْأَلَ عَنْهُ لِمَا فِي السُّؤَالِ مِنَ الِاتِّهَامِ بمفارقة الشك لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «١». انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ مُخْتَصَرًا ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عُبَيْدَةَ: لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَشِذُّوا فِي الْأَسْئِلَةِ عَنِ الْأَهِلَّةِ وَغَيْرِهَا، فَتَأْتُونَ الْأُمُورَ عَلَى غَيْرِ مَا تُحِبُّ الشَّرَائِعُ، أَنَّهُ كَنَّى بِالْبُيُوتِ عَنِ النِّسَاءِ، الْإِيوَاءُ إِلَيْهِنَّ كَالْإِيوَاءِ إِلَى الْبُيُوتِ، وَمَعْنَاهُ: لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحِلُّ مِنْ ظُهُورِهِنَّ، وَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ يَحِلُّ مِنْ قَبُلِهِنَّ. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَحَكَاهُ مَكِّيٌّ، وَالْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَوْنُهُ فِي جِمَاعِ النِّسَاءِ بَعِيدٌ مُغَيِّرٌ نَمَطَ الْكَلَامِ، انْتَهَى.
وَالْبَاءُ فِي: بِأَنْ تَأْتُوا زَائِدَةٌ فِي خَبَرِ لَيْسَ، وبأن تَأْتُوا، خَبَرُ لَيْسَ، وَيَتَقَدَّرُ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَعْنَى عَنِ الْمَعْنَى، وَبِالْأَعْرَفِ عَمَّا دُونَهُ فِي التَّعْرِيفِ، لِأَنَّ: أَنْ وَصِلَتَهَا، عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الضَّمِيرِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَقَالُونُ، وَعَبَّاسٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالْعِجْلِيُّ عَنْ حَمْزَةَ وَالشُّمُّونِيُّ عَنِ الْأَعْشَى، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: الْبِيُوتَ، بِالْكَسْرِ حَيْثُ وَقَعَ ذَلِكَ لِمُنَاسَبَةِ الْيَاءِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الضَّمُّ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ، وَبِهِ قَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ و: من، متعلقة: بتأتوا، وَهِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي: أَبْوَابِهَا، عَائِدٌ عَلَى الْبُيُوتِ. وَعَادَ كَضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ الْبُيُوتَ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَجَمْعُ الْمُؤَنَّثِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فُرِّقَ فِيهِ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَالْأَفْصَحُ فِي قَلِيلِهِ أَنْ يُجْمَعَ الضَّمِيرُ، وَالْأَفْصَحُ فِي كَثِيرِهِ أَنْ يُفْرَدَ. كَهُوَ فِي ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ الْوَاحِدَةِ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ. وَأَمَّا جَمْعُ الْمُؤَنَّثِ الَّذِي يَعْقِلُ فَلَمْ تُفَرِّقِ الْعَرَبُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَالْأَفْصَحُ أَنْ يُجْمَعَ الضَّمِيرُ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ «٢» وَنَحْوُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ كَمَا يَعُودُ عَلَى الْمُؤَنَّثِ الْوَاحِدِ وَهُوَ فَصِيحٌ.
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى التَّأْوِيلَاتُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ «٣» سائغة
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٨٦.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٧٧. [.....]
239
هُنَا، مِنْ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْبِرَّ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ، عَلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ فِيهِ حَذْفٍ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ: ذَا الْبِرِّ، وَمِنَ الثَّانِي أي: بر من آمن. وَتَقَدَّمَ التَّرْجِيحُ فِي ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ كَأَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ مِنْ تِلْكَ لِأَنَّ هُنَاكَ عَدَّ أَوْصَافًا كَثِيرَةً مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ إِلَى سَائِرِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «١» وَقَالَ هُنَا: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَالتَّقْوَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِحُصُولِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، فَأَحَالَ هُنَا عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ ضِمْنًا إِذْ جَاءَ مَعَهَا: هُوَ الْمُتَّقِي.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ بِتَخْفِيفِ: وَلَكِنْ، وَرَفْعِ: الْبِرُّ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ.
وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها تَفْسِيرُهَا: يَتَفَرَّغُ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ:
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها.
وَاتَّقُوا اللَّهَ: أَمْرٌ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَتْ جُمْلَتَانِ خَبَرِيَّتَانِ وَهُمَا وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى فَعَطَفَ عَلَيْهِمَا جُمْلَتَانِ أَمْرِيَّتَانِ الْأُولَى رَاجِعَةٌ لِلْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ رَاجِعَةٌ لِلثَّانِيَةِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ.
وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَنِ اتَّقَى، مَحْذُوفَ الْمَفْعُولِ، نَصَّ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ، عَلَى مَنْ يَتَّقِي، فَاتَّضَحَ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَعْنَى مَنِ اتَّقَى اللَّهَ.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ظَاهِرُهُ التَّعَلُّقُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ لِأَنَّ تَقْوَى اللَّهِ هُوَ إِجْمَاعُ الْخَيْرِ مِنِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، فَعَلَّقَ التَّقْوَى بِرَجَاءِ الْفَلَاحِ، وَهُوَ الظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ.
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ لَمَّا صَدَّ الْمُشْرِكُونَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ قَابِلٍ فَيُحِلُّوا لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَخَافَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ لَا تَفِيَ لَهُمْ قُرَيْشٌ، وَيَصُدُّوهُمْ، وَيُقَاتِلُوهُمْ فِي الْحَرَمِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَكَرِهُوا ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ.
وَأَطْلَقَ لَهُمْ قِتَالَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مِنْهُمْ فِي الْحَرَمِ وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ الْجُنَاحَ فِي ذَلِكَ، وَبِذِكْرِ هَذَا السَّبَبِ ظَهَرَتْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قبلها، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا مُتَضَمِّنٌ شَيْئًا مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْحَجِّ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ الْمُنَاسِبَ هُوَ: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالتَّقْوَى، وَكَانَ أَشَدُّ أَقْسَامِ التَّقْوَى وَأَشَقُّهَا عَلَى النفس قتال
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧٧.
240
أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ المقاتلة في سبيل الله هِيَ الْجِهَادُ فِي الْكُفَّارِ لِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، أَمَرَ فِيهَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ، وَالْكَفِّ عَنْ مَنْ كَفَّ، فَهِيَ نَاسِخَةٌ لِآيَاتِ الْمُوَادَعَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «١» قَالَ الرَّاغِبُ: أَمَرَ أَوَّلًا بِالرِّفْقِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَعْظِ وَالْمُجَادَلَةِ الْحَسَنَةِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ، ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ يَأْبَى الْحَقَّ بِالْحَرْبِ، وَذَلِكَ كَانَ أَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى السِّيَاسَةِ. انْتَهَى.
وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَفِي (رِيِّ الظَّمْآنِ) هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ «٢» وَضَعُفَ نَسْخُهَا بِقَوْلِهِ:
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ، وَنَسْخُ:
وَلا تُقاتِلُوهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، وَهَذَا الْحُكْمُ لَمْ يُنْسَخْ، بَلْ هُوَ بَاقٍ، وَبِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ آيَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَاتِلُوا، لَيْسَ أَمْرًا بِقِتَالٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالتَّشَدُّدِ فِي الدِّينِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ قِتَالًا، لِأَنَّهُ يؤول إِلَى الْقِتَالِ غَالِبًا، تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يؤول إِلَيْهِ. وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مُحْكَمَةٌ.
هذا الْقَوْلُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ لِغَيْرِ مَانِعٍ لَا يُنَاسِبُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، السَّبِيلُ هُوَ الطَّرِيقُ، وَاسْتُعِيرَ لِدِينِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ، فَإِنَّ الْمُتَّبِعَ ذَلِكَ يَصِلُ بِهِ إِلَى بُغْيَتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَشُبِّهَ بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ الْإِنْسَانَ إِلَى مَا يَقْصِدُهُ، وَهَذَا مِنِ اسْتِعَارَةِ الْأَجْرَامِ لِلْمَعَانِي، وَيَتَعَلَّقُ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بِقَوْلِهِ: وَقَاتِلُوا، وَهُوَ ظَرْفٌ مَجَازِيٌّ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْقِتَالُ بِسَبَبِ نُصْرَةِ الدِّينِ صَارَ كَأَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَبَالِغُوا بِالْقِتَالِ فِي نُصْرَةِ سَبِيلِ اللَّهِ، فَضُمِّنَ:
قَاتِلُوا، مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْقِتَالِ.
الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ظَاهِرُهُ: مَنْ يُنَاجِزُكُمُ الْقِتَالَ ابْتِدَاءً، أَوْ دَفْعًا عَنِ الْحَقِّ، وَقِيلَ:
مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقِتَالِ سِوَى مَنْ جَنَحَ لِلسَّلْمِ فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا: النِّسْوَانُ، وَالصِّبْيَانُ، وَالرُّهْبَانُ-
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٣٩.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٩٣، وسورة الأنفال: ٨/ ٣٩.
241
وَقِيلَ: مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْقِتَالِ، وَتَسْمِيَةُ مَنْ لَهُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْقُدْرَةُ مُقَاتِلًا مَجَازٌ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَجَازًا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: الَّذِينَ يُخَالِفُونَكُمْ، فَجَعَلَ المخالفة قتالا، لأنه يؤول إِلَى الْقِتَالِ، فَيَكُونُ أَمْرًا بِقِتَالِ مَنْ خَالَفَ، سَوَاءٌ قَاتَلَ أَمْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى الْمَفْعُولِ الصَّرِيحِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقِتَالُ بِسَبَبِ إِظْهَارِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «١» وَلا تَعْتَدُوا نَهْيٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مُجَاوَزَةِ كُلِّ حَدِّ، حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَدَخَلَ فِيهِ الِاعْتِدَاءُ فِي الْقِتَالِ بِمَا لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تَعْتَدُوا فِي قَتْلِ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالرُّهْبَانِ، وَالْأَطْفَالِ، وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُجَاهِدٌ. وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ:
كَالنَّحَّاسِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ غَالِبًا لَا تَكُونُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ، وَالْقِتَالُ لَا يَكُونُ مِنْ هَؤُلَاءِ.
وَلِأَنَّ النَّهْيَ
وَرَدَ فِي ذَلِكَ نهى رسول الله ﷺ عن قَتْلِ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَعَنِ الْمُثْلَةِ
، وَفِي وِصَايَةِ أَبِي بَكْرٍ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ هَؤُلَاءِ، وَالشَّيْخِ الْفَانِي، وَعَنْ تَخْرِيبِ الْعَامِرِ، وَذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ لِغَيْرِ مَأْكَلٍ، وَإِفْسَادِ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ بِحَرْقٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَقِيلَ: وَلَا تَعْتَدُوا فِي قِتَالِ مَنْ بَذَلَ الْجِزْيَةَ. قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ، وَقِيلَ: فِي تَرْكِ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: بِالْبُدَاءَةِ وَالْمُفَاجَأَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ. وَقِيلَ: بِالْمُثْلَةِ، وَقِيلَ: بِابْتِدَائِهِمْ فِي الْحَرَمِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقِيلَ: فِي الْقِتَالِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ، كَالْحَمِيَّةِ وَكَسْبِ الذِّكْرِ.
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. هَذَا كَالتَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ زَيْدًا إِنَّ عَمْرًا يُكْرِمُهُ. وَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ: وَهِيَ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى مَا تُؤْثِرُهُ مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْبَغْضَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمَا مَجَازَانِ عَنْ إِرَادَةِ ثَوَابِهِ، وَإِرَادَةِ عِقَابِهِ، أَوْ عَنْ مُتَعَلَّقِ الْإِرَادَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَحَبَّةِ الْإِنْسَانِ وَبُغْضِهِ، فَإِنَّ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً، وَهِيَ عَدَمُهُمَا، فَلِذَلِكَ لَا يَرِدُ عَلَى نَفْيِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمَحَبَّةِ وُجُودُ الْبُغْضِ، بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ عَدَمِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَى: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَهَذَا أَمْرٌ بِقَتْلِهِمْ، وَ: حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، عَامٌّ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَلَّ أَوْ حَرُمَ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ عُمُومُ الْأَزْمَانِ،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٤.
242
فِي شَهْرِ الْحَرَامِ وَفِي غَيْرِهِ، وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) أَمَرَ فِي الْآيَةِ: الْأَوْلَى بِالْجِهَادِ بِشَرْطِ إِقْدَامِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُقَاتَلَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ زَادَ فِي التَّكْلِيفِ. فَأَمَرَ بِالْجِهَادِ مَعَهُمْ سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَمْ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الْمُقَاتَلَةَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ: إِنَّهُ زَادَ فِي التَّكْلِيفِ فَأَمَرَ بِالْجِهَادِ سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَمْ لَمْ يُقَاتِلُوا، لِأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، فَالْوَصْفُ بَاقٍ إِذِ الْمَعْنَى: وَاقْتُلُوا الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، فَلَيْسَ أَمْرًا بِالْجِهَادِ سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَمْ لَمْ يُقَاتِلُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ حِينَ قَتَلَهُ وَافِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَذَلِكَ فِي سَرِيَّةِ عبد الله بن جحش.
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أَيْ: مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَخْرَجُوكُمْ مِنْهُ، يَعْنِي مَكَّةَ، وَهُوَ أَمْرٌ بِالْإِخْرَاجِ أَمْرُ تَمْكِينٍ، فَكَأَنَّهُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ أَنْجَزَ مَا وَعَدَ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ مَعَهُمْ، وَ: مِنْ حَيْثُ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:
وَأَخْرِجُوهُمْ، وَقَدْ تُصَرَّفُ فِي: حَيْثُ، بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهَا: كَمِنْ، وَالْبَاءِ، وَفِي، وَبِإِضَافَةِ لَدَى إِلَيْهَا.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي: أَخْرَجُوكُمْ، عَائِدٌ عَلَى الْمَأْمُورِينَ بِالْقَتْلِ، وَالْإِخْرَاجِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَائِدٌ عَلَى بَعْضِهِمْ، جَعَلَ إِخْرَاجَ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ أَجَلُّهُمْ قَدْرًا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرُونَ، إِخْرَاجًا لِكُلِّهِمْ.
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فِي الْفِتْنَةِ هُنَا أَقْوَالٌ.
أَحَدُهَا: الرُّجُوعُ إِلَى الْكُفْرِ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ الْمُؤْمِنُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَكَانُوا قَدْ عَذَّبُوا نَفَرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَرْجِعُوا إِلَى الْكُفْرِ، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ. وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ يَقْتَضِي الْعَذَابَ دَائِمًا، وَالْقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَاسْتَعْظَمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ.
الثَّانِي: الشِّرْكُ، أَيْ: شركهم بالله أشدّ حرما مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي عَيَّرُوكُمْ بِهِ فِي شَأْنِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ.
الثَّالِثُ: هَتْكُ حُرُمَاتِ اللَّهِ مِنْهُمْ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ الَّذِي أُبِيحَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تُوقِعُوهُ بِهِمْ.
243
الرَّابِعُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ لَهُمْ أَشَدُّ مِنْ قَتْلِهِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرَمِ وَمِنْهُ: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ «١» إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ «٢» أَيْ: عَذَّبُوهُمْ.
الْخَامِسُ: الْإِخْرَاجُ مِنَ الْوَطَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَأْلُوفِ وَالْأَحْبَابِ، وَتَنْغِيصِ الْعَيْشِ دَائِمًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَمَوْتٌ بِحَدِّ السَّيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعًا عَلَى النَّفْسِ مِنْ قَتْلٍ بِحَدِّ فِرَاقِ
السَّادِسُ: أَنْ يُرَادَ فِتْنَتُهُمْ إِيَّاكُمْ بِصَدِّكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَشَدُّ مِنْ قَتْلِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الْحَرَمِ، أَوْ مِنْ قَتْلِهِمْ إِيَّاكُمْ، إِنْ قَتَلُوكُمْ، فَلَا تُبَالُوا بِقِتَالِهِمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ.
السَّابِعُ: تَعْذِيبُهُمُ الْمُسْلِمِينَ لِيَرْتَدُّوا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ.
وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ عَرْضُ الذَّهَبِ عَلَى النَّارِ لِاسْتِخْلَاصِهِ مِنَ الْغِشِّ، ثُمَّ صَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي الِامْتِحَانِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا فُسِّرَ بِهِ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ شَائِعٌ، وَالْفِتْنَةُ وَالْقَتْلُ مَصْدَرَانِ لَمْ يُذْكَرْ فَاعِلُهُمَا، وَلَا مَفْعُولُهُمَا، وَإِنَّمَا أُقِرَّ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْفِتْنَةِ أَشَدُّ مِنْ مَاهِيَّةِ الْقَتْلِ، فَكُلُّ مَكَانٍ تَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذِهِ النِّسْبَةُ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَصْدَرُ فَاعِلَهُ أَوْ مَفْعُولَهُ: الْمُؤْمِنُونَ أَمِ الْكَافِرُونَ، وَتَعْيِينُ نَوْعٍ مَا مِنْ أَفْرَادِ الْعُمُومِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ هُوَ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ حَتَّى يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِيهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَا يَجُوزُ قِتَالُ أَحَدٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُقَاتِلَ. وَبِهِ قَالَ طاووس، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الرَّبِيعُ: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ «٣» وَقَالَ قَتَادَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «٤» وَالنَّسْخُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذَا النَّسْخِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ: وَلَا تَقْتُلُوهُمْ، وَكَذَلِكَ حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ فَإِنْ قَتَلُوكُمْ، مِنَ الْقَتْلِ، فَيُحْتَمَلُ الْمَجَازُ فِي الْفِعْلِ، أَيْ: وَلَا تَأْخُذُوا فِي قَتْلِهِمْ حَتَّى يَأْخُذُوا فِي قَتْلِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ الْمَجَازُ فِي الْمَفْعُولِ، أَيْ: وَلَا تَقْتُلُوا بَعْضَهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ، فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ، يُقَالُ: قَتَلَنَا بَنُو فُلَانٍ، يُرِيدُ قَتَلَ بعضنا وقال:
(١) سورة الذاريات: ٥١/ ١٤.
(٢) سورة البروج: ٨٥/ ١٠.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٩٣ وسورة الأنفال: ٨/ ٣٩.
(٤) سورة التوبة: ٩/ ٥.
244
فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمْ وَإِنْ تقصدوا الذم نقصد
ونظيره: قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ «١» فأوهنوا أَيْ: قُتِلَ مَعَهُمْ أُنَاسٌ من الربيين، فاوهن الْبَاقُونَ، وَالْعَامِلُ فِي عِنْدَ: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، وَ: حَتَّى، هُنَا لِلْغَايَةِ، وَفِيهِ مُتَعَلِّقٌ بيقاتلوكم، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى عِنْدَ، تَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرِ الظَّرْفِ فَاحْتِيجَ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ إِلَى:
فِي، هَذَا، وَلَمْ يَتَّسِعْ فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرِ الظَّرْفِ تَعْدِيَتَهُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ الصَّرِيحِ، لَا يُقَالُ: إِنَّ الظَّرْفَ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى ضَمِيرِهِ بِالِاتِّسَاعِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، بَلِ الِاتِّسَاعُ جَائِزٌ إِذْ ذَاكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي جَرِّهِ بغي وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ؟ فَكَذَلِكَ يُخَالِفُهُ فِي الِاتِّسَاعِ. فَحُكْمُ الضَّمِيرِ إِذْ ذَاكَ لَيْسَ كَحُكْمِ الظَّاهِرِ.
فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ، وَفِيهِ مَحْذُوفٌ. أَيْ: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فِيهِ فَاقْتُلُوهُمْ فِيهِ، وَدَلَّ عَلَى إِرَادَتِهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ. وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي قَوْلِهِ: فَاقْتُلُوهُمْ، أَنَّهُ أَمْرٌ بِقَتْلِهِمْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وَفِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ، أَيْ: هُمْ مِنَ الْخِذْلَانِ وَعَدَمِ النُّصْرَةِ بِحَيْثُ أُمِرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ لَا بِقِتَالِهِمْ، فَأَنْتُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُمْ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَّا إِلَى إِيقَاعِ الْقَتْلِ بِهِمْ، إِذَا نَاشَبُوكُمُ الْقِتَالَ لَا إِلَى قِتَالِهِمْ.
كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهَا خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ الْكَافِرِينَ.
الْمَعْنَى: جَزَاءُ الْكَافِرِينَ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الْقَتْلُ، أَيْ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى فَجَزَاؤُهُ الْقَتْلُ، وَفِي إِضَافَةِ الْجَزَاءِ إِلَى الْكَافِرِينَ إِشْعَارٌ بِعِلِّيَةِ الْقَتْلِ.
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: عَنِ الْكُفْرِ، وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ عَلَّقَ عَلَيْهِ الْغُفْرَانَ وَالرَّحْمَةَ وَهُمَا لَا يَكُونَانِ مَعَ الْكُفْرِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ «٢» وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ اللَّفْظِ وَهُوَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْمُقَاتَلَةِ وَالشِّرْكِ، لِتَقَدُّمِهِمَا فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَقِيلَ: عَنِ الْقِتَالِ دُونَ الْكُفْرِ، وَلَيْسَ الْغُفْرَانُ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، بَلِ الْمَعْنَى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لَكُمْ رَحِيمٌ بِكُمْ حَيْثُ أَسْقَطَ عَنْكُمْ تَكْلِيفَ قِتَالِهِمْ، وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، أَيْ:
فَاغْفِرُوا لَهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَكُمْ، وَعَلَى قَوْلِ: إِنَّ الِانْتِهَاءَ عَنِ الْقِتَالِ فَقَطْ، تكون الآية
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٤٦.
(٢) سورة الأنفال: ٨/ ٣٨.
245
مَنْسُوخَةً، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ قَبْلَهُ تَكُونُ مُحْكَمَةً، وَمَعْنَى: انْتَهَى: كَفَّ، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ النَّهْيِ، وَمَعْنَاهُ فِعْلُ الْفَاعِلِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِمُ: اضْطَرَبَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا:
افْتَعَلَ.
قَالُوا: وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ توبة قاتل العمد، إذا كَانَ الْكُفْرُ أَعْظَمَ مَأْثَمًا مِنَ الْقَتْلِ، وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ.
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ عَائِدٌ عَلَى مَنْ قَاتَلَهُ وَهُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ، وَالْفِتْنَةُ هُنَا الشِّرْكُ وَمَا تَابَعَهُ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، أُمِرُوا بِقِتَالِهِمْ حَتَّى لَا يُعْبَدَ غَيْرُ اللَّهِ، وَلَا يُسَنَّ بِهِمْ سُنَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ. أَعْنِي:
أَنَّ الفتنة هنا والشرك وَمَا تَابَعَهُ مِنَ الْأَذَى، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ أُمِرُوا بِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ مِنْ مُشْرِكٍ وَغَيْرِهِ، وَيُخَصُّ مِنْهُمْ بِالْجِزْيَةِ مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ، لِقَوْلِهِ: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ.
قَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هَذِهِ الصِّيغَةُ عَامَّةٌ وَمَا قَبْلَهُ خَاصٌّ، وَهُوَ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ تَخْصِيصُ الْعَامِّ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ عَلَى الْمُخَصَّصِ أَمْ تأخر عنه.
وقال أو مُسْلِمٍ: الْفِتْنَةُ هُنَا: الْقِتَالُ فِي الْحَرَمِ، قَالَ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْهُمُ الْقِتَالُ الَّذِي إذا بدؤا بِهِ كَانَ فِتْنَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَضَارِّ.
وَ: حَتَّى، هُنَا لِلْغَايَةِ، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِذَا فُسِّرَتِ الْفِتْنَةُ بِالْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ لَا يَلْزَمُ زَوَالُهُ بالقتال، فكيف غي الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ بِزَوَالِهِ؟.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْغَالِبِ، وَالْوَاقِعِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ فَقَدِ انْقَطَعَ كُفْرُهُ وَزَالَ، وَمَنْ عَاشَ خَافَ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى كُفْرِهِ، فَأَسْلَمَ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَقَاتِلُوهُمْ قَصْدًا مِنْكُمْ إِلَى زَوَالِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ زَوَالَ الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ يُقْلِعُ عَنِ الْكُفْرِ بِغَيْرِ الْقِتَالِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُدُولُ عَنْهُ.
وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ الدِّينُ هُنَا: الطَّاعَةُ، أَيْ: يَكُونَ الِانْقِيَادُ خَالِصًا لِلَّهِ، وَقِيلَ:
الدِّينُ هُنَا السُّجُودُ وَالْخُضُوعُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فلا يسجد لغيره، وغي هُنَا الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: انْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ، وَالثَّانِي: ثُبُوتُ الدِّينِ لِلَّهِ، وَهُوَ عَطْفُ مُثْبَتٍ عَلَى مَنْفِيٍّ، وَهُمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَمُتَلَازِمَانِ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى الشِّرْكُ بِاللَّهِ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمَعْبُودُ الْمُطَاعُ، وَعَلَى
246
تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ فِي الفتنة يكون قد غي بِأَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: انْتِفَاءُ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، وَالثَّانِي: خُلُوصُ الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى.
قِيلَ وَجَاءَ فِي الْأَنْفَالِ: وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ «١» ولم يجىء هُنَا: كُلُّهُ، لِأَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ فِي الْكُفَّارِ عُمُومًا، وَهُنَا فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، فَنَاسَبَ هُنَاكَ التَّعْمِيمُ، وَلَمْ يُحْتَجْ هُنَا إِلَيْهِ.
قِيلَ: وَهَذَا لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي: وَقَاتِلُوهُمْ، عَائِدًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَرَاجَعَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فِي الْخُرُوجِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «٢» فَعَارَضَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً «٣» فَقَالَ: أَلَمْ يَقِلْ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ؟ فَأَجَابَهُ ابْنُ عُمَرَ بِأَنَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ عَنْ دِينِهِ بِقَتْلِهِ أَوْ تَعْذِيبِهِ، وَكَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ.
فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ. مُتَعَلَّقُ الِانْتِهَاءِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: عَنِ الشِّرْكِ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ عَنِ الْقِتَالِ. وَأَذْعَنُوا إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فِيمَنْ يُشْرَعُ ذَلِكَ فِيهِمْ، أَوْ: عَنِ الشِّرْكِ وَتَعْذِيبِ الْمُسْلِمِينَ وَفِتْنَتِهِمْ لِيَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الضَّمِيرِ، إِذْ هُوَ عَامٌّ فِي الْكُفَّارِ، أَوْ خَاصٌّ بِكُفَّارِ مَكَّةَ.
وَالْعُدْوَانُ مَصْدَرُ عَدَا، بِمَعْنَى: اعْتَدَى، وَهُوَ نَفْيٌ عَامٌّ، أَيْ: لَا يُؤْخَذُ فَرْدٌ فَرْدٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى مَنْ ظَلَمَ، وَيُرَادُ بِالْعُدْوَانِ الَّذِي هُوَ الظُّلْمُ الْجَزَاءُ. سَمَّاهُ عُدْوَانًا مِنْ حَيْثُ هُوَ جَزَاءُ عُدْوَانٍ، وَالْعُقُوبَةُ تُسَمَّى بَاسِمِ الذَّنْبِ، وَذَلِكَ عَلَى الْمُقَابَلَةِ، كَقَوْلِهِ:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «٤» فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ «٥» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
جَزَيْنَا ذوي العدوان بالأمس فرضهم قِصَاصًا سَوَاءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بالنعل
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٣٩.
(٢) سورة الحجرات: ٤٩/ ٩.
(٣) سورة النساء: ٤/ ٩٣.
(٤) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٢. [.....]
(٥) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ٣/ ٥٤.
247
وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ، إِنَّمَا اسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْعُدْوَانِ فِي الْجَزَاءِ مِنْ غَيْرِ مُزَاوَجَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّ مُزَاوَجَةَ اللَّفْظِ مُزَاوَجَةُ الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ يَقُولُ: انْتَهُوا عَنِ الْعُدْوَانِ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا النَّفْيُ الْعَامُّ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، أَيْ: فَلَا تَعْتَدُوا، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ إِذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي تَرْكِ الشَّيْءِ عَدَلُوا فِيهِ عَنِ النَّهْيِ إِلَى النَّفْيِ الْمَحْضِ الْعَامِّ، وَصَارَ أَلْزَمَ فِي الْمَنْعِ، إِذْ صَارَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَقَعُ أَصْلًا، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى النَّفْيِ الصَّحِيحِ أَصْلًا لِوُجُودِ الْعُدْوَانِ عَلَى غَيْرِ الظَّالِمِ. فَكَأَنَّهُ يَكُونُ إِخْبَارًا غَيْرَ مُطَابِقٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَفُسِّرَ الظَّالِمُونَ هُنَا بِمَنْ بَدَأَ بِالْقِتَالِ، وَقِيلَ: مَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرٍ وَفِتْنَةٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ: الظَّالِمُ هُنَا مَنْ أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ الْمَعْنَى: فَإِنِ انْتَهَى بَعْضُهُمْ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى مَنْ لَمْ يَنْتَهِ، وَهُوَ الظَّالِمُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَا تَعْتَدُوا عَلَى الْمُنْتَهِينَ لِأَنَّ مُقَاتَلَةَ الْمُنْتَهِينَ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ، فَوُضِعَ قَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، مَوْضِعَ: عَلَى الْمُنْتَهِينَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى تَفْسِيرِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ الْإِعْرَابِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ: عَلَى الْمُنْتَهِينَ، لَيْسَ مُرَادِفًا لِقَوْلِهِ: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ نَفْيَ الْعُدْوَانِ عَنِ الْمُنْتَهِينَ لَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِهِ عَلَى الظَّالِمِينَ إِلَّا بِالْمَفْهُومِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَفِي التَّرْكِيبِ الْقُرْآنِيِّ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِهِ عَلَى الظَّالِمِينَ بِالْمَنْطُوقِ الْمَحْصُورِ بِالنَّفْيِ وَإِلَّا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الدَّلَالَتَيْنِ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ.
أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: فَوُضِعَ قَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، مَوْضِعَ: عَلَى الْمُنْتَهِينَ؟ وَهَذَا الْوَضْعُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي تَفْسِيرِ الْإِعْرَابِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّلَالَتَيْنِ، أَلَا تَرَى فَرْقَ مَا بَيْنَ قَوْلِكَ: مَا أَكْرَمَ الْجَاهِلَ! وَمَا أَكْرَمَ إِلَّا العالم؟ وإلّا عَلَى الظَّالِمِينَ، اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْإِخْبَارِ عَلَى الظَّالِمِينَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ: لَا، عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ: لَا عُدْوَانَ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَاءَ: بِعَلَى، تَنْبِيهًا عَلَى اسْتِيلَاءِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِعْلَائِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى لَا عُدْوَانَ، لَا سَبِيلَ، كَقَوْلِهِ: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ
248
عَلَيَ
«١» أَيْ لَا سَبِيلَ عَلَيَّ، وَهُوَ مَجَازٌ عَنِ التَّسْلِيطِ وَالتَّعَرُّضِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى جَزَاءِ الظَّالِمِ الَّذِي شَرَحْنَا بِهِ الْعُدْوَانَ.
وَرَابِطُ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ إِمَّا بِتَقْدِيرِ حَذْفٍ أَيْ: إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، أَوْ بِالِانْدِرَاجِ فِي عُمُومِ الظَّالِمِينَ، فَكَانَ الرَّبْطُ بِالْعُمُومِ.
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمِقْسَمٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَاتَلُوهُمْ ذَلِكَ الْعَامَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَكَرَاهَتِهِمُ الْقِتَالَ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أَيْ: هَتْكُهُ بِهَتْكِهِ، تَهْتِكُونَ حُرْمَتَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا هَتَكُوا حُرْمَتَهُ عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: سَأَلَ الْكُفَّارُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تُقَاتِلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ فِيهِ، فَهَمُّوا بِالْهُجُومِ عَلَيْهِ وَقَتْلِ مَنْ مَعَهُ حِينَ طَمِعُوا أَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ، فَنَزَلَتْ.
وَالشَّهْرُ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ التقدير: انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، كَائِنٌ بِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الشَّهْرِ، فِي اللَّفْظِ هِيَ لِلْعَهْدِ، فَالشَّهْرُ الْأَوَّلُ هُوَ ذُو الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَالشَّهْرُ الثَّانِي هُوَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ فِي الْحُرُمَاتِ، أَيْ: حُرْمَةُ الشَّهْرِ وَحُرْمَةُ الْمُحْرِمِينَ حِينَ صَدَدْتُمْ بِحُرْمَةِ الْبَلَدِ، والشهر، والقطان، حِينَ دَخَلْتُمْ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى السَّبَبِ الْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَمَّا عَلَى السَّبَبِ الْمَنْقُولِ عَنِ الْحَسَنِ فَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعُمُومِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ، أَيْ: وَكُلُّ حُرْمَةٍ يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تِلْكَ الْحُرُمَاتُ السَّابِقَةُ وَغَيْرُهَا، وَقِيلَ: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ جُمْلَةٌ مَقْطُوعَةٌ مِمَّا قَبْلَهَا لَيْسَتْ فِي أَمْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، بَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ أَمْرٍ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، أَيْ: مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَتَكَ نِلْتَ مِنْهُ مِثْلَ مَا اعْتَدَى عَلَيْكَ بِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْقِتَالِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَا كَانَ مِنْ تَعِدٍّ فِي مَالٍ أَوْ جُرْحٍ لَمْ يُنْسَخْ، وَلَهُ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا تَعَدَّى عَلَيْهِ، وَيُخْفِي ذَلِكَ إِذَا أَمْكَنَهُ دُونَ الْحَاكِمِ وَلَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ مالك.
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٢٨.
249
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ مَالِكٌ: الْقِصَاصُ وَقْفٌ عَلَى الْحُكَّامِ فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إِلَّا هُمْ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْحُرُماتُ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ عَلَى الْأَصْلِ، إِذْ هُوَ جَمْعُ حُرْمَةٍ، وَالضَّمُّ فِي الْجَمْعِ اتِّبَاعٌ.
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ هَذَا مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا: أَهِيَ مَنْسُوخَةٌ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا بِمَعْنَاهَا بِمَكَّةَ، وَالْإِسْلَامُ لَمْ يَعِزَّ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَزَّ دِينُهُ، أُمِرَ الْمُسْلِمُونَ بِرَفْعِ أُمُورِهِمْ إِلَى حُكَّامِهِمْ، وَأُمِرُوا بِقِتَالِ الْكُفَّارِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ مِنَ التَّدْرِيجِ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ.
وَقَوْلُهُ: فَاعْتَدُوا لَيْسَ أَمْرًا عَلَى التَّحَتُّمِ إِذْ يَجُوزُ الْعَفْوُ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ اعْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَالْبَاءُ فِي: بِمِثْلِ، مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: بِعُقُوبَةٍ مِثْلِ جِنَايَةِ اعْتِدَائِهِ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: مِثْلَ اعْتِدَائِهِ، وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: اعْتِدَاءً مُمَاثِلًا لِاعْتِدَائِهِ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أَمْرٌ بِتَقْوَى اللَّهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ اتِّقَاؤُهُ بِأَنْ لَا يَتَعَدَّى الْإِنْسَانُ فِي القصاص من إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّمْكِينِ وَالتَّأْيِيدِ، وَجَاءَ بِلَفْظِ: مَعَ، الدَّالَّةِ عَلَى الصُّحْبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ حَضًّا عَلَى النَّاسِ بِالتَّقْوَى دَائِمًا إِذْ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَهُوَ الْغَالِبُ الْمُنْتَصِرُ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ «ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ» فَأَمْسَكُوا، فَقَالَ:
«ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ»
أَوْ: كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ وَرُوحُ الْقُدُسِ مَعَكَ»
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَذَا أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ فِي طَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَكُلُّ مَا كَانَ سَبِيلًا لِلَّهِ وَشَرْعًا لَهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالْإِنْفَاقِ فِيهِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ فِي أَثْمَانِ آلَةِ الْحَرْبِ،
وَقِيلَ: عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنَ الْأَعْرَابِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: بماذا نتجهز؟ فو الله مَا لَنَا زَادٌ
وَقِيلَ: فِي الْجِهَادِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: ابْذُلُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
250
وَسُمِّيَ بَذْلُ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنْفَاقًا مَجَازًا وَاتِّسَاعًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَأَنْفَقْتُ عمري في البطالة والصبي فَلَمْ يَبْقَ لِي عُمُرٌ وَلَمْ يَبْقَ لِي أَجْرُ
وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ: الْأَمْرُ بِصَرْفِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ جِهَادٍ بِالنَّفْسِ، أَوْ بِتَجْهِيزِ غَيْرِهِ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ عَلَى عِيَالٍ، أَوْ فِي زَكَاةٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ، أَوْ عِمَارَةِ سَبِيلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَمَّا اعْتَقَبَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِمَا قَبْلَهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْقِتَالِ وَالْأَمْرِ بِهِ، تَبَادَرَ إِلَى الذِّهْنِ النَّفَقَةُ فِي الْجِهَادِ لِلْمُنَاسَبَةِ.
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ، أَمْسَكُوا عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: كَانَ الرَّجُلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَقُولُ: لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي، فَنَزَلَتْ.
وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ تَضَمَّنَّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ، وَدَخَلَ فِيهِمْ وَخَرَجَ، فَقَالَ النَّاسُ: أَلْقَى بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ: تَأَوَّلْتُمُ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا، وَمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ قُلْنَا: لَوْ أَقَمْنَا نُصْلِحُ مَا ضَاعَ مِنْ أَمْوَالِنَا، فَنَزَلَتْ.
وَفِي تَفْسِيرِ التَّهْلُكَةِ أَقْوَالٌ.
أَحَدُهَا: تَرْكُ الْجِهَادِ وَالْإِخْلَادُ إِلَى الرَّاحَةِ وَإِصْلَاحِ الْأَمْوَالِ، قَالَهُ أَبُو أَيُّوبَ.
الثَّانِي: تَرْكُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَوْفَ الْعَيْلَةِ، قَالَهُ حُذَيْفَةُ، وإن عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ.
الثَّالِثُ: التَّقَحُّمُ فِي الْعَدُوِّ بِلَا نِكَايَةٍ، قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ.
الرَّابِعُ: التَّصَدُّقُ بِالْخَبِيثِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
الْخَامِسُ: الْإِسْرَافُ بِإِنْفَاقِ كُلِّ الْمَالِ، قَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا «١» وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «٢» قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ.
السَّادِسُ: الِانْهِمَاكُ فِي الْمَعَاصِي لِيَأْسِهِ مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ، قَالَهُ الْبَرَاءُ، وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ.
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٧.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٢٩.
251
السَّابِعُ: الْقُنُوطُ مِنَ التَّوْبَةِ، قَالَهُ قَوْمٌ.
الثَّامِنُ: السَّفَرُ لِلْجِهَادِ بِغَيْرِ زَادٍ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَقَدْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمٌ فَأَدَّاهُمْ إِلَى الِانْقِطَاعِ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ إِلَى كَوْنِهِمْ عَالَةً عَلَى النَّاسِ.
التَّاسِعُ: إِحْبَاطُ الثَّوَابِ إِمَّا بِالْمَنِّ أَوِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، كَقَوْلِهِ: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ «١».
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ نُهُوا عن كل ما يؤول بِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُفْضٍ إِلَى الْهَلَاكِ، وَهُوَ الْقَتْلُ، وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ مَوْعُودٌ عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ المتقرب بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ردّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ: أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ يحيى، فَيُقَاتِلُ فَيُقْتَلُ، أَوْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَيُقَالُ: أَلْقَى بِيَدِهِ فِي كَذَا، أو إلى كَذَا، إِذَا اسْتَسْلَمَ، لِأَنَّ الْمُسْتَسْلِمَ فِي الْقِتَالِ يُلْقِي سِلَاحَهُ بِيَدَيْهِ، وَكَذَا عَلَى كُلِّ عَاجِزٍ فِي أَيِّ فِعْلٍ كَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا لِلْمَوْتِ لَعَجْزٌ.
وَأَلْقَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ «٢» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
وَجَاءَ مُسْتَعْمَلًا بِالْبَاءِ لهذه الْآيَةِ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الْفَتِيُّ اسْتِكَانَةً مِنَ الْجُوعِ وَهْنًا مَا يُمِرُّ وَمَا يُحْلِي
وَإِذَا كَانَ أَلْقَى عَلَى هَذَيْنِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقَوْمٌ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ:
وَلَا تُلْقُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَيَكُونُ عَبَّرَ بِالْيَدِ عَنِ النَّفْسِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. وَقَدْ زِيدَتِ الْبَاءُ فِي الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ.
سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ أَيْ: لَا يَقْرَأْنَ السُّوَرَ، إِلَّا أَنَّ زِيَادَةَ الْبَاءِ فِي الْمَفْعُولِ لَا يَنْقَاسُ، وَقِيلَ: مَفْعُولُ أَلْقَى مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وَلَا تُلْقُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَتَعَلَّقُ الْبَاءُ بتلقوا، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، كَمَا تَقُولُ: لَا تُفْسِدُ حَالَكَ بِرَأْيِكَ.
(١) سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) : ٣٣.
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ٤٥.
252
والذي تختاره فِي هَذَا أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي الْمَعْنَى هُوَ: بِأَيْدِيكُمْ، لَكِنَّهُ ضَمَّنَ: أَلْقَى، مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، فَعَدَّاهُ بِهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تُفْضُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. كَقَوْلِهِ:
أَفْضَيْتُ بِجَنْبِي إِلَى الْأَرْضِ أَيْ: طَرَحْتُ جَنْبِي عَلَى الْأَرْضِ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ عَبَّرَ عَنِ الْأَنْفُسِ بِالْأَيْدِي، لِأَنَّ بِهَا الْحَرَكَةَ وَالْبَطْشَ وَالِامْتِنَاعَ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْءَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُمْتَنَعَ بِهِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَلَا يُهْمَلَ مَا وُضِعَ لَهُ، وَيُفْضَى بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ وَتَقَدَّمَتْ مَعَانِي: أَفْعَلَ، فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مَعْنًى، وَعَرَضْتُهَا عَلَى لَفْظِ: أَلْقَى، فَوَجَدْتُ أَقْرَبَ مَا يُقَالُ فِيهِ: أَنَّ: أَفْعَلَ، لِلْجَعْلِ عَلَى مَا اسْتَقْرَأَهُ التَّصْرِيفِيُّونَ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَجْعَلَهُ كَقَوْلِكَ: أَخْرَجْتُهُ، أَيْ: جَعَلْتُهُ يَخْرُجُ، فَتَكُونُ الْهَمْزَةُ فِي هَذَا النَّوْعِ لِلتَّعْدِيَةِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى صِفَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَطَرَدْتُهُ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا دُونَهَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: جَعَلْتُهُ طَرِيدًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَجْعَلَهُ صَاحِبَ شَيْءٍ بِوَجْهٍ مَا، فَمِنْ ذَلِكَ: أَشْفَيْتُ فُلَانًا، جَعَلْتُ لَهُ دَوَاءً يُسْتَشْفَى بِهِ، وَأَسْقَيْتُهُ: جَعَلْتُهُ ذَا مَاءٍ يَسْقِي بِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى السَّقْيِ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ: أَقْبَرْتُهُ، وَأَنْعَلْتُهُ، وَأَرْكَبْتُهُ، وَأَخْدَمْتُهُ، وَأَعْبَدْتُهُ: جَعَلْتُ لَهُ قَبْرًا، وَنَعْلًا، وَمَرْكُوبًا، وَخَادِمًا، وَعَبْدًا.
فَأَمَّا: أَلْقَى، فَإِنَّهَا مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، فَمَعْنَى: أَلْقَيْتُ الشيء: جعلته لقى، واللقى فعل بمعنى مفعول، كمان أَنَّ الطَّرِيدَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تجعلوا أنفسكم لقى إِلَى التَّهْلُكَةِ فَتَهْلَكَ.
وَقَدْ حَامَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَيَّدْنَاهُ فَلَمْ يَنْهَضْ بِتَخْلِيصِهِ، فَقَالَ: الْبَاءُ فِي: بِأَيْدِيكُمْ، مِثْلُهَا فِي أَعْطَى بِيَدِهِ لِلْمُنْقَادِ، وَالْمَعْنَى: وَلَا تُقْبِضُوا التَّهْلُكَةَ أَيْدِيَكُمْ، أَيْ:
لَا تَجْعَلُوهَا آخِذَةً بِأَيْدِيكُمْ، مَالِكَةً لَكُمْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِي كَلَامِهِ أَنَّ الْبَاءَ مَزِيدَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَاسُ.
وَأَحْسِنُوا هَذَا أَمْرٌ بِالْإِحْسَانِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى طَلَبِ الْإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ.
253
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى: وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللَّهِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَأَحْسِنُوا بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي الصَّدَقَاتِ. وَقِيلَ: وَأَحْسِنُوا فِي أَعْمَالِكُمْ بِامْتِثَالِ الطَّاعَاتِ، قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قِيلَ وَأَحْسِنُوا، مَعْنَاهُ: جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُجَاهِدُ مُحْسِنٌ.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِحْسَانِ لِأَنَّ فِيهِ إِعْلَامًا بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَنِ الْإِحْسَانُ صِفَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ لِهَذَا الْوَصْفِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ وَصْفُ الْإِحْسَانِ بِهِ دَائِمًا بِحَيْثُ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ دَائِمًا.
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ الْإِتْمَامُ كَمَا تَقَدَّمَ ضِدُّ النَّقْصِ، وَالْمَعْنَى: افْعَلُوهُمَا كَامِلَيْنِ وَلَا تَأْتُوا بِهِمَا نَاقِصَيْنِ شَيْئًا مِنْ شُرُوطِهِمَا، وَأَفْعَالِهِمَا الَّتِي تَتَوَقَّفُ وُجُودُ مَاهِيَّتِهِمَا عَلَيْهِمَا، كَمَا قَالَ غَيْلَانُ:
تَمَامُ الْحَجِّ أَنْ تَقِفَ الْمَطَايَا عَلَى خَرْقَاءَ وَاضِعَةِ اللِّثَامِ
جَعَلَ: وُقُوفَ الْمَطَايَا عَلَى مَحْبُوبَتِهِ، وَهِيَ: مَيٌّ، كَبَعْضِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
هَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَقَدْ فُسِّرَ: الْإِتْمَامُ، بِغَيْرِ مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ:
إِتْمَامُهُمَا أَنْ لَا يَنْفَسِخَ، وَأَنْ تتمهما إِذَا بَدَأْتَ بِهِمَا.
وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وسعيد، وطاووس: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مُفْرَدَيْنِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَفَعَلَهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ
. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تَخْرُجَ قَاصِدًا لَهُمَا لَا لِتِجَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: لِلَّهِ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَقَتَادَةُ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَتَقْضِيَهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَنْ تُتِمَّ الْحَجَّ دُونَ نَقْصٍ وَلَا جَبْرٍ بِدَمٍ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَلَا تَقْرِنَ، وَالْإِفْرَادُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِتْمَامُهُمَا: أَنْ تَقْرِنَ بَيْنَهُمَا، وَالْقِرَانُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَغَيْرُهُمْ: إِتْمَامُهَا أَنْ تَقْضِيَ مَنَاسِكَهُمَا كَامِلَةً بِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ دِمَاءٍ، وَهَذَا يَقْرُبُ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ قَوْمٌ: أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَفَرًا. وَقِيلَ: أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ حَلَالًا وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِتْمَامُهُمَا أَنْ لَا تَسْتَحِلَّ فِيهِمَا مَا لَا يَجُوزُ، وَكَانُوا يُشْرِكُونَ فِي إِحْرَامِهِمْ، يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.
فَقَالَ: أَتِمُّوهُمَا وَلَا تَخْلِطُوا بِهِمَا شَيْئًا.
254
وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: إِنَّمَا قَالَ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ لِأَنَّ الْكَفَرَةَ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْحَجَّ لِلَّهِ وَالْعُمْرَةَ لِلصَّنَمِ، وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ: كَانَ الْكُفَّارُ يَحُجُّونَ لِلْأَصْنَامِ.
وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ: وَأَقِيمُوا الْحَجَّ وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: الْحِجَّ، بِالْكَسْرِ هُنَا، وَفِي آلِ عِمْرَانَ، وَبِالْفَتْحِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ وَتَقَدَّمَ قِرَاءَةُ ابْنُ إِسْحَاقَ: الْحِجَّ بِالْكَسْرِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْخِلَافِ في قوله: حِجُّ الْبَيْتِ «١» فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إِلَى الْبَيْتِ لِلَّهِ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، فَيَخْرُجُ الْعُمْرَةُ عَنِ الْأَمْرِ، وَيَنْفَرِدُ بِهِ الْحَجُّ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا: وَأَقِيمُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ إِلَى الْبَيْتِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ المسلمون، و: لله، متعلق بأتموا وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: كَائِنِينَ لِلَّهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحَجَّ فَرْضٌ، وَأَنَّهُ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا، وَفُرُوضُهُ: النِّيَّةُ، وَالْإِحْرَامُ، وَالطَّوَافُ الْمُتَّصِلُ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْجَمْرَةُ، عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَالْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ عَلَى قَوْلِ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَأَمَّا أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ: فَنِيَّةٌ، وَإِحْرَامٌ، وَطَوَافٌ، وَسَعْيٌ. وَلَا يَدُلُّ الْأَمْرُ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ، وَلَا عَلَى، أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَقَدْ يَصِحُّ صَوْمُ رمضان وشيئا مِنْ شَوَّالٍ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ الْمَطْلُوبِيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَتَا الطَّلَبِ، وَلِذَلِكَ ضَعُفَ قَوْلُ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى
أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ بِقَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمَسْرُوقٍ، وعطاء، وطاووس، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي بُرْدَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ وَمِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ: الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ حَمِيمٍ، مِنَ الْمَالِكِيِّينَ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ، مِنْهُمُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَابِرٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: النَّخَعِيُّ، وَمِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ: مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِيهَا عِنْدَهُمَا وَجَبَ إِتْمَامُهَا. وَحَكَى بَعْضُ الْقَزْوِينِيِّينَ وَالْبَغْدَادِيِّينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَيْنِ، وَالْحُجَجُ مَنْقُولَةٌ فِي كتب الفقه.
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٩٧.
255
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ظَاهِرُهُ ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ لِلْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْإِحْصَارِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لايتحلل مِنْ إِحْرَامِهِ إِلَّا بِأَدَاءِ نُسُكِهِ، وَالْمُقَامُ عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى زَوَالِ إِحْصَارِهِ. وَلَيْسَ لِمُحْرِمٍ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ لَمْ يَفُتْ، وَإِنْ كَانَ بِحَجٍّ فَفَاتَهُ قَضَاهُ بِالْفَوَاتِ بَعْدَ إِحْلَالِهِ مِنْهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ.
وَثَبَتَ بِنَقْلِ مَنْ نَقَلَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّ الْإِحْصَارَ وَالْحَصْرَ سَوَاءٌ، وَأَنَّهُمَا يُقَالَانِ فِي الْمَنْعِ بِالْعَدُوِّ، وَبِالْمَرَضِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَانِعِ، فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ سَبَبُ النُّزُولِ وَرَدَ عَلَى أَحَدِ مُطْلَقَاتِ الْإِحْصَارِ.
وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَقْيِيدٌ، وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ، وَعُرْوَةُ: الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ أُحْصِرَ بِالْمَرَضِ لَا بِالْعَدُوِّ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. لَا يَكُونُ الْإِحْصَارُ إِلَّا بِالْعَدُوِّ فَقَطْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ أُحْصِرَ بِالْعَدُوِّ لَا بِالْمَرَضِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ فَلَا يُحِلُّهُ إِلَّا الْبَيْتُ، وَيُقِيمُ حَتَّى يُفِيقَ، وَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ اسْتِوَاءُ الْمَكِّيِّ وَالْآفَاقِيِّ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ عُرْوَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ إِحْصَارٌ.
وَظَاهِرُ لَفْظِ: أُحْصِرْتُمْ، مُطْلَقُ الْإِحْصَارِ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بَقَاءَ الْعَدُوِّ اسْتِيطَانَهُ لِقُوَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، فَيُحِلُّ الْمُحْصَرُ مَكَانَهُ مِنْ سَاعَتِهِ عَلَى قَوْلِ الجمهور، أو رجا زَوَالُهُ، وَقِيلَ: لَا يُبَاحُ لَهُ التَّحَلُّلُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجِّ مِقْدَارُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ زَالَ الْعَدُوُّ لَمْ يُدْرِكِ الْحَجَّ، فَيُحِلُّ حِينَئِذٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ.
وَقِيلَ: مَنْ حُصِرَ عَنِ الْحَجِّ بِعُذْرٍ حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يَقْطَعِ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَرُوحَ النَّاسُ إِلَى عَرَفَةَ، وَمُطْلَقُ الْإِحْصَارِ يَشْمَلُ قَبْلَ عَرَفَةَ وَبَعْدَهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ مَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ أَوْ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا وَبِنَاءُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ سَوَاءٌ.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
هُوَ شَاةٌ، قَالَهُ عَلِيٌّ
، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُغِيرَةُ. وَقَدْ سُمِّيَتْ هَدْيًا فِي قَوْلِهِ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «١» وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: أَعْلَاهُ بَدَنَةٌ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ، وَأَدْنَاهُ شَاةٌ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو يوسف،
(١) سورة المائدة: ٥/ ٩٥.
256
وَزُفَرُ، يَكُونُ مِنَ الثَّلَاثَةِ، يَكُونُ الْمُسْتَيْسِرُ عَلَى حُكْمِ حَالِ الْمُهْدِي، وَعَلَى حُكْمِ الموجود.
وروى طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ الْمَيْسَرَةِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَالْقَاسِمُ، وعروة: هو جَمَلٍ وَبَقَرَةٌ دُونَ بَقَرَةٍ، وَلَا يَكُونُ الْهَدْيُ إِلَّا مِنْ هَذَيْنِ، وَلَا يَكُونُ الشَّاةُ مِنَ الْهَدْيِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: مِنَ الْإِبِلِ خَاصَّةً، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُهْدَى الذُّكُورُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ.
وَلَوْ عَدِمَ الْمُحْصَرُ الْهَدْيَ فَهَلْ لَهُ بَدَلٌ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ أَبَدًا وَلَا يُحِلُّ حَتَّى يَجِدَ هَدْيًا فَيَذْبَحَ عَنْهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَهُ بَدَلٌ، وَالْقَوْلَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: يُقِيمُ عَلَى إِحْرَامِهِ أَوْ يَتَحَلَّلُ، قَوْلَانِ. وَعَلَى الثَّانِي: يُقَوَّمُ الْهَدْيُ بِالدَّرَاهِمِ، وَيُشْتَرَى بِهَا الطَّعَامُ، وَالْكُلُّ أَنَّهُ لَا بَدَلَ لِلْهَدْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُمْرَةَ كَالْحَجِّ فِي حُكْمِ الْإِحْصَارِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا إِحْصَارَ فِي الْعُمْرَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ سِنٌّ فِي الْهَدْيِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجْزِي إِلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجْزِي مِنَ الْإِبِلِ إِلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا، وَيَجُوزُ اشْتِرَاكُ سَبْعَةٍ فِي بَقَرَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْوَاجِبِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:
لَا يُهْدِي شَيْئًا إِلَّا إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُحِلُّ حَيْثُ أُحْصِرَ وَيُنْجِزُ هَدْيَهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ هَدْيٌ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ: يَبْعَثُ هَدْيَهُ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ صَارَ حَلَالًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ حَاجًّا فَبِالْحَرَمِ مَتَى شَاءَ،
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ: وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَبِالْحَرَمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، وَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ
، وَكَانَ طَرَفَ الْحُدَيْبِيَةَ الرُّبَى الَّتِي أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَهُوَ مِنَ الْحَرَمِ،
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ هَدْيَهُ فِي الْحَرَمِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: الْحُدَيْبِيَةُ هِيَ طَرَفُ الْحَرَمِ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ إِذَا خَافَ أَنْ يُحْصَرَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ، وَصِيغَةُ الِاشْتِرَاطِ أَنْ يَقُولَ إِذَا أَهَلَّ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي. فَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو
257
حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاشْتِرَاطُ. وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالشَّافِعِيُّ: فِي الْقَدِيمِ لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ، وله شروط، فيه
حَدِيثٌ خَرَجَ فِي الصَّحِيحِ: وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَّا مَنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ، فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ
، وَشَذَّ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَضَاهَا حِينَ أحصر.
وما، مِنْ قَوْلِهِ: فَمَا اسْتَيْسَرَ مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ، أَوْ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: فَلْيُهْدِ قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَالْوَاجِبُ لَهُ اسْتَيْسَرَ، وَاسْتَيْسَرَ هُوَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، أَيْ: يَسُرَ، بِمَعْنَى: اسْتَغْنَى وَغَنِيَ، وَاسْتَصْعَبَ وَصَعُبَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا استفعل.
ومن، هُنَا تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي اسْتَيْسَرَ الْعَائِدِ عَلَى مَا، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ: كَائِنًا مِنَ الْهَدْيِ، وَمَنْ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَجَازَ ذَلِكَ هُنَا. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الْهَدْيِ، لِلْعُمُومِ.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَأَبُو حَيْوَةَ: الْهَدِيِّ، بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، يَعْنِي هُنَا فِي الْجَرِّ وَالرَّفْعِ، وَرَوَى ذَلِكَ عِصْمَةُ عَنْ عَاصِمٍ.
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ هَذَا نَهْيٌ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ مُغَيًّا بِبُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَمَفْهُومُهُ: إِذَا بَلَغَ الهدي محله فاحلقوا رؤوسكم. وَالضَّمِيرُ فِي:
تَحْلِقُوا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِتْمَامِ، فَيَشْمَلُ الْمُحْصَرَ وَغَيْرَهُ، ويحتمل أن يعود على الْمُحْصَرِينَ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ قَالَ بِهِ قَوْمٌ، وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُحْصَرِينَ هُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: أَيْ: لَا تُحِلُّوا حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي بَعَثْتُمُوهُ إِلَى الْحَرَمِ بَلَغَ مَحِلَّهُ، أَيْ: مَكَانَهُ الَّذِي يَجِبُ نَحْرُهُ فِيهِ، وَمَحِلُّ الدَّيْنِ وَقْتُ وُجُوبِ قَضَائِهِ، وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَكَأَنَّهُ رَجَّحَ كَوْنَهُ لِلْمُحْصَرِينَ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ مُحْصَرًا كَانَ الْمُحْرِمُ أَوْ مُخَلًّى، لِأَنَّهُ قَدَّمَ هَذَا الْقَوْلَ، ثُمَّ حَكَى الْقَوْلَ الْآخَرَ، قَالَ: وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَاهَا لِلْمُحْصَرِينَ خَاصَّةً فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ مَجَازٌ فِي الْفَاعِلِ وَفِي الْمَفْعُولِ، أَمَّا فِي الْفَاعِلِ فَفِي إِسْنَادِ الْحَلْقِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَإِنَّمَا يَحْلِقُ بَعْضُهُمْ رَأْسَ بَعْضٍ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ كَثِيرٌ، تَقُولُ: حَلَقْتُ: رَأْسِي، وَالْمَعْنَى
258
أَنَّ غَيْرَهُ حَلَقَهُ لَهُ: وأما المجاز ففي المفعول، فالتقدير: شعر رؤوسكم، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالْخِطَابُ يَخُصُّ الذُّكُورَ، وَالْحَلْقُ لِلنِّسَاءِ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا التَّقْصِيرُ سَنَتُهُنَّ فِي الْحَجِّ.
وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إِنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ».
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يُقَصَّرُ مِنْ شَعَرِهَا عَلَى تَقَادِيرَ كَثِيرَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْفِقْهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ هَذِهِ الْآيَةُ لِلتَّقْصِيرِ فَنَتَعَرَّضُ نَحْنُ لَهُ هُنَا، وَإِنَّمَا اسْتَطْرَدْنَا لَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَحْلِقُوا.
وَظَاهِرُ النَّهْيِ: الْحَظْرُ وَالتَّحْرِيمُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَلَوْ نَسِيَ فَحَلَقَ قَبْلَ النَّحْرِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: هُوَ كَالْعَامِدِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. أَوْ تَعَمَّدَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ. قَالُوا: وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مِنَ النُّسُكِ فِي الْحَجِّ حَلْقُ الرَّأْسِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ حَلْقَ الرَّأْسِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ مُثْلَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُثْلَةً لَمَا جَازَ، لَا فِي الْحَجِّ وَلَا غَيْرِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلق رؤوس بَنِي جَعْفَرٍ بَعْدَ أَنْ أَتَاهُ خَبَرُ قَتْلِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَحْلِقُ
، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إِبَاحَةِ الْحَلْقِ، وَظَاهِرُ عُمُومِ: وَلَا تَحْلِقُوا، أَوْ خُصُوصِهِ بِالْمُحْصَرِينَ أَنَّ الْحَلْقَ فِي حَقِّهِمْ نُسُكٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبُو يُوسُفَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا حَلْقَ عَلَى الْمُحْصَرِ وَالْقَوْلَانِ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ حَيْثُ أُحْصِرَ مِنْ حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ، قَالَهُ عُمَرُ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ،
أَوِ: الْمُحْرِمِ، قَالَهُ عَلِيٌّ
، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَتَفْسِيرُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحِلَّ هُنَا الْمَكَانُ، وَلَمْ يُقْرَأْ إِلَّا بِكَسْرِ الْحَاءِ.
فِيمَا عَلِمْنَا، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ: أَعْنِي إِذَا كَانَ يُرَادُ بِهِ الْمَكَانُ، وَفَرَّقَ الْكِسَائِيُّ هُنَا، فَقَالَ: الْكَسْرُ هُوَ الْإِحْلَالُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَالْفَتْحُ هُوَ مَوْضِعُ الْحُلُولِ مِنَ الْإِحْصَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنَ الْقَوْلِ فِي مَحِلِّ الْهَدْيِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَا عَلَى الْمُحْصَرِ فِي الْحَجِّ إِذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ، فَعَنِ النَّسِيءِ عَلَيْهِ حَجَّةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ جُبَيْرٍ: عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ،
259
فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ، مُحْرِمًا بِحَجِّ تَطَوُّعٍ، أَوْ بِعُمْرَةِ تَطَوُّعٍ، وَحَلَّ بِالْهَدْيِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَى مَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ لَا فِي حَجٍّ وَلَا فِي عُمْرَةٍ.
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ سَبَبُ النُّزُولِ
حديث كعب بن عجزة الْمَشْهُورُ، وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَآهُ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ مِنْ رَأْسِهِ
وَقِيلَ: رَآهُ وَقَدْ قَرِحَ رَأْسُهُ
، وَلَمَّا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنِ الْحَلْقِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ بُلُوغُ الْهَدْيِ كَانَ ذَلِكَ النَّهْيُ شَامِلًا، فَخُصَّ بِمَنْ لَيْسَ مَرِيضًا وَلَا بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، أَمَّا هَذَانِ فَأُبِيحَ لَهُمَا الْحَلْقُ، وَثَمَّ مَحْذُوفٌ يَصِحُّ بِهِ الْكَلَامُ، التَّقْدِيرُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ففعل ما بينا في الْمُحْرِمَ مِنْ حَلْقٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ الْعُمُومُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمُحْصَرِ، لِأَنَّ جَوَازَ الْحَلْقِ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ لَا يَجُوزُ، فَرُبَّمَا لَحِقَهُ مَرَضٌ أَوْ أَذًى فِي رَأْسِهِ إِنْ صَبَرَ، فَأُذِنَ لَهُ فِي زَوَالِ ذَلِكَ بِشَرْطِ الْفِدْيَةِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ ابْنِ عجرة.
ومنكم، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ تَقَدُّمِهِ كَانَ صِفَةً:
لَمَرِيضًا، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الحال. ومن، هُنَا لِلتَّبْعِيضِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا: بمريضا، وَهُوَ لَا يَكَادُ يُعْقَلُ، وَ: أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: مَرِيضًا، وَيَرْتَفِعُ: أَذًى، عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ بِهِ، التَّقْدِيرُ: أَوْ كَائِنًا بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، وَمِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْمُفْرَدِ لِكَوْنِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ الْمُفْرَدِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: مَرِيضًا، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ مُفْرَدٍ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْمُفْرَدِ مُفْرَدٌ، فِي التَّقْدِيرِ: إِذَا كَانَ جُمْلَةً، وَيَرْتَفِعُ، أَذًى، إِذْ ذَاكَ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، فَهُوَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَعَلَى الْإِعْرَابِ السَّابِقِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى إِضْمَارِ: كَانَ، لِدَلَالَةِ: كَانَ، الْأُولَى، عَلَيْهَا.
التَّقْدِيرُ: أَوْ كَانَ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، فَاسْمُ كَانَ عَلَى هَذَا إِمَّا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى: مَنْ وَبِهِ أَذًى، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ، وَإِمَّا: أَذًى وَبِهِ، فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ، مَعْطُوفًا عَلَى كان، وأذى، رفع بالابتداء، وبه، الْخَبَرُ مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِقْرَارِ، وَالْهَاءُ فِي: بِهِ، عَائِدَةٌ عَلَى: مَنْ، وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ: مَنْ، شَرْطِيَّةٌ،
260
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ مَا قَالَهُ خَطَأً، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، لِأَنَّ جُمْلَةَ الشَّرْطِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِعْلِيَّةً، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ، فَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الشَّرْطِ، وَلَا يَجُوزُ مَا قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ: مَنْ، مَوْصُولَةً. لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ مُضَمِّنَةٌ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُوصَلَ عَلَى الْمَشْهُورِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَالْبَاءُ فِي: بِهِ، لِلْإِلْصَاقِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ظرفية، ومن رَأْسِهِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ: بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ: أَذًى، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ارْتِفَاعُ: فِدْيَةٌ، عَلَى الِابْتِدَاءِ، التَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، أَوْ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ فِدْيَةٌ. وَذَكَرَ بَعْضُ المفسرين أنه قرىء بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ التقدير: فليفد فدية.
ومن صِيَامٍ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وأو، هُنَا لِلتَّخْيِيرِ، فَالْفَادِي مُخَيَّرٌ فِي أَيِّ الثَّلَاثَةِ شَاءَ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ: أَوْ نُسْكٍ، بِإِسْكَانِ السِّينِ وَالظَّاهِرُ إِطْلَاقُ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالنُّسُكِ، لَكِنْ بَيَّنَ تَقْيِيدَ ذَلِكَ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُجْرَةَ مِنْ أَنَّ: الصِّيَامَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالصَّدَقَةَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَالنُّسُكَ شَاةٌ. وَإِلَى أَنَّ الصِّيَامَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَلْقَمَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْجُمْهُورُ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَنَافِعٍ: عَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَمَحِلُّهُ زَمَانًا مَتَى اخْتَارَ، وَمَكَانًا حَيْثُ اخْتَارَ.
وَأَمَّا الْإِطْعَامُ، فَذَكَرَ بَعْضُهُمُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ قَالَ الْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ: يُطْعِمُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَاخْتُلِفَ فِي قِدْرِ الطَّعَامِ، وَمَحِلِّ الْإِطْعَامِ، أَمَّا الْقَدْرُ فَاضْطَرَبَتِ الرِّوَايَةُ فِي حَدِيثِ عُجْرَةَ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مِنَ التَّمْرِ صَاعٌ، وَمِنَ الْحِنْطَةِ نِصْفُ صَاعٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: الطَّعَامُ فِي ذَلِكَ مُدَّانِ مُدَّانِ، بِالْمُدِّ النَّبَوِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَدَاوُدَ. وَرُوِيَ عَنِ الثوري: نصف صاع من الْبُرِّ، وَصَاعٌ مِنَ التَّمْرِ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ مَرَّةً بِقَوْلٍ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَمُرَّةً قَالَ: مُدَّيْنِ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَنِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَجْزِيهِ أَنْ يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ،
261
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجْزِيهِ ذَلِكَ حَتَّى يُعْطِيَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ مُدَّيْنِ، بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم.
وأما الْمَحِلُّ
فَقَالَ عَلِيٌّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَطَاءٌ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُ، وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا ابْنَ الْجَهْمِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: حَيْثُ شَاءَ
. وَقَالَ الحسن، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ أَيْضًا، وَالشَّافِعِيُّ: الْإِطْعَامُ بِمَكَّةَ، وَأُمًّا النُّسُكُ فَشَاةٌ. قَالُوا بِالْإِجْمَاعِ وَمَنْ ذَبَحَ أَفْضَلَ مِنْهَا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَأَمَّا مَحِلُّهَا فَحَيْثُ شَاءَ، قَالَهُ عَلِيٌّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ إِلَّا ابْنَ الْجَهْمِ، فَقَالَ: النُّسُكُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَظَاهِرُ الْفِدْيَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْحَلْقِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَجْزِيهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْفِدْيَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ إِنْ أَرَادَ الْحَلْقَ.
وَظَاهِرُ الشَّرْطِ أَنَّ الْفِدْيَةَ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِمَنْ بِهِ مَرَضٌ أَوْ أَذًى فيحلق، فَلَوْ حَلَقَ، أَوْ جَزَّ، أَوْ أَزَالَ بِنُورَةٍ شَعَرَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ لَبِسَ الْمَخِيطَ، أَوْ تَطَيَّبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عَالِمًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُخَيَّرُ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لَا غَيْرُ وَقَالَ مَالِكٌ: يُخَيَّرُ، وَالْعَمْدُ وَالْخَطَأُ بِضَرُورَةٍ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ عِنْدَهُ.
فَلَوْ فَعَلَهُ نَاسِيًا، فَقَالَ إِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ: النَّاسِي كَالْعَامِدِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُوجِبُونَ الْفِدْيَةَ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، أَوْ بَعْضِهِ وَلُبْسِ الْخُفَّيْنِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَمَسِّ الطِّيبِ، وَإِمَاطَةِ الْأَذَى، وَحَلْقِ شَعْرِ الْجَسَدِ، أَوْ مَوَاضِعِ الْحِجَامَةِ، الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ عَلَيْهِمَا دَمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ دَاوُدُ:
لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا فِي حَلْقِ شَعَرِ الْجَسَدِ.
فَإِذا أَمِنْتُمْ يَعْنِي: مِنَ الْإِحْصَارِ، هَذَا الْأَمْنُ مُرَتَّبٌ تَفْسِيرُهُ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِحْصَارِ، فَمَنْ فَسَّرَهُ هُنَاكَ بِالْإِحْصَارِ بالمرض لا بالعدو، وجعل الْأَمْنَ هُنَا مِنَ الْمَرَضِ لَا مِنَ الْعَدُوِّ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَعُرْوَةَ. وَالْمَعْنَى: فَإِذَا بَرِئْتُمْ مِنْ مَرَضِكُمْ.
وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ لَا بِالْمَرَضِ قَالَ: هُنَا الْأَمْنُ مِنَ الْعَدُوِّ لَا مِنَ الْمَرَضِ، وَالْمَعْنَى: فَإِذَا أَمِنْتُمْ مِنْ خَوْفِكُمْ مِنَ الْعَدُوِّ.
262
وَمَنْ فَسَّرَ الْإِحْصَارَ بِأَنَّهُ مِنَ الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ، فَالْأَمْنُ عِنْدَهُ هُنَا مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَالْأَمْنُ سُكُونٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ اضْطِرَابِهِ. وَقَدْ جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «الزُّكَامُ أَمَانٌ مِنَ الْجُذَامِ» خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ
وَجَاءَ: مَنْ سَبَقَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ، أَمِنَ مِنَ الشَّوْصِ وَاللَّوْصِ وَالْعِلَّوْصِ.
أَيْ: مِنْ وَجَعِ السِّنِّ، وَوَجَعِ الْأُذُنِ، وَوَجَعِ الْبَطْنِ.
وَالْخِطَابُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُحْصَرِ وَغَيْرِهِ، أَيْ: فَإِذَا كُنْتُمْ فِي حَالِ أَمْنٍ وَسَعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ: الْآيَةُ فِي الْمُحْصَرِينَ دُونَ الْمُخَلَّى سَبِيلَهُمْ.
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَتَاعِ فِي قَوْلِهِ: وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «١» وَفُسِّرَ التَّمَتُّعُ هُنَا بِإِسْقَاطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، لِأَنَّ حَقَّ الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْرَدَ بِسَفَرٍ غَيْرِ سَفَرِ الْحَجِّ، وَقِيلَ: لِتَمَتُّعِهِ بِكُلِّ مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، مِنْ وَقْتِ حَلِّهِ مِنَ الْعُمْرَةِ إِلَى وَقْتِ إِنْشَاءِ الْحَجِّ.
وَاخْتُلِفَ فِي صُورَةِ هَذَا التَّمَتُّعِ الَّذِي فِي الْآيَةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: هُوَ فِيمَنْ أُحْصِرَ حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ فَخَرَجَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَاسْتَمْتَعَ بِإِحْلَالِهِ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْعُمْرَةِ إِلَى السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ثُمَّ يَحُجُّ وَيُهْدِي.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، مَعْنَاهُ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ وَقَدْ حَلَلْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ بَعْدَ الْإِحْصَارِ، وَلَمْ تَقْضُوا عُمْرَةً، تَخْرُجُونَ بِهَا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِحَجِّكُمْ، وَلَكِنْ حَلَلْتُمْ حَيْثُ أُحْصِرْتُمْ بِالْهَدْيِ، وَأَخَّرْتُمُ الْعُمْرَةَ إِلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، وَاعْتَمَرْتُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِإِحْلَالِكُمْ إِلَى حَجِّكُمْ، فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: أَيْ: فَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَجْمَعَهَا مَعَ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَمَنْ نَسَخَ حَجَّهُ بِعُمْرَةٍ فَجَعَلَهُ عُمْرَةً، وَاسْتَمْتَعَ بِعُمْرَتِهِ إِلَى حَجِّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَجَمَاعَةٌ: هُوَ الرَّجُلُ تَقَدَّمَ مُعْتَمِرًا مِنْ أُفُقٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِذَا قَضَى عُمْرَتَهُ أَقَامَ حلالا بمكة حتى ينشىء مِنْهَا الْحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِالْإِحْلَالِ إِلَى إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، فَمَعْنَى التَّمَتُّعِ: الْإِهْلَالُ بِالْعُمْرَةِ، فَيُقِيمُ حَلَالًا يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ الْحَلَالُ بِالْحَجِّ، ثُمَّ يَحُجُّ بَعْدَ إِحْلَالِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى الميقات.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٦ وسورة الأعراف: ٧/ ٢٤، وسورة الأنبياء: ٢١/ ١١١.
263
وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ العلماء في وقع الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ. تَمَتُّعٍ، وَإِفْرَادٍ، وَقِرَانٍ. وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَنَهْيُ عُمَرَ عَنِ التَّمَتُّعِ لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ قَوْمٌ عَلَى أَنَّهُ فَسْخُ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، فَأَمَّا التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَلَا.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَفْسِيرًا وَإِعْرَابًا فِي قَوْلِهِ:
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَالْفَاءُ فِي: فَإِذَا أَمِنْتُمْ، لِلْعَطْفِ وَفِي: فَمَنْ تَمَتَّعَ، جَوَابُ الشَّرْطِ، وَفِي: فَمَا، جَوَابٌ لِلشَّرْطِ الثَّانِي. وَيَقَعُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ بِالْفَاءِ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لجواب نَحْوَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ.
وَهَدْيُ التَّمَتُّعِ نُسُكٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَوْفِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فِي سَفَرِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يُجْرَى مَجْرَى الْجِنَايَاتِ لِتَرْكِ إِحْدَى السُّفْرَتَيْنِ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ، وَيَذْبَحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ذَبْحُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الذَّبْحِ عِنْدَ حُصُولِ التَّمَتُّعِ عُقَيْبَهُ.
وَصُورَةُ التَّمَتُّعِ عَلَى مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ، خَاصَّةً بِالْمُحْصَرِينَ، تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَوْلِ ابْنِ جُبَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا عَامَّةً فِي الْمُحْصَرِ وَغَيْرِهِ فَالتَّمَتُّعُ كَيْفِيَّاتٌ.
إِحْدَاهَا: أَنْ يُحْرِمَ غَيْرُ الْمَكِّيِّ بِعُمْرَةٍ أَوَّلًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ فِي عَامٍ، فَيَقْدَمُ مَكَّةَ. فَيَفْرَغُ مِنَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ يُقِيمُ حَلَالًا إِلَى أَنْ ينشىء الْحَجَّ مِنْ مَكَّةَ فِي عَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، أَوْ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى مِيقَاتِ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ، وَيَكُونُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى: قِرَانًا، فَيَقُولُ:
لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا، فَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ طَافَ بِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ وَسَعَى.
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ
، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لَهُمَا، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، والحسن، ومجاهد، وطاووس، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
264
وَجُعِلَ الْقِرَانُ مِنْ بَابِ التَّمَتُّعِ لِتَرْكِ النَّصَبِ فِي السَّفَرِ إِلَى الْعُمْرَةِ مَرَّةً، وَإِلَى الْحَجِّ أُخْرَى، وَلِجَمْعِهِمَا، وَلَمْ يُحْرِمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مِيقَاتِهِ، فَهَذَا وَجْهٌ مِنَ التَّمَتُّعِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، قِيلَ: وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يُجِيزُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ إِلَّا بِسِيَاقِ الْهَدْيِ، وَهُوَ عِنْدَكُمْ: بَدَنَةٌ لَا يَجُوزُ دُونَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: مَا سَمِعْتُ أَنَّ مَكِّيًّا قَرَنَ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَلَا صِيَامٌ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ. إِذَا قَرَنَ الْمَكِّيُّ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ كَانَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: الْمَكِّيُّ إِذَا تَمَتَّعَ أَوْ قَرَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمُ قِرَانٍ وَلَا تَمَتُّعٍ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَسَخَ حَجَّهُ فِي عُمْرَةٍ، ثُمَّ حَلَّ وَأَقَامَ حَلَالًا حَتَّى يُهِلَّ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ جَوَازُهَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْهَدْيِ لِلْوَاحِدِ. أَوِ الصَّوْمِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ إِذَا تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَلَا هَدْيَ وَلَا صَوْمَ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: الْإِجْمَاعَ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ مُغَيًّا إِلَى الْحَجِّ وَلَمْ يَقَعِ الْمُغَيَّا.
وَشَذَّ الْحَسَنُ فَقَالَ: هِيَ مُتْعَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَامَ إِلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَبِهِ قال طاووس، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَفْعُولُ: يَجِدْ، مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَنَفْيُ الْوِجْدَانِ إِمَّا لِعَدَمِهِ أَوْ عَدَمِ ثَمَنِهِ. فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ: ارْتَفَعَ صِيَامُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: فَعَلَيْهِ، أَوْ عَلَى الْخَبَرِ، أَيِ: فواجب. وقرىء: فَصِيَامَ، بِالنَّصْبِ أَيْ: فَلْيَصُمْ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ لِلثَّلَاثَةِ بَعْدَ الِاتِّسَاعِ، لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لَمْ تَجُزِ الْإِضَافَةُ. فِي الْحَجِّ أَيْ: فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَهُ أَنْ يَصُومَهَا فِيهَا مَا بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِحْرَامِ الْحَجِّ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ:
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَعَرَفَةَ وَيَوْمًا قَبْلَهُمَا، وَإِنْ مَضَى هَذَا الْوَقْتُ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا الدَّمُ،
265
وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ: لَا يَصُومُهَا إِلَّا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ: يَصُومُ يَوْمًا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، لِأَنَّهُ بِانْقِضَائِهِ يَنْقَضِي الْحَجُّ.
وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ: لَوْ فَاتَهُ صَوْمُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ صَامَهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ، وَابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ سَالِمٍ عَنْهُ:
أَنَّهَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَقِيلَ: زَمَانُهَا بَعْدَ إِحْرَامِهِ،
وَقِيلَ: يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَهُ عَلِيٌّ
، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وطاووس، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: يَصُومُهُنَّ مَا بَيْنَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ.
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي (الْمُوَطَّأِ) لِيَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْطِرًا. وَعَنْ أَحْمَدَ:
يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا ابْتِدَاءً إِلَى يَوْمِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ إِلَّا بِأَنْ لَا يَجِدَ الْهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ.
وقال عروة: يصومها مادام بِمَكَّةَ، وَقَالَهُ أَيْضًا مَالِكٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلَائِلَ عَلَيْهَا.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِي الْحَجِّ، أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ: زَمَانًا، لِأَنَّهُ الْمُقَابِلُ فِي قَوْلِهِ:
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إِذْ مَعْنَاهُ فِي وَقْتِ الرُّجُوعِ، وَوَقْتُ الْحَجِّ هُوَ أَشْهُرُهُ، فَنَحْرُ الْهَدْيِ لِلْمُتَمَتِّعِ لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ زَمَانٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَقَّبَ التَّمَتُّعَ لِوُقُوعِهِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، أَيْ: فِي وَقْتِهِ، فَمَنْ لَحِظَ مُجَرَّدَ هَذَا الْمَحْذُوفِ أَجَازَ الصِّيَامَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، وَبَعْدَهُ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لِأَنَّهَا مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ وَمَنْ قَدَّرَ مَحْذُوفًا آخَرَ، أَيْ: فِي وَقْتِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، لَمْ يُجِزِ الصِّيَامَ إِلَّا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقِلَّةِ الْحَذْفِ، وَمَنْ لَمْ يَلْحَظْ أَشْهُرَ الْحَجِّ، وَجَوَّزَ أن يكون مادام بِمَكَّةَ، فَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ ظَرْفُ مَكَانٍ، أَيْ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي أَمَاكِنِ الْحَجِّ. وَالظَّاهِرُ: وُجُوبُ انْتِقَالِهِ إِلَى الصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوِجْدَانِ لِلْهَدْيِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ فِي الصَّوْمِ، ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ مَضَى فِي الصَّوْمِ وَهُوَ فَرْضُهُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ أَنْ يُهْدِيَ، فَإِنْ صَامَ أَجْزَأَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَيْسَرَ فِي الْيَوْمِ
266
الثَّالِثِ مِنْ صَوْمِهِ بَطَلَ الصَّوْمُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ تَمَامِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ الْأَيَّامِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَحَمَّادٌ.
وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ قَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْدَةَ: وَسَبْعَةً، بِالنَّصْبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفًا عَلَى مَحِلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَقَوْلِكَ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً»
انْتَهَى. وَخَرَّجَهُ الْحَوْفِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ:
فَلْيَصُومُوا، أَوْ: فَصُومُوا سَبْعَةً، وَهُوَ التَّخْرِيجُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْهُ، لِأَنَّا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَوْضِعِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمُحْرِزِ، وَمَجِيءُ: وَسَبْعَةٍ بِالتَّاءِ هُوَ الْفَصِيحُ إِجْرَاءً لِلْمَحْذُوفِ مَجْرَى الْمَنْطُوقِ بِهِ، كَمَا قِيلَ: وَسَبْعَةِ أَيَّامٍ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَلِلْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّوْمَ إِنَّمَا هُوَ الْأَيَّامُ، وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ حَذْفُ التَّاءِ إِذَا كَانَ الْمُمَيَّزُ مَحْذُوفًا، وَعَلَيْهِ جَاءَ: ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسًا، وَالْعَامِلُ فِي:
إِذَا، هُوَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَبِهِ مُتَعَلَّقُ فِي الْحَجِّ لا يقال ذا عَمِلَ فِيهِمَا، فَقَدْ تَعَدَّى الْعَامِلُ إِلَى ظَرْفَيْ زَمَانٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ مَعَ الْعَطْفِ وَالْبَدَلِ، وَهُنَا عَطَفَ بِالْوَاوِ شَيْئَيْنِ عَلَى شَيْئَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: أَكْرَمْتُ زَيْدًا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَعَمْرًا يَوْمَ الجمعة.
وإذا، هُنَا مَحْضُ ظَرْفٍ، وَلَا شَرْطَ فِيهَا، وَفِي: رَجَعْتُمْ، الْتِفَاتٌ، وَحَمْلٌ عَلَى مَعْنَى:
مَنْ، أَمَّا الِالْتِفَاتُ فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ اسْمٌ غَائِبٌ، وَلِذَلِكَ اسْتَتَرَ فِي الْفِعْلَيْنِ ضَمِيرُ الْغَائِبِ، فَلَوْ جَاءَ عَلَى هَذَا النَّظْمِ لَكَانَ الكلام إذا رفع، وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى فَإِنَّهُ أَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ، وَلَوْ رَاعَى اللَّفْظَ لَأَفْرَدَ، وَلَفَظُ الرُّجُوعِ مُبْهَمٌ، وَقَدْ جَاءَ تَبْيِينُهُ فِي السُّنَّةِ.
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فِي آخَرَ: وَلْيُهْدِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَى أَمْصَارِكُمْ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ، وَقَالُوا: هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَعْنَى إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَوْطَانِكُمْ فَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ صَوْمُ السَّبْعَةِ إِلَّا إِذَا وَصَلَ وَطَنَهُ، إِلَّا أَنْ يَتَشَدَّدَ أَحَدٌ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يَصُومُ فِي السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ: الْمَعْنَى إِذَا رَجَعْتُمْ نَفَرْتُمْ وَفَرَغْتُمْ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. فمن
(١) سورة البلد: ٩٠/ ١٤ و ١٥.
267
بَقِيَ بِمَكَّةَ صَامَهَا، وَمَنْ نَهَضَ إِلَى بَلَدِهِ صَامَهَا في الطريق وقال مَالِكٌ فِي (الْكِتَابِ) : إِذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى فَلَا بَأْسَ أَنْ يَصُومَ.
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَجْمُوعِ الْأَيَّامِ الْمَأْمُورِ بِصَوْمِهَا قَبْلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ثَلَاثَةً وَسَبْعَةً عَشَرَةٌ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْبَاذِشُ مَا مَعْنَاهُ: أَتَى بِعَشَرَةٍ تَوْطِئَةً لِلْخَبَرِ بَعْدَهَا، لَا أَنَّهَا هي الخبر المستقل بِهِ فَائِدَةَ الْإِسْنَادِ، فَجِيءَ بِهَا لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَذْهَبُ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرُوا عَدَدَيْنِ أَنْ يُجْمِلُوهُمَا.
وَحَسَّنَ هَذَا الْقَوْلَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنْ قَالَ: فَائِدَةُ الْفَذْلَكَةِ فِي كُلِّ حِسَابٍ أَنْ يُعْلَمَ الْعَدَدُ جُمْلَةً، كَمَا عُلِمَ تَفْصِيلًا لِيُحَاطَ بِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَيَتَأَكَّدَ الْعِلْمُ، وَفِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ: عِلْمَانِ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَإِنَّمَا تَفْعَلُ ذَلِكَ الْعَرَبُ لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحِسَابِ، وَقَدْ جَاءَ:
لَا يَحْسُبُ وَلَا يَكْتُبُ، وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَشْعَارِهِمْ قَالَ النَّابِغَةُ:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لست أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
ثَلَاثٌ بِالْغَدَاةِ فَهِيَ حَسْبِي وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي الْعِشَاءُ
فَذَلِكَ تِسْعَةٌ في اليوم ربي وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرَّيِّ دَاءُ
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
ثَلَاثٌ وَاثْنَتَانِ وَهُنَّ خَمْسٌ وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى شَمَامِ
وَقَالَ آخَرُ:
فَسِرْتُ إِلَيْهِمُ عِشْرِينَ شَهْرًا وَأَرْبَعَةً فَذَلِكَ حِجَّتَانِ
وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: لَمَّا فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِإِفْطَارٍ قَيَّدَهَا بِالْعَشَرَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا كَالْمُتَّصِلَةِ فِي الْأَجْرِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَمَعَ الْعَدَدَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةً أَوْ سَبْعَةً، لِأَنَّ الْوَاوَ قَدْ تَقُومُ مَقَامَ:
أَوْ، وَمِنْهُ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «١» فَأَزَالَ احْتِمَالَ التَّخْيِيرِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَهُوَ قَوْلٌ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تكون بمعنى: أو.
(١) سورة النساء: ٤/ ٣، وسورة فاطر: ٣٥/ ١.
268
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَاوُ، قَدْ تَجِيءُ لِلْإِبَاحَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَالَسَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا كَانَ مُمْتَثِلًا؟ فَفُذْلِكَتْ نَفْيًا لِتَوَهُّمِ الْإِبَاحَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا تُتَوَهَّمُ الْإِبَاحَةُ هُنَا، لِأَنَّ السِّيَاقَ إِنَّمَا هُوَ سِيَاقُ إِيجَابٍ، وَهُوَ يُنَافِي الْإِبَاحَةَ وَلَا يُنَافِي التَّخْيِيرَ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ قَدْ يَكُونُ فِي الْوَاجِبَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَقِيلَ: هُوَ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ:
فَتِلْكَ عَشَرَةٌ: ثَلَاثَةٌ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ، وَعُزِيَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ، وَلَا يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْهُ، وَنُنَزِّهُ الْقُرْآنَ عَنْ مِثْلِهِ، وَقِيلَ: ذَكَرَ الْعَشَرَةَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ السَّبْعَةَ مَعَ الثَّلَاثَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ «١» أَيْ مَعَ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «٢».
وَقِيلَ: ذَكَرَ الْعَشَرَةَ لِزَوَالِ تَوَهُّمِ أَنَّ السَّبْعَةَ لَا يُرَادُ بِهَا الْعَدَدُ، بَلِ الْكَثْرَةُ، رَوَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنِ الْعَرَبِ: سَبَّعَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ، أَيْ: أَكْثَرَ، أَرَادُوا التَّضْعِيفَ وَهَذَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ، فَلَهُ سَبْعٌ، وَلَهُ سَبْعُونَ، وَلَهُ سَبْعُمِائَةٍ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبْعِينَ مَرَّةً «٣» هُوَ جَمْعُ السَّبْعِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ لِلْكَثْرَةِ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنِ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَالَ: تِلْكَ عَشَرَةٌ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ السَّامِعُ أَنَّ ثُمَّ شَيْئًا آخَرَ بَعْدَ السَّبْعِ، فَأَزَالَ الظَّنَّ.
وَقِيلَ: أَتَى بِعَشَرَةٍ لِإِزَالَةِ الْإِبْهَامِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ تَصْحِيفِ الْخَطِّ، لِاشْتِبَاهِ سَبْعَةٍ وَتِسْعَةٍ، وَقِيلَ:
أَتَى بعشر لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْكَمَالَ مختص بالثلاثة المضمومة فِي الْحَجِّ، أَوْ بِالسَّبْعَةِ الَّتِي يَصُومُهَا إِذَا رَجَعَ، وَالْعَشَرَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالْكَمَالِ، وَالْأَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
قَالَ الْحَسَنُ: كَامِلَةٌ فِي الثَّوَابِ فِي سَدِّهَا مَسَدَّ الْهَدْيِ فِي المعنى لذي جُعِلَتْ بَدَلًا عَنْهُ، وَقِيلَ: كَامِلَةٌ فِي الْغَرَضِ وَالتَّرْتِيبِ، وَلَوْ صَامَهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّرْتِيبِ لَمْ تَكُنْ كَامِلَةً، وَقِيلَ: كَامِلَةٌ فِي الثَّوَابِ لِمَنْ لَمْ يَتَمَتَّعْ.
وَقِيلَ: كَامِلَةٌ، تَوْكِيدٌ كَمَا تَقُولُ: كَتَبْتُهُ بِيَدِي، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ «٤» قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ، يَعْنِي: فِي التَّأْكِيدِ زِيَادَةُ تَوْصِيَةٍ بِصِيَامِهَا، وَأَنْ لَا يُتَهَاوَنَ بِهَا وَلَا يُنْقَصَ مِنْ عَدَدِهَا، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: إِذَا كَانَ لَكَ اهْتِمَامٌ بِأَمْرٍ تَأْمُرُهُ بِهِ، وَكَانَ منك بمنزلة:
(١) سورة فصلت: ٤١/ ١٠.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٩.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٨٠. [.....]
(٤) سورة النحل: ١٦/ ٢٦.
269
اللَّهَ اللَّهَ لَا تُقَصِّرْ، وَقِيلَ: الصِّيغَةُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهَا الْأَمْرُ، أَيْ: أَكْمِلُوا صَوْمَهَا، فَذَلِكَ فَرْضُهَا.
وَعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ إِلَى لَفْظِ الْخَبَرِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالشَّيْءِ إِذَا كَانَ مُتَأَكِّدًا خِلَافًا لِظَاهِرِ دُخُولِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فِي الْوُجُودِ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْخَبَرِ الَّذِي وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ.
وَبِهَذِهِ الْفَوَائِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا رُدَّ عَلَى الْمُلْحِدِينَ فِي طَعْنِهِمْ بِأَنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ وَالسَّبْعَةَ عَشَرَةٌ، فَهُوَ إِيضَاحٌ لِلْوَاضِحَاتِ، وَبِأَنَّ وَصْفَ الْعَشَرَةِ بِالْكَمَالِ يُوهِمُ وُجُودَ عَشَرَةٍ نَاقِصَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَالْكَمَالُ وَصْفٌ نِسْبِيٌّ لَا يَخْتَصُّ بِالْعَدَدِيَّةِ. كَمَا زَعَمُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ تَقَدَّمَ ذِكْرُ التَّمَتُّعِ، وَذِكْرُ مَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ: الْهَدْيُ، وَذِكْرُ بَدَلِهُ: وَهُوَ الصَّوْمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَقِيلَ:
الْمُتَمَتِّعُ وَمَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَا مُتْعَةَ، وَلَا قِرَانَ لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَنْ تَمَتَّعَ مِنْهُمْ أَوْ قَرَنَ كَانَ عَلَيْهِ دَمُ جِنَايَةٍ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ، وَالْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ دَمُهُمَا دَمُ نُسُكٍ يَأْكُلَانِ مِنْهُ، وَقِيلَ: مَا يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعَ وَهُوَ: الْهَدْيُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يُوجِبُ عَلَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْهَدْيُ، وَبَدَلُهُ عَلَى الْأُفُقِيِّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْمَكِّيِّ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْمُتْعَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَمْ لَا، وَالْأَظْهَرُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى جَوَازِ التَّمَتُّعِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ فِي التَّرَخُّصِ:
اللَّامُ، وَالْمُنَاسِبَ فِي الْوَاجِبَاتِ عَلَى.
وَإِذَا جَاءَ ذلك: لمن، ولم يجىء: عَلَى مَنْ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ: اللَّامَ، هُنَا بِمَعْنَى:
عَلَى، كَقَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ «١».
وَحَاضِرُوا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: أَهْلُ الْحَرَمِ كُلِّهِ، وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَعَطَاءٌ: مَنْ كَانَ دُونَ الْمَوَاقِيتِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَنْ كَانَ عَلَى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَهْلُ مَكَّةَ، وَضَجْنَانَ، وَذِي طُوًى، وَمَا أَشْبَهَهَا. وَقَالَ قَوْمٌ أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ فَمَنْ دُونَهَا إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَهْلُ الْحَرَمِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ عَلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: أهل
(١) سورة الرعد: ١٣/ ٢٥.
270
مَكَّةَ، وَأَهْلُ ذِي طُوًى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ كَانَ بِحَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ بِمَكَّةَ فَهُوَ حَضَرِيٌّ، وَمَنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَدَوِيٌّ، فَجَعَلَ اللَّفْظَةَ مِنَ الْحَضَارَةِ وَالْبَدَاوَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سُكَّانُ مَكَّةَ فَقَطْ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنِ ارْتِكَابِ مَجَازٍ، فِيهِ بُعْدٌ، وَبَعْضُهُ أَبْعَدُ مِنْ بَعْضٍ، وَذَكَرَ حُضُورَ الْأَهْلِ وَالْمُرَادُ حُضُورُهُ وهو، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَسْكُنَ حَيْثُ أَهْلُهُ سَاكِنُونَ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَمَّا تَقَدَّمَ: أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَوَاجِبٌ، نَاسَبَ أَنْ يُخْتَمَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى فِي أَنْ لَا يَتَعَدَّى مَا حَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِتَحْصِيلِ التَّقْوَى بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ شِدَّةَ الْعِقَابِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ كَانَ حَرِيصًا عَلَى تَحْصِيلِ التَّقْوَى، إِذْ بِهَا يَأْمَنُ مِنَ الْعِقَابِ، وَشَدِيدُ الْعِقَابِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ لِلشُّبْهَةِ، وَالْإِضَافَةُ وَالنَّصْبُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّفْعِ، لِأَنَّ فِيهَا إِسْنَادَ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ، ثُمَّ ذَكَرَ، مَنْ هِيَ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَالرَّفْعُ إِنَّمَا فِيهِ إِسْنَادُهَا لِمَنْ هِيَ لَهُ حَقِيقَةٌ فَقَطْ دُونَ إِسْنَادٍ لِلْمَوْصُوفِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ الْأَهِلَّةِ، وَفَائِدَتِهَا فِي تَنَقُّلِهَا مِنَ الصِّغَرِ إِلَى الْكِبَرِ، وَكَانَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبِ، فَوَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ، وَأُجِيبُوا بِأَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ كَوْنُهَا جُعِلَتْ مَوَاقِيتَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَمُعَامَلَاتِهِمْ وَدِيَانَاتِهِمْ، وَمِنْ أَعْظَمِ فَائِدَتِهَا كَوْنُهَا مَوَاقِيتَ لِلْحَجِّ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَكَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ بِرًّا، فَرُدَّ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَأُمِرُوا بِأَنْ يَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَأُخْبِرُوا أَنَّ الْبِرَّ هُوَ فِي تَقْوَى اللَّهِ، ثُمَّ أُمِرُوا بِالتَّقْوَى رَاجِينَ لِلْفَلَاحِ عِنْدَ حُصُولِهَا، ثُمَّ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ مَنْ قَاتَلَهُمْ، وَنُهُوا عَنِ الِاعْتِدَاءِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ مَنِ اعْتَدَى، ثُمَّ أُمِرُوا بِقَتْلِ مَنْ ظَفِرُوا بِهِ، وَبِإِخْرَاجِ مَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَخْرَجُوهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ أَوْ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ، أَوْ بِالتَّعْذِيبِ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ رَاحَةً مِنْ هَذَا كُلِّهِ، ثُمَّ لَمَّا تَضَمَّنَ الْأَمْرُ بِالْإِخْرَاجِ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أُخْرِجُوا مِنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ نُهُوا عَنْ مُقَاتَلَتِهِمْ فِيهِ إِلَّا إِنْ قَاتَلُوكُمْ، وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَاهِلِيَّةً وَإِسْلَامًا، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِقَتْلِهِمْ إِذَا نَاشَبُوا الْقِتَالَ، وَكَانَ فِيهِ بِشَارَةٌ بِأَنَّا نَقْتُلُهُمْ، إِذْ أَمَرَنَا بِقَتْلِهِمْ لَا بِقِتَالِهِمْ، وَلَا يَقْتُلُ الْإِنْسَانَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَتْلِهِ، ثم ذكر أن من كَفَرَ بِاللَّهِ فَمِثْلُ هَذَا الْجَزَاءِ جَزَاؤُهُ مِنْ مُقَاتَلَتِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ وَطَنِهِ وَقَتْلِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
271
لِمَنِ انْتَهَى عَنِ الْكُفْرِ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ، فِيمَا سَبَقَ، مُقَيَّدًا مَرَّةً بِمَنْ قَاتَلَ، وَمَرَّةً بِمَكَانٍ حَتَّى يُبْدَأَ بِالْقِتَالِ فِيهِ، أَمَرَهُمْ بِالْقِتَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَعِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ، فَنَسَخَ هَذَا الْأَمْرُ تِلْكَ الْقُيُودَ، وَصَارَ مُغَيًّا أَوْ مُعَلَّلًا بِانْتِفَاءِ الْفِتْنَةِ وَخُلُوصِ الدِّينِ لِلَّهِ، وَخَتَمَ هَذَا الْأَمْرَ بِأَنَّ مَنِ انْتَهَى وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا اعْتِدَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِدَاءُ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ، كَمَا خَتَمَ الْأَمْرَ السَّابِقَ بِأَنَّ مَنِ انْتَهَى عَنِ الْكُفْرِ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَتْكَ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِسَبَبِ الْقِتَالِ فِيهِ، وَهُوَ شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ فِيهِ حِينَ خَرَجُوا لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ جَائِزٌ لَكُمْ بِسَبَبِ هَتْكِهِمْ حُرْمَتَهُ فِيهِ حِينَ قَاتَلُوكُمْ فِيهِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْبَيْتِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَاقْتَضَى أَنَّ كُلَّ مَنْ هَتَكَ أَيَّ حُرْمَةٍ اقْتُصَّ مِنْهُ بِأَنْ تُهْتَكَ لَهُ حُرْمَةٌ، فَكَمَا هَتَكُوا حُرْمَةَ شَهْرِكُمْ لَا تُبَالُوا بِهَتْكِ حُرْمَتِهِ لَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْمُجَازَاةِ لِمَنِ اعْتَدَى عَلَيْنَا بِعُقُوبَةٍ مِثْلِ عُقُوبَتِهِ، تأكيد لِمَا سَبَقَ، وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى، فَلَا يُوقِعُ فِي الْمُجَازَاةِ غَيْرَ مَا سَوَّغَهُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مَعَ مَنِ اتَّقَى، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ عَلَى عَدُوِّهِ، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَأَنْ لَا يَخْلُدَ إِلَى الدَّعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي إِصْلَاحِ هَذِهِ الدُّنْيَا وَالْإِخْلَادِ إِلَيْهَا، وَنَهَانَا عَنِ الِالْتِبَاسِ بِالدَّعَةِ وَالْهُوَيْنَا فَنَضْعُفَ عَنْ أَعْدَائِنَا، ويقوون هم علينا، فيؤول أَمْرُنَا مَعَهُمْ لِضَعْفِنَا وَقُوَّتِهِمْ إِلَى هَلَاكِنَا، وَفِي هَذَا الْأَمْرِ وَهَذَا النَّهْيِ مِنَ الْحَضِّ عَلَى الْجِهَادِ مَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ مَنْ أَحْسَنَ، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ يَأْتُوا بِهِمَا تَامَّيْنِ كَامِلَيْنِ بِمَنَاسِكِهِمَا وَشَرَائِطِهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَشُوبُ فِعْلَهَا رِيَاءٌ وَلَا سُمْعَةٌ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَدْ يَحُجُّونَ لِبَعْضِ أَصْنَامِهِمْ، فَأُمِرُوا بِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أُحْصِرَ وَحُبِسَ عَنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَسُرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَالْهَدْيُ يَشْمَلُ: الْبَعِيرَ، وَالْبَقَرَةَ، وَالشَّاةَ، ثُمَّ نَهَى عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَالَّذِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ فِي الْهَدْيِ أَنَّ مَحِلَّهُ هُوَ الْحَرَمُ، فَخُوطِبُوا بِمَا كَانَ سَابِقًا لَهُمْ عَلِمُهُ بِهِ، وَلَمَّا غَيَّا الْحَلْقَ بِوُقُوعِ هَذِهِ الْغَايَةِ مِنْ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَكَانَ قَدْ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مَا يَقْتَضِي حَلْقَ رَأْسِهِ لِمَرَضٍ أَوْ أَذًى بِرَأْسِهِ مِنْ قُمَّلٍ أَوْ قَرْحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَأَوْجَبَ تَعَالَى عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِدْيَةً مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ. وبين رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْبَهَمَ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي حديث كعب بن عجرة عَلَى مَا مَرَّ تَفْسِيرُهُ،
272
وَاقْتَضَى هَذَا التَّرْكِيبُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا آمِنِينَ، وَتَمَتَّعَ أَحَدُهُمْ بِالْعُمْرَةِ إِلَى وَقْتِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَقَدْ فَسَّرْنَا مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ بِتَعَذُّرِ ثَمَنِ الْهَدْيِ، أَوْ فِقْدَانِ الْهَدْيِ، فَيَلْزَمُهُ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، أَيْ: فِي زَمَنِ وُقُوعِ الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ، وَإِنِ اخْتَلَفَ زَمَانُ صِيَامِهَا، فَمِنْهَا مَا يَصُومُهُ وَهُوَ مُلْتَبِسٌ بِهَذِهِ الطَّاعَةِ الشَّرِيفَةِ، وَمِنْهَا مَا يَصُومُهُ غَيْرَ مُلْتَبِسٍ بِهَا، لَكِنَّ الْجَمِيعَ كَامِلٌ فِي الثَّوَابِ وَالْأَجْرَ، إِذْ هُوَ مُمَثِّلٌ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَلَا فَرْقَ فِي الثَّوَابِ بَيْنَ مَا أَمَرَ بِإِيقَاعِهِ فِي الْحَجِّ، وَمَا أَمَرَ بِإِيقَاعِهِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا التَّمَتُّعَ، وَلَازِمَهُ مِنَ الْهَدْيِ أَوِ الصَّوْمِ، هُوَ مَشْرُوعٌ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ، ثُمَّ لَمَّا تَقَدَّمَ مِنْهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أوامر ونواهي، كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، وَأَعْلَمَ أَنَّهُ تَعَالَى شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ خَالَفَ مَا شَرَعَ تَعَالَى.
وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَدِيدَةُ الِالْتِئَامِ، مُسْتَحْكِمَةُ النِّظَامِ، منسوقا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا كَنَسَقِ اللَّآلِئِ مُشْرِقَةُ الدَّلَالَةِ وَلَا كَإِشْرَاقِ الشَّمْسِ فِي بُرْجِهَا الْعَالِي. سَامِيَةٌ فِي الْفَصَاحَةِ إِلَى أَعَالِي الذُّرَى، مُعْجِزَةٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا أحد من الورى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٧ الى ٢٠٢]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١)
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
273
الْجِدَالُ: فِعَالٌ مَصْدَرُ: جَادَلَ، وَهِيَ الْمُخَاصَمَةُ الشَّدِيدَةُ، مُشْتَقٌّ ذَلِكَ مِنَ الْجَدَالَةِ، وَهِيَ الْأَرْضُ. كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُقَاوِمُ صَاحِبَهُ حَتَّى يَغْلِبَهُ، فَيَكُونُ كَمَنْ ضرب منه الْجَدَالَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَدْ أُنْزِلُ الْآلَةَ بَعْدَ الْآلَهْ وَأُنْزِلُ الْعَاجِزَ بِالْجَدَالَهْ
أَيْ: بِالْأَرْضِ، وَقِيلَ: اشْتُقَّ ذَلِكَ مِنَ الْجَدْلِ وَهُوَ القتل، وَمِنْهُ قِيلَ: زِمَامٌ مَجْدُولٌ، وَقِيلَ: لَهُ جَدِيلٌ، لِفَتْلِهِ وَقِيلَ: لِلصَّقْرِ: الْأَجْدَلُ لِشِدَّتِهِ واجتماع حلقه، كَأَنَّ بَعْضَهُ فُتِلَ فِي بَعْضٍ فَقَوِيَ.
الزَّادِ: مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَا يَسْتَصْحِبُهُ الْإِنْسَانُ لِلسَّفَرِ مِنْ مَأْكُولٍ، وَمَشْرُوبٍ، وَمَرْكُوبٍ، وَمَلْبُوسٍ، إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ:
تَزَوَّدَ، تَفَعَّلَ مِنَ الزَّادِ.
الْإِفَاضَةُ: الِانْخِرَاطُ وَالِانْدِفَاعُ وَالْخُرُوجُ مِنَ الْمَكَانِ بِكَثْرَةٍ شُبِّهَ بِفَيْضِ الْمَاءِ وَالدَّمْعِ، فَأَفَاضَ مِنَ الْفَيْضِ لَا مِنْ فَوَضَ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ النَّاسِ بِلَا سَايِسٍ يَسُوسُهُمْ، وَأَفْعَلَ هَذَا بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، وَلَيْسَتِ الْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُحْفَظُ: أَفَضْتُ زيد، بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي شَرَحْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ فِي فَاضَ الدَّمْعُ أَنْ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، فَتَقُولُ: أَفَاضَ الْحُزْنُ، أَيْ: جَعَلَهُ يَفِيضُ.
وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَصَاحِبُ (الْمُنْتَخَبِ) أَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَفَاضَ النَّاسُ لِلتَّعْدِيَةِ، قَالَ: وَأَصْلُهُ: أَفَضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَشَرَحَهُ صَاحِبُ (الْمُنْتَخَبِ) بِالِانْدِفَاعِ فِي السَّيْرِ بِكَثْرَةٍ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْرَحَهُ بِلَفْظٍ مُتَعَدِّدٍ.
قَالَ مَعْنَاهُ: دَفَعَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، قَالَ: لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا انْصَرَفُوا مُزْدَحِمِينَ دَفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقِيلَ: الْإِفَاضَةُ الرُّجُوعُ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَقِيلَ: السَّيْرُ السَّرِيعُ، وَقِيلَ: التَّفَرُّقُ
274
بِكَثْرَةٍ، وَقِيلَ: الدَّفْعُ بِكَثْرَةٍ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ فَيَّاضٌ أَيْ مُنْدَفِقٌ بِالْعَطَاءِ، وَقِيلَ: الِانْصِرَافُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَفَاضَ بِالْقِدَاحِ، وعلى القداح، وهي الْمَيْسِرِ، وَأَفَاضَ الْبَعِيرُ بِجِرَانِهِ.
عَرَفَاتٍ عَلَمٌ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي يَقِفُونَ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ، فَقِيلَ: لَيْسَ بِمُشْتَقٍّ، وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَذَلِكَ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ بِهَذَا الِاسْمِ.
وَفِي تَعْيِينِ الْمَعْرِفَةِ أَقَاوِيلُ: فَقِيلَ: لِمَعْرِفَةِ إِبْرَاهِيمَ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ إِذْ كَانَتْ قَدْ نُعِتَتْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لِمَعْرِفَتِهِ بِهَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ، وَكَانَتْ سَارَّةُ قَدْ أَخْرَجَتْ إِسْمَاعِيلَ فِي غَيْبَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَانْطَلَقَ فِي طَلَبِهِ حِينَ فَقَدَهُ، فَوَجَدَهُ وَأَمَّهُ بِعَرَفَاتٍ، وَقِيلَ: لِمَعْرِفَتِهِ فِي لَيْلَةِ عَرَفَةَ أَنَّ الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا لَيْلَةَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ كَانَتْ مِنَ اللَّهِ،
وَقِيلَ: لَمَّا أَتَى جِبْرِيلُ عَلَى آخِرِ الْمَشَاعِرِ فِي تَوْقِيفِهِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهَا، قَالَ لَهُ: أَعَرَفْتَ؟ قَالَ: عَرَفْتُ، فَسُمِّيَتْ عَرَفَةَ
، وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يَتَعَارَفُونَ بِهَا، وَقِيلَ: لِتَعَارُفِ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِهَا، لِأَنَّ هُبُوطَهُ كَانَ بِوَادِي سَرَنْدِيبَ، وَهُبُوطُهَا كَانَ بِجُدَّةَ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَجَاءَ مُمْتَثِلًا، فَتَعَارَفَا بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ.
وَقِيلَ: مِنَ الْعَرْفِ، وَهُوَ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ، وقيل: من العرف، وهو: الصَّبْرُ، وَقِيلَ:
الْعَرَبُ تُسَمِّي مَا عَلَا عَرَفَاتٍ وَعَرَفَةَ، وَمِنْهُ: عُرْفُ الدِّيكِ لِعُلُوِّهِ، وَعَرَفَاتٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى جَمِيعِ جِبَالِ الْحِجَازِ، وَعَرَفَاتٌ وَإِنْ كَانَ اسْمَ جَبَلٍ فَهُوَ مُؤَنَّثٌ، حَكَى سِيبَوَيْهِ: هَذِهِ عَرَفَاتٌ مُبَارَكًا فِيهَا، وَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِعَرَفَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا جَمْعٌ، فَإِنْ عَنَى فِي الْأَصْلِ فَصَحِيحٌ وَإِنْ عَنَى حَالَةَ كَوْنِهَا عَلَمًا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ تُنَافِي الْعَلَمِيَّةَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: عَرَفَةُ اسْمُ الْيَوْمِ، وَعَرَفَاتٌ اسْمُ الْبُقْعَةِ.
وَالتَّنْوِينُ فِي عَرَفَاتٍ وَنَحْوِهِ تَنْوِينُ مُقَابَلَةٍ، وَقِيلَ: تَنْوِينُ صَرْفٍ، وَاعْتَذَرَ عَنْ كَوْنِهِ مُنْصَرِفًا مَعَ التَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ، بِأَنَّ التَّأْنِيثَ إِنَّمَا هِيَ مَعَ الْأَلِفِ الَّتِي قَبْلَهَا عَلَامَةُ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ، وَإِنْ كَانَ بِالتَّقْدِيرِ: كَسُعَادَ، فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهَا فِي عَرَفَاتٍ، لِأَنَّ هَذِهِ التَّاءَ لِاخْتِصَاصِهَا بِجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ مَانِعَةٌ مِنْ تَقْدِيرِهَا كَمَا تُقَدَّرُ تَاءُ التَّأْنِيثِ فِي بِنْتٍ، لِأَنَّ التَّاءَ الَّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمُؤَنَّثِ كَتَاءِ التَّأْنِيثِ، فَأُنِّثَ تَقْدِيرُهَا. انْتَهَى هَذَا التَّعْلِيلُ وَأَكْثَرُهُ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَأَجْرَاهُ فِي الْقُرْآنِ مَجْرَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مِنْ إِبْقَاءِ التَّنْوِينِ فِي الْجَرِّ، وَيَجُوزُ حَذْفُهُ حَالَةَ التَّسْمِيَةِ، وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ، وَالْأَخْفَشُ إِجْرَاءَ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ مَجْرَى فَاطِمَةَ، وَأَنْشَدُوا بَيْتَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
275
تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرُعَاتَ وَأَهْلُهَا بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي
بِالْفَتْحِ.
النَّصِيبُ: الْحَظُّ وَجَمْعُهُ عَلَى أَفْعِلَاءَ شَاذٌّ، لِأَنَّهُ اسْمٌ، قَالُوا: أَنْصِبَاءَ وَقِيَاسُهُ: فُعُلٌ نَحْوَ: كَثِيبٌ وَكُثُبٌ.
سَرِيعُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: سَرُعَ يَسْرُعُ سُرْعَةً فَهُوَ سَرِيعٌ، وَيُقَالُ: أَسْرَعَ وَكِلَاهُمَا لَازِمٌ.
الْحِسَابِ: مَصْدَرُ حَاسَبَ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: حَسَبْتُ الْحِسَابَ أَحْسُبُهُ حَسْبًا وَحُسْبَانًا، وَالْحِسَابُ الِاسْمُ، وَقِيلَ: الْحِسَابُ مَصْدَرُ حَسَبَ الشَّيْءَ، وَالْحِسَابُ فِي اللُّغَةِ هو العدوّ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، وَيَعْقُوبُ: حَسَبَ يَحْسُبُ حُسْبَانًا وَحِسَابَةً وَحِسْبَةً وَحَسْبًا، وَأَنْشَدَ:
وَأَسْرَعَتْ حِسْبَةً فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ وَمِنْهُ: حَسُبَ الرَّجُلُ، وَهُوَ مَا عَدَّهُ مِنْ مآثره ومفاخره، والاحساب: الاعتداء بِالشَّيْءِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحِسَابُ: فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: حَسْبُكَ كَذَا، أَيْ: كَفَاكَ، فَسُمِّيَ الْحِسَابُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ حِسَابًا لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَكَانَتِ الْعُمْرَةُ لَا وَقْتَ لَهَا مَعْلُومًا. بَيَّنَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ، فَهَذِهِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قبلها.
وَالْحَجُّ أَشْهُرٌ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ، إِذِ الْأَشْهُرُ لَيْسَتِ الْحَجَّ، وَذَلِكَ الْحَذْفُ إِمَّا فِي الْمُبْتَدَأِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَشْهُرُ الْحَجِّ، أَوْ وَقْتُ الْحَجِّ، أَوْ: فِي الْخَبَرِ، أَيِ: الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ، أَوْ يَكُونُ: الْأَصْلُ فِي أَشْهُرٍ، فَاتَّسَعَ فِيهِ، وَأُخْبِرَ بِالظَّرْفِ عَنِ الْحَجِّ لَمَّا كَانَ يَقَعُ فِيهِ، وَجُعِلَ إِيَّاهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَ يَجُوزُ النَّصْبُ، وَلَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَنْ قَدَّرَ الْكَلَامَ: فِي أَشْهُرٍ، فَيَلْزَمُهُ مَعَ سُقُوطِ حَرْفِ الْجَرِّ نَصْبُ الْأَشْهُرِ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِنَصْبِهَا أَحَدٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَلْزَمُ نَصْبُ الْأَشْهُرِ مَعَ سُقُوطِ حَرْفِ الْجَرِّ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُرْفَعُ عَلَى الِاتِّسَاعِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، أَعْنِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ ظَرْفُ الزَّمَانِ نَكِرَةً خَبَرًا عَنِ الْمَصَادِرِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ مُسْتَغْرِقًا لِلزَّمَانِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ، وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَعِنْدَهُمْ فِي
276
ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ: أَنَّ الْحَدَثَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا لِلزَّمَانِ، فَيُرْفَعُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ النَّصْبُ، أَوْ غير مستغرق فمذهب هشام أنه يجب في الرَّفْعُ، فَيَقُولُ: مِيعَادُكَ يَوْمٌ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى جَوَازِ النَّصْبِ وَالرَّفْعِ كَالْبَصْرِيِّينَ، وَنُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَصْبُ الْأَشْهُرِ، لِأَنَّ: أَشْهُرًا، نَكِرَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ.
وَهَذَا النَّقْلُ مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلْنَا نَحْنُ عَنْهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْقَوْلَانِ، قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَوْلُ هِشَامٍ، وَجُمِعَ شَهْرٌ عَلَى أَفْعُلٍ لِأَنَّهُ جَمْعُ قِلَّةٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ «١» فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى: فُعُولٍ، وَهُوَ جَمْعُ الْكَثْرَةِ.
وَظَاهِرُ لَفْظِ أَشْهُرٍ الْجَمْعُ، وَهُوَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، كُلُّهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وعطاء، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَمَالِكٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وعطاء، والشعبي، وطاووس، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمَكْحُولٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ حَبِيبٍ، عَنْ مَالِكٍ، هِيَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ، وَصَاحِبُ (الْمُنْتَخَبِ) عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الثَّالِثَ التِّسْعَةُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ لَيْلَةِ النَّحْرِ، لِأَنَّ الْحَجَّ يَفُوتُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِيهِمَا مَجَازٌ، إِذْ أُطْلِقَ عَلَى بَعْضِ الشَّهْرِ، شَهْرٌ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: لَهُ الْيَوْمَ يَوْمَانِ لَمْ أَرَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ وَبَعْضُ يَوْمٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَغْلِيبًا لِأَكْثَرِ الزَّمَانِ عَلَى أَقَلِّهِ، وَهُوَ كَمَا نُقِلَ
فِي الْحَدِيثِ: أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَإِنَّمَا هِيَ يَوْمَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ
، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ بَعْضٍ عَلَى كُلٍّ، وكما قال الشاعر:
ثلاثون شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، قِيلَ: وَلِأَنَّ الْعَرَبَ تُوقِعُ الْجَمْعَ على التثنية إذا كَانَتِ التَّثْنِيَةُ أَقَلَّ الْجَمْعِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ كَانَ الشَّهْرَانِ. وَبَعْضُ الشَّهْرِ أَشْهُرًا؟ قُلْتُ:
اسْمُ الْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ مَا وَرَاءَ الْوَاحِدِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «٢» فَلَا سُؤَالَ فِيهِ إِذَنْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَوْضِعًا لِلسُّؤَالِ لَوْ قِيلَ: ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ معلومات. انتهى كلامه.
(١) سورة التوبة: ٩/ ٣٦.
(٢) سورة التحريم: ٦٦/ ٤.
277
وَمَا ذَكَرَهُ الدَّعْوَى فِيهِ عَامَّةٌ، وَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ يَشْتَرِكُ فِيهِ مَا وَرَاءَ الْوَاحِدِ، وَهَذَا فِيهِ النِّزَاعُ. وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ خَاصٌّ، وَهُوَ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلِإِطْلَاقِ الْجَمْعِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى التَّثْنِيَةِ شُرُوطٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ. وَ: أَشْهُرٌ، لَيْسَ مِنْ بَابِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: فَلَا سُؤَالَ فِيهِ، إِذَنْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ فَرَضَ السُّؤَالَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ قُلْتَ؟ وَقَوْلِهِ فَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ مَوْضِعًا لِلسُّؤَالِ لَوْ قِيلَ: ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ شَهْرٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ كَمَا يَدْخُلُ الْمَجَازُ فِي لَفْظِ أَشْهُرٍ، كَذَلِكَ قَدْ يدخل المحاز فِي الْعَدَدِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ: لَهُ الْيَوْمَ يَوْمَانِ لَمْ أَرَهُ؟ قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ وَبَعْضُ يَوْمٍ آخَرَ، وإلى قول امرئ:
ثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، وَإِلَى مَا حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ، مَا رَأَيْتُهُ مُذْ خَمْسَةِ أَيَّامٍ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ رَأَيْتَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالْخَامِسِ فَلَمْ يَشْمَلِ الِانْتِفَاءُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ جَمِيعَهَا بَلْ تُجْعَلُ مَا رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِهِ، وَانْتَفَتِ الرُّؤْيَةُ فِي بَعْضِهِ، كَانَ يَوْمٌ كَامِلٌ لَمْ تَرَهُ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِي كَلَامِهِمْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَشْهُرٍ، وَبَيْنَ ثلاثة أشهر، ولكن مَجَازَ الْجَمْعِ أَقْرَبُ مِنْ مَجَازِ الْعَدَدِ.
قَالُوا: وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَشْهُرَ هِيَ الثَّلَاثَةَ بِكَمَالِهَا، وَبَيْنَ مَنْ جَعَلَهَا شَهْرَيْنِ وَبَعْضَ الثَّالِثِ، يَظْهَرُ في تعلق الذم فِيمَا يَقَعُ مِنَ الْأَعْمَالِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ قَدِ انْقَضَى الْحَجُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وَأَخَّرَ عَمَلَ ذَلِكَ عَنْ وَقْتِهِ.
وَفَائِدَةُ التَّوْقِيتِ بِالْأَشْهُرِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِيهَا، وَيُكْرَهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيِّ. قَالَ: وَلَا يُحِلُّ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو الثَّوْرِ: لَا يَصِحُّ، وَيَنْقَلِبُ عُمْرَةً وَيُحِلُّ لَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ الْإِحْرَامُ بِهِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ هَلِ التَّقْدِيرُ: الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ أَوْ أَفْعَالُ الْحَجِّ؟ وَذِكْرُ الْحَجِّ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ
278
لَا تَقَعُ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تُسْتَحَبُّ فِيهَا، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ مُخَلَّصَةً لِلْحَجِّ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَخْفِقُ النَّاسَ بِالدِّرَّةِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الِاعْتِمَارِ فِيهِنَّ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: إِنْ أَطْلَقَنِي انْتَظَرْتُ، حَتَّى إِذَا أَهْلَلْتُ الْمُحَرَّمَ خَرَجْتُ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ فَأَهْلَلْتُ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ.
وَمَعْنَى: مَعْلُومَاتٍ، مَعْرُوفَاتٍ عِنْدَ النَّاسِ، وَأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْحَجِّ فِيهَا إِنَّمَا جَاءَتْ عَلَى مَا عَرَفُوهُ وَكَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ.
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أَيْ: مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْحَجَّ فيهن، وأصل الفرض الحر الَّذِي يَكُونُ فِي السِّهَامِ وَالْقِسِيِّ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ فُرْضَةُ النَّهَرِ وَالْجَبَلِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الغرض مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَهُوَ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ وَالْإِحْرَامُ، وقال عطاء، وطاووس: هُوَ أَنْ يُلَبِّيَ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَهِيَ رِوَايَةُ شَرِيكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ بِالتَّلْبِيَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: لَا إِحْرَامَ إِلَّا لِمَنْ أَهَلَّ وَلَبَّى، وَأَخَذَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَابْنُ حَبِيبٍ، وَقَالُوا، هُمْ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: إِنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِذَا قَلَّدَ بَدَنَتَهُ وَسَاقَهَا يُرِيدُ الْإِحْرَامَ. فقد أحرم، قول هَذَا عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ وُجُوبُ التَّلْبِيَةِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهَا مِنَ الدَّمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: إِذَا قَلَّدَ بَدَنَتَهُ وَسَاقَهَا فَقَدْ أَحْرَمَ،
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وابن عباس، وطاووس، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْرِمًا بِذَلِكَ
، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: فَرْضُ الْحَجِّ الْإِحْرَامُ بِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مَعَ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ. وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِالنِّيَّةِ، وَالْإِحْرَامِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَبِالنِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ عِنْدِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوِ النِّيَّةِ وَإِشْعَارِ الْهَدْيِ أَوْ تَقْلِيدِهِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَ: مَنْ، شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَ: فِيهِنَّ، مُتَعَلِّقٌ بِفَرَضَ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى: أَشْهُرٌ، وَلَمْ يَقُلْ: فِيهَا، لِأَنَّ أَشْهُرًا جَمْعُ قِلَّةٍ، وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُسْتَعْمَلِ مِنْ أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ لِمَا لَا يَعْقِلُ يُجْرَى مَجْرَى الْجَمْعِ مُطْلَقًا لِلْعَاقِلَاتِ عَلَى الْكَثِيرِ الْمُسْتَعْمَلِ أَيْضًا، وَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
279
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ الرَّفَثُ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْجِمَاعُ وَقَالَ ابن عمر، وطاووس، وَعَطَاءٌ، وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الْإِفْحَاشُ لِلْمَرْأَةِ بِالْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا أَحْلَلْنَا فَعَلْنَا بِكِ كَذَا، لَا يُكَنِّي، وَقَالَ قَوْمٌ: الْإِفْحَاشُ بِذِكْرِ النِّسَاءِ، كَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِنَّ أَمْ لَا وَقَالَ قَوْمٌ:
الرَّفَثُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ اللَّغْوُ مِنَ الْكَلَامِ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هُوَ التَّعَرُّضُ بِمُعَانَقَةٍ وَمُوَاعَدَةٍ أَوْ مُدَاعَبَةٍ أَوْ غَمْزٍ.
وَمُلَخَّصُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ شَيْءٍ يُفْسِدُهُ وَهُوَ الْجِمَاعُ، أَوْ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ لِمَنْ كَانَ مُلْتَبِسًا بِالْحَجِّ لِحُرْمَةِ الْحَجِّ.
وَالْفُسُوقُ: فُسِّرَ هَذَا بِفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَتْلِ صَيْدٍ، وَحَلْقِ شَعْرٍ، وَالْمَعَاصِي كُلِّهَا لَا يَخْتَصُّ مِنْهَا شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، ومجاهد، وطاووس. أَوِ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ وَمِنْهُ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ «١» قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَمَالِكٌ، أَوِ التَّنَابُذُ بِالْأَلْقَابِ قَالَ: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ «٢» قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوِ السباب منه:
«سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ»
. قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالسُّدِّيُّ، وَرَجَّحَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ مَا نُهِيَ عَنْهُ الْحَاجُّ فِي إِحْرَامِهِ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ مُحْرِمٍ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ التَّنَابُذُ، وَرَجَّحَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ وَغَيْرُهُمَا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ جَمِيعُ الْمَعَاصِي لِعُمُومِهِ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلِأَنَّهُ
رُوِيَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَمَلٌ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ حَجَّةٍ مَبْرُورَةٍ لَا رَفَثَ فِيهَا وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ».
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحَجُّ الْمَبْرُورُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْصَ اللَّهُ فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْصَ اللَّهُ بَعْدَهُ.
وَالْجِدَالُ: هُنَا مُمَارَاةُ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَغْضَبَ، فَأَمَّا فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ فَلَا نَهْيَ عَنْهَا، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ. أَوِ السِّبَابُ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَتَادَةُ. أَوِ:
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٤٥.
(٢) سورة الحجرات: ٤٩/ ١١.
280
الِاخْتِلَافُ: أَيُّهُمْ صَادَفَ مَوْقِفَ أَبِيهِمْ؟ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، تَقِفُ قُرَيْشٌ فِي غَيْرِ مَوْقِفِ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَتَجَادَلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَمَالِكٌ. أَوْ يَقُولُ قَوْمٌ: الْحَجُّ الْيَوْمَ، وَقَوْمٌ الْحَجُّ غَدًا، قَالَهُ الْقَاسِمُ. أَوِ الْمُمَارَاةُ فِي الشُّهُورِ حَسْبَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَيْهِ مِنَ الَّذِي كَانُوا رُبَّمَا جَعَلُوا الْحَجَّ فِي غَيْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَقِفُ بَعْضُهُمْ بِجَمْعٍ، وَبَعْضُهُمْ بِعَرَفَةَ، وَيَتَمَارَوْنَ فِي الصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَأَظْهَرُهَا قَرَّرَ الشَّرْعُ وَقْتَ الْحَجِّ وَإِحْرَامُهُ حَتْمٌ لَا جِدَالَ فِيهِ.
أَوْ قَوْلُ طَائِفَةٍ: حَجُّنَا أَبَرُّ مِنْ حَجِّكُمْ، وَتَقُولُ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرْطُبِيُّ، أَوِ الْفَخْرُ بِالْآبَاءِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ، أَوْ
قَوْلُ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ، حِينَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحْلِلْ مِنْ إِحْرَامِهِ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» قَالَهُ مُقَاتِلٌ.
أَوِ الْمِرَاءُ مَعَ الرُّفَقَاءِ وَالْخُدَّامِ وَالْمُكَارِينَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوْ كُلُّ مَا يُسَمَّى جِدَالًا لِلتَّغَالُبِ، وَحَظِّ النَّفْسِ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْأَقْوَالُ التسعة السابقة.
و: الفاء، فِي: فَلَا رَفَثَ، هِيَ الدَّاخِلَةُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ، إِنْ قُدِّرَ: مَنْ، شَرْطًا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ فِي الْخَبَرِ إِنْ قُدِّرَ: مَنْ، مَوْصُولًا.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ: رُفُوثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّفَثَ وَالرُّفُوثَ مَصْدَرَانِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَاصِمٍ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، وَهُوَ طَرِيقُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ فِي الثَّلَاثَةِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَنَافِعٌ بِفَتْحِ الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عُمَرَ بِرَفْعِ: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ، وَالتَّنْوِينِ، وَفَتْحِ: وَلَا جِدَالَ، مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ.
فَأَمَّا مَنْ رَفَعَ الثَّلَاثَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ: لَا، غَيْرَ عَامِلَةٍ ورفع مَا بَعْدَهَا بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ عَنِ الْجَمِيعِ هُوَ قَوْلُهُ: فِي الْحَجِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عن الْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ، وَحُذِفَ خَبَرُ الثَّانِي.
وَالثَّالِثِ لِلدَّلَالَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عن الثَّالِثِ وَحُذِفَ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلدَّلَالَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خبرا عن الثَّانِي وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ لِقُبْحِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَالْفَصْلِ.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: لَا، عَامِلَةً عَمَلَ لَيْسَ فَيَكُونُ: فِي الْحَجِّ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: وَ: لَا، فِي مَعْنَى لَيْسَ فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، وَهَذَا الَّذِي
281
جَوَّزَهُ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةِ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ إِعْمَالَ: لَا، إِعْمَالَ: لَيْسَ، قَلِيلٌ جدا، لم يجىء مِنْهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِلَّا مَا لَا بَالَ لَهُ، وَالَّذِي يُحْفَظُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
تَعَزَّ فَلَا شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ بَاقِيَا وَلَا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
أَنْشَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَلَا أَعْرِفُ هَذَا الْبَيْتَ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
وَحَلَّتْ سَوَادَ الْقَلْبِ لَا أَنَا بَاغِيًا سِوَاهَا وَلَا فِي حُبِّهَا مُتَرَاخِيًا
وَقَالَ آخَرُ:
أَنْكَرْتُهَا بَعْدَ أَعْوَامٍ مَضَيْنَ لها لا الدار دار وَلَا الْجِيرَانُ جِيرَانَا
وَخَرَّجَ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا فَأَنَا ابْنُ قَيْسٍ لَا بَرَاحُ
وَهَذَا كُلُّهُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَعَلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا يَنْتَهِي مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَوَاعِدُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ وَأَجَلُّهُ، وَيُعْدَلَ عَنِ الْوَجْهِ الْكَثِيرِ الْفَصِيحِ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ فَإِنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصَادِرِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أَفْعَالٌ مِنْ لَفْظِهَا، التَّقْدِيرُ: فَلَا يَرْفُثُ رَفَثًا، وَلَا يَفْسُقُ فُسُوقًا، وَلَا يُجَادِلُ جِدَالًا. وَ: فِي الْحَجِّ، مُتَعَلِّقٌ بِمَا شِئْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِعْمَالِ وَالتَّنَازُعِ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَتْحِ فِي الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، فَالْخِلَافُ فِي الْحَرَكَةِ، أَهِيَ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ أَوْ حَرَكَةُ بِنَاءٍ؟ الثَّانِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالدَّلَائِلُ مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَإِذَا بُنِيَ مَعَهَا عَلَى عَلَى الْفَتْحِ فَهَلِ الْمَجْمُوعُ مِنْ لَا وَالْمَبْنِيِّ مَعَهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ؟ وَإِنْ كَانَتْ: لَا، عَامِلَةً فِي الِاسْمِ النَّصْبَ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَلَا خَبَرَ لَهَا، أَوْ لَيْسَ الْمَجْمُوعُ فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ؟ بَلْ.
لَا، عَامِلَةٌ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ النَّصْبَ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَمَا بَعْدَهَا خَبَرُ: لَا، إِذَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى.
إِنَّ، فِي نَصْبِ الِاسْمِ وَرَفْعِ الْخَبَرِ، قَوْلَانِ لِلنَّحْوِيِّينَ، الْأَوَّلُ: قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَالثَّانِي:
الْأَخْفَشُ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَتَفَرَّعُ إِعْرَابُ: فِي الْحَجِّ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ خَبَرِ: لَا، عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ رَفَعَ وَنَوَّنَ: فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ، وَفَتَحَ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ: وَلَا جِدَالَ، فَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنَ الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ: أَنَّ الْمَفْتُوحَ مَعَ: لَا، فِي
282
مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، يَكُونُ: فِي الْحَجِّ، خَبَرًا عَنِ الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ، إِلَّا الْعَطْفُ، عَطْفُ مُبْتَدَأٍ عَلَى مُبْتَدَأٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَخْفَشِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ: فِي الْحَجِّ، إِلَّا خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأَيْنِ، أَوْ: لا، أو خبر للا، لِاخْتِلَافِ الْمُعْرَبِ فِي الْحَجِّ، يَطْلُبُهُ الْمُبْتَدَأُ أَوْ تَطْلُبُهُ لَا فَقْدَ اخْتَلَفَ الْمُعْرَبُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَا نَصُّهُ: وَ: لَا، بِمَعْنَى لَيْسَ فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَ: فِي الْحَجِّ، خَبَرُ: لَا جِدَالَ، وَحَذْفُ الْخَبَرِ هُنَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَدْ خُولِفَ فِي ذَلِكَ بَلْ: فِي الْحَجِّ، هُوَ خَبَرُ الْكُلِّ، إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فِي الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ: لَا، إِنَّمَا تَعْمَلُ عَلَى بَابِهَا فِيمَا يَلِيهَا، وَخَبَرُهَا مَرْفُوعٌ بِأَنَّ عَلَى حَالِهِ مِنْ خَبَرِ الِابْتِدَاءِ، وَظَنَّ أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ: لَيْسَ، فِي نَصْبِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ وَالِاسْمُ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ يَطْلُبَانِ الْخَبَرَ، وَ: فِي الْحَجِّ، هُوَ الْخَبَرُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ مُنَاقَشَاتٌ.
الْأُولَى: قَوْلُهُ وَ: لَا، بِمَعْنَى: لَيْسَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كَوْنَ: لَا، بِمَعْنَى لَيْسَ هُوَ مِنَ الْقِلَّةِ فِي كَلَامِهِمْ بِحَيْثُ لَا تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَوَاعِدُ، وَبَيَّنَّا أَنَّ ارْتِفَاعَ مِثْلِ هَذَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الِابْتِدَاءِ.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَقَدْ نَصَّ النَّاسُ عَلَى أَنَّ خَبَرَ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا وَمِنْهَا: لَيْسَ، لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ لَا اخْتِصَارًا، وَلَا اقْتِصَارًا، ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّهُ قَدْ حُذِفَ خَبَرُ لَيْسَ فِي الشِّعْرِ فِي قَوْلِهِ:
يَرْجُو جِوَارَكَ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ عَلَى طَرِيقِ الضَّرُورَةِ أَوِ النُّدُورِ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يُحْمَلُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ بَلْ: فِي الْحَجِّ، هُوَ خَبَرُ الْكُلِّ إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، يَعْنِي بِالْوَجْهَيْنِ: كَوْنِهَا بِمَعْنَى: لَيْسَ، وَكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً مَعَ: لَا، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى لَيْسَ احْتَاجَتْ إِلَى خَبَرٍ مَنْصُوبٍ، وَإِذَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً مَعَ لَا احْتَاجَتْ إِلَى أَنْ يَرْتَفِعَ الْخَبَرُ إِمَّا لِكَوْنِهَا هِيَ الْعَامِلَةَ فِيهِ الرَّفْعَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهَا مَعَ مَعْمُولِهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ
283
الْخِلَافِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ: فِي الْحَجِّ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: لِأَنَّ: لَا، إِنَّمَا تَعْمَلُ عَلَى بَابِهَا فِيمَا تَلِيهَا، وَخَبَرُهَا مَرْفُوعٌ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ مِنْ خَبَرِ الِابْتِدَاءِ، هَذَا تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ: فِي الْحَجِّ، خَبَرًا لِلْكُلِّ، إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فِي الْوَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: لَيْسَ، كَانَ خَبَرُهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يُنَاسِبُ هَذَا التَّعْلِيلَ إِلَّا كَوْنُهَا تَعْمَلُ عَمَلَ إِنَّ فَقَطْ، عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، لِأَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ يَكُونُ: فِي الْحَجِّ، في موضع رفع بلا، وَ: لَا، هِيَ الْعَامِلَةُ الرَّفْعَ، فَاخْتَلَفَ الْمُعْرِبُ عَلَى مَذْهَبِهِ، لِأَنَّ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ هِيَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقِرَاءَةَ الْفَتْحِ فِي: وَلَا جِدَالَ، هِيَ عَلَى عَمَلِ: لَا، عَمَلَ إِنَّ.
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَظَنَّ أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ: لَيْسَ، فِي نَصْبِ الْخَبَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، هَذَا الظَّنُّ صَحِيحٌ، وَهُوَ كَمَا ظَنَّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ حِينَ صَرَّحَتْ بِالْخَبَرِ عَلَى أَنَّ: لَا، بِمَعْنَى لَيْسَ أَتَتْ بِهِ مَنْصُوبًا فِي شَعْرِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ظَنَّهُ أَبُو عَلِيٍّ مِنْ نَصْبِ الْخَبَرِ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ مِنَ النُّدُورِ بِحَيْثُ لَا تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَوَاعِدُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَجَازَهُ أبو عَلَى، مِثْلِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لَا يَنْبَغِي.
السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: بَلْ هِيَ وَالِاسْمُ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ يَطْلُبَانِ الْخَبَرَ، وَ: فِي الْحَجِّ، هُوَ الْخَبَرُ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَوْكِيدٌ لِمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ مِنْ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: لَيْسَ، إِنَّمَا تَعْمَلُ فِي الِاسْمِ الرَّفْعَ فَقَطْ، وَهِيَ وَالِاسْمُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ يَكُونُ مَرْفُوعًا لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِنَصْبِ الْعَرَبِ الْخَبَرَ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: لَيْسَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ مَا قَالَهُ لَا يُمْكِنُنَا الْعِلْمُ بِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ فِي الِاسْمِ فَقَطْ إِذَا كَانَ الْخَبَرُ مَرْفُوعًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا إِلَّا صُورَةُ: لَا رَجُلٌ قَائِمٌ، وَلَا امْرَأَةٌ. فَرَجُلٌ هُنَا مُبْتَدَأٌ، وَقَائِمٌ خَبَرٌ عَنْهُ، وَهِيَ غَيْرُ عَامِلَةٍ، وَإِنَّمَا يَمْتَازُ كَوْنُهَا بِمَعْنَى لَيْسَ، وَارْتِفَاعُ الِاسْمِ بِهَا مِنْ كَوْنِهِ مُبْتَدَأً بِنَصْبِ الْخَبَرِ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى لَيْسَ، وَرَفْعِ الْخَبَرِ إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهَا مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ أَصْلًا لِرُجْحَانٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاسْمُ مُبْتَدَأً، وَالْمَرْفُوعُ بَعْدَهُ خَبَرَهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ الْأَوَّلَيْنِ بِالرَّفْعِ وَالْآخِرَ بِالنَّصْبِ لِأَنَّهُمَا حَمَلَا الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا يَكُونَنَّ رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ، وَالثَّالِثَ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ بِانْتِفَاءِ الْجِدَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا شَكَّ وَلَا خِلَافَ فِي الْحَجِّ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ
284
تُخَالِفُ سَائِرَ الْعَرَبِ، فَتَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَسَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، وَكَانُوا يُقَدِّمُونَ الْحَجَّ سَنَةً وَيُؤَخِّرُونَهُ سَنَةً، وَهُوَ النَّسِيءُ، فَرُدَّ إِلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَرُدَّ الْوُقُوفُ إِلَى عَرَفَةَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَدِ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِي الْحَجِّ.
وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الرَّفَثُ وَالْفُسُوقُ دُونَ الْجِدَالِ،
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ كَهَيْئَةِ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
، وَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْجِدَالَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ تَعَقُّبَاتٌ.
الْأَوَّلُ: تَأْوِيلُهُ عَلَى أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُمَا حَمَلَا الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ بِسَبَبِ الرَّفْعِ وَالثَّالِثَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِسَبَبِ الْبِنَاءِ، وَالرَّفْعُ وَالْبِنَاءُ لَا يَقْتَضِيَانِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْبِنَاءِ فِي أَنَّ مَا كَانَا فِيهِ كَانَ مَبْنِيًّا، وَأَمَّا أَنَّ الرَّفْعَ يَقْتَضِي النَّهْيَ، وَالْبِنَاءَ يَقْتَضِي الْخَبَرَ فَلَا، ثُمَّ قِرَاءَةُ الثَّلَاثَةِ بِالرَّفْعِ وَقِرَاءَتُهَا كُلُّهَا بِالْبِنَاءِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، غَايَةُ مَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ قِرَاءَةَ الْبِنَاءِ نَصٌّ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِرَاءَةَ الرَّفْعِ مُرَجِّحَةٌ لَهُ، فَقِرَاءَتُهُمَا الْأَوَّلَيْنِ بِالرَّفْعِ وَالثَّالِثَ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ إِنَّمَا ذَلِكَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ إِذَا لَمْ يَتَأَدَّ ذَلِكَ إِلَيْهِمَا إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الْجَائِزَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا شَكَّ وَلَا خِلَافَ فِي الْحَجِّ، وَتَرْشِيحُ ذَلِكَ بِالتَّارِيخِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مُنَاقِضٌ لِمَا شَرَحَ هُوَ بِهِ الْجِدَالَ، لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلُ: وَلَا جِدَالَ وَلَا مِرَاءَ مَعَ الرُّفَقَاءِ وَالْخَدَمِ وَالْمُكَارِينَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِي الْجِدَالِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ التَّارِيخَ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ قَوْلَانِ فِي تَفْسِيرِ: وَلَا جِدَالَ، لِلْمُتَقَدِّمِينَ.
اخْتِلَافُهُمْ: فِي الْمَوْقِفِ: لِابْنِ زَيْدٍ، وَمَالِكٍ، وَالنَّسِيءِ: لِمُجَاهِدٍ، فَجَعَلَهُمَا هُوَ شَيْئًا وَاحِدًا سَبَبًا لِلْإِخْبَارِ أَنْ لَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ.
الرَّابِعُ: قَوْلُهُ وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الرَّفَثُ وَالْفُسُوقُ دُونَ الْجِدَالِ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْجِدَالَ إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَحْظُورِ فَقَدِ انْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ:
وَلا فُسُوقَ لِعُمُومِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَكْرُوهِ وَتَرْكِ الْأَوْلَى، فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا فِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، فَلِذَلِكَ رَتَّبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ مِنَ الْمَحْظُورِ فِيهِ، الْجَائِزِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ، وَهُوَ الْجِمَاعُ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِالرَّفَثِ وَمِنَ الْمَحْظُورِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ مُطْلَقًا فِي الْحَجِّ وَفِي غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفُسُوقِ، وَجَاءَ قَوْلُهُ:
وَلَا جِدَالَ، مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْحَاجُّ، مِنْ: إِفْرَاغِ أَعْمَالِهِ لِلْحَجِّ،
285
وَعَدَمِ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُجَادَلَةِ. فَمَقْصِدُ الْآيَةِ غَيْرُ مَقْصِدِ الْحَدِيثِ، فَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ اقْتَصَرَ عَلَى الِاثْنَيْنِ.
وَقَدْ بَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَهِيَ مُرَادٌ بِهَا النَّفْيُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ إِخْبَارًا؟ أَوْ صُورَتُهَا صُورَةُ النَّفْيِ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ؟ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ نَفْيٌ، وَمَعْنَاهَا نَهْيٌ. أَيْ: فَلَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا وَلَا تُجَادِلُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ «١» أَيْ: لَا تَرْتَابُوا فِيهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَهُ الْخَبَرُ، وَيَحْتَمِلُ النَّهْيَ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ: أَنَّ حَجَّهُ لَا يَثْبُتُ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ، بَلْ يَفْسُدُ، فَهُوَ كَالضِّدِّ لَهَا وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ صِحَّتِهِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا إِنْ أُرِيدَ بِالرَّفَثِ: الْجِمَاعُ، وَالْفُسُوقِ: الزِّنَا، وَبِالْجِدَالِ: الشَّكُّ فِي الْحَجِّ وَفِي وُجُوبِهِ، لِأَنَّ الشَّكَّ فِي ذَلِكَ كُفْرٌ وَلَا يَصِحُّ مَعَهُ الْحَجُّ، وَحُمِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي حَتَّى يَصِحَّ خَبَرُ اللَّهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تُوجَدُ مَعَ الْحَجِّ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى النَّهْيِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، صَلُحَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّفَثِ: الْجِمَاعُ، وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَقَوْلُ الْفُحْشِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ جَمِيعُ أنواعهما لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِهِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَقْسَامِهِ.
وَتَكُونُ الْآيَةُ جَلِيَّةً عَلَى الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَمُشِيرَةً إِلَى قَهْرِ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، بِقَوْلِهِ:
فَلا رَفَثَ وَإِلَى قَهْرِ الْقُوَّةِ النَّفْسَانِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلا فُسُوقَ وَإِلَى قَهْرِ الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ بِقَوْلِهِ:
وَلا جِدالَ فَذَكَرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ لِأَنَّ مَنْشَأَ الشَّرِّ مَحْصُورٌ فِيهَا، وَحَيْثُ نَهَى عَنِ الْجِدَالِ حَمَلَ الْجِدَالَ عَلَى تَقْرِيرِ الْبَاطِلِ وَطَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، لَا عَلَى تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَدُعَاءِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ وَالذَّبِّ عَنْ دِينِهِ. انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ.
وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ، صُورَتُهَا صُورَةُ الْخَبَرِ، وَالْمَعْنَى عَلَى النَّهْيِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ حَقِيقَةُ الْخَبَرِ لَكَانَ الْمُؤَدِّي لِهَذَا الْمَعْنَى تَرْكِيبٌ غَيْرُ هَذَا التَّرْكِيبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ مَثَلًا: مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا جِمَاعَ لِامْرَأَتِهِ، وَلَا زِنَا بِغَيْرِهَا، وَلَا كُفْرَ فِي الصَّلَاةِ، يُرِيدُ الْخَبَرَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُفْسِدَةٌ لَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْفَصَاحَةِ فِي رُتْبَةِ قَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ مَعَ جِمَاعِ امْرَأَتِهِ وَزِنَاهُ وَكُفْرِهِ؟ فَالَّذِي يُنَاسِبُ الْمَعْنَى الْخَبَرِيَّ نَفْيُ صِحَّةِ الْحَجِّ مَعَ وُجُودِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ لَا نَفْيُهُنَّ فِيهِ، هكذا الترتيب العربي
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢، وآل عمران: ٣/ ٩ و ٢٥. والنساء: ٤/ ٨٧. والأنعام: ٦/ ١٢. ويونس: ١٠/ ٣٧.
والإسراء: ١٧/ ٩٩. والسجدة: ٣٢/ ٢. والشورى: ٤٢/ ٧. والجاثية: ٤٥/ ٢٦.
286
الْفَصِيحُ، وَإِنَّمَا أَتَى فِي النَّهْيِ بِصُورَةِ النَّفْيِ إِيذَانًا بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يَسْتَبْعِدُ الْوُقُوعَ فِي الْحَجِّ، حَتَّى كَأَنَّهُ مِمَّا لَا يُوجَدُ، وَمِمَّا لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ.
وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) أَيْضًا: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالرَّفَثِ الْجِمَاعُ فَيَكُونُ نَهْيًا عَنْ مَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْحَجِّ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ نَفْيًا لِلصِّحَّةِ مَعَ وُجُودِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحَدُّثُ مَعَ النِّسَاءِ فِي أَمْرِ الْجِمَاعِ، أَوِ الْفُحْشُ مِنَ الْكَلَامِ، فَيَكُونُ نَهْيًا لِكَمَالِ الْفَضِيلَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لَيْسَ نَفْيًا لِوُجُودِ الرَّفَثِ، بَلْ نَفْيٌ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ، فَإِنَّ الرَّفَثَ يُوجَدُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِ، وَأَخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إِلَى وُجُودِهِ مَشْرُوعًا، لَا إِلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا، كَقَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «١» وَمَعْنَاهُ مَشْرُوعًا لَا مَحْسُوسًا، فَإِنَّا نَجِدُ الْمُطَلَّقَاتِ لَا يَتَرَبَّصْنَ، فَعَادَ النَّفْيُ إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا إِلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ وَارِدٌ فِي الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَهَذِهِ الدَّقِيقَةُ الَّتِي فَاتَتِ الْعُلَمَاءَ، فَقَالُوا: إِنَّ الْخَبَرَ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ، فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً، وَيَتَبَايَنَانِ وَصْفًا انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَتَلَخَّصَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا إِخْبَارٌ بِنَفْيِ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ: الْجِمَاعُ، وَالزِّنَا، وَالْكُفْرُ.
الثَّانِي: أَنَّهَا إِخْبَارٌ بِنَفْيِ الْمَشْرُوعِيَّةِ لَا بِنَفْيِ الْوُجُودِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا إِخْبَارُ صُورَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا النَّهْيُ.
الرَّابِعُ: التَّفْرِقَةُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَبِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَالثَّالِثَ خَبَرٌ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَوَابِ الشَّرْطِ إِنْ كَانَتْ: مَنْ، شَرْطِيَّةً، وَفِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، إِنْ كَانَتْ: مَنْ، مَوْصُولَةً. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ رَابَطٍ يَرْبُطُ جُمْلَةَ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، إِذَا كَانَ الشَّرْطُ بِالِاسْمِ، وَالْجُمْلَةَ الْخَبَرِيَّةَ بِالْمُبْتَدَأِ الْمَوْصُولِ إِذَا لَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ فِي الْمَعْنَى، وَلَا رَابِطَ هُنَا مَلْفُوظٌ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مقدرا. ويحتمل وجهين.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٨.
287
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدَّرَ: مِنْهُ، بَعْدَ: وَلَا جِدَالَ، وَيَكُونُ: مِنْهُ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الرَّبْطُ كَمَا حَصَلَ فِي قَوْلِهِمُ: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ أَيْ: مَنَوَانِ مِنْهُ، وَمِنْهُ صِفَةٌ لِلْمَنَوَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ بَعْدَ الْحَجِّ، وَتَقْدِيرُهُ: فِي الْحَجِّ منه أوله، أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الرَّبْطُ.
وَلِلْكُوفِيِّينَ تَخْرِيجٌ فِي مِثْلِ هَذَا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضًا مِنَ الضَّمِيرِ، فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِي الْحَجِّ، فِي حَجِّهِ، فَنَابَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَنِ الضَّمِيرِ، وَحَصَلَ بِهَا الرَّبْطُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَرَّرَ فِي الْحَجِّ، فَقَالَ: فِي الْحَجِّ، وَلَمْ يَقُلْ: فِيهِ، جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي التَّأْكِيدِ فِي إِقَامَةِ الْمُظْهَرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ أَحْسَنُ لِبُعْدِهِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلِمَجِيئِهِ فِي جُمْلَةٍ غَيْرِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَلِإِزَالَةِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى: مَنْ، لَا عَلَى: الْحَجِّ، أَيْ: فِي فَارِضِ الْحَجِّ.
وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ النَّهْيُ، يَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي الْحَجِّ. أَمَّا الرَّفَثُ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، خَلَفًا وَسَلَفًا، أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ هُنَا الْجِمَاعُ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْآيَةِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ يُفْسِدُ الْحَجَّ، وَأَنَّ مُقَدِّمَاتِهِ تُوجِبُ الدَّمَ، إِلَّا مَا
رَوَاهُ بَعْضُ الْمَجْهُولِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: «لِلْمُحْرِمِ مِنِ امْرَأَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ».
وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَعَلَى
أَنَّ مَنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَذَهَبَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ إِلَى حِلِّ تَقْبِيلِ امرأته ومباشرتها، ويتجنب الوطئ.
وَأَمَّا الْفُسُوقُ وَالْجِدَالُ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُمَا فِي غَيْرِ الْحَجِّ، فَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ فِي الْحَجِّ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ التَّلَبُّسَ بِالْمَعَاصِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ مِنَ التَّشْهِيرِ، لِفِعْلِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، أَفْحَشُ وَأَعْظَمُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَقِّ الصَّائِمِ: «فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ؟»
وَإِلَى قَوْلِهِ وَقَدْ صَرَفَ وَجْهَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ مُلَاحَظَةِ النِّسَاءِ فِي الْحَجِّ: «إِنَّ هَذَا يَوْمٌ، مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ غُفِرَ لَهُ؟»
288
وَمَعْلُومٌ خَطَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا فُسُوقَ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُحْدِثُ لِلْحَجِّ تَوْبَةً مِنَ الْمَعَاصِي حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ هَذِهِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ نَظِيرِهَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ «١» وَخُصَّ الْخَيْرُ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، حَثًّا عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَلِأَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ فَرْضِ الْحَجِّ، وَهُوَ خَيْرٌ، وَلِأَنْ نَسْتَبْدِلَ بِتِلْكَ الْمَنْهِيَّاتِ أَضْدَادَهَا، فَنَسْتَبْدِلَ بِالرَّفَثِ الْكَلَامَ الحسن والفعل الجميل، وبالفسوق الطاعة، وبالجدال الْوِفَاقَ، وَلِأَنْ يَكْثُرَ رَجَاءُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنْ يَكُونَ وَعْدًا بِالثَّوَابِ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ: يَعْلَمْهُ اللَّهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَّرَ عَنِ الْمُجَازَاةِ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ بِالْعِلْمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يُجَازِكُمُ اللَّهُ بِهِ، أَوْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمُجَازَاةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعِلْمِ، أَيْ: يَعْلَمْهُ اللَّهُ فَيُثِيبَ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَمَا تَفْعَلُوا، الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ، وَحَمْلٌ عَلَى مَعْنَى: مَنْ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ إِفْرَادٍ إِلَى جَمْعٍ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: تَفْعَلُوا، عَنْ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ فِعْلٍ وَقَوْلٍ وَنِيَّةٍ، إِمَّا تَغْلِيبًا لِلْفِعْلِ، وَإِمَّا إِطْلَاقًا عَلَى الْقَوْلِ، وَالِاعْتِقَادِ لَفْظَ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، وَأَفْعَالُ اللِّسَانِ، وَأَفْعَالُ الْقَلْبِ، وَالضَّمِيرُ فِي: يَعْلَمْهُ، عَائِدٌ عَلَى: مَا، مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا تَفْعَلُوا، وَ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
وَقَدْ خَبَّطَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ فَقَالَ: إِنَّ: مِنْ خير، متعلق: بتفعلوا، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَا تَفْعَلُوهُ فِعْلًا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، جَزَمَ بِجَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْهَاءُ فِي: يَعْلَمْهُ اللَّهُ، يَعُودُ إِلَى خَيْرٍ انْتَهَى قَوْلُهُ.
وَلَوْلَا أَنَّهُ مُسَطَّرٌ فِي التَّفْسِيرِ لَمَا حَكَيْتُهُ، وَجِهَةُ التَّخْبِيطِ فِيهِ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ: من خير، متعلق: بتفعلوا، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفًا، فَيُنَاقِضُ هَذَا الْقَوْلَ كَوْنُ: مِنْ، يتعلق: بتفعلوا، لِأَنَّ: مِنْ، حَيْثُ تَعَلَّقَتْ بتفعلوا كان العامل غير محذوفا وَقَوْلُهُ وَالْهَاءُ تَعُودُ إِلَى خَيْرٍ خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ جَوَابٌ لِجُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ بِالِاسْمِ، فَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الِاسْمِ، أَعْنِي: اسْمَ الشَّرْطِ، وَإِذَا جَعَلْتَهَا عَائِدَةً عَلَى الْخَيْرِ عَرِيَ الْجَوَابُ عَنْ ضمير يعود على اسم الشَّرْطِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لو قلت: من
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٠٦.
289
يَأْتِنِي يَخْرُجْ خَالِدٌ، وَلَا يقدر ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ، لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ بِالْحَرْفِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ خُلُوُّ الْجُمْلَةِ مِنَ الضَّمِيرِ نَحْوَ: إِنْ تَأْتِنِي يَخْرُجْ خَالِدٌ.
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ بِغَيْرِ زَادٍ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ بِحَجِّ بَيْتِ اللَّهِ أَفَلَا يُطْعِمُنَا؟ فَيَتَوَصَّلُونَ بِالنَّاسِ، وَرُبَّمَا ظَلَمُوا وَغَصَبُوا، فَأُمِرُوا بِالتَّزَوُّدِ، وَأَنْ لَا يَظْلِمُوا أَوْ يَكُونُوا كَلًّا عَلَى النَّاسِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا أَحْرَمُوا وَمَعَهُمْ أَزْوِدَةٌ رَمَوْا بِهَا، وَاسْتَأْنَفُوا زَادًا آخَرَ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وَأُمِرُوا بِالتَّحَفُّظِ بِالزَّادِ وَالتَّزَوُّدِ.
فَعَلَى مَا رُوِيَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالتَّزَوُّدِ فِي الْأَسْفَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ مَا قَبْلَ هَذَا الْأَمْرِ وَمَا بَعْدَهُ، أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالتَّزَوُّدِ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْصِيلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَكُونُ لَهُ كَالزَّادِ إِلَى سَفَرِهِ لِلْآخِرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْلَهُ: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَمَعْنَاهُ الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ؟ وَبَعْدَهُ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَالتَّقْوَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَالْقُرْآنِ عِبَارَةٌ عَنْ مَا يُتَّقَى بِهِ النَّارُ؟ وَيَكُونُ مَفْعُولُ: تَزَوَّدُوا، مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ، وَتَزَوَّدُوا التَّقْوَى، أَوْ: مِنَ التَّقْوَى، وَلَمَّا حَذَفَ الْمَفْعُولَ أتى بخبر إن ظاهر لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ هَذَا الظَّاهِرُ، وَلَوْ لَمْ يُحْذَفِ الْمَفْعُولُ لَأَتَى بِهِ مُضْمَرًا عَائِدًا عَلَى الْمَفْعُولِ، أَوْ كَانَ يَأْتِي ظَاهِرًا تَفْخِيمًا لِذِكْرِ التَّقْوَى، وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِي التَّزَوُّدِ لِلْآخِرَةِ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا
وَقَالَ بَعْضُ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ:
فَلَوْ كَانَ حَمْدٌ يُخْلِدُ النَّاسَ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ حَمْدَ النَّاسِ لَيْسَ بِمُخْلِدِ
وَلَكِنَّ مِنْهُ بَاقِيَاتٍ وِرَاثَةً فَأَوْرِثْ بَنِيكَ بَعْضَهَا وَتَزَوَّدِ
تَزَوَّدْ إِلَى يَوْمِ الْمَمَاتِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَرِهَتْهُ النَّفْسُ آخِرُ مَوْعِدِ
وَصَعِدَ سَعْدُونُ الْمَجْنُونُ تَلًّا فِي مَقْبَرَةٍ، وَقَدِ انْصَرَفَ نَاسٌ مِنْ جِنَازَةٍ فَنَادَاهُمْ:
290
أَلَا يَا عَسْكَرَ الْأَحْيَاءِ هَذَا عَسْكَرُ الْمَوْتَى
أَجَابُوا الدَّعْوَةَ الصُّغْرَى وَهُمْ مُنْتَظِرُو الْكُبْرَى
يَحُثُّونَ عَلَى الزَّادِ وَلَا زَادَ سِوَى التَّقْوَى
يَقُولُونَ لَكُمْ جِدُّوا فَهَذَا غَايَةُ الدُّنْيَا
وَقِيلَ: أَمَرَ بِالتَّزَوُّدِ لِسَفَرِ الْعِبَادَةِ وَالْمَعَاشِ، وَزَادُهُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْمَرْكَبُ وَالْمَالُ، وَبِالتَّزَوُّدِ لِسَفَرِ الْمَعَادِ، وَزَادُهُ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الزَّادٌ خَيْرٌ مِنَ الزَّادِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّزَوُّدِ فِي أَسْفَارِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ مَفْعُولُ: تَزَوَّدُوا، مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ مَا تَكْفُونَ بِهِ وُجُوهَكُمْ مِنَ السُّؤَالِ، وَأَنْفُسَكُمْ مِنَ الظُّلْمِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: التَّقْوَى هُنَا: الْكَعْكُ وَالزَّيْتُ وَالسَّوِيقُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَمَا يُشَاكِلُ ذَلِكَ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّزَوُّدِ لِسَفَرِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّزَوُّدِ فِي السَّفَرَيْنِ، كَأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَتَزَوَّدُوا مَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ لِعَاجِلِ سَفَرِكُمْ وَآجِلِهِ.
وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَتَزَوَّدُوا الرَّفِيقَ الصَّالِحَ، إِلَّا إِنْ عَنَى بِهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، فَلَا يَبْعُدُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي الَّذِي اخْتَرْنَاهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: احْتَمَلَ قَوْلُهُ: وَتَزَوَّدُوا، الْأَمْرَيْنِ مِنْ زَادِ الطَّعَامِ وَزَادِ التَّقْوَى، فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا، إِذْ لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ عَلَى تَخْصِيصِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَذَكَرَ التَّزَوُّدَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْحَجِّ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ شَيْءٍ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فِيهِ لِمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، كَمَا نَصَّ عَلَى خَطَرِ الْفُسُوقِ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فِي غَيْرِهِ، تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، وَإِخْبَارًا أَنَّهُ فِيهِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ زَادَ التَّقْوَى خَيْرُهُمَا لِبَقَاءِ نَفْعِهِ، وَدَوَامِ ثَوَابِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَالَّذِينَ يُسَافِرُونَ بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ بِذَلِكَ مَنْ خَاطَبَهُ بِالْحَجِّ، وَعَلَى هَذَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَقَالَ: «هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ».
انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْكَامِلِينَ فِي بَابِ التَّوَكُّلِ لَا يَطْعَنُ عَلَيْهِمْ أَنْ سَافَرُوا بِغَيْرِ زَادٍ، لِأَنَّهُ
291
صَحَّ: لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوَا خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «١» وَقَدْ طَوَى قَوْمٌ الْأَيَّامَ بِلَا غِذَاءٍ، وَبَعْضُهُمُ اكْتَفَى بِالْيَسِيرِ مِنَ الْقُوتِ فِي الْأَيَّامِ ذَوَاتِ الْأَعْدَادِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْجَرْعِ مِنَ الْمَاءِ.
وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ اكْتِفَاؤُهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ شَهْرًا، وَخَرَجَ مِنْهَا وَلَهُ عُكَنٌ، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ اكْتَفَوْا أَيَّامًا كَثِيرَةً، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِتَمْرَةٍ فِي الْيَوْمِ.
فَأَمَّا خَرْقُ الْعَادَاتِ مِنْ دَوَرَانِ الرَّحَى بِالطَّحِينِ، وَامْتِلَاءِ الْفُرْنِ بِالْعَجِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَعَامٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَحَكَوْا وُقُوعَ ذَلِكَ. وَقَدْ شَرِبَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَضْلَةَ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَوَجَدَهَا سَوِيقًا، وَقَدْ صَحَّ وَثَبَتَ خَرْقُ الْعَوَائِدِ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَلَا يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ مُدَّعٍ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ كَكَثِيرٍ مِمَّنْ شَاهَدْنَاهُمْ يَدَّعُونَ، وَيُدَّعَى ذَلِكَ لَهُمْ.
وَاتَّقُونِ هَذَا أَمْرٌ بِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى اجْتِنَابِ أَشْيَاءَ فِي الْحَجِّ، وَأُمِرُوا بِالتَّزَوُّدِ لِلْمَعَادِ، وَأَخْبَرَ بِالتَّقْوَى عَنْ خَيْرِ الزَّادِ، نَاسَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى، وَالتَّحْذِيرُ مِنِ ارْتِكَابِ مَا تَحُلُّ بِهِ عُقُوبَتُهُ، ثم قال يا أُولِي الْأَلْبابِ تَحْرِيكًا لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّهُ لَا يَحْذَرُ الْعَوَاقِبَ، إِلَّا مَنْ كَانَ ذَا لُبٍّ، فَهُوَ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ، وَهُوَ الْقَابِلُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِذَا كَانَ ذُو اللُّبِّ لَا يَتَّقِي اللَّهَ، فَكَأَنَّهُ لَا لُبَّ لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا النِّدَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ «٢» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ اللُّبِّ أَنَّهُ لُبُّ مَنَاطِ التَّكْلِيفِ، فَيَكُونُ عَامًّا، لَا اللُّبُّ الَّذِي هُوَ مُكْتَسَبٌ بِالتَّجَارِبِ، فَيَكُونُ خَاصًّا، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ هُمْ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْعَرَبَ تَحَرَّجَتْ لَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَنْ يَحْضُرُوا أَسْوَاقَ الْجَاهِلِيَّةِ. كَعُكَاظَ، وَذِي الْمَجَازِ، وَمَجَنَّةَ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ لَا يَنْحَرُونَ مُذْ يُحْرِمُونَ، فَنَزَلَتْ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يُكْرَى فِي الْحَجِّ، وَأَنَّ حجه تام.
(١) سورة الطلاق: ٦٥/ ٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٧٩.
292
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، وَالْأَوْلَى جَعْلُ هَذَا تَفْسِيرًا، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ.
وَالْجُنَاحُ مَعْنَاهُ: الدَّرْكُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِثْمِ، لِأَنَّهُ فِيمَا يَقْتَضِي الْعِقَابَ، وَفِيمَا يَقْتَضِي الزَّجْرَ وَالْعِقَابَ، وَعَنَى بِالْفَضْلِ هُنَا الْأَرْبَاحَ الَّتِي تَكُونُ سَبَبَ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ مَا تَحْصُلُ عَنِ الْأَجْرِ بِالْكِرَاءِ فِي الْحَجِّ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ وَالِاكْتِسَابِ بِالْكُلِّ، وَالْإِتِّجَارِ إِذَا أَتَى بِالْحَجِّ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا مَا نُقِلَ شَاذًّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَنَّهُ سَأَلَهُ أعرابي أن أُكْرِي إِبِلِي، وَأَنَا أُرِيدُ الْحَجَّ أَفَيَجْزِينِي؟ قَالَ: «لَا، وَلَا كَرَامَةَ». وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنِ الْجِدَالِ، وَالتِّجَارَةُ قَدْ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، نَاسَبَ أَنْ يُتَوَقَّفَ فِيهَا لِأَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّ التِّجَارَةَ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقْتَ الْحَجِّ، إِذْ مَنْ يَشْتَغِلُ بِالْعِبَادَةِ يُنَاسِبُهُ أَنْ لَا يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِالْأَكْسَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا صَارَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فِي الْحَجِّ، كَانُوا بِصَدَدِ أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عِنْدَهُمْ، فَأَبَاحَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا دَرَكَ عَلَيْهِمْ فِيهِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ.
وَحَمَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ: فِيمَا بَعْدَ الْحَجِّ، وَنَظِيرُهُ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «١» فَقَاسَ: الْحَجَّ، عَلَى: الصَّلَاةِ، وَضَعُفَ قَوْلُهُ بِدُخُولِ الْفَاءِ فِي: فَإِذَا قَضَيْتُمْ، وَهَذَا فُصِّلَ بَعْدَ ابْتِغَاءِ الْفَضْلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا قَبْلَ الْإِفَاضَةِ، وَقَعَ فِي زَمَانِ الْحَجِّ. وَلِأَنَّ مَحَلَّ شُبْهَةِ الِامْتِنَاعِ هُوَ التِّجَارَةُ فِي زَمَانِ الْحَجِّ، لَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ حِلَّ التِّجَارَةِ إِذْ ذَاكَ، فَحَمْلُهُ عَلَى مَحَلِّ الشُّبْهَةِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ قِيَاسَ الْحَجِّ عَلَى الصَّلَاةِ، قِيَاسٌ فَاسِدٌ، لِاتِّصَالِ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَافْتِرَاقِ أَعْمَالِ الْحَجِّ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَفِي خِلَالِهَا يَبْقَى الْحَجُّ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ حَاجًّا، لَا يُقَالُ: حُكْمُ الْحَجِّ مستحب عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، بِدَلِيلِ حُرْمَةِ الطِّيبِ وَاللُّبْسِ وَنَحْوِهِمَا، لِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، فَهُوَ سَاقِطٌ. ونسب للياه فزان.
الْفَضْلَ هُنَا هُوَ مَا يَعْمَلُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يَرْجُو بِهِ فَضْلَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ، مِنْ إِعَانَةِ ضَعِيفٍ، وَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ، وَإِطْعَامِ جَائِعٍ وَاعْتَرَضَهُ الْقَاضِي بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَاجِبَةٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا،
(١) سورة الجمعة: ٦٣/ ١٠.
293
فَلَا يُقَالُ فِيهَا: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا يُقَالُ: فِي الْمُبَاحَاتِ وَالتِّجَارَةِ إِنْ أَوْقَعَتْ نَقْصًا فِي الطَّاعَةِ: لَمْ تَكُنْ مُبَاحَةً، وَإِنْ لَمْ تُوقِعْ نَقْصًا فَالْأَوْلَى تَرَكُهَا، فَهِيَ إِذًا جَارِيَةٌ مَجْرَى الرُّخَصِ.
وَتَقَدَّمَ إِعْرَابُ مِثْلِ: أَنْ تَبْتَغُوا، فِي قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «١» وَ: من وبكم، متعلق: بتبتغوا، وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، وَتَكُونُ صِفَةً لِفَضْلٍ.
فَتَكُونُ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَيْضًا، أَوْ لِلتَّبْعِيضِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ أَيْ:
مِنْ فُضُولِ.
فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، لِأَنَّ الْإِفَاضَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَهُ. انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ الْوُجُوبُ، إِنَّمَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْحُصُولُ فِي عَرَفَةَ، وَالْوُقُوفُ بِهَا، فَهَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ؟ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ وَالْإِجْمَاعَ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ مَشْرُوطَةٌ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ فِي عَرَفَاتٍ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَكُنْ إِيتَاءً بِالْحَجِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ شَرْطًا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَقَوْلُهُ: الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ مَشْرُوطَةٌ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ، كَلَامٌ مُبْهَمٌ، فَإِنْ عُنِيَ مَشْرُوطٌ وُجُودُهَا، أَيْ: وُجُودُ الْإِفَاضَةِ بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ، فَصَحِيحٌ، وَالْوُجُودُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنْ عُنِيَ مَشْرُوطٌ وُجُوبُهَا بِالْحُصُولِ فِي عَرَفَاتٍ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ نَقُولُ:
لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَاتَّخَذَهَا مَسْكَنًا إِلَى أَنْ مَاتَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي وَاجِبٍ إِذَا مَاتَ بِهَا، وَحَجُّهُ تَامٌّ إِذَا كَانَ قَدْ أَتَى بِالْأَرْكَانِ كُلِّهَا.
وَقَوْلُهُ: وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ، إِلَى آخِرِ الْجُمْلَةِ، مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِفَاضَةَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ مَنَعْنَا ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ فِي عَرَفَاتٍ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَ: إِذَا، لَا تَدُلُّ عَلَى تُعَيُّنِ زَمَانٍ، بَلْ تَدُلُّ عَلَى تَيَقُّنِ الْوُجُودِ أَوْ رُجْحَانِهِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ: مَتَى أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ الَّذِي تَعْتَقِبُهُ الْإِفَاضَةُ كَانَ مُجْزِيًا.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٥٨.
294
وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ زَوَالِ شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِاللَّيْلِ فَحَجُّهُ تَامٌّ، وَلَوْ أَفَاضَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَكَانَ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ، إِلَّا مَالِكًا فَقَالَ: يَبْطُلُ حَجُّهُ.
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَيَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ يَنْحَرُهُ فِي حَجِّهِ الْقَابِلِ.
وَمَنْ قَالَ: حَجُّهُ تَامٌّ، فَقَالَ الْحَسَنُ: عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَدَنَةٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: عَلَيْهِ دَمٌ.
وَلَوْ أَفَاضَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ، فَدَفَعَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ الطَّبَرَيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَحَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ: وَأَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ، مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا مَا صَدَّ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ مِنْ أَنَّ الْوُقُوفَ قَبْلَ الزَّوَالِ لا يجزىء، وَأَنَّ مَنْ أَفَاضَ نَهَارًا لا شيء عليه.
و: من، قَوْلِهِ: مِنْ عَرَفَاتٍ، لِابْتِدَاءِ الغاية، وهي تتعلق: بأفضتم، وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَقْتَضِي عُمُومَ عَرَفَاتٍ، فَمِنْ أَيِّ نَوَاحِيهَا أَفَاضَ أَجْزَأَهُ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ جَوَازَ الْوُقُوفِ، بِأَيِّ نَوَاحِيهَا وَقَفَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ عُرَنَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ. وَحَكَى الْبَاجِّيُّ، عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ:
أَنَّ عُرَنَةَ فِي الْحِلِّ، وَعُرَنَةُ فِي الْحَرَمِ، وَقِيلَ: الْجِدَارُ الْغَرْبِيُّ مِنْ مَسْجِدِ عُرَنَةَ لَوْ سَقَطَ سَقَطَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ، وَمَنْ قَالَ: بَطْنُ عُرَنَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَوْ وَقَفَ بِهَا فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ أَنَّهُ: مَنْ أَفَاضَ مِنْ عُرَنَةَ لَا حَجَّ لَهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو الْمُصْعَبِ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَى خَالِدُ بْنُ نَوَارٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ حَجَّهُ تَامٌّ. وَيُهَرِيقُ دَمًا، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا.
وَرَوَى: عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ
، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ وَأَكْثَرُ الْآثَارِ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، فَهِيَ كَظَاهِرِ الْآيَةِ.
وَكَيْفِيَّةُ الْإِفَاضَةِ أَنْ يَسِيرُوا سَيْرًا جَمِيلًا، ولا يطؤا ضَعِيفًا، وَلَا يُؤْذُوا مَاشِيًا، إِذْ
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَفَعَ من عَرَفَاتٍ أَعْنَقَ، وَإِذَا وَجَدَ فُرْجَةً نَصَّ.
وَالْعَنَقُ: سَيْرٌ سَرِيعٌ مَعَ رِفْقٍ، وَالنَّصُّ: سَيْرٌ شَدِيدٌ فَوْقَ الْعَنَقِ، قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. وَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِمَامُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ دَفَعَ النَّاسُ.
295
وَالتَّعْرِيفُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ، تَشْبِيهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ، غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَأَوَّلُ مَنْ عرّف ابن عباس بالبصر، وَعَرَّفَ أَيْضًا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ: الْحَسَنُ، وَبَكْرٌ، وَثَابِتٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ يَوْمَ عَرَفَةَ لِلْوَاقِفِينَ بِهَا، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْفِطْرُ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَصَامَهُ عُثْمَانُ بْنُ الْقَاضِي، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
أُصُومُهُ فِي الشِّتَاءِ وَلَا أَصُومُهُ فِي الصَّيْفِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الصَّوْمِ أَوْلَى، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ الْفَاءُ جَوَابُ إِذَا، وَالذِّكْرُ هُنَا الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ وَالثَّنَاءُ، أَوْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، أَوِ الدُّعَاءُ. وَهَذِهِ الصَّلَاةُ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ يَبْنِي عَلَيْهَا أَهْلُ الْأَمْرِ: أَمْرَ نَدْبٍ، أَمْ أَمْرَ وُجُوبٍ؟ وَإِذَا كَانَ الذِّكْرُ هُوَ الصَّلَاةَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمْعِ بين الصلاتين مجملا ببينة فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سُنَّةٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ. وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ:
لَا يُجْزِئُهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَعُرْوَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَ الْجَمْعُ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ.
وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ عَنِ الْإِفَاضَةِ مِمَّنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا، قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا إِذَا غَابَ الشَّفَقُ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ رَجَا أَنْ يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ ثُلُثَ اللَّيْلِ، فَلْيُؤَخِّرِ الصَّلَاتَيْنِ حَتَّى يَأْتِيَهَا، وَإِلَّا صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا.
وَهَلْ يُصَلِّيهِمَا بِإِقَامَتَيْنِ دُونَ أَذَانٍ؟ أَوْ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ لِلْمَغْرِبِ وَإِقَامَتَيْنِ؟ أَوْ بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ؟ أَوْ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لِلْأُولَى، وَبِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ لِلثَّانِيَةِ؟ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ.
الْأَوَّلُ: قَوْلُ سَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُ زُفَرَ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَابْنِ حَزْمٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَالِكٍ.
وَالرَّابِعُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يَتَطَوَّعَ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا.
296
وَالْمَشْعَرُ مَفْعَلٌ مِنْ شَعَرَ، أَيِ: الْمَعْلَمُ. وَالْحَرَامُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ أَنْ يُفْعَلَ فِيهِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ. وَهَذَا الْمَشْعَرُ يُسَمَّى: جَمْعًا، وَهُوَ مَا بَيْنَ جَبَلَيِ الْمُزْدَلِفَةِ مِنْ حَدِّ مَفْضَى عَرَفَةَ إِلَى بَطْنِ مُحَسِّرٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ وَتُسَمِّي الْعَرَبُ وَادِيَ مُحَسِّرٍ: وَادِي النَّارِ، وَلَيْسَ الْمَأْزِمَانِ وَلَا وَادِي مُحَسِّرٍ مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْمَأْزِمُ. الْمَضِيقُ، وَهُوَ مَضِيقٌ وَاحِدٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، ثَنَّوْهُ لِمَكَانِ الْجَبَلَيْنِ. وَقِيلَ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هُوَ قُزَحُ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَعَلَيْهِ الْمَيْقَدَةُ. قِيلَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ
لِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ، يَعْنِي بِالْمُزْدَلِفَةِ، بِغَلَسٍ رَكِبَ نَاقَتَهُ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَدَعَا وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ، وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ
، فَعَلَى هَذَا لم تتعرض الآية المذكور لِلذِّكْرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، لَا عَلَى أَنَّهُ الدُّعَاءُ وَلَا الصَّلَاةُ بِهَا، وَإِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عِنْدَ هَذَا الْجَبَلِ، وَهُوَ قُزَحُ الَّذِي رَكِبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا عِنْدَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ، وَوَقَفَ بَعْدَ صَلَاتِهِ الصُّبْحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِغَلَسٍ حَتَّى أَسْفَرَ، وَيَكُونُ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ التَّقْدِيرُ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَنِمْتُمْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ هُنَا الْقُرْبُ مِنْهُ، وَكَوْنُهُ يَلِيهِ.
وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، إِلَّا وَادِي مُحَسِّرٍ، وَجُعِلَتْ كُلُّهَا مَوْقِفًا لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْمَشْعَرِ، وَمُتَّصِلَةً بِهِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةُ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْحَدُّ الَّذِي ذُكِرَ مَشْعَرًا، وَوُحِّدَ لِاسْتِوَائِهِ فِي الْحُكْمِ، فَكَانَ كَالْمَكَانِ الْوَاحِدِ.
وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : هَذَا الْأَمْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَيَكْفِي فِيهِ الْمُرُورُ كَمَا فِي عَرَفَةَ، فَأَمَّا الْوُقُوفُ هُنَاكَ فَمَسْنُونٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَكَوْنُ الْوُقُوفِ مَسْنُونًا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وَاجِبٌ، فَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَوْ خَافَ الزِّحَامَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَجِّلَ بِلَيْلٍ. وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنُ، وَعَلْقَمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ فَرْضٌ، وَمَنْ فَاتَهُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَيَجْعَلُ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً.
وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى مَطْلُوبِيَّةِ الذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، لَا عَلَى الْوُقُوفِ، وَلَا عَلَى الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَبِيتَ لَيْسَ بِرُكْنٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ لَمْ يَبِتْ بِهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ أَقَامَ بِهَا أَكْثَرَ لَيْلَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، عِنْدَ مَالِكٍ. وَهُوَ
297
مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَوْ قَبْلَهُ افْتَدَى، وَالْفِدْيَةُ شَاةٌ.
وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرٍ مَخْصُوصٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَوْلَى الذِّكْرِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ كَمَا وَفَّقْتَنَا فِيهِ فَوَفِّقْنَا لِذِكْرِكَ كَمَا هَدَيْتَنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا بِقَوْلِكَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ فَإِذا أَفَضْتُمْ وَيَتْلُو إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْعُو بِمَا شَاءَ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ هُنَا هُوَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَالْحَمْدُ لَهُ، وَلَا يُرَادُ بِذِكْرِ اللَّهِ هُنَا ذِكْرُ لَفْظَةِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: اذْكُرُوا اللَّهَ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْظِيمِهِ، وَالثَّنَاءِ عليه، والمحمدة له. وعند منصوب بأذكروا، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَوَابَ: إِذَا، لَا يَكُونُ عَامِلًا فِيهَا، لِأَنَّ مَكَانَ إِنْشَاءِ الْإِفَاضَةِ غَيْرُ مَكَانِ الذِّكْرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَرَفَاتٌ، وَهَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَكَانَانِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ ضَرُورَةُ اخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاقِعًا وَقْتَ إِنْشَاءِ الْإِفَاضَةِ.
وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ هَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَكُرِّرَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، أَوْ غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَيُرَادُ بِهِ تَعَلُّقُهُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، أَيْ: وَاذْكُرُوهُ بِتَوْحِيدِهِ كَمَا هَدَاكُمْ بِهِدَايَتِهِ، أَوِ اتِّصَالُ الذِّكْرِ لِمَعْنَى: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا بَعْدَ ذِكْرٍ، قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مُحَمَّدُ بْنُ قاسم النحوي: أو الذكر الْمَفْعُولُ عِنْدَ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ غَدَاةَ جَمْعٍ، وَيُرَادُ بِالْأَوَّلِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى.
وَالْكَافُ فِي: كَمَا، لِلتَّشْبِيهِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِمَّا عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَإِمَّا عَلَى الْحَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْبَحْثُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وَالْمَعْنَى: أَوْجِدُوا الذِّكْرَ عَلَى أَحْسَنِ أَحْوَالِهِ مِنْ مُمَاثَلَتِهِ لِهِدَايَةِ الله لكم، إذا هِدَايَتُهُ إِيَّاكُمْ أَحْسَنُ مَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ، فَلْيَكُنِ الذِّكْرُ مِنَ الْحُضُورِ وَالدَّيْمُومَةِ فِي الْغَايَةِ حَتَّى تُمَاثِلَ إِحْسَانَ الْهِدَايَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا حَسَنًا كَمَا هَدَاكُمْ هدية حَسَنَةً. انْتَهَى.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَثْبَتَ هَذَا الْمَعْنَى لِلْكَافِ، فَيَكُونُ
298
التَّقْدِيرُ: كَمَا هَدَاكُمْ، أَيِ: اذْكُرُوهُ وَعَظِّمُوهُ لِلْهِدَايَةِ السَّابِقَةِ مِنْهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: كَمَا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، أَيْ: لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ، وَأَثْبَتَ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى الأخفش، وابن برهان. وَمَا، فِي: كَمَا، مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: كَهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ: مَا، كَافَّةً لِلْكَافِ عَنِ الْعَمَلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ: مَا، الْمَصْدَرِيَّةُ تَكُونُ هِيَ وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، إِذْ يَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ، والكافة لَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيهَا إِذْ لَا عَمَلَ لَهَا الْبَتَّةَ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهَا عَلَى أَنَّ: مَا، مَصْدَرِيَّةٌ لِإِقْرَارِ الْكَافِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ لَهَا مِنْ عَمَلِ الْجَرِّ، وَقَدْ مَنَعَ أَنْ تَكُونَ الكاف مكفوفة بما عَنِ الْعَمَلِ أَبُو سَعْدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الفرّ حال صَاحِبُ (الْمُسْتَوْفِي) وَاحْتَجَّ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ كَمَا النَّشْوَانُ وَالرَّجُلُ الْحَلِيمُ
أُرِيدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ
وَالْهِدَايَةُ هُنَا خَاصَّةٌ، أَيْ: بِأَنْ رَدَّكُمْ فِي مَنَاسِكَ حَجِّكُمْ إِلَى سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ، فما عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ أَنْوَاعَ الْهِدَايَاتِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَمَعْرِفَةِ مَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَشَرَائِعِهِ.
وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ إِنْ هُنَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ الَّتِي لِلتَّوْكِيدِ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَدَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ النَّاسِخِ كَمَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ. وَاللَّامُ فِي:
لَمِنَ، وَمَا أَشْبَهَهُ فِيهَا خِلَافٌ: أَهِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ لَزِمَتْ لِلْفَرْقِ؟ أَمْ هِيَ لَامٌ أُخْرَى اجْتُلِبَتْ لِلْفَرْقِ؟ وَمَذْهَبُ الفراء: في إن نحو هذا هِيَ النَّافِيَةُ بِمَعْنَى مَا، وَاللَّامُ بِمَعْنَى إِلَّا، وَذَهَبَ الكسائي إلى إِنْ: بِمَعْنَى: قَدْ، إِذَا دَخَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَتَكُونُ اللَّامُ زَائِدَةً، وَبِمَعْنَى: مَا، النَّافِيَةِ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَاللَّامُ بمعنى إلّا، ودلال هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
فَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ: تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُثْبَتَةً مُؤَكَّدَةً لَا حَصْرَ فِيهَا، وَعَلَى مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ: مُثْبَتَةً إِثْبَاتًا مَحْصُورًا، وَعَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ: مُثَبَّتَةً مُؤَكَّدَةً مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ قول البصريين.
ومن قَبْلِهِ، يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ: لَمِنَ الضَّالِّينَ، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ كُنْتُمْ ضَالِّينَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، وَمَنْ تَسْمَحُ مِنَ النَّحْوِيِّينَ فِي تَقْدِيمِ الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْعَامِلِ
299
الْوَاقِعِ صِلَةً لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَيَتَعَلَّقُ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ قَبْلِهِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الضَّالِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا.
وَالْهَاءُ فِي قَبْلِهِ، عَائِدَةٌ عَلَى الْهُدَى الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: هُدَاكُمْ، أَيْ: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ الْهُدَى لَمِنَ الضَّالِّينَ، ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى بِنِعْمَةِ الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ أَتَمُّ النِّعَمِ لِيُوَالُوا ذِكْرَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَالشُّكْرَ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِمَزِيدِ الْإِنْعَامِ، وَقِيلَ: تَعُودُ الْهَاءُ عَلَى الْقُرْآنِ، وَقِيلَ:
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ.
وَالظَّاهِرُ فِي الضَّلَالِ أَنَّهُ ضَلَالُ الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْهِدَايَةِ هِدَايَةُ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: مِنَ الضَّالِّينَ عَنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، أَوْ عَنْ تَفْصِيلِ شَعَائِرِهِ.
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الْحُمْسُ هُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ رَجَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ، وَفِي (الْجَامِعِ) لِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ عَلَى دِينِهَا، وَهُمُ الْحُمْسُ، يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، يَقُولُونَ: نَحْنُ قطان اللَّهِ، وَكَانَ مَنْ سِوَاهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْتُ فِي طَلَبِ بَعِيرٍ بِعَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا بِعَرَفَةَ مَعَ النَّاسِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ وَاقِفًا هَاهُنَا مَعَ النَّاسِ؟
وَكَانَ وُقُوفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقًا إِلَى مَا هُوَ شَرْعُ اللَّهِ وَمُرَادُهُ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدِ ابْتَدَعَتْ أَشْيَاءَ: لَا يَأْقِطُونَ الأقط، ولا يسلون السَّمْنَ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَلَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا مِنْ شَعَرٍ، وَلَا يَسْتَظِلُّونَ إِلَّا فِي بُيُوتِ الْأَدَمِ، وَلَا يَأْكُلُونَ حتى يخرجون إِلَى الْحِلِّ وَهُمْ حَرُمٌ، وَلَا يَطُوفُ الْقَادِمُ إِلَى الْبَيْتِ إِلَّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ طَافَ عُرْيَانًا، فَإِنْ طَافَ بِثِيَابِهِ أَلْقَاهَا فَلَا يَأْخُذُهَا أَبَدًا، لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَتُسَمِّي الْعَرَبُ تِلْكَ الثِّيَابَ: اللَّقِيَّ، وَسَمَحُوا لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَطُوفَ وَعَلَيْهَا دِرْعُهَا، وَكَانَتْ قَبْلُ تَطُوفُ عُرْيَانَةً، وَعَلَى فَرْجِهَا نِسْعَةٌ، حَتَّى قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَأَنْزَلَ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا «١» أَبَاحَ لَهُمْ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الوقوف بعرفة، ومن
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٣١. [.....]
300
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي نُقِلَ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ، فَيَكُونُ الْمُخَاطَبُونَ بِالْإِفَاضَةِ هُنَا قُرَيْشًا وَحُلَفَاءَهَا، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهَا، وَهُمُ الْحُمْسُ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقِيلَ: الْخِطَابُ عَامٌّ لِقُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا.
وَالْإِفَاضَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا هِيَ مِنْ عَرَفَاتٍ، إِلَّا أَنَّ: ثُمَّ، عَلَى هَذَا، تَخْرُجُ عَنْ أَصْلِ مَوْضُوعِهَا الْعَرَبِيِّ مِنْ أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ فِي زَمَانِ الْفِعْلِ السَّابِقِ، وَقَدْ قَالَ: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ ثُمَّ أَفِيضُوا الْإِفَاضَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَأُمِرُوا بِالذِّكْرِ إِذَا أَفَاضُوا، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهَا بَعْدَ ذلك بِثُمَّ الَّتِي تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ في الزَّمَانِ؟ وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِوُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّرْتِيبِ الَّذِي فِي الذِّكْرِ، لَا مِنَ التَّرْتِيبِ فِي الزَّمَانِ الْوَاقِعِ فِيهِ الْأَفْعَالُ، وَحَسَّنَ هَذَا أَنَّ الْإِفَاضَةَ السَّابِقَةَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهَا، إِنَّمَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ذِكْرُ اللَّهِ إِذَا فُعِلَتْ، وَالْأَمْرُ بِالذِّكْرِ عِنْدَ فِعْلِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: إِذَا ضَرَبَكَ زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ؟ فَلَا يكون زيدا مَأْمُورًا بِالضَّرْبِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ لْتَكُنْ تِلْكَ الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ لَا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ كَمَا تَفْعَلُهُ الْحُمْسُ، وزعم بعضهم أن: ثم، هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، لَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، فَهِيَ لِعَطْفِ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ مُقْتَطَعٍ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ: ثُمَّ، تَأْتِي بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَلَا تَرْتِيبَ.
وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ: ثُمَّ، هُنَا عَلَى أَصْلِهَا مِنَ التَّرْتِيبِ بِأَنْ جَعَلَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، فَجَعَلَ: ثُمَّ أَفِيضُوا مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ كَأَنَّهُ قِيلَ:
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْإِفَاضَةُ الْمَشْرُوطُ بِهَا، تِلْكَ الْإِفَاضَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا، لَكِنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، وَنُنَزِّهُ الْقُرْآنَ عَنْ حَمْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِجَعْلِ: ثُمَّ، لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ لَا فِي الْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّمَانِ، أَوْ بِجَعْلِ الْإِفَاضَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا هُنَا غَيْرَ الْإِفَاضَةِ الْمَشْرُوطِ بِهَا، وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِفَاضَةُ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَالْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَفِيضُوا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا: الضَّحَّاكُ، وَقَوْمٌ مَعَهُ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ مَوْقِعُ: ثُمَّ؟ قُلْتُ: نَحْوَ مَوْقِعِهَا فِي قَوْلِكَ: أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ ثُمَّ لَا تُحْسِنْ إِلَى غَيْرِ كَرِيمٍ، يَأْتِي: ثُمَّ، لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْكَرِيمِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ وَبُعْدِ
301
مَا بَيْنَهُمَا، فَكَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، قَالَ: ثُمَّ أفيضوا، التفاوت مَا بَيْنَ الْإِفَاضَتَيْنِ، وَأَنَّ أحدهما صَوَابٌ وَالثَّانِيَةُ خَطَأٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَيْسَتِ الْآيَةُ كَالْمِثَالِ الَّذِي مَثَّلَهُ، وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ أَنَّ: ثُمَّ، تُسْلَبُ التَّرْتِيبَ، وَأَنَّهَا لَهَا مَعْنًى غَيْرُهُ سَمَّاهُ بِالتَّفَاوُتِ وَالْبُعْدِ لِمَا بَعْدَهَا مِمَّا قَبْلَهَا، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْآيَةِ أَيْضًا ذِكْرُ الْإِفَاضَةِ الْخَطَأِ فَيَكُونُ: ثُمَّ، فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَفِيضُوا، جَاءَتْ لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْإِفَاضَتَيْنِ وَتَفَاوُتِهِمَا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى لثم.
وَ: مِنْ حَيْثُ، مُتَعَلِّقٌ: بأفيضوا، وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَ: حَيْثُ، هُنَا عَلَى أَصْلِهَا مِنْ كَوْنِهَا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِخْرَاجِ حَيْثُ عَنْ مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ، وَكَأَنَّهُ رَامَ أَنْ يُغَايِرَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْإِفَاضَتَيْنِ، لِأَنَّ الْأُولَى فِي الْمَكَانِ، وَالثَّانِيَةَ فِي الزَّمَانِ، وَلَا تَغَايُرَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقْتَضِي الْآخَرَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. أَعْنِي: مَكَانَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَزَمَانَهَا. فَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ جَوَابٌ عن مجيء العطف بثم.
وَ: النَّاسُ، ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي الْمُفِيضِينَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ، أَيْ عَادَتُهُمْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: النَّاسُ أَهْلُ الْيَمَنِ وَرَبِيعَةُ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْعَرَبِ دُونَ الْحُمْسِ، وَقِيلَ: النَّاسُ إِبْرَاهِيمُ وَمَنْ أَفَاضَ مَعَهُ مِنْ أَبْنَائِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَقِيلَ: إِبْرَاهِيمُ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: آدَمُ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيُّ لِأَنَّهُ أَبُو النَّاسِ وَهُمْ أَوْلَادُهُ وَأَتْبَاعُهُ، وَالْعَرَبُ تُخَاطِبُ الرَّجُلَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَهُ أَتْبَاعٌ مُخَاطَبَةَ الْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَهُ صِفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
فَأَنْتَ النَّاسُ إِذْ فِيكَ الَّذِي قَدْ حَوَاهُ النَّاسُ مِنْ وَصْفٍ جَمِيلِ
وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ جُبَيْرٍ: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، بِالْيَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ «١» وَإِطْلَاقُ النَّاسِ عَلَى: وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَقَدْ رَجَّحَ هَذَا بِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ يَدُلُّ عَلَى فَاعِلٍ مُتَقَدِّمٍ، وَالْإِفَاضَةُ إِنَّمَا صَدَرَتْ مِنْ آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَا يَلْزَمُ هَذَا التَّرْجِيحُ، لِأَنَّ: حَيْثُ، إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى جُمْلَةٍ مُصَدَّرَةٍ بِمَاضٍ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِالْمَاضِي حَقِيقَتُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(١) سورة طه: ٢٠/ ١١٥.
302
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ «١». وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ «٢» وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي حَيْثُ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ.
وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَاعِلٍ مُتَقَدِّمٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ وَاحِدًا لِأَنَّهُ قَبْلَ صُدُورِ هَذَا الْأَمْرِ بِالْإِفَاضَةِ كَانَ إِمَّا جَمِيعُ مَنْ أَفَاضَ قَبْلَ تَغْيِيرِ قُرَيْشٍ ذَلِكَ، وَإِمَّا غَيْرُ قُرَيْشٍ بَعْدَ تَغْيِيرِهِمْ مِنْ سَائِرِ مَنْ حَجَّ مِنَ الْعَرَبِ، فَالْأَوْلَى حَمْلُ النَّاسِ عَلَى جِنْسِ الْمُفِيضِينَ الْعَامِّ، أَوْ عَلَى جِنْسِهِمُ الْخَاصِّ.
وَقَدْ رَجَّحَ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَرَبِيعَةُ بِحَجِّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ، حِينَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ إِلَى عَرَفَاتٍ فَيَقِفَ بِهَا، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَفَاضَ بِالنَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ جميعا، فَيَبِيتَ بِهَا، فَتَوَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَمَرَّ بِالْحُمْسِ وَهُمْ وُقُوفٌ بِجَمْعٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيُجَاوِزَهُمْ قَالَتْ لَهُ الْحُمْسُ: يَا أَبَا بَكْرٍ: أَيْنَ تُجَاوِزُنَا إِلَى غَيْرِنَا؟
هَذَا مَوْقِفُ آبَائِكَ! فَمَضَى أَبُو بَكْرٍ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَاتٍ، وَبِهَا أَهْلُ الْيَمَنِ وَرَبِيعَةُ. وَهَذَا تَأْوِيلُ قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فَوَقَفَ بِهَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَفَاضَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَوَقَفَ بِهَا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَفَاضَ مِنْهُ.
وَقِرَاءَةُ ابْنِ جُبَيْرٍ: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِي، بِالْيَاءِ، قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ، وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ شَرْعٌ قَدِيمٌ، وَفِيهَا تَذْكِيرٌ يُذَكِّرُ عَهْدَ اللَّهِ وَأَنْ لَا يَنْسَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُؤَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِي آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِي فِي قِرَاءَةِ سَعِيدٍ مَعْنَاهُ التَّارِكُ، أي: للوقوف بمزدلفة، أو لا، وَيَكُونُ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، إِذِ النَّاسِي يُرَادُ بِهِ التَّارِكُ لِلشَّيْءِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يُفِيضُوا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي يُفِيضُ مِنْهَا مَنْ تَرَكَ الْإِفَاضَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَأَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيَكُونُ النَّاسِي يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالْإِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ أَفَاضُوا، هُمُ التَّارِكُونَ لِلْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالْجَاعِلُونَ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ عَلَى سُنَنِ مَنْ سَنَّ الْحَجَّ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِخِلَافِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِفَاضَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَقِفُوا بِعَرَفَاتٍ فَيُفِيضُوا مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ حَذْفُ الْيَاءِ، فَيَقُولُ: النَّاسِ، كَالْقَاضِ والهاد،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٤٩ و ١٥٠.
303
قَالَ: أَمَّا جَوَازُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُ جَوَازِهِ مَقْرُوءًا بِهِ فَلَا أَحْفَظُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَقَوْلُهُ: أَمَّا جَوَازُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مُطْلَقًا، وَلَمْ يُجِزْهُ سِيبَوَيْهِ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَأَجَازَهُ الْفَرَّاءُ فِي الْكَلَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَمَّا جوازه مقروءا به فلا أَحْفَظُهُ، فَكَوْنُهُ لَا يَحْفَظُهُ قَدْ حَفِظَهُ غَيْرُهُ.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَهْدَوِيُّ: أَفَاضَ النَّاسِي بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا: النَّاسِ بِالْكَسْرِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ. انْتَهَى قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَهْدَوِيِّ.
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي مُوَاطِنِ مَظِنَّةِ الْقَبُولِ، وَأَمَاكِنِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ طَلَبُ الْغُفْرَانِ مِنَ اللَّهِ بِاللِّسَانِ مَعَ التَّوْبَةِ بِالْقَلْبِ، إِذِ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ دُونَ التَّوْبَةِ بِالْقَلْبِ غَيْرُ نَافِعٍ، وَأُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ، كَمَنْ بَلَغَ قُبَيْلَ الْإِحْرَامِ وَلَمْ يُقَارِفْ ذَنْبًا وَأَحْرَمَ، فَيَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ مِثْلِ هَذَا لِأَجْلِ أَنَّهُ رُبَّمَا صَدَرَ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالِاحْتِرَازِ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّهُ لَيْسَ طَلَبُ غُفْرَانٍ مِنْ ذَنْبٍ خَاصٍّ، بَلْ طَلَبُ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمْرٌ بِطَلَبِ غُفْرَانٍ خَاصٍّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ مِمَّا كَانَ مِنْ مُخَالَفَتِكُمْ فِي الْوُقُوفِ وَالْإِفَاضَةِ، فَإِنَّهُ غَفُورٌ لَكُمْ، رَحِيمٌ فِيمَا فَرَّطْتُمْ فِيهِ فِي حِلِّكُمْ وَإِحْرَامِكُمْ، وَفِي سَفَرِكُمْ وَمَقَامِكُمْ. وَفِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ عَقِبَ الْإِفَاضَةِ، أَوْ مَعَهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَذَلِكَ الْمَكَانَ الْمُفَاضَ مِنْهُ، وَالْمَذْهُوبَ إِلَيْهِ مِنْ أَزْمَانِ الْإِجَابَةِ وَأَمَاكِنِهَا، وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، إِلَّا التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَامْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ» فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ جَمْعٍ خَطَبَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ، فَعَوَّضَ التَّبِعَاتِ مِنْ عِنْدِهِ».
وَأَخْرَجَ أَبُو عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (التَّمْهِيدِ) ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِحُجَّاجِ بَيْتِهِ مَلَائِكَتَهُ، وَأَنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَأَنَّهُ ضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ.
وَ: اسْتَغْفَرَ، يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، الثَّانِي مِنْهُمَا بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ مِنْ: فُعُولٍ، اسْتَغْفَرْتُ الله من الذنب، وهو الْأَصْلُ، وَيَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ: مِنْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
304
تَقْدِيرُهُ: مِنْ ذَنْبٍ، وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الطَّرَاوَةِ إِلَى أَنَّ: اسْتَغْفَرَ، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا إِلَى مَفْعُولَيْنِ صَرِيحَيْنِ، وَأَنَّ قَوْلَهُمُ: اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنَ الذَّنْبِ، إِنَّمَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّضْمِينِ، كَأَنَّهُ قَالَ: تُبْتُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الذَّنْبِ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَنَقْلِهِ عَنِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَحُذِفَ هُنَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلْعِلْمِ بِهِ، ولم يجىء فِي الْقُرْآنِ مُثْبَتًا، لَا مَجْرُورًا بِمِنْ، وَلَا مَنْصُوبًا، بِخِلَافِ: غَفَرَ، فَإِنَّهُ تَارَةً جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَذْكُورًا مَفْعُولُهُ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ «١» وَتَارَةً مَحْذُوفًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَجَاءَ: اسْتَغْفَرَ، أَيْضًا مُعَدًّى بِاللَّامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ «٢» وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ «٣» وَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ، وَاللَّهَ أَعْلَمُ، لَامُ الْعِلَّةِ، وَأَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَاسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ، كَاسْتَوْهَبَ وَاسْتَطْعَمَ وَاسْتَعَانَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا اسْتَفْعَلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «٤».
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذَا كَالسَّبَبِ فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَثِيرُ الْغُفْرَانِ، كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَأَكْثَرُ بِنَاءِ: فَعُولٍ، مِنْ: فَعَلَ، نَحْوَ:
غَفُورٍ، وَصَفُوحٍ، وَصَبُورٍ، وَشَكُورٍ، وَضَرُوبٍ، وَقَتُولٍ، وَتَرُوكٍ، وَهَجُومٍ، وَعَلُوكٍ، وَأَكْثَرُ بِنَاءِ: فَعِيلٍ، مِنْ فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ نَحْوَ: رَحِيمٍ، وَعَلِيمٍ، وَحَفِيظٍ، وَسَمِيعٍ، وَقَدْ يَتَعَارَضَانِ.
قَالُوا: رَقَبَ فَهُوَ رَقِيبٌ، وَقَدَرَ فَهُوَ قَدِيرٌ، وَجَهِلَ فَهُوَ جَهُولٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ هَذِهِ الْجُمَلِ، أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ يُعَادُ بِلَفْظِهِ بَعْدَ: إِنَّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُطْلَقَ الْغُفْرَانُ وَالرَّحْمَةُ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمَغْفِرَةَ الْمَوْعُودَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَالْأَوْلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْمَوْسِمِ تَفَاخَرُوا بِآبَائِهِمْ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: كَانَ يَقْرِي الضَّيْفَ، وَيَضْرِبُ بِالسَّيْفِ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيَنْحَرُ الجزور، ويفك العاني، ويجر النَّوَاصِيَ، وَيَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا. فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا إِذَا حَدَّثُوا أَقْسَمُوا بِالْآبَاءِ، فيقولون. وأبيك، فنزلت.
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٣٥.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٣٥.
(٣) سورة غافر: ٤٠/ ٥٥ ومحمد: ٤٧/ ١٩.
(٤) سورة الفاتحة: ١/ ٥.
305
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا إِذَا قَضَوُا الْمَنَاسِكَ وَأَقَامُوا بِمِنًى يَقُومُ الرَّجُلُ وَيَسْأَلُ اللَّهَ فَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْجَفْنَةِ، كَثِيرَ الْمَالِ فَأَعْطِنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ! لَيْسَ يَذْكُرُ اللَّهَ، إِنَّمَا يَذْكُرُ أَبَاهُ وَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهُ فِي دُنْيَاهُ، وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَبُو وَائِلٍ، وَابْنُ زَيْدٍ، فَنَزَلَتْ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ، أَيْ أَدَّيْتُمْ وَفَرَغْتُمْ. كَقَوْلِهِ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ «١» أَيْ: أُدِّيَتْ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْقَضَاءِ عَنْ مَا يُفْعَلُ مِنَ الْعِبَادَاتِ خَارِجَ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ، وَالْقَضَاءُ إِذَا عُلِّقَ عَلَى فِعْلِ النَّفْسِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِتْمَامُ وَالْفَرَاغُ، كَقَوْلِهِ: وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا وَإِذَا عُلِّقَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِلْزَامُ، كَقَوْلِهِ: قَضَى الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْفَرَاغُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، كَقَوْلِكَ: إِذَا حَجَجْتَ فَطُفْ وَقِفْ بِعَرَفَةَ، فَلَا نَعْنِي بِالْقَضَاءِ الْفَرَاغَ مِنَ الْحَجِّ، بَلِ الدُّخُولَ فِيهِ، وَنَعْنِي بِالذِّكْرِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ بِعَرَفَاتٍ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَإِذَا شَرَعْتُمْ فِي قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، أَيْ: فِي أَدَائِهَا فَاذْكُرُوا. وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْفَرَاغُ مِنَ الْمَنَاسِكِ لَا الشُّرُوعُ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَجِيءُ الْفَاءِ فِي: فَإِذَا، بَعْدَ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ.
وَالْمَنَاسِكُ هِيَ مَوَاضِعُ الْعِبَادَةِ، فَيَكُونُ هَذَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: أَعْمَالَ مَنَاسِكِكُمْ، أَوِ الْعِبَادَاتُ نَفْسُهَا الْمَأْمُورُ بِهَا فِي الْحَجِّ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوِ الذبائح وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
فَاذْكُرُوا اللَّهَ: هَذَا جَوَابُ: إذ، وَالْمَعْنَى: إِذَا فَرَغْتُمْ مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَنَفَرْتُمْ مِنْ مِنًى، فَعَظِّمُوا اللَّهَ وَأَثْنُوا عَلَيْهِ إِذْ هَدَاكُمْ لِهَذِهِ الطَّاعَةِ، وَسَهَّلَهَا وَيَسَّرَهَا عَلَيْكُمْ، حَتَّى أَدَّيْتُمْ فَرْضَ رَبِّكُمْ وَتَخَلَّصْتُمْ مِنْ عُهْدَةِ هَذَا الْأَمْرِ الشَّاقِّ الصَّعْبِ الَّذِي لَا يُبْلَغُ إِلَّا بِالتَّعَبِ الْكَثِيرِ، وَانْهِمَاكِ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَقِيلَ: الذِّكْرُ هُنَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَقِيلَ: هُوَ التَّكْبِيرَاتُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقِيلَ: بَلِ الْمَقْصُودُ تَحْوِيلُهُمْ عَنْ ذِكْرِ آبَائِهِمْ إِلَى ذِكْرِهِ تَعَالَى كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ تَقَدَّمَ هَذَا هُوَ ذِكْرُ مَفَاخِرِهِمْ، أَوِ السُّؤَالُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْطَى آبَاءَهُمْ، أَوِ الْقَسَمُ بِآبَائِهِمْ، وقيل: ذكر آباءهم فِي حَالِ الصِّغَرِ، وَلَهْجُهُ بِأَبِيهِ يَقُولُ: أَبَةِ أَبَةِ، أَوَّلَ مَا يَتَكَلَّمُ. وَقِيلَ: مَعْنَى الذِّكْرِ هُنَا الْغَضَبُ لِلَّهِ كَمَا تَغْضَبُ لِوَالِدَيْكَ إِذَا سُبَّا، قَالَهُ أَبُو الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ قرأ:
(١) سورة الجمعة: ٦٢/ ١٠.
306
كَذِكْرِكُمْ آبَاؤُكُمْ، بِرَفْعِ الْآبَاءِ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَرَأَ: أَبَاكُمْ، عَلَى الْإِفْرَادِ، وَوَجْهُ الرَّفْعِ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، التَّقْدِيرُ: كَمَا يَذْكُرُكُمْ آبَاؤُكُمْ. وَالْمَعْنَى: ابْتَهِلُوا بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْهَجُوا بِهِ كَمَا يَلْهَجُ الْمَرْءُ بِذِكْرِ ابْنِهِ. وَوَجْهُ الْإِفْرَادِ أَنَّهُ اسْتُغْنِيَ بِهِ عَنِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ يُفْهَمُ الْجَمْعُ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَبٌ وَاحِدٌ، بَلْ آبَاءٌ.
وَ: أَوْ، هُنَا قِيلَ: لِلتَّخْيِيرِ، وَقِيلَ: لِلْإِبَاحَةِ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى بَلْ أَشَدَّ، جَوَّزُوا فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهًا اضْطُرُّوا إِلَيْهَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذِكْرًا بَعْدَ أَشَدَّ تَمْيِيزًا بَعْدَ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَلَا يُمْكِنُ إِقْرَارُهُ تميزا إِلَّا بِهَذِهِ التَّقَادِيرِ الَّتِي قَدَّرُوهَا، وَوَجْهُ إِشْكَالِ كَوْنِهِ تَمْيِيزًا أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ إِذَا انْتَصَبَ مَا بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ الَّذِي قَبْلَهُ، تَقُولُ: زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهًا، لِأَنَّ الْوَجْهَ لَيْسَ زَيْدًا فَإِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ انْخَفَضَ نَحْوُ زَيْدٌ أَفْضَلُ رَجُلٍ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّرْكِيبُ فِي مِثْلِ: اضْرِبْ زَيْدًا كضرب عمر وخالدا أَوْ أَشَدَّ ضَرْبٍ، بِالْجَرِّ لا بالنصب، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جِنْسِ مَا قَبْلَهُ، فَجَوَّزُوا إِذْ ذَاكَ النَّصْبَ عَلَى وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَوْضِعِ الْكَافِ فِي: ذِكْرِكُمْ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أشد، وجعلوا الذكر ذكرا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، كَمَا قالوا: شاعر شعر، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَابْنُ جِنِّي.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى آبَائِكُمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: بِمَعْنَى أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا مِنْ آبَائِكُمْ، عَلَى أَنَّ ذِكْرًا مِنْ فِعْلِ الْمَذْكُورِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ قَلِقٌ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّكَ إِذَا عَطَفْتَ أَشَدَّ عَلَى آبَائِكُمْ كَانَ التَّقْدِيرُ: أَوْ قَوْمًا أَشَدَّ ذِكْرًا مِنْ آبَائِكُمْ، فَكَانَ الْقَوْمُ مَذْكُورِينَ، وَالذِّكْرُ الَّذِي هُوَ تَمْيِيزٌ بَعْدَ أَشَدَّ هُوَ مِنْ فِعْلِهِمْ، أَيْ مِنْ فِعْلِ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ، لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ أَفْعَلِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلْقَوْمِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ آبَائِكُمْ أَيْ: مِنْ ذِكْرِكُمْ لِآبَائِكُمْ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلِ الْكَوْنِ. وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى. التَّقْدِيرُ: أَوْ كُونُوا أَشَدَّ ذِكْرًا لَهُ مِنْكُمْ لِآبَائِكُمْ. وَدَلَّ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْنَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كُونُوا ذَاكِرِيهِ.
قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: قَالَ: وَهَذَا أَسْهَلُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ، يَعْنِي فِي أَنْ يُجْعَلَ لِلذِّكْرِ ذِكْرٌ فِي قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ جِنِّي.
وَجَوَّزُوا الْجَرَّ فِي أَشَدِّ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى: ذكركم،
307
الزَّجَّاجُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُمَا. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَوْ كَذِكْرٍ أَشَدِّ ذِكْرًا، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ قَدْ جُعِلَ لِلذِّكْرِ ذِكْرٌ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْمَصْدَرِ فِي: كَذِكْرِكُمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ مَا نَصُّهُ: أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، عُطِفَ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ الذِّكْرُ فِي قَوْلِهِ: كَذِكْرِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: كَذِكْرِ قُرَيْشٍ آبَاءَهُمْ أَوْ قَوْمٍ أَشَدِّ مِنْهُمْ ذِكْرًا، وَفِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، فَهِيَ خَمْسَةُ وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْرَابِ كُلُّهَا ضَعِيفٌ، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا يُمَاثِلُ ذكر آبَائَهُمْ أَوْ أَشُدَّ، وَقَدْ سَاغَ لَنَا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِتَوْجِيهٍ وَاضِحٍ ذَهَلُوا عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ: أَشَدَّ، مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: ذِكْرًا لَوْ تَأَخَّرَ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، كَقَوْلِهِمْ.
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ فَلَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ: لِمَيَّةَ طَلَلٌ مُوحِشٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَأَخَّرَ هَذَا لَكَانَ: أَوْ ذِكْرًا أَشَدَّ، يَعْنِي:
مِنْ ذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ: أَوْ ذِكْرًا أَشَدَّ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ الْكَافِ مِنْ:
كَذِكْرِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرًا مَصْدَرًا، لِقَوْلِهِ: فَاذْكُرُوا كَذِكْرِكُمْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ: نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمَا فَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ: أَوْ أَشَدَّ، مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ الْكَافِ حَالًا مَعْطُوفَةً عَلَى حَالٍ، وَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ: أَضْرِبُ مِثْلَ ضَرْبِ فُلَانٍ ضَرْبًا، التَّقْدِيرُ ضَرْبًا مِثْلَ ضَرْبِ فُلَانٍ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، وَحَسَّنَ تَأَخُّرَهُ أَنَّهُ كَالْفَاصِلَةِ فِي جِنْسِ الْمَقْطَعِ. وَلَوْ تَقَدَّمَ لَكَانَ: فَاذْكُرُوا ذِكْرًا كَذِكْرِكُمْ، فَكَانَ اللَّفْظُ يَتَكَرَّرُ، وَهُمْ مِمَّا يَجْتَنِبُونَ كَثْرَةَ التَّكْرَارِ لِلَّفْظِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِحُسْنِ الْقَطْعِ، تَأَخَّرَ.
لَا يُقَالُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَهُوَ: أَوْ، وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ الَّذِي هُوَ: ذِكْرًا، بِالْحَالِ الَّذِي هُوَ: أَشَدَّ، وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا جَازَ ذَلِكَ فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْصُولُ بِهِ قَسَمًا أَوْ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا، وَأَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْعَطْفِ عَلَى أَزْيَدَ مِنْ حَرْفٍ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الشَّرْطُ الْآخَرُ، وَهُوَ كَوْنُ الْحَرْفِ عَلَى أَزْيَدَ مِنْ حَرْفٍ، وَفُقِدَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْمَفْصُولَ بِهِ لَيْسَ بِقَسَمٍ وَلَا ظَرْفٍ وَلَا مَجْرُورٍ، بَلْ هُوَ حَالٌ، لِأَنَّ الْحَالَ هِيَ مَفْعُولٌ فِيهَا فِي الْمَعْنَى، فَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْحَرْفِ، فَيَجُوزُ فِيهَا مَا جَازَ فِي الظَّرْفِ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ جَعْلِ: ذِكْرًا، تَمْيِيزًا لِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ فِي الْمَعْنَى، فَيَكُونُ: لِلذِّكْرِ
308
ذِكْرٌ بِأَنْ يَنْصِبَهُ عَلَى مَحَلِّ الْكَافِ، أَوْ يَجُرَّهُ عَطْفًا عَلَى ذِكْرِ الْمَجْرُورِ بِالْكَافِ، أَوِ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ فِي الْمَعْنَى لِلذِّكْرِ بِأَنْ يَنْصِبَهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: كُونُوا أَشَدَّ، أَوْ لِلذَّاكِرِ الذِّكْرَ، وَبِأَنْ يَنْصِبَهُ عَطْفًا عَلَى: آبَاءَكُمْ، أَوْ لِلذِّكْرِ الْفَاعِلِ بِأَنْ يَجُرَّهُ عَطْفًا عَلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ الذِّكْرُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْأَوْجُهِ مِنَ الضَّعْفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهَا.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا قَالُوا: بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ الذَّاكِرِينَ لَهُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَحَالَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ، وَعِلْمَهُمْ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ لِلْمَأْمُورِينَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمَنَاسِكِ، وَأَنَّهُمْ يَنْقَسِمُونَ فِي السُّؤَالِ إِلَى مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ حُبُّ الدُّنْيَا، فَلَا يَدْعُو إِلَّا بِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو بِصَلَاحِ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ. وَلَوْ جَاءَ عَلَى الْخِطَابِ لَكَانَ: فَمِنْكُمْ مَنْ يَقُولُ: وَمِنْكُمْ.
وَحِكْمَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ أَنَّهُمْ مَا وَجَّهُوا بِهَذَا الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْلُكَهُ عَاقِلٌ، وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الدُّنْيَا، فَأُبْرِزُوا فِي صُورَةِ أَنَّهُمْ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ بِذِكْرِ اللَّهِ بِأَنْ جُعِلُوا فِي صُورَةِ الْغَائِبِينَ، وَهَذَا مِنَ التَّقْسِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ ضُرُوبِ الْبَيَانِ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ بَدِيعٌ يَحْصُرُهُ الْمُقَسِّمُ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، لَا عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الصُّوفِيَّةَ مِنْ أَنَّ ثَمَّ قِسْمًا ثَالِثًا لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ تَعَالَى، قَالُوا: وَهُمُ الرَّاضُونَ بِقَضَائِهِ، الْمُسْتَسْلِمُونَ لِأَمْرِهِ، السَّاكِتُونَ عَنْ كُلِّ دُعَاءٍ، وَافْتِشَاءٍ، وَمَفْعُولُ آتِنَا الثَّانِي مَحْذُوفٌ، تقديره: ما تريد، أَوْ: مَطْلُوبَنَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ.
هَذَا وَجَعْلُ فِي زَائِدَةً، وَتَكُونُ الدُّنْيَا الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ قَوْلٌ سَاقِطٌ، وَكَذَلِكَ جَعْلُ فِي بِمَعْنَى: مِنْ، حَتَّى يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَحَذْفُ مَفْعُولَيْ آتَى، وَأَحَدِهِمَا جَائِزٌ اخْتِصَارًا وَاقْتِصَارًا، لِأَنَّ هَذَا بَابُ: أَعْطَى، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ.
وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ «١» وَاحْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ هُنَا مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى الدُّنْيَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِخْبَارًا عَنِ الدَّاعِي بِأَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ طَلَبِ نَصِيبٍ، فَيَكُونُ هَذَا كَالتَّوْكِيدِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا، وَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَلَوْ جَرَى عَلَى لَفْظِ مَنْ، لَكَانَ: رَبِّ آتِنِي. وَرُوعِيَ الْجَمْعُ هُنَا لِكَثْرَةِ مَنْ يَرْغَبُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى مَطَالِبِ الدُّنْيَا وَنَيْلِهَا، وَلَوْ أَفْرَدَ لَتُوُهِّمَ أن ذلك قليل.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٠٢.
309
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً الْحَسَنَةُ: مُطْلَقَةٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سَأَلُوا اللَّهَ فِي الدُّنْيَا الْحَالَةَ الْحَسَنَةَ، وَقَدْ مَثَّلَ الْمُفَسِّرُونَ ذَلِكَ
بِأَنَّهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، قَالَهُ عَلِيٌّ.
أَوِ: الْعَافِيَةُ فِي الصِّحَّةِ وَكَفَافُ الْمَالِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوِ: الْعِلْمُ، أَوِ الْعِبَادَةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. أَوِ:
الْمَالُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَابْنُ زَيْدٍ. أَوِ: الرِّزْقُ الْوَاسِعُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَوِ: النِّعْمَةُ فِي الدُّنْيَا، قَالَهُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ، أَوِ الْقَنَاعَةُ بِالرِّزْقِ، أَوِ: التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ، أَوِ: الْأَوْلَادُ الْأَبْرَارُ، أَوِ:
الثَّبَاتُ عَلَى الْإِيمَانِ، أَوْ: حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ، أَوِ: اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، أَوْ: ثَنَاءُ الْخَلْقِ، أَوِ: الصحة والأمن والكفاية وَالنُّصْرَةُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، أَوِ: الْفَهْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. أَوْ: صُحْبَةُ الصَّالِحِينَ، قَالَهُ جَعْفَرٌ. وَعَنِ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَلِكَ مُثُلٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً مَثَّلُوا حَسَنَةَ الْآخِرَةِ بِأَنَّهَا الْجَنَّةُ، أَوِ الْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ وَالسَّلَامَةُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَسُوءِ الْحِسَابِ، أَوِ النِّعْمَةُ، أَوِ الْحُورُ الْعِينُ، أَوْ تَيْسِيرُ الْحِسَابِ، أَوْ مُرَافَقَةُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ لَذَّةُ الرُّؤْيَةِ، أَوِ الرِّضَا، أَوِ اللِّقَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ الْحَسَنَةُ بِإِجْمَاعٍ.
قِيلَ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَتَانِ هُمَا الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الَّذِي زَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، وَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَمَّا كَانَ يَدْعُو بِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا تَعْجِيلَ مَا يُعَاقِبُهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: «لَا تَسْتَطِيعُهُ» وَقَالَ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ محصيه رَبُّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
«هَلَّا قُلْتَ اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا » إِلَى آخِرِهِ. فَدَعَا بِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى فَشَفَاهُ.
وَصَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مَا كَانَ يَدْعُو بِهِ، وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ يَأْمُرُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ دُعَاءِ الْمُسْلِمِ فِي الْمَوْقِفِ.
وَأَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا فِي الْمَوْسِمِ عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ عَلِيٌّ، وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ وَأَنَسٌ سُئِلَ الدُّعَاءَ فَدَعَا بِهَا، ثُمَّ سُئِلَ الزِّيَادَةَ فَأَعَادَهَا، ثُمَّ سُئِلَ الزِّيَادَةَ فَقَالَ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَدْ سَأَلْتُ اللَّهَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً: الْوَاوُ فِيهَا لِعَطْفِ شَيْئَيْنِ عَلَى شَيْئَيْنِ، فَعَطَفَتْ فِي الْأَخَرَةِ حَسَنَةً، عَلَى: الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَالْحَرْفُ قَدْ يَعْطِفُ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ، تَقُولُ:
أَعْلَمْتُ زَيْدًا أَخَاكَ مُنْطَلِقًا وَعَمْرًا أَبَاهُ مُقِيمًا، إِلَّا إِنْ نَابَ عَنْ عَامِلَيْنِ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَفِي الْجَوَازِ تَفْصِيلٌ. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ بِالظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ، فَأَجَازَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلَى ضِعْفِ مَذْهَبِ الْفَارِسِيِّ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ
310
بِالشِّعْرِ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، بَلْ مِنْ عَطْفِ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ فِيهِ خِلَافُ أَبِي عَلِيٍّ هُوَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا وَفِي الدَّارِ عَمْرًا، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ضَعْفِ مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ «١» وَبِقَوْلِهِ:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «٢» وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَقِنا عَذابَ النَّارِ هُوَ سُؤَالٌ بِالْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ: أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا، وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: الْمَرْأَةُ السُّوءُ الكثيرة الشر.
وقال القيثري: وَاللَّامُ فِي النَّارِ لَامُ الْجِنْسِ، فَتَحْصُلُ الِاسْتِعَاذَةُ عَنْ نِيرَانِ الْحُرْقَةِ وَنِيرَانِ الْفُرْقَةِ. انْتَهَى.
وَظَاهِرُ هَذَا الدُّعَاءِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَلَوْ آخِرَ النَّاسِ، صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ: أُوتِيَ فِي الآخرة حسنة، قد دَعَوُا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكُونُوا مَعَ دُخُولِ الْجَنَّةِ يَقِيهِمْ عَذَابَ النَّارِ، فَكَأَنَّهُ دُعَاءٌ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ أَوَّلًا دُونَ عَذَابٍ، وَأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ مِمَّنْ يُدْخَلُ النَّارَ بِمَعَاصِيهِمْ وَيُخْرَجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا لِطَلَبِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ.
إِنَّمَا أَقُولُ فِي دُعَائِي: اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، وَعَافِنِي مِنَ النَّارِ، وَلَا أَدْرِي مَا دَنْدَنَتُكَ وَلَا دَنْدَنَةُ مُعَاذٍ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ».
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا تَقَدَّمَ انْقِسَامُ النَّاسِ إِلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ اقْتَصَرَ فِي سُؤَالِهِ عَلَى دُنْيَاهُ، وَفَرِيقٌ أَشْرَكَ فِي دُنْيَاهُ أُخْرَاهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ: أُولَئِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، إِذِ الْمَحْكُومُ بِهِ، وَهُوَ كَوْنُ: نَصِيبٍ لَهُمْ مِمَّا كَسَبُوا، مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ لَهُ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شرا فشر. وَلَا يَكُونُ الْكَسْبُ هُنَا الدُّعَاءَ، بَلْ هَذَا مُجَرَّدُ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَنَّ أَنْصِبَاءَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ تَابِعَةٌ لِأَكْسَابِهِمْ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَسْبِ هُنَا الدُّعَاءُ، أَيْ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نُصِيبٌ مِمَّا دَعَا بِهِ. وَسُمِّيَ الدُّعَاءُ كَسْبًا لِأَنَّهُ عَمَلٌ، فَيَكُونُ ذلك ضمانا للإجابة ووعدا مِنْهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُعْطِي كلّا منه نصيبا
(١) سورة الملك: ٦٧/ ٣.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٥٨.
311
مِمَّا اقْتَضَاهُ دُعَاؤُهُ، إِمَّا الدُّنْيَا فَقَطْ، وَإِمَّا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ «١» ومَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ «٢» ومَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها «٣» الْآيَاتِ.
وَكَمَا جَاءَ
فِي الصَّحِيحِ: وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطَعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا مَا عَمِلَ الله بِهَا، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا.
وَفِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ فِيهِ وَعْدٌ بِالْإِجَابَةِ.
وَ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِمَّا كَسَبُوا، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: نَصِيبٌ مِنْ جِنْسِ مَا كَسَبُوا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلسَّبَبِ، وَ: مَا، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً لِمَعْنَى الَّذِي أَوْ مَوْصُولَةً مَصْدَرِيَّةً أَيْ: مِنْ كَسْبِهِمْ، وَقِيلَ: أُولَئِكَ، مُخْتَصٌّ بِالْإِشَارَةِ إِلَى طَالِبِي الْحَسَنَتَيْنِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهَ. وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِإِزَائِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَدَ عَلَى كَسْبِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي صِيغَةِ الْإِخْبَارِ الْمُجَرَّدِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُولَئِكَ الدَّاعُونَ بِالْحَسَنَتَيْنِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ جِنْسِ مَا كَسَبُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ الَّذِي هُوَ مَنَافِعُ الْحَسَنَةِ، أَوْ مِنْ أَجْلِ مَا كَسَبُوا، كَقَوْلِهِ: مِمَّا خَطَايَاهُمْ أُغْرِقُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، وَأَنَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ نَصِيبًا مِنْ جِنْسِ مَا كَسَبُوا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْأَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ: أُولَئِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ وَهَذَا لَيْسَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ فَرِيقٌ دُونَ فَرِيقٍ، بَلْ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَالْحِسَابُ يَعُمُّ مُحَاسَبَةَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ، لَا مُحَاسَبَةَ هَذَا الْفَرِيقِ الطَّالِبِ الْحَسَنَتَيْنِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّصِيبَ هُنَا مَخْصُوصٌ بِمَنْ حَجَّ عَنْ مَيِّتٍ، يَكُونُ الثَّوَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا، فِي حَدِيثِ الَّذِي سَأَلَ هَلْ يَحُجُّ عَنْ أَبِيهِ. وَكَانَ مَاتَ؟
وَفِي آخِرِهِ، قَالَ: فَهَلْ لِي مِنْ أجره؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قِيلَ: وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَتَكُونُ الْآيَةُ مُنْفَصِلَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا، مُعَلَّقَةً بِمَا قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ وَأَحْكَامِهِ. انْتَهَى. وَلَيْسَتْ كَمَا ذَكَرَ مُنْفَصِلَةً، بَلْ هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا هُوَ فِي الْحَجِّ، وَأَنَّ انْقِسَامَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ فِي الْحَجِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. وَحَصَلَ
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٢٠.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ١٨.
(٣) سورة هود: ١١/ ١٥. [.....]
312
الْجَوَابُ لِلسَّائِلِ عَنْ حَجِّهِ عَنْ أَبِيهِ: أَلَهُ فِيهِ أَجْرٌ؟ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَقَدْ أَجَابَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ سَأَلَهُ أَنْ يَكْرِيَ دَابَّتَهُ وَيَشْرُطُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحُجَّ، فَهَلْ يَجْزِي عَنْهُ؟ وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا.
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ظَاهِرُهُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ تَعَالَى بِسُرْعَةِ حِسَابِهِ، وَسُرْعَتُهُ بانقضائه عجلا كَقَصْدِ مُدَّتِهِ، فَرُوِيَ: بِقَدَرِ حَلْبِ شَاةٍ، وَرُوِيَ بِمِقْدَارِ فَوَاقِ نَاقَةٍ، وَرُوِيَ بِمِقْدَارِ لَمْحَةِ الْبَصَرِ. أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ، ولا رؤية كَالْعَاجِزِ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ. أَوْ: لِمَا عَلِمَ مَا لِلْمُحَاسَبِ وَمَا عَلَيْهِ قَبْلَ حِسَابِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَوْ: لِكَوْنِ حِسَابِ الْعَالَمِ كَحِسَابِ رجل واحد أو لقرب مَجِيءِ الْحِسَابِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ.
قيل: كُنِّيَ بِالْحِسَابِ عَنِ الْمُجَازَاةِ على الأعمال إذا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنْهَا كَقَوْلِهِ: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ يَعْنِي مَا جَزَائِي، وَقِيلَ: كُنِّيَ بِالْحِسَابِ عَنِ الْعِلْمِ بِمَجَارِي الْأُمُورِ، لِأَنَّ الْحِسَابَ يُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ أَيْضًا.
وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْحِسَابِ عَنِ الْقَبُولِ لِدُعَاءِ عِبَادِهِ، وَقِيلَ: عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ وَالْوَفَاءِ، أَيْ: لَا يُؤَخِّرُ ثَوَابَ مُحْسِنٍ وَلَا عِقَابَ مُسِيءٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: سَرِيعُ مَجِيءِ يَوْمِ الْحِسَابِ. فَالْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ الْإِنْذَارُ بِسُرْعَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: سُرْعَةِ الْحِسَابِ تَعَالَى رَحْمَتُهُ وَكَثْرَتُهَا، فَهِيَ لَا تُغَبُّ وَلَا تَنْقَطِعُ. وَرُوِيَ مَا يُقَارِبُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذَا الْكَلَامِ عُمُومُ الْحِسَابِ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ إِذْ جَاءَ بَعْدَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلطَّائِعِينَ، وَيَكُونُ حِسَابُ الْكُفَّارِ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ فِي الْآخِرَةِ يُجْزَى بِهَا، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ «١» وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْكُفَّارُ لَا يُحَاسَبُونَ، قَالَ تَعَالَى:
فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «٢» وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «٣» وَظَاهِرُ ثِقَلِ الْمَوَازِينِ وَخِفَّتِهَا، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ شُمُولُ الْحَسَنَاتِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ: أَنَّ الْحَجَّ لَهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَجَمَعَهَا عَلَى أَشْهُرٍ لِقِلَّتِهَا، وَهِيَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ. بِكَمَالِهَا، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الجمع،
(١) سورة الحاقة: ٦٩/ ٢٦.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ١٠٥.
(٣) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٣.
313
وَوَصَفَهَا: بِمَعْلُومَاتٍ، لِعِلْمِهِمْ بِهَا. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْحَجَّ فِيهَا فلا يرفت وَلَا يَفْسُقُ وَلَا يُجَادِلُ، فَنَهَاهُ عَنْ مُفْسِدِ الْحَجِّ مِمَّا كَانَ جَائِزًا قَبْلَهُ، وَمَا كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ مُطْلَقًا لِيُسَوِّيَ بَيْنَ التَّحْرِيمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُؤَقَّتًا، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ. ثُمَّ لَمَّا نَهَى عَنْ هَذِهِ الْمُفْسِدَاتِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي فَرْضُ الْحَجِّ مِنْهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، فَهُوَ تَعَالَى يُثِيبُ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِالتَّزَوُّدِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ بِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، وَدَخَلَ فِيهَا مَا هُمْ مُلْتَبِسُونَ بِهِ مِنَ الْحَجِّ، وَأَخْبَرَ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ هُوَ مَا كَانَ وِقَايَةً بَيْنِكَ وَبَيْنَ النَّارِ، ثُمَّ نَادَى ذَوِي الْعُقُولِ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْخِطَابِ، وَأَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ عِقَابِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَنَاهِي، فَنَاسَبَ أَنْ يَنْتَهُوا عَلَى اتِّقَاءِ عَذَابِ اللَّهِ بِالْمُخَالَفَةِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَاجُّ مَشْغُولًا بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الشَّاقَّةِ، مُلْتَبِسًا بِأَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا، كَانَ مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَا يُمْزَجُ وَقْتُهَا بِشَيْءٍ غَيْرِ أَفْعَالِهَا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنِ ابْتَغَى فِيهَا فَضْلًا بِتِجَارَةٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أو غير ذلك من الْأَعْمَالِ الْمُعِينَةِ عَلَى كُلَفِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِذِكْرِهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ إِذَا أَفَاضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ، لِيُرْجِعَهُمْ بِذِكْرِهِ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ، لِئَلَّا يَسْتَغْرِقَهُمُ التَّعَلُّقُ بِالتِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالذِّكْرِ عَلَى هِدَايَتِهِ الَّتِي مَنَحَهَا إِيَّاهُمْ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلُ فِي ضَلَالٍ، فَاصْطَفَاهُمْ لِلْهِدَايَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَهِيَ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا، وَذَلِكَ الْمَكَانُ هُوَ عَرَفَةُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا تِلْكَ الْإِفَاضَةَ السَّابِقَةَ مِنْ عَرَفَةَ لَا مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَأَتَى بِثُمَّ لَا لِتَرْتِيبٍ فِي الزَّمَانِ، بَلْ لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ، لَا فِي الْوُقُوعِ.
ثُمَّ أَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ أَبَاهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا أَسْلَفَهُ مِنْ كَرِيمِ الْمَآثِرِ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمُ الْغَايَةَ فِي الذِّكْرِ، مَثَّلَ ذِكْرَ اللَّهِ بِذَلِكَ الذِّكْرِ، ثُمَّ أَكَّدَ مَطْلُوبِيَّةَ الْمُبَالَغَةِ فِي الذِّكْرِ بِقَوْلِهِ: أَوْ أَشَدَّ، لِيُفْهَمَ أَنَّ مَا مَثَّلَ بِهِ أَوَّلًا لَيْسَ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لَهُمْ وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَغْفُلُوا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ.
ثُمَّ قَسَّمَ مَقْصِدَ الْحَاجِّ إِلَى دُنْيَوِيٍّ صِرْفٍ، وَإِلَى دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُؤَالِهِ إِيَّاهُ وَذَكَرَ أَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى دُنْيَاهُ فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى مَجْمُوعِ الصِّنْفَيْنِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهُ مِمَّا كَسَبَ مِنْ أعماله حَظٌّ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَأَنَّهُ تَعَالَى حِسَابُهُ سَرِيعٌ، فَيُجَازِي العبد بما كسب.
314

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٣ الى ٢١٢]

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
الْعَجَلَةُ: الْإِسْرَاعُ فِي شَيْءٍ وَالْمُبَادَرَةُ، وَتَعَجَّلَ تَفَعَّلَ مِنْهُ وَهُوَ إِمَّا بِمَعْنَى اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي يَجِيءُ لَهَا تَفَعَّلَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ، كَقَوْلِهِمْ: تَكَبَّرَ وَاسْتَكْبَرَ، وَتَيَقَّنَ وَاسْتَيْقَنَ، وَتَقَضَّى وَاسْتَقْضَى، وَتَعَجَّلَ وَاسْتَعْجَلَ، يَأْتِي لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، تَقُولُ: تَعَجَّلْتُ فِي الشَّيْءِ وَتَعَجَّلْتُهُ، وَاسْتَعْجَلْتُ فِي الشَّيْءِ وَاسْتَعْجَلْتُ زَيْدًا، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى: عَجِلَ، كَقَوْلِهِمْ: تَلَبَّثَ بِمَعْنَى لبث، وتعجب وعجب، وتبرّ أو برىء، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا تَفَعَّلَ.
الْحَشْرُ: جَمْعُ الْقَوْمِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَالْمَحْشَرُ مُجْتَمَعُهُمْ، يُقَالُ مِنْهُ: حَشَرَ يَحْشُرُ،
315
وَحَشَرَاتُ الْأَرْضِ دَوَابُّهَا الصِّغَارُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْحَشْرُ: ضَمُّ الْمُفْتَرِقِ وَسَوْقُهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ الَّذِي قُلْنَاهُ.
الْإِعْجَابُ: إِفْعَالٌ مِنَ الْعَجَبِ وَأَصْلُهُ، لِمَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ قَالَهُ الْمُفَضَّلُ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِلشَّيْءِ وَالْمَيْلُ إِلَيْهِ وَالتَّعْظِيمُ، تَقُولُ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ. وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعَدِّي، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِ الشَّيْءِ وَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا لَهُ فِي ذَاتِهِ حَالَةٌ، بَلْ هُوَ بِحَسَبِ الْإِضَافَاتِ إِلَى مَنْ يَعْرِفُ السَّبَبَ، وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ. وَحَقِيقَةُ أَعْجَبَنِي كَذَا أَيْ: ظَهَرَ لِي ظُهُورًا لَمْ أَعْرِفْ سَبَبَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ يُقَالُ عَجِبْتُ مِنْ كَذَا فِي الْإِنْكَارِ، كَمَا قَالَ زِيَادٌ الْأَعْجَمُ:
عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهُ مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ
اللَّدَدُ: شِدَّةُ الْخُصُومَةِ، يُقَالُ: لَدِدْتَ تَلَدُّ لَدَدًا وَلَدَادَةً، وَرَجُلٌ أَلَدُّ وَامْرَأَةٌ لَدَّاءُ، وَرِجَالٌ وَنِسَاءٌ لُدٌّ، وَرَجُلٌ الْتَدَدَ وَيَلْتَدِدُ أَيْضًا شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَإِذَا غَلَبَ خَصْمَهُ قِيلَ: لَدَّهُ يَلَدُّهُ، مُتَعَدِّيًا، وَقَالَ الرَّاجِزُ:
يَلَدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدَدِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ لَدِيدَيِ الْعُنُقِ، وَهُمَا: صَفْحَتَاهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: مِنْ لَدِيدَيِ الْوَادِي وَهُمَا جَانِبَاهُ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِاعْوِجَاجِهِمَا، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ لَدَّهُ: حَبَسَهُ، فَكَأَنَّهُ يَحْبِسُ خَصْمَهُ عَنْ مُفَاوَضَتِهِ وَمُقَاوَمَتِهِ.
الْخِصَامُ: مَصْدَرُ خَاصَمَ، وَجَمْعُ خَصْمٍ يُقَالُ: خَصْمٌ وَخُصُومٌ وَخِصَامٌ، كَبَحْرٍ وَبُحُورٍ وَبِحَارٍ، وَالْأَصْلُ فِي الْخُصُومَةِ التَّعْمِيقُ فِي الْبَحْثِ عَنِ الشَّيْءِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: فِي زَوَايَا الْأَوْعِيَةِ: خُصُومٌ، الْوَاحِدُ. خُصِمَ.
النَّسْلُ: مَصْدَرُ: نَسَلَ يَنْسُلُ، وَأَصْلُهُ الْخُرُوجُ بسرعة ومن قَوْلُهُمْ: نَسَلَ وَبَرُ الْبَعِيرِ، وَشَعَرُ الْحِمَارِ، وَرِيشُ الطَّائِرِ: خَرَجَ فَسَقَطَ مِنْهُ، وَقِيلَ: النَّسْلُ الْخُرُوجُ مُتَتَابِعًا، وَمِنْهُ: نُسَالُ الطَّائِرِ مَا تَتَابَعَ سُقُوطُهُ مِنْ رِيشِهِ، وَقَالَ:
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ وَالْإِطْلَاقُ عَلَى الْوَلَدِ نَسْلًا مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، يُسَمَّى بِذَلِكَ لِخُرُوجِهِ مِنْ ظَهْرِ الْأَبِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ بَطْنِ الْأُمِّ بِسُرْعَةٍ.
316
جَهَنَّمُ: عَلَمٌ لِلنَّارِ وَقِيلَ: اسْمُ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ فِيهَا، وَهِيَ عَرَبِيَّةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ:
رَكِيَّةٌ جَهَنَّامٌ إِذَا كَانَتْ بَعِيدَةَ الْقَعْرِ، وَقَدْ سُمِّيَ الرَّجُلُ بِجَهَنَّامٍ أَيْضًا فَهُوَ عَلَمٌ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْجَهْمِ وَهُوَ الْكَرَاهَةُ وَالْغِلْظَةُ، فَالنُّونُ عَلَى هَذَا زَائِدَةٌ، فَوَزْنُهُ: فَعَنَّلُ، وَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ جَهَنَّامًا وَزْنُهُ فَعَنَّالٌ.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنْ فَعَنَّلًا بِنَاءٌ مَفْقُودٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَجَعَلَ دَوَنَّكَا: فَعَلَّلًا، كَعَدَبَّسٍ. وَالْوَاوُ أَصْلٌ فِي بَنَاتِ الْأَرْبَعَةِ كَهِيَ فِي: وَرَنْتَلٍ، وَالصَّحِيحُ إِثْبَاتُ هَذَا الْبِنَاءِ.
وَجَاءَتْ مِنْهُ أَلْفَاظٌ، قَالُوا: ضَغَنَّطٌ مِنَ الضَّغَاطَةِ، وَهِيَ الضَّخَامَةُ، وَسَفَنَّجٌ، وَهَجَنَّفٌ:
لِلظَّلِيمِ وَالزَّوَنَّكُ: الْقَصِيرُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَزُوكُ فِي مِشْيَتِهِ. أَيْ: يَتَبَخْتَرُ، قَالَ حَسَّانُ:
أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلْأَمُ مَنْ مَشَى فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَعْنَاهُ: زَوَنَّكَى.
وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ النُّونِ فِي: جَهَنَّمَ وَامْتَنَعَتِ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، وَقِيلَ: هِيَ أَعْجَمِيَّةٌ وَأَصْلُهَا كَهَنَّامُ، فَعُرِّبَتْ بِإِبْدَالٍ مِنَ الْكَافِ جِيمًا. وَبِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ، وَمُنِعَتِ الصَّرْفَ عَلَى هَذَا لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ.
حَسْبُ: بِمَعْنَى: كَافٍ، تَقُولُ أَحْسَبَنِي الشَّيْءُ: كَفَانِي، فَوَقَعَ حَسْبُ مَوْقِعَ:
مُحْسِبٍ، وَيُسْتَعْمَلُ مُبْتَدَأً فَيُجَرُّ خَبَرُهُ بِبَاءٍ زَائِدَةٍ، وَإِذَا اسْتُعْمِلَ خَبَرًا لَا يُزَادُ فِيهِ الْبَاءُ وَصِفَةً فَيُضَافُ، وَلَا يَتَعَرَّفُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسْبِكَ، وَيَجِيءُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ نَحْوَ: بِرَجُلٍ حَسْبِكَ مِنْ رَجُلٍ وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِمُثَنَّى أَوْ مَجْمُوعٍ أَوْ مُؤَنَّثٍ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ.
الْمِهَادُ: الْفِرَاشُ وَهُوَ مَا وُطِّئَ لِلنَّوْمِ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ مَهْدٍ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُهَيَّأُ لِلنَّوْمِ.
السِّلْمُ: بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا: الصُّلْحُ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ. وَحَكَى الْبَصْرِيُّونَ عَنِ الْعَرَبِ: بَنُو فُلَانٍ سِلْمٌ وَسَلْمٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَيُطْلَقُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَنْشَدُوا بَعْضَ قَوْلِ كِنْدَةَ:
317
أَيْ: لِلْإِسْلَامِ، قَالَ ذَلِكَ لَمَّا ارْتَدَّتْ كِنْدَةُ مَعَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ آخَرُ فِي الْفَتْحِ:
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا رَأَيْتُهُمْ تَوَلَّوْا مُدْبَرِينَا
شَرَائِعُ السِّلْمِ قَدْ بَانَتْ مَعَالِمُهَا فَمَا يَرَى الْكُفْرَ إِلَّا مَنْ بِهِ خَبَلُ
يُرِيدُ: الْإِسْلَامَ، لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِالْكُفْرِ، وَقِيلَ بِالْكَسْرِ: الْإِسْلَامُ وَبِالْفَتْحِ: الصُّلْحُ.
كَافَّةً: هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى: جَمِيعًا، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنْ كَفَّ الشَّيْءَ: مَنَعَ مِنْ أَخْذِهِ، وَالْكَفُّ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ كُفَّةُ الْقَمِيصِ حَاشِيَتُهُ، وَمِنْهُ الْكَفُّ وَهُوَ طَرَفُ الْيَدِ لِأَنَّهُ يُكَفُّ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْبَدَنِ، وَرَجُلٌ مَكْفُوفٌ مُنِعَ بَصَرُهُ أَنْ يَنْظُرَ، وَمِنْهُ كِفَّةُ الْمِيزَانِ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الْمَوْزُونَ أَنْ يَنْتَشِرَ، وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: كُفَّةٌ بِالضَّمِّ لِكُلِّ مُسْتَطِيلٍ، وَبِالْكَسْرِ لِكُلِّ مُسْتَدِيرٍ، وَكَافَّةً: مِمَّا لَزِمَ انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ نَحْوَ: قَاطِبَةً، فَإِخْرَاجُهَا عَنِ النَّصْبِ حَالًا لَحْنٌ.
التَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَالزِّينَةُ مِمَّا يُتَحَسَّنُ بِهِ وَيُتَجَمَّلُ، وَفَعَّلَ مِنَ الزَّيْنِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَالتَّضْعِيفُ فِيهِ لَيْسَ لِلتَّعْدِيَةِ، وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَعَّلَ كَقَوْلِهِمْ: قَدَّرَ اللَّهُ، وَقَدَرَ. وَمَيَّزَ وَمَازَ، وَبَشَّرَ وَبَشَرَ، وَيُبْنَى مِنَ الزَّيْنِ افتعل افتعال:
ازْدَانَ بِإِبْدَالِ التَّاءِ دَالًا، وَهُوَ لَازِمٌ.
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هَذَا رَابِعُ أَمْرٍ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالذِّكْرُ هُنَا التَّكْبِيرُ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ وَإِدْبَارِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْقَاتِ الْحَجِّ، أَوِ التَّكْبِيرُ عُقَيْبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، قَوْلَانِ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ بِفُسْطَاطِهِ بِمِنًى فَيُكَبِّرُ مَنْ حَوْلَهُ حَتَّى يُكَبِّرَ النَّاسُ فِي الطَّرِيقِ، وَفِي الطَّوَافِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ.
أَوْ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، قَالَهُ: ابْنُ عُمَرَ، وَعَلَيَّ، وَقَالَ: اذْبَحْ فِي أَيُّهَا شِئْتَ، أَوْ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ: الْمَرْوَزِيُّ.
أَوْ أَيَّامُ الْعَشْرِ، رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قِيلَ: وَقَوْلُهُمْ أَيَّامُ الْعَشْرِ، غَلَطٌ مِنَ الرُّوَاةِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَصْحِيفِ النَّسَخَةِ، وإما أن يريد الشعر الَّذِي بَعُدَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَفِي ذَلِكَ بُعْدٌ.
318
وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى قَوْلِهِ: فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ، عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ «١» وَنَحْنُ نُؤَخِّرُ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ: أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا. بِأَنْ قَالَ: وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفِرُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقَرِّ. وَهُوَ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فِي الْمَعْدُودَاتِ لَسَاغَ أَنْ يَنْفِرَ مَنْ شَاءَ مُتَعَجِّلًا يَوْمَ الْقَرِّ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ يَوْمَيْنِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ الظَّرْفَ الْمَبْنِيَّ إِذَا عَمِلَ فِيهِ الْفِعْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، لَوْ قُلْتَ:
ضَرَبْتُ زَيْدًا يَوْمَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ الضَّرْبِ بِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، وَهُنَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ بِالنَّفْرِ لَمْ يَقَعْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنَ ارْتِكَابِ مَجَازٌ، إِمَّا بِأَنْ يُجْعَلَ وُقُوعَهُ فِي أَحَدِهِمَا كَأَنَّهُ وُقُوعٌ فِيهِمَا، وَيَصِيرُ نظير: نَسِيا حُوتَهُما «٢» ويَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «٣» وَإِنَّمَا النَّاسِي أَحَدُهُمَا، وَكَذَلِكَ، إِنَّمَا يَخْرُجَانِ مِنْ أَحَدِهِمَا. أَوْ بِأَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي ثَانِي يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَكُونُ الْيَوْمُ الَّذِي بَعُدَ يَوْمِ الْقَرِّ الْمُتَعَجَّلِ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ فِي: تَمَامِ يَوْمَيْنِ أَوْ إِكْمَالِ يَوْمَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَقَعَ التَّعَجُّلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، بَلْ بَعْدَهُمَا. وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ يَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النَّفْرُ يَوْمَ الْقَرِّ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ الْأَمْرُ بِمُطْلَقِ ذِكْرِ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا هَذِهِ الْأَيَّامُ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ يُشْعِرُ أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ هِيَ الَّتِي يُنْفَرُ فِيهَا، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَقَدْ قَالَ فِي (رَيِّ الظَّمْآنِ) : أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. انْتَهَى.
وَجَعْلُ الْأَيَّامِ ظَرْفًا لِلذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى ذُكِرَ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَيُشْعِرُ أَنَّهُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ كَوْنُ الرَّمْيِ غَيْرَ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ، فَنَاسَبَ وُقُوعُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَيَّامِ ذُكِرَ اللَّهُ فِيهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ وَأَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا،
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٢٨.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٦١.
(٣) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٢.
319
ظَاهِرٌ أَنَّهُ لِلْحُجَّاجِ، إِذِ الْكَلَامُ مَعَهُمْ، وَالْخِطَابُ قَبْلُ لَهُمْ، وَالْإِخْبَارُ بَعْدُ عَنْهُمْ، فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُمْ مَعَهُمْ فِي هَذَا الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَمَنْ حَمَلَ الذِّكْرَ هُنَا عَلَى أَنَّهُ الذِّكْرُ الْمَشْرُوعُ عَقِبَ الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْوَقْتِ وَفِي الْكَيْفِيَّةِ.
أَمَّا وَقْتُهُ:
فَمِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ
، وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ: مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلْقَمَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. أَوْ: مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ هَذَا. أَوْ: مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. أَوْ: مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. أَوْ: مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ. أَوْ: مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. أَوْ: مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. أَوْ: مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَهُ أَبُو وَائِلٍ. أَوْ: مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
وَأَمَّا الْكَيْفِيَّةُ: فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ ثَلَاثُ تَكْبِيرَاتٍ وَفِي مَذْهَبِهِ أَيْضًا رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَزِيدُ بَعْدَهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَخْتَصُّ التَّكْبِيرُ بِأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ:
مُفْرِدًا كَانَ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ عَقِبَ كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَعَنْ أَحْمَدَ: الْقَوْلَانِ، وَالْمُسَافِرُ كَالْمُقِيمِ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، وَمَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمُسَافِرِينَ إِذَا صَلَّوْا جَمَاعَةً لَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِمْ، فَلَوِ اقْتَدَى مُسَافِرٌ بِمُقِيمٍ كَبَّرَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ عَقِبَ السَّلَامِ، وَالْجُمْهُورُ يَعْمَلُ شَيْئًا يَقْطَعُ بِهِ الصَّلَاةَ مِنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ اسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ نَسِيَ التَّكْبِيرَ حِينَ فَرَغَ وَذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَجْلِسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ.
320
وَقَالَ مَالِكٌ فِي (الْمُخْتَصَرِ) : يُكَبِّرُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ، فَإِذَا قَامَ مِنْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) : إِنْ نَسِيَهُ وَكَانَ قَرِيبًا قَعَدَ فَكَبَّرَ، أَوَ تَبَاعَدَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ذَهَبَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ فَلْيُكَبِّرُوا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ قَضَاهَا وَكَبَّرَ، وَإِنْ قَضَى بَعْدَهَا لَمْ يُكَبِّرْ، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْةِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ هُوَ لِلْحُجَّاجِ، وَأَنَّ هَذَا الذِّكْرَ هُوَ مما يُخْتَصُّ بِهِ الْحَاجُّ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، سَوَاءٌ كَانَ الذِّكْرُ عِنْدَ الرَّمْيِ أَمْ عِنْدَ أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَشْرَكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي الذِّكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَأَنَّ الذِّكْرَ فِي أَيَّامِ مِنًى، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ لِغَيْرِ الْحُجَّاجِ، وَتَعْيِينُ كَيْفِيَّةِ الذِّكْرِ وَابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ.
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ أَنَّ: تَعَجَّلَ، هُنَا لَازِمٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِلَازِمٍ فِي قَوْلِهِ مَنْ تَأَخَّرَ فَيَكُونُ مُطَاوِعًا لِعَجِلَ، فَتَعَجَّلَ، نَحْوَ كَسَرَهُ فَتَكَسَّرَ، وَمُتَعَلَّقُ التَّعَجُّلِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: بِالنَّفْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعَجَّلَ مُتَعَدِّيًا وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَمَنْ تَعَجَّلَ النَّفْرَ، وَمَعْنَى: فِي يَوْمَيْنِ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ. وَقَالُوا: الْمُرَادُ أَنَّهُ ينفر فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَسَبَقَ كَلَامُنَا عَلَى تَعْلِيقِ فِي يَوْمَيْنِ بِلَفْظِ تَعَجَّلَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ، الْعُمُومُ، فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْآفَاقِيِّ وَالْمَكِّيُّ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ ينفر في اليوم الثاني، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ يُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ نَقُولُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: وَلَمْ يُبَحِ التَّعْجِيلُ إِلَّا لِمَنْ بَعُدَ قُطْرُهُ لَا لِلْمَكِّيِّ وَلَا لِلْقَرِيبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَاءَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَلْيَنْفِرْ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ، إِلَّا آلَ خُزَيْمَةَ. فَإِنَّهُمْ لَا يَنْفِرُونَ إِلَّا فِي النَّفْرِ الْآخِرِ، وَجَعَلَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ قَوْلَ عُمَرَ: إِلَّا آلَ خُزَيْمَةَ، أَيْ: أَنَّهُمْ أَهْلَ حَرَمٍ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ: لِمَنْ نَفَرَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِي يَوْمَيْنِ، أَنَّ التَّعَجُّلَ لَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ بَلْ فِي شَيْءٍ مِنَ النَّهَارِ، يَنْفِرُ إِذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَعْنِي مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ. أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ أَدْرَكَهُ الْعَصْرُ وَهُوَ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى الْغُدُوِّ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَالَ: فِي يَوْمَيْنِ، وَمَا بَقِيَ مِنَ
321
الْيَوْمَيْنِ شَيْءٌ فَسَائِغٌ لَهُ النَّفْرُ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَمَنْ تَعَجَّلَ، سُقُوطُ الرَّمْيِ عَنْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَلَا يَرْمِي جَمَرَاتِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فِي يَوْمِ نَفْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينٍ: يَرْمِيهَا فِي يَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ حِينَ يُرِيدُ التَّعَجُّلَ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ:
يَرْمِي الْمُتَعَجِّلُ فِي يَوْمَيْنِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً كُلُّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَيَصِيرُ جَمِيعُ رَمْيِهِ بِتِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ حَصَاةً، يَعْنِي: لِأَنَّهُ قَدْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعٍ يَوْمَ النَّحْرِ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ:
وَيَسْقُطُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ إِلَى آخِرِهِ. مَشْرُوعِيَّةُ الْمَبِيتِ بِمِنًى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. لِأَنَّ التَّعَجُّلَ وَالتَّأَخُّرَ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْرِ مِنْ مِنًى، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُجَّاجِ أَنْ يَبِيتَ إِلَّا بِهَا إِلَّا لِلرِّعَاءِ، وَمَنْ وَلِيَ السِّقَايَةَ مِنْ آلِ الْعَبَّاسِ، فَمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ مِنْ غَيْرِهِمَا لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي مِنًى، فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ دَمٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ فِي الثَّلَاثِ اللَّيَالِي، فَإِنْ تَرَكَ مَبِيتَ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَلْزَمُهُ ثُلُثُ دَمٍ، أَوْ مُدٌّ أَوْ دِرْهَمٌ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلرَّمْيِ، لَا حُكْمًا، وَلَا وَقْتًا، وَلَا عَدَدًا، وَلَا مَكَانًا لِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ. وَتُؤْخَذُ أَحْكَامُهُ مِنَ السُّنَّةِ.
وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ، تَنْبِيهٌ عَلَيْهِ، إِذْ مِنْ سُنَّتِهِ التَّكْبِيرُ عَلَى كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، بِوَصْلِ الْأَلِفِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ بَيْنَ بَيْنَ، فَقَرُبَتْ بِذَلِكَ مِنْ السُّكُونِ فَحَذَفَهَا تَشْبِيهًا بِالْأَلِفِ، ثُمَّ حَذَفَ الْأَلِفَ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ التَّاءِ، وَهَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ إِنْ جَعَلْنَا: مَنْ، شَرْطِيَّةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا مَوْصُولَةً كَانَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَظَاهِرُهُ نَفْيُ الْإِثْمِ عَنْهُ، فَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ،
وَكَذَلِكَ مَنْ تَأَخَّرَ مَغْفُورٌ لَهُ لَا ذَنْبَ عَلَيْهِ، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ
، وَأَبِي ذَرٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى مَنْ تَعَجَّلَ أَوْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِلَى الْعَامِ الْقَابِلِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي التَّعْجِيلِ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي التَّأْخِيرِ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مُرَتَّبٌ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ تَعَجَّلَ وَلَا عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ، وَقَالَهُ
322
عَطَاءٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالذِّكْرِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ قَدْ فُسِّرَتْ بِمَا أَقَلُّهُ جَمْعٌ وَهِيَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، أَوْ بِأَرْبَعَةٍ، أَوْ بِالْعَشْرِ، ثُمَّ أُبِيحَ لَهُمُ النَّفْرُ فِي ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ يَقْتَضِي الْأَمْرُ بِالذِّكْرِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنْ لَا تَعْجِيلَ، فَنَفَى بِقَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ الْحَرَجَ عَنْ مَنْ خُفِّفَ عَنْهُ الْمُقَامُ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَيَنْفِرُ فِيهِ، وَسَوَّى بَيْنَهُ فِي الْإِبَاحَةِ وَعَدَمِ الْحَرَجِ، وَبَيْنَ مَنْ تَأَخَّرَ فَعَمَّ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ التَّعْجِيلِ وَالتَّأَخُّرِ، وَالتَّخْيِيرُ قَدْ يُتَّبَعُ بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ، فَقِيلَ: جَاءَ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لِأَجْلِ مُقَابَلَةِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، فَنَفَى الْإِثْمَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ لِذَلِكَ، وَقِيلَ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الرُّخْصَةِ.
وَقِيلَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَرِيقَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يُؤَثِّمُ الْمُتَعَجِّلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَثِّمُ الْمُتَأَخِّرَ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِرَفْعِ الْإِثْمِ عَنْهُمَا،
وَقِيلَ: إِنَّهُ عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ الْمَغْفِرَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
وَمَنْ مَعَهُ. وَهَذَا أَمْرٌ اشْتَرَكَ فِيهِ الْمُتَعَجِّلُ وَالْمُتَأَخِّرُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الثَّالِثِ إِلَى الرَّابِعِ وَلَمْ يَنْفِرْ مَعَ عَامَّةِ النَّاسِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ، فَمَنْ نَقَصَ عَنْهَا فَتَعَجَّلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ زَادَ عَلَيْهَا فَتَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ مِنْ عِلْمِ الْبَدِيعِ الطِّبَاقُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ، وَالطِّبَاقُ ذِكْرُ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، كَقَوْلِهِ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى «١» وَهُوَ هُنَا طِبَاقٌ غَرِيبٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ تَعَجَّلَ مُطَابِقَ تَأَخَّرَ، وَفِي الْحَقِيقَةِ مُطَابِقُ تَعَجَّلَ تَأَنَّى، وَمُطَابِقُ تَأَخَّرَ تَقَدَّمَ، فَعَبَّرَ فِي تَعَجَّلَ بِالْمَلْزُومِ عَنِ اللَّازِمِ، وَعَبَّرَ فِي تَأَخَّرَ بِاللَّازِمِ عَنِ الْمَلْزُومِ.
وَفِيهَا مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ الْمُقَابَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ، إِذِ الْمُتَأَخِّرُ أَتَى بِزِيَادَةٍ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَهُ زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِقَوْلِهِ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ «٢» وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا لِمَنِ اتَّقى قِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ، أَيِ الذِّكْرُ لِمَنِ اتَّقَى، وَقِيلَ: بِانْتِفَاءِ الْإِثْمِ أَيْ: يُغْفَرُ لَهُ بِشَرْطِ اتِّقَائِهِ اللَّهَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى ذَلِكَ التَّخْيِيرُ وَنَفْيُ الْإِثْمِ عَنِ الْمُتَعَجِّلِ وَالْمُتَأَخِّرِ لِأَجْلِ الْحَاجِّ الْمُتَّقِي، لِئَلَّا يَخْتَلِجَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا، فَيَحْسَبُ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَرْهَقُ صَاحِبَهُ آثَامٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَا التَّقْوَى حَذِرٌ مُتَحَرِّزٌ مِنْ كُلِّ مَا يَرِيبُهُ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الْحَاجُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ذَلِكَ الذي مرّ
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٤٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٩٤.
323
ذِكْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ لِمَنِ اتَّقَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ انتهى كلامه.
واتقى: هُنَا حَاصِلَةٌ لِمَنْ. وَهِيَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، فَقِيلَ: هُوَ مَاضِي الْمَعْنَى أَيْضًا، أَيِ: الْمَغْفِرَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا مُنِيبًا قَبْلَ حَجِّهِ، نَحْوَ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «١» وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الذَّنْبِ لَا يَنْفَعُهُ حَجُّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ فِي الظَّاهِرِ، وَقِيلَ: اتَّقَى جَمِيعَ الْمَحْظُورَاتِ حَالَ اشتغاله بالحج، قاله قَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنِ اتَّقَى فِي الْإِحْرَامِ الرَّفَثَ وَالْفُسُوقَ وَالْجِدَالَ، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: لِمَنِ اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، أَيْ: لِمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فِي بَاقِي عُمُرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالظَّاهِرُ تُعَلُّقُهُ بِالْآخَرِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الْإِثْمِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَلِصِحَّةِ الْمَعْنَى أَيْضًا، إِذْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّقِيًا لَمْ يَرْتَفِعِ الْإِثْمُ عَنْهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ اتَّقِي الْمَحْذُوفَ هُوَ: اللَّهُ، أَيْ: لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، وَكَذَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى رَفْعَ الْإِثْمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، أَمَرَ بِالتَّقْوَى عُمُومًا، وَنَبَّهَ عَلَى مَا يَحْمِلُ عَلَى اتِّقَاءِ اللَّهِ بالحشر إليه للمجازات، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى اتِّقَاءِ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا اجْتَرَحَ فِي الدُّنْيَا اجْتَهَدَ فِي أَنْ يَخْلُصَ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنْ يَعْظُمَ لَهُ الثَّوَابُ، وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِالتَّقْوَى مَوْصُوفًا بِهَا، كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ أَمْرًا بِالدَّوَامِ، في ذِكْرِ الْحَشْرِ تَخْوِيفٌ مِنَ الْمَعَاصِي، وَذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي اعْتِقَادِ الْحَشْرِ إِلَّا الْجَزْمُ الَّذِي لَا يُجَامِعُهُ شَيْءٌ مِنَ الظَّنِّ، وَقُدِّمَ إِلَيْهِ لِلِاعْتِنَاءِ بِمَنْ يَكُونُ الْحَشْرُ إِلَيْهِ، وَلِتَوَاخِي الْفَوَاصِلِ وَالْمَعْنَى إِلَى جَزَائِهِ.
وَقَدْ تَكَمَّلَتْ أَحْكَامُ الْحَجِّ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ: وَقْتِ الْحَجِّ إِلَى آخِرِ فِعْلٍ، وَهُوَ: النَّفَرُ، وَبُدِئَتْ أَوَّلًا بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَخُتِمَتْ بِهِ، وَتَخَلَّلَ الْأَمْرُ بِهَا فِي غُضُونِ الآية، وَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ مَطْلُوبِيَّتِهَا، وَلِمَ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَهِيَ اجْتِنَابُ مَنَاهِي اللَّهِ وَإِمْسَاكُ مَأْمُورَاتِهِ، وَهَذَا غَايَةُ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَبِهَا يَتَمَيَّزُ الطَّائِعُ من العاصي؟
(١) سورة المائدة: ٥/ ٢٧.
324
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ وَاسْمُهُ: أُبَيٌّ، وَكَانَ حُلْوَ اللِّسَانِ وَالْمَنْظَرِ، يُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُظْهِرُ حُبَّهُ، وَالْإِسْلَامَ، وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ يُدْنِيهِ وَلَا يَعْلَمُ مَا أَضْمَرَ، وَكَانَ مِنْ ثَقِيفٍ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَقِيفٍ شَيْءٌ، فَبَيَّتَهُمْ لَيْلًا وَأَحْرَقَ زَرْعَهُمْ، وَأَهْلَكَ مَوَاشِيَهُمْ، قَالَهُ عَطَاءٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَحُمُرٍ، فَأَحْرَقَ الزَّرْعَ، وَغَفَرَ الْحُمُرِ، قِيلَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «١» ووَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «٢».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، أَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا قَدْ أَسْلَمْنَا، فَابْعَثْ إِلَيْنَا مَنْ يُعَلِّمُنَا دِينَكَ، وَكَانَ ذَلِكَ مَكْرًا مِنْهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ خُبَيْبًا، ومرشدا، وَعَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، وَابْنَ الدنية، وَغَيْرَهُمْ، وَتُسَمَّى: سَرِيَّةَ الرَّجِيعِ
، وَالرَّجِيعُ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقُتِلُوا، وَحَدِيثُهُمْ طَوِيلٌ مَشْهُورٌ فِي الصِّحَاحِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي كُلِّ مُنَافِقٍ أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ، قَالُوا عَنْ سَرِيَّةِ الرَّجِيعِ: ويح هؤلاء ما فقدوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَلَا أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ: لَمَّا قَسَّمَ السَّائِلِينَ اللَّهُ قَبْلُ إِلَى: مُقْتَصِرٍ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، وَسَائِلٍ حَسَنَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْوِقَايَةَ مِنَ النَّارِ، أَتَى بِذِكْرِ النَّوْعَيْنِ هُنَا، فَذَكَرَ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مَنْ هُوَ حُلْوُ الْمَنْطِقِ، مُظْهِرُ الْوُدِّ، وَلَيْسَ ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ مَنْ يَقْصِدُ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَبِيعُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِهِ، وَقَدَّمَ هُنَا الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ هُنَاكَ الْمُقَدَّمُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَأَحَالَ هُنَا عَلَى إِعْجَابِ قَوْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ، مِنَ الْأَوْصَافِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا، فَكَانَ مِنْ حَيْثُ تَوَجُّهُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَنْ سأل منه ما يُنَجِّيَهُ مِنْ عَذَابِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى حَلَاوَةِ مَنْطِقِهِ، بَلْ كَانَ يُطَابِقُ فِي سَرِيرَتِهِ لِعَلَانِيَتِهِ.
وَ: مَنْ، مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يُعْجِبُكَ، مَوْصُولَةٌ، وَقِيلَ: نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَالْكَافُ فِي:
يُعْجِبُكَ، خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي مُعَيَّنٍ، كَالْأَخْنَسِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا إِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ يُنَافِقُ قَدِيمًا أو حديثا.
(١) سورة القلم: ٦٨/ ١٠.
(٢) سورة الهمزة: ١٠٤/ ١.
325
وَمَعْنَى إِعْجَابِ قَوْلِهِ اسْتِحْسَانُهُ لِمُوَافَقَةِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ، وَجَاءَ
فِي التِّرْمِذِيَّ: «أَنَّ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَوْمًا ألسنتهم مِنَ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ»
، الْحَدِيثَ.
فِي الحياة: متعلق بقوله، أَيْ يُعْجِبُكَ مَقَالَتُهُ فِي مَعْنَى الدُّنْيَا، لِأَنَّ ادِّعَاءَهُ الْمَحَبَّةَ وَالتَّبَعِيَّةَ بِالْبَاطِلِ يَطْلُبُ بِهِ حَظًّا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا. وَلَا يُرِيدُ بِهِ الْآخِرَةَ، إِذْ لَا تُرَادُ الْآخِرَةُ إِلَّا بِالْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِيُعْجِبُكَ أَيْ: قَوْلُهُ حُلْوٌ، فَيَصِحُّ: فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ يُعْجِبُكَ وَلَا يُعْجِبُكَ فِي الْآخِرَةِ، لِمَا تَرْهَقُهُ فِي الْمَوْقِفِ مِنَ الْحُبْسَةِ وَاللُّكْنَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يُعْجِبَكَ كَلَامُهُ. انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَالَّذِي يظهر أنه متعلق بيعجبك لَا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَسْتَحْسِنُ مَقَالَتَهُ دَائِمًا فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ، إِذْ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَا هُوَ مُعْجِبٌ رَائِقٌ لَطِيفٌ، فَمَقَالَتُهُ فِي الظَّاهِرِ مُعْجِبَةٌ دَائِمًا. أَلَا تَرَاهُ يعدل عن تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْحَسَنَةِ الرَّائِقَةِ، إِلَى مَقَالَةٍ خَشِنَةٍ مُنَافِيَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ أَفْعَالُهُ مُنَافِيَةٌ لأقواله الظاهرة، وأقواله الباطلة مُخَالِفَةٌ أَيْضًا لِأَقْوَالِهِ الظَّاهِرَةِ؟
إِذْ لَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ إِلَّا عَلَى حَالَتَيْنِ: فَهُوَ حُلْوُ الْمَقَالَةِ فِي الظَّاهِرِ، شَدِيدُ الْخُصُومَةِ فِي الْبَاطِنِ.
وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَنَصْبِ الْجَلَالَةِ مِنْ: أَشْهَدَ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ وَرَفْعِ الْجَلَالَةِ، مِنْ شَهِدَ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَيُسْتَشْهِدُ اللَّهَ، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَتَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ، أَنَّهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ وَيُشْهِدُهُ أَنَّهُ صَادِقٌ وَقَائِلٌ حَقًّا، وَأَنَّهُ مُحِبٌّ فِي الرَّسُولِ وَالْإِسْلَامِ، وَقَدْ جَاءَتِ الشَّهَادَةُ فِي مَعْنَى الْقَسَمِ فِي قِصَّةِ الْمُلَاعَنَةِ فِي سُورَةِ النُّورِ، قِيلَ: وَيَكُونُ اسْمُ اللَّهِ انْتَصَبَ بِسُقُوطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُقْسِمُ بِاللَّهِ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، وَهَذَا سَهْوٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ يُقْسَمُ بِهِ هُوَ الثُّلَاثِيُّ لَا الرُّبَاعِيُّ، تَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، وَلَا تَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ.
وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُطْلِعُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، ولا يعلم به أحدا لِشِدَّةِ تَكَتُّمِهِ وَإِخْفَائِهِ الْكُفْرَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: عَلى مَا فِي قَلْبِهِ، لِأَنَّ الَّذِي فِي قَلْبِهِ هُوَ خِلَافُ مَا أَظْهَرَ بِقَوْلِهِ.
وَعَلَى تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مَا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، أَيْ: وَيَحْلِفُ بِاللَّهِ عَلَى
326
خِلَافِ مَا فِي قَلْبِهِ، لِأَنَّ الَّذِي فِي قَلْبِهِ هُوَ الْكُفْرُ، وَهُوَ لَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى ضِدِّهِ، وَهُوَ الَّذِي يُعْجَبُ بِهِ. وَيُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، إِذْ مَعْنَاهَا: وَيُطْلِعُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ.
وقراءة: ويستشهد، بجواز أَنْ تَكُونَ فِيهَا: اسْتَفْعَلَ، بِمَعْنَى: أَفْعَلَ: نَحْوَ أَيْقَنَ وَاسْتَيْقَنَ، فَيُوَافِقُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِيهَا: اسْتَفْعَلَ، بِمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، فَيَكُونُ اسْتَشْهَدَ بِمَعْنَى شَهِدَ، وَيَظْهَرُ إِذْ ذَاكَ أَنَّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ وَيَسْتَشْهِدُ بِاللَّهِ، كَمَا تَقُولُ: وَيَشْهَدُ بِاللَّهِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْحَذْفِ حَتَّى يَصِحَّ الْمَعْنَى، أَيْ: وَيَسْتَشْهِدُ بِاللَّهِ عَلَى خِلَافِ مَا فِي قَلْبِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيُشْهِدُ اللَّهَ، مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُعْجِبُكَ، فَهُوَ صلة، أو صفة. وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ لَا وَاوَ الْعَطْفِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: يُعْجِبُكَ، أَوْ: مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلُهُ. التَّقْدِيرُ: وَهُوَ يُشْهِدُ اللَّهَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَيْدًا فِي الْإِعْجَابِ، أَوْ فِي الْقَوْلِ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ، وَأَنَّهُ صِلَةٌ، وَلِمَا يَلْزَمُ فِي الْحَالِ مِنَ الْإِضْمَارِ لِلْمُبْتَدَأِ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ الْمُثْبَتَ، وَمَعَهُ الْوَاوُ، يَقَعُ حَالًا بِنَفْسِهِ، فَاحْتِيجَ إِلَى إِضْمَارٍ كَمَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ، أَيْ وَأَنَا أَصُكُّ، وَالْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أَيْ: أَشَدُّ الْمُخَاصِمِينَ، فَالْخِصَامُ جَمْعُ خَصْمٍ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْخِصَامِ الْمَصْدَرُ، كَمَا قَالَهُ الْخَلِيلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ مُصَحِّحٍ لِجَرَيَانِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، إِمَّا مِنَ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: وَخِصَامُهُ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِمَّا مِنْ مُتَعَلَّقِ الْخَبَرِ، أَيْ: وَهُوَ أَلَدُّ ذَوِي الْخِصَامِ، وَجَوَّزَ أَنْ يُرَادَ هُنَا بِالْخِصَامِ الْمَصْدَرُ عَلَى مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصْدَرِ فِي: رَجُلٍ خَصِمٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَفْعَلُ لَا لِلْمُفَاضَلَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهُوَ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ ضَمِيرَ الْخُصُومَةِ، يُفَسِّرُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَيْ: وَخِصَامُهُ أَشَدُّ الْخِصَامِ.
وَتَقَارَبَتْ أَقَاوِيلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي: أَلَدُّ الْخِصَامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ ذُو الْجِدَالِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكَاذِبُ الْمُبْطِلُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: شَدِيدُ الْقَسْوَةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ:
أَعْوَجُ الْخُصُومَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى حَقٍّ فِي الْخُصُومَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الِابْتِدَائِيَّةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ، فَهِيَ صِلَةٌ، وَجَوَّزُوا أَنْ
327
تَكُونَ حَالًا مَعْطُوفَةً عَلَى: وَيُشْهِدُ إِذَا كَانَتْ حَالًا، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي:
وَيُشْهِدُ.
وَإِذَا كَانَ الْخِصَامُ جَمْعًا، كَانَ أَلَدُّ مِنْ إِضَافَةِ بَعْضٍ إِلَى كُلٍّ، وَإِذَا كَانَ مَصْدَرًا فَقَدْ ذَكَرْنَا تَصْحِيحَ ذَلِكَ بِالْحَذْفِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ فَهُوَ كَالْجَمْعِ فِي أَنَّ أَفْعَلَ بَعْضُ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَإِنْ تَأَوَّلْتَ أَفْعَلَ عَلَى غَيْرِ بَابِهَا، فَأَلَدُّ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْخِصَامُ الْمُخَاصَمَةُ، وَإِضَافَةُ الْأَلَدِّ بِمَعْنَى فِي كَقَوْلِهِمْ ثَبْتُ الْغَدَرِ. انْتَهَى.
يَعْنِي أَنَّ: أَفْعَلَ لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا أُضِيفَ إِلَى مَا هُوَ بَعْضُهُ، بَلْ هِيَ إِضَافَةٌ عَلَى مَعْنَى:
فِي، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا يَزْعُمُهُ النُّحَاةُ مِنْ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يُضَافُ إِلَّا لِمَا هِيَ بَعْضٌ لَهُ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْإِضَافَةِ بِمَعْنَى فِي، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ فِي النَّحْوِ، قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ على الِاحْتِيَاطِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَاسْتِوَاءِ أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَالْقُضَاةِ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَعْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَمَا يَبْدُو مِنْ إِيمَانِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ، حَتَّى يَبْحَثَ عَنْ بَاطِنِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَحْوَالَ النَّاسِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ جَمِيلًا وَيَنْوِي قَبِيحًا.
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ حَقِيقَةُ التَّوَلِّي الِانْصِرَافُ بِالْبَدَنِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِيمَا يُرْجَعُ عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَمَعْنَاهُ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَضِبَ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَنِ الرِّضَى الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: انْصَرَفَ عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ: انْصَرَفَ بِبَدَنِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْوِلَايَةِ، أَيْ:
صَارَ وَالِيًا.
وَالسَّعْيُ حَقِيقَةً الْمَشْيُ بِالْقَدَمَيْنِ بِسُرْعَةٍ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَهُ هَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا نَهَضَ عَنْكَ يَا مُحَمَّدُ بَعْدَ إِلَانَةِ الْقَوْلِ وَحَلَاوَةِ الْمَنْطِقِ، فَسَعَى بِقَدَمَيْهِ فِي الْأَرْضِ، فَقَطَعَ الطَّرِيقَ وَأَفْسَدَ فِيهَا، كَمَا فَعَلَهُ الْأَخْنَسُ بِثَقِيفٍ.
وَقِيلَ: السَّعْيُ هُنَا الْعَمَلُ، وَهُوَ مَجَازٌ سَائِغٌ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ: وَأَنْ لَيْسَ
328
لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى
«١» وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ «٢» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي، وَلَمْ أَطْلُبْ، قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ
وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَسَعَى لِكِنْدَةَ غَيْرَ سَعْيِ مُوَاكِلٍ قَيْسٌ فَصَدَّ عدوها ونبالها
وَقَالَ آخَرُ:
أَسْعَى عَلَى حَيِّي بَنِي مَالِكٍ كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ سَاعٍ
وَالْمَعْنَى: سَعَى بِحِيَلِهِ وَإِدَارَةِ الدَّوَائِرِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ نَحَا مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَذُكِرَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ: قَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ: مَعْنَاهُ سَعَى فِيهَا بِالْكُفْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ بِالظُّلْمِ. وَقَدْ يَقَعُ السَّعْيُ بِالْقَوْلِ، يُقَالُ: سَعَى بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ نَقَلَ إِلَيْهِمَا قَوْلًا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، وَمِنْهُ:
مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا سَعْيَ عَدُوٍّ بَيْنَنَا يُرْجِفُ
فِي الْأَرْضِ، مَعْلُومٌ أَنَّ السَّعْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْأَرْضِ، لَكِنْ أَفَادَ الْعُمُومَ بِمَعْنَى فِي:
أَيِّ مَكَانٍ حَلَّ مِنْهَا سَعَى لِلْفَسَادِ، وَيَدُلُّ لَفْظُ: فِي الْأَرْضِ، عَلَى كَثْرَةِ سَعْيِهِ وَنُقْلَتِهِ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الْأَرْضِ تَكْرَارُ السَّعْيِ وَتَقَدَّمَ مَا يُشْبِهُهُ فِي قَوْلِهِ:
لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «٣».
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْأَخْنَسُ فَالْأَرْضُ أَرْضُ الْمَدِينَةِ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ.
لِيُفْسِدَ فِيهَا، هَذَا عِلَّةُ سَعْيِهِ، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ، وَالْفَسَادُ ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَهُوَ مُعَانَدَةُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها «٤».
وَالْفَسَادُ يَكُونُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ: الْجَوْرِ، وَالْقَتْلِ، وَالنَّهْبِ، وَالسَّبْيِ، ويكون: بالكفر.
وَ: يُهْلِكَ الْحَرْثَ، وَالنَّسْلَ، عَطَفَ هَذِهِ الْعِلَّةَ عَلَى الْعِلَّةِ قَبْلَهَا، وَهُوَ: لِيُفْسِدَ فِيهَا، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «٥» وقوله:
(١) سورة النجم: ٥٣/ ٣٩.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ١٩.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١١. [.....]
(٤) سورة هود: ١١/ ٦١.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ٩٨.
329
أَكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلَجًا وَلَبَانُهُ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ شَامِلٌ يَدْخُلُ تَحْتَهُ إِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي عِمَارَةِ الدُّنْيَا، فَكَانَ إفسادهما غاية الإفساد.
من فَسَّرَ الْإِفْسَادَ بِالتَّخْرِيبِ، جَعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ.
وَ: يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَرْثِ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ «١» وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ النَّسْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي الْأَخْنَسِ، يَكُونُ الْحَرْثُ الزَّرْعَ، وَالنَّسْلُ الْحُمُرَ الَّتِي قَتَلَهَا، فَيَكُونُ النَّسْلُ الْمُرَادُ بِهِ الدَّوَابُّ ذَوَاتُ النَّسْلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا بِالْحَرْثِ هُنَا النِّسَاءُ، وَبِالنَّسْلِ الْأَوْلَادُ، وَقَالَ تَعَالَى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ «٢» وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّجَّاجِ احْتِمَالًا، فَيَكُونُ مِنَ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْبَيَانِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيُهْلِكَ، مِنْ أَهْلَكَ. عَطْفًا عَلَى: لِيُفْسِدَ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَلِيُهْلِكَ، بِإِظْهَارِ لَامِ الْعِلَّةِ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: وَيُهْلِكُ، مِنْ أَهْلَكَ، وَبِرَفْعِ الْكَافِ. وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: يُعْجِبُكَ، أَوْ عَلَى: سَعَى، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: يَسْعَى، وَإِمَّا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: وَهُوَ يُهْلِكُ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَيَهْلِكُ مِنْ هَلَكَ، وَبِرَفْعِ الكاف، والحرث وَالنَّسْلُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَعَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ حَمَّادٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، إِنَّمَا هُوَ:
وَيُهْلِكُ مِنْ أَهْلَكَ، وَبِضَمِّ الْكَافِ، الْحَرْثَ بِالنَّصْبِ.
وَقَرَأَ قَوْمٌ: وَيَهْلَكُ مِنْ هَلَكَ، وَبِفَتْحِ اللَّامِ، وَرَفْعِ الْكَافِ وَرَفْعِ الْحَرْثِ، وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ نحو: ركن يركن، ونسب هَذِهِ الْقِرَاءَةَ إِلَى الْحَسَنِ الزمخشري.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَرُوِيَ عَنْهُ، يَعْنِي عَنِ الْحَسَنِ، وَيُهْلَكُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ: ويهلك وليهلك وَيُهْلَكُ، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَنْصُوبٌ، لِأَنَّ فِي الْفِعْلِ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ، وَيَهْلَكُ وَيُهْلِكُ وَيُهْلَكُ، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَرْفُوعٌ بِالْفِعْلِ، وهذه
(١) سورة البقرة: ٢/ ٧١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٣.
330
الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ إِمَّا مُسْتَأْنَفَةٌ، وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ أَوْ صِفَتِهَا، مِنْ قَوْلِهِ: وَيُعْجِبُكَ.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ تَقَدَّمَتْ عِلَّتَانِ، وَالثَّانِيَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْأُولَى، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأُولَى لِانْطِوَائِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ وَإِنْ فُسِّرَتِ الْمَحَبَّةُ بِالْإِرَادَةِ، وَقَدْ جَاءَتْ كَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ «١» فَلَا بُدَّ مِنَ التَّخْصِيصِ، أَيْ: لَا يُحِبُّ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ الْفَسَادَ، وَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ إِذْ ذَاكَ عَلَى مَذْهَبِنَا لِوُقُوعِ الْفَسَادِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لَمَا كَانَ وَاقِعًا. وَقَدْ تَعَلَّقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ، فَمَا وَقَعَ مِنْهُ فَلَيْسَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مَفْعُولًا لَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَكَانَ مُرِيدًا لَهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يُرِيدُ قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُ الْفِعْلَ هِيَ إِرَادَتُهُ لَهُ، أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحِبَّ كَوْنَهُ وَلَا يُرِيدَ أَنْ يَكُونَ، بَلْ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ. وَفِي هَذَا مَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ. انْتَهَى مَا قَالُوا:
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ دِينًا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: أَهْلَ الْفَسَادِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى لَا يَرْضَى الْمَعَاصِيَ، وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْمَحَبَّةِ عَنِ الْأَمْرِ أَيْ:
لَا يَأْمُرُ بِالْفَسَادِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِفْسَادُ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَالَةٍ مَحْمُودَةٍ لَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ كُلُّهَا هُوَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَنَّ الْحُبَّ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحُبُّ لَهُ عَلَى الْإِرَادَةِ مَزِيَّةُ إِيثَارٍ، فَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: إِنَّ الْفَسَادَ الْمُرَادَ تَنْقُصُهُ مَزِيَّةُ الْإِيثَارِ لَصَحَّ ذَلِكَ إِذِ الْحُبُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ لِمَا حَسُنَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا اتَّضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ الشَّيْءَ وَلَا يُحِبُّهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَوَّى الْمُعْتَزِلَةُ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيِّنٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُرِيدُ بَطِيءَ الْجُرْحِ وَلَا يُحِبُّهُ وَإِذَا بَانَ فِي الْمَعْقُولِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَطَلَ ادِّعَاؤُهُمُ التَّسَاوِيَ بَيْنَهُمَا، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ «٢» انتهى كلامه.
(١) سورة النور: ٢٤/ ١٩.
(٢) سورة الزمر: ٣٩/ ٧.
331
وَجَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَفْيُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءَ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْحُبِّ وَعَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ غيره، فإنه قد يعرف عَنْهُمَا فَالْمَحَبَّةُ وَمُقَابِلُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى نَقِيضَانِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ ضِدَّانِ، وَظَاهِرُ الْفَسَادِ يَعُمُّ كُلَّ فَسَادٍ فِي أَرْضٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دِينٍ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ عَطَاءٌ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ عَلَى مَنْعِ شَقِّ الْإِنْسَانِ ثَوْبَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْفَسَادُ هُنَا الْخَرَابُ.
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ تَحْتَمِلُ أَيْضًا هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الصِّلَةِ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي نَحْوِ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «١» و: ما، الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ هُنَا، وَ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ، احْتَوَتْ عَلَيْهِ وَأَحَاطَتْ بِهِ، وَصَارَ كَالْمَأْخُوذِ لَهَا كَمَا يَأْخُذُ الشَّيْءَ بِالْيَدِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَوْلِكَ أَخَذْتُهُ بِكَذَا إِذَا حَمَلْتَهُ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمْتَهُ إِيَّاهُ، أَيْ: حَمَلَتْهُ الْعِزَّةُ الَّتِي فِيهِ، وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ، عَلَى الْإِثْمِ الَّذِي يُنْهَى عَنْهُ، وَأَلْزَمَتْهُ ارْتِكَابَهُ، وَأَنْ لَا يُخَلِّيَ عَنْهُ ضَرَرًا وَلَجَاجًا، أَوْ عَلَى رَدِّ قَوْلِ الْوَاعِظِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
فَالْبَاءُ، عَلَى كَلَامِهِ لِلتَّعْدِيَةِ، كَأَنَّ الْمَعْنَى أَلْزَمَتْهُ الْعِزَّةُ الْإِثْمَ، وَالتَّعْدِيَةُ بِالْبَاءِ بَابُهَا الْفِعْلِ اللَّازِمِ، نَحْوَ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ «٢» أَيْ: لَأَذْهَبَ سَمْعَهُمْ، وَنَدَرَتِ التَّعْدِيَةُ بِالْبَاءِ فِي الْمُتَعَدِّي، نَحْوَ: صَكِكْتُ الْحَجَرَ بِالْحَجَرِ، أَيْ أَصْكَكْتُ الْحَجَرَ الْحَجَرِ، بِمَعْنَى جَعَلْتُ أَحَدَهُمَا يَصُكُّ الْآخَرَ، وَيَحْتَمِلُ الْبَاءُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ: أَخَذَتْهُ مَصْحُوبًا بِالْإِثْمِ، أَوْ مَصْحُوبَةً بِالْإِثْمِ، فَيَكُونُ لِلْحَالِ مِنَ الْمَفْعُولِ أَوِ الْفَاعِلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِثْمَهُ السَّابِقَ كَانَ سَبَبًا لِأَخْذِ الْعِزَّةِ لَهُ، حَتَّى لَا يَقْبَلَ مِمَّنْ يَأْمُرُهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، فَتَكُونُ الْبَاءُ هُنَا: كَمِنْ، فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ فَتَوَلَّى مُغْضَبًا فِعْلَ الضَّجِرْ
وَعَلَى أَنْ تَكُونَ: الْبَاءُ، سَبَبِيَّةً فَسَّرَهُ الْحَسَنُ، قَالَ. أَيْ مِنْ أَجْلِ الْإِثْمِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، يَعْنِي الْكُفْرَ.
وَقَدْ فُسِّرَتِ الْعِزَّةُ بِالْقُوَّةِ وَبِالْحَمِيَّةِ وَالْمَنَعَةِ، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ.
وَفِي قَوْلِهِ: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ يُسَمَّى التَّتْمِيمَ، وهو إرداف الكلام
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٠.
332
بكلمة يرفع عَنْهُ اللَّبْسَ، وَتُقَرِّبُهُ لِلْفَهْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «١» وَذَلِكَ أَنَّ الْعِزَّةَ مَحْمُودَةٌ وَمَذْمُومَةٌ، فَالْمَحْمُودَةُ طَاعَةُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «٢» وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «٣» فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «٤» فَلَمَّا قَالَ: بِالْإِثْمِ، اتَّضَحَ الْمَعْنَى وَتَمَّ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا الْعِزَّةُ الْمَذْمُومَةُ الْمُؤَثَّمُ صَاحِبُهَا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَغْضَبَ إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ، أو تقول: أو لمثلي يُقَالُ هَذَا؟ وَقِيلَ لِعُمَرَ: اتَّقِ اللَّهَ، فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى الْأَرْضِ تَوَاضُعًا، وَقِيلَ: سَجَدَ، وَقَالَ: هَذَا مَقْدِرَتِي. وَتَرَدَّدَ يَهُودِيٌّ إِلَى بَابِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، سَنَةً فَلَمْ يَقْضِ لَهُ حَاجَةً، فَتَحَيَّلَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: فَنَزَلَ هَارُونُ عَنْ دَابَّتِهِ، وَخَرَّ سَاجِدًا، وَقَضَى حَاجَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:
تَذَكَّرْتُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ.
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أَيْ: كَافِيهِ جَزَاءً وَإِذْلَالًا جَهَنَّمُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ جَهَنَّمَ فاعل: بحسبه، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ اسْمَ فِعْلٍ، إِمَّا بِمَعْنَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، أَيْ: كَفَاهُ جَهَنَّمُ، أَوْ: بِمَعْنَى فِعْلِ الْأَمْرِ، وَدُخُولُ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهِ وَاسْتِعْمَالُهُ صِفَةً، وَجَرَيَانُ حَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ عَلَيْهِ يُبْطِلُ كَوْنَهُ اسْمَ فِعْلٍ، وَقُوبِلَ عَلَى اعْتِزَازِهِ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْغَايَةُ فِي الذُّلِّ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: اتَّقِ اللَّهَ، حَلَّ بِهِ مَا أُمِرَ أَنْ يَتَّقِيَهُ، وَهُوَ: عَذَابُ اللَّهِ، وَفِي قَوْلِهِ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ، اسْتِعْظَامٌ لِمَا حَلَّ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: كَفَاكَ مَا حَلَّ بِكَ! إِذَا اسْتَعْظَمْتَ وَعَظَّمْتَ عَلَيْهِ مَا حَلَّ بِهِ.
وَلَبِئْسَ الْمِهادُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي: بِئْسَ، وَالْخِلَافُ فِي تَرْكِيبِ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، لَكِنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فِي أَنَّ: بِئْسَ وَنِعْمَ، فِعْلَانِ جَامِدَانِ، وَأَنَّ الْمَرْفُوعَ بَعْدَهُمَا فَاعِلٌ بِهِمَا، وَأَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ، إِنْ تَقَدَّمَ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَكَذَلِكَ، هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَحُذِفَ هُنَا الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ لِلْعِلْمِ بِهِ إِذْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ جَهَنَّمُ. أَوْ: هِيَ، وَبِهَذَا الْحَذْفِ يَبْطُلُ مَذْهَبُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْمَدْحِ أَوْ بِالذَّمِّ إِذَا تَأَخَّرَ كَانَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ حَذْفِهِ حَذْفُ الْجُمْلَةِ بِأَسْرِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنُوبَ عَنْهَا شَيْءٌ، لِأَنَّهَا تَبْقَى جُمْلَةٌ مُفَلَّتَةٌ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ قَبْلَهَا، إِذْ لَيْسَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، ولا هي اعتراضية
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٣٨.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٥٤.
(٣) سورة المنافقون: ٦٣/ ٨.
(٤) سورة النساء: ٤/ ١٣٩.
333
وَلَا تَفْسِيرِيَّةٌ، لِأَنَّهُمَا مُسْتَغْنًى عَنْهُمَا وَهَذِهِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا، فَصَارَتْ مُرْتَبِطَةً غَيْرَ مُرْتَبِطَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَإِذَا جَعَلْنَا الْمَحْذُوفَ مِنْ قَبِيلِ الْمُفْرَدِ. كَانَ فِيمَا قَبْلَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ، وَتَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَحَالِهِ إِذَا تَقَدَّمَ، وَأَنْتَ لَا تَرَى فَرْقًا بَيْنَ قَوْلِكَ: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ، وَنِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، كَمَا لَا تَجِدُ فَرْقًا بَيْنَ: زَيْدٌ قَامَ أَبُوهُ، وَبَيْنَ: قام أبوه زَيْدٍ، وَحَسَّنَ حَذْفَ الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ هُنَا كَوْنُ الْمِهَادِ وَقَعَ فَاصِلَةً، وَكَثِيرًا مَا حُذِفَ فِي الْقُرْآنِ لِهَذَا الْمَعْنَى نَحْوَ قَوْلِهِ:
فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ «١» وفَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ «٢» وَجَعَلَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِهَادًا عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ بِهِمْ، إِذِ الْمِهَادُ: هُوَ مَا يَسْتَرِيحُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيُوَطَّأُ لَهُ لِلنَّوْمِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَخَيْلٌ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
أَيِ: الْقَائِمُ مَقَامَ التَّحِيَّةِ هُوَ الضَّرْبُ الْوَجِيعُ، وَكَذَلِكَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْمِهَادِ لَهُمْ هُوَ الْمُسْتَقَرُّ فِي النَّارِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ قِيلَ الْمُرَادُ: بِمَنْ، غير معنى، بَلْ هِيَ فِي كُلِّ مَنْ بَاعَ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي جِهَادٍ، أَوْ صَبْرٍ عَلَى دِينٍ، أَوْ كَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ جَائِرٍ، أَوْ حَمِيَّةٍ لِلَّهِ، أَوْ ذَبَّ عَنْ شَرْعِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا.
وَقِيلَ: هِيَ فِي مُعَيَّنٍ، فَقِيلَ فِي: الزُّبَيْرِ وَالْمِقْدَادِ بَعَثَهُمَا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ لِيَحُطَّا خُبَيْبًا مِنْ خَشَبَتِهِ، وَقِيلَ: فِي صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ خَرَجَ مُهَاجِرًا فَلَحِقَتْهُ قُرَيْشٌ، فنشل كِنَانَتَهُ، وَكَانَ جَيِّدَ الرَّمْيِ شَدِيدَ الْبَأْسِ مَحْذُورَهُ، وَقَالُوا: لا نترك حَتَّى تَدُلَّنَا عَلَى مَالِكَ، فَدَلَّهُمْ عَلَى مَوْضِعِهِ، فَرَجَعُوا عَنْهُ، وَقِيلَ: عُذِّبَ لِيَتْرُكَ دِينَهُ فَافْتَدَى مِنْ مَالِهِ وَخَرَجَ مُهَاجِرًا،
وَقِيلَ: فِي عَلِيٍّ حِينَ خَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ لِقَضَاءِ دُيُونِهِ وَرَدِّ الْوَدَائِعِ، وَأَمَرَهُ بِمَبِيتِهِ عَلَى فِرَاشِهِ لَيْلَةَ خَرَجَ مُهَاجِرًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِ يَلْقَى الْكَافِرَ فَيَقُولُ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا يَقُولُ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَشْرِيَنَّ، فَيُقَاتِلُ حَتَّى يُقْتَلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقِيلَ: فِي صُهَيْبٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ قَدْ أَخَذَهُ أَهْلُهُ فَانْقَلَبَ، فَخَرَجَ مُهَاجِرًا.
وَقِيلَ: فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ غَيْرَ هَذَا، وَقَصَصًا طَوِيلًا فِي أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ الْمُعَيَّنِينَ الَّذِينَ قِيلَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ.
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٧٨.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٢٩. [.....]
334
وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ وَكَانَ عَامًّا فِي الْمُنَافِقِ الَّذِي يُبْدِي خِلَافَ مَا أَضْمَرَ، نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ قَسِيمَهُ عَامًّا مَنْ: يَبْذُلُ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَيِّ صَعْبٍ كَانَ، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ مُدَارٍ عَنْ نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ وَالرِّيَاءِ، وَحَلَاوَةِ الْمَنْطِقِ، وَهَذَا بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَلِمَرْضَاتِهِ.
وَتَنْدَرِجُ تِلْكَ الْأَقَاوِيلُ الَّتِي فِي الْآيَتَيْنِ تَحْتَ عُمُومِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ مَا ذُكِرَ مِنْ تَعْيِينِ مَنْ عَيَّنَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ ضَرْبِ الْمِثَالَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَاصًّا، وَالْمُرَادُ عُمُومُ اللَّفْظِ، وَلَمَّا طَالَ الْفَصْلُ هُنَا بَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالْقِسْمِ الثَّانِي، أَتَى فِي التَّقْسِيمِ الثَّانِي بِإِظْهَارِ الْمُقَسَّمِ مِنْهُ، فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي بِخِلَافِ قَوْلِهِ:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لَمَّا قَرُبَ ذِكْرُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ مِنَ القسم، أَضْمَرَ فِي الثَّانِي الْمُقَسَّمِ.
وَمَعْنَى يَشْرِي: يَبِيعُ، وَهُوَ سَائِغٌ فِي اللِّسَانِ، قَالَ تَعَالَى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ «١» قَالَ الشَّاعِرُ:
وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَّهْ
وَيَشْرِي: عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ، وَمِنْهُ تُسَمَّى الشُّرَاةُ، وَكَأَنَّهُمْ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: شَرَى، بِمَعْنَى: اشْتَرَى، فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ فِي صُهَيْبٍ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيهِ حَيْثُ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِمَالِهِ وَلَمْ يَبِعْهَا.
وَانْتِصَابُ: ابْتِغَاءَ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيِ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى بَيْعِ أَنْفُسِهِمْ، إِنَّمَا هُوَ طَلَبُ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُسْتَوْفٍ لِشُرُوطِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ كَوْنِهِ مَصْدَرًا مُتَّحِدَ الْفَاعِلِ وَالْوَقْتِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ، أَعْنِي: إِضَافَةَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، هِيَ مَحْضَةٌ، خِلَافًا لِلْجَرْمِيِّ، وَالرِّيَاشِيِّ، وَالْمُبَرِّدِ، وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا إِضَافَةٌ غَيْرُ مَحْضَةٍ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
ومرضاة: مَصْدَرٌ بُنِيَ عَلَى التَّاءِ: كَمَدْعَاةٍ، وَالْقِيَاسُ تَجْرِيدُهُ عَنْهَا، كَمَا تَقُولُ: مَرْمًى وَمَغْزًى، وأمال الكسائي: مرضات، وَعَنْ وَرْشٍ خِلَافٌ فِي إمالة: مرضات، وقرأنا له
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٢٠.
335
بِالْوَجْهَيْنِ، وَوَقَفَ حَمْزَةُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، وَوَقَفَ الْبَاقُونَ بِالْهَاءِ. فَأَمَّا وَقْفُ حَمْزَةَ بِالتَّاءِ فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقِفُ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى: طَلْحَةَ، وَحَمْزَةَ، بِالتَّاءِ، كَالْوَصْلِ، وَهُوَ كَانَ الْقِيَاسَ دُونَ الْإِبْدَالِ. قَالَ:
دَارٌ لِسَلْمَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الْحَجَفَتْ
وَقَدْ حَكَى هَذِهِ اللُّغَةَ سِيبَوَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ تَكُونَ عَلَى نِيَّةِ الْإِضَافَةِ، كَأَنَّهُ نَوَى تَقْدِيرَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُعْلِمَ أَنَّ الْكَلِمَةَ مُضَافَةٌ، وَأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مُرَادٌ: كَإِشْمَامِ مَنْ أَشَمَّ الْحَرْفَ الْمَضْمُومَ فِي الْوَقْفِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الضَّمَّةَ مُرَادَةٌ، وَفِي قوله: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى حُصُولِ أَفْضَلِ مَا عِنْدَ اللَّهِ لِلشُّهَدَاءِ، وَهُوَ رِضَاهُ تَعَالَى.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فِي مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَبَّهُمْ تَعَالَى، حِينَ يَسْأَلُهُمْ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا كَيْفَ لَا نَرْضَى وَقَدْ أَدْخَلْتَنَا جَنَّتَكَ وَبَاعَدْتَنَا مِنْ نَارِكَ؟ فَيَقُولُ:
وَلَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فيقولون: يَا رَبَّنَا، وَمَا أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضَائِي فَلَا أَسْخَطُ عليكم بعده.
وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ حَيْثُ كَلَّفَهُمْ بِالْجِهَادِ فَعَرَّضَهُمْ لِثَوَابِ الشُّهَدَاءِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ عطية: تَرْجِئَةٌ تَقْتَضِي الْحَضَّ عَلَى امْتِثَالِ مَا وَقَعَ بِهِ الْمَدْحُ فِي الْآيَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ تَخْوِيفٌ يَقْتَضِي التَّحْذِيرَ مِمَّا وَقَعَ بِهِ الذَّمُّ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الرَّأْفَةَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَةِ.
وَالْعِبَادُ إِنْ كَانَ عَامًّا، فَرَأْفَتُهُ بِالْكَافِرِينَ إِمْهَالُهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، وَتَيْسِيرِ أَرْزَاقِهِمْ لَهُمْ، وَرَأْفَتُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ تَهْيِئَتُهُ إِيَّاهُمْ لِطَاعَتِهِ، وَرَفْعُ دَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. وَإِنْ كَانَ خَاصًّا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ لَمَّا خَتَمَ الْآيَةَ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَكَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ، خَتَمَ هَذِهِ بِالْوَعْدِ الْمُبَشِّرِ لَهُمْ بِحُسْنِ الثَّوَابِ، وَجَزِيلِ الْمَآبِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالرَّأْفَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِذَلِكَ، فَصَارَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ رَأْفَتَهُ بِهِمْ تَسْتَدْعِي جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَلَوْ ذَكَرَ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ الْإِحْسَانِ لَمْ يُفِدْ مَا أَفَادَهُ لَفْظُ الرَّأْفَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْكِنَايَةُ أَبْلَغَ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ فِي لَفْظِ: الْعِبَادِ، الْتِفَاتًا، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ ضَمِيرٍ غَائِبٍ
336
مُفْرَدٍ إِلَى اسْمٍ ظَاهِرٍ، فَلَوْ جَرَى عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ السَّابِقِ لَكَانَ: وَاللَّهُ رؤوف بِهِ أَوْ بِهِمْ، وَحَسَّنَ الِالْتِفَاتَ هُنَا بِهَذَا الِاسْمِ الظَّاهِرِ شَيْئَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ: الْعِبَادِ، لَهُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ تَشْرِيفٌ وَاخْتِصَاصٌ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «١» سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «٢» ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا «٣» بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «٤».
وَالثَّانِي: مَجِيءُ اللفظة فاضلة، لِأَنَّ قَبْلَهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ فَنَاسَبَ: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا مِنْ عِلْمِ الْبَدِيعِ: التَّقْسِيمُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مُنَاسَبَةَ هَذَا التَّقْسِيمَ لِلتَّقْسِيمِ السَّابِقِ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ:
فِي هَذِهِ الْآيَاتِ نَوْعٌ مِنَ الْبَدِيعِ، وَهُوَ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَهُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْبَيَانِ فِي النَّثْرِ وَالنَّظْمِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ الْمَلَكَةِ فِي ضُرُوبٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ قوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ مُتَقَدِّمٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَقَوْلَهُ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ وَقَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ وَعَلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي فَيَصِيرُ الْكَلَامُ مَعْطُوفًا عَلَى الذِّكْرِ لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَعْنَى، وَيَصِيرُ التَّقْسِيمُ مَعْطُوفًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، لِأَنَّ التَّقْسِيمَ الْأَوَّلَ فِي مَعْنَى الثَّانِي، فَيَتَّحِدُ الْمَعْنَى وَيَتَّسِقُ اللَّفْظُ، ثُمَّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْبَقَرَةِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ، وَقِصَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فِي الْآيَتَيْنِ، قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يَعْنِي: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَلَا يُذْهَبُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ، وَلَا تَقْدِيمَ وَلَا تَأْخِيرَ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ عِنْدَنَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَاتِ، وَتَنَزَّهَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ، كَانُوا يتقون السبت، ولحم الحمل، وَأَشْيَاءَ تَتَّقِيهَا أَهْلُ الْكِتَابِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ: فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ
(١) سورة الحجر: ١٥/ ٤٢.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ١.
(٣) سورة فاطر: ٣٥/ ٣٢.
(٤) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٦.
337
الضَّحَّاكُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوْ فِي الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّخُولِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ. أَوْ: فِي الْمُنَافِقِينَ، وَاحْتُجَّ لِهَذَا بِوُرُودِهَا عُقَيْبَ صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِ النُّزُولِ اخْتَلَفَتْ أَقَاوِيلُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ السِّينِ فِي السِّلْمِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفَالِ:
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ «١» وَفِي الْقِتَالِ: وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ «٢».
وَاخْتُلِفَ فِي السَّلْمِ هُنَا، فَقِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ: قَدْ يُسَمَّى: سِلْمًا بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَدْ يُرْوَى فِيهِ الْفَتْحُ، كَمَا رُوِيَ فِي السَّلْمِ الَّذِي هُوَ الصُّلْحُ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ، إِلَّا أَنَّ الْفَتْحَ فِي السَّلْمِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ قَلِيلٌ، وَجَوَّزَ أبو علي الفارسي أن يَكُونَ السَّلْمُ هُنَا هُوَ الَّذِي بِمَعْنَى الصُّلْحِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ صُلْحٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا قِتَالَ بَيْنَ أَهْلِهِ، وَأَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ؟ فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِابْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَدْ أُمِرُوا بِالدُّخُولِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ لَا يَبْقَوْا عَلَى شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي لَا تُوَافِقُ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرَّسُولِ، فَالْمَعْنَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا سَبَقَ مِنْ أَنْبِيَائِهِمُ ادْخُلُوا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ لَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَا مَنْ سَبَقَ لَهُ الْإِيمَانُ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهُمَا دَالَّانِ عَلَى صِدْقِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، ادْخُلُوا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ فَالْمَعْنَى: يَا مَنْ آمَنَ بِقَلْبِهِ، وَصَدَّقَ، ادْخُلْ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَاجْمَعْ إِلَى الْإِيمَانِ الْإِسْلَامَ. وَقَدْ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُنَافِقِينَ، فَالْمَعْنَى: يَا مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، ادْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ بِالْقَلْبِ حَتَّى يُطَابِقَ الْقَوْلُ الِاعْتِقَادَ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أُمِرُوا بِامْتِثَالِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، أَوْ بِالِانْقِيَادِ، وَالرِّضَى وَعَدَمِ الِاضْطِرَارِ، أَوْ بِتَرْكِ الِانْتِقَامِ، وَأُمِرُوا كُلُّهُمْ بِالِائْتِلَافِ وَتَرْكِ الِاخْتِلَافِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بِقَوْلِهِ كَافَّةً وَانْتِصَابُ كَافَّةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي:
ادْخُلُوا، وَالْمَعْنَى ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ جَمِيعًا، وَهِيَ حَالٌ تُؤَكِّدُ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَتُفِيدُ مَعْنَى:
كُلٍّ، فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ النَّاسُ كَافَّةً، فَالْمَعْنَى قَامُوا كُلُّهُمْ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ السِّلْمِ، أَيْ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، أُمِرُوا بِأَنْ لَا يَدْخُلُوا فِي طَاعَةٍ دُونَ طَاعَةٍ.
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٦١.
(٢) سورة محمد: ٤٧/ ٣٥.
338
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: كَافَّةً، حَالًا مِنْ السِّلْمِ، لِأَنَّهَا تُؤَنَّثُ كَمَا تُؤَنَّثُ الْحَرْبُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ وَالْحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ
عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِرُوا بِأَنْ يَدْخُلُوا فِي الطَّاعَاتِ كُلِّهَا، وَأَنْ لَا يَدْخُلُوا فِي طَاعَةٍ دُونَ طَاعَةٍ، أَوْ فِي شُعَبِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ كُلِّهَا، وَأَنْ لَا يُخِلُّوا بِشَيْءٍ مِنْهَا.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أن يُقِيمَ عَلَى السَّبْتِ، وَأَنْ يَقْرَأَ مِنَ التَّوْرَاةِ فِي صَلَاتِهِ مِنَ اللَّيْلِ.
وَ: كَافَّةً، مِنَ الْكَفِّ، كَأَنَّهُمْ كُفُّوا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمْ أَحَدٌ بِاجْتِمَاعِهِمْ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَتَعْلِيلُهُ جَوَازَ أَنْ يَكُونَ: كَافَّةً، حَالًا مِنَ السِّلْمِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهَا تُؤَنَّثُ كَمَا تُؤَنَّثُ الْحَرْبُ، لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ التَّاءَ فِي: كَافَّةً، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا لِلتَّأْنِيثِ، لَيْسَتْ فِيهَا إِذَا كَانَتْ حَالًا لِلتَّأْنِيثِ، بَلْ صَارَ هَذَا نَقْلًا مَحْضًا إِلَى مَعْنَى: جَمِيعٍ وَكُلٍّ، كَمَا صَارَ: قَاطِبَةً، وَعَامَّةً، إِذَا كَانَ حَالًا نَقْلًا مَحْضًا إِلَى مَعْنَى: كُلٍّ وَجَمِيعٍ. فَإِذَا قُلْتَ: قَامَ النَّاسُ كَافَّةً، أَوْ قَاطِبَةً، أَوْ عَامَّةً، فَلَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى التَّأْنِيثِ، كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: كُلٌّ، وَلَا جَمِيعٌ.
وَتَوْكِيدُهُ بِقَوْلِهِ: وَفِي شُعَبِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ كُلِّهَا، هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ: بِأَنْ يَدْخُلُوا فِي الطَّاعَاتِ كُلِّهَا، فَلَا حَاجَةَ إلى هذا الترديد بأو.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: أَمَرَهُمْ بِالثُّبُوتِ فِيهِ، وَالزِّيَادَةِ مِنِ الْتِزَامِ حُدُودِهِ. وَتَسْتَغْرِقُ: كَافَّةً، حِينَئِذٍ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمِيعَ أَجْزَاءِ الشَّرْعِ، فَيَكُونُ الْحَالُ مِنْ شَيْئَيْنِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ «١» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ ذكره: وكافة، مَعْنَاهُ: جَمِيعًا. وَالْمُرَادُ بِالْكَافَّةِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَكُفُّ مُخَالِفِيهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ الْحَالُ مِنْ شَيْئَيْنِ، يَعْنِي: مِنَ الْفَاعِلِ فِي ادْخُلُوا، وَمِنَ السِّلْمِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، يَعْنِي: مَجِيءَ الْحَالِ الْوَاحِدَةِ مِنْ شَيْئَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ في النحو.
(١) سورة مريم: ١٩/ ٢٧.
339
وَقَوْلُهُ: نَحْوَ قَوْلِهِ: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ «١» يَعْنِي أَنَّ تَحْمِلُهُ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي أَتَتْ، وَمِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، هَذَا الْمِثَالُ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْحَالِ مِنْ شَيْئَيْنِ، لِأَنَّ لَفْظَ: تَحْمِلُهُ، لَا يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ، وَلَا يَقَعُ الْحَالُ مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُمَا، وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ بِجَعْلِ ذَوِي الْحَالِ مُبْتَدَأَيْنِ، وَالْإِخْبَارِ بِتِلْكَ الْحَالِ عَنْهُمَا، فَمَتَى صَحَّ ذَلِكَ صَحَّتِ الْحَالُ، وَمَتَى امْتَنَعَ امْتَنَعَتْ. مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَعُلِّقْتُ سَلْمَى وَهِيَ ذَاتُ مُوَصَّدٍ وَلَمْ يَبْدُ لِلْأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
فَصَغِيرَيْنِ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عُلِّقْتُ، وَمِنْ سَلْمَى، لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَقُولَ أَنَا وَسَلْمَى صَغِيرَانِ نَرْعَى الْبَهْمَ، وَمِثْلُهُ:
خَرَجْتُ بِهَا نَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا فَنَمْشِي حَالٌ مِنَ التَّاءِ فِي: خَرَجْتُ، وَمِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بِهَا، وَيَصْلُحُ أَنْ تَقُولَ: أَنَا وَهِيَ نَمْشِي، وَهُنَا لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ تَحْمِلُهُ خَبَرًا عَنْهُمَا، لَوْ قُلْتَ: هِيَ وَهُوَ تَحْمِلُهُ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ تَحْمِلُهُ خَبَرًا، نَحْوَ قَوْلِهِ: هِنْدٌ وَزَيْدٌ تُكْرِمُهُ، لِأَنَّ تَحْمِلُهُ وَتُكْرِمُهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ إِلَّا بِمُفْرَدٍ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ذَوِي حَالٍ، وَلِذَلِكَ أَعْرَبَ الْمُعْرِبُونَ فِي:
خَرَجْتُ بِهَا نَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا نَمْشِي: حَالًا مِنْهُمَا، وَتَجُرُّ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: أَنَا وَهِيَ تَجُرُّ وَرَاءَنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ تَجُرُّ خَبَرًا عَنْهَا، لِأَنَّ تَجُرُّ وَتَحْمِلُ إِنَّمَا يَتَقَدَّرَانِ بِمُفْرَدٍ، أَيْ حَامِلَةً وَجَارَّةً، وَإِذَا صَرَّحْتَ بِهَذَا الْمُفْرَدِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ حَالًا منهما.
وكَافَّةً لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنَى: جَمِيعٍ، يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ فِي: ادْخُلُوا، وَمِنَ السِّلْمِ، بِمَعْنَى شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعٌ فِي كَذَا، صَحَّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا.
لَا يُقَالُ كَافَّةً لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، لَا تَقُولُ: الزَّيْدُونَ وَالْعَمْرُونَ كَافَّةٌ، فِي كَذَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ حَالًا عَلَى مَا قَرَّرْتَ، لِأَنَّ امْتِنَاعَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ مَادَّةِ: كَافَّةً، إذ لم
(١) سورة مريم: ١٩/ ٢٧.
340
يُتَصَرَّفْ فِيهَا، بَلِ الْتُزِمَ نَصْبُهَا عَلَى الْحَالِ، لَكِنَّ مُرَادِفَهَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِالْكَافَّةِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي يُكَفُّ مُخَالِفُهَا، يَعْنِي: أَنَّ هَذَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، ثُمَّ صَارَ الِاسْتِعْمَالُ لَهَا لِمَعْنَى: جَمِيعًا، كَمَا قال هو وغيره، وكافة: مَعْنَاهُ جَمِيعًا.
وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً «١» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ (الْكِتَابِ الْمُوَضَّحِ) أَبُو عَبْدِ الله نصر بن علي بْنِ مُحَمَّدٍ: عُرِفَ بِابْنِ مَرْيَمَ، أَنَّ ضَمَّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ فِي مِثْلِ هَذَا، نحو: عرفة وعرفات، هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَالَ فِيمَنْ سَكَّنَ الطَّاءَ: إِنَّهُمْ لَمَّا جَمَعُوا نَوَوُا الضَّمَّةَ فِي الطَّاءِ، ثُمَّ أَسْكَنُوهَا اسْتِخْفَافًا، وَهُوَ فِي تَقْدِيرِ الثَّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمَّةَ فِي حُكْمِ الثَّابِتِ، أَنَّ هَذِهِ حَرَكَةٌ يُفْصَلُ بِهَا بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، كَمَا هِيَ فِي جَمْعِ: فَعْلَةٍ، الْمَفْتُوحَةِ الْفَاءِ، فَلَا تُحْذَفُ عَيْنُ الِاسْمِ حَذْفًا، إِذْ هِيَ فَارِقَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّفَةِ، فَهِيَ مَنْوِيَّةٌ لَا مَحَالَةَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ فِي الصِّفَةِ لَا يُنْقَلُ، فَإِذَا جَمَعْنَا: حُلْوَةً وَضُحْكَةً، الْمُرَادُ بِهِ صِفَةُ الْمُؤَنَّثِ، فَلَا تَقُولُ: حُلُوَاتٍ، وَلَا ضُحُكَاتٍ، بِضَمِّ عَيْنِ الْكَلِمَةِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ: فُعْلَةٍ، الصِّفَةِ نَحْوَ: جُلْفَةٍ، لَا يُقَالُ فِيهِ جُلُفَاتٍ.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أَيْ: عَصَيْتُمْ أَوْ كَفَرْتُمْ، أَوْ أَخْطَأْتُمْ، أَوْ ضَلَلْتُمْ، أَقْوَالٌ ثَانِيهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ، أَيِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ زَلَلْتُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَأَصْلُ الزَّلَلِ لِلْقَدَمِ، يُقَالُ: زَلَّتْ قَدَمُهُ، كَمَا قَالَ.
وَلَا شَامِتٍ إِنْ نَعْلُ عَزَّةَ زَلَّتِ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي الرَّأْيِ وَالِاعْتِقَادِ، وَهُوَ الزَّلَقُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَفْسِيرِهِ فِي قَوْلِهِ:
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها «٢».
وَقَرَأَ أَبُو السِّمَاكِ: فَإِنْ زَلِلْتُمْ، بِكَسْرِ اللَّامِ، وَهُمَا لُغَتَانِ: كَضَلَلْتُ وَضَلِلْتُ.
وَالْبَيِّنَاتُ: حُجَجُ اللَّهِ وَدَلَائِلُهُ، أَوْ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ «٣» وَجُمِعَ تَعْظِيمًا لَهُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا بِالشَّخْصِ، فَهُوَ كَثِيرٌ بِالْمَعْنَى: أو القرآن
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٦٨.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٣٦.
(٣) سورة البينة: ٩٨/ ١.
341
قاله ابن جريج، أو التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ قَالَ: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ «١» وَقَالَ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ «٢» وَهَذَا يَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن الْمُخَاطَبَ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَوِ الْإِسْلَامُ، أَوْ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من الْمُعْجِزَاتِ، أَقْوَالٌ سِتَّةٌ.
وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) الْبَيِّنَاتُ: تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عُذْرَ الْمُكَلَّفِ لَا يَزُولُ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْبَيِّنَاتِ، لَا حُصُولِ التَّبْيِينِ مِنَ التَّكْلِيفِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يُخْبَرُ عَنْهَا بِالْمَجِيءِ لِأَنَّهَا مَرْكُوزَةٌ فِي الْعُقُولِ، فَلَا يُنْسَبُ إِلَيْهَا الْمَجِيءُ إِلَّا مَجَازًا، وَفِيهِ بُعْدٌ.
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ: دُومُوا عَلَى الْعِلْمِ، إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ فَهُوَ أَمْرٌ لَهُمْ بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَفِي وَصْفِهِ هُنَا بِالْعِزَّةِ الَّتِي هِيَ تَتَضَمَّنُ الْغَلَبَةَ وَالْقُدْرَةَ اللَّتَيْنِ يَحْصُلُ بِهِمَا الِانْتِقَامُ، وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ خَالَفَهُ وَزَلَّ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ، وَفِي وَصْفِهِ بِالْحِكْمَةِ دَلَالَةٌ عَلَى إِتْقَانِ أَفْعَالِهِ: وَأَنَّ مَا يُرَتِّبُهُ مِنَ الزَّوَاجِرِ لِمَنْ خَالَفَ هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ قَارِئًا قَرَأَ، غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَسَمِعَهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَنْكَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ فَلَا يَقُولُ كَذَا الْحَكِيمُ، لَا يَذْكُرُ الْغُفْرَانَ عِنْدَ الزَّلَلِ، لِأَنَّهُ إِغْرَاءٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ نَحْوُ هَذَا، وَأَنَّ الَّذِي كَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ أَقْرَأَهُ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَأَنْكَرَهُ حَتَّى سَمِعَ: عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَقَالَ: هَكَذَا يَنْبَغِي!.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ؟ هَلْ: هُنَا لِلنَّفْيِ، الْمَعْنَى: مَا يَنْظُرُونَ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ إِلَّا، وَكَوْنُهَا بِمَعْنَى النَّفْيِ إذ جَاءَ بَعْدَهَا: إِلَّا، كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ العرب، قال تعالى: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ «٣» هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ «٤» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ، وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
وَ: يَنْظُرُونَ، هُنَا مَعْنَاهُ: يَنْتَظِرُونَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَظَرْتُ فُلَانًا أَنْتَظِرُهُ، وَهُوَ لَا يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِنَفْسِهِ إِلَّا بِحَرْفِ جَرٍّ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعي لدى أم جندب
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٨٧. [.....]
(٣) سورة سبأ: ٣٤/ ١٧.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ٤٧.
342
وَمَفْعُولُ: يَنْظُرُونَ، هُوَ مَا بَعْدَ إِلَّا، أَيْ: مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا إِتْيَانَ اللَّهِ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، قِيلَ:
وَيَنْظُرُونَ هُنَا لَيْسَتْ مِنَ النَّظَرِ الَّذِي هُوَ تَرَدُّدُ الْعَيْنِ فِي الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ، لأنه لو كان من النَّظَرِ لَعُدِّيَ بِإِلَى، وَكَانَ مُضَافًا إِلَى الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الِانْتِظَارِ. انْتَهَى.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ: هُوَ مِنَ النَّظَرِ، وَهُوَ تَرَدُّدُ الْعَيْنِ. وَهُوَ مُعَدًّى بِإِلَى، لَكِنَّهَا مَحْذُوفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ؟ وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ أَنْ إِذَا لَمْ يُلْبِسْ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ، وَلَا لَبْسَ هُنَا، فَحُذِفَتْ: إِلَى، وَقَوْلُهُ: وَكَانَ مُضَافًا إِلَى الْوَجْهِ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «١» فَكَذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، قَدْ نُسِبَ النَّظَرُ إِلَى الذَّوَاتِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ «٢» أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «٣» وَالضَّمِيرُ فِي:
يَنْظُرُونَ، عَائِدٌ عَلَى الذَّالِّينَ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ.
وَالْإِتْيَانُ: حَقِيقَةٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ حَيِّزٍ إِلَى حَيِّزٍ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يُفَسَّرُ، وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ يُؤْمِنُونَ، وَيَكِلُونَ فَهْمَ مَعْنَاهُ إِلَى عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمُتَأَخِّرُونَ تَأَوَّلُوا الْإِتْيَانَ وَإِسْنَادَهُ عَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِتْيَانٌ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ عبر به عن المجازات لَهُمْ، وَالِانْتِقَامِ، كَمَا قَالَ: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ «٤» فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا «٥».
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقُ الْإِتْيَانِ مَحْذُوفًا، أَيْ: أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: أَمْرُ اللَّهِ، بِمَعْنَى: مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِمْ، لَا الْأَمْرُ الَّذِي مُقَابِلُهُ النَّهْيُ، وَيُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ.
الْخَامِسُ: قُدْرَتُهُ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ أَحْمَدَ.
السَّادِسُ: أَنَّ فِي ظُلَلٍ، بِمَعْنَى بِظُلَلٍ، فَيَكُونُ: فِي، بِمَعْنَى: الْبَاءِ، كما قال.
(١) سورة القيامة: ٧٥/ ٢٢.
(٢) سورة الغاشية: ٨٨/ ١٧.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٤٣.
(٤) سورة النحل: ١٦/ ٢٦.
(٥) سورة الحشر: ٥٩/ ٢.
343
خَبِيرُونَ فِي طَعْنِ الْأَبَاهِرِ وَالْكُلَى أَيْ: بِطَعْنِ، لِأَنَّ خَبِيرًا لَا يَتَعَدَّى إِلَّا بِالْبَاءِ، كَمَا قَالَ.
خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَمْرُ اللَّهِ، إِذْ قَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
«١» وَتَكُونُ عِبَارَةً عَنْ بَأْسِهِ وَعَذَابِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ مَجِيءَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَقِيلَ:
الْمَحْذُوفُ: آيَاتُ اللَّهِ، فَجَعَلَ مَجِيءَ آيَاتِهِ مَجِيئًا لَهُ عَلَى التَّفْخِيمِ لِشَأْنِهَا، قَالَهُ فِي (الْمُنْتَخَبِ). وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَأْتِيَهُمْ بِمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى الْغَمَامِ عَلَى عَرْشِهِ تَحْمِلُهُ ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ مَعَ الْيَهُودِ، وَهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مع اليهود قول بَعْدُ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، فَالْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، إِذِ الْمَعْنَى: أَنَّ قَوْمًا يَنْتَظِرُونَ إِتْيَانَ اللَّهِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ وَلَا مُبْطِلُونَ.
فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ «٢» وَيَسْتَحِيلُ عَلَى الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ أَنْ تَحُلَّ فِي ظُلَّةٍ، وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحُصُولِهَا وَشِدَّتِهَا، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ أَشَدُّ عَلَى الْمُذْنِبِينَ، وَأَهْوَلُ، مِنْ وَقْتِ جَمْعِهِمْ وَحُضُورِ أَمْهَرِ الْحُكَّامِ وَأَكْثَرِهِمْ هَيْبَةً لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، وَإِذَا فُسِّرَ بِأَنَّ عذاب الله يأتيهم فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الشَّرُّ مِنْ جِهَةِ الْخَيْرِ، لِقَوْلِهِ: هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ «٣» وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهُوَ عَلَامَةٌ لِأَشَدِّ الْأَهْوَالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ «٤» وَلِأَنَّ الْغَمَامَ يُنْزِلُ قَطَرَاتٍ غَيْرَ مَحْدُودَةٍ، فَكَذَلِكَ الْعَذَابُ غَيْرُ مَحْصُورٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَذَابَ لَا يَأْتِي فِي الظُّلَلِ، بَلِ الْمَعْنَى تَشْبِيهُ الْأَهْوَالِ بِالظُّلَلِ مِنَ الْغَمَامِ، كَمَا قَالَ:
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ «٥» فَالْمَعْنَى أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ يَأْتِيهِمْ فِي أَهْوَالٍ عَظِيمَةٍ، كظلل الغمام.
(١) سورة النحل: ١٦/ ٣٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٥٧.
(٣) سورة الأحقاف: ٤٦/ ٢٤.
(٤) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٥.
(٥) سورة لقمان: ٣١/ ٣٢.
344
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّوَعُّدِ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ تَوَعُّدٌ بِمَا يَقَعُ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ قَوْمٌ:
بَلْ تَوَعُّدٌ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: فِي ظِلَالٍ، وَكَذَلِكَ رَوَى هَارُونُ بْنُ حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، هُنَا وَفِي الْحَرْفَيْنِ فِي الزُّمَرِ، وَهِيَ: جُمَعُ ظُلَّةٍ، نَحْوَ: قُلَّةٍ وَقِلَالٍ، وَهُوَ جَمْعٌ لَا يَنْقَاسُ، بِخِلَافِ: ظُلَلٍ، فَإِنَّهُ جَمْعٌ مُنْقَاسٌ، أَوْ جَمْعُ: ظُلٍّ نَحْوَ ضُلٍّ وَضُلَّالٍ.
وَ: في ظلل، متعلق بيأتيهم، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ حَالًا فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَ: مِنَ الْغَمَامِ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِظُلَلٍ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَتَعَلَّقَ بيأتيهم، أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَمَامِ، فَتَكُونُ:
مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: وَالْمَلَائِكَةِ، بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى: فِي ظُلَلٍ، أَوْ عَطْفًا عَلَى الْغَمَامِ، فَيَخْتَلِفُ تَقْدِيرُ حَرْفِ الْجَرِّ، إِذْ عَلَى الْأَوَّلِ التَّقْدِيرُ: وَفِي الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى الثَّانِي التَّقْدِيرُ: وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى: اللَّهُ، وَقِيلَ: فِي هَذَا الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، فالإتيان في الظل مُضَافٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ، فَالْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الإتيان فَقَطْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ عبد الله، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ.
وَقُضِيَ الْأَمْرُ مَعْنَاهُ: وَقَعَ الْجَزَاءُ وَعُذِّبَ أَهْلُ الْعِصْيَانِ، وَقِيلَ: أُتِمَّ أَمَرُ هَلَاكِهِمْ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَقِيلَ: فُرِغَ مِنْ وَقْتِ الِانْتِظَارِ وَجَاءَ وَقْتُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَقِيلَ: فُرِغَ لَهُمْ مِمَّا يُوعَدُونَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: فُرِغَ مِنَ الْحِسَابِ وَوَجَبَ الْعَذَابُ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.
وَقُضِيَ الْأَمْرُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَأْتِيَهُمْ، فَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ كَالْمَفْرُوغِ مِنْهُ الَّذِي وَقَعَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُقْضَى الْأَمْرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: فُرِغَ مِنْ أَمْرِهِمْ بِمَا سَبَقَ فِي الْقَدَرِ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لَا أَنَّهُ فِي حَيِّزٍ مَا يُنْتَظَرُ.
وَقَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: وَقَضَاءُ الْأَمْرِ، قَالَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَرْفُوعِ عَطْفًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْمَدِّ وَالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: وَيَكُونُ: فِي، عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْبَاءِ، أَيْ: بِظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَبِالْمَلَائِكَةِ، وَبِقَضَاءِ الْأَمْرِ.
345
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ مَعْمَرٍ: وَقُضِيَ الْأُمُورُ، بِالْجَمْعِ، وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُبْرِزَ وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْفَاعِلِ لَتَكَرَّرَ الِاسْمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: تَرْجِعُ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَيَعْقُوبُ: بِالتَّاءِ مَفْتُوحَةً وَكَسْرِ الْجِيمِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، عَلَى أَنَّ: رَجَعَ، لَازِمٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مَبْنِيًا لِلْمَفْعُولِ، وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ:
يُرْجَعُ بِالْيَاءِ. وَفَتْحِ الْجِيمِ عَلَى أَنْ رَجَعَ مُتَعَدٍّ. وَكِلَا الِاسْتِعْمَالَيْنِ لَهُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلُغَةٌ قَلِيلَةٌ فِي الْمُتَعَدِّي أَرْجَعَ رُبَاعِيًّا، فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَلِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَلِكَوْنِ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ.
وَصُرِّحَ بِاسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ أَفْخَمُ وَأَعْظَمُ وَأَوْضَحُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَلِأَنَّهُ فِي جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي الْمُنْتَظَرِ، وَإِنَّمَا هِيَ إِعْلَامٌ بِأَنَّ اللَّهَ إِلَيْهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ كُلُّهَا. لَا إِلَى غَيْرِهِ، إِذْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بالمجازاة، ولرفع إبهام مَا كَانَ عَلَيْهِ مُلُوكُ الدُّنْيَا مِنْ دَفْعِ أُمُورِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، فَأَعْلَمَ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْهَا شَيْءٌ، بَلْ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، أَوْ لِإِعْلَامِ أَنَّهَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَلَّكَهُمْ بَعْضَهَا فِي الدُّنْيَا، فَصَارَتْ إِلَيْهِ كُلُّهَا فِي الْآخِرَةِ.
وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ، إِمَّا اللَّهُ تَعَالَى، يُرْجِعُهَا إِلَى نَفْسِهِ بِإِفْنَاءِ الدُّنْيَا وَإِقَامَةِ الْقِيَامَةِ، أَوْ ذَوُو الْأُمُورِ، لَمَّا كَانَتْ ذَوَاتُهُمْ وَصَفَاتُهُمْ شَاهِدَةً عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مُحَاسَبُونَ مَجْزِيُّونَ، كَانُوا رَادِّينَ أُمُورَهُمْ إِلَى خَالِقِهَا، قِيلَ: أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: إِلَى أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ؟
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْهَبُ بِهِ. انْتَهَى. وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ يُبْنَى الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ وَلَا يَكُونُ ثَمَّ فَاعِلٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، إِذْ لَا بُدَّ لِلْفِعْلِ مِنْ تَصَوُّرِ فَاعِلٍ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ لِلذَّهَابِ أَحَدًا، وَلَا الْفَاعِلُ لِلْإِعْجَابِ، بَلِ الْفَاعِلُ غَيْرُهُ، فَالَّذِي أَعْجَبَهُ بِنَفْسِهِ هُوَ رَأْيُهُ، وَاعْتِقَادُهُ بِجَمَالِ نَفْسِهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَعْجَبَهُ رَأْيُهُ، وَذَهَبَ بِهِ رَأْيُهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَعْجَبَهُ رَأْيُهُ بِنَفْسِهِ، وَإِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ بِكَ رَأْيُكَ أَوْ عَقْلُكَ؟ ثُمَّ حُذِفَ الْفَاعِلُ، وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ.
قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ قِسْمَانِ مِنْ أَقْسَامِ عِلْمِ الْبَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِيجَازُ فِي قَوْلِهِ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ فَإِنَّ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ يَنْدَرِجُ فِي
346
ضِمْنِهَا جَمِيعُ أَحْوَالِ الْعِبَادِ مُنْذُ خُلِقُوا إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، وَمِنْ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى الْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ.
وَالثَّانِي: الِاخْتِصَاصُ بِقَوْلِهِ: وَإِلَى اللَّهِ فَاخْتُصَّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ لِانْفِرَادِهِ فِيهِ بِالتَّصَرُّفِ وَالْحُكْمِ وَالْمُلْكِ. انْتَهَى.
وَقَالَ السُّلَمِيُّ: وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَصَلُوا إِلَى مَا قُضِيَ لَهُمْ فِي الْأَزَلِ مِنْ إِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ.
وَقَالَ جَعْفَرٌ: كُشِفَ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَنَهْيِهِ.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: انْهَتَكَ سِتْرُ الْغَيْبِ عَنْ صَرِيحِ التَّقْدِيرِ.
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْأَلْ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: اسَلْ، وَأَصْلُهُ اسْأَلْ، فَنَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى السِّينِ وَحَذَفَ الْهَمْزَةَ الَّتِي هِيَ عَيْنٌ، وَلَمْ تُحْذَفْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِحَرَكَةِ السِّينِ لِعُرُوضِهَا، كَمَا قَالُوا: الَحْمَرَ فِي الْأَحْمَرِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سَلْ، فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَهُ اسْأَلْ، فَلَمَّا نَقَلَ وَحَذَفَ اعْتَدَّ بِالْحَرَكَةِ، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ لِتَحَرُّكِ مَا بَعْدَهَا، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ جَاءَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَجْعَلُ الْمَادَّةَ مِنْ: سِينٍ، وَوَاوٍ، وَلَامٍ، فَيَقُولُ: سَأَلَ يَسْأَلُ، فَقَالَ: سَلْ، كَمَا قَالَ: خَفْ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى هَمْزَةِ وَصْلٍ، وَانْحَذَفَتْ عَيْنُ الْكَلِمَةِ لِالْتِقَائِهَا سَاكِنَةً مَعَ اللَّامِ السَّاكِنَةِ، وَلِذَلِكَ تَعُودُ إِذَا تَحَرَّكَتِ الْفَاءُ نَحْوَ: خَافَا وَخَافُوا وَخَافِي.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ وَكَانَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ استبطاء حق لهم في الإسلام، وأنهم لا ينتظرون إِلَّا آيَةً عَظِيمَةً تُلْجِئُهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، جَاءَ هَذَا الْأَمْرُ بِسُؤَالِهِمْ عَمَّا جَاءَتْهُمْ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ تِلْكَ الْآيَاتُ، فَعَدَمُ إِسْلَامِهِمْ مُرَتَّبٌ عَلَى عِنَادِهِمْ وَاسْتِصْحَابِ لَجَاجِهِمْ، وَهَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ سُؤَالًا عَمَّا لَا يَعْلَمُ، إِذْ هُوَ عَالِمٌ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ آتَاهُمُ اللَّهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ عَنْ مَعْلُومٍ، فَهُوَ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، وَتَقْرِيرٌ لَهُمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّهَا مَا أَجْدَتْ عِنْدَهُمْ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ.
وَفِي هَذَا السُّؤَالِ أَيْضًا تَثْبِيتٌ وَزِيَادَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ «١» أَوْ: زِيَادَةُ يَقِينِ الْمُؤْمِنِ، فَالْخِطَابُ فِي اللَّفْظِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ:
(١) سورة هود: ١١/ ١٢٠.
347
أُمَّتُهُ، أَوْ إِعْلَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَقَوْمَهُ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا مَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ قبل أن أنزل اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ.
بَنِي إِسْرائِيلَ مَنْ كَانَ بحضرته منهم، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو من آمن من بِهِ مِنْهُمْ، أَوْ عُلَمَاؤُهُمْ، أَوْ أَنْبِيَاؤُهُمْ، أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ.
وكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ آتَيْناهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ أَوَّلٌ عَلَى مَذْهَبِ السُّهَيْلِيِّ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ، قَالَ:
وَكَمْ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ إِمَّا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ بَعْدَهَا، لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ: كَمْ آتَيْنَاهُمْ، أَوْ بِإِتْيَانِهِمْ. انْتَهَى. وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ إِنْ كَانَ قَوْلُهُ: مِنْ آية تمييزا لكم، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُفَسِّرَ لِهَذَا الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ لَمْ يَعْمَلْ فِي ضَمِيرِ الِاسْمِ الْأَوَّلِ الْمُنْتَصِبِ بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ وَلَا فِي سَبَبِيَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ. وَنَظِيرُ مَا أَجَازَ أَنْ يَقُولَ: زَيْدًا ضَرَبْتُ، فَتُعْرِبُ زَيْدًا مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، التَّقْدِيرُ: زَيْدًا ضَرَبْتُ ضَرَبْتُ، وَكَذَلِكَ: الدِّرْهَمَ أَعْطَيْتُ زَيْدًا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، بَلْ نُصُوصُ النَّحْوِيِّينَ، سِيبَوَيْهِ فَمَنْ دُونَهُ، عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ تَمْيِيزُ: كَمْ، مَحْذُوفًا.
وَأُطْلِقَتْ: كَمْ، عَلَى الْقَوْمِ أَوِ الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: كَمْ مِنْ جَمَاعَةٍ آتَيْنَاهُمْ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، إِذْ فِي الْجُمْلَةِ الْمُفَسِّرَةِ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى: كَمْ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ: كَمْ، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: آتَيْنَاهُمْ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: آتَيْنَاهُمُوهُ، أَوْ آتَيْنَاهُمُوهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، أَوْ فِي شَاذٍّ مِنَ الْقُرْآنِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ «١» بِرَفْعِ الْحُكْمِ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: لَوْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ غير: كل، والضمير مفعول بِهِ، لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ حَذْفُهُ مَعَ بَقَاءِ الرَّفْعِ إِلَّا فِي الِاضْطِرَارِ، وَالْبَصْرِيُّونَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِ، وَيَرَوْنَهُ ضَعِيفًا، انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الِاضْطِرَارِ، أَوْ ضَعِيفًا، فَأَيُّ دَاعِيَةٍ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَرُجْحَانِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وكم، هُنَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَمَعْنَاهَا التَّقْرِيرُ لَا حَقِيقَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَدْ
(١) سورة المائدة: ٥/ ٥٠. [.....]
348
يَخْرُجُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِذَا تَقَدَّمَهُ مَا يُخْرِجُهُ، نَحْوَ قَوْلِكَ: سَوَاءٌ عَلَيْكَ أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ، و: ما أُبَالِي أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ أَوْ عَمْرٌو وَمَا أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ، فَكُلُّ هَذَا صُورَتُهُ صُورَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ عَلَى التَّرْكِيبِ الِاسْتِفْهَامِيِّ وَأَحْكَامِهِ، وَلَيْسَ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: كَمْ آتَيْناهُمْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي: لسل، لِأَنَّ سَأَلَ يَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِنَفْسِهِ، وَالْآخَرُ: بِحَرْفِ جَرٍّ، إِمَّا عَنْ، وَإِمَّا الْبَاءُ. وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الضَّرُورَةِ نَحْوَ.
فَأَصْبَحْنَ لَا يَسْأَلْنَهُ عَنْ بِمَا بِهِ وَ: سَأَلَ، هُنَا مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، فَهِيَ عَامِلَةٌ فِي الْمَعْنَى، غَيْرُ عَامِلَةٍ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ إِلَّا الْجَارُّ، قَالُوا: وَإِنَّمَا عُلِّقَتْ: سَلْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، لِأَنَّ السُّؤَالَ سَبَبٌ لِلْعِلْمِ، فَأُجْرِيَ السَّبَبُ مَجْرَى الْمُسَبَّبِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ «١» وَقَالَ الشَّاعِرُ.
سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ وَقَالَ:
وَاسْأَلْ بِمَصْقَلَةَ الْبِكْرِيِّ مَا فَعَلَا وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكُونَ: كَمْ، هُنَا خَبَرِيَّةً، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَمِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَمْ خَبَرِيَّةٌ؟
قُلْتُ: يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِيهَا التَّقْدِيرُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ جَعْلَهَا خَبَرِيَّةً هُوَ اقْتِطَاعٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا مِنْ جُمْلَةِ السُّؤَالِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا ذُكِرَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ آتَيْنَاهُمْ، فَيَصِيرُ هَذَا الْكَلَامُ مُفَلَّتًا مِمَّا قَبْلَهُ، لِأَنَّ جُمْلَةَ: كَمْ آتَيْنَاهُمْ، صَارَ خَبَرًا صِرْفًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ:
سَلْ، وَأَنْتَ تَرَى مَعْنَى الْكَلَامِ، وَمَصَبَّ السُّؤَالِ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَيَحْتَاجُ فِي تَقْرِيرِ الْخَبَرِيَّةِ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثاني: لسل،
(١) سورة القلم: ٦٨/ ٤٠.
349
وَيَكُونُ الْمَعْنَى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنِ الْآيَاتِ الَّتِي آتَيْنَاهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ آتَيْنَاهُمْ.
مِنْ آيَةٍ تَمْيِيزٌ لِ: كَمْ، وَيَجُوزُ دُخُولُ: مِنْ، عَلَى تَمْيِيزِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، سَوَاءٌ وَلِيَهَا أَمْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا، وَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِجُمْلَةٍ، وَبِظَرْفٍ، وَمَجْرُورٍ، جَائِزٌ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي النَّحْوِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ: مِنْ آيَةٍ، مفعولا ثانيا: لآتيناهم، وَذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ قَبْلُ مِنْ جَوَازِ نَصْبِ: كَمْ، بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ: آتَيْنَاهُمْ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ: كَمْ، تَكُونُ كِنَايَةً عَنْ قَوْمٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَحُذِفَ تَمْيِيزُهَا لِفَهْمِ الْمَعْنَى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ: كَمْ، خَبَرِيَّةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: مِنْ آيَةٍ، مَفْعُولًا ثَانِيًا، لِأَنَّ زِيَادَةَ:
مِنْ، لَا تَكُونُ فِي الْإِيجَابِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ غَيْرَ الْأَخْفَشِ، وَإِنْ كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ لِانْسِحَابِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ مُتَعَلَّقَ الِاسْتِفْهَامِ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي، فَلَوْ قُلْتَ: كَمْ مِنْ دِرْهَمٍ أَعْطَيْتُهُ مِنْ رَجُلٍ، عَلَى زِيَادَةٍ: مِنْ، فِي قَوْلِكَ: مِنْ رَجُلٍ، لَكَانَ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى زِيَادَةِ: مِنْ، فِي (مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا.
و: الآيات الْبَيِّنَاتُ، مَا تَضَمَّنَتْهُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَحْقِيقِ نُبُوَّتِهِ، وَتَصْدِيقِ مَا جَاءَ بِهِ، أَوْ مُعْجِزَاتُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ: كَالْعَصَا، وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ، وَفَلْقِ الْبَحْرِ، أَوِ: الْقُرْآنُ قَصَّ اللَّهُ قَصَصَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ حَسْبَمَا وَقَعَتْ عَلَى لِسَانِ مَنْ لَمْ يُدَارِسِ الْكُتُبَ وَلَا الْعُلَمَاءَ، وَلَا كَتَبَ وَلَا ارْتَجَلَ، أَوْ مُعْجِزَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: كَتَسْبِيحِ الْحَصَى، وَتَفْجِيرِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ، أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَقَدَّرُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ، مَحْذُوفًا، فَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ: فَكَذَّبُوا بِهَا، وَبَعْضُهُمْ: فَبَدَّلُوهَا.
وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَةُ اللَّهِ: الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَدِّلُ بِهَا التَّشْبِيهَ وَالتَّأْوِيلَاتِ، أَوْ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ نعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُبَدِّلُ بِهِ نَعْتَ الدَّجَّالِ، أَوِ الِاعْتِرَافُ بِنُبُوَّتِهِ يُبَدِّلُ بِهَا الْجَحْدَ لَهَا، أَوْ كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ يُبَدِّلُ بِهَا غَيْرَ أَحْكَامِهَا كَآيَةِ الرَّجْمِ وَشِبْهِهَا، أَوِ الْإِسْلَامُ. قَالَهُ الطَّبَرِيُّ أَوْ شُكْرُ النِّعْمَةِ يُبَدِّلُ بِهَا الْكُفْرَ أَوْ آيَاتُهُ وَهِيَ أَجَلُّ نِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّهَا أَسْبَابُ الْهُدَى وَالنَّجَاةِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَتَبْدِيلُهُمْ إِيَّاهَا، أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَهَا لِتَكُونَ أَسْبَابَ هُدَاهُمْ، فَجَعَلُوهَا أَسْبَابَ
350
ضَلَالَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «١» قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَبْعَةُ أَقْوَالٍ.
وَلَفْظُ: مَنْ يُبَدِّلْ، عَامٌّ وَهُوَ شَرْطٌ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّ مُبَدِّلِ نِعْمَةٍ:
كَكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَدَّلُوا بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا وَقَبُولِهَا الْكُفْرَ.
مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا أُسْدِيَتْ إِلَيْهِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ قَبُولِهَا، وَمِنْ بَعْدِ مَا عَرَفَهَا كَقَوْلِهِ: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ «٢» وَأَتَى بِلَفْظِ: مِنْ، إِشْعَارًا بِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وإنه يعقب: مَا جَاءَتْهُ، يُبَدِّلُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُ تَأْكِيدٌ، لِأَنَّ إِمْكَانِيَّةَ التَّبْدِيلِ مِنْهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الوصول إليه.
وقرىء: ومن يبدل بالتخفيف، ويبدل، يَحْتَاجُ لِمَفْعُولَيْنِ: مُبْدَلٌ وَمُبْدَلٌ لَهُ، فَالْمُبْدَلُ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِحَرْفِ جَرٍّ، وَالْبَدَلُ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا «٣» وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْمَفْعُولُ الْوَاحِدُ هُنَا مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْبَدَلُ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَدَّرَ مِثْلُ مَا لُفِظَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً «٤» : فكفرا هو البدل، ونعمة اللَّهِ، هُوَ الْمُبْدَلُ، وَهُوَ الَّذِي أَصْلُهُ: أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَالتَّقْدِيرُ إِذَنْ:
وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، وَجَازَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ وَحَرْفِ الْجَرِّ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَلِتَرْتِيبِ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ يَكُونَ النِّعْمَةُ هِيَ الْبَدَلَ، وَالْكُفْرُ هُوَ الْمُبْدَلَ أَنْ يُجَابَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ، وَمِنْ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى قَوْلُهُ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «٥» أَيْ: بِسَيِّئَاتِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: سَيِّئَاتِهِمْ بِحَسَنَاتٍ، فَتَكُونُ السَّيِّئَاتُ هِيَ الْبَدَلَ، وَالْحَسَنَاتُ هِيَ الْمُبْدَلَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً «٦» فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ خَبَرٌ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ بِالْعِقَابِ عَلَى مَنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ جَوَابَ الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ عَائِدٍ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ، تَقْدِيرُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لَهُ، أَوْ تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مُعَاقِبَةً لِلضَّمِيرِ عَلَى مَذْهَبِ
(١) سورة التوبة: ٩/ ١٢٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٧٥.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٥٩، والأعراف: ٧/ ١٦٢.
(٤) سورة إبراهيم: ١٤/ ٢٨.
(٥- ٦) سورة الفرقان: ٢٥/ ٧٠.
351
الْكُوفِيِّينَ، فَيُغْنِي عَنِ الرَّبْطِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الضَّمِيرِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: يُعَاقِبُهُ.
قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي كِتَابِ (دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ) : تَرْكُ هَذَا الْإِضْمَارِ أَوْلَى، يَعْنِي بِالْإِضْمَارِ شَدِيدَ الْعِقَابِ لَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ التَّخْوِيفُ لِكَوْنِهِ فِي ذَلِكَ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِهِ شَدِيدَ الْعِقَابِ. لِهَذَا، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْعَذَابُ عِقَابًا، لِأَنَّهُ يَعْقُبُ الْجُرْمَ.
وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ جَمَعَ فِي التَّفْسِيرِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ مُؤَخَّرَةٌ فِي التِّلَاوَةِ، مُقَدَّمَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَمَا اعْتَبَرُوا وَلَا أَذْعَنُوا إِلَيْهَا، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ؟ أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ. انْتَهَى.
وَلَا حَاجَةَ إِلَى ادِّعَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَرَتُّبِهَا أَخَذَ بَعْضُهَا بِعُنُقِ بَعْضٍ، مُتَلَاحِمَةُ التَّرْكِيبِ، وَاقِعَةٌ مَوَاقِعَهَا، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أُخْبِرُوا أَنَّ مَنْ زَلَّ جَازَاهُ اللَّهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، ثُمَّ قِيلَ: لَا يَنْتَظِرُونَ فِي إِيمَانِهِمْ إِلَّا ظُهُورَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، عِنَادًا مِنْهُمْ، فَقَدْ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ، ثُمَّ سَلَّى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اسْتِبْطَاءِ إِيمَانِهِمْ مَعَ مَا أَتَى بِهِ لَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، بِقَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَمَا آمَنُوا بِهَا بَلْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا، ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، فَأَنْتَ تَرَى هَذِهِ الْمَعَانِيَ مُتَنَاسِقَةً مُرَتَّبَةً التَّرْتِيبَ الْمُعْجِزَ، بِاللَّفْظِ الْبَلِيغِ الْمُوجَزِ، فَدَعْوَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ الْمُخْتَصِّ بِضَرُورَةِ الْأَشْعَارِ، وَبِنَظْمِ ذَوِي الِانْحِصَارِ، مُنَزَّهٌ عَنْهَا كَلَامُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ بِمَا بَسَطَ اللَّهُ لَهُمْ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْمَعَادِ، وَيَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ، كَعَمَّارٍ، وَصُهَيْبٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَسَالِمٍ، وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ، وَخَبَّابٍ، وَبِلَالٍ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيَّنَا لَتَبِعَهُ أَشْرَافُنَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَأَصْحَابِهِ، كَانُوا يَتَنَعَّمُونَ وَيَسْخَرُونَ مِنْ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَغْلِبُ بِهِمْ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَالنَّضِيرِ، وَقَيْنُقَاعَ، سَخِرُوا مِنْ فُقَرَاءِ
352
الْمُهَاجِرِينَ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، أَسْهَلَ شَيْءٍ وَأَيْسَرَهُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَتَتْهُمْ آيَاتٌ وَاضِحَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ بَدَّلُوا، أَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ هُوَ الرُّكُونُ إِلَى الدُّنْيَا، وَالِاسْتِبْشَارُ بِهَا، وَتَزْيِينُهَا لَهُمْ، وَاسْتِقَامَتُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَكْبَرُ حَظٍّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَيَكْذِبُونَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَيَكْتُبُونَ مَا شاؤا لِيَنَالُوا حَظًّا خَسِيسًا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا، وَيَقُولُونَ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: زُيِّنَ، عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ لِلْفَصْلِ، وَلِكَوْنِ الْمُؤَنَّثِ غَيْرَ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: زُيِّنَتْ، بِالتَّاءِ وَتَوْجِيهُهَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ مُؤَنَّثٌ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَهُوَ: اللَّهُ تَعَالَى، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَبِي حَيْوَةَ: زَيَّنَ، عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ قَبْلَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
وَتَزْيِينُهُ تَعَالَى إِيَّاهَا لَهُمْ بِمَا وَضَعَ فِي طِبَاعِهِمْ مِنَ الْمَحَبَّةِ لَهَا، فَيَصِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ مَيْلٌ وَرَغْبَةٌ فِيهَا، أَوْ بِالشَّهَوَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا فِيهِمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ «١» الْآيَةَ، وَإِنَّمَا أَحْكَمَهُ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ وَأَتْقَنَهُ وَحَسَّنَهُ، فَأَعْجَبَهُمْ بَهْجَتُهَا، وَاسْتَمَالَتْ قُلُوبَهُمْ فَمَالُوا إِلَيْهَا كُلِّيَّةً، وَأَعْطَوْهَا مِنَ الرَّغْبَةِ فَوْقَ مَا تَسْتَحِقُّهُ.
وقال أبوبكر الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ قُدِمَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نستطيع إلى أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَ لَنَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ زَيَّنَهَا لَهُمْ بِأَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى اسْتَحْسَنُوهَا وَأَحَبُّوهَا، أَوْ جَعَلَ إِمْهَالَ الْمُزَيَّنِ تَزْيِينًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ خَلْقِ الْعَبْدِ، فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ التَّزْيِينَ عَلَى الْخِذْلَانِ، أَوْ عَلَى الْإِمْهَالِ، وَقِيلَ: الزَّيْنُ الشَّيْطَانُ، وَتَزْيِينُهُ بِتَحْسِينِ مَا قَبُحَ شَرْعًا، وَتَقْبِيحِ مَا حَسُنَ شَرْعًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّزْيِينَيْنِ: أَنَّ تَزْيِينَ اللَّهِ بِمَا رَكَّبَهُ وَوَضَعَهُ فِي الْجِبِلَّةِ، وَتَزْيِينَ الشَّيْطَانِ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٤.
353
بإذكار ما وقع غفاله، وَتَحْسِينِهِ بِوَسَاوِسِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ، وَقِيلَ: الْمُزَيِّنُ، نُفُوسُهُمْ كَقَوْلِهِ: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «١» فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ «٢» وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي «٣» وَقِيلَ: شُرَكَاؤُهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، قَالَ تَعَالَى وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «٤» الْآيَةَ وَقَالَ: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ «٥».
وَقِيلَ: الْمُزَيَّنُ هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا قَالَ: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ «٦».
وَقِيلَ: الْمُزَيَّنُ الْمَجْمُوعُ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَعْرِيفُ الْمُؤْمِنِينَ بِسَخَافَةِ عُقُولِ الْكُفَّارِ حَيْثُ آثَرُوا الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي.
وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَتَقَدَّمَ مَنْ هُمْ، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: الَّذِينَ آمَنُوا، فِي سَبَبِ النُّزُولِ، وَمَعْنَى: يَسْخَرُونَ: يَسْتَهْزِئُونَ، وَذَلِكَ لِفَقْرِهِمْ، أَوْ: لِاتِّبَاعِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أَوْ: لِاتِّهَامِهِمْ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ مُصَدِّقُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، أو لِضَعْفِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: زُيِّنَ، وَلَا يُلْحَظُ فِيهَا عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ اتِّحَادُ الزَّمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ اتِّحَادُ الصِّيغَةِ، وَصُدِّرَتِ الْأُولَى بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، وَهُوَ تَرْكِيبُ طِبَاعِهِمْ عَلَى مَحَبَّةِ الدُّنْيَا، فَلَيْسَ أَمْرًا مُتَجَدِّدًا، وَصُدِّرَتِ الثَّانِيَةُ بِالْمُضَارِعِ، لِأَنَّهَا حَالَةٌ تَتَجَدَّدُ كُلَّ وَقْتٍ وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيِ: الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ، وَمَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِهِمُ التَّقْدِيرَ: وَهُمْ يَسْخَرُونَ، فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيَصِيرُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ.
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَوْقَ: ظَرْفُ مَكَانٍ، فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ فِي السَّمَاءِ، وَالْكُفَّارَ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ وَقِيلَ: الْفَوْقِيَّةُ، مَجَازٌ إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّعِيمَيْنِ: نَعِيمِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَنَعِيمِ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُجَجِ الْمُؤْمِنِينَ، وَشُبَهِ الْكُفَّارِ لِثُبُوتِ الْحُجَجِ وَتَلَاشِي الشُّبَهِ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا زَعَمَ الْكُفَّارُ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنْ كَانَ لَنَا مُعَادٌ فَلَنَا فِيهِ الْحَظُّ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٥٣.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٣.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ٩٦.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ١٣٧.
(٥) سورة الأنعام: ٦/ ١١٢.
(٦) سورة الحديد: ٥٧/ ٢٠.
354
سُخْرِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَسُخْرِيَةِ الْكَافِرِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ عَالُونِ عَلَيْهِمْ، مُتَطَاوِلُونَ، يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، كَمَا كَانَ أُولَئِكَ فِي الدُّنْيَا يَتَطَاوَلُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُلُوِّ حَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ فِي كَرَامَةٍ، وَالْكُفَّارَ فِي هَوَانٍ.
وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُصَدَّرَةً بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا لِيَظْهَرَ أَنَّ السَّعَادَةَ الْكُبْرَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي، وَلِتَبْعَثَ الْمُؤْمِنَ عَلَى التَّقْوَى، وَلِيَزُولَ قَلَقُ التَّكْرَارِ لَوْ كَانَ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا، لِأَنَّ قَبْلَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا.
وَانْتِصَابُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الْوَاقِعِ خَبَرًا، أَيْ: كَائِنُونَ هُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا فَهِمُوا مِنْ فَوْقَ أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ بَيْنَ مَنْ يُخْبَرُ بِهَا عَنْهُ، وَبَيْنَ مَنْ تُضَافُ هِيَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ فَوْقَ عَمْرٍو فِي المنزل، حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ:
زَيْدٌ أَعْلَى مِنْ عَمْرٍو فِي الْمَنْزِلَةِ، احْتَاجُوا إِلَى تَأْوِيلِ عَالٍ وَأَعْلَى مِنْهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ التَّحْمِيلَاتِ، حِفْظٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَلِيلِ، فِي أَنَّ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا يَجِيءُ فِيمَا فِيهِ شَرِكَةٌ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَهُ حَيْثُ لَا اشْتِرَاكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ لَا نَعْلَمُهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ هُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَالْبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَ: زَيْدٌ أَحْسَنُ إِخْوَتِهِ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَهُ، وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي: فَوْقَ، فَلَا نَعْلَمُهُ، لَكِنَّهُ لَمَّا تَوَهَّمَ أَنَّهَا مُرَادِفَةٌ لِأَعْلَى، وَأَعْلَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، نَقَلَ الْخِلَافَ إِلَيْهَا، وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ فَوْقَ لَا تَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فِي التَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْعُلُوِّ، فَإِذَا أُضِيفَتْ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ فِيهِ عُلُوٌّ، وَكَمَا أَنَّ تَحْتَ مُقَابِلَتَهَا لَا تَدُلُّ عَلَى تَشْرِيكٍ فِي السُّفْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِهَا، وَلَا نقول: إنها مرادفة لأسفل، لِأَنَّ أَسْفَلَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهَا بمن، كَقَوْلِهِ: الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، كَمَا أَنَّ أَعْلَى كَذَلِكَ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا كَانَ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالَّذِينَ اتَّقَوْا عَالُوهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي عُلُوٍّ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ الْعُلُوَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُتَّقِينَ، وَغَيْرُهُمْ سَافِلُونَ، عَكْسُ حَالِهِمَا فِي الدُّنْيَا حَيْثُ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ.
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ اتِّصَالُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَفْضِيلِ الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِهِمْ، فَقِيلَ: هَذَا الرِّزْقُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا يُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ بِغَيْرِ نِهَايَةٍ، لِأَنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى خَارِجٌ عَنِ الْحِسَابِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَهَا ثَوَابٌ وَبَعْضَهَا تَفْضِيلٌ مَحْضٌ، فَهُوَ بِغَيْرِ حِسَابٍ،
355
وَقِيلَ: هَذَا الرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَلُّكِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِمْ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، يَصِيرُ إِلَيْهِمْ بِلَا حِسَابٍ، بَلْ يَنَالُونَهَا بِأَسْهَلِ شَيْءٍ وَأَيْسَرِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ نَحْوَهُ الْقَفَّالُ، قَالَ: قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ بِمَا أَفَاءَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَرُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، وَبِمَا فُتِحَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى أَيْدِي أَصْحَابِهِ.
وَقَالُوا مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْكُفَّارِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي: أَنَّهُ يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ تُوجِبُ الْحِكْمَةُ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِ، كَمَا وُسِّعَ عَلَى قَارُونَ وَغَيْرِهِ، فَهَذِهِ التَّوْسِعَةُ عَلَيْكُمْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ اسْتِدْرَاجُكُمْ بِالنِّعْمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ كَرَامَةً لَكَانَ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُؤْمِنُونَ أَحَقَّ بِهَا مِنْكُمْ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا تَسْتَعْظِمُوا ذَلِكَ، وَلَا تَقِيسُوا عَلَيْهِ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ عَلَى قَدْرِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، بَلْ يُحْسَبُ لِهَذَا عَمَلُهُ وَهَذَا عَمَلُهُ، فَيُرْزَقَانِ بِحِسَابِ ذَلِكَ، بَلِ الرِّزْقُ بِغَيْرِ حِسَابِ الْأَعْمَالِ، وَالْأَعْمَالُ مُجَازَاتُهَا مُحَاسَبَةٌ وَمُعَادَةٌ، إِذْ أَجْزَاءُ الْجَزَاءِ تُقَابِلُ أَجْزَاءَ الْفِعْلِ الْمُجَازَى عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ لَمْ يُرْزَقْ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ فَوْقَ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ عَدَمُ تَخْصِيصِ الرِّزْقِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، بَلْ لَمَّا ذَكَرَ حَالَيْهِمَا مِنْ سُخْرِيَةِ الْكُفَّارِ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، بِسَبَبِ مَا رُزِقُوا: مِنَ التَّمَكُّنِ فِيهَا، وَالرِّيَاسَةِ، وَالْبَسْطِ، وَتَعَالِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ. بِسَبَبِ مَا رُزِقُوا مِنَ: الْفَوْزِ، وَالتَّفَرُّدِ بِالنَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ، بَيَّنَ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَرْزُقُهُ إِيَّاهُ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ لِمَشِيئَتِهِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُحَاسِبُهُ أَحَدٌ، وَلَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى مَا يُعْطِي، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ يَخَافُ نَفَاذَ مَا عِنْدَهُ.
وَقَالُوا
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَنْقُصُهَا شَيْءٌ مَا أَنْفَقَ منذ خلق السموات وَالْأَرْضَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقِصْ شَيْئًا مِمَّا عِنْدَهُ».
وَمَفْعُولُ يَشَاءُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: مَنْ يَشَاءُ أَنْ يَرْزُقَهُ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَبِغَيْرِ حِسَابٍ تَقَدَّمَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ يَصْلُحُ تَعَلُّقُهُ بِهَا: الْفِعْلُ، وَالْفَاعِلُ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: مَنْ. فَإِنْ كَانَ لِلْفِعْلِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَصْدَرِ، وَإِنْ كَانَ لِلْفَاعِلِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ لِلْمَفْعُولِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ، فَإِذَا كَانَ لِلْفِعْلِ كَانَ الْمَعْنَى: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ رِزْقًا غَيْرَ حِسَابٍ، أَيْ: غير ذي حساب، ويعني بِالْحِسَابِ: الْعَدَّ، فَهُوَ لَا يُحْصَى وَلَا يُحْصَرُ مِنْ كَثْرَتِهِ، أَوْ يَعْنِي بِهِ
356
الْمُحَاسَبَةَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: رِزْقًا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ حِسَابٌ فِي الْآخِرَةِ، وَتَكُونُ عَلَى هَذَا الْبَاءُ زَائِدَةً.
وَإِذَا كَانَ لِلْفَاعِلِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ: الْمَعْنَى يَرْزُقُ اللَّهُ غَيْرَ مُحَاسِبٍ عَلَيْهِ، أَيْ مُتَفَضِّلًا فِي إِعْطَائِهِ لَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرَ عَادٍّ عَلَيْهِ مَا يُعْطِيهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مَجَازًا عَنِ التَّقْتِيرِ وَالتَّضْيِيقِ، فَيَكُونُ: حِسَابُ مَصْدَرًا عُبِّرَ بِهِ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ: حَاسَبَ، أَوْ عَنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ: حَسَبَ، وَتَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً فِي الْحَالِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ زِيدَتْ فِي الْحَالِ الْمَنْفِيَّةِ، وَهَذِهِ الْحَالُ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا نَفْيٌ، وَمِمَّا قِيلَ: إِنَّهَا زِيدَتْ فِي الْحَالِ الْمَنْفِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رِكَابُ حَكِيمُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مُنْتَهَاهَا
أَيْ: فَمَا رَجَعَتْ خَائِبَةً، وَيُحْتَمَلُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ حِسَابُ مَصْدَرًا عُبِّرَ بِهِ عَنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ: غَيْرُ مُحَاسَبٍ عَلَى مَا يُعْطِي تَعَالَى، أَيْ: لَا أَحَدَ يُحَاسِبُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا مَنَحَ، فَعَطَاؤُهُ غَمْرًا لَا نِهَايَةَ له.
وإذا كان: لمن، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِيَرْزُقَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَرْزُوقَ غَيْرُ مُحَاسَبٍ عَلَى مَا يَرْزُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَكُونُ أَيْضًا حَالًا مِنْهُ، وَيَقَعُ الْحِسَابُ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ مُحَاسَبٌ مِنْ حَاسَبَ، أَوِ الْمَفْعُولِ مِنْ حَسَبَ، أَيْ: غَيْرُ مَعْدُودٍ عَلَيْهِ مَا رُزِقَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أي: غير ذي حساب، وَيَعْنِي بِالْحِسَابِ: الْمُحَاسَبَةَ أَوِ الْعَدَّ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَيْضًا. وَيُحْتَمَلُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُرْزَقُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ لَا يَظُنُّ، وَلَا يُقَدِّرُ أَنْ يَأْتِيَهُ الرِّزْقُ، كَمَا قَالَ: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ «١» فَيَكُونُ حَالًا أَيْضًا أَيْ: غَيْرَ مُحْتَسِبٍ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ، وَفِيهَا زِيَادَةُ الْبَاءِ.
وَالْأَوْلَى أَنُ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِبَاءِ الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ: لِلْمَصْدَرِ، وَلِلْفَاعِلِ، وَلِلْمَفْعُولِ، وَيَكُونُ الْحِسَابُ مُرَادًا بِهِ الْمُحَاسَبَةُ، أَوِ الْعَدُّ، أَيْ: يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا حِسَابَ عَلَى الرِّزْقِ، أَوْ: وَلَا حِسَابَ لِلرَّازِقِ، أَوْ وَلَا حِسَابَ عَلَى المرزوق.
(١) سورة الطلاق: ٦٥/ ٣. [.....]
357
وَكَوْنُ الْبَاءِ لَهَا مَعْنًى أَوْلَى مِنْ كَوْنِهَا زَائِدَةً، وَكَوْنُ الْمَصْدَرِ بَاقِيًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ مَجَازًا عَنِ اسْمِ فَاعِلٍ أَوِ اسْمِ مَفْعُولٍ وَكَوْنُهُ مُضَافًا لِغَيْرٍ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُضَافًا لِذِي مَحْذُوفَةً، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً «١» أَيْ: مُحْسَبًا أَيْ: كَافِيًا مِنْ: أَحْسَبَنِي كَذَا، إِذَا كَفَاكَ، وَبِغَيْرِ حِسَابٍ مَعْنَاهُ الْعَدُّ، أَوِ الْمُحَاسَبَةُ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَيْهِمَا إِنْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَتَيِ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ فِي الْآخِرَةِ، فَبِغَيْرِ حِسَابٍ فِي التَّفَضُّلِ الْمَحْضِ، وَعَطَاءً حِسَابًا فِي الْجَزَاءِ الْمُقَابِلِ لِلْعَمَلِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ طَرَفَيْهِمَا: فَبِغَيْرِ حِسَابٍ فِي الدُّنْيَا إِذْ يَرْزُقُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ وَلَا يُحَاسِبُ الْمَرْزُوقِينَ عَلَيْهِ، وَفِي الْآخِرَةِ يُحَاسِبُ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ مَنْ قَامَا بِهِ، فَبِغَيْرِ حِسَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَالٌ مِنْهُ، أَيْ: يَرْزُقُ وَلَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ، أَوْ وَلَا يَعُدُّ عَلَيْهِ، وَحِسَابًا صِفَةٌ لِلْعَطَاءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مِنْ جِهَةِ مَنْ قَامَا بِهِ، وَزَالَ بِذَلِكَ التَّعَارُضُ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَوَاخِرِ أَقْوَالِ الْحَجِّ وَأَفْعَالِهِ الْأَمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، أَيْ: قَلَائِلَ، وَدَلَّ الذِّكْرُ عَلَى الرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ هُوَ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَدَلَّ الْأَمْرُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي أَيَّامٍ، وَهُوَ: جَمْعٌ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي التَّعْجِيلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ يَوْمَيْنِ مِنْهَا، فَسَقَطَ الذِّكْرُ الْمُخْتَصُّ بِهِ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ حَالَ الْمُتَعَجِّلِ وَالْمُتَأَخِّرِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْإِثْمِ، وَإِنْ كَانَ حَالُ مَنْ تَأَخَّرَ أَفْضَلَ، وَكَانَ بَعْضُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَنْ تَعَجَّلَ أَثِمَ، وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَنْ تَأَخَّرَ أَثِمَ، فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْإِثْمَ عَنْهُمَا، إِذْ كَانَ التَّعَجُّلُ وَالتَّأَخُّرُ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ ارْتِفَاعَ الْإِثْمِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى.
ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَتَكْرَارِ الْأَمْرِ بِهَا فِي الْحَجِّ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَامِلَ عَلَى التَّلَبُّسِ بِالتَّقْوَى، وَهُوَ كَوْنُهُ تعالى شديد العقاب لمن لَمْ يَتَّقِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ التَّقْوَى تَنْقَسِمُ إِلَى مَنْ يُظْهِرُهَا بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى خِلَافِهَا، وَإِلَى مَنْ تَسَاوَى سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ فِي التَّقْوَى، قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِلَى قِسْمَيْنِ، فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ:
يُؤْنِقُكَ وَيَرُوقُ لَفْظُهُ، يُحَسِّنُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمُوَافَقَةِ وَالطَّوَاعِيَةِ ظَاهِرًا، ثُمَّ لَا يَكْتَفِي بِمَا زَوَّرَ وَنَمَّقَ مِنْ كَلَامِهِ اللَّطِيفِ حَتَّى يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ سَرِيرَتَهُ مِثْلُ عَلَانِيَتِهِ، وَهُوَ إِذَا خَاصَمَ كَانَ شَدِيدَ الْخُصُومَةِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ تَقَلَّبَ في نواحي
(١) سورة النبإ: ٧٨/ ٣٦.
358
الْأَرْضِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ سَعْيِهِ وَأَنَّهُ لِلْإِفْسَادِ مُطْلَقًا، وَلِيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ اللَّذَيْنِ هُمَا قِوَامُ الْوُجُودِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، فَهَذَا الْمُتَوَلِّي السَّاعِي فِي الْأَرْضِ يَفْعَلُ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا يَرْضَاهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ الشَّكِيمَةِ فِي النِّفَاقِ إِذَا أمر بتقوى الله تعالى اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الْأَنَفَةُ وَالْغَضَبُ بِالْإِثْمِ. أَيْ: مَصْحُوبًا بِالْإِثْمِ فَلَيْسَ غَضَبُهُ لِلَّهِ. إِنَّمَا هُوَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ اسْتَصْحَبَهُ الْإِثْمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ هَذَا الْآنِفِ الْمُغْتَرِّ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَهُوَ جَهَنَّمُ، فَهِيَ كَافِيَةٌ لَهُ، وَمُبْدِلَتُهُ بَعْدَ عِزِّهِ ذُلًّا، ثُمَّ ذَمَّ تَعَالَى مَا مَهَّدَ لِنَفْسِهِ مِنْ جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الغاية الذَّمِّ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْقِسْمَ الْمُقَابِلَ لِهَذَا الْقِسْمِ، وَهُوَ: مَنْ بَاعَ نَفْسَهُ فِي طِلَابِ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاكْتَفَى بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ، إِذْ دَلَّ عَلَى انْطِوَائِهِ عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَالِانْقِيَادَاتِ، إِذْ صَارَ عَبْدَ اللَّهِ يُوجَدُ حَيْثُ رَضِيَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ رَأَفَ اللَّهُ بِهِ وَرَحِمَهُ، وَرَأْفَةُ اللَّهِ بِهِ تَتَضَمَّنُ اللُّطْفَ بِهِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَذَكَرَ الرَّأْفَةَ الَّتِي هِيَ، قِيلَ: أَرَقُّ مِنَ الرَّحْمَةِ.
ثُمَّ نَادَى الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَرَهُمْ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَثَنَّى بِالنَّهْيِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ أَشَقُّ مِنَ النَّهْيِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ فِعْلٌ وَالنَّهْيَ تَرْكٌ، وَلِمُجَاوَرَتِهِ قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ فَصَارَ نَظِيرَ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «١» وَلَمَّا نَهَاهُمْ تَعَالَى عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ: سُلُوكُ مَعَاصِي اللَّهِ، أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنْ زَلُّوا مِنْ بَعْدِ مَا أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ الْوَاضِحَةُ النَّيِّرَةُ الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الزَّلَلُ مَعَهَا، لِأَنَّ فِي إِيضَاحِهَا مَا يُزِيلُ اللَّبْسَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُغَالَبُ، حَكِيمٌ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَيُجَازِي عَلَى الزَّلَلِ بَعْدَ وُضُوحِ الْآيَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي الثُّبُوتَ فِي الطَّاعَةِ بِمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الزَّلَلَ، فَدَلَّ بِعِزَّتِهِ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَبِحِكْمَتِهِ عَلَى جَزَاءِ الْعَاصِي وَالطَّائِعِ:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «٢».
ثُمَّ أَعْرَضَ تَعَالَى عَنْ خِطَابِهِمْ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ إِخْبَارَ الْغَائِبِينَ، مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ عَنْ تَبَاطُئِهِمْ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا قِيَامَ السَّاعَةِ يَوْمَ فَصْلِ اللَّهِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَقَضَاءِ الْأَمْرِ، وَرُجُوعِ جَمِيعِ الْأُمُورِ إِلَيْهِ، فَهُنَاكَ تَظْهَرُ ثَمَرَةُ مَا جَنَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَةِ»
كَذَا، عَلَى مَا يَلِيقُ بِتَقْدِيسِهِ عَنْ
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٠٦.
(٢) سورة النجم: ٥٣/ ٣١.
359
جَمِيعِ مَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ، وَنُنَزِّهُهُ عَمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّ دَأْبَ مَنْ أرسل إليه الْأَنْبِيَاءُ، وَظَهَرَتْ لَهُمُ الْمُعْجِزَاتُ الْإِعْرَاضُ عَنْ ذَلِكَ، وَعَدَمُ قَبُولِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمْ يُرَتِّبُونَ عَلَى الشَّيْءِ غَيْرَ مُقْتَضَاهُ، فَيُكَذِّبُونَ بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ دَالَّةً عَلَى الصِّدْقِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ مَنْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَاقَبَهُ أَشَدَّ الْعِقَابِ، قَابَلَ نِعْمَةَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الشُّكْرِ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى تَبْدِيلِ نِعَمِ اللَّهِ، وَهُوَ: تَزْيِينُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَرَغِبُوا فِي الْفَانِي وَزَهِدُوا فِي الْبَاقِي إِيثَارًا لِلْعَاجِلِ عَلَى الْآجِلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، حَيْثُ مَا يُتَوَهَّمُ فِي وَصْفِ الْإِيمَانِ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ أَنَّهُمُ هم الْعَالُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ السَّافِلُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ، بِغَيْرِ حِسَابٍ، إِشَارَةً إِلَى سَعَةِ الرِّزْقِ وَعَدَمِ التَّقْتِيرِ، وَالتَّقْدِيرِ: وَأَعَادَ ذِكْرَهُمْ بِلَفْظِ: مَنْ يَشَاءُ، تَنْبِيهًا عَلَى إِرَادَتِهِ لَهُمْ، وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمْ، وَاخْتِصَاصِهِمْ بِهِ، إِذْ لَوْ قَالَ: وَاللَّهُ يَرْزُقُهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، لَفَاتَ هَذَا الْمَعْنَى مَنْ ذِكْرِ الْمَشِيئَةِ الَّتِي هِيَ الْإِرَادَةُ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٣ الى ٢١٨]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
360
حَسِبَ: بِكَسْرِ السِّينِ: يَحْسَبُ، بِفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ وَكَسْرِهَا، مِنْ أَخَوَاتِ: ظَنَّ، فِي طَلَبِهَا اسْمَيْنِ: هُمَا فِي مَشْهُورِ قَوْلِ النُّحَاةِ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَمَعْنَاهَا نِسْبَةُ الْخَبَرِ عَنِ الْمُتَيَقَّنِ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَأْتِي فِي الْمُتَيَقَّنِ قَلِيلًا، نَحْوَ قَوْلِهِ:
حَسِبْتُ التُّقَى وَالْجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلَا
وَمَصْدَرُهَا: الْحُسْبَانُ، وَيَأْتِي: حَسِبَ أَيْضًا بِمَعْنَى: احْمَرَّ تَقُولُ: حَسِبَ الرَّجُلُ يَحْسَبُ، وَهُوَ أَحْسَبُ، كَمَا تَقُولُ: شَقِرَ فَهُوَ أَشْقَرُ، وَلِحَسِبَ أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي النَّحْوِ.
لَمَّا: الْجَازِمَةُ حَرْفٌ، زَعَمُوا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ: لَمْ وَمَا، وَلَهَا أَحْكَامٌ تُخَالِفُ فِيهَا: لَمْ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُ الْفِعْلِ بَعْدَهَا إِذَا دَلَّ عَلَى حَذْفِهِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجِبُ اتِّصَالُ نَفْيِهَا بِالْحَالِ، وَمِنْهَا: أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ عَلَى فِعْلِ شَرْطٍ وَلَا فِعْلِ جَزَاءٍ.
زَلْزَلَ: قَلْقَلَ وَحَرَّكَ، وَهُوَ رُبَاعِيٌّ عِنْدَ الْمِصْرِيِّينَ: كَدَحْرَجَ، هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ فِيهِ خِلَافٌ لِلْكُوفِيِّينَ وَالزَّجَّاجِ مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ.
مَاذَا: إِذَا أُفْرِدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهَا كَانَتْ: مَا يُرَادُ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ، وَذَا:
لِلْإِشَارَةِ، وَإِنْ دَخَلَ التَّجَوُّزُ فَتَكُونُ: ذَا، مَوْصُولَةً، لِمَعْنَى: الَّذِي، وَالَّتِي، وَفُرُوعِهَا، وَتَبْقَى مَا عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ، فَتَفْتَقِرُ: ذَا، إِذْ ذَاكَ إِلَى صِلَةٍ، وَتَكُونُ مُرَكَّبَةً مَعَ: مَا، الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، فَيَصِيرُ دَلَالَةُ مَجْمُوعِهِمَا دَلَالَةَ: مَا، الِاسْتِفْهَامِيَّةِ لَوِ انْفَرَدَتْ، وَلِهَذَا قَالَتِ الْعَرَبُ: عَنْ مَاذَا تَسْأَلُ؟ بِإِثْبَاتِ أَلْفِ: مَا، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ وَتَكُونُ مُرَكَّبَةً مَعَ:
361
مَا، الْمَوْصُولَةِ، أَوْ: مَا، النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ، فَتَكُونُ دَلَالَةُ مجموعهما دَلَالَةَ: مَا الْمَوْصُولَةِ، أَوِ الْمَوْصُوفَةِ، لَوِ انْفَرَدَتْ دُونَ: ذَا، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ عَنِ الْفَارِسِيِّ.
الْكُرْهُ: بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا، وَالْكَرَاهِيَةُ وَالْكَرَاهَةُ مَصَادِرٌ لِكَرِهَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، بِمَعْنَى: أَبْغَضَ، وَقِيلَ: الْكُرْهُ بِالضَّمِّ مَا كَرِهَهُ الْإِنْسَانُ، وَالْكَرْهُ، بِالْفَتْحِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْكُرْهُ بِالضَّمِّ اسْمُ الْمَفْعُولِ، كَالْخُبْرِ، وَالنُّقْضِ، بمعنى: المخبور والمنقوص، وَالْكَرْهُ بِالْفَتْحِ. الْمَصْدَرُ.
عَسَى: مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، وَهِيَ فِعْلٌ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: هِيَ حَرْفٌ وَلَا تَتَصَرَّفُ، وَوَزْنُهَا: فَعَلَ، فَإِذَا أُسْنِدَتْ إِلَى ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ أَوْ مُخَاطَبٍ مَرْفُوعٍ، أَوْ نُونِ إِنَاثٍ، جَازَ كَسْرُ سِينِهَا وَيُضْمَرُ فِيهَا لِلْغَيْبَةِ نَحْوُ: عَسَيَا وَعَسَوْا، خِلَافًا لِلرُّمَّانِيِّ، ذَكَرَ الْخِلَافَ عَنْهُ ابْنُ زِيَادٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَلَا يُخَصُّ حَذْفُ: إِنَّ، مِنَ الْمُضَارِعِ بِالشِّعْرِ خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ، وَلَهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَهِيَ: فِي الرَّجَاءِ تَقَعُ كَثِيرًا، وَفِي الْإِشْفَاقِ قَلِيلًا قَالَ الرَّاغِبُ.
الصَّدُّ: نَاحِيَةُ الشِّعْبِ وَالْوَادِي الْمَانِعِ السَّالِكِ، وَصَدَّهُ عَنْ كَذَا كَأَنَّمَا جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُهُ صَدًّا يَمْنَعُهُ. انْتَهَى. وَيُقَالُ: صَدَّ يَصُدُّ صُدُودًا: أَعْرَضَ، وَكَانَ قِيَاسُهُ لِلُزُومِهِ:
يَصِدُّ بِالْكَسْرِ، وَقَدْ سُمِعَ فِيهِ، وَصَدَّهُ يَصُدُّهُ صَدًّا مَنَعَهُ، وَتَصَدَّى لِلشَّيْءِ تَعَرَّضَ لَهُ، وَأَصْلُهُ تَصَدَّدَ، نَحْوَ: تَظَنَّى بِمَعْنَى تَظَنَّنَ، فَوَزْنُهُ تَفَعَّلَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفَعْلَى نَحْوَ: يَعَلْنَى، فَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْإِلْحَاقِ، وَتَكُونُ مِنْ مُضَاعَفِ اللَّامِ.
زَالَ: مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ، وَهِيَ الَّتِي مُضَارِعُهَا: يَزَالُ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَوَزْنُهَا فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَيْنَهَا يَاءٌ مَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ فِي مُضَارِعِهَا، وَهُوَ: يُزِيلُ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا مَنْفِيَّةً بِحَرْفِ نَفْيٍ، أَوْ بِلَيْسَ، أَوْ بِغَيْرَ أَوْ: لَا، لِنَهْيٍ أَوْ دُعَاءٍ.
الْحُبُوطُ: أَصْلُهُ الْفَسَادُ، وَحُبُوطُ الْعَمَلِ بُطْلُهُ، وَحَبِطَ بَطْنُهُ انْتَفَخَ، وَالْحَبَطَاتُ قَبِيلَةٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْحَبَنْطَى: الْمُنْتَفِخُ الْبَطْنِ.
الْمُهَاجَرَةُ: انْتِقَالٌ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْهَجْرِ، وَالْمُجَاهَدَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ جَهِدَ، اسْتَخْرَجَ الْجُهْدَ وَالِاجْتِهَادَ، وَالتَّجَاهُدُ بَذْلُ الْوُسْعِ، وَالْمَجْهُودِ وَالْجَهَادُ بِالْفَتْحِ:
الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ.
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ إِصْرَارَ هَؤُلَاءِ عَلَى كُفْرِهِمْ
362
هُوَ حُبُّ الدُّنْيَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَذَا الزَّمَانِ الَّذِي بُعِثْتَ فِيهِ، بَلْ هَذَا أَمْرٌ كَانَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ، إِذْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَغْيًا وَحَسَدًا وَتَنَازُعًا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا.
وَالنَّاسُ: الْقُرُونُ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ وَهِيَ عَشْرَةٌ، كَانُوا عَلَى الْحَقِّ حَتَّى اخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا فَمَنْ بَعْدَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ. أَوْ: قَوْمُ نُوحٍ وَمَنْ فِي سَفِينَتِهِ كَانُوا مُسْلِمِينَ، أَوْ: آدَمُ وَحْدَهُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَوْ: هُوَ وَحَوَّاءُ، أَوْ: بَنُو آدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِهِ نَسَمًا كَانُوا عَلَى الْفِطْرَةِ، قَالَهُ أُبَيٌّ وَابْنُ زَيْدٍ، أَوْ: آدَمُ وَبَنُوهُ كَانُوا عَلَى دِينِ حَقٍّ فَاخْتَلَفُوا مِنْ حِينِ قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ، أَوْ: بَنُو آدَمَ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ إِلَى مَبْعَثِ نُوحٍ كَانُوا كُفَّارًا أَمْثَالَ الْبَهَائِمِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ. أَوْ: قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا عَلَى دِينِهِ إِلَى أَنْ غَيَّرَهُ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى أَوْ: أَهْلُ الْكِتَابِ مِمَّنْ آمَنَ بِمُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ: قَوْمُ نُوحٍ حِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ كَانُوا كُفَّارًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ: الْجِنْسُ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فِي خُلُوِّهِمْ عَنِ الشَّرَائِعِ لَا أَمْرَ عَلَيْهِمْ وَلَا نَهْيَ. أَوْ: صِنْفًا وَاحِدًا، فَكَانَ الْمُرَادُ: أَنَّ الْكُلَّ مِنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ، وَأَبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ خَصَّ صِنْفًا مِنَ النَّاسِ بِبَعْثِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ عَلَيْهِمْ تَكْرِيمًا لَهُمْ، قَالَهُ الْمَاتُرِيدِيُّ فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ قَوْلًا فِي النَّاسِ.
وَأَمَّا فِي التَّوْحِيدِ فَخَمْسَةُ أَقْوَالٍ: إِمَّا فِي الْإِيمَانِ، وَإِمَّا فِي الْكُفْرِ، وَإِمَّا فِي الْخِلْقَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِمَّا فِي الْخُلُوِّ عَنِ الشَّرَائِعِ، وَإِمَّا فِي كَوْنِهِمْ مِنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ الْأَبُ.
وَقَدْ رُجِّحَ كَوْنُهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً فِي الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: فَبَعَثَ اللَّهُ وَإِنَّمَا بُعِثُوا حِينَ الِاخْتِلَافِ، وَيُؤَكِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا، وَبِقَوْلِهِ: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاتِّفَاقَ كَانَ حَصَلَ قَبْلَ الْبَعْثِ وَالْإِنْزَالِ، وَبِدَلَالَةِ الْعُقُولِ، إِذِ النَّظَرُ الْمُسْتَقِيمُ يُؤَدِّي إِلَى الْحَقِّ، وَيَكُونُ آدَمُ بُعِثَ إِلَى أَوْلَادِهِ، وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، وَبِالْوِلَادَةِ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَبِأَنَّ أَهْلَ السَّفِينَةِ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ، وَبِإِقْرَارِهِمْ فِي يَوْمِ الذَّرِّ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْأَرْجَحُ لِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَلِلتَّصْرِيحِ بِهَذَا الْمَحْذُوفِ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا «١» وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ: أُمَّةً فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «٢».
وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: كَانَ الْبَشَرُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالنَّاسِ مَعْهُودُونَ، وَمَنْ جَعَلَ
(١) سورة يونس: ١٠/ ١٩.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٢٨.
363
الِاتِّحَادَ فِي الْإِيمَانِ قَدَّرَ، فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ، وَمَنْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي الْكُفْرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، إِذْ كَانَتْ بَعْثَةُ النَّبِيِّينَ إِلَيْهِمْ، وَأَوَّلُ الرُّسُلِ عَلَى مَا
وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: نُوحٌ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقُولُ النَّاسُ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ
، الْمَعْنَى: إِلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ، لِأَنَّ آدَمَ قَبْلَهُ، وَهُوَ مُرْسَلٌ إِلَى بَنِيهِ يُعَلِّمُهُمُ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أَيْ: أَرْسَلَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِثَوَابِ مَنْ أَطَاعَ، وَمُنْذِرِينَ بِعِقَابِ مَنْ عَصَى، وَقَدَّمَ الْبِشَارَةَ لِأَنَّهَا أَبْهَجُ لِلنَّفْسِ، وَأَقْبَلُ لِمَا يُلْقِي النَّبِيُّ، وَفِيهَا اطْمِئْنَانُ الْمُكَلَّفِ، وَالْوَعْدُ بِثَوَابِ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَمِنْهُ. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «١» وَانْتِصَابُ: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، عَلَى الْحَالِ الْمُقَارِنَةِ.
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مَعَهُمْ حَالٌ مِنَ الْكِتَابِ: وَلَيْسَ تَعْمَلُ فِيهِ أَنْزَلَ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُ مُشَارَكَتُهُمْ لَهُ فِي الْإِنْزَالِ، وَلَيْسُوا مُتَّصِفِينَ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ: وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ مُصَاحِبًا لَهُمْ وَقْتَ الْإِنْزَالِ لَمْ يَكُنْ مُصَاحِبًا لَهُمْ، لَكِنَّهُ انْتَهَى إِلَيْهِمْ.
وَالْكِتَابُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَلْ فِيهِ لِلْجِنْسِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ عَلَى تَأْوِيلِ: مَعَهُمْ، بِمَعْنَى مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْكُتُبِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ.
قَالَهُ الطَّبَرِيُّ، أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى وَحَكَمَ بِهَا النَّبِيُّونَ بَعْدَهُ، وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهَا كَالْأَسْبَاطِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا وُضِعَ مَوْضِعَ الْجَمْعِ، وَقَدْ قِيلَ بِهِ.
وَيُحْتَمَلُ: بِالْحَقِّ، أَنْ يَكُونَ متعلقا: بأنزل، أَوْ بِمَعْنَى مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكِتَابِ، أَيْ مَصْحُوبًا بِالْحَقِّ، وَتَكُونُ حَالًا مُؤَكِّدَةً لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ يَصْحَبُهَا الْحَقُّ وَلَا يُفَارِقُهَا، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَبَعَثَ اللَّهُ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْبِشَارَةَ وَالنِّذَارَةَ إِنَّمَا يَكُونَانِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُمَا إِنَّمَا يُسْتَفَادَانِ مِنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ فَلِمَ قُدِّمَا عَلَى الْإِنْزَالِ مَعَ أَنَّهُمَا نَاشِئَانِ عَنْهُ؟ لِأَنَّهُ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ وَالنِّذَارَةَ قَدْ يَكُونَانِ نَاشِئَيْنِ عَنْ غَيْرِ الْكُتُبِ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِتَابًا يُتْلَى وَيُكْتَبُ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَكَانَ تَقْدِيمُهُمَا هُوَ الْأَوْلَى لِأَنَّهُمَا حَالَانِ مِنَ النَّبِيِّينَ. فَنَاسَبَ اتِّصَالُهُمَا بِهِمْ، وَإِنْ كَانَا نَاشِئَيْنِ عَنْ إِنْزَالِ الْكُتُبِ.
(١) سورة مريم: ١٩/ ٩٧.
364
وَقَالَ الْقَاضِي: الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَبْلَ بَيَانِ الشَّرْعِ مُمْكِنٌ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْعَقْلِيَّاتِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكِ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِمَا، انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَا ذُكِرَ لَا يَظْهَرُ، لِأَنَّ الْوَعْدَ بِالثَّوَابِ وَالْوَعِيدَ بِالْعِقَابِ لَيْسَا مِمَّا يَقْضِي بِهِمَا الْعَقْلُ وَحْدَهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ، ثُمَّ أَتَى الشَّرْعُ بِهِمَا، فَصَارَ ذَلِكَ الْجَائِزُ فِي الْعَقْلِ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ، وَمَا كَانَ بِجِهَةِ الْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ لَا يَتَّصِفُ بِهِ النَّبِيُّ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ إِلَّا بَعْدَ الْوَحْيِ قَطْعًا، فَإِذَنْ يَتَقَدَّمُ الْوَحْيُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ عَلَى ظُهُورِ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ مِمَّنْ أوحى إليه قطفا.
قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا نَبِيَّ إِلَّا وَمَعَهُ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ فِيهِ بَيَانُ الْحَقِّ، طَالَ ذَلِكَ الْكِتَابُ أَوْ قَصُرَ، دُوِّنَ أَوْ لَمْ يُدَوَّنْ، كَانَ مُعْجِزًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ كَوْنَ الْكِتَابِ مَنَزَّلًا مَعَهُمْ لَا يَقْضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ فِي: أَنْزَلَ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى: جَعَلَ، كَقَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «١». وَلَمَّا كَانَ الْإِنْزَالُ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ نُسِبَ إِلَى الْجَمِيعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ فِي الْكِتَابِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمُوحَى بِهِ، وَلَمَّا كَانَ كَثِيرًا مِمَّا أَوْحَى بِهِ بِكُتُبٍ، أَطْلَقَ عَلَى الْجَمِيعِ الْكِتَابَ تَسْمِيَةً لِلْمَجْمُوعِ بِاسْمِ كَثِيرٍ مِنْ أَجْزَائِهِ.
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ اللَّامُ لَامُ الْعِلَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِأَنْزَلَ، وَالضَّمِيرُ فِي: لِيَحْكُمَ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَبَعَثَ اللَّهُ، وَهُوَ الْمُضْمَرُ فِي: أَنْزَلَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ لِيَفْصِلَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ أَيْ: لِيَحْكُمَ الْكِتَابُ بَيْنَ النَّاسِ، وَنِسْبَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ مَجَازٌ، كَمَا أَسْنَدَ النُّطْقَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:
هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «٢» وَكَمَا قَالَ:
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ نَسِيجَهَا وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ
وَلِأَنَّ الْكِتَابَ هُوَ أَصْلُ الْحُكْمِ، فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ رَدًّا لِلْأَصْلِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ: النَّبِيَّ، قَالَ: لِيَحْكُمَ اللَّهُ أَوِ الْكِتَابُ أَوِ النَّبِيُّ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ، وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ يُضْعِفُ ذَلِكَ على أنه يَحْتَمِلَ مَا قَالَهُ، فَيَعُودُ عَلَى أَفْرَادِ الْجَمْعِ، أَيْ: لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بِكِتَابِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ مَعَ ظُهُورِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ويبين
(١) سورة الحديد: ٥٧/ ٢٥.
(٢) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٩.
365
عَوْدِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قِرَاءَةُ الْجَحْدَرِيِّ فِيمَا ذَكَرَ مَكِّيٌّ لِنَحْكُمَ، بِالنُّونِ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ عَوْدُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْتِفَاتًا إِذْ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي: أَنْزَلَ، إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَظَنَّ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَصْحِيفًا قَالَ، مَا مَعْنَاهُ لِأَنَّ مَكِّيًّا لَمْ يَحْكِ عَنِ الْجَحْدَرِيِّ قِرَاءَتَهُ الَّتِي نَقَلَ النَّاسُ عَنْهُ، وَهِيَ: لِيُحْكَمَ، عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وَنَقَلَ مَكِّيٌّ لِنَحْكُمَ بِالنُّونِ.
وَفِي الْقِرَاءَةِ الَّتِي نَقَلَ النَّاسُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِيَحْكُمَ، حُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ أَوِ النَّبِيُّونَ. وَهِيَ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ، وَانْتِصَابُهُ بِقَوْلِهِ: لِيَحْكُمَ، وَفِيمَا، مُتَعَلِّقٌ بِهِ أيضا، و: فيه، الدِّينِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ..
قِيلَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ دِينُهُ، أَوْ: هُمَا، أَوْ: كِتَابُهُ.
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ، يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي: فِيهِ، الْأُولَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا عَائِدَةٌ عَلَى: مَا، وَشَرْحُ مَا الْمَعْنِيُّ: بما، أهو الذين، أَوْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَمْ دِينُهُ؟ أَمْ هُمَا؟ أَمْ كِتَابُهُ؟
وَالضَّمِيرُ فِي: أُوتُوهُ، عَائِدٌ إِذْ ذَاكَ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ، وأوتوه عَائِدٌ أَيْضًا عَلَى الْكِتَابِ، التَّقْدِيرُ: وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْكِتَابِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، أَيْ: أُوتُوا الْكِتَابَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: وَمَا اخْتَلَفَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم إلا الَّذِينَ أُوتُوهُ، أَيْ: أُوتُوا عِلْمَ نُبُوَّتِهِ، فَعَلُوا ذَلِكَ لِلْبَغْيِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ، وَالَّذِينَ أُوتُوهُ الْيَهُودُ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، عَائِدٌ عَلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَالْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، عَلَى عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الدِّينِ، أَيْ: وَمَا اخْتَلَفَ فِي الدِّينِ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ أَنَّ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا فِي: أُوتُوهُ وَفِيهِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، يَعُودُ عَلَى: مَا، الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: وما اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
366
مَفْهُومُهُ كُلُّ شَيْءٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمَرْجِعُهُ إِلَى اللَّهِ، بَيَّنَهُ بِمَا نَزَلَ فِي الْكِتَابِ، أَوْ إِلَى الْكِتَابِ إِذْ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُ، أَوْ إِلَى النَّبِيِّ يُوَضِّحُهُ بِالْكِتَابِ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي سَبَقَتْ فِي الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: لِيَحْكُمَ.
وَالَّذِينَ أُوتُوهُ أَرْبَابُ الْعِلْمِ بِهِ وَالدِّرَاسَةِ لَهُ، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا مِنْهُ عَلَى شَنَاعَةِ فِعْلِهِمْ، وَقَبِيحِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَلِأَنَّ غَيْرَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ فِي الِاخْتِلَافِ فَهُمْ أَصْلُ الشَّرِّ، وَأَتَى بِلَفْظِ: مِنْ، الدَّالَّةِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُنَبَّهًا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ زَمَانِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، لَمْ يَقَعْ مِنْهُمُ اتِّفَاقٌ عَلَى شَيْءٍ بَعْدَ الْمَجِيءِ، بَلْ بِنَفْسِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ اخْتَلَفُوا، لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ.
وَالْبَيِّنَاتُ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَالَّذِينَ أُوتُوهُ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَوْ جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، فَالَّذِينَ أُوتُوهُ عُلَمَاءُ كُلِّ مِلَّةٍ، أَوْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِينَ أوتوه الْيَهُودُ، أَوْ مُعْجِزَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ أُوتُوهُ جَمِيعُ الْأُمَمِ، أَوْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ أُوتُوهُ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبَيِّنَاتِ هِيَ مَا أَوْضَحَتْهُ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى أَنْبِيَاءِ الْأُمَمِ الْمُوجِبَةِ الِاتِّفَاقَ وَعَدَمَ الِاخْتِلَافِ، فَجَعَلُوا مَجِيءَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ سَبَبًا لِاخْتِلَافِهِمْ، وَذَلِكَ أَشْنَعُ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ رَتَّبُوا عَلَى الشَّيْءِ خِلَافَ مُقْتَضَاهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الَّذِي كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَيْسَ لِمُوجِبٍ وَلَا دَاعٍ إِلَّا مُجَرَّدَ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي.
وَانْتِصَابُ: بَغْيًا، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَ: بَيْنَهُمْ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَهُ، فَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنًا بَيْنَهُمْ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: بَاغِينَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الِاخْتِلَافِ هُوَ الْبَغْيُ، وَسَبَبُ هَذَا الْبَغْيِ حَسَدُهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عَلَى النُّبُوَّةِ، أَوْ كَتْمُهُمْ صِفَتَهُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ طَلَبُهُمُ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةَ فِيهَا أَقْوَالٌ:
فَالْأَوَّلَانِ: يَخْتَصَّانِ بِمَنْ يَحْضُرُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَالثَّالِثُ:
يَكُونُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالِاخْتِلَافُ الثَّانِي الْمَعْنِيُّ بِهِ ازْدِيَادُ الِاخْتِلَافِ، أَوْ
367
دَيْمُومَةُ الِاخْتِلَافِ إِذَا فَسَّرْنَا: أُوتُوهُ: بِأُوتُوا الْكِتَابَ، فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَكُونُ بَعْدَ إِيتَاءِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ: بِجُحُودِ مَا فِيهِ، وَقِيلَ: بِتَحْرِيفِهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: بَغْيًا، إِشَارَةٌ إِلَى حَصْرِ الْعِلَّةِ، فَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الِاخْتِلَافَ بَعْدَ إِنْزَالِ الْكِتَابِ كَانَ ليزل بِهِ الِاخْتِلَافُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ.
وَفِي قَوْلِهِ: الْبَيِّنَاتُ: دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ فِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ، وَالدَّلَائِلَ السَّمْعِيَّةَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْكِتَابِ قَدْ حَصَلَا، وَلَا عُذْرَ فِي الْعُدُولِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ لَكِنْ عَارَضَ هَذَا الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ مَا رُكِّبَ فِيهِمْ مِنَ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَالْحِرْصِ على الاستيثار بالدنيا.
إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وهو فاعل اختلف، و: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ، مُتَعَلِّقٌ بِاخْتَلَفَ، وَبَغْيًا مَنْصُوبٌ بِاخْتَلَفَ، هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ، قَالَ: وَلَا يُمْنَعُ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: مَا قَامَ زَيْدٌ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، والمفرغ فِي الْفَاعِلِ، وَفِي الْمَجْرُورِ، وَفِي الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، إِذِ الْمَعْنَى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ إِلَّا بَغْيًا بَيْنَهُمْ. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ مَحْصُورٌ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَارَتْ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ مُسْتَثْنَى بِهَا، شَيْئَانِ دُونَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا جَازَ مَعَ الْعَطْفِ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يَنْوِي بَعْدَهَا إِلَّا، فَصَارَتْ كَالْمَلْفُوظِ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ مَا يُوهِمُ ذَلِكَ جُعِلَ عَلَى إِضْمَارِ عَامِلٍ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «١» على إضمار فعل التقدير: أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا بِالْبَيِّنَاتِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا، لِئَلَّا يَكُونَ: إِلَّا، قَدِ اسْتُثْنِيَ بِهَا شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا رِجَالًا، وَالْآخَرُ:
بِالْبَيِّنَاتِ، مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ.
وَقَدْ مَنَعَ أَبُو الْحَسَنِ وَأَبُو عَلِيٍّ: مَا أَخَذَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ دِرْهَمًا، وَمَا: ضَرَبَ الْقَوْمُ إِلَّا بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَاخْتَلَفَا فِي تَصْحِيحِهَا، فَصَحَّحَهَا أَبُو الْحَسَنِ بِأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْمَرْفُوعِ الَّذِي بَعْدَهَا، فَيَقُولُ: مَا أَخَذَ أَحَدٌ زَيْدٌ إِلَّا دِرْهَمًا، فَيَكُونُ: زَيْدٌ، بَدَلًا مِنْ أَحَدٍ، وَيَكُونُ: إِلَّا، قد
(١) سورة النحل: ١٦/ ٤٣ و ٤٤.
368
اسْتُثْنِيَ بِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الدِّرْهَمُ. وَيَكُونُ إِلَّا دِرْهَمًا اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي حُذِفَ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى: مَا أَخَذَ زَيْدٌ شَيْئًا إِلَّا دِرْهَمًا. وَتَصْحِيحُهَا عِنْدَ أَبِي عَلِيٍّ بِأَنْ يَزِيدَ فِيهَا مَنْصُوبًا قَبْلَ إِلَّا فَيَقُولُ: مَا أَخَذَ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا زَيْدٌ دِرْهَمًا. وَ: مَا ضَرَبَ الْقَوْمُ أَحَدًا إِلَّا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيَكُونُ الْمَرْفُوعُ بَدَلًا مِنَ الْمَرْفُوعِ، وَالْمَنْصُوبُ بَدَلًا مِنَ الْمَنْصُوبِ، هَكَذَا خَرَّجَهُ بعضهم.
قال ابن السراح: أعطيت الناس درهما إلا عَمْرًا جَائِزٌ، وَلَا يَجُوزُ أعطيت الناس درهما إلا عمر الدنانير، لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يُسْتَثْنَى بِهِ إِلَّا وَاحِدٌ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا أَعْطَيْتُ النَّاسَ دِرْهَمًا إِلَّا عَمْرًا دَانِقًا، عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، لَمْ يَجُزْ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ جَازَ، فَتُبْدِلُ عَمْرًا مِنَ النَّاسِ، وَدَانِقًا مِنْ دِرْهَمٍ، كَأَنَّكَ قُلْتَ مَا أَعْطَيْتُ إِلَّا عَمْرًا دَانِقًا. وَيَعْنِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى الْحَصْرِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَا قَالَهُ ابْنُ السراح فِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لَا بُدَّ مِنَ اقْتِرَانِهِ بِإِلَّا، فَأَشْبَهَ الْمَعْطُوفَ بِحَرْفٍ، فَكَمَا لَا يَقَعُ بَعْدَهُ مَعْطُوفَانِ لَا يَقَعُ بَعْدَ إِلَّا بَدَلَانِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ إِلَّا مُسْتَثْنَيَانِ دُونَ عَطْفٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ إِلَّا هِيَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُعَدَّيَةٌ، وَلَوْلَا إِلَّا لَمَا جَازَ لِلِاسْمِ بَعْدَهَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهَا، فَهِيَ: كَوَاوِ مَعَ وَكَالْهَمْزَةِ: الَّتِي جُعِلَتْ لِلتَّعْدِيَةِ فِي بِنْيَةِ الْفِعْلِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا تُعَدَّى: وَاوُ مَعَ وَلَا الْهَمْزَةُ لِغَيْرِ مَطْلُوبِهَا الْأَوَّلِ إِلَّا بِحَرْفِ عَطْفٍ، فَكَذَلِكَ إِلَّا، وَعَلَى هَذَا الَّذِي مَهَّدْنَاهُ يَتَعَلَّقُ: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَيَنْتَصِبُ: بَغْيًا، بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَتَقْدِيرُهُ: اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ الَّذِينَ آمَنُوا: هُمْ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّمِيرُ: فِيمَا اخْتَلَفُوا، عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوهُ، أَيْ لَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ مَنِ اخْتَلَفَ، وَمِنَ الْحَقِّ تَبْيِينُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَ: مَنْ، تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ: مَا، فَتَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، التَّقْدِيرُ: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُنَا عَلَى الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ حُمِلَ هَذَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَفِي تَعْيِينِهِ خِلَافٌ: أَهُوَ الْجُمُعَةُ؟ جَعَلَهَا
369
الْيَهُودُ السَّبْتَ، وَالنَّصَارَى الْأَحَدَ، وَكَانَتْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ كَمَا فُرِضَتْ عَلَيْنَا؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «نَحْنُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ». فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ قَالَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَالْيَوْمُ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى.
أَوِ الصَّلَاةُ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى الْمَشْرِقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى الْمَغْرِبِ، فَهَدَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْقِبْلَةِ. قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.
أو إبراهيم على نبينا وعليه السَّلَامُ؟ قَالَتِ النَّصَارَى: كَانَ نَصْرَانِيًّا، وَقَالَتِ الْيَهُودُ:
كَانَ يَهُودِيًّا، فَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لِدِينِهِ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا «١» أَوْ عِيسَى؟ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، جَعَلَتْهُ الْيَهُودُ لَعْنَةً، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا فَهَدَانَا اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِ الْحَقِّ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. أَوِ الْكُتُبُ الَّتِي آمَنُوا بِبَعْضِهَا وَكَفَرُوا بِبَعْضِهَا؟ أَوِ الصِّيَامُ؟
اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِشَهْرِ رَمَضَانَ.
فَهَذِهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فِي الْكَلَامِ قَلْبٌ، وَتَقْدِيرُهُ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِلْحَقِّ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَدَعَاهُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ خَوْفُ أَنْ يُحْتَمَلَ اللَّفْظُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَقِّ، فَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَعَسَاهُ غَيْرَ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ، قَالَ: وَادِّعَاءُ الْقَلْبِ عَلَى لَفْظِ كِتَابِ اللَّهِ دُونَ ضَرُورَةٍ تَدْفَعُ إِلَى ذَلِكَ عَجْزٌ وَسُوءُ نَظَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ يَتَخَرَّجُ عَلَى وجهه ووصفه لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَهَدَى، يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَصَابُوا الْحَقَّ، وَتَمَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فِيهِ، وَتَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْحَقِّ، جِنْسُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ.
قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَقَدَّمَ لَفْظَ الْخِلَافِ عَلَى لَفْظِ الْحَقِّ اهْتِمَامًا، إِذِ الْعِنَايَةُ إِنَّمَا هِيَ بِذِكْرِ الْخِلَافِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَهُوَ حَسَنٌ.
وَالْقَلْبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا يَخْتَصُّ بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ فَلَا نُخَرِّجُ كَلَامَ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَبِإِذْنِهِ: مَعْنَاهُ بِعِلْمِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ أَوْ: بِأَمْرِهِ، وَتَوْفِيقِهِ، أَوْ بِتَمْكِينِهِ، أَقْوَالٌ مَرَّتْ مُشْبِعًا الْكَلَامَ عَلَيْهَا، فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ «٢» وَيَتَعَلَّقُ بِإِذْنِهِ بِقَوْلِهِ: فَهَدَى
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٦٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٩٧.
370
اللَّهُ، وَأَبْعَدَ مَنْ أَضْمَرَ لَهُ فِعْلًا مُطَاوِعًا تَقْدِيرُهُ: فَاهْتَدَوْا بِإِذْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ، إِذْ لَا حَاجَةَ لِهَذَا الْإِضْمَارِ.
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هُدَى الْعَبْدِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ يَشَاءُ لَهُ الْهِدَايَةَ، وَرُدَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِهُدَى نَفْسِهِ، وَتَكَرَّرَ اسْمُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ، جَاءَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْفُصْحَى الَّتِي هِيَ اسْتِقْلَالُ كُلِّ جُمْلَةٍ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَفْتَقِرَ بِالْإِضْمَارِ إِلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ مُفَسِّرِ ذَلِكَ الْمُضْمَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِذَلِكَ نَظَائِرُ.
وَفِي قَوْلِهِ: مَنْ يَشَاءُ، إِشْعَارٌ، بَلْ دَلَالَةٌ، عَلَى أَنَّ هِدَايَتَهُ تَعَالَى مَنْشَؤُهَا الْإِرَادَةُ فَقَطْ، لَا وَصْفٌ ذَاتِيٌّ فِي الَّذِي يَهْدِيهِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْهِدَايَةَ، بل ذلك مفدوق بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى فَقَطْ لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ «١».
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَ مِنَ الْجَهْدِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْبَرْدِ وَأَنْوَاعِ الْأَذَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «٢» قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ.
أَوْ فِي حَرْبِ أُحُدٍ، قُتِلَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَرَتْ شَدَائِدُ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي وَأَصْحَابُهُ: إِلَى مَتَى تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتُهْلِكُونَ أَمْوَالَكُمْ؟ لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا سُلِّطَ عَلَيْكُمُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ، فَقَالُوا: لَا جَرَمَ مَنْ قُتِلَ مِنَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ: إِلَى مَتَى تَسْأَلُونَ أَنْفُسَكُمْ بِالْبَاطِلِ؟
أَوْ: فِي أَوَّلِ مَا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، دَخَلُوهَا بِلَا مَالٍ، وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، فَأَظْهَرَتِ الْيَهُودُ الْعَدَاوَةَ، وَأَسَرَّ قَوْمٌ النِّفَاقَ. قَالَهُ عَطَاءٌ.
قِيلَ: وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ قَالَ: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَالْمُرَادُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي يُفْضِي اتِّبَاعُهُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ وَالتَّكْلِيفِ، أَوْ: لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ هَدَاهُمْ، بَيَّنَ أَنَّهُ بَعْدَ تِلْكَ الْهِدَايَةِ احْتَمَلُوا الشَّدَائِدَ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ، فَكَذَا أَنْتُمْ، أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، لَا تَسْتَحِقُّونَ الْفَضِيلَةَ فِي الدِّينِ إِلَّا بِتَحَمُّلِ هَذِهِ الْمِحَنِ.
وَ: أَمْ، هُنَا مُنْقَطِعَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ فَتَتَضَمَّنُ إِضْرَابًا، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ كَلَامٍ إلى
(١) سورة الأنبياء: ٢٣/ ٢١.
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ١٠.
371
كَلَامٍ، وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِفْهَامٍ لَكِنَّهُ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ:
بِأَنَّ أَمْ قَدْ تَجِيءُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْسِيمٌ وَلَا مُعَادَلَةٌ، أَلِفَ استفهام.
فقوله: قَدْ تَجِيءُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّهَا تَتَقَدَّرُ، بِبَلْ وَالْهَمْزَةِ، فَكَمَا أَنَّ:
بَلْ، لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا كَلَامٌ حَتَّى يَصِيرَ فِي حَيِّزِ عَطْفِ الْجُمَلِ، فَكَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَ مَعْنَاهُ.
وَزَعَمَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ أَنَّهَا تَأْتِي بِمَنْزِلَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَيُبْتَدَأُ بِهَا، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَحَسِبْتُمْ؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِمَعْنَى بَلْ، قَالَ:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى وَصَوَّرْتَهَا، أَمْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ؟
وَرَامَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُتَّصِلَةً، وَيَجْعَلَ قَبْلَهَا جُمْلَةً مُقَدَّرَةً تَصِيرُ بِتَقْدِيرِهَا أَمْ مُتَّصِلَةً، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَصَبَرُوا عَلَى اسْتِهْزَاءِ قَوْمِهِمْ بِهِمْ، أَفَتَسْلُكُونَ سَبِيلَهُمْ؟ أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ؟
فَتَلَخَّصَ فِي أَمْ هُنَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الِانْقِطَاعُ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ، وَالِاتِّصَالُ:
عَلَى إِضْمَارِ جُمْلَةٍ قَبْلَهَا، وَالِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ، وَالْإِضْرَابُ بِمَعْنَى بَلْ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
وَمَفْعُولَا: حَسِبْتُمْ، سَدَّتْ أَنَّ مَسَدَّهُمَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ فَسَدَّتْ عِنْدَهُ مَسَدَّ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ «١».
وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ الْجُمْلَةُ حَالٌ، التَّقْدِيرُ: غَيْرُ آتِيكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ: إِنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى ابْتِلَاءِ شَدَائِدَ، وَصَبْرٍ عَلَى مَا يُنَالُ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ، وَالْفَقْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ فَقَطْ بَلْ، سَبِيلُكُمْ فِي ذَلِكَ سَبِيلُ مَنْ تَقَدَّمَكُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ. خَاطَبَ بِذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، مُلْتَفِتًا إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّشْجِيعِ وَالثَّبِيتِ لَهُمْ، وَإِعْلَامًا لَهُمْ أنه لا يضركون أَعْدَائِكُمْ لَا يُوَافِقُونَ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنْبِيَائِهَا، وَصَبَرُوا، حَتَّى أَتَاهُمُ النَّصْرُ.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٤٦. [.....]
372
وَ: لَمَّا، أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ: لَمْ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ مُتَّصِلًا بِزَمَانِ الْحَالِ، فَهِيَ لِنَفْيِ التَّوَقُّعِ.
وَالْمَثَلُ: الشَّبَهُ، إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ لِحَالٍ غَرِيبَةٍ، أَوْ قَضِيَّةٍ عَجِيبَةٍ لَهَا شَأْنٌ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: مِثْلُ مِحْنَةِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَعَلَى حَذْفِ مَوْصُوفٍ تَقْدِيرُهُ:
الْمُؤْمِنِينَ.
وَالَّذِينَ خَلَوْا من قبلكم، متعلق بخلوا، وَهُوَ كَأَنَّهُ تَوْكِيدٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ خَلَوْا يَقْتَضِي التَّقَدُّمَ.
مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ وَتَبْيِينٌ لَهُ، فَلَيْسَ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا ذَلِكَ الْمَثَلُ؟ فَقِيلَ: مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ.
وَالْمَسُّ هُنَا مَعْنَاهُ: الْإِصَابَةُ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَسِّ بِالْيَدِ، فَهُوَ هُنَا مَجَازٌ.
وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَسَّتْهُمْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى إِضْمَارِ قَدْ، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَتَكُونُ الْحَالُ إِذْ ذَاكَ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي: خَلَوْا.
وَتَقَدَّمَ شَرْحُ: الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ «١» وَزُلْزِلُوا أَيْ أُزْعِجُوا إِزْعَاجًا شَدِيدًا بِالزَّلْزَلَةِ، وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ: وَزَلْزَلَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ.
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ قرأ الأعمش: وزلوا، و: يقول الرَّسُولُ، بِالْوَاوِ بَدَلَ: حَتَّى، وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَزُلْزِلُوا ثُمَّ زُلْزِلُوا وَيَقُولُ الرَّسُولُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَتَّى، وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا مَنْصُوبٌ إِمَّا عَلَى الْغَايَةِ، وَإِمَّا عَلَى التَّعْلِيلِ، أَيْ: وَزُلْزِلُوا إِلَى أَنْ يَقُولَ الرَّسُولُ، أَوْ: وَزُلْزِلُوا كَيْ يَقُولَ الرَّسُولُ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ الْمَسَّ وَالزِّلْزَالَ لَيْسَا مَعْلُولَيْنِ لِقَوْلِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ بِرَفْعِ، يَقُولُ: بَعْدَ حَتَّى، وَإِذَا كَانَ الْمُضَارِعُ بَعْدَ حَتَّى فِعْلَ حَالٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ حَالًا فِي حِينِ الْإِخْبَارِ، نَحْوَ: مَرِضَ حَتَّى لَا يَرْجُونَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًا قَدْ مَضَتْ، فَيَحْكِيهَا عَلَى مَا وَقَعَتْ، فَيُرْفَعُ الْفِعْلُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُضِيُّ، فَيَكُونُ حَالًا مَحْكِيَّةً، إِذِ الْمَعْنَى: وَزُلْزِلُوا فَقَالَ الرَّسُولُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى مسائل:
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧٧.
373
حَتَّى، فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ) وَأَشْبَعْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا هُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يَحْتَمِلُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِيَقُولَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِآمَنُوا.
مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ مَتَى: سُؤَالٌ عَنِ الْوَقْتِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالِاسْتِعْلَامِ لِوَقْتِ النَّصْرِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، وَقِيلَ: ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْطَاءِ، إِذْ مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالِابْتِلَاءِ وَالزِّلْزَالِ هُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، وَتَنَاهَى ذَلِكَ وَتَمَادَى بِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنْ نَطَقُوا بِهَذَا الْكَلَامِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ لَهُمْ إِجَابَةً لَهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ مِنْ تَعْجِيلِ النَّصْرِ، وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ دَاخِلَتَيْنِ تَحْتَ الْقَوْلِ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالُوا ذَلِكَ اسْتِبْطَاءً لِلنَّصْرِ وَضَجَرًا مِمَّا نَالَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِمْ إِجَابَةً لَهُمْ وَإِعْلَامًا بِقُرْبِ النَّصْرِ، فَتَعُودُ كُلُّ جُمْلَةٍ لِمَنْ يُنَاسِبُهَا، وَصَحَّ نِسْبَةُ الْمَجْمُوعِ لِلْمَجْمُوعِ لَا نِسْبَةُ الْمَجْمُوعِ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْقَائِلِينَ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي بَعْضِ التَّخَارِيجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ «١» وَإِنَّ قَوْلَهُ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ مِنْ قَوْلِ إِبْلِيسَ، وَإِنَّ قَوْلَهُ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ إِبْلِيسَ، وَكَانَ الْجَوَابُ ذَلِكَ لِمَا انْتَظَمَ إِبْلِيسُ فِي الْخِطَابِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «٢».
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ: حَتَّى يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا مَتَّى نَصْرُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ الرَّسُولُ: أَلَا إِنَّ نَصَرَ اللَّهُ قَرِيبٌ، فَقَدَّمَ الرَّسُولَ فِي الرُّتْبَةِ لِمَكَانَتِهِ، وَقَدَّمَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ لِتَقَدُّمِهِ فِي الزَّمَانِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِهِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ حَسَنٌ، إِذِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مِمَّا يَخْتَصَّانِ بِالضَّرُورَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا، تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِمْ حَيْثُ صَرَّحَ بِهِمْ ظَاهِرًا بهذا الوصف
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٣٠.
374
الشَّرِيفِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ، وَلَمْ يَأْتِ، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِ ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ قَبْلُ مِثْلَ مِحْنَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خَلَوْا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَكْثَرُ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ عَلَى طَلَبِ اسْتِعْجَالِ النَّصْرِ، لَا عَلَى شَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ، وَالرَّسُولُ اسْمُ الْجِنْسِ، وَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِلنَّازِلَةِ الَّتِي دَعَتِ الرَّسُولَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَاللَّائِقُ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ، وَالرَّسُولُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ اسْمُ الْجِنْسِ لَا وَاحِدَ بِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الْيَسَعُ، وَقِيلَ: هو شعيبا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الَّذِينَ خَلَوْا قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ.
وَحَكَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الرَّسُولَ هُنَا هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن: الزَّلْزَلَةَ، هُنَا مُضَافَةٌ لِأُمَّتِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ بَعْضُهُمْ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِجْمَالٌ، وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ أَتْبَاعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
قَالُوا: مَتَّى نَصْرُ اللَّهِ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ: أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ أَنَّ مَجْمُوعَ الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ أن: الرسول والمؤمنون قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْجُمْلَتَيْنِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ صَبَرْنَا ثِقَةً بِوَعْدِكَ، أَوْ: عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالثَّانِيَةَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ بِمَتَى يُشِيرُ إِلَى اسْتِعْلَامِ الْقُرْبِ، تَضَمَّنَ الْجَوَابُ الْقُرْبَ، وَظَاهِرُ هَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّ قُرْبَ النَّصْرِ هُوَ: يُنْصَرُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَيَظْفَرُونَ بِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جاءَهُمْ نَصْرُنا «١» وإِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «٢».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّصْرُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الِابْتِلَاءِ، وَمَتَى انْقَضَى حَرْبٌ جَاءَهُ آخَرُ، فَلَا يَزَالُ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَجِهَادِ النَّفْسِ إِلَى الْمَوْتِ.
وَفِي وَصْفِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَلَوْا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا يَجْرِي لَنَا مَا جَرَى لَهُمْ، فَنَتَأَسَّى بِهِمْ، وَنَنْتَظِرُ الْفَرَجَ مِنَ اللَّهِ وَالنَّصْرَ، فَإِنَّهُمْ أُجِيبُوا لذلك قريبا.
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١١.
(٢) سورة النصر: ١١٠/ ١.
375
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ نَزَلَتْ فِي عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا ذَا مَالٍ كَثِيرٍ، سَأَلَ بِمَاذَا أَتَصَدَّقُ؟ وَعَلَى مَنْ أُنْفِقُ؟ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ قَالَ: إِنَّ لِي دِينَارًا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ» فَقَالَ إِنَّ لِي دِينَارَيْنِ:
فَقَالَ: «أَنْفِقْهُمَا عَلَى أَهْلِكَ» فَقَالَ: إِنَّ لِي ثَلَاثَةً. فقال: «أنفقها عَلَى خَادِمِكَ» فَقَالَ: إِنَّ لي أربعة. فقال: «أنفقها عَلَى وَالِدَيْكَ». فَقَالَ إِنَّ لي خمسة. فقال: «أنفقها عَلَى قَرَابَتِكَ». فَقَالَ: إِنَّ لي ستة. فقال: «أنفقها فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ أَحْسَنُهَا».
وَيَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذَا التَّرَقِّي عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَاضِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي التَّطَوُّعِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِمَ الْمَهْدَوِيُّ عَلَى السُّدِّيِّ فِي هَذَا، فَنُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ. ثُمَّ نُسِخَ مِنْهَا الْوَالِدَانِ انْتَهَى وَقَدْ قَالَ: قَدَّمَ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ أَنَّهَا فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَعَلَى هَذَا نُسِخَ مِنْهَا الْوَالِدَانِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمَا مِنَ الْأَقْرَبِينَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ نَدْبٌ، وَالزَّكَاةُ غَيْرُ هَذَا الْإِنْفَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَا نَسْخَ فِيهَا.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى النَّفَقَةِ وَبَذْلِ الْمَالِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَا تَحَلَّى بِهِ الْمُؤْمِنُ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى لَقَدْ وَرَدَ: الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ.
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي: يَسْأَلُونَكَ، لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْكَافُ لِخِطَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَ: مَاذَا، يَحْتَمِلُ هُنَا النَّصْبَ وَالرَّفْعَ، فَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّ: مَاذَا، كُلَّهَا اسْتِفْهَامٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ؟ فَمَاذَا مَنْصُوبٌ بِيُنْفِقُونَ، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّ: مَا. وحدها هي الاستفهام، وذا موصولة بمعنى الذي، وينفقون صِلَةٌ لِذَا، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ بِهِ؟ فَتَكُونُ:
مَا، مَرْفُوعَةً بِالِابْتِدَاءِ، وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي خَبَرُهُ، وَعَلَى كِلَا الْإِعْرَابَيْنِ فَيَسْأَلُونَكَ مُعَلَّقٌ، فَهُوَ عَامِلٌ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِيَسْأَلُونَكَ، وَنَظِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ «١» عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ هُنَاكَ.
وَ: مَاذَا، سُؤَالٌ عَنِ الْمُنْفِقِ، لَا عَنِ الْمَصْرِفِ وَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: وَلِمَنْ يُعْطُونَهُ؟ وَنَظِيرُ الْآيَةِ فِي السُّؤَالِ وَالتَّعْلِيقِ. قَوْلُ الشاعر:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢١١.
376
أَلَا تَسْأَلَانِ الْمَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ إِلَّا أَنَّ: مَاذَا، هُنَا مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِيُحَاوِلُ، لِأَنَّ بَعْدَهُ:
أَنَحْبٌ فَيُقْضَى، أَمْ ضَلَالٌ وَبَاطِلُ وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ: مَاذَا كُلُّهُ مُبْتَدَأٌ، وَ: يُحَاوِلُ، الْخَبَرُ لِضَعْفِ حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ مِنْ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ دُونَ الصِّلَةِ، فَإِنَّ حَذْفَهُ مِنْهَا فَصِيحٌ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ: مَاذَا، إِذَا كَانَتِ اسْمًا مُرَكَّبًا فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِلَّا مَا جَاءَ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَمَاذَا عَسَى الْوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا... سِوَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ
فَإِنَّ عَسَى لَا تَعْمَلُ فِي: مَاذَا، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ إِذْ لا صلة لذا. انْتَهَى.
وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ: لذا، فِي الْبَيْتِ صِلَةٌ لِأَنَّ عَسَى لَا تَقَعُ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ الِاسْمِيِّ، فَلَا يَجُوزُ لذا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ اسْمًا مُرَكَّبَةً فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِلَّا، فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ لَا نَعْرِفُهُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ: مَاذَا مَحْبُوبٌ لَكَ؟
وَ: مَنْ ذَا قَائِمٌ؟ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِيبِ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: مَا مَحْبُوبٌ؟ وَمَنْ قَائِمٌ؟ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ ذَا تَضْرِبُهُ؟ عَلَى تَقْدِيرِهِ: مَنْ تَضْرِبُهُ؟ وَجَعَلَ: مَنْ، مُبْتَدَأً.
قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ هَذَا بَيَانٌ لِمَصْرِفِ مَا يُنْفِقُونَهُ، وَقَدْ تضمن المسئول عَنْهُ، وَهُوَ الْمُنْفِقُ بِقَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَاذَا سُؤَالًا عَنِ الْمَصْرِفِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ مَصْرِفُ مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ أَيْ:
يَجْعَلُونَ إِنْفَاقَهُمْ؟ فَيَكُونُ الْجَوَابُ إِذْ ذَاكَ مُطَابِقًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ السُّؤَالُ الْمَصْرِفُ، وَمِنَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْجَوَابُ ذِكْرُ الْمُنْفِقِ، وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ، وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ «١».
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ بَيَانَ مَا يُنْفِقُونَهُ، وَهُوَ كُلُّ خَيْرٍ، وَبُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى هَوَاهُمْ، وَهُوَ بَيَانُ الْمَصْرِفِ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا يُعْتَدُّ بِهَا إِلَّا أَنْ تَقَعَ مَوْقِعَهَا، كقول الشاعر:
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٧١.
377
إِنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ صَنِيعَةً حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ
انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ لَا بَأْسَ بِهِ ومِنْ خَيْرٍ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ.
وَبَدَأَ فِي الْمَصْرِفِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، ثُمَّ بِالْأَحْوَجِ فَالْأَحْوَجِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ وَشَبَهِهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ عَلَى الْوَاجِدِ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا فِي الْوَالِدَيْنِ إِذَا كَانَا فَقِيرَيْنِ، وَهُوَ غَنِيٌّ.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ مَا: فِي الْمَوْضِعَيْنِ شَرْطِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ بِالْفِعْلِ بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ: مَا، مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ موصولا، وأنفقتم، صِلَةٌ، وَ: لِلْوَالِدَيْنِ، خَبَرٌ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْمُفْرَدِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْوَاقِعِ خَبَرًا، أَوْ هُوَ مَعْمُولٌ لِمُفْرَدٍ، أَوِ لِجُمْلَةٍ.
وَإِذَا كَانَتْ: مَا، فِي: مَا أَنْفَقْتُمْ، شَرْطِيَّةً، فَهَذَا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ خبر لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَهُوَ أَوْ فَمَصْرِفُهُ لِلْوَالِدَيْنِ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب: وَمَا يَفْعَلُوا، بِالْيَاءِ
، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، أَوْ مِنْ بَابِ مَا أُضْمِرُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ: وَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ، فَيَكُونُ أَعَمَّ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ قَبْلُ، إِذْ يَشْمَلُهُمْ وَغَيْرَهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ، فِي الْإِنْفَاقِ يَدُلُّ عَلَى طِيبِ الْمُنْفَقِ، وَكَوْنِهِ حَلَالًا، لِأَنَّ الْخَبِيثَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ «١» وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلِأَنَّ الْحَرَامَ لَا يُقَالُ فِيهِ خَيْرٌ. وَقَوْلُهُ: مِنْ خَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا تَفْعَلُوا، هُوَ أَعَمُّ: مِنْ، خَيْرٍ، الْمُرَادِ بِهِ الْمَالُ، لأنه مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هُوَ الْفِعْلُ، وَالْفِعْلُ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْفَاقِ، فَيَدْخُلُ الْإِنْفَاقُ فِي الفعل، فخير، هُنَا هُوَ الَّذِي يُقَابِلُ الشَّرَّ، وَالْمَعْنَى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ شَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالطَّاعَاتِ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هُنَا: وَمَا تَفْعَلُوا، رَاجِعًا إِلَى مَعْنَى الْإِنْفَاقِ، أَيْ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ إِنْفَاقِ خَيْرٍ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ بَيَانًا لِلْمَصْرِفِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِلْمُجَازَاةِ، وَالْأَوْلَى الْعُمُومُ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ إِنْفَاقَ الْمَالِ وَغَيْرَهُ، وَيَتَرَجَّحُ بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْعُمُومِ.
وَلَمَّا كَانَ أَوَّلًا السُّؤَالُ عَنْ خَاصٍّ، أُجِيبُوا بِخَاصٍّ، ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ الْخَاصِّ التَّعْمِيمُ فِي أَفْعَالِ الْخَيْرِ، وَذَكَرَ الْمُجَازَاةَ عَلَى فِعْلِهَا، وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُجَازَاةِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ جَازَى عَلَيْهِ، فَهِيَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَتَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بالمجازاة.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٧.
378
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ الْجِهَادَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَكَرِهُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كُتِبَ، أَنَّهُ فُرِضَ عَلَى الْأَعْيَانِ، كَقَوْلِهِ:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «١» كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ «٢» إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «٣» وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، قَالَ: فُرِضَ الْقِتَالُ عَلَى أَعْيَانِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ، وَقُيِّمَ بِهِ، صَارَ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَوَّلُ فَرْضِهِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى الْكِفَايَةِ دُونَ تَعْيِينٍ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِلَى أَنْ نَزَلَ بِسَاحَةِ الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ.
وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْجِهَادُ تَطَوُّعٌ، وَيُحْمَلُ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ، وَقَدْ قِيمَ بِالْجِهَادِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ تَطَوُّعٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُتِبَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلَى النَّمَطِ الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا مِنْ لَفْظِ: كُتِبَ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: كَتَبَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبِنَصْبِ الْقِتَالِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ فِي كُتِبَ يَعُودُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ: لَمَّا ذَكَرَ مَا مَسَّ مَنْ تَقَدَّمَنَا مِنَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَلَايَا، وَأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَعْرُوفٌ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُبْتَلَى بِهِ الْمُكَلَّفُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِنْفَاقَ عَلَى مَنْ ذَكَرَ، فَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ بِالْمَالِ، انْتَقَلَ إلى أعلى مِنْهُ وَهُوَ الْجِهَادُ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ الدِّينُ، وَفِيهِ الصَّبْرُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ.
وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أَيْ مَكْرُوهٌ، فَهُوَ مِنْ باب النقض بمنى الْمَنْقُوضِ، أَوْ ذُو كُرْهٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ لِمُبَالَغَةِ النَّاسِ فِي كَرَاهَةِ الْقِتَالِ، جُعِلَ نَفْسَ الْكَرَاهَةِ.
وَالظَّاهِرُ عَوْدُ: هُوَ، عَلَى الْقِتَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يعود عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ: كُتِبَ، أَيْ: وَكَتْبُهُ وَفَرْضُهُ شَاقٌّ عَلَيْكُمْ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أَيْ: وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ بِالطَّبِيعَةِ، أَوْ مَكْرُوهٌ قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ.
وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: كَرْهٌ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَدْلُولِ الْكَرْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٧٨.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١٠٣.
379
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ السُّلَمِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَضْمُومِ:
كَالضَّعْفِ وَالضُّعْفِ، تُرِيدُ الْمَصْدَرَ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَأَنَّهُمْ أُكْرِهُوا عَلَيْهِ لِشِدَّةِ كراهته له وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً «١». انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَكَوْنُ كُرْهٍ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثُّلَاثِيُّ مَصْدَرًا لِلرُّبَاعِيِّ هُوَ لَا يَنْقَاسُ، فَإِنْ رُوِيَ اسْتِعْمَالُ عَنِ الْعَرَبِ اسْتَعْمَلْنَاهُ.
وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. عَسَى هُنَا للاشفاق لا للترجي، ومجيئها لِلْإِشْفَاقِ قَلِيلٌ، وَهِيَ هُنَا تَامَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ، وَلَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً لَكَانَتْ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا «٢» فَقَوْلُهُ: أَنْ تَكْرَهُوا، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِعَسَى، وَزَعَمَ الْحَوْفِيُّ فِي أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ بَعِيدٍ، وَانْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ: شَيْئًا الْقِتَالُ، لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ بِالطَّبْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْأَسْرِ وَالْقَتْلِ، وَإِفْنَاءِ الْأَبْدَانِ، وَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ. وَالْخَيْرُ الَّذِي فِيهِ هُوَ الظَّفَرُ. وَالْغَنِيمَةُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى النُّفُوسِ، وَالْأَمْوَالِ أَسْرًا وَقَتْلًا وَنَهْبًا وَفَتْحًا، وَأَعْظَمُهَا الشَّهَادَةُ وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي تَمَنَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: شَيْئًا، وَهُوَ نَكِرَةٌ، وَالْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ أَقَلُّ مِنَ الْحَالِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، قَالُوا:
وَسَاغَ دُخُولُ الْوَاوِ لَمَّا كَانَتْ صُورَةُ الْجُمْلَةِ هُنَا كَصُورَتِهَا، إِذْ كَانَتْ حَالًا. انْتَهَى. وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْوَاوَ فِي النُّعُوتِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْعَطْفِ فِي نَحْوِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ عَالِمٍ وَكَرِيمٍ، وَهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ، وَدَعْوَى زِيَادَةِ الْوَاوِ بَعِيدَةٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ الْجُمْلَةُ صِفَةً.
وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ عَسَى هُنَا لِلتَّرَجِّي، ومجيئها لَهُ هُوَ الْكَثِيرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَقَالُوا: كُلُّ عَسَى فِي الْقُرْآنِ لِلتَّحْقِيقِ، يَعْنُونَ بِهِ الْوُقُوعَ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى:
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً «٣». وَانْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ: شَيْئًا، الْخُلُودُ إِلَى الرَّاحَةِ وَتَرْكُ الْقِتَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْبُوبٌ بِالطَّبْعِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضِدِّ مَا قَدْ يُتَوَقَّعُ مِنَ الشَّرِّ فِي الْقِتَالِ، وَالشَّرُّ الَّذِي فِيهِ هُوَ ذُلُّهُمْ، وَضَعْفُ أَمْرِهِمْ، وَاسْتِئْصَالُ شَأْفَتِهِمْ، وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ، وَنَهْبُ أَمْوَالِهِمْ، وَمِلْكُ بلادهم.
(١) سورة الأحقاف: ٤٦/ ١٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٦.
(٣) سورة التحريم: ٦٦/ ٥. [.....]
380
وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ إِعْرَابًا، كَالْكَلَامِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ حَيْثُ كَلَّفَكُمُ الْقِتَالَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ مُغَيَّبَةٌ عَنْ عِلْمِكُمْ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى الرِّضَى بِمَا جَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، قَالَ الْحَسَنُ: لَا تَكْرَهُوا الْمُلِمَّاتِ الْوَاقِعَةَ، فَلَرُبَّ أَمْرٍ تَكْرَهُهُ فِيهِ أَرَبُكَ، وَلَرُبَّ أَمْرٍ تُحِبُّهُ فِيهِ عَطَبُكَ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ:
رُبَّ أَمْرٍ تَتَّقِيهِ جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيهِ
خُفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ وَبَدَا الْمَكْرُوهُ فِيهِ
وَقَالَ الْوَضَّاحِيُّ:
رُبَّمَا خُيِّرَ الْفَتَى وَهْوَ لِلْخَيْرِ كَارِهُ
وَقَالَ ابْنُ السَّرْحَانِ:
كَمْ فَرْحَةٌ مَطْوِيَّةٌ لَكَ بَيْنَ أَثْنَاءِ الْمَصَائِبْ
وَمَسَرَّةٌ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ حَيْثُ تُنْتَظَرُ النَّوَائِبْ
وَقَالَ آخَرُ:
كَمْ مَرَّةً حَفَّتْ بِكَ الْمَكَارِهْ خَارَ لَكَ اللَّهُ وَأَنْتَ كَارِهْ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ؟ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذكر سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي عِدَّةِ أَوْرَاقٍ، وَمُلَخَّصُهَا وَأَشْهَرُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الْأَسَدِيِّ حِينَ بعثة رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَمَانِيَةٍ مَعَهُ: سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُكَاشَةَ بْنِ محيصن، وَعُقْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، وَأَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَسُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَوَافِدِ بن عبد الله، وخالد بْنِ بُكَيْرٍ، وَأَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ يَتَرَصَّدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَوَصَلُوهَا، وَمَرَّتِ الْعِيرُ فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى عَلَى ظَنِّهِمْ، وَهُوَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَرَمَى وَافِدٌ عَمْرًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَسَرُوا الْحَكَمَ، وَعُثْمَانَ، وَكَانَا أَوَّلَ أَسِيرَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَفْلَتَ نَوْفَلٌ، وَقَدِمُوا بِالْعِيرِ الْمَدِينَةَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ:
اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعِيرَ، وَقَالَ أَصْحَابُ السَّرِيَّةِ: مَا نَبْرَحُ حَتَّى تَنْزِلَ تَوْبَتُنَا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَخَمَّسَ الْعِيرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ أَوَّلَ
381
خُمُسٍ فِي الْإِسْلَامِ، فَوَجَّهَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ الْأَسِيرَيْنِ فَقِيلَ: حَتَّى يَقْدَمَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ، وَكَانَا قَدْ أَضَلَّا بَعِيرًا لَهُمَا قَبْلَ لِقَاءِ الْعِيرِ فَخَرَجَا فِي طَلَبِهِ، فَقَدِمَا، وَفُودِيَ الْأَسِيرَانِ. فَأَمَّا الحكم فأسلم وأقام بالمدينة وَقُتِلَ شَهِيدًا بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وأما عثمان فمات بمكة كَافِرًا، وَأَمَّا نَوْفَلٌ فَضَرَبَ بَطْنَ فَرَسِهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِيَدْخُلَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَوَقَعَ بِالْخَنْدَقِ مَعَ فَرَسِهِ، فَتَحَطَّمَا وَقَتَلَهُمَا اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ اخْتِلَافٌ فِي مواضع، وقد لخصّ السخاوندي هَذَا السَّبَبَ فَقَالَ:
نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ سَرِيَّةِ الْإِسْلَامِ أَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، أَغَارُوا عَلَى عِيرٍ لقريش قَافِلَةٍ مِنَ الطَّائِفِ وَقَتَلُوا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَاشْتُبِهَ بِأَوَّلِ رَجَبٍ، فَعَيَّرَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ بِاسْتِحْلَالِهِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ عَابَ الْمُشْرِكُونَ الْقِتَالَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ عَامَ الْفَتْحِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَتْلِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ رَجُلَيْنِ مِنْ كِلَابٍ كَانَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وعمرو يَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَكَانَ فِي أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَتَلَهُمَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَنَزَلَتْ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ الْقِتَالُ لَمْ يُخَصَّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَكَانَ مِنَ الْعَوَائِدِ السَّابِقَةِ أَنَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ لَا يُسْتَبَاحُ فِيهِ الْقِتَالُ، فَبَيَّنَ حُكْمَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَسَيَأْتِي مَعْنَى قوله قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ كَمَا جَاءَ: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ «١» وَجَاءَ بَعْدَهُ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «٢» ذَلِكَ التَّخْصِيصُ فِي الْمَكَانِ، وَهَذَا فِي الزَّمَانِ.
وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي يَسْأَلُونَكَ، قِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، سَأَلُوا تَعْيِيبًا لِهَتْكِ حُرْمَةِ الشُّهَدَاءِ، وَقَصْدًا لِلْفَتْكِ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، سَأَلُوا اسْتِعْظَامًا لِمَا صَدَرَ مِنَ ابْنِ جَحْشٍ وَاسْتِيضَاحًا لِلْحُكْمِ.
وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، هُنَا هُوَ رَجَبٌ بِلَا خِلَافٍ، هَكَذَا قَالُوا، وَذَلِكَ عَلَى أَنْ تكون الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَيُرَادُ بِهِ الْأَشْهَرُ الْحَرَامُ وَهِيَ: ذُو الْقِعْدَةِ، ذو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ. وَسُمِّيَتْ حُرُمًا لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ «٣».
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٩١ والنساء: ٤/ ٩١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٩١.
(٣) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢/ ١٩٤.
382
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قِتَالٍ فِيهِ، بِالْكَسْرِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الشَّهْرِ، بَدَلَ اشْتِمَالٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:
هُوَ مَخْفُوضٌ عَلَى التَّكْرِيرِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ، لِأَنَّهُ قَالَ: مَخْفُوضٌ بِعَنْ مُضْمَرَةٍ، وَلَا يُجْعَلُ هَذَا خِلَافًا كَمَا يَجْعَلُهُ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ قَوْلَ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّ الْبَدَلَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ هُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ.
لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، هِيَ كُلُّهَا تَرْجِعُ لِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قِتَالٍ فِيهِ، خُفِضَ عَلَى الْجِوَارِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا خَطَأٌ. انْتَهَى.
فَإِنْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنَى الْخَفْضَ عَلَى الْجِوَارِ الَّذِي اصْطَلَحَ عَلَيْهِ النُّحَاةُ، فَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَجْهُ الْخَطَأِ فِيهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِمَا قَبْلَهُ فِي رَفْعٍ أَوْ نَصْبٍ من حيث اللفظ والمعنى، فَيُعْدَلُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَابِ إِلَى إِعْرَابِ الْخَفْضِ لِمُجَاوَرَتِهِ لِمَخْفُوضٍ لَا يَكُونُ لَهُ تَابِعًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَا مَرْفُوعٌ، وَلَا مَنْصُوبٌ، فَيَكُونُ: قِتَالٍ، تَابِعًا لَهُ، فَيُعْدَلُ بِهِ عَنْ إِعْرَابِهِ إِلَى الْخَفْضِ عَلَى الْجِوَارِ، وَإِنْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنَى الْخَفْضَ عَلَى الْجِوَارِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِمَخْفُوضٍ، فَخَفَضَهُ بِكَوْنِهِ جَاوَرَ مَخْفُوضًا أَيْ: صَارَ تَابِعًا لَهُ، وَلَا نَعْنِي بِهِ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ، جَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ خَطَأً، وَكَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، إِلَّا أَنَّهُ أَغْمَضُ فِي الْعِبَارَةِ، وَأَلْبَسُ فِي الْمُصْطَلَحِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعُ، وَالْأَعْمَشُ: عَنْ قِتَالٍ فِيهِ، بِإِظْهَارِ: عَنْ، وَهَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ.
وقرىء شَاذًّا: قِتَالٌ فِيهِ، بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: قَتْلٍ فِيهِ قُلْ قَتْلٌ فِيهِ، بِغَيْرِ أَلِفٍ فِيهِمَا.
وَوَجْهُ الرَّفْعِ فِي قِرَاءَةِ: قِتَالٌ فِيهِ، أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْهَمْزَةِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَسُوِّغَ جَوَازُ الِابْتِدَاءِ فِيهِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ، لِنِيَّةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا هِيَ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنَ: الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِأَنَّ: سَأَلَ، قَدْ أُخِذَ مَفْعُولَيْهِ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مَحَطَّ السُّؤَالِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى إِضْمَارِ اسْمِ فَاعِلٍ تَقْدِيرُهُ:
أَجَائِزٌ قِتَالٌ فِيهِ؟ قِيلَ: وَنَظِيرُ هَذَا، لِأَنَّ السَّائِلِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْ كَيْنُونَةِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِنَّمَا سَأَلُوا: أَيَجُوزُ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؟ فَهُمْ سَأَلُوا عَنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ لَا عَنْ كَيْنُونَتِهِ فِيهِ.
قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَ: قِتَالٌ، نَكِرَةٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهَا
383
كَوْنُهَا وُصِفَتْ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَهَكَذَا قَالُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: فِيهِ، مَعْمُولًا لِقِتَالٍ، فَلَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَتَقْيِيدُ النَّكِرَةِ بِالْمَعْمُولِ مُسَوِّغٌ أَيْضًا لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَحَدُّ الِاسْمِ إِذَا تَقَدَّمَ نَكِرَةً، وَكَانَ إِيَّاهَا، أَنْ يَعُودَ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، تَقُولُ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «١» قِيلَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُعَدْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَعْظِيمُ الْقِتَالِ الْمَذْكُورِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ. حَتَّى يُعَادَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، بَلِ الْمُرَادُ تَعْظِيمُ: أَيِّ قِتَالٍ كَانَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَعَلَى هَذَا: قِتَالٌ الثَّانِي، غَيْرُ الْأَوَّلِ انْتَهَى.
وَلَيْسَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ تُفِيدُ التَّعْظِيمَ فِي الِاسْمِ، إِذْ كَانَتِ النَّكِرَةُ السَّابِقَةُ، بَلْ هِيَ فِيهِ لِلْعَهْدِ السَّابِقِ، وَقِيلَ: فِي (الْمُنْتَخَبِ) : إِنَّمَا نُكِّرَ فِيهِمَا لِأَنَّ النَّكِرَةَ الثَّانِيَةَ هِيَ غَيْرُ الْأُولَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْأَوَّلِ الَّذِي سَأَلُوا عَنْهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جحش، وَكَانَ لِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنَ الْكَبَائِرِ، بَلِ الَّذِي يَكُونُ كَبِيرًا هُوَ قِتَالٌ غَيْرُ هَذَا، وَهُوَ مَا كان الفرض فِيهِ هَدْمَ الْإِسْلَامِ وَتَقْوِيَةَ الْكُفْرِ، فَاخْتِيرَ التَّنْكِيرُ فِي اللَّفْظَيْنِ لِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ، وَلَوْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهُمَا، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا، بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ. انْتَهَى.
وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ حُرْمَةُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِذِ الْمَعْنَى:
قُلْ قِتَالٌ فِيهِ لَهُمْ كَبِيرٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ:
إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفُ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «٢» إِذْ يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الْمَكَانِ عُمُومُ الزَّمَانِ.
وَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «٣»، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمَا.
وَقِيلَ: نَسَخَهُمَا غَزْوُ النَّبِيِّ ﷺ ثَقِيفًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَإِغْزَاؤُهُ أَبَا عَامِرٍ إِلَى أَوْطَاسٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَقِيلَ: نَسَخَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ وَالْقِتَالُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ تِلْكَ الْبَيْعَةَ كَانَتْ عَلَى الدَّفْعِ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ بالقتال.
(١) سورة المزمل: ٧٣/ ١٦.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٥.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٣٦.
384
وَقَالَ عَطَاءٌ لَمْ تُنْسَخْ، وَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوَ فِي الْحَرَمِ، وَلَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا فِيهِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا؟
وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَغْزُو فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى
، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ.
وَرَجَحَ كَوْنُهَا مُحْكَمَةً بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبِمَا
رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَرَدَّ الْغَنِيمَةَ وَالْأَسِيرَيْنِ
، وَبِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ بَعْدَهَا عَامَّةٌ فِي الْأَزْمِنَةِ وَهَذَا خَاصٌّ، وَالْعَامُّ لَا يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِاتِّفَاقٍ.
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ كَبِيرٌ، وَكِلَا الْجُمْلَتَيْنِ مَقُولَةٌ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ قِتَالٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَقُلْ لَهُمْ: صَدٌّ عَنْ كَذَا إِلَى آخِرِهِ، أَكْبَرُ مِنَ الْقِتَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا مِنَ الْقَوْلِ، بَلْ إِخْبَارٌ مُجَرَّدٌ عَنْ أَنَّ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَا وَكَذَا، أَكْبَرُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ يَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ تَسْتَعْظِمُونَ مِنَّا الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ: مِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِمَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ، وَمِنْ كُفْرِكُمْ بِاللَّهِ، وَإِخْرَاجِكُمْ أَهْلَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ كَمَا فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، أَكْبَرُ جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ مِمَّا فَعَلَتْهُ السَّرِيَّةُ مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، عَلَى سَبِيلِ الْبِنَاءِ عَلَى الظَّنِّ.
وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ، فَالْمُبْتَدَأُ: صَدٌّ، وَهُوَ نَكِرَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، فَسَاغَ الِابْتِدَاءُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مَحْذُوفٌ فَاعِلُهُ وَمَفْعُولُهُ لِلْعِلْمِ بِهِمَا، أَيْ: وَصَدُّكُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
وَسَبِيلِ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ، أَوِ: الْحَجُّ، لِأَنَّهُمْ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عَنْ مَكَّةَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، أَوِ: الْهِجْرَةُ، صَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا.
وَ: كُفْرٌ بِهِ، مَعْطُوفٌ عَلَى: وَصَدٌّ، وَهُوَ أَيْضًا مَصْدَرٌ لَازِمٌ حُذِفَ فَاعِلُهُ، تَقْدِيرُهُ:
وَكَفْرُكُمْ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بِهِ، يَعُودُ عَلَى السَّبِيلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَدٌّ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: وَكُفْرٌ بِسَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ دِينُ اللَّهِ وَشَرِيعَتُهُ، وَقِيلَ: يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي: بِهِ، عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْحُوفِيُّ.
وَالْمَسْجِدُ الحرام: هو الكعبة، وقرىء شَاذًّا وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِالرَّفْعِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَكُفْرٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ حَذَفَ الْبَاءَ وَأَضَافَ الْكُفْرَ إِلَى الْمَسْجِدِ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ،
385
فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مِنْ خَفْضِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى أَحْسَنِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي نَذْكُرُهَا، فَنَقُولُ: اخْتَلَفُوا فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَالْمَسْجِدِ، فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَتَبِعَا فِي ذَلِكَ الْمُبَرِّدَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى: سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى: سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَصَدٌّ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَهُوَ مِنْ تَمَامِ عَمَلِ الْمَصْدَرِ، وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَضَعْفُ هَذَا بِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، إِذْ لَمْ يَشُكُّوا فِي تَعْظِيمِهِ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَشْعُرُوا بِدُخُولِهِ، فَخَافُوا مِنَ الْإِثْمِ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ عَيَّرُوهُمْ بِذَلِكَ، انْتَهَى، مَا ضَعُفَ بِهِ هَذَا الْقَوْلُ، وَعَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ يَكُونُ السُّؤَالُ عَنْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْآخَرُ: عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَى الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ لِذَاتِهِ، إِنَّمَا سُئِلَ عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ يَكُونُ السُّؤَالُ عَنِ الْقِتَالِ فِيهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَفِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَجِيبُوا: بِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، وَيَكُونُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، عَلَى هَذَا، مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ:
كَبِيرٌ، أَيِ: الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَبِأَنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: وَصَدٌّ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ خَبَرِ: قِتَالٍ، عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ:
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ كَبِيرٌ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمٌ وَعَمْرٌو، أَيْ: وَعَمْرٌو قَائِمٌ، وَأُجِيبُوا بِأَنَّ: الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ مَعْطُوفًا عَلَى الشَّهْرِ الْحَرَامِ مُتَكَلَّفٌ جِدًّا، وَيَبْعُدُ عَنْهُ نَظْمُ الْقُرْآنِ، وَالتَّرْكِيبُ الْفَصِيحُ، وَيَتَعَلَّقُ كَمَا قِيلَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ، تَقْدِيرُهُ: وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «١» قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا هُوَ الْجَيِّدُ، يَعْنِي مِنَ التَّخَارِيجِ الَّتِي يُخَرَّجُ عَلَيْهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ جَيِّدٍ، لِأَنَّ فِيهِ الْجَرَّ بِإِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
أَشَارَتْ كُلَيْبٌ بالأكف الأصابع
(١) سورة الفتح: ٤٨/ ٢٥.
386
أَيْ: إِلَى كُلَيْبٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَكُفْرٌ بِهِ، أَيْ:
وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَرَدَّ بِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ.
وَنَقُولُ: الْعَطْفُ الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ فِيهِ مَذَاهِبٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْجَارِّ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ فِيهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَيُونُسَ، وَأَبِي الْحَسَنِ، وَالْأُسْتَاذِ أَبِي عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ إِنْ أُكِّدَ الضَّمِيرُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ فِي الْكَلَامِ، نَحْوَ:
مَرَرَتُ بِكَ نَفْسِكَ وَزَيْدٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الجرمي.
والذي نختاره أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ السَّمَاعَ يُعَضِّدُهُ، وَالْقِيَاسَ يُقَوِّيهِ.
أَمَّا السَّمَاعُ فَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: مَا فِيهَا غَيْرِهِ وَفَرَسِهِ، بِجَرِّ الْفَرَسِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي غَيْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَا فِيهَا غَيْرُهُ وَغَيْرُ فَرَسِهِ، وَالْقِرَاءَةُ الثانية في السبعة: تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ «١» أَيْ: وَبِالْأَرْحَامِ، وَتَأْوِيلُهَا عَلَى غَيْرِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ، مِمَّا يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنِ الْفَصَاحَةِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى التَّأْوِيلِ. قَرَأَهَا كَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وأبي رَزِينٍ، وَحَمْزَةُ.
وَمَنِ ادَّعَى اللَّحْنَ فِيهَا أَوِ الْغَلَطَ عَلَى حَمْزَةَ فَقَدْ كَذَبَ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ ضَرُورَةً، فَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا فَمَا بَيْنَهَا وَالْأَرْضِ غَوْطُ نَفَانِفِ
وَقَالَ آخَرُ:
هَلَّا سَأَلْتَ بِذِي الْجَمَاجِمِ عَنْهُمُ وَأَبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّوَاءِ الْمُحْرِقِ
وَقَالَ آخَرُ:
بِنَا أَبَدًا لَا غَيْرِنَا يُدْرَكُ الْمُنَى وَتُكْشَفُ غماء الخطوب الفوادح
(١) سورة النساء: ٤/ ١.
387
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا أَوْقَدُوا نَارًا لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلَى بِهَا وَسَعِيرِهَا
وَقَالَ آخَرُ:
لَوْ كَانَ لِي وَزُهَيْرٍ ثَالِثٌ وَرَدَتْ مِنَ الْحَمَامِ عَدَانَا شَرَّ مَوْرُودِ
وَقَالَ رَجُلٌ من طيء:
إِذَا بِنَا، بَلْ أَنِيسَانِ، اتَّقَتْ فِئَةً ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةً مِمَّنْ تُعَادِيهَا
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَكُرُّ عَلَى الْكَتِيبَةِ لَا أُبَالِي أَحَتْفِي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا
وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُونَا وتشمتنا فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
وَقَالَ آخَرُ:
أَبِكَ آيَةٌ بِي أَوْ مُصَدَّرٍ مِنْ حُمُرِ الْجُلَّةِ جَآَّبٌ جَسُورُ
فَأَنْتَ تَرَى هَذَا السَّمَاعَ وَكَثْرَتَهُ، وَتَصَرُّفَ الْعَرَبِ فِي حَرْفِ الْعَطْفِ، فَتَارَةً عَطَفَتْ بِالْوَاوِ، وَتَارَةً بِأَوْ، وَتَارَةً بِبَلْ، وَتَارَةً بِأَمْ، وَتَارَةً بِلَا، وَكُلُّ هَذَا التَّصَرُّفِ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ أَنْ يُعَادَ الْجَارُّ كَقَوْلِهِ، تعالى: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
«١» فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «٢» قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ «٣» وَقَدْ خَرَجَ عَلَى العطف بغير إعادة الجار قَوْلُهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ «٤» عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لَكُمْ فِيها مَعايِشَ «٥» أَيْ: وَلِمَنْ. وَقَوْلُهُ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ «٦» عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ:
فِيهِنَّ، أَيْ: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ مِنْهُ وَيُؤَكِّدَ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ جَارٍّ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ جَارٍّ، وَمَنِ احْتَجَّ لِلْمَنْعِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ كَالتَّنْوِينِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ إِلَّا مَعَ الْإِعَادَةِ لِأَنَّ التَّنْوِينَ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ، وإذا
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٢٢.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ١١.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ٦٤.
(٤، ٥) سورة الحجر: ١٥/ ٢٠.
(٦) سورة النساء: ٤/ ١٢٧.
388
تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَطْفَ بِغَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ ثَابِتٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي نَثْرِهَا وَنَظْمِهَا، كَانَ يَخْرُجُ عَطْفُ: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، عَلَى الضَّمِيرِ فِي: بِهِ، أَرْجَحُ، بَلْ هُوَ مُتَعَيِّنٌ، لِأَنَّ وَصْفَ الْكَلَامِ، وَفَصَاحَةَ التَّرْكِيبِ تَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ، مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ قَبْلَهُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، التَّقْدِيرُ:
وَإِخْرَاجُكُمْ أَهْلَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي: أَهْلِهِ، عَائِدٌ عَلَى: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَجَعَلَ، الْمُؤْمِنِينَ أَهْلَهُ لِأَنَّهُمُ الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِهِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ أَهْلَهُ فِي الْعَاقِبَةِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمُقِيمِينَ من الكفار بمكة أَهْلَهُ لِأَنَّ بَقَاءَهُمْ عَارِضٌ يَزُولُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ «١» وَ: مِنْهُ، مُتَعَلِّقٌ بِإِخْرَاجِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، عَائِدٌ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى: سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَ: أَكْبَرُ، خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَإِ الَّذِي هُوَ: وَصَدٌّ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْمَجْمُوعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهَا بِاعْتِبَارِ كُلٍّ وَاحِدٌ وَاحِدٌ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَبَكْرٌ أَفْضَلُ مِنْ خالد، نزيد: كل واحد منهم أفضل من خالد، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لَا الْمَجْمُوعُ، وَإِفْرَادُ الْخَبَرِ لِأَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلٍ: بِمَنِ، الدَّاخِلَةِ عَلَى الْمَفْضُولِ فِي التَّقْدِيرِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَكْبَرُ مِنَ القتال في الشهر الحرام، فَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ.
وَقِيلَ: وَصَدٌّ مُبْتَدَأٌ. وَ: كُفْرٌ، مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَخَبَرُهُمَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ خَبَرِ:
وَإِخْرَاجُ، عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَكْبَرُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا كَوْنَ: أَكْبَرُ، خبرا عن الثلاثة.
وعند اللَّهِ، مَنْصُوبٌ بِأَكْبَرِ، وَلَا يراد: بعند، الْمَكَانُ بَلْ ذَلِكَ مَجَازٌ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالسَّجَاوَنْدِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ قَالَ: وَصَدٌّ عَطْفٌ عَلَى كَبِيرٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَسُوقُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُفْرٌ بِهِ، عَطْفٌ أَيْضًا عَلَى كَبِيرٌ، وَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الْكُفْرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فَسَادُهُ.
انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَلَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ: وَكَفْرٌ بِهِ، عَطْفٌ عَلَى كَبِيرٌ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَكُونُ قَدْ أُخْبِرَ عَنِ القتال في الشهر الحرام بِخَبَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَبِيرٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ القتال الذي
(١) سورة الأنفال: ٨/ ٣٤. [.....]
389
هُوَ كَبِيرٌ، وَهُوَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَهَذَا مَعْنًى سَائِغٌ حَسَنٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ أَكْبَرُ مِنَ الْقِتَالِ الْمَذْكُورِ. وَقَوْلُهُ: وَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الْكُفْرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ فَسَادُهُ، لَيْسَ بِكَلَامٍ مُخْلَصٍ، لِأَنَّهُ لَا يَجِيءُ مِنْهُ مَا ذَكَرَ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ بَعِيدٍ، بَلْ يَجِيءُ مِنْهُ أَنَّ إِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَبِيرٌ، وَبِأَنَّهُ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالْأَكْبَرِيَّةِ هُوَ الْإِخْرَاجُ، وَالْمَفْضُولُ فِيهَا هُوَ الْقِتَالُ لَا الْكُفْرُ وَالْفِتْنَةُ، أَيِ: الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ.
أَوِ التَّعْذِيبُ الْحَاصِلُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَرْجِعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ أَكْبَرُ حُرْمًا مِنَ الْقَتْلِ، وَالْمَعْنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي كَانَتْ تَفْتِنُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ حَتَّى يَهْلَكُوا، أَشَدُّ اجْتِرَامًا مِنْ قَتْلِهِمْ إِيَّاكُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ لَوْ قَتَلُوا ذَلِكَ الْمَفْتُونَ، أَيْ فِعْلُكُمْ بِكُلِّ إِنْسَانٍ، أَشَدُّ مِنْ فِعْلِنَا، لِأَنَّ الْفِتْنَةَ أَلَمٌ مُتَجَدِّدٌ، وَالْقَتْلُ أَلَمٌ مُنْقَضٍ.
وَمَنْ فَسَّرَ الْفِتْنَةَ بِالْكُفْرِ كَانَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ: وَكَفْرُكُمْ أَشَدُّ مِنْ قَتْلِنَا أُولَئِكَ، وَصَرَّحَ هُنَا بِالْمَفْضُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مِنَ الْقَتْلِ، وَلَمْ يُحْذَفْ. لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى حَذْفِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ:
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَفْضُولِ عَلَيْهِ، وَهُوَ: الْقِتَالُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جحش فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ شِعْرًا:
تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً وَأَعْظَمُ مِنْهَا لَوْ يَرَى الرُّشْدَ رَاشِدُ
صُدُودُكُمُ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ وَكُفْرٌ بِهِ وَاللَّهُ رَاءَ وَشَاهِدُ
وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللَّهِ رَحْلَهُ لِئَلَّا يُرَى لِلَّهِ فِي الْبَيْتِ سَاجِدُ
فَإِنَّا، وَإِنْ عَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلَةٍ وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِدُ
سَقَيْنَا مِنَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ رِمَاحَنَا بِنَخْلَةِ لَمَّا أَوْقَدَ الْحَرْبَ وَاقَدُ
دَمًا، وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانُ بَيْنَنَا يُنَازِعُهُ غِلٌّ مِنَ الْقَدِّ عَانِدُ
وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا الضَّمِيرُ فِي: يَزَالُونَ، لِلْكُفَّارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي قَوْلِهِ: يَسْأَلُونَكَ، هُوَ الْكُفَّارُ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: يُقَاتِلُونَكُمْ، خُوطِبَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَانْتَقَلَ عَنْ خِطَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
390
خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِفَرْطِ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ، وَمُبَايَنَتِهِمْ لَهُمْ، وَدَوَامُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ، وَأَنَّ قِتَالَهُمْ إِيَّاكُمْ مُعَلَّقٌ بِإِمْكَانِ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَكُمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَ: حَتَّى يَرُدُّوكُمْ، يُحْتَمَلُ الْغَايَةُ، وَيُحْتَمَلُ التَّعْلِيلُ، وَعَلَيْهِمَا حَمَّلَهَا أَبُو الْبَقَاءِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ فِي الوجهين: بيقاتلونكم، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَرُدُّوكُمْ، نُصِبَ بِحَتَّى لِأَنَّهَا غَايَةٌ مجردة، وقال الزمخشري: وحتى، مَعْنَاهَا التَّعْلِيلُ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ يَعْبُدُ اللَّهَ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، أَيْ: يُقَاتِلُونَكُمْ كَيْ يَرُدُّوكُمْ. انْتَهَى. وَتَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَمْكَنُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، إِذْ يَكُونُ الْفِعْلُ الصَّادِرُ مِنْهُمُ الْمُنَافِي لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ: الْمُقَاتَلَةُ، ذَكَرَ لَهَا عِلَّةً توجيها، فَالزَّمَانُ مُسْتَغْرِقٌ لِلْفِعْلِ مَا دَامَتْ عِلَّةُ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْغَايَةِ، فَإِنَّهَا تَقْيِيدٌ فِي الْفِعْلِ دُونَ ذِكْرِ الْحَامِلِ عَلَيْهِ، فَزَمَانُ وُجُودِهِ مُقَيَّدٌ بِغَايَتِهِ، وَزَمَانُ وُجُودِ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ مُقَيَّدٌ بِوُجُودِ عِلَّةٍ، وَفَرْقٌ فِي الْقُوَّةِ بَيْنَ الْمُقَيَّدِ بِالْغَايَةِ وَالْمُقَيَّدِ بِالْعِلَّةِ لِمَا فِي التَّقْيِيدِ بِالْعِلَّةِ مِنْ ذِكْرِ الْحَامِلِ وَعَدَمِ ذَلِكَ فِي التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ.
وَ: عَنْ دِينِكُمْ، متعلق: بيردوكم، وَالدِّينُ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَ: إِنِ اسْتَطَاعُوا، شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، التَّقْدِيرُ: إِنِ اسْتَطَاعُوا فَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَمَنْ جَوَّزَ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ، قَالَ: وَلَا يَزَالُونَ، هُوَ الْجَوَابُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنِ اسْتَطَاعُوا، اسْتِبْعَادٌ لِاسْتِطَاعَتِهِمْ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِعَدُوِّهِ: إِنْ ظَفِرْتَ بِي فَلَا تُبْقِ عَلَيَّ، وَهُوَ وَاثِقٌ بِأَنَّهُ لَا يَظْفَرُ بِهِ. انْتَهَى قَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ارْتَدَّ: افْتَعَلَ مِنَ الرَّدِّ، وَهُوَ الرُّجُوعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً «١» وَقَدْ عَدَّهَا بَعْضُهُمْ فِيمَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ، بِمَعْنَى: صَيَّرَ وَجَعَلَ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ: فَارْتَدَّ بَصِيراً «٢» أَيْ: صَارَ بَصِيرًا، وَلَمْ يُخْتَلَفْ هُنَا فِي فَكِّ الْمِثْلَيْنِ، وَالْفَكُّ هُوَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَجَاءَ افْتَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى التَّعَمُّلِ وَالتَّكَسُّبِ. لِأَنَّهُ مُتَكَلَّفٌ، إِذْ مَنْ بَاشَرَ دِينَ الْحَقِّ يَبْعُدُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ افْتَعَلَ هُنَا، وَهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ التَّعَمُّلُ وَالتَّكَسُّبُ، هُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا افْتَعَلَ.
وَ: مِنْكُمْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: يَرْتَدِدْ، العائد على: من،
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٦٤.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٩٦.
391
وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ، وَ: عَنْ دِينِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِيَرْتَدِدْ، وَالدِّينُ: هُنَا هُوَ الْإِسْلَامُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُرْتَدُّ إِلَيْهِ هُوَ دِينُ الْكُفْرِ، بِدَلِيلِ أَنَّ ضِدَّ الْحَقِّ الْبَاطِلُ، وَبِقَوْلِهِ: فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ وَهَذَانِ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ بِالْفَاءِ الْمُشْعِرَةِ بِتَعْقِيبِ الْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَاتِّصَالِهِ بِهَا، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُبُوطَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهُوَ حَبَطُهُ فِي الدنيا باستحقاق قبله، وَإِلْحَاقِهِ فِي الْأَحْكَامِ بِالْكُفَّارِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ السَّرْمَدِيِّ، وَقِيلَ: حُبُوطُ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ عَدَمُ بُلُوغِهِمْ مَا يُرِيدُونَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَمُكَايَدَتِهِمْ، فَلَا يَحْصُلُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ دِينَهُ بِأَنْصَارِهِ.
وَظَاهِرُ هَذَا الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ تَرَتُّبُ حُبُوطِ الْعَمَلِ عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ الِارْتِدَادِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ: الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ جَاءَ تَرَتُّبُ حُبُوطِ الْعَمَلِ عَلَى مُجَرَّدِ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ «١» وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ «٢» وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ «٣» لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «٤» وَالْخِطَابُ فِي الْمَعْنَى لِأُمَّتِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَغَيْرُهُمَا، يَعْنِي: أَنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ دُونَ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا حَجَّ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: اجْتَمَعَ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَتَقَيَّدَ الْمُطْلَقُ، وَيَقُولُ غَيْرُهُ: هُمَا شَرْطَانِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا شَيْئَانِ، أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ: الِارْتِدَادُ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُبُوطُ الْعَمَلِ، الشَّرْطُ الثَّانِي:
الْمُوَافَاةُ عَلَى الْكُفْرِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْخُلُودُ فِي النَّارِ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ كَافِرٌ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضمير المستكين فِي: فَيَمُتْ، وَكَأَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، لِأَنَّهُ لَوِ اسْتُغْنِيَ عَنْهَا فُهِمَ مَعْنَاهَا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا يُشْعِرُ بِالتَّعْقِيبِ لِلِارْتِدَادِ.
وَكَوْنُ الْحَالِ جَاءَ جُمْلَةً فِيهَا مُبَالَغَةٌ فِي التَّأْكِيدِ، إِذْ تَكَرَّرَ الضَّمِيرُ فِيهَا مَرَّتَيْنِ، بِخِلَافِ الْمُفْرَدِ، فَإِنَّهُ فِيهِ ضَمِيرٌ وَاحِدٌ.
وَتَعَرَّضَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا لِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ إِلَّا لِحُبُوطِ الْعَمَلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُوَافَاةُ عَلَى الْكُفْرِ أَمْ يَحْبَطُ بِمُجَرَّدِ الردة؟ وأما حكمه
(١) سورة المائدة: ٥/ ٥.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٨٨.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٤٧.
(٤) سورة الزمر: ٣٩/ ٦٥.
392
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَتْلِ، فَذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: إِلَى أَنَّهُ يُسْتَتَابُ مَحْبُوسًا أَبَدًا، وَذَهَبَ طاووس، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، عَلَى خِلَافٍ عَنْهُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي مُوسَى، وَمُعَاذٍ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُسْتَتَابُ، وَهَلْ يُسْتَتَابُ فِي الْوَقْتِ؟
أَوْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ أَوْ شَهْرٍ؟ رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ
، أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؟ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَالشَّافِعِيِّ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ: أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ؟ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ كَانَ ابْنَ مُسْلِمَيْنِ قُتِلَ دُونَ اسْتِتَابَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ أَسْتُتِيبَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ إِلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُؤَجَّلَ، فَيُؤَجَّلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ، أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ.
وَالزِّنْدِيقُ عِنْدَهُمْ وَالْمُرْتَدُّ سَوَاءٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْتَلُ الزَّنَادِقَةُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ، وَلَوِ ارْتَدَّ ثُمَّ رَاجَعَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَحُكْمُهُ فِي الرِّدَّةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ كَالْأُولَى، وَإِذَا رَاجَعَ فِي الرَّابِعَةِ ضُرِبَ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَقِيلَ:
يُحْبَسُ حَتَّى يُرَى أَثَرُ التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ عَلَيْهِ، وَلَوِ انْتَقَلَ الْكَافِرُ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ.
وَذَكَرَ الْمُزَنِيُّ، وَالرَّبِيعُ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمُبَدِّلَ لِدِينِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُلْحِقُهُ الْإِمَامُ بِأَرْضِ الْحَرْبِ، وَيُخْرِجُهُ مِنْ بَلَدِهِ، وَيَسْتَحِلُّ مَالَهُ مَعَ أَمْوَالِ الْحَرْبِيِّينَ إِنْ غُلِبَ عَلَى الدَّارِ، هَذَا حُكْمُ الرَّجُلِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا ارْتَدَّتْ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ: تُقْتَلُ كَالرَّجُلِ سَوَاءً، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ عَطِيَّةَ لَا تُقْتَلُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا مِيرَاثُهُ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَقْرِبَاءَهُ مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَرِثُونَهُ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُمْ يَرِثُونَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ خِلَافُ هَذَا،
وَقَالَ عَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَابْنُ رَاهَوَيْهِ: يَرِثُهُ أَقْرِبَاؤُهُ الْمُسْلِمُونَ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَرَبِيعَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ: مِيرَاثُهُ فِي بَيْتِ
393
الْمَالِ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: حَبَطَتْ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَكَذَا قَرَأَهَا أَبُو السَّمَّاكِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَقَوْلُهُ: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ، وَأَتَى بِهِ مَجْمُوعًا حَمْلًا عَلَى مَعْنَى: مَنْ، لِأَنَّهُ أَوَّلًا حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ وَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ الْحَمْلَيْنِ، فَالْأَصَحُّ أَنْ تبدأ أَوَّلًا بِالْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى. وَعَلَى هَذَا الْأَفْصَحِ جَاءَتْ هذه الآيةو فِي الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: حَبِطَتْ.
وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ ابْتِدَاءَ إِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِخُلُودِ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ، فَلَا تَكُونُ دَاخِلَةً فِي الْجَزَاءِ وَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَتَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْجَزَاءِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَزَاءِ جَزَاءٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْقُرْبَ مُرَجَّحٌ، وَتَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِقْلَالَ.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ سَبَبُ نُزُولِهَا
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جحش قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَبْ أَنَّهُ عِقَابٌ عَلَيْنَا فيما فعلناه فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهُ أَجْرًا وَثَوَابًا فَنَزَلَتْ
لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُؤْمِنًا وَكَانَ مُهَاجِرًا، وَكَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةِ مُجَاهِدًا، ثُمَّ هِيَ عَامَّةٌ فِي مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَأَصْحَابَهُ، حِينَ قَتَلُوا الْحَضْرَمِيَّ، ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهُمْ إِنْ سَلِمُوا مِنَ الْإِثْمِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ، فَنَزَلَتْ.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَالْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي الظَّانِّ، فَفِي الْأَوَّلِ ابْنُ جَحْشٍ، وَفِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: قَوْمٌ، وَعَلَى هَذَا السَّبَبِ فَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ. وَقِيلَ: لَمَّا أَوْجَبَ الْجِهَادَ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ سَبَبٌ لِلْوَعِيدِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنْ يَقُومُ بِهِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ وَعِيدٌ إِلَّا وَيَتْبَعُهُ وَعْدٌ، وَقَدِ احْتَوَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ، وَجَاءَتْ مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ وَالْوَاقِعِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَوَّلُهَا، ثُمَّ الْمُهَاجَرَةُ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِيمَانُ هُوَ الْأَصْلُ أُفْرِدَ بِهِ مَوْصُولٌ وَحْدَهُ، وَلَمَّا كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ فَرْعَيْنِ عَنْهُ أُفْرِدَا بِمَوْصُولٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُمَا مِنْ حَيْثُ الْفَرْعِيَّةِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. وَأَتَى خَبَرُ: أن، جملة مصدرة:
394
بأولئك، لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ هُوَ الْمُتَضَمِّنُ الْأَوْصَافَ السَّابِقَةَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَلَيْسَ تَكْرِيرًا لِمَوْصُولٍ بِالْعَطْفِ مُشْعِرًا بِالْمُغَايَرَةِ فِي الذَّوَاتِ، وَلَكِنَّهُ تَكْرِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْصَافِ، وَالذَّوَاتُ هِيَ الْمُتَّصِفَةُ بِالْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، فَهِيَ تَرْجِعُ لِمَعْنَى عَطْفِ الصِّفَةِ بَعْضِهَا عَلَى بعض للمغايرة، لا: إن الَّذِينَ آمَنُوا، صِنْفٌ وَحْدَهُ مُغَايِرٌ: لِلَّذِينِ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا، وَأَتَى بِلَفْظَةِ:
يَرْجُونَ، لِأَنَّهُ مَا دَامَ الْمَرْءُ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ لَا يُقْطَعُ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَوْ أَطَاعَ أَقْصَى الطَّاعَةِ، إِذْ لَا يُعْلَمُ بِمَا يُخْتَمُ لَهُ، وَلَا يَتَّكِلُ عَلَى عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَقُبِلَ أَمْ لَا؟ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ، وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ لَهَا كَمَا وَفَّقَهُ لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَأُولَئِكَ يَرْجُونَ، أَوْ يَكُونُ ذِكْرُ الرَّجَاءِ لِمَا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ مَا وَفَّوْا حَقَّ نُصْرَةِ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ، وَلَا قَضَوْا مَا لَزِمَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى اللَّهِ مَعَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ «١».
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ لِأَخْيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَهْلَ رَجَاءٍ، كَمَا يَسْمَعُونَ، وَقِيلَ: الرَّجَاءُ دَخَلَ هُنَا فِي كَمِّيَّةِ الثَّوَابِ وَوَقْتِهِ، لَا فِي أَصْلِ الثَّوَابِ، إذا هُوَ مَقْطُوعٌ مُتَيَقَّنٌ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ، وَ: رَحْمَتَ، هُنَا كُتِبَ بِالتَّاءِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ هُنَا، أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَصْلِ لِأَنَّهَا فِي الْوَصْلِ تَاءٌ، وَهِيَ سَبْعَةُ مَوَاضِعَ كُتِبَتْ: رَحْمَتَ، فِيهَا بِالتَّاءِ. أَحَدُهَا هَذَا، وَفِي الْأَعْرَافِ: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ «٢» وَفِي هُودٍ: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ «٣» وَفِي مَرْيَمَ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ «٤» وَفِي الزُّخْرُفِ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «٥» وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «٦» وَفِي الرُّومِ فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ «٧» وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ طَامِعُونَ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالرَّحْمَةِ، وَزَادَ وَصْفًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْغُفْرَانِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى، عِنْدَ مَا ظَنُّوا وَطَمِعُوا فِي ثَوَابِهِ، فَالرَّحْمَةُ مُتَحَقِّقَةٌ، لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيات الكريمة إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِمُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَ بِالثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُحَذِّرِينَ مَنْ عَصَى مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَقَدَّمَ الْبِشَارَةَ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَفْرُوحُ بِهَا، وَلِأَنَّهَا نَتِيجَتُهَا رِضَى اللَّهِ عَنْ مَنِ اتَّبَعَ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ كِتَابًا مِنْ عِنْدِهِ مصحوبا بالحق
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٦٠.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٥٦.
(٣) سورة هود: ١١/ ٧٣.
(٤) سورة مريم: ١٩/ ٢.
(٥، ٦) سورة الزخرف: ٤٣/ ٣٢.
(٧) سورة الروم: ٣٠/ ٥٠.
395
اللَّائِحِ، لِيَكُونَ أَضْبَطَ لِمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ، لأن ما جاؤا بِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ يُقْرَأُ وَيُدَرَّسُ عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ، وَرُبَّمَا يَذْهَبُ بِذَهَابِهِمْ، فَإِذَا كَانَ مَا شُرِعَ لَهُمْ مُخَلَّدًا فِي الطُّرُوسِ كَانَ أَبْقَى، وَإِنَّ ثَمَرَةَ الْكُتُبِ هِيَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافُهُمْ مِنْ أَمْرِ عَقَائِدِهِمْ، وَتَكَالِيفِهِمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مَا اخْتَلَفَ فِيمَا اخْتُلِفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، أَيْ: أُوتُوا الْكِتَابَ، وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وُضُوحِ الْآيَاتِ وَمَجِيئِهَا لَهُمْ، فَكَأَنَّ مَا سَبِيلُهُ إِلَى الْهِدَايَةِ وَالْفَصْلِ فِي الِاخْتِلَافِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ سَبَبًا لِلِاخْتِلَافِ، فَرَتَّبُوا عَلَى مَجِيءِ الشَّيْءِ الْوَاضِحِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ، وَأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْبَغْيُ وَالظُّلْمُ الَّذِي صَارَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ هَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ مَنِ اخْتَلَفَ، وَذَلِكَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ، ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ اسْتِحْقَاقٍ، بَلْ هِدَايَتُهُ إِيَّاهُمُ الْحَقَّ هُوَ بِتَمْكِينِهِ تَعَالَى لِذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْهِدَايَةَ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ شَاءَ تَعَالَى هِدَايَتَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذْ كَانَ قَدْ أَخْبَرَ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ أَنْ تُنَالَ الرُّتْبَةُ الْعَالِيَةُ مِنَ الْفَوْزِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلَمَّا يَقَعِ ابْتِلَاءٌ لَكُمْ كَمَا ابْتُلِيَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، ثُمَّ فَسَّرَ مَثَلَ الْمَاضِينَ بِأَنَّهُمْ مَسَّتُهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَأَنَّهُمْ أُزْعِجُوا حَتَّى سَأَلُوا رَبَّهُمْ عَنْ وَقْتِ مَجِيءِ النَّصْرِ لِتَصْبِرَ نُفُوسُهُمْ عَلَى مَا ابْتَلَاهُمْ بِهِ، وَلِيَنْتَظِرُوا الْفَرَجَ مِنَ اللَّهِ عَنْ قُرْبٍ، فَأَجِيبُوا بِأَنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وَمَا هُوَ قَرِيبٌ، فَالْحَاصِلُ: فَسَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْإِزْعَاجِ بِانْتِظَارِ النَّصْرِ الْقَرِيبِ.
ثُمَّ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَمَّا يُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ؟ فَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ جِنْسَ مَا يُنْفِقُونَ وَلَا مِقْدَارَهُ، وَذَكَرَ مَصْرِفَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ فِي الْجَوَابِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَمَصْرِفُهُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْكُمْ، وَهُمَا: الْوَالِدَانِ: اللَّذَانِ كَانَا سَبَبًا فِي إِيجَادِكَ وَتَرْبِيَتِكَ مِنْ لَدُنْ خُلِقْتَ إِلَى أَنْ صَارَ لَكَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَفِي الْحُنُوِّ عَلَيْكَ، ثُمَّ ذَكَرَ: الْأَقْرَبِينَ بِصِفَةِ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُشَارِكُونَكَ فِي النَّسَبِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الْيَتَامَى: وَهُمُ الَّذِينَ قَدْ تُوُفِّيَ آبَاؤُهُمْ فَلَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ إِحْسَانٌ جَزِيلٌ، ثُمَّ ذَكَرَ: الْمَسَاكِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ انْتَهَوْا، مِنَ الْفُقَرَاءِ، إِلَى حَالَةِ الْمَسْكَنَةِ، وَهِيَ عَدَمُ الْحَرَكَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَمَعَاشِهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى: أَنَّ مَا أَنْفَقْتُمْ فَاللَّهُ عَلِيمٌ بِهِ وَمُحْصِيهِ، فَيُجَازِي عَلَيْهِ وَيُثِيبُ.
396
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ فَرْضِ الْقِتَالِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لِلطِّبَاعِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْلَافِ الْمُهَجِ وَانْتِقَاصِ الْأَمْوَالِ، وَانْتِهَاكِ الْأَجْسَادِ بِالسَّفَرِ فِيهِ وَبِغَيْرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْرَهُ الشَّيْءَ وَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، لِأَنَّ عِقَابَهُ إِلَى خَيْرٍ، فَالْقِتَالُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا لِلطَّبْعِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ إِنْ سَلِمَ، فَخَيْرُهُ بِالظَّفَرِ بأعداء الله، وبالغنيمة، واستيلاء عَلَيْهِمْ قَتْلًا وَنَهْبًا وَتَمَلُّكِ دَارٍ، وَإِنْ قُتِلَ فَخَيْرُهُ أَنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَرْتَبَةَ الشُّهَدَاءِ.
وَيَكْفِيكَ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الْعَظِيمَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَفِيمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ مُقَابِلَ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فَمِنَ الْمَحْبُوبِ تَرْكُ الْقِتَالِ، وَهُوَ مَدْعَاةٌ إِلَى الدُّعَاءِ وَالرَّاحَةِ، وَفِي ذَلِكَ الشَّرُّ الْعَظِيمُ مِنْ تَسَلُّطِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَالْإِيقَاعِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَتَمَلُّكِ دِيَارِهِمْ، فَمَتَى أَخْلَدَ الْإِنْسَانُ إِلَى الرَّاحَةِ طَمِعَ فِيهِ عَدُوُّهُ، وَبَلَغَ مِنْهُ مَقَاصِدَهُ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ زُهَيْرٌ حَيْثُ قَالَ:
جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ سَرِيعًا، وَإِنْ لايبد بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا لَا يَعْلَمُونَ حَيْثُ شَرَعَ الْقِتَالَ، فَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا يَتَرَتَّبُ لَكُمْ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِتَالِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِمَا كَانَ وَقْعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ أَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأُخْبِرُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ إِثْمٌ كَبِيرٌ، إِذْ كَانَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ لَا قِتَالَ فِيهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَا يَرْتَكِبُهُ الْكُفَّارُ مِنْ صَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَمِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمِنْ إِخْرَاجِ أَهْلِهِ مِنْهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْفِتْنَةَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَهُوَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ، أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِهِ وَهُوَ عَلَى دِينِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْفِتْنَةَ تَؤُولُ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَقَتْلَهُ هَذَا يَؤُولُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ دَوَامِ عَدَاءِ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ مَقْصِدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِتْنَتُكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَرُجُوعِكُمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ، وَأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ وَقَدَرُوا عَلَيْهِ قَاتَلُوكُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ الْحَقِّ إِلَى دِينِهِ الْبَاطِلِ، وَوَافَى عَلَى ذَلِكَ، فَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَاتِ قَدْ بَطَلَتْ فِي الدُّنْيَا بِإِلْحَاقِهِ بِالْكُفَّارِ، وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ عَلَيْهِ، وَفِي الْآخِرَةِ فَلَا يَبْقَى لَهَا ثَمَرَةٌ يَرْتَجِي بِهَا غُفْرَانًا لِمَا اجْتَرَحَ، بَلْ مَآلُهُ إِلَى النَّارِ خَالِدًا فِيهَا.
397
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُرْتَدِّ عَنْ دِينِهِ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ، وَهَاجَرَ مِنْ وَطَنِهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُ طَامِعٌ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ غَفُورٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِيمَانِ وَلِمَا يَتَخَلَّلُ فِي حَالَةِ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِ الْمُخَالَفَةِ، وَأَنَّهُ رَحِيمٌ لَهُ، فَهُوَ يُحَقِّقُ لَهُ مَا طَمِعَ فيه من رحمته.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٩ الى ٢٢٣]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
الْخَمْرُ: هِيَ الْمُعْتَصَرُ مِنَ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنْ خَمَرَ إِذَا سَتَرَ، وَمِنْهُ خِمَارُ الْمَرْأَةِ، وَتَخَمَّرَتْ وَاخْتَمَرَتْ، وَهِيَ حَسَنَةُ الْخِمْرَةِ، وَالْخَمْرُ مَا وَارَاكَ مِنَ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِ، وَدَخَلَ فِي خِمَارِ النَّاسِ وَغِمَارِهِمْ أَيْ: فِي مَكَانٍ خَافٍ. وَخَمْرُ فُتَاتِكُمْ،
398
وَخَامِرِي أُمَّ عَامِرٍ، مِثْلَ الْأَحْمَقِ، وَخَامِرِي حَضَاجِرِ أَتَاكِ مَا تُحَاذِرِ، وَحَضَاجِرُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ السِّبَاعِ، وَمَعْنَاهُ: ادْخُلِي الْخَمْرَ وَاسْتَتِرِي.
فَلَمَّا كَانَتْ تَسْتُرُ الْعَقْلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ: أَيْ تُغَطِّي حَتَّى تُدْرِكَ وَتَشْتَدَّ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُخَامِرُ الْعَقْلَ أَيْ: تُخَالِطُهُ، يُقَالُ: خَامَرَ الدَّاءُ خَالَطَ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُتْرَكُ حِينَ تُدْرَكُ، يُقَالُ: اخْتَمَرَ الْعَجِينُ بَلَغَ إِدْرَاكُهُ، وَخَمَّرَ الرَّأْيَ تَرَكَهُ حَتَّى يُبَيَّنَ فِيهِ الْوَجْهُ، فَعَلَى هَذِهِ الِاشْتِقَاقَاتِ تَكُونُ مَصْدَرًا فِي الْأَصْلِ وَأُرِيدَ بِهَا اسْمُ الْفَاعِلِ أَوِ اسْمُ الْمَفْعُولِ.
الْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ، وَهُوَ مَفْعِلٌ مِنْ: يَسَرَ، كَالْمَوْعِدِ مِنْ وَعَدَ، يُقَالُ يَسَّرْتُ الْمَيْسِرَ أَيْ قَامَرْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْ تَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا وَكُلُّ مَا يَسَرَ الْأَقْوَامُ مَغْرُومُ
وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْيُسْرِ وَهُوَ السُّهُولَةُ، أَوْ مِنَ الْيَسَارِ لِأَنَّهُ يَسْلُبُ يَسَارَهُ، أَوْ مِنْ يَسَرَ الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ، أَوْ مِنْ يَسَرَ إِذَا جَزَرَ وَالْيَاسِرُ الْجَازِرُ، وهو الذي يجزىء الْجَزُورَ أَجْزَاءً، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ تَيْسِرُونَنِي أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ؟
وَسُمِّيَتِ الْجَزُورُ الَّتِي يُسْهَمُ عَلَيْهَا مَيْسِرًا لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْيَسَرِ، ثُمَّ قِيلَ لِلسِّهَامِ: مَيْسِرٌ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَالْيَسَرُ، الَّذِي يَدْخُلُ فِي الضَّرْبِ بِالْقِدَاحِ وَجَمْعُهُ، أَيْسَارٌ، وَقِيلَ: يَسَرٌ جَمْعُ يَاسِرٍ كَحَارِسٍ وَحَرَسٌ وَأَحْرَاسٌ.
وَصِفَةُ الْمَيْسِرِ أَنَّهُ عَشَرَةُ أَقْدَاحٍ، وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ، وَهِيَ: الْأَزْلَامُ، وَالْأَقْلَامُ، وَالسِّهَامُ. لِسَبْعَةٍ مِنْهَا حُظُوظٌ، وَفِيهَا فُرُوضٌ عَلَى عِدَّةِ الْحُظُوظِ: الْقَدُّ، وَلَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَالتَّوْأَمُ، وَلَهُ سَهْمَانِ، وَالرَّقِيبُ، وله ثلاثة والجلس، وَلَهُ أَرْبَعَةٌ وَالنَّافِسُ، وَلَهُ خَمْسَةٌ وَالْمُسْبِلُ وَلَهُ سِتَّةٌ وَالْمُعَلَّى وَلَهُ سَبْعَةٌ وَثَلَاثَةُ أَغْفَالٍ لَا حُظُوظَ لَهَا، وَهِيَ:
الْمَنِيحُ، وَالسَّفِيحُ، وَالْوَغْدُ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: الْمَصْدَرُ، وَالْمُضْعِفُ، وَالْمَنِيحُ، وَالسَّفِيحُ. تُزَادُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَوِ الْأَرْبَعَةُ عَلَى الْخِلَافِ لِتَكْثُرَ السِّهَامُ وَتَخْتَلِطَ عَلَى الْحُرْضَةِ وَهُوَ الضَّارِبُ بِالْقِدَاحِ، فَلَا يَجِدُ إِلَى الْمَيْلِ مَعَ أَحَدٍ سَبِيلًا، وَيُسَمَّى أَيْضًا: الْمُجِيلُ، وَالْمُغِيضُ، وَالضَّارِبُ، وَالضَّرِيبُ. وَيُجْمَعُ ضُرَبَاءُ، وَهُوَ رَجُلٌ عَدْلٌ عِنْدَهُمْ. وَقِيلَ يُجْعَلُ رَقِيبٌ لِئَلَّا
399
يُحَابِي أَحَدًا، ثُمَّ يَجْثُو الضَّارِبُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَلْتَحِفُ بِثَوْبٍ، وَيُخْرِجُ رَأْسَهُ يَجْعَلُ تِلْكَ الْقِدَاحَ فِي الرِّبَابَةِ، وَهِيَ خَرِيطَةٌ يُوضَعُ فِيهَا، ثم يجلجها، وَيُدْخِلُ يَدَهُ وَيُخْرِجُ بِاسْمِ رَجُلٍ رَجُلٍ قَدَحًا مِنْهَا، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْصِبَاءِ أَخَذَ النَّصِيبَ الْمَوْسُومَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدَحُ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَغَرِمَ الْجَزُورَ كُلَّهُ.
وَكَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَضْرِبَ بِهَذِهِ الْقِدَاحِ فِي الشَّتْوَةِ وَضِيقِ الْعَيْشِ وَكَلَبِ الْبَرْدِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَشْتَرُونَ الْجَزُورَ وَتَضْمَنُ الْأَيْسَارُ ثَمَنَهَا، ثُمَّ تُنْحَرُ وَيُقَسَّمُ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ، فِي قَوْلِ أَبِي عَمْرٍو، وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ عَلَى قَدْرِ حُظُوظِ السِّهَامِ فِي قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَخْطَأَ الْأَصْمَعِيُّ فِي قِسْمَةِ الْجَزُورِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ، وَأَيُّهُمْ خَرَجَ لَهُ نُصِيبٌ وَاسَى بِهِ الْفُقَرَاءَ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ، وَيُسَمُّونَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ: الْبَرَمَ وَيَذُمُّونَهُ بِذَلِكَ، وَمِنَ الِافْتِخَارِ بِذَلِكَ قول الأعشى:
المطمعو الضيف إذا ماشتا وَالْجَاعِلُو الْقُوتَ عَلَى الْيَاسِرِ
وَقَالَ زُهَيْرٌ فِي الْبَرَمِ:
حتى تآوى إلى لا فَاحِشٍ بَرَمٍ وَلَا شَحِيحٍ إِذَا أَصْحَابُهُ غَنِمُوا
وَرُبَّمَا قَامُوا لِأَنْفُسِهِمْ.
التَّفَكُّرُ: فِي الشَّيْءِ إِجَالَةُ الْفِكْرِ فِيهِ وَتَرَدُّدُهُ، وَالْفِكْرُ: هُوَ الذِّهْنُ.
الْخَلْطُ: مَزْجُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَخَالَطَ فَاعَلَ مِنْهُ، وَالْخِلْطُ الشَّيْءُ الْمَخْلُوطُ:
كَالرِّغْيِ.
الْإِخْوَانُ: جَمْعُ أَخٍ، وَالْأَخُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ مَنْ وَلَدَهُ أَبُوكَ وَأُمُّكَ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَجَمْعُ فَعْلٍ عَلَى فِعْلَانٍ لَا يَنْقَاسُ.
الْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ، وَمِنْهُ عَنَتُ الْغُرْبَةِ، وَعَقَبَةٌ عَنُوتٌ شَاقَّةُ الْمَصْعَدِ، وَعَنَتَ الْبَعِيرُ انْكَسَرَ بَعْدَ جَبْرٍ.
النِّكَاحُ: الْوَطْءُ وَهُوَ الْمُجَامَعَةُ، قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ لُزُومُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ وَإِكْبَابُهُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نَكَحَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ. حَكَاهُ ثَعْلَبٌ فِي (الْأَمَالِي) عَنْ أَبِي زَيْدٍ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: نُكْحُ الْمَرْأَةِ، بِضَمِّ النُّونِ، بِضْعَةٌ هِيَ بَيْنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، فَإِذَا قَالُوا نَكَحَهَا، فَمَعْنَاهُ أَصَابَ نُكْحَهَا، أَيْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْهَا، وَقَلَّمَا يُقَالُ
400
نَاكَحَهَا كَمَا يُقَالُ بَاضَعَهَا، قِيلَ: وَقَدْ جَاءَ النِّكَاحُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ يُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ خَاصَّةً، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا عَلَيْكَ حَرَامٌ، فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
أَيْ فَاعْقِدْ وَتَزَوَّجْ، وَإِلَّا فَاجْتَنِبِ النِّسَاءَ وَتَوَحَّشْ، لِأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقْرَبَنْ جَارَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْرُمُ. وَجَاءَ بِمَعْنَى الْمُجَامَعَةِ، كَمَا قَالَ:
الْبَارِكِينَ عَلَى ظُهُورِ نِسْوَتِهِمْ وَالنَّاكِحِينَ بِشَاطِي دِجْلَةَ الْبَقَرَا
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: فَرَّقَتِ الْعَرَبُ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ بِفَرْقٍ لَطِيفٍ، فَإِذَا قَالُوا: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً، أَرَادُوا بِهِ الْعَقْدَ لَا غَيْرَ، وَإِذَا قَالُوا نَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ فَلَا يُرِيدُونَ غَيْرَ الْمُجَامَعَةِ.
الْأَمَةُ: الْمَمْلُوكَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَهِيَ مَا حُذِفَ لَامُهُ، وَهُوَ وَاوٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظُهُورُهَا فِي الْجَمْعِ قَالَ الْكِلَابِيُّ:
أَمَّا الْإِمَاءُ فَلَا يَدْعُونَنِي وَلَدًا إِذَا تَدَاعَى بَنُو الْأَمْوَاتِ بِالْعَارِ
وَفِي الْمَصْدَرِ: يُقَالُ أَمَةٌ بَيِّنَةُ الْأُمُوَّةِ، وَأَقَرَّتْ بِالْأُمُوَّةِ، أَيْ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَجُمِعَتْ أَيْضًا عَلَى:
إِمَاءٍ، وَأَآمٍ، نَحْوَ أَكَمَةٍ وَآكَامٍ وَأَكَمٍ، وَأَصْلُهُ أَأْمُو، وَجَرَى فِيهِ مَا يَقْتَضِيهِ التَّصْرِيفُ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ».
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَمْشِي بِهَا رَيْدَ النَّعَا مِ تَمَاشِيَ الْآمِ الدَّوَافِرِ
وَوَزْنُهَا أَمْوَةٌ، فَحُذِفَتْ لَامُهَا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، إِذْ كَانَ قِيَاسُهَا أَنْ تَنْقَلِبَ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا، وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا كَقَنَاةٍ، وَزَعَمَ أَبُو الْهَيْثَمِ: أَنَّ جَمْعَ الْأَمَةِ أَمْوٌ، وَأَنَّ وَزْنَهَا فَعْلَةٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، فَتَكُونُ مِثْلَ: نَخْلَةٍ وَنَخْلٍ، وَبَقْلَةٍ وَبَقْلٍ، فَأَصْلُهَا: أَمْوَةٌ فَحَذَفُوا لَامَهَا إِذْ كَانَتْ حَرْفَ لِينٍ، فَلَمَّا جَمَعُوهَا عَلَى مِثَالِ نَخْلَةٍ وَنَخْلٍ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: أَمَةٌ وَأُمٌّ، فَكَرِهُوا أَنْ يَجْعَلُوهَا حَرْفَيْنِ، وَكَرِهُوا أَنْ يَرُدُّوا الْوَاوَ الْمَحْذُوفَةَ لَمَّا كَانَتْ آخِرَ الِاسْمِ، فَقَدَّمُوا الْوَاوَ، وَجَعَلُوهُ أَلِفًا مَا بَيْنَ الْأَلِفِ وَالْمِيمِ، وَمَا زَعَمَهُ أَبُو الْهَيْثَمِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى مَا زَعَمَ لَكَانَ الْإِعْرَابُ عَلَى الْمِيمِ كَمَا كَانَ عَلَى لَامِ نَخْلٍ، وَلَكِنَّهُ عَلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ الَّتِي هِيَ لَامٌ، إِذْ أَصْلُهُ أَلَامُو، ثُمَّ عُمِلَ فِيهِ مَا عُمِلَ فِي قَوْلِهِمْ: الْأَدْلُوُّ، وَالْأَجْرُوُّ، جَمْعُ: دَلْوٍ، وَجَرْوٍ، وَأُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ أَلِفًا كَمَا أُبْدِلَتْ فِي: آدَمَ، وَلِذَلِكَ تَقُولُ: جَاءَتِ الْآمِيُّ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا زَعَمَ أَبُو الْهَيْثَمِ لَكَانَ: جَاءَتِ الْآمُّ، بِرَفْعِ الْمِيمِ.
401
الْمَحِيضُ: مَفْعِلٌ مِنَ الْحَيْضِ يَصْلُحُ لِلْمَصْدَرِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، تَقُولُ. حَاضَتِ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ حَيْضًا وَمَحِيضًا بَنَوْهُ عَلَى: مَفْعِلٍ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا، وَفِيمَا كَانَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ يَائِيُّ الْعَيْنِ عَلَى: فَعَلَ يَفْعِلُ، فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قِيَاسُهُ مَفْعَلٌ. بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَبِكَسْرِهَا فِي الْمُرَادِ بِهِ الْمَكَانُ أَوِ الزَّمَانُ، فَيَصِيرُ: كَالْمَضْرِبِ فِي الْمَصْدَرِ، وَالْمَضْرِبِ بِالْكَسْرِ، أَيْ: بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْمَحِيضِ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، شَاذًّا، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ كَانَ عَلَى الْقِيَاسِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّكَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَفْتَحَ عَيْنَهُ أَوْ تَكْسِرَهُ، كَمَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَحِيضِ وَالْمَحَاضِ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كَثُرَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهَانِ فَاقْتَاسَا.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: الْقَصْرُ عَلَى السَّمَاعِ، فَمَا قَالَتْ فِيهِ الْعَرَبُ: مَفْعِلٌ، بِالْكَسْرِ أَوْ مَفْعَلٌ بِالْفَتْحِ لَا نَتَعَدَّاهُ، وَهَذَا هُوَ أَوْلَى الْمَذَاهِبِ.
وَأَصْلُ الْحَيْضِ فِي اللُّغَةِ السَّيَلَانُ، يُقَالُ: حَاضَ السَّيْلُ وَفَاضَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
حَاضَتِ الشَّجَرَةُ إِذَا سَالَ صَمْغُهَا، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمِنْ هَذَا قِيلَ لِلْحَوْضِ حَوْضٌ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَحِيضُ إِلَيْهِ أَيْ يَسِيلُ، وَالْعَرَبُ تُدْخِلُ الْوَاوَ عَلَى الْيَاءِ، وَالْيَاءَ عَلَى الْوَاوِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْهَوَاءُ.
الِاعْتِزَالُ: ضِدُّ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ التَّيَؤُّسُ مِنَ الشَّيْءِ وَالتَّبَاعُدُ مِنْهُ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْبَدَنِ، وَتَارَةً بِالْقَلْبِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْعَزْلِ، وَهُوَ تَنْجِيَةُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ.
أَنَّى: اسْمٌ وَيُسْتَعْمَلُ شَرْطًا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَيَأْتِي ظَرْفَ زَمَانٍ بِمَعْنَى: مَتَى وَاسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى: كَيْفَ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى حَرْفِ الشَّرْطِ، وَحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لَا يتصرف فيه بغير ذلك البتة.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ سَبَبُ نُزُولِهَا سُؤَالُ عُمَرَ وَمُعَاذٍ،
قَالَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْتِنَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، فَإِنَّهُ مَذْهَبَةٌ لِلْعَقْلِ، مَسْلَبَةٌ لِلْمَالِ. فَنَزَلَتْ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ فَبَيَّنَ لَهُمْ مَصْرِفَ ذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فَرْضَ الْقِتَالِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نَاسَبَ ذِكْرَ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، إِذْ هُمَا أَيْضًا مِنْ مَصَارِفِ الْمَالِ،
402
وَمَعَ مُدَاوَمَتِهِمَا قَلَّ أَنْ يَبْقَى مَالٌ فَتَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ تُجَاهِدَ بِهِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَلَّفَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ مُبَاحًا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ بِمَا فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَجِدُ «١» وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا نَزَلَ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ كَرِهَ الْخَمْرَ قَوْمٌ لِلْإِثْمِ، وشربتها قَوْمٌ لِلْمَنَافِعِ، حَتَّى نَزَلَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «٢» فَاجْتَنَبُوهَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَ: فَاجْتَنِبُوهُ «٣» فَحُرِّمَتْ. قَالَ مَكِّيٌّ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ نُزُولَ الْمَائِدَةِ بَعْدَ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَمَّ اللَّهُ الْخَمْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ مُبَاحًا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ إِبَاحَتَهَا، ثُمَّ نُسِخَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْ شُرْبِهَا، فَكَانُوا جَارِينَ فِي شُرْبِهَا عَلَى عَادَتِهِمْ، ثُمَّ نَزَلَ التَّحْرِيمُ. كَمَا سَكَتَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى وَقْتِ التَّحْرِيمِ.
وَجَاءَ: وَيَسْئَلُونَكَ بِوَاوِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ مَنْ سَأَلَ اثْنَيْنِ: وَهُمَا عمرو وَمُعَاذٌ، عَلَى مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَنْسِبُ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمَاعَةِ فِي كَلَامِهَا، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ.
وَالسُّؤَالُ هُنَا لَيْسَ عَنِ الذَّاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ حُكْمِ هَذَيْنِ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمَةٍ وَانْتِفَاعٍ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْجَوَابُ مُنَاسِبًا لِذَلِكَ، لَا جَوَابًا عَنْ ذَاتٍ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَمْرِ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: كُلُّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَأَفْسَدَهُ مِمَّا يُشْرَبُ يُسَمَّى خَمْرًا، وَقَالَ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْخَمْرُ اسْمُ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ خَاصَّةً، وَنَقَلَ عَنْهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ: أَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُ هُوَ اسْمُ مَا اتُّخِذَ مِنَ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّخَذَ مِنَ الذُّرَةِ وَالْحِنْطَةِ لَيْسَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْأَغْذِيَةِ الْمُشَوِّشَةِ لِلْعَقْلِ: كَالْبَنْجِ وَالسَّيْكَرَانِ، وَقِيلَ: الصَّحِيحُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْقَطْرَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مِنَ الْخَمْرِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَيْسِرِ وَهُوَ: قِمَارُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَاسْمُ الْمَيْسِرِ يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ ضُرُوبِ الْقِمَارِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ،
قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٤٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٥٤٣. [.....]
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٩٠.
403
وَابْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَقَتَادَةُ، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ قِمَارٌ مِنْ نَرْدٍ وَشِطْرَنْجَ وَغَيْرِهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ، حَتَّى لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْكِعَابِ وَالْجَوْزِ إِلَّا مَا أُبِيحَ مِنَ الرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ، وَالْقُرْعَةِ فِي إِبْرَازِ الْحُقُوقِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَيْسِرُ مَيْسِرَانِ:
مَيْسِرُ اللَّهْوِ فَمِنْهُ: النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ وَالْمَلَاهِي كُلُّهَا، وَمَيْسِرُ الْقِمَارِ: وَهُوَ مَا يَتَخَاطَرُ النَّاسُ عَلَيْهِ،
وَقَالَ عَلَى الشِّطْرَنْجِ: مَيْسِرُ الْعَجَمِ
، وَقَالَ الْقَاسِمُ، كُلُّ شَيْءٍ أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ.
قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ. أُنْزِلَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ آيَاتٍ. وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ «١» بمكة ثُمَّ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى «٢» ثُمَّ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «٣» قَالَ الْقَفَّالُ: وَوَقَعَ التَّحْرِيمُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا أَلِفُوا شُرْبَهَا وَالِانْتِفَاعَ بِهَا كَثِيرًا، فَجَاءَ التَّحْرِيمُ بِهَذَا التَّدْرِيجِ، رِفْقًا مِنْهُ تَعَالَى.
انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَقَالَ الرَّبِيعُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَمْ لَا تَدُلُّ؟ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: قُلْ فِي تَعَاطِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، أَيْ: حُصُولُ إِثْمٍ كَبِيرٍ، فَقَدْ صَارَ تَعَاطِيهِمَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ «٤» فَمَا كَانَ إِثْمًا، أَوِ اشْتَمَلَ عَلَى الْإِثْمِ، فَهُوَ حَرَامٌ، وَالْإِثْمُ هُوَ الذَّنْبُ، وَإِذَا كَانَ الذَّنْبُ كَثِيرًا أَوْ كَبِيرًا فِي ارْتِكَابِ شَيْءٍ لَمْ يَجُزِ ارْتِكَابُهُ، وَكَيْفَ يُقْدَمُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْخُسْرَانِ إِذَا كَانَ الْإِثْمُ أَكْبَرَ مِنَ النَّفْعِ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا فِيهِ الْإِثْمُ مُحَرَّمٌ، وَلَمَّا كَانَ فِي شُرْبِهَا الْإِثْمُ سُمِّيَتْ إِثْمًا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى زَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ
وَمَنْ قَالَ: لَا تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَالْمُحَرَّمُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَلِأَنَّهَا لَوْ دَلَّتْ عَلَى التَّحْرِيمِ لَقَنِعَ الصَّحَابَةُ بِهَا، وَهُمْ لَمْ يَقْنَعُوا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ، وَآيَةُ التَّحْرِيمِ فِي الصَّلَاةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَاجِلَةٌ فِي
(١) سورة النحل: ١٦/ ٦٧.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٤٣.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٩٠.
(٤) سورة الأعراف: ٧/ ٣٣.
404
الدُّنْيَا، وَبِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ سَأَلَ أَنْ يَنْزِلَ التَّحْرِيمُ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ عَلَى أَحَدٍ، فَيَكُونُ آكَدَ فِي التَّحْرِيمِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ فِيهِمَا إِثْمًا كَبِيرًا. وَمَنَافِعَ حَالَةَ الْجَوَابِ وَزَمَانَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعُ: الْإِثْمُ فِيهِمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَالْمَنْفَعَةُ فِيهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِثْمُ فِي وَقْتٍ، وَالْمَنْفَعَةُ فِي وَقْتٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْحَالِ، وَالْإِثْمُ الَّذِي فِيهِمَا هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِثْمُ الَّذِي فِي الْخَمْرِ: ذَهَابُ الْعَقْلِ، وَالسِّبَابُ، وَالِافْتِرَاءُ، وَالتَّعَدِّي الَّذِي يَكُونُ مِنْ شَارِبِهَا، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِي الْخَمْرِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: مَا يَحْصُلُ مِنْهَا مِنَ الْأَرْبَاحِ وَالْأَكْسَابِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: وَقِيلَ مَا ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ فِي مَنَافِعِهَا مِنْ ذَهَابِ الْهَمِّ، وَحُصُولِ الْفَرَحِ، وَهَضْمِ الطَّعَامِ، وَتَقْوِيَةِ الضَّعِيفِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْبَاءَةِ، وَتَسْخِيَةِ الْبَخِيلِ، وَتَصْفِيَةِ اللَّوْنِ، وَتَشْجِيعِ الْجَبَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهَا. وَقَدْ صَنَّفُوا فِي ذَلِكَ مَقَالَاتٍ وَكُتُبًا، وَيُسَمُّونَهَا: الشَّرَابَ الرَّيْحَانِيَّ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَيْضًا لَهَا مَضَارَّ كَثِيرَةً مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ.
وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِي الْمَيْسِرِ إِيسَارُ الْقَامِرِ بِغَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ، وَقِيلَ: التَّوْسِعَةُ عَلَى الْمَحَاوِيجِ، فَإِنَّ مَنْ قَمَرَ مِنْهُمْ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنَ الْجَزُورِ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا حُكْمَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ الْعِنَبِيَّةِ، وَحَدَّ الشَّارِبِ، وَكَيْفِيَّةَ الضَّرْبِ، وَمَا يُتَوَقَّى مِنَ الْمَضْرُوبِ فَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: إِثْمٌ كَثِيرٌ، بِالثَّاءِ، وَوُصِفَ الْإِثْمُ بِالْكَثْرَةِ إِمَّا بِاعْتِبَارِ الْآثِمِينَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ للناس آثام، أي لكل وَاحِدٍ مِنْ مُتَعَاطِيهَا إِثْمٌ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهَا مِنْ تَوَالِي الْعِقَابِ وَتَضْعِيفِهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُنْعَتَ بِالْكَثْرَةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى شُرْبِهَا مِمَّا يَصْدُرُ مِنْ شَارِبِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ، أو باعتبار من زوالها مِنْ لَدُنْ كَانَتْ إِلَى أن بيعت وشريت،
فَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْخَمْرَ، وَلَعَنَ مَعَهَا عَشَرَةً: بَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَالْمَعْصُورَةَ لَهُ وَسَاقِيهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ لَهُ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا.
فَنَاسَبَ وَصْفُ الْإِثْمِ بِالْكَثْرَةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: كَبِيرٌ، بِالْبَاءِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالْقِمَارَ ذَنْبُهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ تَرْجِيحًا لِكُلِّ قِرَاءَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَهَذَا
405
خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا، إِذْ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ: أَكْثَرُ، بِالثَّاءِ كَمَا فِي مُصْحَفِهِ: كَثِيرٌ، بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فِيهِمَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعِقَابُ الْإِثْمِ فِي تَعَاطِيهِمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، وَهُوَ الِالْتِذَاذُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْقِمَارِ، وَالطَّرَبِ فِيهِمَا، وَالتَّوَصُّلِ بِهِمَا إِلَى مُصَادَقَاتِ الْفِتْيَانِ وَمُعَاشَرَاتِهِمْ، وَالنَّيْلِ مِنْ مَطَاعِمِهِمْ وَمَشَارِبِهِمْ وَأُعْطِيَاتِهِمْ، وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ بِالْقِمَارِ، وَالِافْتِخَارِ عَلَى الْأَبْرَامِ وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَإِثْمُهُمَا أَقْرَبُ، وَمَعْنَى الْكَثْرَةِ أَنَّ: أَصْحَابَ الشُّرْبِ وَالْقِمَارِ يَقْتَرِفُونَ فِيهِمَا الْآثَامَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ: إِثْمُهُمَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: أَكْبَرُ، لِأَنَّ عِقَابَهُ بَاقٍ مُسْتَمِرٌّ وَالْمَنَافِعَ زَائِلَةٌ، وَالْبَاقِي أَكْبَرُ مِنَ الفاني.
وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ تَقَدَّمَ هَذَا السُّؤَالُ وَأُجِيبُوا هُنَا بِذِكْرِ الْكَمِّيَّةِ وَالْمِقْدَارِ، وَالسَّائِلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قِيلَ: هُوَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ وَاوِ الْجَمْعِ.
وَالنَّفَقَةُ هُنَا قِيلَ: فِي الْجِهَادِ، وَقِيلَ: فِي الصَّدَقَاتِ، وَالْقَائِلُونَ فِي الصَّدَقَاتِ، قِيلَ:
فِي التَّطَوُّعِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: فِي الْوَاجِبِ، وَالْقَائِلُونَ فِي الْوَاجِبِ، قِيلَ: هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَجَاءَ ذِكْرُهَا هُنَا مُجْمَلًا، وَفَصَّلَتْهَا السُّنَّةُ. وَقِيلَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ أَنْ يُنْفِقُوا مَا فَضَلَ مِنْ مَكَاسِبِهِمْ عَنْ مَا يَكْفِيهِمْ فِي عَامِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الزَّكَاةِ.
وَالْعَفْوُ: مَا فَضَلَ عَنِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوِ الْيَسِيرُ السَّهْلُ الَّذِي لَا يُجْحِفُ بِالْمَالِ قاله طاووس، أَوِ الْوَسَطُ الَّذِي لَا سَرَفَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوِ: الطَّيِّبُ الْأَفْضَلُ، قَالَهُ الرَّبِيعُ، أَوِ: الْكَثِيرُ، مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى عَفَوْا «١» أَيْ: كَثُرُوا، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَكِنَّا يَعَضُّ السَّيْفُ مِنْهَا بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ اللَّحْمِ كوم
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٩٥.
406
أَوِ: الصَّفْوُ، يُقَالُ أَتَاكَ عَفْوًا، أَيْ: صَفْوًا بِلَا كَدَرٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
أَوْ: مَا فَضَلَ عَنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ: قِيمَةِ ذَلِكَ مِنَ الذَّهَبِ، وَكَانَ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ، قَالَهُ، قَتَادَةُ. أَوْ: مَا فَضَلَ عَنِ الثُّلُثِ، أَوْ: عَنْ مَا يَقُوتُهُمْ حَوْلًا لِذَوِي الزِّرَاعَةِ، وَشَهْرًا لِذَوِي الْفِلَاتِ، أَوْ: عَنْ مَا يَقُوتُهُ يَوْمَهُ لِلْعَامِلِ بِهَذِهِ، وَكَانُوا مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَفُرِضَتِ الزَّكَاةُ، أَوِ: الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، و: ما لَا يَسْتَنْفِدُ الْمَالَ وَيُبْقِي صَاحِبَهُ يَسْأَلُ النَّاسَ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَيْضًا.
وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ الَّذِي جَاءَ يَتَصَدَّقُ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، حدف رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ بِهَا
وَقَوْلُهُ: «يَجِيءُ أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَيَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَلَى ظَهْرِ غِنًى».
وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ: «لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَفْوُ نَقِيضُ الْجَهْدِ، وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ مَا لَا يَبْلُغُ إِنْفَاقُهُ مِنْهُ الْجَهْدَ، وَاسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى: أَنْفِقُوا مَا فَضَلَ عن حوائجكم ولم تؤدوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ فَتَكُونُوا عَالَةً وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَفْوُ مُتَنَاوِلٌ لِمَا هُوَ وَاجِبٌ وَلِمَا هُوَ تَبَرُّعٌ، وَهُوَ الْفَضْلُ عَنِ الْغِنَى، وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: الْفَضْلُ عَنِ الْقُوتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْعَفْوَ، بِالنَّصْبِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: قُلْ يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ، وَعَلَى هَذَا الْأَوْلَى فِي قَوْلِهِ: مَاذَا يُنْفِقُونَ؟ أَنْ يَكُونَ مَاذَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ينفقون، ويكون كُلُّهَا اسْتِفْهَامِيَّةً، التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ؟ فَأُجِيبُوا بِالنَّصْبِ ليطابق الْجَوَابُ السُّؤَالَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وذا مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَهِيَ خَبَرُهُ، وَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ مَحْذُوفًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحَذْفِ فِيهِ، تَقْدِيرُهُ: مَا الَّذِي يُنْفِقُونَهُ؟.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: قُلِ الْعَفْوَ، بِالرَّفْعِ، وَالْأَوْلَى إِذْ ذَاكَ أَنْ تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قُلِ الْمُنْفَقُ الْعَفْوُ، وَأَنْ يَكُونَ: مَا، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَ: ذَا، مَوْصُولٌ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ لِيُطَابِقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مَاذَا كُلُّهُ اسْتِفْهَامًا مَنْصُوبًا بِيُنْفِقُونَ، وَتَكُونَ الْمُطَابَقَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَاخْتُلِفَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي الْعَفْوِ، فَرُوِيَ عَنْهُ النَّصْبُ كَالْجُمْهُورِ، والرفع كأبي عَمْرٍو.
407
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْعَفْوِ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا مُتَرَكِّبٌ عَلَى: مَا، فَمَنْ جَعَلَ ما ابتداء، وذا خَبَرَهُ بِمَعْنَى الَّذِي، وَقَدَّرَ الضَّمِيرَ فِي يُنْفِقُونَهُ عَائِدًا قَرَأَ الْعَفْوُ بِالرَّفْعِ لِتَصِحَّ مُنَاسَبَةُ الْحَمْلِ، وَرَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ تَقْدِيرُهُ: الْعَفْوُ إِنْفَاقُكُمْ، أَوِ الَّذِي يُنْفِقُونَ الْعَفْوُ، وَمَنْ جَعَلَ مَاذَا اسْمًا واحدا مفعولا: يُنْفِقُونَ، قَرَأَ الْعَفْوَ بِالنَّصْبِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَصَحَّ لَهُ التَّنَاسُبُ، وَرَفْعُ الْعَفْوِ مَعَ نَصْبِ: مَا، جَائِزٌ ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ نَصْبُهُ مَعَ رَفْعِهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَتَقْدِيرُهُ: الْعَفْوُ إِنْفَاقُكُمْ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَصْدَرِ، وَلَيْسَ السُّؤَالُ عَنِ الْمَصْدَرِ، وَقَوْلُهُ: جَائِزٌ، ضَعِيفٌ، وَكَذَلِكَ نَصْبُهُ مَعَ رَفْعِهَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ بِضَعِيفٍ.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أَيْ:
تَبْيِينًا مِثْلَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ، أَوْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مِنْهَا ذَلِكَ التَّبْيِينَ يُبَيِّنُهُ، أَيْ: يُبَيِّنُ التَّبْيِينَ مُمَاثِلًا لِذَلِكَ التَّبْيِينِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ الْأَقْرَبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْأَقْرَبِ مِنْ تَبَيُّنِهِ حَالَ الْمُنْفِقِ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ وَهُوَ تَبْيِينُ أَنَّ الْعَفْوَ أَصْلَحُ مِنَ الْجَهْدِ فِي النَّفَقَةِ. أَوْ حُكْمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَالْإِنْفَاقَ الْقَرِيبِ أَيْ: مِثْلَ مَا يُبَيِّنُ فِي هَذَا يُبَيِّنُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوَضِّحُ الْآيَاتِ مِثْلَ مَا أَوْضَحَ هَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى بَيَانِ مَا سَأَلُوا عَنْهُ، فَبَيَّنَ لَهُمْ كَتَبْيِينِ مَصْرَفِ مَا يُنْفِقُونَ، وَتَبْيِينِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ الدَّالِّ عَلَيْهِ عِلْمُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وَتَبْيِينِ حُكْمِ الْقِتَالِ، وَتَبْيِينِ حَالِهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ الَّتِي ذُكِرَ في القتال في الشهر الحرام، وَتَبْيِينِ حَالِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَتَبْيِينِ مِقْدَارِ مَا يُنْفِقُونَ.
وَأَبْعَدَ مَنْ خَصَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِبَيَانِ حُكْمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَقَطْ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ جَعَلَهُ إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ مَا سَبَقَ فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَكَافُ الْخِطَابِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِلسَّامِعِ أَوْ لِلْقَبِيلِ، فَلِذَلِكَ أُفْرِدَ أو للجماعة الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى: كَذَلِكُمْ، وَهِيَ لُغَةُ الْعَرَبِ يُخَاطِبُونَ الْجَمْعَ بِخِطَابِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا هُنَا قَوْلُهُ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ فَأَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ للجمع.
لَكُمُ متعلق: بيبين، وَاللَّامُ فِيهَا لِلتَّبْلِيغِ، كَقَوْلِكَ: قُلْتُ لَكَ، وَيَبْعُدُ فِيهَا التَّعْلِيلُ،
408
وَالْآيَاتُ: الْعَلَامَاتُ، وَالدَّلَائِلُ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، تَرْجِئَةٌ لِلتَّفَكُّرِ تَحْصُلُ عِنْدَ تَبْيِينِ الْآيَاتِ.
لِأَنَّهُ مَتَى كَانَتِ الْآيَةُ مُبِيَّنَةً وَوَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا، تَرَتَّبَ عَلَيْهَا التَّفَكُّرُ وَالتَّدَبُّرُ فِيمَا جَاءَتْ لَهُ تِلْكَ الْآيَةُ الْوَاضِحَةُ مِنْ أَمْرِ الدنيا وأمر الآخرة.
وفِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلتَّفَكُّرِ وَمُتَعَلِّقًا بِهِ، وَيَكُونَ تَوْضِيحُ الْآيَاتِ لِرَجَاءِ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُطْلَقًا، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ مَخْصُوصٍ مِنْ أَحْوَالِهَا، بَلْ لِيَحْصُلَ التَّفَكُّرُ فِيمَا يُعْنَ مِنْ أَمْرِهِمَا، وَهَذَا ذَكَرَ مَعْنَاهُ أَوَّلًا الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ:
تَتَفَكَّرُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّارَيْنِ، فَتَأْخُذُونَ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَكُمْ، وَقِيلَ: تَتَفَكَّرُونَ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَتَسْتَدْرِكُونَ طَاعَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ:
تَتَفَكَّرُونَ فِي أَمْرِ النَّفَقَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتُمْسِكُونَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ مَا يُصْلِحُكُمْ فِي مَعَاشِ الدُّنْيَا، وَتُنْفِقُونَ الْبَاقِيَ فِيمَا يَنْفَعُكُمْ فِي الْعُقْبَى، وَقِيلَ: تَتَفَكَّرُونَ فِي زَوَالِ الدُّنْيَا وَبَقَاءِ الْآخِرَةِ، فَتَعْمَلُونَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَقِيلَ: تَتَفَكَّرُونَ فِي مَنَافِعِ الْخَمْرِ فِي الدُّنْيَا، وَمَضَارِّهَا فِي الْآخِرَةِ، فَلَا تَخْتَارُوا النَّفْعَ الْعَاجِلَ عَلَى النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ الْمُسْتَمِرِّ، وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا فَتُمْسِكُونَ، وَفِي الْآخِرَةِ فَتَتَصَدَّقُونَ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ، فِي الدُّنْيَا، مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ لَكُمُ. الآيات، لا: بتتفكرون، وَيَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ: يُبَيِّنُ، أَيْ: يُبَيِّنُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ عَلَى هَذَا إِنْ كَانَ التَّبْيِينُ لِلْآيَاتِ يَقَعُ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِيهِمَا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ الْآيَاتِ، وَهِيَ:
الْعَلَامَاتُ يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ عِنْدَهُ: كَذَلِكَ. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ فِي الدُّنْيَا والآخرة لعلكم تتفكرون. وقال: وَيُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ لِتَعَلُّقِ: فِي الدُّنْيَا والآخرة، بتتفكرون، فَفَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، يَكُونُ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ لَا الدَّلِيلِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لِأَنَّ:
لَعَلَّ، هُنَا جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّعْلِيلِ، فهي كالمتعلقة: بيبين، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ وَالظَّرْفُ مِنْ مَطْلُوبِ: يُبَيِّنُ، وَتَقَدُّمُ أَحَدِ الْمَطْلُوبَيْنِ، وَتَأَخُّرُ الْآخَرِ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
409
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، جُمْلَةً اعْتِرَاضِيَّةً، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ باب التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لِأَنَّ شَرْطَ جُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةً بَيْنَ مُتَقَاضِيَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ آيَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِمَا وَعَلَى مَنْزِلَتِهِمَا، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَقَوْلُهُ: فِي الدُّنْيَا، مُتَعَلِّقٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: بِالْآيَاتِ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَشَرَحَ مَكِّيٌّ الْآيَةَ بِأَنْ جَعَلَ الْآيَاتِ مُنَكَّرَةً، حَتَّى يَجْعَلَ الظَّرْفَيْنِ صِفَةً لِلْآيَاتِ، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: آيَاتٌ كَائِنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ شَرْحُ مَعْنَى لَا شَرْحُ إِعْرَابٍ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِالْآيَاتِ إِنْ عَنَى ظَاهِرَ مَا يُرِيدُهُ النُّحَاةُ بِالتَّعَلُّقِ فَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْآيَاتِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا جَارٌّ وَمَجْرُورٌ، وَلَا تَعْمَلُ فِي شَيْءٍ الْبَتَّةَ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ يَكُونُ الظَّرْفُ مِنْ تَمَامِ الْآيَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِاعْتِقَادِ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَائِنَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ مَكِّيٌّ بِمَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ صِفَةً، إِذْ قَدَّرَ الْآيَاتِ مُنَكَّرَةً، وَالْحَالَ وَالصِّفَةَ سَوَاءً فِي أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِمَا مَحْذُوفٌ إِذَا كَانَا ظَرْفَيْنِ أَوْ مَجْرُورَيْنِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ: فِي الدُّنْيَا، مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ لَا بِالْآيَاتِ، وَعَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، تَكُونُ الْآيَاتُ مَوْصُولًا وُصِلَ بِالظَّرْفِ وَلِتَقْرِيرِ مَذْهَبِهِمْ وَرَدِّهِ موضع غير هذا.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَحَرَّجُونَ مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى فِي مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَيَتَجَنَّبُونَ أَمْوَالَهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ:
لَمَّا نَزَلَتْ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
«١» إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى «٢» تَجَنَّبُوا الْيَتَامَى وَأَمْوَالَهُمْ، وَعَزَلُوهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَنَزَلَتْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّؤَالَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَكَانَ تَرْكُهُمَا مَدْعَاةً إِلَى تَنْمِيَةِ الْمَالِ، وَذَكَرَ السُّؤَالَ عَنِ النَّفَقَةِ، وَأُجِيبُوا بِأَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ، نَاسَبَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي حَالِ الْيَتِيمِ، وَحِفْظُ مَالِهِ، وَتَنْمِيَتُهُ، وَإِصْلَاحُ الْيَتِيمِ بِالنَّظَرِ فِي تَرْبِيَتِهِ، فَالْجَامِعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ فِي تَرْكِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِصْلَاحَ أَحْوَالِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي النَّظَرِ فِي حَالِ الْيَتَامَى إِصْلَاحًا لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَاجِزٌ أَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ، فَيَكُونُ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ النَّفْعِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ جَمَعَ الِاثْنَيْنِ بِوَاوِ الْجَمْعِ وَهِيَ لِلْجَمْعِ بِهِ وقيل به.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٢. والإسراء: ١٧/ ٣٤.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٠.
410
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: السَّائِلُ ثَابِتُ بْنُ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رواحة، وَقِيلَ:
السَّائِلُ مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَشَاءَمُ بِخَلْطِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بِأَمْوَالِهِمْ، فَأَعْلَمَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنَمَا كانت مخالطتهم مشؤومة لِتَصَرُّفِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ تَصَرُّفًا غَيْرَ سَدِيدٍ، كَانُوا يَضَعُونَ الْهَزِيلَةَ مَكَانَ السَّمِينَةِ، وَيُعَوِّضُونَ التَّافِهَ عَنِ النَّفِيسِ، فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ الإصلاح لليتيم يتناول إِصْلَاحِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ، وَإِصْلَاحِ ماله بالتنمية والحفظ.
وإصلاح: مُبْتَدَأٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ، وَمُسَوِّغُ جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ هُنَا هُوَ التَّقْيِيدُ بِالْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ: لَهُمْ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْوَصْفِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمَعْمُولِ لِلْمَصْدَرِ، وَ: خَيْرٌ، خَبَرٌ عَنْ إِصْلَاحٍ، وَإِصْلَاحٌ كَمَا ذَكَرْنَا مَصْدَرٌ حُذِفَ فَاعِلُهُ، فَيَكُونُ: خَيْرٌ، شَامِلًا لِلْإِصْلَاحِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، فَتَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ لِلْجَانِبَيْنِ مَعًا، أَيْ أَنَّ إِصْلَاحَهُمْ لِلْيَتَامَى خَيْرٌ لِلْمُصْلِحِ وَالْمُصْلَحِ، فَيَتَنَاوَلُ حَالَ الْيَتِيمِ، وَالْكَفِيلِ، وَقِيلَ: خَيْرٌ للولي، والمعنى: إصلاحه مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَلَا أُجْرَةٍ خَيْرٌ لَهُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا، وَقِيلَ: خَيْرٌ، عَائِدٌ لِلْيَتِيمِ، أَيْ: إِصْلَاحُ الْوَلِيِّ لِلْيَتِيمِ، وَمُخَالَطَتُهُ لَهُ، خَيْرٌ لِلْيَتِيمِ مِنْ إِعْرَاضِ الْوَلِيِّ عَنْهُ، وَتَفَرُّدِهِ عَنْهُ، وَلَفْظُ: خَيْرٌ، مُطْلَقٌ فَتَخْصِيصُهُ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَحْتَاجُ إِلَى مُرَجِّحٍ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَحْسَنُ.
وقرأ طاووس: قُلْ إِصْلَاحٌ إِلَيْهِمْ، أَيْ: فِي رِعَايَةِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ خَيْرٌ مِنْ تَحَرُّجِكُمْ، أَوْ خَيْرٌ فِي الثَّوَابِ مِنْ إِصْلَاحِ أَمْوَالِكُمْ.
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ هَذَا الْتِفَاتٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ لِأَنَّ قبله و: يسألونك، فَالْوَاوُ ضَمِيرٌ لِلْغَائِبِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الِالْتِفَاتِ مَا فِي الْإِقْبَالِ بِالْخِطَابِ عَلَى الْمُخَاطَبِ لِيَتَهَيَّأَ لِسَمَاعِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ وَقَبُولِهِ وَالتَّحَرُّزِ فِيهِ، فَالْوَاوُ ضَمِيرُ الْكُفَلَاءِ، وَهُمْ ضَمِيرُ الْيَتَامَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْظُرُوا لَهُمْ كَمَا تَنْظُرُونَ لِإِخْوَانِكُمْ مِنَ النَّسَبِ مِنَ الشَّفَقَةِ وَالتَّلَطُّفِ وَالْإِصْلَاحِ لِذَوَاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.
وَالْمُخَالَطَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْخَلْطِ وَهُوَ الِامْتِزَاجُ، وَالْمَعْنَى: فِي الْمَأْكَلِ، فَتُجْعَلُ نَفَقَةُ الْيَتِيمِ مَعَ نَفَقَةِ عِيَالِهِ بِالتَّحَرِّي، إِذْ يَشُقُّ عَلَيْهِ إِفْرَادُهُ وَحْدَهُ بِطَعَامِهِ، فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ خَلْطِهِ بِمَالِهِ لِعِيَالِهِ، فَجَاءَتِ الْآيَةُ بِالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ، قاله أبو عبيد. أو: الْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْمُتَاجَرَةُ لَهُمْ فِيهَا، فَتَتَنَاوَلُونَ مِنَ الرِّبْحِ مَا يَخْتَصُّ بِكُمْ، وَتَتْرُكُونَ لَهُمْ مَا يَخْتَصُّ بِهِمْ. أَوِ:
411
الْمُصَاهَرَةُ فَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ غُلَامًا زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ، أَوْ جَارِيَةً زَوَّجَهَا ابْنَهُ، وَرُجِّحَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ هَذَا خِلْطَةٌ لِلْيَتِيمِ نَفْسِهِ، وَالشَّرِكَةُ خِلْطَةٌ لِمَالِهِ، وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْخَلْطُ مِنْ جِهَةِ النِّكَاحِ، فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْخَلْطِ أَقْرَبُ. وَبِقَوْلِهِ:
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ الْيَتِيمَ إِذَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ وَجَبَ أَنْ يُتَحَرَّى صَلَاحُ مَالِهِ كَمَا يُتَحَرَّى فِي الْمُسْلِمِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِخْوَانُكُمْ، إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْمُخَالَطَةِ، وَبِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمُخَالَطَةَ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهَا فِي الْيَتَامَى الَّذِينَ هُمْ لَكُمْ إِخْوَانٌ بِالْإِسْلَامِ. أَوِ الشُّرْبُ مِنْ لَبَنِهِ وَشُرْبُهُ مَنْ لَبَنِكَ، وَأَكْلُكَ فِي قَصْعَتِهِ وَأَكْلُهُ فِي قَصْعَتِكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ: خَلْطُ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي النَّفَقَةِ وَالْمَطْعَمِ وَالْمَسْكَنِ وَالْخَدَمِ وَالدَّوَابِّ، فَيَتَنَاوَلُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عِوَضًا عَنْ قِيَامِكُمْ بِأُمُورِهِمْ، بِقَدْرِ مَا يَكُونُ أُجْرَةَ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ، سَوَاءً كَانَ الْقَيِّمُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَأْكُلْ مِنْ مَالِهِ. أَوِ: الْمُضَارَبَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا تَنْمِيَةُ أَمْوَالِهِمْ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُخَالَطَةَ لَمْ تُقَيَّدْ بِشَيْءٍ لَمْ يَقُلْ فِي كَذَا فَتُحْمَلُ عَلَى أَيِّ: مُخَالَطَةٍ كَانَتْ مِمَّا فِيهِ إِصْلَاحٌ لِلْيَتِيمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَإِخْوَانُكُمْ، أَيْ: تَنْظُرُونَ لَهُمْ نَظَرَكُمْ إِلَى إِخْوَانِكُمْ مِمَّا فِيهِ إِصْلَاحُهُمْ.
وَقَدِ اكْتَنَفَ هَذِهِ الْمُخَالَطَةَ الْإِصْلَاحُ قَبْلُ وَبَعْدُ، فَقَبْلُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَبَعْدُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِالْمُخَالَطَةِ مَا فِيهِ إِصْلَاحٌ لِلْيَتِيمِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، مِنْ مُخَالَطَةٍ فِي مَطْعَمٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ مُتَاجَرَةٍ أَوْ مُشَارَكَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ: فَإِخْوَانُكُمْ، وَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَقَرَأَ أَبُو مِجْلَزٍ: فَإِخْوَانُكُمْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلِ التَّقْدِيرِ: فَتُخَالِطُونَ إِخْوَانَكُمْ، وَجَاءَ جَوَابُ السُّؤَالِ بِجُمْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: مُنْعَقِدَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَالثَّانِيَةُ: مِنْ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ.
فَالْأُولَى: تَتَضَمَّنُ إِصْلَاحَ الْيَتَامَى وَأَنَّهُ خَيْرٌ، وَأُبْرِزَتْ ثُبُوتِيَّةً مُنَكَّرًا مُبْتَدَأُهَا لِيَدُلَّ عَلَى تَنَاوُلِهِ كُلَّ إِصْلَاحٍ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَوْ أُضِيفَ لَعَمَّ، أَوْ لَكَانَ مَعْهُودًا فِي إِصْلَاحٍ خَاصٍّ، فَالْعُمُومُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، وَالْمَعْهُودُ لَا يُتَنَاوَلُ غَيْرُهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَ التَّنْكِيرُ الدَّالُّ عَلَى عُمُومِ الْبَدَلِ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ: بخير، الدَّالِّ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ، ليبادر الْمُسْلِمِ إِلَى فِعْلِ مَا فِيهِ الْخَيْرُ طَلَبًا لِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
412
وَأُبْرِزَتِ الثَّانِيَةُ: شَرْطِيَّةً لِأَنَّهَا أَتَتْ لِجَوَازِ الْوُقُوعِ لَا لِطَلَبِهِ وَنَدْبَتِهِ.
وَدَلَّ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ عَلَى ضُرُوبٍ مِنَ الْأَحْكَامِ مِمَّا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْيَتِيمِ، لِجَوَازِ تَعْلِيمِهِ أَمْرَ دِينٍ وَأَدَبٍ، وَالِاسْتِيجَارُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَقَبُولِ مَا يُوهَبُ لَهُ، وَتَزْوِيجِهِ وَمُؤَاجَرَتِهِ، وَبَيْعِهِ مَالَهُ لِلْيَتِيمِ، وَتَصَرُّفِهِ فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَفِي عَمَلِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ مُضَارَبَةً، وَدَفْعِهِ إِلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَنُوطَةِ بِالْإِصْلَاحِ.
وَدَلَّ الْجَوَابُ الثَّانِي عَلَى جَوَازِ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى بِمَا فِيهِ إِصْلَاحٌ لَهُمْ، فَيَخْلِطُهُ بِنَفْسِهِ فِي مَنَاكِحِهِ وَمَالِهِ بِمَالِهِ فِي مَؤُونَةٍ وَتِجَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا.
قِيلَ: وَقَدِ انْتَظَمَتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ الْمُخَالَطَةِ، فَدَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الْمُنَاهَدَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُسَافِرُونَ فِي الْأَسْفَارِ، وَهِيَ أَنَّ يُخْرِجَ هَذَا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَهَذَا شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَيُخْلَطُ وَيُنْفَقُ وَيَأْكُلُ النَّاسُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مِقْدَارُ مَا يَأْكُلُونَ، وَإِذَا أُبِيحَ لَكَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَهُوَ فِي مَالِ الْبَالِغِ بِطِيبِ نَفْسِهِ أَجْوَزُ.
وَنَظِيرُ جَوَازِ الْمُنَاهَدَةِ قِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ «١» الْآيَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، فَمِنْ ذَلِكَ: شِرَاءُ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْمُضَارَبَةُ فِيهِ، وَإِنْكَاحُ الْوَصِيِّ بِيَتِيمَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْكَاحُ الْيَتِيمِ لِابْنَتِهِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
قِيلَ: وَجَعَلَهُمْ إِخْوَانًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أُخُوَّةُ الدِّينِ، وَالثَّانِي: لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِمْ، إِمَّا فِي الثواب مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ أُجْرَةِ عَمَلِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَكُلُّ مَنْ نَفَعَكَ فَهُوَ أَخُوكَ.
وَقَالَ الْبَاقِرُ لِشَخْصٍ: رَأَيْتُكَ فِي قَوْمٍ لَمْ أَعْرِفْهُمْ، فَقَالَ: هُمْ إِخْوَانِي، فَقَالَ: أَفِيهِمْ مَنْ إِذَا احْتَجْتَ أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي كُمِّهِ فَأَخَذْتَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إِذَنْ لَسْتُمْ بِإِخْوَانٍ.
قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ: فَإِخْوانُكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ مُؤْمِنُونَ فِي الْأَحْكَامِ لِتَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ إِخْوَانًا لَنَا.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ جُمْلَةٌ مَعْنَاهَا التَّحْذِيرُ، أَخْبَرَ تَعَالَى فِيهَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِالَّذِي
(١) سورة الكهف: ١٨/ ١٩.
413
يُفْسِدُ مِنَ الَّذِي يُصْلِحُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُجَازِي كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَامَ بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُنْسَبُ الْعِلْمُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّحْذِيرِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ بِالشَّيْءِ جَازَى عَلَيْهِ، فَهُوَ تَعْبِيرٌ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبِّبِ، وَ: يَعْلَمُ، هُنَا مُتَّعَدٍ إِلَى وَاحِدٍ، وَجَاءَ الْخَبَرُ هُنَا بِالْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِلتَّجَدُّدِ، وَإِنْ كَانَ عِلْمُ اللَّهِ لَا يَتَجَدَّدُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْعِقَابَ وَالثَّوَابَ لِلْمُفْسِدِ وَالْمُصْلِحِ، وَهُمَا وَصْفَانِ يَتَجَدَّدَانِ مِنَ الْمَوْصُوفِ بِهِمَا، فَتَكَرَّرَ تَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا لِتَكَرُّرِهِمَا، وَتَعَلَّقَ الْعَمَلُ بِالْمُفْسِدِ أَوَّلًا لِيَقَعَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْإِفْسَادِ.
ومن، مُتَعَلِّقَةٌ بِيَعْلَمَ عَلَى تَضْمِينِ مَا يَتَعَدَّى بِمِنْ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: وَاللَّهُ يَمِيزُ بِعِلْمِهِ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.
وَظَاهِرُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ أَنَّهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُفْسِدِ وَالْمُصْلِحِ، وَالْمُصْلِحُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ جُمْلَةِ مَدْلُولَاتِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، أَيِ: الْمُفْسِدَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنَ الْمُصْلِحِ فِيهِ، وَالْمُفْسِدُ بِالْإِهْمَالِ فِي تَرْبِيَتِهِ مِنَ الْمُصْلِحِ لَهُ بِالتَّأْدِيبِ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ لِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُخَالَطَةٌ بِإِفْسَادٍ، وَمُخَالَطَةٌ بِإِصْلَاحٍ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ فُهِمَ مُقَابِلُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِفْسَادَ شَرٌّ، فَجَاءَ هَذَا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الْإِصْلَاحِ. وَمُقَابِلُهُ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أَيْ: لأخرجكم وَشَدَّدَ عَلَيْكُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا، أَوْ: لَأَهْلَكَكُمْ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، أَوْ: لَجَعَلَ مَا أَصَبْتُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى مَوْبِقًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَعْنَى مَا قَبْلَهُ، أَوْ: لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ: لَآثَمَكُمْ بِمُخَالَطَتِهِمْ أَوْ: لَضَيَّقَ عَلَيْكُمُ الْأَمْرَ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، قَالَهُ عَطَاءٌ، أَوْ: لَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ مُخَالَطَتَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ.
وَمَفْعُولُ: شَاءَ، مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ إِعْنَاتَكُمْ، وَاللَّامُ فِي الْفِعْلِ الْمُوجَبِ الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْمَجِيءُ بِهَا فِيهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَأَعْنَتَكُمْ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَبِيعَةَ «بِتَلْيِينِ الهمزة» وقرىء بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مَرْيَمَ: لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ مُجَاهِدٍ هَذَا الْحَرْفَ، وَابْنُ كَثِيرٍ لَمْ يَحْذِفِ الْهَمْزَةَ، وَإِنَّمَا لَيَّنَهَا وَحَقَّقَهَا، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهَا مَحْذُوفَةٌ، فَإِنَّ الْهَمْزَةَ هَمْزَةُ قَطْعٍ فَلَا تَسْقُطُ حَالَةَ الوصل ما تَسْقُطُ هَمَزَاتُ الْوَصْلِ عِنْدَ الْوَصْلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجَعَلَ إِسْقَاطَ الْهَمْزَةِ وَهْمًا، وَقَدْ نَقَلَهَا غَيْرُهُ قِرَاءَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
414
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ إِعْلَامٌ وَتَذْكِيرٌ بِإِحْسَانِ اللَّهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَى أَوْصِيَاءِ الْيَتَامَى، إِذْ أَزَالَ إِعْنَاتَهُمْ وَمَشَقَّتَهُمْ فِي مُخَالَطَتِهِمْ، وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَزِيزٌ غَالِبٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعْنِتَ عِبَادَهُ وَيُحْرِجَهُمْ، لَكِنَّهُ حَكِيمٌ لَا يُكَلِّفُ إِلَّا مَا تَتَّسِعُ فِيهِ طَاقَتُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَزِيزٌ لَا يُرَدُّ أَمْرُهُ، وَحَكِيمٌ أَيْ مُحْكِمُ مَا ينفذه. انتهى.
في وصفه تعالى بالعزة، وهو الْغَلَبَةُ وَالِاسْتِيلَاءُ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ لَا يُشَارَكُ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ لَهُمْ وِلَايَةً عَلَى الْيَتَامَى نَبَّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْهَرُونَهُمْ، وَلَا يُغَالِبُونَهُمْ، وَلَا يَسْتَوْلُونَ عَلَيْهِمُ اسْتِيلَاءَ الْقَاهِرِ، فَإِنَّ هَذَا الْوَصْفَ لا يكون إلّا الله.
وَفِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْحِكْمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى مَا أَذِنَ هُوَ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي أَمْوَالِهِمْ، فَلَيْسَ لَكُمْ نَظَرٌ إِلَّا بِمَا أَذِنَتْ فِيهِ لَكُمُ الشَّرِيعَةُ، وَاقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ. إِذْ هُوَ الْحَكِيمُ الْمُتْقِنُ لِمَا صَنَعَ وَشَرَعَ، فَالْإِصْلَاحُ لَهُمْ لَيْسَ رَاجِعًا إِلَى نَظَرِكُمْ، إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ لِاتِّبَاعِ مَا شُرِعَ فِي حَقِّهِمْ.
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، أَعْتَقَ أَمَةً وَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: نَكَحَ أَمَةً، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ رَغْبَةً فِي أَحْسَابِهِمْ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، وَاسْمُهُ كَنَّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ، وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي هَاشِمٍ اسْتَأْذَنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَنَاقَ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ ذَاتُ حَظٍّ مِنْ جَمَالٍ، مُشْرِكَةٌ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا تُعْجِبُنِي، وَرُوِيَ هَذَا السَّبَبُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَسْنَاءَ وَلِيدَةٍ سَوْدَاءَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ جَمِيعَ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْيَتَامَى فِي الْمُخَالَطَةِ، وَكَانَتْ تَقْتَضِي الْمُنَاكَحَةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يُسَمَّى مُخَالَطَةً، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَهَا بِالْمُصَاهَرَةِ فَقَطْ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ مِنَ الْيَتَامَى مَنْ يَكُونُ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُنَاكَحَةِ الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَأَشَارَ إِلَى الْعِلَّةِ الْمُسَوِّغَةِ لِلنِّكَاحِ، وَهِيَ: الْأُخُوَّةُ
415
الدِّينِيَّةُ، فَنَهَى عَنْ نِكَاحِ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الْأُخُوَّةُ، وَانْدَرَجَ يَتَامَى الْكُفَّارِ فِي عُمُومِ مَنْ أَشْرَكَ.
وَمُنَاسَبَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ حُكْمُ الشُّرْبِ فِي الْخَمْرِ، وَالْأَكْلِ فِي الْمَيْسِرِ، وَذَكَرَ حُكْمَ الْمَنْكَحِ، فَكَمَا حَرَّمَ الْخَمْرَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ، وَمَا يَجُرُّ إِلَيْهِ الْمَيْسِرُ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَا تَنْكِحُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ نَكَحَ، وَهُوَ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ، وَبِمَعْنَى الْوَطْءِ بِمِلْكٍ وَغَيْرِهِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَلَا تُنْكِحُوا بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَنْكَحَ، أَيْ: وَلَا تُنْكِحُوا أَنْفُسَكُمُ الْمُشْرِكَاتِ. وَالْمُشْرِكَاتُ هُنَا: الْكُفَّارُ فَتَدْخُلُ الْكِتَابِيَّاتُ، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَقِيلَ: لَا تَدْخُلُ الْكِتَابِيَّاتُ، وَالصَّحِيحُ دخولهنّ لعبادة اليهود عزيزا، وَالنَّصَارَى عِيسَى، وَلِقَوْلِهِ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «١» وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ قَوْلُ جُلِّ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَدْخُلُ فِيهِنَّ الْكِتَابِيَّاتُ، يَحْتَاجُ إِلَى مُجَوِّزِ نِكَاحِهِنَّ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عُمُومٌ نُسِخَ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ عُمُومٌ خُصَّ مِنْهُ الْكِتَابِيَّاتُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْوَثَنِيَّاتِ وَالْمَجُوسِيَّاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ، وَكُلُّ مَنْ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَنِكَاحُهُنَّ حَرَامٌ.
وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عَلَى هَذَا، نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ. وَآيَةُ الْمَائِدَةِ مُتَقَدِّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي التِّلَاوَةِ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي (الْمُوَطَّأِ) : وَلَا أَعْلَمُ إِشْرَاكًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ رَبَّهَا عِيسَى. وَرُوِيَ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ نَكَحَ يَهُودِيَّةً، وَأَنَّ حُذَيْفَةَ نَكَحَ نَصْرَانِيَّةً، وَأَنَّ عُمَرَ غَضِبَ عَلَيْهِمَا غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى هَمَّ أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِمَا، وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ، وَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً.
وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ، قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَجَابِرٌ، وَطَلْحَةُ، وَحُذَيْفَةُ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وطاووس، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَعَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ، قِيلَ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ
(١) سورة يونس: ١٠/ ١٨. والنحل: ١٦/ ١، والروم: ٣٠/ ٤٠ والزمر: ٣٩/ ٦٧.
416
تَزْوِيجِ الْكِتَابِيَّاتِ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا وَابْنَ حَنْبَلٍ كَرِهَا ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْمُسْلِمَاتِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِهِنَّ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَزْوِيجِ الْمَجُوسِيَّاتِ، وَقَدْ تزويج حُذَيْفَةُ بِمَجُوسِيَّةٍ، وَفِي كَوْنِهِمْ أَهْلَ كِتَابٍ خِلَافٌ،
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ لَهُمْ نَبِيًّا يُسَمَّى زَرَادَشْتَ، وَكِتَابًا قَدِيمًا رُفِعَ، رُوِيَ حَدِيثُ الْكِتَابِ عَنْ عَلِيٍّ
، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَذُكِرَ لِرَفْعِهِ وَتَغْيِيرِ شَرِيعَتِهِمْ سَبَبٌ طَوِيلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَظَاهِرُ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَنْكِحُوا التَّحْرِيمُ، وَقِيلَ: هُوَ نَهْيُ كَرَاهَةٍ، حَتَّى يُؤْمِنَّ، غَايَةٌ لِلْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِهِنَّ، وَمَعْنَى إِيمَانِهِنَّ إِقْرَارُهُنَّ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ وَالْتِزَامِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَمَةِ الرَّقِيقَةَ، وَمَعْنَى: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ، أَيْ: مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ لِدَلَالَةِ مُقَابِلِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَمَةٌ، وَقِيلَ:
الْأَمَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْأَةِ، فَيَشْمَلُ الْحُرَّةَ وَالرَّقِيقَةَ، وَمِنْهُ:
«لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ».
وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ: وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ، كِتَابِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ نِكَاحَ الْأَمَةِ المجوسية، وَفِي الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ خِلَافٌ: مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُوطَأَ بِنِكَاحٍ وَلَا مِلْكٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنِكَاحِهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَتَأَوَّلَا: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ عَلَى الْعَقْدِ لَا عَلَى الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَاحْتَجَّا بِسَبْيِ أَوْطَاسٍ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ نَكَحُوا الْإِمَاءَ مِنْهُمْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْقَادِرِ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِلْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ قوله: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ مَعْنَاهُ مِنْ: حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، وَوَاجِدُ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ وَاجِدٌ لِطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ الطَّوْلَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، فَقَدْرُ الْمَالِ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أُهْبَةِ نِكَاحِهَا سَوَاءٌ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ وَاجِدَ طَوْلَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ لِطَيْفٌ.
وأمة: مبتدأ، ومسوغ جواز الابتداء الْوَصْفُ، وَ: خَيْرٌ، خَبَرٌ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ:
خَيْرٌ، عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ أَوَّلًا عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ، قَالُوا: وَالْخَيْرِيَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ جَائِزَيْنِ، وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ،
417
لِأَنَّ التَّفْضِيلَ قَدْ يَقَعُ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ. لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُودِ، وَمِنْهُ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «١» وَ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ وَقَالَ عُمَرُ، في رسالته لأبي مُوسَى:
الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَيُحْتَمَلُ إِبْقَاءُ الْخَيْرِيَّةِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ الْوُجُودِيِّ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِأَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى مَنَافِعَ دُنْيَوِيَّةٍ، وَنِكَاحَ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى مَنَافِعَ أُخْرَوِيَّةٍ، فَقَدِ اشْتَرَكَ النَّفْعَانِ فِي مُطْلَقِ النَّفْعِ إِلَّا أَنَّ نَفْعَ الْآخِرَةِ لَهُ الْمَزِيَّةُ الْعُظْمَى، فَالْحُكْمُ بِهَذَا النَّفْعِ الدُّنْيَوِيِّ لَا يَقْتَضِي التَّسْوِيغَ، كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ فِيهِمَا مَنَافِعُ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ الْإِبَاحَةَ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ مُحَرَّمٍ إِلَّا يَكَادُ يَكُونُ فِيهِ نَفْعٌ مَا.
وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ فِي أَنَّ لَفْظَةَ:
أَفْعَلَ، الَّتِي لِلتَّفْضِيلِ، لَا تَصِحُّ حَيْثُ لَا اشْتِرَاكَ، كَقَوْلِكَ: الثَّلْجُ أَبْرَدُ مِنَ النَّارِ، والنور أضوء مِنَ الظُّلْمَةِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ: يَصِحُّ حَيْثُ الِاشْتِرَاكُ، وَحَيْثُ لَا يَكُونُ اشْتِرَاكٌ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَفَةَ: لَفْظَةُ التَّفْضِيلِ تَجِيءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِيجَابًا لِلْأَوَّلِ، وَنَفْيًا عَنِ الثَّانِي، فَعَلَى قَوْلٍ هُوَ لَا يَصِحُّ أَنْ لَا يَكُونَ خَيْرٌ فِي الْمُشْرِكَةِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ.
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ لَوْ: هَذِهِ بِمَعْنَى إِنِ الشَّرْطِيَّةِ، نَحْوَ:
«رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفِ شَاةٍ مُحْرَقٍ».
وَالْوَاوُ فِي: وَلَوْ، لِلْعَطْفِ عَلَى حَالٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَوْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ لِاسْتِقْصَاءِ الْأَحْوَالِ، وَأَنَّ مَا بَعْدَ لَوْ هَذِهِ إِنَّمَا يَأْتِي وَهُوَ مُنَافٍ لِمَا قَبْلَهُ بِوَجْهٍ مَا، فَالْإِعْجَابُ مُنَافٍ لَحُكْمِ الْخَيْرِيَّةِ، وَمُقْتَضٍ جَوَازَ النِّكَاحِ لِرَغْبَةِ النَّاكِحِ فِيهَا، وَأُسْنِدَ الْإِعْجَابُ إِلَى ذَاتِ الْمُشْرِكَةِ، ولم يبين ما للعجب مِنْهَا، فَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْإِعْجَابِ، إِمَّا لِجَمَالٍ، أَوْ شَرَفٍ، أَوْ مَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ الْإِعْجَابُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُشْرِكَةَ، وَإِنْ كَانَتْ فَائِقَةً فِي الْجِمَالِ وَالْمَالِ وَالنَّسَبِ، فَالْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ خَيْرٌ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا فَاقَتْ بِهِ الْمُشْرِكَةُ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَالْإِيمَانُ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، فَبِالتَّوَافُقِ فِي الدِّينِ تَكْمُلُ الْمَحَبَّةُ وَمَنَافِعُ الدُّنْيَا مِنَ الصُّحْبَةِ وَالطَّاعَةِ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَبِالتَّبَايُنِ فِي الدِّينِ لَا تَحْصُلُ الْمَحَبَّةُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا.
وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا الْقِرَاءَةُ بِضَمِّ التَّاءِ إِجْمَاعٌ مِنَ الْقُرَّاءِ،
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٤.
418
وَالْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ الْمُؤْمِنَاتِ.
وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا يَطَأُ الْمُؤْمِنَةَ بِوَجْهٍ مَا، وَالنَّهْيُ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ وَأَنَّ ذَلِكَ نَصٌّ فِيهَا.
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَالْكَلَامِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْخِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِالْعَبْدِ: أَهُوَ بِمَعْنَى الرَّقِيقِ أَمْ بِمَعْنَى الرَّجُلِ؟ كَهُوَ فِي الْأَمَةِ هُنَاكَ، وَهَلِ الْمَعْنَى: خَيْرٌ مِنْ حُرٍّ مُشْرِكٍ، حَتَّى يُقَابِلَ الْعَبْدَ؟ أَوْ مِنْ مُشْرِكٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَشْمَلُ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ؟
أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّنْفَيْنِ، الْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَ: يَدْعُونَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الدعاء بالقول، كقول: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا «١» وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَوْلُ، بَلْ بِسَبَبِ الْمَحَبَّةِ وَالْمُخَالَطَةِ تَسْرِقُ إِلَيْهِ مِنْ طِبَاعِ الْكُفَّارِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَتَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَدْعُونَ إِلَى تَرْكِ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، وَفِي تَرْكِهِمَا وُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ النَّارِ، وَتَفَرَّقَ صَاحِبُ هَذَا التَّأْوِيلِ بَيْنَ الذِّمِّيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الذِّمِّيَّةَ لَا يُحْمَلُ زَوْجُهَا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي يَحْدُثُ رُبَّمَا دَعَاهُ الْكَافِرُ إِلَى الْكُفْرِ فَيُوَافِقُ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يُدْعَوْنَ إِلَى النَّارِ قَطْعًا، إِمَّا بِالْقَوْلِ. وَإِمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَيْهِ الْخِلْطَةُ، وَالتَّآلُفُ وَالتَّنَاكُحُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَى النَّارِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ لِئَلَّا يَسْتَمِيلَ بِدُعَائِهِ دَائِمًا مُعَاشِرَهُ فَيُجِيبُهُ إِلَى مَا دَعَاهُ، فَيَهْلَكَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْمُنَاكَحَةِ فِي الْكُفَّارِ، لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِالْتِبَاسِ بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ: الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالِانْغِمَاسِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَتَرْبِيَةِ النَّسْلِ وَسَرِقَةِ الطِّبَاعِ مِنْ طِبَاعِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُعَادَلُ فِيهِ شَهْوَةُ النِّكَاحِ فِي بَعْضِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا نُظِرَ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ فَتَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْمُنَاكَحَةِ مُطْلَقًا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَنُبْدِي هُنَاكَ إِنْ شاء الله كونها
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٥.
419
وَ: إِلَى، مُتَعَلِّقٌ بِيَدْعُونَ كقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ «١» وَيَتَعَدَّى أَيْضًا بِاللَّامِ، كَقَوْلِهِ.
دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا وَمَفْعُولُ يَدْعُونَ مَحْذُوفٌ: إِمَّا اقْتِصَارًا إِذِ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمُ الدُّعَاءَ إِلَى النَّارِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ مَفْعُولٍ خَاصٍّ، وَإِمَّا اخْتِصَارًا، فَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ يَدْعُونَكُمْ إِلَى النار.
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ هَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ مَنْعَ مُنَاكَحَةِ الْكُفَّارِ، إِذْ ذَكَرَ قَسِيمَانِ: أَحَدُهُمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَآخَرُ يجب اجتنابه، فتباين القسيمان، وَلَا يُمْكِنُ إِجَابَةُ دُعَاءِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ إِلَّا بِاجْتِنَابِ دُعَاءِ الْكُفَّارِ وَتَرْكِهِمْ رَأْسًا، وَدُعَاءُ اللَّهِ إِلَى اتِّبَاعِ دِينِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَعَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ لِتَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ تَعَالَى يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
يَعْنِي: وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَمَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِمَا، فَهُمُ الَّذِينَ تَجِبُ مُوَالَاتُهُمْ وَمُصَاهَرَتُهُمْ، وَأَنْ يُؤْثَرُوا عَلَى غَيْرِهِمْ. انْتَهَى. وَحَامِلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ طَلَبُ الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّعَاءِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ مَنْ أَشْرَكَ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى النَّارِ، جَعَلَ مَنْ آمَنَ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ، بَلْ إِجْرَاءُ اللفظ على ظاهره من نِسْبَةِ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ آكَدُ فِي التَّبَاعُدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، حَيْثُ جَعَلَ مُوجِدَ الْعَالَمِ مُنَافِيًا لَهُمْ فِي الدُّعَاءِ، فَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالْمَغْفِرَةِ، بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْجَنَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يَدْعُو إِلَى الْمَغْفِرَةِ، أَيْ: إِلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَهِيَ التَّوْبَةُ وَالْتِزَامُ الطَّاعَاتِ، وَتَقَدَّمَ هُنَا الْجَنَّةُ عَلَى الْمَغْفِرَةِ، وَتَأَخَّرَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ «٢» وَفِي قَوْلِهِ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ «٣» وَالْأَصْلُ فِيهِ تَقَدُّمُ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْجَنَّةِ، لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مُتَسَبِّبٌ عَنْ حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ، فَفِي تِلْكَ الْآيَتَيْنِ جَاءَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَأَمَّا هُنَا، فَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْجَنَّةِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ لِتَحَسُّنِ الْمُقَابَلَةِ، فَإِنَّ قَبْلَهُ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فجاء وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَلِيَبْدَأَ بِمَا تَتَشَوَّفُ إِلَيْهِ النَّفْسُ حِينَ ذَكَرَ دُعَاءَ اللَّهِ، فَأَتَى بِالْأَشْرَفِ لِلْأَشْرَفِ، ثُمَّ أَتْبَعَ بِالْمَغْفِرَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّتِمَّةِ فِي الْإِحْسَانِ، وَتَهْيِئَةِ سَبَبِ دخول الجنة.
(١) سورة يونس: ١٠/ ٢٥.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٣٣. [.....]
(٣) سورة الحديد: ٥٧/ ٢١.
420
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَالْمَغْفِرَةُ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ: قَوْلُهُ: بِإِذْنِهِ أَيْ: وَالْمَغْفِرَةُ حَاصِلَةٌ بِتَيْسِيرِهِ وَتَسْوِيفِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْإِذْنِ، وَعَلَى قِرَاءَاتِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ بِإِذْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: يَدْعُو.
وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَيْ: يُظْهِرُهَا وَيَكْشِفُهَا بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ فِيهَا الْتِبَاسٌ، أَيْ أَنَّ هَذَا التَّبْيِينَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِنَاسٍ دُونَ نَاسٍ، بَلْ يُظْهِرُ آيَاتِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ رَجَاءَ أَنْ يَحْصُلَ بِظُهُورِ الْآيَاتِ تَذَكُّرٌ وَاتِّعَاظٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ مَتَى كَانَتْ جَلِيَّةً وَاضِحَةً، كَانَتْ بِصَدَدِ أَنْ يَحْصُلَ بِهَا التَّذَكُّرُ، فَيَحْصُلَ الِامْتِثَالُ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَاتُ مِنْ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ، وَمُخَالَفَةِ النَّهْيِ. وَ: للناس، متعلق: بيبين، وَ: اللَّامُ، مَعْنَاهَا الْوُصُولُ وَالتَّبْلِيغُ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهَا الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ
فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ إِذَا حَاضَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْبَيْتِ، وَلَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبَيْتِ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَرَبُ عَلَى مَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَسَأَلَ أَبُو الدَّحْدَاحِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِالنِّسَاءِ إِذَا حِضْنَ؟ فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كانوا يأتون الحيض استنوا سُنَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَجَنُّبِ مُؤَاكَلَةِ الْحُيَّضِ وَمُسَاكَنَتِهَا، فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: كَانَتِ النَّصَارَى يُجَامِعُونَ الْحُيَّضَ وَلَا يُبَالُونَ بِالْحَيْضِ، وَالْيَهُودُ يَعْتَزِلُونَهُنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالِاقْتِصَادِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَقِيلَ: سَأَلَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنِ الْمَحِيضِ فَنَزَلَتْ وَقِيلَ كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: مَنْ أَتَى امْرَأَةً مِنْ دُبُرِهَا، جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ، فَامْتَنَعَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ مِنْ ذَلِكَ، وَسُئِلَ عَنْ إِتْيَانِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، وَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ، فَنَزَلَتْ.
وَالضَّمِيرُ فِي: وَيَسْأَلُونَكَ، ضَمِيرُ جَمْعٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّائِلَ عَنْ ذَلِكَ هُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ، لَا اثْنَانِ وَلَا وَاحِدٌ، وَجَاءَ: وَيَسْأَلُونَكَ، هُنَا وقبله في وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى وقبله وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ بالواو العاطفة على يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قِيلَ: لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَجِيءَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ لِذَلِكَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَمَعُوا لَكَ بَيْنَ السؤال عن الخمر والميسر، وَالسُّؤَالِ عَنْ كَذَا وَكَذَا.
421
وَقِيلَ هَذِهِ سُؤَالَاتٌ ثَلَاثَةٌ بغير واو يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ «١» يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ «٢» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ «٣» وَثَلَاثَةٌ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ قِيلَ إِنَّهَا جَاءَتْ بِغَيْرِ وَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ سُؤَالَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْحَوَادِثِ وَقَعَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَلَمْ يُؤْتَ فِيهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا سُؤَالٌ مُبْتَدَأٌ. انْتَهَى.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا نَهَى عَنْ مُنَاكَحَةِ الْكُفَّارِ، وَتَضَمَّنَ مُنَاكَحَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَإِيثَارَ ذَلِكَ، بَيَّنَ حُكْمًا عَظِيمًا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَهُوَ حُكْمُ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ. وَالْمَحِيضُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، هُوَ مَفْعَلٌ، هُوَ مَفْعَلٌ مِنَ الْحَيْضِ يَصْلُحُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْأُدَبَاءِ زَعَمُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَصْدَرُ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَنِ الْحَيْضِ، وَبِهِ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبِهِ بَدَأَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: الْمَحِيضُ مَصْدَرٌ كَالْحَيْضِ، وَمِثْلُهُ الْمَقِيلُ مِنْ قَالَ يَقِيلُ. قَالَ الرَّاعِي:
بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ لَا يَسْتَطِيعُ بِهَا الْقُرَادُ مَقِيلَا
وَقَالَ الطبري: المحيض اسم الحيض، وَمِثْلُهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ فِي العيش:
إليك أشكوا شِدَّةَ الْمَعِيشِ وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِ: الْمَحِيضُ مَصْدَرٌ كَالْحَيْضِ، وَبَيْنَ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ:
الْمَحِيضُ اسْمُ الْحَيْضِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا يُقَالُ فِيهِ مَصْدَرٌ، وَيُقَالُ فِيهِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَحِيضَ مَصْدَرٌ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَوْضِعُ الدَّمِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَكَانُ. وَرَجَّحَ كَوْنَهُ مَكَانَ الدَّمِ بِقَوْلِهِ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ لَكَانَ الظَّاهِرُ مَنْعَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ، لَزِمَ الْقَوْلُ بِتَطَرُّقِ النَّسْخِ، أَوِ التَّخْصِيصِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَوْضِعِ الْحَيْضِ كَانَ الْمَعْنَى: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي مَوْضِعِ الْحَيْضِ. قَالُوا وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَوْضِعِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْمَصْدَرِ انْتَهَى.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ الْمَصْدَرُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ أَذىً. وَمَكَانُ الدَّمِ نَفْسُهُ لَيْسَ بِأَذًى لِأَنَّ الْأَذَى كَيْفِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ وَهُوَ عَرَضٌ، وَالْمَكَانُ جِسْمٌ، وَالْجِسْمُ لَا يَكُونُ عَرَضًا. وَأُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى حَذْفٍ إِذَا أُرِيدَ الْمَكَانُ، أَيْ: ذو أذى.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٩.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢١٥.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢١٧.
422
وَالْخِطَابُ فِي: وَيَسْأَلُونَكَ، وَفِي: قُلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّمِيرُ فِي: هُوَ، عَائِدٌ عَلَى الْمَحِيضِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْصُلُ نَفْرَةٌ لِلْإِنْسَانِ وَاسْتِقْذَارٌ بِسَبَبِهِ.
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْمَحِيضِ أَهُوَ مَوْضِعُ الدَّمِ أَمِ الْحَيْضُ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ الْأَوَّلُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالثَّانِي عَلَى الْمَكَانِ، وَإِنْ حَمَلْنَا الثَّانِيَ عَلَى الْمَصْدَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الِاعْتِزَالِ، فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِزَالُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْإِزَارُ، وَيُعَضِّدُهُ مَا صَحَّ أَنَّهَا: تَشُدُّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا ثُمَّ شَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا.
وَذَهَبَتْ عَائِشَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا اعْتِزَالُ الْفَرْجِ فَقَطْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِزَالُ الرَّجُلِ فِرَاشَ زَوْجَتِهِ إِذَا حَاضَتْ، أَخْذٌ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ.
وَلَمَّا كَانَ الْحَيْضُ مَعْرُوفًا فِي اللُّغَةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَفْسِيرٍ وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِأَقَلِّهِ وَلَا لِأَكْثَرِهِ، بَلْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ اعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ، وَأَقَلُّهُ عِنْدَ مَالِكٍ لَا حَدَّ لَهُ، بَلِ الدَّفْعَةُ مِنَ الدَّمِ عِنْدَهُ حَيْضٌ، وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ حَيْضٌ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
وَأَمَّا أَكْثَرُهُ فَقَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّافِعِيُّ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ عَطَاءٍ، وَخَرَجَ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا وَقْتَ لِقَلِيلِ الْحَيْضِ وَلَا كَثِيرِهِ إِلَّا مَا يُوجَدُ فِي النِّسَاءِ عَادَةً. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ إِلَى عُرْفِ النِّسَاءِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْحَيْضُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَإِذَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.
وَجَمِيعُ دَلَائِلِ هَذَا، وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي الْحَيْضِ، وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ،
423
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشافعي ببغداد.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: إِنْ وَطِئَ فِي الدَّمِ فَدِينَارٌ، أَوْ فِي انْقِطَاعِهِ فَنِصْفُهُ، وَنَقَلَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ إِنْ وَطِئَ وَهِيَ حَائِضٌ يَتَصَدَّقُ بِخَمْسِينَ دِينَارًا.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ».
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْمُفَضَّلِ عَنْهُ: يَطَّهَّرْنَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ وَالْفَتْحِ، وَأَصْلُهُ: يَتَطَهَّرْنَ، وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ: يَطْهُرْنَ، مُضَارِعُ: طَهُرَ.
وَفِي مُصْحَفِ أَنَسٍ: وَلَا تَقْرَبُوا النِّسَاءَ فِي مَحِيضِهِنَّ وَاعْتَزِلُوهُنَّ حَتَّى يَتَطَهَّرْنَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى التَّفْسِيرِ لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِكَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِ السَّوَادَ، وَرَجَّحَ الْفَارِسِيُّ:
يَطْهُرْنَ، بِالتَّخْفِيفِ إِذْ هُوَ ثُلَاثِيٌّ مُضَادٌّ لِطَمِثَتْ، وَهُوَ ثُلَاثِيٌّ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ التَّشْدِيدَ، وَقَالَ: هِيَ بِمَعْنَى تَغْتَسِلْنَ لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ حَتَّى تَطْهُرَ، قَالَ: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الطُّهْرِ مَا هُوَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
قِيلَ: وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ مَعْنَاهَا حَتَّى يَغْتَسِلْنَ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ مَعْنَاهَا يَنْقَطِعُ دَمُهُنَّ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهَا انْقِطَاعُ الدَّمِ وَزَوَالُ أَذَاهُ، قَالَ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ تَشْدِيدِ الطَّاءِ مُضَمَّنُهَا الِاغْتِسَالُ، وَقِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ مُضَمَّنُهَا انْقِطَاعُ الدَّمِ أَمْرٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَكَذَلِكَ ادِّعَاؤُهُ الْإِجْمَاعَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي كَرَاهَةِ الْوَطْءِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ. انْتَهَى مَا فِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، وَمُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ.
وَظَاهِرُ الِاعْتِزَالِ وَالْقُرْبَانِ أَنَّهُمَا لَا يَتَمَاسَّانِ، وَلَكِنْ بَيَّنَتِ السنة أن اعْتِزَالٌ وَقُرْبَانٌ خَاصٌّ، وَمِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ يُعْرَفُ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ وَأَكْثَرِهِ.
فَإِذا تَطَهَّرْنَ أَيِ: اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْخِلَافُ فِي مَعْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ
424
مِنَ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ أَوِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ هُنَا: إِنَّهُ أُرِيدَ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ، وَلَا بُدَّ لِقَرِينَةِ الْأَمْرِ بِالْإِتْيَانِ، وَإِنْ كَانَ قُرْبُهُنَّ قَبْلَ الْغُسْلِ مُبَاحًا، لَكِنْ لَا تَقَعُ صِيغَةُ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَإِذَا كَانَ التَّطَهُّرُ الْغُسْلَ بِالْمَاءِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، أَنَّهُ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ وَقَالَ طاووس، وَمُجَاهِدٌ: الْوُضُوءُ كَافٍ فِي إِبَاحَةِ الْوَطْءِ، وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُبِيحَ لِلْوَطْءِ: هُوَ غَسْلُ مَحَلِّ الْوَطْءِ بِالْمَاءِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنْ يُحْمَلَ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ عَلَى التَّطَهُّرِ الشَّرْعِيِّ أَوِ اللُّغَوِيِّ، فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى اللُّغَوِيِّ قَالَ: تَغْسِلُ مَكَانَ الْأَذَى بِالْمَاءِ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الشَّرْعِيِّ حَمَلَهُ عَلَى أَخَفِّ النَّوْعَيْنِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، لِمُرَاعَاةِ الْخِفَّةِ، أَوْ عَلَى أَكْمَلِ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ أَنْ تَغْتَسِلَ كَمَا تَغْتَسِلَ لِلْجَنَابَةِ إِذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعُهْدَةِ. وَالِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، لِأَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إِلَّا بَعْدَهُ.
وَإِذَا قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنَ الْغُسْلِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَاخْتُلِفَ فِي الذِّمِّيَّةِ: هَلْ تُجْبَرُ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّ الغسل عادة قَالَ لَا يَلْزَمُهَا لِأَنَّ نِيَّةَ الْعِبَادَةِ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ عِبَادَةً، بَلِ الِاغْتِسَالُ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ لِإِحْلَالِهَا لِلْوَطْءِ، قَالَ: تُجْبَرُ، عَلَى الْغُسْلِ.
وَمَنْ أَوْجَبَ الْغُسْلَ فَصِفَتُهُ مَا
رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْلِ الْحَيْضَةِ فَقَالَ: «تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَهَا، وَتَتَطَهَّرَ فَتُحْسِنُ الطَّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهَا وَتَضْغَطُهُ حَتَّى يَبْلُغَ أُصُولَ شَعْرِهَا، ثُمَّ تَفِيضُ الْمَاءَ عَلَى سَائِرِ بَدَنِهَا».
فَأْتُوهُنَّ هَذَا أَمْرٌ يُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ، كَقَوْلِهِ: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «١» فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا «٢» وَكَثِيرًا مَا يَعْقُبُ أَمْرُ الْإِبَاحَةِ التَّحْرِيمَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ.
مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ حَيْثُ: ظَرْفُ مَكَانٍ، فَالْمَعْنَى مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْقُبُلُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ مِنْ قِبَلِ طُهْرِهِنَّ لَا مِنْ قِبَلِ حَيْضِهِنَّ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وأبو رزين والسدّي.
(١) سورة المائدة: ٥/ ٢.
(٢) سورة الجمعة: ٦٢/ ١٠.
425
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيَصِيرُ الْمَعْنَى فَأْتُوهُنَّ فِي الطُّهْرِ لَا فِي الْحَيْضِ أَوْ مِنْ قِبَلِ النِّكَاحِ لَا مِنْ قِبَلِ الْفُجُورِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ: مِنْ حَيْثُ أَحَلَّ لَكُمْ غِشْيَانَهُنَّ بِأَنْ لَا يَكُنَّ صَائِمَاتٍ وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ وَلَا مُحْرِمَاتٍ، قَالَهُ الْأَصَمُّ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ حَمْلَ: حَيْثُ، عَلَى الْمَكَانِ وَالْمَوْضِعِ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَمَا سِوَاهُ مَجَازٌ.
وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْأَظْهَرِ كَانَ فِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَبَاحَ إتيان النساء في أدبارهن. قِيلَ: وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ مِنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ مُخْتَلِفٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْمَعْنَى، فِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِاعْتِزَالِهِنَّ وَهُوَ الْفَرْجُ، أَوْ مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ أَيِ: الرَّاجِعِينَ إِلَى الْخَيْرِ. وَجَاءَ عَقِبَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إيذانا بقبول توبة يَقَعُ مِنْهُ خِلَافُ مَا شُرِعَ لَهُ، وَهُوَ عَامٌّ فِي التَّوَّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ.
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أَيِ: الْمُبَرَّئِينَ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ التَّائِبُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمُتَطَهِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ أَوْ بِالْعَكْسِ، قَالَهُ عَطَاءٌ، وَمُقَاتِلٌ وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِالتَّائِبِ مِنَ الْمُجَامَعَةِ فِي الْحَيْضِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: التَّوَّابِينَ مِنَ الْكُفْرِ الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ الْقَتَّادُ: التَّوَّابِينَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَقِيلَ: التَّوَّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الْعُيُوبِ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ، وَقِيلَ: مِنْ أَدْبَارِ النِّسَاءِ فَلَا يَتَلَوَّثُونَ بِالذَّنْبِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، كَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى، حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ «١».
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي صَدْرِ الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ وَدَلَّ السَّبَبُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانَتْ لَهُمْ حَالَةٌ يَرْتَكِبُونَهَا حَالَةَ الْحَيْضِ، مِنْ مُجَامَعَتِهِنَّ فِي الْحَيْضِ فِي الْفَرْجِ، أَوْ فِي الدُّبُرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فِي الْفَرْجِ أَوْ فِي الدُّبُرِ، ثُمَّ أَبَاحَ الْإِتْيَانَ فِي الْفَرْجِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَالتَّطَهُّرِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمَرْأَةِ لِأَجْلِ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فِي لَفْظِ الْآيَةِ، فَأَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنِ امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجَعَ عَنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَا شَرَعَهُ تَعَالَى، وَأَثْنَى عَلَى مَنِ امْتَثَلَتْ أَمْرَهُ تَعَالَى فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ، وَأَبْرَزَ ذَلِكَ فِي صُورَتَيْنِ عَامَّتَيْنِ، اسْتَدْرَجَ الْأَزْوَاجَ وَالزَّوْجَاتِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٨٢.
426
أَيِ: الرَّاجِعِينَ إِلَى مَا شَرَعَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ ذَلِكَ فَكَانَ خَتْمُ الْآيَةِ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ مَنِ انْدَرَجَ فِيهِ الْأَزْوَاجُ وَالزَّوْجَاتُ. وَذَكَرَ الْفِعْلَ لِيَدُلَّ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّطَهُّرِ، وَأَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ مَحَبَّةً مِنَ اللَّهِ يَخُصُّ ذَلِكَ الْوَصْفَ، أَوْ كَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ.
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ بِقَوْلِهِ: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «١»
وَسَأَلَهُمْ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: كُنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الِاسْتِجْمَارِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ،
أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: الْمُطَّهِّرِينَ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ، إِذْ أَصْلُهُ الْمُتَطَهِّرِينَ.
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: سَبَبُ النُّزُولِ كَرَاهَةُ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ ذَلِكَ لَمَّا تَزَوَّجَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بمكة، يَتَلَذَّذُونَ بِالنِّسَاءِ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ، رَوَى مَعْنَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ،
وَقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلَكْتُ! فَقَالَ: «وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِيَ اللَّيْلَةَ، فَنَزَلَتْ.
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَكَانَ الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي تَسْوِيغَ إِتْيَانِهِنَّ عَلَى سَائِرِ أَحْوَالِ الْإِتْيَانِ، أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ نَصَّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى سَائِرِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَبَيَّنَ أَيْضًا الْمَحَلَّ بِجَعْلِهِ حَرْثًا وَهُوَ: الْقُبُلُ، وَالْحَرْثُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ: شَقُّ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ، ثُمَّ سُمِّيَ الزرع حرثاصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
«٢» وَسُمِّيَ الْكَسْبُ حَرْثًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا أَكَلَ الْجَرَادُ حُرُوثَ قَوْمٍ فَحَرْثِي هَمُّهُ أَكْلُ الْجَرَادِ
قَالُوا: يُرِيدُ فَامْرَأَتِي، وَأَنْشَدَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى:
إِنَّمَا الْأَرْحَامُ أَرَضُو نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ
فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا وَعَلَى اللَّهِ النَّبَاتُ
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتْ بَيَانًا وَتَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَمْنُوعُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ وَقْتَ الْحَيْضِ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَصِيلَ هُوَ طلب النسل:
(١) سورة التوبة: ٩/ ١٠٨.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١١٧.
427
«تَنَاكَحُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
، لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فَقَطْ، فَأْتُوا النِّسَاءَ مِنَ الْمَسْلَكِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وهو القبل.
ونساؤكم: مبتدأ، وحرث لَكُمْ: خَبَرٌ، إِمَّا عَلَى حَذْفِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ: كَحَرْثٍ لَكُمْ وَيَكُونُ نِسَاؤُكُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَطْءُ نِسَائِكُمْ كَالْحَرْثِ لَكُمْ، شَبَّهَ الْجِمَاعَ بِالْحَرْثِ، إِذِ النُّطْفَةُ كَالْبَذْرِ، وَالرَّحِمُ كَالْأَرْضِ، وَالْوَلَدُ كَالنَّبَاتِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مضاف أي:
مَوْضِعُ حَرْثٍ لَكُمْ، وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ فِي النِّكَاحِ مِنْ بَدِيعِ كِنَايَاتِ الْقُرْآنِ، قَالُوا: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَأْكُلُ الطَّعامَ «١» وَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها «٢» عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهُ بِالنِّسَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: حَرْثٌ لَكُمْ، بِمَعْنَى: مَحْرُوثَةٌ لَكُمْ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ، وَيُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ. وَفِي لَفْظَةِ: حَرْثٌ لَكُمْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْقُبُلُ لَا الدُّبُرُ؟ قَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَيْ مُزْدَرَعٌ لَكُمْ، وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى النهي عن امتناع وطئ النِّسَاءِ، لِأَنَّ الْمُزْدَرَعَ إِذَا تُرِكَ ضَاعَ.
وَدَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْوَطْءِ لِطَلَبِ النَّسْلِ وَالْوَلَدِ، لَا لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَفَرَّقَ الرَّاغِبُ بَيْنَ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ، فَقَالَ: الْحَرْثُ إِلْقَاءُ الْبَذْرِ وَتَهْيِئَةُ الْأَرْضِ، وَالزَّرْعُ مُرَاعَاتُهُ وَإِنْبَاتُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ «٣» أَثْبَتَ لَهُمُ الْحَرْثَ وَنَفَى عَنْهُمُ الزَّرْعَ.
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ الْإِتْيَانُ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ، وَجَاءَ: حَرْثٌ لَكُمْ، نَكِرَةً لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ الْمَجْهُولُ، فَأَفَادَتْ نِسْبَتُهُ إِلَى الْمُبْتَدَإِ جَوَازَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ شَرْعًا، وَجَاءَ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ، مَعْرِفَةً لِأَنَّ فِي الْإِضَافَةِ حَوَالَةً عَلَى شَيْءٍ سَبَقَ، وَاخْتِصَاصًا بِمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ مَمْلُوكٌ لَكَ فَأَحْسِنْ إِلَى مَمْلُوكِكَ.
وَإِذَا تَقَدَّمَتْ نَكِرَةٌ، وَأَعَدْتَ اللَّفْظَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً: إِمَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، كَقَوْلِهِ: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ «٤» وَإِمَّا بِالْإِضَافَةِ كَهَذَا.
وَأَنَّى: بِمَعْنَى: كَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَزْلِ، وَتَرْكِ الْعَزْلِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، فَتَكُونُ الْكَيْفِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ، أَوْ بِمَعْنَى كَيْفَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي أَحْوَالِ الْمَرْأَةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ، فَتَكُونُ دَلَّتْ عَلَى جَوَازِ الْوَطْءِ لِلْمَرْأَةِ. فِي أَيِّ حَالٍ شَاءَهَا الْوَاطِئُ مقبلة ومدبرة،
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٧.
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٢٧.
(٣) سورة الواقعة: ٥٦/ ٦٣ و ٦٤.
(٤) سورة المزمل: ٧٣/ ١٦.
428
عَلَى أَيِّ شِقٍّ، وَقَائِمَةً وَمُضْطَجِعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ فِي مَكَانِ الْحَرْثِ، أَوْ: بِمَعْنَى مَتَى؟ قَالَهُ الضَّحَّاكُ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ ظَرْفُ زَمَانٍ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ فِي أَيِّ زَمَانٍ أَرَدْتُمْ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّى، بِمَعْنَى أَيْ، وَالْمَعْنَى عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شِئْتُمْ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا تَخْيِيرًا فِي الْخِلَالِ وَالْهَيْئَةِ، أَيْ: أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ذَلِكَ لَا يُبَالَى بِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ».
وَالصِّمَامُ رَأَسُ الْقَارُورَةِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَنَّى، بِمَعْنَى: أَيْنَ؟ فَجَعَلَهَا مَكَانًا، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ إِبَاحَةُ ذَلِكَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَالِكٌ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي الْعُتَبِيَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ تَكْفِيرُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْكَارُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إِنْكَارُ ذَلِكَ، وَسُئِلَ فَقِيلَ: يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُبِيحُ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وَأَنَّى يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْبَذْرِ؟ وَنُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ،
وَنُقِلَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ: نَافِعٍ، وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ
، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُرْتَضَى مِنْ أَئِمَّةِ الشِّيعَةِ، وَذُكِرَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) مَا اسْتُدِلَّ بِهِ لهذا المذهب وما ورد بِهِ، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ، إِذْ كِتَابُنَا هَذَا لَيْسَ مَوْضُوعًا لِذِكْرِ دَلَائِلِ الْفِقْهِ إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ.
وَقَدْ رَوَى تَحْرِيمَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَا عَشَرَ صَحَابِيًّا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، ذَكَرَهَا أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِطُرُقِهَا فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ (تَحْرِيمُ الْمَحَلِّ الْمَكْرُوهِ).
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُعَرِّجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ عَلَى زَلَّةِ عَالِمٍ، وَقَالَ أَيْضًا: أَنَّى شِئْتُمْ، مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ: صَحَابَةٍ، وَتَابِعِينَ، وَأَئِمَّةٍ: مِنْ أَيِّ وَجْهٍ شِئْتُمْ، مَعْنَاهُ: مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً عَلَى جنب، وأنّى: إِنَّمَا يَجِيءُ سُؤَالًا وَإِخْبَارًا عَلَى أَمْرٍ لَهُ جِهَاتٌ، فَهِيَ أَعَمُّ فِي اللُّغَةِ مِنْ: كَيْفَ، وَمِنْ: أَيْنَ، وَمِنْ: مَتَى. هَذَا هُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِيُّ.
وَقَدْ فَسَّرَ النَّاسُ أَنَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَفَسَّرَهَا سِيبَوَيْهِ بِكَيْفَ، وَمِنْ أَيْنَ بِاجْتِمَاعِهِمَا؟ وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: أَنَّى، لِتَعْمِيمِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ تَأْتِي: أَنَّى، بِمَعْنَى: مَتَى، وَبِمَعْنَى:
أَيْنَ، وَتَكُونُ اسْتِفْهَامًا وَشَرْطًا، وَجَعَلُوهَا فِي الشَّرْطِيَّةِ ظَرْفَ مَكَانٍ فَقَطْ.
429
وَإِذَا كَانَ غَالِبُ مَدْلُولِهَا فِي اللُّغَةِ أَنَّهَا لِلْأَحْوَالِ، فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ تَعَلَّقَ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَعْمِيمِ مَوَاضِعِ الْإِتْيَانِ، فَتَكُونُ بِمَعْنَى: أَيْنَ وَقَالَ. الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَوْلُهُ: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ تَمْثِيلٌ، أَيْ فَأْتُوهُنَّ كَمَا تَأْتُونَ أَرَاضِيكُمُ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تَحْرُثُوهَا، مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْتُمْ، لَا تُحْظَرُ عَلَيْكُمْ جِهَةٌ دُونِ جِهَةِ، وَالْمَعْنَى: جَامِعُوهُنَّ مِنْ أَيِّ شِقٍّ أَرَدْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْتَى وَاحِدًا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَرْثِ.
وَقَوْلُهُ: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مِنَ الْكِنَايَاتِ اللَّطِيفَةِ، وَالتَّعَرُّضَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، فَهَذِهِ وَأَشْبَاهُهَا فِي كَلَامِ لله تَعَالَى آدَابٌ حَسَنَةٌ، عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَتَأَدَّبُوا بِهَا، وَيَتَكَلَّفُوا مِثْلَهَا فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ وَمُكَاتَبَاتِهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ.
قَالُوا وَالْعَامِلُ فِي: أَنَّى فَأْتُوا، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَكُونُ اسْتِفْهَامًا أَوْ شَرْطًا، لَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ هُنَا شَرْطًا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ تَكُونُ ظَرْفَ مَكَانٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبِيحًا لِإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ، وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِيَّةِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الظَّرْفِ الشَّرْطِيِّ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ مَعْمُولٌ لَهُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتِ اسْتِفْهَامًا اكْتَفَتْ بِمَا بَعْدَهَا مِنْ فِعْلٍ كَقَوْلِهِ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ «١» ومن اسْمٍ كَقَوْلِهِ: أَنَّى لَكِ هَذَا «٢» وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُنَا يَظْهَرُ افْتِقَارُهَا وَتَعَلُّقُهَا بِمَا قَبْلَهَا.
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا، وَأَنَّهَا تَكُونُ مَعْمُولَةً لِلْفِعْلِ بَعْدَهَا، فَتَبَيَّنَ عَلَى وَجْهَيْ: أَنَّى، أَنَّهَا لَا تَكُونُ مَعْمُولَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَنَظَرٍ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهَا تَكُونُ شَرْطًا لِافْتِقَارِهَا إِلَى جُمْلَةٍ غَيْرِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَتَكُونُ قَدْ جُعِلَتْ فِيهَا الْأَحْوَالُ. كَجَعْلِ الظُّرُوفِ الْمَكَانِيَّةِ، وَأُجْرِيَتْ مَجْرَاهَا تَشْبِيهًا لِلْحَالِ بِالظَّرْفِ الْمَكَانِيِّ، وَقَدْ جَاءَ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي لَفْظِ: كَيْفَ، خَرَجَ بِهِ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى مَعْنَى الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِمْ: كَيْفَ تَكُونُ أكون، وقال تعالى:
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٤٧. [.....]
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٣٧.
430
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ «١» فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هُنَا اسْتِفْهَامًا، وَإِنَّمَا لُحِظَ فِيهَا مَعْنَى بالشرط وَارْتِبَاطِ الْجُمْلَةِ بِالْأُخْرَى وَجَوَابُ الْجُمْلَةِ مَحْذُوفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، تَقْدِيرُهُ: أَنَّى شِئْتُمْ فَأْتُوهُ، وَكَيْفَ يَشَاءُ يُنْفِقُ، كَمَا حُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِكَ: اضْرِبْ زيدا أنى لقتيه، التقدير أنى لقتيه فَاضْرِبْهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ أَخْرَجْتَ: أَنَّى، عَنِ الظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَأَبْقَيْتَهَا لِتَعْمِيمِ الْأَحْوَالِ مِثْلَ:
كَيْفَ، وَجَعَلْتَهَا مُقْتَضِيَةً لِجُمْلَةٍ أُخْرَى كَجُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَهَلِ الْفِعْلُ الْمَاضِي الَّذِي هُوَ:
شِئْتُمْ، فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ كَحَالِهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا؟ أَمْ هُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ كَهُوَ بَعْدَ: كَيْفَ، فِي قَوْلِهِمْ: كَيْفَ تَصْنَعُ أَصْنَعُ؟.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنْ يُرَجَّحُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ الْجَزْمُ بِهَا إِذَا كَانَتْ ظَرْفًا صَرِيحًا، غَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ تَشْبِيهُ الْأَحْوَالِ بِالظُّرُوفِ، وَبَيْنَهُمَا عِلَاقَةٌ وَاضِحَةٌ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَعْنَى: فِي، بِخِلَافِ: كَيْفَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهَا الْجَزْمُ وَمَنْ أَجَازَ الْجَزْمَ بِهَا، فَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ الْعَرَبِ الرَّفْعُ فِي الْفِعْلِ بَعْدَهَا، حَيْثُ يَقْتَضِي جُمْلَةً أُخْرَى.
وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مَفْعُولُ قَدِّمُوا مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: التَّقْدِيرُ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ الْقُرْبَانِ، أَوْ: طَلَبِ الْوَلَدِ وَالْإِفْرَاطِ شُفَعَاءَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ: الْخَيْرَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: قَدَمَ صِدْقٍ، قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانَ، أَوِ: الْأَجْرَ فِي تَجَنُّبِ مَا نُهِيتُمْ وَامْتِثَالِ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ: ذِكْرَ اللَّهِ عَلَى الْجِمَاعِ، كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى امْرَأَتَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ».
أو التسمية على الوطئ، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوْ: مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ: مَنْ قَبْلَهُ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ طَاعَةَ اللَّهِ، وَامْتِثَالَهُ مَا أَمَرَ، وَاجْتِنَابَ مَا نَهَى عَنْهُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ «٢» وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيِ: اتَّقَوُا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَهُوَ تَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَلِأَنَّ الْعَظِيمَ الَّذِي تَقَدَّمَ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُقَدَّمَ مَعَكَ مَا تَقْدَمُ بِهِ عَلَيْهِ مِمَّا لَا تُفْتَضَحُ بِهِ عِنْدَهُ، وهو العمل الصالح.
(١) سورة المائدة: ٥/ ٦٤.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١١٠.
431
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ فِي: مُلَاقُوهُ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مُلَاقُو جَزَائِهِ عَلَى أَفْعَالِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي لِقَوْلِهِ: وَقَدِّمُوا، أَيْ: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُو مَا قَدَّمْتُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْضًا، أَيْ: مُلَاقُو جَزَائِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْجَزَاءِ الدَّالِّ عَلَيْهِ مَعْمُولُ قَدَّمُوا الْمَحْذُوفُ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْمَعَادَ، سَوَاءً عَادَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى مَعْمُولِ قَدِّمُوا، أَوْ عَلَى الْجَزَاءِ.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وَصْفِ الَّذِي بِهِ يُتَّقَى اللَّهُ وَيُقَدِّمُ الْخَيْرَ، وَيَسْتَحِقُّ التَّبْشِيرَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ. وَفِي أَمْرِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بِالتَّبْشِيرِ تَأْنِيسٌ عَظِيمٌ وَوَعْدٌ كَرِيمٌ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَلَمْ يَأْتِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، بَلْ أَتَى بِالظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى الْوَصْفِ، وَلِكَوْنِهِ مَعَ ذَلِكَ فَصْلَ آيَةٍ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ إِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، فَوَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُخْبِرَ مَنْ سَأَلَهُ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا قَدِ اشْتَمَلَا عَلَى إِثْمٍ كَبِيرٍ، فَكَانَ هَذَا الْإِخْبَارُ مَدْعَاةً لِتَرْكِهِمَا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَاللَّعِبِ بِالْمَيْسِرِ إِثْمٌ، وَمَا اكْتَفَى بِمُطْلَقِ الْإِثْمِ حَتَّى وَصَفَهُ بِالْكِبَرِ فِي قِرَاءَةٍ، وَبِالْكَثْرَةِ فِي قِرَاءَةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمَاتِ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ «١» إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً «٢» فَحَيْثُ وَصَفَ الْإِثْمَ بِالْكَبِيرِ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْآثَامِ وَأَوْغَلِهَا فِي التَّحْرِيمِ، وَأَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّ فِيهِمَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، مِنْ: أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ، وَبِالْقَمْرِ فِي الْمَيْسِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءِ حُرِّمَ إِلَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِوَجْهٍ مَا، خُصُوصًا مَا كَانَ الطَّبْعُ مَائِلًا إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ الشَّخْصُ نَاشِئًا عَلَيْهِ بِالطَّبْعِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ضَرَرَ الْإِثْمِ الَّذِي هُوَ جَالِبٌ إِلَى النَّارِ، أَعْظَمُ مِنَ النَّفْعِ الْمُنْقَضِي بِانْقِضَاءِ وَقْتِهِ، لِيُرْشِدَ الْعَاقِلَ إِلَى تَجَنُّبِ مَا عَذَابُهُ دَائِمٌ وَنَفْعُهُ زَائِلٌ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ؟ فَأُجِيبُوا بِأَنْ يُنْفِقُوا مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ إنفاقه، ويشير مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «٣» ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْآيَاتِ بَيَانًا مِثْلَ مَا بَيَّنَ فِي أَمْرِ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، وَمَا يُنْفِقُونَ. ثُمَّ ذكر أنه بهذا
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٣٧ والنجم: ٥٣/ ٣٢.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٣١.
(٣) سورة الحج: ٢٢/ ٧٨.
432
الْبَيَانِ يَحْصُلُ الرَّجَاءُ فِي تَفَكُّرِ حَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِذَا فَكَّرَ فِيهِمَا يُرَجِّحُ بِالْفِكْرِ إِيثَارَ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا.
ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مِنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ أَمْرِ الْيَتَامَى، وَمَا كُلِّفُوا فِي شَأْنِهِمْ، إِذْ كَانَ الْيَتَامَى لَا يَنْهَضُونَ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِصِغَرِهِمْ وَنَقْصِ عُقُولِهِمْ، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ إِصْلَاحَهُمْ خَيْرٌ مِنْ إِهْمَالِهِمْ لِلْمُصْلِحِ بِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ وَلِلْمُصْلِحِ بِتَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَتَنْمِيَةِ مَالِهِ:
«أُمَّتِي كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مُخَالَطَتِهِمْ مَطْلُوبَةٌ لِأَنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَالْأُخُوَّةُ مُوجِبَةٌ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الْأَخِ. وَأَبْرَزَ الطَّلَبَ فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، وَأَتَى الْجَوَابُ بِمَا يَقْتَضِي الْخِلْطَةَ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ إِخْوَانَكُمْ.
وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ لِلْيَتَامَى، ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، لِيُحَذِّرَ مِنَ الْفَسَادِ وَيَدْعُوَ إِلَى الصَّلَاحِ، وَمَعْنَى عِلْمُهُ هُنَا أَنَّهُ مُجَازٍ من أفسد، و: من أَصْلَحَ، بِمَا يُنَاسِبُ فِعْلَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَكَلَّفَكُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكَالِيفَ السَّابِقَةَ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَتَكْلِيفِ الصَّدَقَةِ، بِأَنْ تَكُونَ عَفْوًا، وَتَكْلِيفِ إِصْلَاحِ الْيَتِيمِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا إِعْنَاتٌ.
ثُمَّ خَتَمَ هَذَا بِأَنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا كَانُوا يَتَلَذَّذُونَ بِهِ، وَهُوَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْأَكْلُ بِهِ، وَالْقَمْرُ بِالْمَيْسِرِ وَالْأَكْلُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ النِّكَاحُ أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَلَاذِّ، اسْتَطْرَدَ إِلَى ذِكْرِ تَحْرِيمِ نَوْعٍ مِنْهُ، وَهُوَ نِكَاحُ مَنْ قَامَ بِهِ الْوَصْفُ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ الْإِشْرَاكُ الْمُوجِبُ لِلتَّنَافُرِ وَالتَّبَاعُدِ. وَالنِّكَاحُ مُوجِبٌ لِلْخِلْطَةِ وَالْمَوَدَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً «١» ولا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «٢» لَا يتراآى دَارَاهُمَا، فَنَهَى فِيهِنَّ عَنْ نكاح من قام به الْوَصْفُ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ، وَغَيَّا ذَلِكَ بِحُصُولِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ كَانَ رَقِيقًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ كَانَ يُعْجِبُ فِي حُسْنٍ أَوْ مَالٍ أَوْ رِئَاسَةٍ وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّرْكِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ دَاعٍ إِلَى النَّارِ، وَجُرَّ مِمَّنْ كَانَ مُعَاشِرَ شَخْصٍ وَمُخَالِطَهُ وَمُلَابِسَهُ، حَتَّى فِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ دَاعٍ إِلَى التَّآلُفِ مِنْ كُلِّ مُعَاشَرَةٍ
(١) سورة الروم: ٣٠/ ٢١.
(٢) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢٢.
433
أَنْ يُجِيبَهُ إِذَا دَعَاهُ لِمَا هُوَ مِنْ هَوَاهُ، وهم كانوا قريبين عَهْدٍ بِالْإِيمَانِ وَحَدِيثِهِ، فَمُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ سَدًّا لِلتَّطَرُّقِ إِلَى النَّارِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَهُوَ النَّاظِرُ بِالْمَصْلَحَةِ لَكُمْ فِي تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ وَإِبَاحَةِ مَا أَبَاحَ، وَهُوَ يُبَيِّنُ آيَاتِهِ وَيُوَضِّحُهَا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ مَعَهَا لَبْسٌ، وَذَلِكَ لِرَجَاءِ تَذَكُّرِكُمْ وَاتِّعَاظِكُمْ بِالْآيَاتِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَحْرِيمَ نكاح من قام به وَصْفُ الْإِشْرَاكِ، ذَكَرَ تَحْرِيمَ وَطْءِ مَنْ قَامَ بِهِ فِي الْحَيْضِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَغَيَّا ذَلِكَ بِالطُّهْرِ كَمَا غَيَّا مَا قَبْلَهُ بِالْإِيمَانِ، ثم أباح إذا تطهرن لَنَا الْوَطْءَ لَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَ مَشْغُولًا بِالْحَيْضِ، وَأَمَرَنَا بِاجْتِنَابِ وَطْئِهِ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى مَزِيَّةِ التَّائِبِ وَالْمُتَطَهِّرِ بِكَوْنِهِ تَعَالَى يُحِبُّهُ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى كَرَّرَ ذَلِكَ فِي جُمْلَتَيْنِ وَأَفْرَدَ كُلَّ وَصْفٍ بِمَحَبَّةٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى إِبَاحَةَ الْوَطْءِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي ارْتَفَعَ عَنْهَا الْحَيْضُ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يَشَاؤُهَا الزَّوْجُ وَيَخْتَارُهَا، مِنْ كَوْنِهَا مُقْبِلَةً أَوْ مُدْبِرَةً، أَوْ مُجَنِّبَةً أَوْ مُضْطَجِعَةً، وَمِنْ أَيِّ شِقٍّ شَاءَ، لِمَا فِي التَّنَقُّلِ مِنْ مَزِيدِ الِالْتِذَاذِ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالنَّظَرِ إِلَى سائر بدنها، والهيآت الْمُحَرِّكَةِ لِلْبَاهِ.
وَنَبَّهَ بِالْحَرْثِ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ النَّسْلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ النَّسْلِ، وَإِذَا كَانُوا قَدْ مُنِعُوا مِنْ وَطْءِ الْحَائِضِ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَحَلُّ الْوَطْءِ مِنَ الْأَذَى بِدَمِ الْحَيْضِ، فَلَأَنْ يُمْنَعُوا مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ أَذًى أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَمَّا كَانَ قُدِّمَ نَهْيٌ وَأَمْرٌ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَفِي هَذَا، خُتِمَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ مَا قَدَّمَهُ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى نَفْعِ نَفْسِهِ، ثُمَّ أمر بتقوى الله تعالى، وَأُمِرَ بِأَنْ يَعْلَمَ وَيُوقِنَ الْيَقِينَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّا مُلَاقُو اللَّهِ، فَيُجَازِينَا عَلَى أَعْمَالِنَا، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ امْتَثَلُوا مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتَنَبُوا مَا نَهَى عَنْهُ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّحْذِيرِ عَنْ مُعَاطَاةِ الْعِصْيَانِ، وَاخْتِتَامِهَا بِالتَّبْشِيرِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ آيَاتٍ تَعْجَزُ عَنْ وَصْفِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْبَدَائِعُ الْأَلْسُنُ، وَيُذْعِنُ لِفَصَاحَتِهَا الْجِهْبِذُ اللَّسِنُ، جَمَعَتْ بَيْنَ بَرَاعَةِ اللَّفْظِ وَنَصَاعَةِ الْمَعْنَى، وَتَعَلُّقِ الْجُمَلِ وَتَأَنُّقِ الْمَبْنَى، مِنْ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، وَتَحْذِيرٍ مِنْ عِقَابٍ، وَتَرْغِيبٍ فِي ثَوَابٍ، هَدَتْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتُلُقِّيَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ.
434

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٤ الى ٢٢٩]

وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
الْعُرْضَةُ: فُعْلَةٌ مِنَ الْعَرْضِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْفُرْقَةِ وَالْقَبْضَةِ، يُقَالُ: فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِكَذَا وَالْمَرْأَةُ عُرْضَةٌ لِلنِّكَاحِ، أَيْ: مُعَرَّضَةٌ لَهُ، قَالَ كَعْبٌ:
عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ وَقَالَ حَسَّانُ:
(وقال الله قد يسرن جُنْدًا هُمُ الْأَنْصَارُ) عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
وَقَالَ حَبِيبٌ:
مَتَى كَانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَوَائِمِي وَكَيْفَ صَفَتْ لِلْعَاذِلِينَ عَزَائِمِي
وَيُقَالُ جَعَلَهُ عُرْضَةً لِلْبَلَاءِ أَيْ: مُعَرَّضًا، وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
وَأَدْمَاءُ مِثْلُ الْفَحْلِ يَوْمًا عَرَضْتُهَا لِرَحْلِي وَفِيهَا جُرْأَةٌ وَتَقَاذُفُ
وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ مَا تَعْرِضُهُ دُونَ الشَّيْءِ، مِنْ عَرْضِ الْعُودِ عَلَى الْإِنَاءِ، فَيَعْتَرِضُ دُونَهُ، وَيَصِيرُ
435
حَاجِزًا وَمَانِعًا. وَقِيلَ: أَصْلُ الْعُرْضَةِ الْقُوَّةُ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْجَمَلِ: الْقَوِيِّ: هَذَا عُرْضَةٌ لِلسَّفَرِ، أَيْ: قَوِيٌّ عَلَيْهِ، وَلِلْفَرَسِ الشَّدِيدِ الْجَرْيِ عُرْضَةٌ لِارْتِحَالِنَا.
الْيَمِينُ: أَصْلُهَا الْعُضْوُ، وَاسْتُعْمِلَ لِلْحَلِفِ لِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي تَصَافُحِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَتُجْمَعُ عَلَى، أَيْمَانٍ، وَعَلَى: أَيْمُنٌ، وَفِي الْعُضْوِ وَالْحَلِفِ، وَتُسْتَعْمَلُ: الْيَمِينُ، لِلْجِهَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْعُضْوِ الْمُسَمَّى بِالْيَمِينِ، فَتُنْصَبُ عَلَى الظَّرْفِ، تَقُولُ: زَيْدٌ يَمِينُ عَمْرٍو، وَهِيَ فِي الْعُضْوِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْيَمِينِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَيْمُونُ الطَّلْعَةِ، وَمَيْمُونُ النَّقِيبَةِ، وَمَيْمُونُ الطَّائِرِ.
اللَّغْوُ: مَا يَسْبِقُ بِهِ اللِّسَانُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ لِمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الدِّيَةِ مِنْ أَوْلَادِ الْإِبِلِ: وَيُقَالُ: لَغَا يَلْغُو لَغْوًا وَلَغَى يَلْغِي لَغًا، وَقَالَ ابْنُ الْمُظَفَّرِ: تَقُولُ الْعَرَبُ: اللَّغْوُ وَاللَّاغِيَةُ وَاللَّوَاغِي وَاللُّغَوِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: اللَّغْوُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا يُطْرَحُ مِنَ الْكَلَامِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ، وَيُقَالُ: هُوَ مَا لَا يُفْهَمُ لَفْظُهُ. يُقَالُ: لَغَا الطَّائِرُ يَلْغُو: صَوَّتَ، وَيُقَالُ: لَغَا بِالْأَمْرِ لَهِجَ بِهِ يَلْغَا، وَيُقَالُ: اشْتُقَّ مِنْ هَذَا اللُّغَةُ، وَقَالَ ابْنُ عِيسَى، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ اللَّغْوَ مَا لَا يُفِيدُ قَالَ: وَمِنْهُ اللُّغَةُ لِأَنَّهَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا لَغْوٌ وَغَلِطَ فِي هَذَا الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ إِنَّمَا اشْتُقَّتْ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَغَى بِكَذَا إِذَا أُولِعَ بِهِ.
الْحَلِيمُ: الصَّفُوحُ عَنِ الذَّنْبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، يُقَالُ: حَلُمَ الرَّجُلُ يَحْلُمُ حِلْمًا، وَهُوَ حَلِيمٌ، وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
وَلَا خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَارِدُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا
وَيُقَالَ: حَلِمَ الْأَدِيمُ يَحْلَمُ حَلْمًا، إِذَا تَثَقَّبَ وَفَسَدَ، قَالَ:
فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ كَدَابِغِهِ وَقَدْ حَلِمَ الْأَدِيمُ
و: حلم فِي النَّوْمِ يَحْلُمُ حُلْمًا وَحُلُمًا، وَهُوَ: حَالِمٌ، وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ «١».
الْإِيلَاءُ: مَصْدَرُ آلَى، أَيْ: حلف، ويقال: تألى وأيتلى، أَيْ: حَلَفَ، وَيُقَالُ لِلْحَلِفِ: ألية وَأُلْوَةٌ وَإِلْوَةٌ، وَجَمْعُ أَلِيَّةٍ أَلَايَا، كَعَشِيَّةٍ وَعَشَايَا. وَقِيلَ: تُجْمَعُ أَلُوَّةٌ عَلَى أَلَايَا كركوبة وركائب.
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٤٤.
436
التَّرَبُّصُ: التَّرَقُّبُ وَالِانْتِظَارُ، مَصْدَرُ: تَرَبَّصَ وَهُوَ مَقْلُوبُ التَّبَصُّرِ، قَالَ:
تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا
فَاءَ: يَفِيءُ فَيْأً وَفَيْأَةً، رَجَعَ، وَسُمِّيَ الظِّلُّ بَعْدَ الزَّوَالِ فَيْأً، لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وهو سريع الفيئة أَيِ: الرُّجُوعِ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ:
فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي فَمَا تَسْتَفِزِّينَ ذَوَاتَ الْعُيُونِ وَالْبَنَانِ الْمُخَضَّبَ
الْعَزْمُ: مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَيُصَمَّمُ، وَيُقَالُ: عَزَمَ عَلَيْهِ يَعْزِمُ عَزْمًا وَعَزَمًا وَعَزِيمَةً وَعَزَامًا، وَيُقَالُ: أَعْزَمَ إِعْزَامًا، وَعَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ: أَقْسَمْتُ.
الطَّلَاقُ: انْحِلَالُ عَقْدِ النِّكَاحِ، يُقَالُ مِنْهُ: طُلِّقَتْ تُطَلَّقُ فَهِيَ طَالِقٌ وَطَالِقَةٌ، قَالَ الْأَعْشَى.
أَيَا جارتا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ وَيُقَالُ: طَلُقَتْ بِضَمِّ اللَّامِ حَكَاهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، وَأَنْكَرَهُ الْأَخْفَشُ.
الْقُرْءُ: أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْوَقْتُ الْمُعْتَادُ تَرَدُّدُهُ، وَقُرْءُ النَّجْمِ وَقْتُ طُلُوعِهِ وَوَقْتُ غُرُوبِهِ، وَيُقَالُ مِنْهُ: أَقْرَأَ النَّجْمُ أَيْ طَلَعَ أَوْ غَرُبَ، وَقُرْءُ الْمَرْأَةِ حَيْضُهَا وَطُهْرُهَا، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيُونُسُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَيُقَالُ مِنْهُمَا: أَقَرَأَتِ الْمَرْأَةُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُسَمِّي الْحَيْضَ مَعَ الطهر قُرْءًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقُرْءُ مَا بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَقَرَأَتْ صَارَتْ صَاحِبَةَ حَيْضٍ، فَإِذَا حَاضَتْ قُلْتَ قَرَتْ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقِيلَ: الْقُرْءُ أَصْلُهُ الْجَمْعُ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ، جَمَعْتُهُ، وَمِنْهُ: مَا أَقَرَأَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ سَلًا قَطُّ، أَيْ: مَا جَمَعَتْ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْحَيْضُ: فَهُوَ اجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ، أَوِ الطُّهْرُ، فَهُوَ اجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الْبَدَنِ.
الرَّحِمُ: الْفَرْجُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِلْقَرَابَةِ، يُقَالُ: بَيْنَهُمَا رَحِمٌ، أَيْ قَرَابَةٌ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ.
الْبَعْلُ: الزَّوْجُ يُقَالُ مِنْهُ، بَعَلَ يَبْعَلُ بُعُولَةً، أَيْ: صَارَ بَعْلًا، وَبَاعَلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِذَا جَامَعَهَا، وَهِيَ تُبَاعِلُهُ إِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ مَعَهُ، وَامْرَأَةٌ حَسَنَةُ التَّبْعِيلِ إِذَا كَانَتْ تُحْسِنُ عِشْرَةَ زَوْجِهَا، وَالْبَعْلُ أَيْضًا الْمَلِكُ، وَبِهِ سُمِّيَ الصَّنَمُ لِأَنَّهُ الْمُكْتَفِي بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ بَعْلُ النَّخْلِ.
437
وَجَمْعُ الْبَعْلِ: بُعُولٌ وَبُعُولَةٌ، كَفَحْلٍ وَفُحُولَةٍ، التَّاءُ فِيهِ لِتَأْنِيثِ الْجَمْعِ وَلَا يَنْقَاسُ، فَلَا يُقَالُ:
فِي كُعُوبٍ جَمْعُ كَعْبٍ كُعُوبَةٌ.
الرَّجُلُ: مَعْرُوفٌ يُجْمَعُ عَلَى: رِجَالٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّجْلَةِ، وَهِيَ الْقُوَّةُ، يُقَالُ:
رَجُلٌ بَيِّنُ الرُّجُولَةِ وَالرُّجْلَةِ، وَهُوَ أَرْجَلُ الرَّجُلَيْنِ أَيْ: أَقْوَاهُمَا، وَفَرَسٌ رَجِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى الْمَشْيِ، وَمِنْهُ: سُمِّيَتِ الرِّجْلُ لِقُوَّتِهَا عَلَى الْمَشْيِ، وَارْتَجَلَ الْكَلَامَ قَوِيَ عَلَيْهِ، وَتَرَجَّلَ النَّهَارُ قَوِيَ ضِيَاؤُهُ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ وَرِجْلَةٌ، كَمَا قَالُوا: امْرُؤٌ وَامْرَأَةٌ، وَكَتَبْتُ مِنْ خَطِّ أُسْتَاذِنَا أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطًا غَيْرَ جِيرَانِي بَنِي جَبَلَهْ
هَتَكُوا جَيْبَ فَتَاتِهِمْ لَمْ يُبَالُوا حُرْمَةَ الرَّجُلَهْ
الدَّرَجَةُ: الْمَنْزِلَةُ، وَأَصْلُهُ مِنْ دَرَجْتُ الشَّيْءَ وَأَدْرَجْتُهُ: طَوَيْتُهُ، وَدَرَجَ الْقَوْمُ فَنُوا، وَأَدْرَجَهُمُ اللَّهُ فَهُوَ كَطَيِّ الشَّيْءِ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً وَالدَّرَجَةُ الْمَنْزِلَةُ مِنْ مَنَازِلِ الطَّيِّ، وَمِنْهُ الدَّرَجَةُ الَّتِي يُرْتَقَى إِلَيْهَا.
الْإِمْسَاكُ: لِلشَّيْءِ حَبْسُهُ، وَمِنْهُ اسْمَانِ: مَسْكٌ وَمَسَاكٌ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَذُو مَسْكٍ وَمِيسَاكٍ إِذَا كَانَ بَخِيلًا، وَفِيهِ مُسْكَةٌ مِنْ خَيْرٍ أَيْ: قُوَّةٌ، وَتَمَاسُكٌ وَمَسِيكٌ بَيِّنُ الْمَسَاكَةُ.
التَّسْرِيحُ: الْإِرْسَالُ، وَسَرَّحَ الشَّعْرَ خَلَّصَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَاشِيَةَ أَرْسَلَهَا لِتَرْعَى، وَالسَّرْحُ الْمَاشِيَةُ، وَنَاقَةٌ مَسْرَحٌ سَهْلَةُ الْمَسِيرِ لِانْطِلَاقِهَا فِيهِ.
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَخَتَنِهِ بَشِيرِ بْنِ النُّعْمَانِ، كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلَا يُكَلِّمَهُ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: حَلَفْتُ بِاللَّهِ، فَلَا يَحِلُّ لِي إِلَّا بِرُّ يَمِينِي.
وَقَالَ الرَّبِيعُ: نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَصِلَ رَحِمَهُ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي أَبِي بَكْرٍ حِينَ حَلَفَ لَا يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ حِينَ تَكَلَّمَ فِي الْإِفْكِ، وَقَالَ الْمُقَاتِلَانِ ابْنُ حَيَّانَ وَابْنُ سُلَيْمَانَ: حَلَفَ لَا يُنْفِقُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى يُسْلِمَ وَقِيلَ:
حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مَعَ الْأَضْيَافِ حِينَ أَخَّرَ وَلَدُهُ عَنْهُمُ الْعَشَاءَ، وَغَضِبَ هُوَ عَلَى وَلَدِهِ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نَزَلَتْ فِي تَكْرِيرِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ، فَنَهَى أَنْ يُحْلَفَ بِهِ بَرًّا، فَكَيْفَ فَاجِرًا.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أمر بتقوى بالله تَعَالَى، وَحَذَّرَهُمْ يَوْمَ الْمِيعَادِ، نَهَاهُمْ عَنِ ابْتِذَالِ اسْمِهِ، وَجَعْلِهِ مَعْرِضًا لِمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ دَائِمًا، لِأَنَّ مَنْ يُتَّقَى
438
وَيُحْذَرُ تَجِبُ صِيَانَةُ اسْمِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ يُذْكَرُ فِي كُلِّ مَا يُحْلَفُ عَلَيْهِ، مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، عَظِيمٍ أَوْ حَقِيرٍ، لِأَنَّ كَثْرَةَ ذَلِكَ تُوجِبُ عَدَمَ الِاكْتِرَاثِ بِالْمَحْلُوفِ بِهِ.
وَقَدْ تَكُونُ الْمُنَاسَبَةُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحَرُّزِ فِي أَفْعَالِهِمُ السَّابِقَةِ مِنَ: الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، وَإِنْفَاقِ الْعَفْوِ، وَأَمْرِ الْيَتَامَى، وَنِكَاحِ مَنْ أَشْرَكَ، وَحَالِ وَطْءِ الْحَائِضِ، أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِالتَّحَرُّزِ في أقوالهم، فانتظم بذلك أَمْرُهُمْ بِالتَّحَرُّزِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي فَهْمِ هذه الجملة من قوله وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ وَهُوَ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِقَاقِ الْعُرْضَةِ، فَقِيلَ: نُهُوا عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا اللَّهَ مَعَدًّا لِأَيْمَانِهِمْ فَيَحْلِفُوا بِهِ فِي الْبِرِّ وَالْفُجُورِ، فَإِنَّ الْحِنْثَ مَعَ الْإِكْثَارِ فِيهِ قِلَّةُ رَعْيٍ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَكْثِيرِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ، نُهِيَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ بِهِ بَرًّا فَكَيْفَ فَاجِرًا؟ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَنْ أَكْثَرَ الْحَلِفَ بِقَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «١» وَقَالَ: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ «٢».
وَالْعَرَبُ تُمْدَحُ بِالْإِقْلَالِ مِنَ الْحَلِفِ قَالَ كُثَيِّرٌ:
قَلِيلٌ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ تَكْثِيرِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُبْقِي لِلْيَمِينِ فِي قَلْبِهِ وَقْعًا، وَلَا يُؤْمَنُ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَذِكْرُ اللَّهِ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِهِ فِي الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ قُوَّةً لِأَيْمَانِكُمْ، وَتَوْكِيدًا لَهَا، وَرُوِيَ عَنْ قَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالرَّبِيعِ، وَغَيْرِهِمْ قَالَ: الْمَعْنَى: فِيمَا تُرِيدُونَ الشِّدَّةَ فِيهِ مِنْ تَرْكِ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْبِرِّ وَالْإِصْلَاحِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ حَاجِزًا وَمَانِعًا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِصْلَاحِ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، أَوْ فِي أَبِي بَكْرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْلِفُ عَلَى بَعْضِ الْخَيْرَاتِ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنٍ، أَوْ إِحْسَانٍ إِلَى أَحَدٍ، أَوْ عِبَادَةٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَخَافُ اللَّهَ أَنْ أَحْنَثَ فِي يَمِينِي، فَيَتْرُكُ الْبِرَّ فِي يَمِينِهِ، فَنُهُوا أَنْ يَجْعَلُوا اللَّهَ حَاجِزًا لِمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ.
لِأَيْمانِكُمْ تَحْتَمِلُ اللَّامُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً، بعرضة، فَتَكُونُ كَالْمُقَوِّيَةِ لِلتَّعَدِّي، أَوْ مَعَدًّا وَمَرْصَدًا لِأَيْمَانِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: وَلا تَجْعَلُوا فَتَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ:
لَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عرضة لأجل أيمانكم.
(١) سورة القلم: ٦٨/ ١٠.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٨٩.
439
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَيْمَانِ هُنَا الِاقْتِسَامُ، لَا الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ:
حَاجِزًا لِمَا حَلَفْتُمْ عَلَيْهِ، وَسُمِّيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا لِتَلَبُّسِهِ بِالْيَمِينِ، كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا منها فائت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ»
أَيْ: عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُحْلَفُ عَلَيْهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا حَاجَةَ هُنَا لِلْخُرُوجِ عَنِ الظَّاهِرِ وإنما احتيج فِي الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ الْيَمِينَ، وَيُرَادُ بِهَا مُتَعَلِّقُهَا، لِأَنَّهُ قَالَ: إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَعَدَّى حَلَفْتَ بِعَلَى، فَاحْتِيجَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُحْوِجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمَّا حَمَلَ: عُرْضَةً، عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ حَاجِزًا وَمَانِعًا، اضْطُرَّ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ.
أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ قَالَ الزَّجَّاجُ، وَتَبِعَهُ التِّبْرِيزِيُّ: أَنْ تَبَرُّوا، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْمَعْنَى: بِرُّكُمْ وَتَقْوَاكُمْ وَإِصْلَاحُكُمْ أَمْثَلُ وَأَوْلَى، وَجَعَلَ الْكَلَامَ مُنْتَهِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ: لِأَيْمَانِكُمْ، وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا النَّهْيُ عِنْدَهُ أَنَّهَا فِي الرَّجُلِ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ فِعْلَ خَيْرٍ وَنَحْوَهُ اعْتَلَّ بِاللَّهِ، فَقَالَ: عَلَيَّ يَمِينٌ، وَهُوَ لَمْ يَحْلِفْ، وَقَدَّرَ التِّبْرِيزِيُّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ بِأَنَّ الْمَعْنَى: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بَيْنَ النَّاسِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّجَّاجُ وَالتِّبْرِيزِيُّ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِيهِ اقْتِطَاعُ: أَنْ تَبَرُّوا، مِمَّا قَبْلَهُ، وَالظُّلْمُ هُوَ اتِّصَالُهُ بِهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ حَذْفًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، عَطْفُ بَيَانٍ لِأَيْمَانِكُمْ، أَيْ لِلْأُمُورِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا الَّتِي هِيَ: الْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً لِلظَّاهِرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْأَيْمَانِ هِيَ الْأَقْسَامُ، وَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحُ هِيَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا، فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ عَلَى الْأَيْمَانِ، لَكِنَّهُ لَمَّا تَأَوَّلَ الْأَيْمَانَ عَلَى أَنَّهَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا، سَاغَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ تَدْعُونَا إِلَى تَأْوِيلِ الْأَيْمَانِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَذْهَبِهِ تَكُونُ: أَنْ تَبَرُّوا، فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، وَلَوِ ادَّعَى أَنْ يَكُونَ: أَنْ تَبَرُّوا، وَمَا بَعْدَهُ بَدَلًا مِنْ: أَيْمَانِكُمْ، لَكَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْأَعْلَامِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تَبَرُّوا، مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي التَّقْدِيرِ، فَقِيلَ: كَرَاهَةَ أَنْ تَبَرُّوا، قَالَهُ الْمَهْدَوِيُّ، أَوْ لِتَرْكِ أَنْ تَبَرُّوا، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، وَقِيلَ: لِأَنْ لَا تَبَرُّوا وَلَا تَتَّقُوا وَلَا تُصْلِحُوا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالطَّبَرِيُّ كَقَوْلِهِ:
440
فخالف فلا والله تهبط تَلْعَةً أَيْ: لَا تَهْبِطُ، وَقِيلَ: إِرَادَةُ أَنْ تَبَرُّوا، وَالتَّقَادِيرُ الْأُوَلُ مُتَلَاقِيَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قتيبة، وَالزَّجَّاجِ، فِي آخِرِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ أَنْ لَا تَبَرُّوا، فَيَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلُوا، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا الْمَعْنَى لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْلِيلِ امْتِنَاعِ الْحَلِفِ بِانْتِفَاءِ الْبِرِّ، بَلْ وُقُوعُ الْحَلِفِ مُعَلَّلٌ بِانْتِفَاءِ الْبِرِّ، وَلَا يَنْعَقِدُ مِنْهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ لَوْ قُلْتَ فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ وَعِلَّتِهِ: إِنْ حَلَفْتَ بِاللَّهِ بَرَرْتَ، لَمْ يَصِحَّ وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: لَا تَضْرِبْ زَيْدًا لئلا يؤذيك، فانتفت الاذاية لِلِامْتِنَاعِ مِنَ الضَّرْبِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَضْرِبْهُ لَمْ يُؤْذِكَ، وَإِنْ ضَرَبْتَهُ أَذَاكَ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْحَلِفِ انْتِفَاءُ الْبِرِّ، ولا على وَجُودُهُ، بَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْحَلِفِ وُجُودُ الْبِرِّ، وَعَلَى وُقُوعِ الْحَلِفِ انْتِفَاءُ الْبِرِّ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِرَادَةَ أَنْ تَبَرُّوا، لِأَنَّهُ يُعَلِّلُ الِامْتِنَاعَ مِنَ الْحَلِفِ بِإِرَادَةِ وُجُودِ الْبِرِّ، وَيَتَعَلَّقُ مِنْهُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، تَقُولُ: إِنْ حَلَفْتَ لَمْ تَبَرَّ، وَإِنْ لَمْ تَحْلِفْ بَرَرْتَ.
وَقَدْ شَرَحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا عِلَّةً لِهَذَا النَّهْيِ، أَيْ: إِرَادَةَ أَنْ تَبَرُّوا، وَالْمَعْنَى إِنَّمَا نَهْيُكُمْ عَنْ هَذَا لِمَا فِي تَوَقِّي ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ، فَتَكُونُونَ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ بَرَرَةً أَتْقِيَاءَ مُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ غَيْرَ مُفْسِدِينَ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْحَلِفِ حُصُولُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْحَلِفَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَعْظَمُ وَأَجَلُّ أَنْ يُسْتَشْهَدَ بِاسْمِهِ الْمُعَظَّمِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، إِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الْبِرِّ.
وَأَمَّا مَعْنَى التَّقْوَى فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ اتَّقَى أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ مَا يُخِلُّ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلِأَنَّ النَّاسَ مَتَى اعْتَقَدُوا فِيهِ كَوْنَهُ مُعَظِّمًا لِلَّهِ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْحَدِّ، مُحْتَرِزًا عَنِ الْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ حَقِّهِ، اعْتَقَدُوا فِيهِ كَوْنَهُ مُعَظِّمًا لِلَّهِ، وَكَوْنَهُ صَادِقًا بَعِيدًا مِنَ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ، فَيَتَقَبَّلُونَ قَوْلَهُ، فَيَحْصُلُ الصُّلْحُ بِتَوَسُّطِهِ. انْتَهَى هَذَا الْكَلَامُ.
وَفِي (الْمُنْتَخَبِ) وَهُوَ بَسْطُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَمَعْنَاهَا عَلَى الْأُخْرَى يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عُرْضَةً، بِمَعْنَى مُعَرَّضًا لِلْأَمْرِ، قَالَ: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ مُعَرَّضًا لِأَيْمَانِكُمْ فَتَتَبَذَّلُوهُ
441
بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ بِهِ، وَلِذَلِكَ ذَمَّ مَنْ أَنْزَلَ فِيهِ: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «١» بِأَشْنَعِ الْمَذَامِّ، وَجَعَلَ الحلاف مقدمتها، وأن تَبَرُّوا، عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ أَيْ: إِرَادَةَ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا لِأَنَّ الْحَلَّافَ مُجْتَرِئٌ، عَلَى اللَّهِ، غَيْرُ مُعَظِّمٍ لَهُ، فَلَا يَكُونُ بَرًّا متقيا، ولا يتق بِهِ النَّاسُ، فَلَا يُدْخِلُونَهُ فِي وَسَاطَتِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ كَاذِبِينَ، لِتَبَرُّوا الْمَحْلُوفَ لَهُمْ، وَتَتَّقُوهُمْ وَتُصْلِحُوا بَيْنَهُمْ بِالْكَذِبِ. رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فقيد المعلول بِالْكَذِبِ، وَقَيَّدَ الْعِلَّةَ بِالنَّاسِ، وَالْإِصْلَاحَ بِالْكَذِبِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَتَعَلَّقُ: أن تبروا، بالفعل و: بالعرضة، أَيْ: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ لِأَجْلِ أَيْمَانِكُمْ بِهِ عُرْضَةً لِأَنْ تَبَرُّوا. انْتَهَى. وَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّقْدِيرُ، لِأَنَّ فِيهِ فَصْلًا بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ بِأَجْنَبِيٍّ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ: لِأَيْمَانِكُمْ، بِتَجْعَلُوا، وَعَلَّقَ: لِأَنْ تَبَرُّوا بِعُرْضَةً، فَقَدْ فَصَلَ بَيْنَ: عُرْضَةً، وَبَيْنَ: لِأَنْ تَبَرُّوا بِقَوْلِهِ: لِأَيْمَانِكُمْ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ عِنْدَهُ لِتَجْعَلُوا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَنَظِيرُ مَا أَجَازَهُ أَنْ تَقُولَ: امْرُرْ وَاضْرِبْ بِزَيْدٍ هِنْدًا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ: جَاءَنِي رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ رَاكِبٌ أَبْلَقَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنْ تَبَرُّوا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، وَالْعَمَلُ فِيهِ قَوْلُهُ: لِأَيْمَانِكُمْ، التَّقْدِيرُ: لِأَقْسَامِكُمْ عَلَى أَنْ تَبَرُّوا، فَنُهُوا عَنِ ابْتِذَالِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَعْلِهِ مَعْرِضًا لِأَقْسَامِهِمْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ اللَّاتِي هُنَّ أَوْصَافٌ جَمِيلَةٌ، لِمَا نَخَافُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِنْثِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ أَقْسَامًا عَلَى مَا تُنَافِي الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحَ؟
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ مُنْتَظِمًا وَاقِعًا كُلُّ لَفْظٍ مِنْهُ مَكَانَهُ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، فَصَارَ فِي مَوْضِعِ:
أَنْ تَبَرُّوا، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخِلَافُ فِي تَقْدِيرِ الْجَرِّ، وَالْجَرُّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
عَطْفِ الْبَيَانِ وَالْبَدَلِ، وَالنَّصْبُ عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَقْدِيرِهِ، وَإِمَّا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا: لأيمانكم، عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالسَّمْعِ الْحَلِفُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ هُوَ إِرَادَةُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِصْلَاحِ إِذْ هُوَ شَيْءٌ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، فَهُوَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، فَجَاءَتْ هاتان الصفتان منتظمتين
(١) سورة القلم: ٦٨/ ١٠.
442
لِلْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَجَاءَتَا عَلَى تَرْتِيبِ مَا سَبَقَ مِنْ تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْعِلْمِ، كَمَا قَدَّمَ الْحَلِفَ عَلَى الْإِرَادَةِ.
لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ جَعْلِ اللَّهِ مُعَرَّضًا لِلْأَيْمَانِ، كَانَ ذَلِكَ حَتْمًا لِتَرْكِ الْأَيْمَانِ وَهُمْ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ لَهُمْ بِالْأَيْمَانِ، فَذَكَرَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا لَغْوًا فَهُوَ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقْصَدُ بِهِ حَقِيقَةُ الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ عِنْدَ الْمُحَاوَرَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ اللَّغْوُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مُقَابَلَةَ مَا كَسَبَهُ القلب وهو ماله فِيهِ اعْتِمَادٌ وَقَصْدٌ.
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ لَغْوِ الْيَمِينِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ، وَمَالِكٌ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْحَلِفُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَيَكْشِفُ الْغَيْبُ خِلَافَ ذَلِكَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَابْنُ عباس أيضا، وطاووس، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ فِي دَرَجِ الْكَلَامِ وَالِاسْتِعْجَالِ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلْيَمِينِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنَا الزُّبَيْرِ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ: هُوَ الْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يَفْعَلُ وَيُكَفِّرُ، وَبَاقِيهِمْ قَالُوا: لَا يَفْعَلُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
وعلي، وطاووس: هُوَ الْحَلِفُ فِي حَالِ الْغَضَبِ
. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هُوَ الْحَلِفُ عَلَى شَيْءٍ يَنْسَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إِذَا كُفِّرَتْ سَقَطَتْ، وَلَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ بِتَكْفِيرِهَا، وَالرُّجُوعِ إِلَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَجَمَاعَةٌ: هُوَ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ: مَالِي عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، وَالْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ إِلَّا فِي الزَّوْجَةِ، فَأُلْزِمَ فِيهَا التَّحْرِيمَ إِلَّا أَنْ يُخْرِجَهَا الْحَالِفُ بِقَلْبِهِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُهُ: هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ أَعْمَى اللَّهُ بَصَرَهُ، أَذْهَبَ اللَّهُ مَالَهُ، هُوَ يَهُودِيٌّ، هُوَ مُشْرِكٌ، هُوَ لُغَيَّةٌ، إِنْ فَعَلَ كَذَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ حَلِفُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: وَاللَّهِ لَا أَبِيعُكَ بِكَذَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: وَاللَّهِ مَا أَشْتَرِيهِ إِلَّا بِكَذَا، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: هُوَ مَا لَا يَلْزَمُهُ الْوِقَايَةُ، وَرُوِيَ عَنْهُ، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّهُ الْحَلِفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ: هُوَ يَمِينُ الْمُكْرَهِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ اللَّغْوِ، إِلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ مَا فَسَّرْنَاهُ أَوَّلًا، لِأَنَّهُ قَابَلَهُ كَسْبُ الْقَلْبِ، وَهُوَ تَعَمُّدُهُ لِلشَّيْءِ، فَجَمِيعُ الْأَقْوَالِ غَيْرُهُ يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كَسْبُ الْقَلْبِ، لِأَنَّ لِلْقَلْبِ
443
قَصْدًا إِلَيْهَا: وَنَفْيُ الْوَحْدَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا إِثْمَ وَلَا كَفَّارَةَ، فَيَضْعُفُ قول من قال: إنها تَخْتَصُّ بِالْإِثْمِ، وَيُفَسَّرُ اللَّغْوُ بِالْيَمِينِ الْمُكَفِّرَةِ، وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنِ اللَّغْوِ، وَالْمَسْبِيَّةِ ذَاتِ الزَّوْجِ، فَوَثَبَ الْفَرَزْدَقُ وَقَالَ: أَمَا سَمِعْتَ مَا قُلْتُ:
وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِشَيْءٍ تَقُولُهُ إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ؟
وَمَا قُلْتُ:
وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنَكَحَتْنَا رِمَاحُنَا حَلَالًا، وَلَوْلَا سَبْيُهَا لَمْ تُطَلَّقِ؟
فَقَالَ الْحَسَنُ: مَا أَذْكَاكَ لَوْلَا حِنْثُكَ.
بِاللَّغْوِ: مُتَعَلِّقٌ: بيؤاخذكم، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، مِثْلُهَا فِي وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ «١» فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «٢». وَفِي إِيمَانِكُمْ، مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ، أَوْ بِالْمَصْدَرِ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنًا فِي أَيْمَانِكُمْ، فيكون حالا، ويقربه أَنَّكَ لَوْ جَعَلْتَهُ فِي صِلَةِ: الَّذِي، وَوَصَفْتَ بِهِ اللَّغْوَ لَاسْتَقَامَ.
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أَيْ بِالْيَمِينِ الَّتِي لِلْقَلْبِ فِيهَا كَسْبٌ، فَكُلُّ يَمِينٍ عَقَدَهَا الْقَلْبُ فَهِيَ كَسْبٌ لَهُ وَكَذَلِكَ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ الْكَسْبَ بِالْعَقْدِ، كَآيَةِ الْمَائِدَةِ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ «٣»، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا أَوْ عَلَى بَاطِلٍ، وَهِيَ الْغَمُوسُ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ أَنْ يَعْقِدَ الْإِشْرَاكَ بِقَلْبِهِ إِذَا قَالَ: هُوَ مُشْرِكٌ إِنْ فَعَلَ كَذَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: بِمَا تَعَمَّدَ الْقَلْبُ مِنَ الْمَآثِمِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى: مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ، هُوَ الْعُقُوبَةُ فِي الْآخِرَةِ إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ غَمُوسًا، أَوْ غَيْرَ غَمُوسٍ وَتَرَكَ تَكْفِيرَهَا، وَالْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا بِإِلْزَامِ الْكَفَّارَةِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا تُكَفَّرُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَجَمَاعَةٌ: لَا تُكَفَّرُ، وَهِيَ أَعْظَمُ ذَنْبًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالشَّافِعِيُّ: تُكَفَّرُ، وَالْكَفَّارَةُ مُؤَاخَذَةٌ.
وَالْغَمُوسُ مَا قَصَدَ الرَّجُلُ فِي الْحَلِفِ بِهِ الْكَذِبَ، وَهِيَ الْمَصْبُورَةُ، سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ، وَمَصْبُورَةً لِأَنَّ صَبْرَهَا مُغَالَبَةٌ وَقُوَّةٌ عَلَيْهَا، كَمَا يُصْبَرُ الْحَيَوَانُ لِلْقَتْلِ وَالرَّمْيِ.
(١) سورة النحل: ١٦/ ٦١.
(٢) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٠. [.....]
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٨٩.
444
وَقُسِّمَتِ الْأَيْمَانُ إِلَى: لَغْوٍ وَمُنْعَقِدَةٍ، وَغَمُوسٍ، وَالْمُنْعَقِدَةُ: هِيَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ الَّتِي يَصِحُّ فِيهَا الْحِنْثُ وَالْبِرُّ، وَبَيَّنَّا اللَّغْوَ وَالْغَمُوسَ، وَقُسِّمَتْ أَيْضًا إِلَى: حَلِفٍ عَلَى مَا مِنْ مُحَرَّمٍ وَهِيَ: الْكَاذِبَةُ، وَمُبَاحٍ: وَهِيَ الصَّادِقَةُ، وَعَلَى مُسْتَقْبَلٍ عَقْدُهَا طَاعَةٌ، وَالْمُقَامُ عَلَيْهَا طَاعَةٌ، وَحَلُّهَا مَعْصِيَةٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، وَمُقَابِلُهَا أَوْ مَا هُوَ مُبَاحٌ عَقْدُهَا وَالْمُقَامُ عَلَيْهَا وَحَلُّهَا، وَلَكِنْ دَخَلَتْ هُنَا بَيْنَ نَقِيضَيْنِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْيَمِينِ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ لَا يَقْصِدَهَا الْقَلْبُ، وَلَكِنْ جَرَتْ عَلَى اللِّسَانِ وَهِيَ: اللَّغْوُ، أَوْ تَقْصِدُهَا وَهِيَ: الْمُنْعَقِدَةُ، وَهُمَا ضِدَّانِ بِاعْتِبَارِ أَنْ لَا تُوجَدَ الْيَمِينُ، إِذِ الْإِنْسَانُ قَدْ يَخْلُو مِنَ الْيَمِينِ، وَهَذَانِ النَّوْعَانِ مِنَ النَّقِيضَيْنِ وَالضِّدِّ أَحْسَنُ مَا يَقَعُ فِيهِ: لَكِنْ، وَأَمَّا الْخِلَافَانِ فَفِي جَوَازِ وُقُوعِهَا بَيْنَهُمَا خِلَافٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ هَذَا، وَإِبْدَالُ الْهَمْزَةِ وَاوًا فِي مِثْلِ: يُؤَاخِذُ، مَقِيسٌ، وَنَحْوُهُ: يُؤْذِنُ، وَيُؤَلِّفُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ فِي أَيْمَانِكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَ: مَا، فِي قَوْلِهِ: بِمَا، مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَيُحَسِّنُهُ مُقَابَلَتُهُ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِاللَّغْوِ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً.
وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ جَاءَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى تَوْسِعَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ حَيْثُ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِاللَّغْوِ فِي الْأَيْمَانِ، وَفِي تَعْقِيبِ الْآيَةِ بِهِمَا إِشْعَارٌ بِالْغُفْرَانِ، وَالْحِلْمِ عَنْ مَنْ أَوْعَدَهُ تَعَالَى بِالْمُؤَاخَذَةِ، وَإِطْمَاعٍ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ، لِأَنَّ مَنْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَثْرَةِ الْغُفْرَانِ وَالصَّفْحِ مَطْمُوعٌ فِي مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، فَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ، كَسَائِرِ وَعِيدِهِ تَعَالَى.
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ الْإِيلَاءُ ضِرَارَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ لَا يَتْرُكُ الْمَرْأَةَ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ فَيَحْلِفُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا، فَيَتْرُكَهَا لَا أَيِّمًا، وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إِيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ، فَوَقَّتَ اللَّهُ ذَلِكَ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ، وَشَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ جَمَعَتْ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: لِلَّذِينِ آلُوا، بِلَفْظِ الْمَاضِي وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: لِلَّذِينِ يُقْسِمُونَ.
وَالْإِيلَاءُ، كَمَا تَقَدَّمَ، هُوَ الْحَلِفُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْإِيلَاءَ مِنَ النِّسَاءِ كَيْفَ كَانَ فِي
445
الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَمَّا الْإِيلَاءُ الشَّرْعِيُّ بِسَبَبِ وَطْءِ النِّسَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْحَلِفُ أَنْ لَا يَطَأَهَا أَبَدًا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَحَمَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَإِسْحَاقُ: هُوَ الْحَلِفُ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ لا يطأها أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَتَبِينَ مِنْهُ بِالْإِيلَاءِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْحَلِفُ أَنْ لَا يَطَأَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَبَعْدَ مُضِيِّهَا يَسْقُطُ الْإِيلَاءُ، وَيَكُونُ الطَّلَاقُ، وَلَا تَسْقُطُ قَبْلَ الْمُضِيِّ إِلَّا بِالْفَيْءِ، وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي دَاخِلِ الْمُدَّةِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ الْحَلِفُ أَنْ لَا يَطَأَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ مَا دُونَهَا، فَلَيْسَ بِمُولٍ، وَكَانَتْ يَمِينًا محضا، لو وطأ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِيلَاءَ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ مُطْلَقًا، غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِزَمَانٍ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ، شُمُولُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالسَّكْرَانِ وَالسَّفِيهِ، وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ غَيْرُ الْمَجْنُونِ، وَالْخَصِيُّ غَيْرُ الْمَجْبُوبِ، وَمَنْ يُرْجَى مِنْهُ الْوَطْءُ، وَكَذَا الْأَخْرَسِ بِمَا يُفْهَمُ عَنْهُ مِنْ كِنَايَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَجْبُوبِ فَقِيلَ: لَا يَصِحُّ إِيلَاؤُهُ وَقِيلَ: يَصِحُّ، وَأَجَلُ إِيلَاءِ الْعَبْدِ كَأَجَلِ إِيلَاءِ الْحُرِّ لِانْدِرَاجِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ: أَجَلُهُ شَهْرَانِ وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِيلَاؤُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ، وَمِنَ الْحُرَّةِ أَرْبَعَةٌ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَجَلُ إِيلَاءِ الْأَمَةِ نِصْفُ إِيلَاءِ الْحُرَّةِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: يُؤْلُونَ، مُطْلَقُ الْإِيلَاءِ، فَيَحْصُلُ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَصَدَ بِهِ إِصْلَاحَ وَلَدٍ رَضِيعٍ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مُغَاضَبَةٍ وَمُسَارَّةٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ:
إِذَا كَانَ لِإِصْلَاحِ وَلَدٍ رَضِيعٍ فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أحد قوبه، والقول الآخر: أنه لا اعْتِبَارَ بِرَضَاعٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَاللَّيْثُ: شَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي غَضَبٍ
. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، الْإِيلَاءُ فِي غَضَبٍ وَغَيْرِ غَضَبٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ الْأَصَحُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ وَالطَّلَاقَ وَسَائِرَ الْأَيْمَانِ سَوَاءٌ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَكَذَلِكَ
446
الْإِيلَاءُ، وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوا قَوْلَهُ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ عَلَى الْحَلِفِ عَلَى امْتِنَاعِ الْوَطْءِ فَقَطْ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ: هُوَ الْحَلِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يَطَأَهَا، أَوْ لَا يُكَلِّمَهَا، أَوْ أَنْ يُضَارَّهَا، أَوْ يُغَاضِبَهَا. فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إِيلَاءٌ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: إِذَا حَلَفَ لَا يكلمها وكان يطأها فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ تِلْكَ إِيلَاءً إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا الِامْتِنَاعُ مِنَ الْوَطْءِ.
وَأَقْوَالُ مَنْ ذُكِرَ مَعَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالُوا مَا مُحْتَمَلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمَا يَحْتَمِلُهُ أَنَّ فَسَادَ الْعِشْرَةِ إِيلَاءٌ، وَإِلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُ قَالَ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَى وَطْءٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَ: مِنْ، يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: يُؤْلُونَ، وَآلَى لَا يَتَعَدَّى بِمِنْ، فَقِيلَ: مِنْ، بِمَعْنَى: عَلَى، وَقِيلَ: بِمَعْنَى فِي، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: عَلَى تَرْكِ وَطْءِ نِسَائِهِمْ، أَوْ فِي تَرْكِ وَطْءِ نِسَائِهِمْ. وَقِيلَ: مِنْ، زَائِدَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: يُؤْلُونَ أَنْ يَعْتَزِلُوا نسائهم. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ لَهُمُ الْمَحْذُوفُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عنه، وإنما يتعلق بيؤلون عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ: مِنْ، لِلسَّبَبِ أَيْ: يَحْلِفُونَ بِسَبَبِ نِسَائِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ يُضَمَّنَ الْإِيلَاءُ مَعْنَى الِامْتِنَاعِ، فَيُعَدَّى بِمِنْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِلَّذِينِ يَمْتَنِعُونَ بِالْإِيلَاءِ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَ: مِنْ نِسَائِهِمْ، عَامٌّ فِي الزَّوْجَاتِ مِنْ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَكِتَابِيَّةٍ وَمَدْخُولٍ بِهَا وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا إِيلَاءَ إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ. وَقَالَ مَالِكٌ، لَا إِيلَاءَ مِنْ صَغِيرَةٍ لَمْ تَبْلُغْ، فَإِنْ آلَى مِنْهَا فَبَلَغَتْ لَزِمَ الْإِيلَاءُ مِنْ يَوْمِ بُلُوغِهَا.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ، عُمُومُ الْإِيلَاءِ بِأَيِّ يَمِينٍ كَانَتْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي (الْجَدِيدِ) : لَا يَقَعُ الْإِيلَاءُ إِلَّا بِالْحَلِفِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ يَمِينٍ مَنَعَتْ جِمَاعًا فَهِيَ إِيلَاءٌ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَمَالِكٌ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْأَخِيرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ، فَهِيَ يَمِينٌ مُطْلَقًا وَلَا يَكُونُ بِهَا مُولِيًا، وَإِنْ قَالَ: وَإِنْ وَطِئْتُكِ فَعَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ فَهُوَ مُولٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ
447
يَمْضِي قَبْلَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَلَيْسَ بِمُولٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَعَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ مُولِيًا.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا فُرُوعًا كَثِيرَةً فِي الْإِيلَاءِ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ نَحْنُ مَا لَهُ بَعْضُ تَعَلُّقٍ بِالْقُرْآنِ عَلَى عَادَتِنَا، وَلَيْسَ التَّفْسِيرُ مَوْضُوعًا لِاسْتِقْرَاءِ جُزْئِيَّاتِ الْفُرُوعِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ، حُصُولُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ: لَا يَكُونُ مُولِيًا مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ زَوْجَتَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَوْ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا فِي مِصْرِهِ أَوْ بَلَدِهِ فَهُوَ مُولٍ عِنْدَ مَالِكٍ.
وَلَا يَدْخُلُ الذِّمِّيُّ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ لِقَوْلِهِ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، كَمَا لَا يَصِحُّ ظِهَارٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ حَلَفَ بِمَا يَصِحُّ مِنْهُ كَالطَّلَاقِ، فَهُوَ مُولٍ وَلَوِ اسْتَثْنَى الْمُولِي فِي يَمِينِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ الْمَقْرُونَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: يَكُونُ مُولِيًا، لَكِنَّهُ لو وطأ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي (الْمَبْسُوطِ) عَنْ مَالِكٍ: لَا يَكُونُ مُولِيًا.
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ هَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَا هُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ اتُّسِعَ فِيهِ فَصُيِّرَ مَفْعُولًا بِهِ، وَلِذَلِكَ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْأَصْلُ:
تَرَبُّصُهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَلَيْسَتِ الْإِضَافَةُ إِلَى الظَّرْفِ مِنْ غَيْرِ اتِّسَاعٍ، فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ عَلَى تَقْدِيرِ: فِي، خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ.
وَظَاهِرُ هَذَا، أَنَّ ابْتِدَاءَ أَجَلِ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ حَلَفَ لَا مِنْ وَقْتِ الْمُخَاصَمَةِ وَالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ، قِيلَ: وَحُكْمُهُ ضَرْبُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ غَالِبُ مَا تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ فِيهَا عَنِ الزوج، وقصة عمر مشهور فِي سَمَاعِ الْمَرْأَةِ تُنْشِدُ بِاللَّيْلِ:
أَلَا طَالَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهْ وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا حَبِيبَ أُلَاعِبُهْ.
وَسُؤَالُهُ: كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقِيلَ لَهُ: لَا تَصْبِرُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. فَجَعَلَ ذَلِكَ أَمَدًا لِكُلِّ سَرِيَّةٍ يَبْعَثُهَا.
فَإِنْ فاؤُ أَيْ: رَجَعُوا بِالْوَطْءِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْجُمْهُورُ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ
448
الْجُمْهُورِ مَغِيبُ الْحَشَفَةِ لِلْقَادِرِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ سَجْنٌ أَوْ شِبْهُ ذَلِكَ، فَارْتِجَاعُهُ صَحِيحٌ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ زَالَ عُذْرُهُ فَأَبَى الْوَطْءَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ، قَالَهُ مَالِكٌ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) وَ (الْمَبْسُوطِ). وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ:
يُجْزِي الْمَعْذُورَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى فَيْأَتِهِ بِقَلْبِهِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ أَيْضًا: يَصِحُّ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ، وَالْإِشْهَادِ فَقَطْ، وَيَسْقُطُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ إِذَا رَأَيْتَ أَنْ لَمْ يَنْتَشِرْ، وَقِيلَ: الْفَيْءُ هُوَ الرِّضَى، وَقِيلَ: الرُّجُوعُ بِاللِّسَانِ بِكُلِّ حَالٍ، قَالَهُ أَبُو قِلَابَةَ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُولِيَ هُوَ الْحَالِفُ عَلَى مَسَاءَةِ زَوْجَتِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ يَفِيءُ بِقَلْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَطَائِفَةٌ: الْفَيْءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ فِي حَالِ الْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا، مِنْ سَجْنٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ وغيره.
وأمال: فاؤا، جَرْيَةُ بْنُ عَائِذٍ لِقَوْلِهِ: فِئْتُ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فإن فاؤا فِيهِنَّ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَإِنْ فاؤا فِيهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ: فِيهِنَّ، كَقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَشْهُرِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ:
بِأَنَّ الْفَيْئَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْأَشْهُرِ، وإن لم يفىء فِيهَا دَخَلَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوقَفَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيٌّ
، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَمَسْرُوقٌ وَقَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ،
وَعَلِيٌّ أَيْضًا، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عُمَرَ، وابن عامر المسيب، ومجاهد، وطاووس، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: إِذَا انْقَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وُقِفَ، فَإِمَّا قاء وَإِلَّا طُلِّقَ عَلَيْهِ
وَالْقِرَاءَةُ المتواترة: فإن فاؤا بِغَيْرِهِنَّ، وَلَا فِيهَا، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَإِنْ فاؤا فِي الْأَشْهُرِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يكون: فإن فاؤا بَعْدَ انْقِضَائِهَا.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِذَا فاء المولي ووطأ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي يَمِينِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمْ إِلَى إِيجَابِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُولِي بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ، فَيَكُونُ الْغُفْرَانُ هُنَا إِشْعَارًا بِإِسْقَاطِ الْإِثْمِ بِفِعْلِ الْكَفَّارَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ المسيب: إِنَّهُ غُفْرَانُ الْإِثْمِ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ بِإِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الْعَاجِزِ عَنِ الْوَطْءِ إِذَا فَاءَ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى بر أو تقوى، أَوْ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَالْحُجَّةُ لَهُ، فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ غَفُورٌ لِمَآثِمِ الْيَمِينِ، رَحِيمٌ فِي تَرْخِيصِ الْمُخْرَجِ مِنْهَا بِالتَّكْفِيرِ، قَالَهُ ابْنُ زِيَادٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ
449
لِلْقَوْلِ الثَّانِي، وَقِيلَ: مَعْنَى رَحِيمٌ حَيْثُ نَظَرَ لِلْمَرْأَةِ أن لا يضربها زَوْجُهَا، فَيَكُونُ وَصْفُ الْغُفْرَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّوْجِ، وَصِفَةُ الرَّحْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّوْجَةِ.
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِنْ عَزَمُوا السَّرَاحَ، وَانْتِصَابُ الطَّلَاقِ: إِمَّا عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ عَلَى، لِأَنَّ عَزَمَ يَتَعَدَّى بِعَلَى كَمَا قَالَ:
عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ وَإِمَّا أَنْ تُضَمَّنَ: عَزَمَ، مَعْنَى: نَوَى، فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ.
وَمَعْنَى الْعَزْمِ هُنَا التَّصْمِيمُ عَلَى الطَّلَاقِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ:
فَلْيُوقِعُوهُ، أَيِ: الطَّلَاقَ، وَفِي قَوْلِهِ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ: فَإِنْ فاؤُ وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ الَّتِي تَقَعُ فِي الْإِيلَاءِ لَا تَقَعُ بِمُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ لِقَوْلِهِ: عَزَمُوا الطَّلَاقَ، لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ لَيْسَ فِعْلًا لِلشَّيْءِ، وَيُؤَكِّدُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ لَا يُسْمَعُ إِلَّا الْأَقْوَالُ، وَجَاءَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، إِذْ قَدَّرْنَاهُ: فَلْيُوقِعُوهُ، أَيِ الطَّلَاقَ، فَجَاءَ: سَمِيعٌ، بِاعْتِبَارِ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَسْمُوعَاتِ، وَهُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَجَاءَ: عَلِيمٌ، بِاعْتِبَارِ الْعَزْمِ عَلَى الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النِّيَّاتِ، وَهُوَ الشَّرْطُ، وَلَا تُدْرَكُ النِّيَّاتُ إِلَّا بِالْعِلْمِ.
وَتَأَخَّرَ هَذَا الْوَصْفُ لِمُؤَاخَاةِ رؤوس الْآيِ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ أَعَمُّ مِنَ السَّمْعِ، فَمُتَعَلِّقُهُ أَعَمُّ، وَمُتَعَلِّقُ السَّمْعِ أَخَصُّ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِ، لِبُعْدِ انْتِظَامِهِ مَعَ الشَّرْطِ قَبْلَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ مَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ؟ وَعَزْمُهُمُ الطَّلَاقَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ وَلَا يُسْمَعُ؟ قُلْتُ: الْغَالِبُ أَنَّ الْعَازِمَ لِلطَّلَاقِ، وَتَرْكِ الْفَيْئَةِ وَالْفِرَارِ لَا يَخْلُو مِنْ مُقَارَنَةٍ وَدَمْدَمَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ وَيُنَاجِيَهَا بِذَلِكَ، وَذَلِكَ حَدِيثٌ لَا يَسْمَعُهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا يَسْمَعُ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ صِفَةَ السَّمْعِ جَاءَتْ هُنَا لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ أَوْقَعُوهُ، أَيِ:
الطَّلَاقَ، وَالْإِيقَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّفْظِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَسْمُوعَاتِ، وَالصِّفَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْجَوَابِ لَا بِالشَّرْطِ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ دَلَالَةٌ عَلَى مُطْلَقِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِيَّةِ طَلَاقٍ بِكَوْنِهِ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الطَّلَاقِ الدَّاخِلِ عَلَى الْمُولِي فِي ذَلِكَ، فَقَالَ عُثْمَانُ،
وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ:
450
هِيَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ لَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهَا
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ: هِيَ رَجْعِيَّةٌ.
وَفِي الْحُكْمِ لِلْمُولِي بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا الْفَيْئَةِ، وَإِمَّا الطَّلَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِيلَاءِ قَبْلَ الْفَيْءِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَبَطَلَ الْإِيلَاءُ بِغَيْرِ فَيْءٍ وَلَا عَزِيمَةِ طَلَاقٍ، لِأَنَّهُ إِنْ حَنِثَ لَمْ يَلْزَمْ بِالْحِنْثِ شَيْءٌ، وَمَتَى لَمْ يَلْزَمِ الْحَالِفَ بِالْحِنْثِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، فَفِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ إِسْقَاطُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَتَرَبَّصُوا إِلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ. فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَعِيدٌ عَلَى إِصْرَارِهِمْ وَتَرْكِهِمُ الْفَيْئَةَ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ معناه: فإن فاؤا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ عَزَمُوا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ. انْتَهَى.
وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فإن فاؤا، ما نصه فإن فاؤا فِي الْأَشْهُرِ، بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فإن فاؤا فِيهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا عَسَى يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ ضِرَارِ النِّسَاءِ بِالْإِيلَاءِ، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى رِضًى مِنْهُنَّ، خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْغَيْلِ، أَوْ لِبَعْضِ الْأَسْبَابِ لِأَجْلِ الْفَيْئَةِ الَّتِي هِيَ مِثْلُ التَّوْبَةِ، فَنَزَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْآيَةَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَايَرَ بَيْنَ مُتَعَلِّقِ الْفِعْلَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، إِذْ جَعَلَ بَعْدَ: فاؤا، فِي مُدَّةِ الْأَشْهُرِ، وَبَعْدَ: عَزَمُوا، بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّ الْفَيْئَةَ وَالْعَزْمَ عَلَى الطَّلَاقِ لَا يَكُونَانِ إِلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَشْهُرِ، وَلَمَّا أَحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِهَذَا اعْتَرَضَ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ مَوْقِعُ الْفَاءِ إِذَا كَانَتِ الْفَيْئَةُ قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ؟ قُلْتُ: مَوْقِعٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ قوله: فإن فاؤا، وإن عَزَمُوا، تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَالتَّفْصِيلُ يَعْقُبُ الْمُفَصَّلَ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا نَزِيلُكُمْ هَذَا الشَّهْرَ فَإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ أَقَمْتُ عِنْدَكُمْ، إِلَى آخِرِهِ. وَإِلَّا لَمْ أَقُمْ إِلَّا رَيْثَمَا أَتَحَوَّلُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ مَا مَثَّلَ بِهِ لَيْسَ مُطَابِقًا لِمَا فِي الْآيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمِثَالَ فِيهِ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُفَصَّلِ حَالُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنَا نَزِيلُكُمْ هَذَا الشَّهْرَ، وَمَا بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ مُصَرَّحٌ فِيهِ بِالْجَوَابِ الدَّالِّ عَلَى اخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْجَزَاءِ، وَالْآيَةُ لَيْسَ كَذَلِكَ التَّرْكِيبُ فِيهَا، لِأَنَّ الَّذِينَ يُؤْلُونَ لَيْسَ مُخْبَرًا عَنْهُمْ، وَلَا مُسْنَدًا إِلَيْهِمْ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا الْمُخْبَرُ عَنْهُ هُوَ: تَرَبُّصُهُمْ، فَالْمَعْنَى تَرَبُّصُ الْمُولِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مَشْرُوعٌ لَهُمْ بَعْدَ إِيلَائِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ فاؤا، وَإِنْ عَزَمُوا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ
451
تَرَبُّصَ الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ بِأَسْرِهَا، لِأَنَّ الْفَيْئَةَ تَكُونُ فِيهَا، وَالْعَزْمَ بَعْدَهَا، لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ.
الْمُغَايِرَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَإِنَّمَا تَطَابُقُ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: لِلضَّيْفِ إِكْرَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنْ أَقَامَ فَنَحْنُ كُرَمَاءُ مُؤْثِرُونَ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ فَلَهُ أَنْ يَرْحَلَ. فَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ أَنَّ الشَّرْطَيْنِ مُقَدَّرَانِ بَعْدَ إِكْرَامِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِنْ أَقَامَ فِي مُدَّةِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الطَّرَفَيْنِ لَا يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَفُرِّقَ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْمُحْتَمَلِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْآيَةِ وَتَمْثِيلِ الزَّمَخْشَرِيِّ إِلَّا مَنِ ارْتَاضَ ذِهْنُهُ فِي التَّرَاكِيبِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَرِيَ مِنْ حَمْلِ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمَذْهَبِيَّةِ، بِاتِّبَاعِهِ الْحَقَّ وَاجْتِنَابِهِ الْعَصَبِيَّةَ.
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا لَا يُعَدُّ سَبَبًا، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ حُكْمٌ غَالِبٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّسَاءِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْصُلُ بِهِ الْمَنْعُ مِنَ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ دَائِمًا، وَبِالْإِيلَاءِ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْوَطْءِ مُدَّةً مَحْصُورَةً، فَنَاسَبَ ذِكْرُ غَيْرِ الْمَحْصُورِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَحْصُورِ، وَمَشْرُوعُ تَرَبُّصِ الْمُولِي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَمَشْرُوعُ تَرَبُّصِ هَؤُلَاءِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، فَنَاسَبَ ذِكْرُهَا بِعَقِبِهَا، وَظَاهِرُ: وَالْمُطَلَّقَاتُ، الْعُمُومُ، وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمَدْخُولِ بِهِنَّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، لِأَنَّ حُكْمَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَالْحَامِلِ، وَالْآيِسَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ هَؤُلَاءِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ عَامًّا فِي الْمُطَلَّقَاتِ، ثُمَّ نُسِخَ الْحُكْمُ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ سِوَى الْمَدْخُولِ بِهَا ذَاتِ الْأَقْرَاءِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِطْلَاقُ الْعَامُّ وَيُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ لِكَثْرَتِهِ، وَلَا أَنْ يُجْعَلَ سُؤَالًا وَجَوَابًا. كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ جَازَتْ إِرَادَتُهُنَّ خَاصَّةً وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ. قُلْتُ: بَلِ اللَّفْظُ مُطْلَقٌ فِي تَنَاوُلِ الْجِنْسِ، صَالِحٌ لِكُلِّهِ وَبَعْضِهِ، فَجَاءَ فِي أَحَدِ مَا يَصْلُحُ لَهُ كَالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ. انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ لَيْسَتْ دَلَالَةَ الْمُطْلَقِ، وَلَا لَفْظَ الْعَامِّ مُطْلَقٌ فِي تَنَاوُلِ الْجِنْسِ صَالِحٌ لِكُلِّهِ وَبَعْضِهِ، بَلْ هِيَ دَلَالَةٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، مَوْضُوعَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَلَا يَصْلُحُ لِكُلِّ الْجِنْسِ وَبَعْضِهِ، لِأَنَّ مَا وُضِعَ عَامًّا يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ، وَيَسْتَغْرِقُ الْأَفْرَادَ لَا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ صَالِحٌ لِكُلِّهِ وَبَعْضِهِ، فَلَا يَجِيءُ فِي أَحَدِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَلَا هُوَ كَالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَرَكَ لَهُ وَضْعَانِ وَأَوْضَاعٌ بِإِزَاءِ مَدْلُولَيْهِ أَوْ مَدْلُولَاتِهِ، فَلِكُلِّ مَدْلُولٍ وَضْعٌ، وَالْعَامُّ لَيْسَ لَهُ إِلَّا وَضْعٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا أَوْضَحْنَاهُ، فَلَيْسَ كالمشترك.
452
وَالْمُطَلَّقاتُ مبتدأ ويَتَرَبَّصْنَ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَصُورَتُهُ صُورَةُ الْخَبَرِ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى عَلَى إِضْمَارِ اللَّامِ أَيْ: لِيَتَرَبَّصْنَ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ، وَقِيلَ: وَالْمُطَلَّقَاتُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: وَحُكْمُ الْمُطَلَّقَاتِ وَيَتَرَبَّصْنَ عَلَى حَذْفِ: أَنْ، حَتَّى يَصِحَّ خَبَرًا عَنْ ذَلِكَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، التَّقْدِيرُ: وَحُكْمُ الْمُطَلَّقَاتِ أَنْ يَتَرَبَّصْنَ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَعْدَ أَنْ قَالَ: هُوَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، قَالَ: فَإِخْرَاجُ الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَإِشْعَارٌ بِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُتَلَقَّى بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِهِ، فَكَأَنَّهُنَّ امْتَثَلْنَ الْأَمْرَ بِالتَّرَبُّصِ، فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ، مَوْجُودًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: رَحِمَهُ اللَّهُ، أُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ ثِقَةً بِالِاسْتِجَابَةِ، كَأَنَّمَا وُجِدَتِ الرَّحْمَةُ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهَا، وَبِنَاؤُهُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ مِمَّا زَادَ فَضْلُ تَأْكِيدٍ، وَلَوْ قِيلَ: وَيَتَرَبَّصْنَ الْمُطَلَّقَاتُ، لَمْ يَكُنْ بِتِلْكَ الْوِكَادَةِ. انْتَهَى.
وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الِابْتِدَائِيَّةُ فِيهَا زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ عَلَى جُمْلَةِ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ لِتَكْرَارِ الِاسْمِ فِيهَا مَرَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِظُهُورِهِ، وَالْأُخْرَى بِإِضْمَارِهِ، وَجُمْلَةُ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ يُذْكَرُ فِيهَا الِاسْمُ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ فِي (رِيِّ الظَّمْآنِ) زِيدَ فِعْلٌ يُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِذِكْرِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِمْ: أَنَا كَتَبْتُ فِي الْمُهِمِّ الْفُلَانِيِّ إِلَى السُّلْطَانِ، وَالْمُرَادُ دَعْوَى الِانْفِرَادِ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْصُودُ ذَلِكَ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ بِحَدِيثٍ آكَدُ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَهُ، كَقَوْلِهِمْ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ، لَا يُرِيدُ الْحَصْرَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يُحَقِّقَ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّ إِعْطَاءَ الْجَزِيلِ دَأْبُهُ.
وَمَعْنَى يَتَرَبَّصْنَ: يَنْتَظِرْنَ وَلَا يُقْدِمْنَ عَلَى تَزَوُّجٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ خير عَلَى بَابِهِ، وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنْ وَجَدْتَ مُطَلَّقَةً لَا تَتَرَبَّصُ فَلَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ، قِيلَ: وَحَمْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ هُوَ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَقَدْ يُمْتَثَلُ، وَقَدْ لَا يُمْتَثَلُ، وَلِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَعَزْمٍ. وَتَرَبَّصَ مُتَّعَدٍ، إِذْ مَعْنَاهُ: انْتَظَرَ، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَحْذُوفًا مَفْعُولُهُ، وَمُثْبَتًا، فَمِنَ الْمَحْذُوفِ هَذَا، وَقَدَّرُوهُ: بِتَرَبُّصِ التَّزْوِيجِ، أَوِ الْأَزْوَاجِ، وَمِنَ الْمُثْبَتِ قَوْلُهُ: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ «١» نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «٢».
(١) سورة التوبة: ٩/ ٥٢.
(٢) سورة الطور: ٥٢/ ٣٠.
453
و: بأنفسهن، متعلق: بتربص، وَظَاهِرُ الْبَاءِ مَعَ تَرَبَّصَ أَنَّهَا لِلسَّبَبِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَنْفُسِهِنَّ، وَلَا بُدَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْفُسِ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ فِي الْكَلَامِ: يُتَرَبَّصُ بِهِنَّ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ فِيهِ تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِضَمِيرِ الِاسْمِ الْمُتَّصِلِ إِلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، نَحْوَ: هِنْدٌ تُمَرُّ بِهَا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَيَجُوزُ هُنَا أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً لِلتَّوْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: يَتَرَبَّصْنَ أَنْفُسَهُنَّ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ بِنَفْسِهِ، وَجَاءَ زَيْدٌ بِعَيْنِهِ، أَيْ: نَفْسُهُ وَعَيْنُهُ، لَا يُقَالُ: إِنَّ التَّوْكِيدَ هُنَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَوْكِيدِ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ، وَهُوَ النُّونُ الَّتِي هِيَ ضَمِيرُ الْإِنَاثِ فِي: تَرَبَّصْنَ، وَهُوَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يُؤَكَّدَ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ، وَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: يَتَرَبَّصْنَ هُنَّ بِأَنْفُسِهِنَّ، لِأَنَّ هَذَا التَّوْكِيدَ، لَمَّا جُرَّ بِالْبَاءِ، خَرَجَ عَنِ التَّبَعِيَّةِ، وَفُقِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا امْتُنِعَ أَنْ يُؤَكَّدَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ الْمُتَّصِلُ، حَتَّى يُؤَكَّدَ بِمُنْفَصِلٍ، إِذَا أُرِيدَ التَّوْكِيدُ لِلنَّفْسِ وَالْعَيْنِ، وَنَظِيرُ جَوَازِ هَذَا: أَحْسِنْ بِزَيْدٍ وَأَجْمِلْ، التَّقْدِيرُ: وَأَجْمِلْ بِهِ، فَحُذِفَ وَإِنْ كَانَ فَاعِلًا، هَذَا مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جُرَّ بِالْبَاءِ خَرَجَ فِي الصُّورَةِ عَنِ الْفَاعِلِ، وَصَارَ كَالْفَضْلَةِ، فَجَازَ حَذْفُهُ: هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَخْفَشَ ذَكَرَ فِي الْمَسَائِلِ جَوَازَ: قَامُوا أَنْفُسُهُمْ، مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ، وَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ هُنَا: أَنَّهُنَّ يُبَاشِرْنَ التَّرَبُّصَ، وَزَوَالُ احْتِمَالِ أَنَّ غَيْرَهُنَّ تُبَاشِرُ ذلك بهنّ، بل هنّ أَنْفُسُهُنَّ هُنَّ الْمَأْمُورَاتُ بِالتَّرَبُّصِ، إِذْ ذَاكَ أَدْعَى لِوُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُنَّ، فَاحْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ التَّأْكِيدِ لِمَا فِي طِبَاعِهِنَّ مِنَ الطُّمُوحِ إِلَى الرِّجَالِ وَالتَّزْوِيجِ، فَمَتَى أُكِّدَ الْكَلَامُ دَلَّ عَلَى شِدَّةِ الْمَطْلُوبَةِ.
وَانْتِصَابُ: ثَلَاثَةَ، عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ، إِذْ قَدَّرْنَا: تَرَبَّصَ، قَدْ أَخَذَ مَفْعُولَهُ، وَالْمَعْنَى:
مُدَّةَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَقِيلَ: انْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، أَيْ: يَنْتَظِرْنَ مَعْنَى ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، وَكِلَا الْإِعْرَابَيْنِ مَنْقُولٌ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَدْلُولِ الْقُرُوءِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ هُنَا.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ،
وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ: هُوَ الْحَيْضُ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ: هُوَ الطُّهْرُ.
454
وَقَالَ أَحْمَدُ: كُنْتُ أَقُولُ الْقُرْءُ الطُّهْرُ، وَأَنَا الْآنَ أَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ الْحَيْضُ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْقُرْءَ: الِانْتِقَالُ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الْحَيْضِ، وَلَا يَرَى الِانْتِقَالَ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى الطُّهْرِ قُرْءًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ الْخُرُوجُ مِنْ طُهْرٍ إِلَى حَيْضٍ، أَوْ مِنْ حَيْضٍ إِلَى طُهْرٍ. وَلِذِكْرِ تَرْجِيحِ كُلِّ قَائِلٍ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَكَانٌ غَيْرُ هَذَا.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِثَلَاثَةِ الْقُرُوءِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْءَ الْحَيْضُ يَقُولُ، إِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ تُوطَأْ فِيهِ اسْتَقْبَلَتْ حَيْضَةً ثُمَّ حَيْضَةً ثُمَّ حَيْضَةً ثُمَّ تَغْتَسِلُ، فَبِالْغُسْلِ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ.
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ: «أَنَّ زَوْجَهَا أَحَقُّ بِرَدِّهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ»
حَتَّى قَالَ شُرَيْكٌ: لَوْ فَرَّطَتْ فِي الْغُسْلِ، فَلَمْ تَغْتَسِلْ عِشْرِينَ سَنَةً، كَانَ زَوْجُهَا أَحَقَّ بِالرَّجْعَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْغُسْلَ لَا دُخُولَ لَهُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدٍ، وَابْنِ عمر، وَعَائِشَةَ: إِذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ، فَإِذَا طُلِّقَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ تُمَسَّ فِيهِ، اعْتَدَّتْ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَلَوْ سَاعَةً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا ثَانِيًا بَعْدَ حَيْضَةٍ، ثُمَّ ثَالِثًا بَعْدَ حَيْضَةٍ ثَانِيَةٍ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ وَخَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ بِأَوَّلِ نُقْطَةٍ تَرَاهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ وَالْمِيرَاثُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ أَنَّهُ دَمُ حَيْضٍ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ دَفْعَةَ دَمٍ مِنْ غَيْرِ الْحَيْضِ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْءَ الْأَطْهَارُ، يَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ، وَشَذَّ ابْنُ شِهَابٍ فَقَالَ: تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ سِوَى بَقِيَّةِ ذَلِكَ الطُّهْرِ، وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ حَتَّى تَدْخُلَ فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، وَلَوْ طُلِّقَتْ فِي الْحَيْضِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالشُّرُوعِ فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنَ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ لِأَوَّلِهِ، فَلَا تَنْقَضِي حَتَّى تَغْتَسِلَ، أَوْ تَتَيَمَّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ الصَّلَاةِ.
وَظَاهِرُ عُمُومِ الْمُطَلَّقَاتِ دُخُولُ الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ فِي الِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ،
455
وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ الْأَصَمُّ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَرَى عِدَّةَ الْأَمَةِ إِلَّا كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ، إِلَّا إِنْ مَضَتْ سُنَّةٌ فِي ذَلِكَ، فَالسُّنَّةُ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ وَقَالَ الجمهور: عدتها قرآن.
وقرأ الجمهور: وقروء، عَلَى وَزْنِ فُعُولٍ وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: قُرُوٍّ، بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: قَرْوٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَوَاوٍ خَفِيفَةٍ، وَتَوْجِيهُ الْجَمْعِ لِلْكَثْرَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، وَلَمْ يَأْتِ: ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ، أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّوَسُّعِ فِي وَضْعِ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ، أَعْنِي: جَمْعَ الْقِلَّةِ مَكَانَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، وَالْعَكْسَ. وَكَمَا جَاءَ:
بِأَنْفُسِهِنَّ وَأَنَّ النِّكَاحَ يَجْمَعُ النَّفْسَ عَلَى نُفُوسٍ فِي الْكَثْرَةِ، وَقَدْ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِتْيَانِ بِهِ فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ وَيَبْقَى الْآخَرُ قَرِيبًا مِنَ الْمُهْمَلِ، وَذَلِكَ نَحْوَ: شُسُوعٍ أُوثِرَ عَلَى أَشْسَاعٍ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِ أَشْسَاعٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاذًّا، لِأَنَّ شِسْعًا يَنْقَاسُ فِيهِ أَفْعَالٌ وَقِيلَ: وُضِعَ بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَقِيلَ:
أُوثِرَ قُرُوءٌ عَلَى أَقْرَاءٍ لِأَنَّ وَاحِدَهُ قَرْءٌ، بِفَتْحِ القاف، وجمع فعلى عَلَى أَفْعَالٍ شَاذٌّ، وَأَجَازَ الْمُبَرِّدُ: ثَلَاثَةَ حَمِيرٍ، وَثَلَاثَةَ كِلَابٍ، عَلَى إِرَادَةِ: مِنْ كِلَابٍ، وَمِنْ حَمِيرٍ. فَقَدْ يَتَخَرَّجُ عَلَى مَا أَجَازَهُ: ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، أَيْ: مِنْ قُرُوءٍ.
وَتَوْجِيهُ تَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَبْدَلَ مِنَ الْهَمْزَةِ وَاوًا وَأُدْغِمَتْ وَاوُ فُعُولٍ فِيهَا، وَهُوَ تَسْهِيلٌ جَائِزٌ مُنْقَاسٌ، وَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ أَضَافَ الْعَدَدَ إِلَى اسْمِ الْجِنْسِ، إِذِ اسْمُ الْجِنْسِ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ عَلَى حَسَبِ مَا تُرِيدُ مِنَ الْمَعْنَى، وَدَلَّ الْعَدَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ.
وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ الْمَنْهِيُّ عَنْ كِتْمَانِهِ الْحَيْضُ، تَقُولُ لَسْتُ حَائِضًا وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ حِضْتُ وَمَا حَاضَتْ، لتطويل العدة أو استعجال الْفُرْقَةِ، قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ. أَوِ: الْحَبَلُ، قَالَهُ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. أَوِ الْحَيْضُ وَالْحَبَلُ مَعًا، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالرَّبِيعُ، وَلَهُنَّ فِي كَتْمِ ذَلِكَ مَقَاصِدُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كَتْمَ ذَلِكَ حَرَامٌ وَدَلَّ قَوْلُهُ: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ أنهن مؤتمنات عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ أُبِيحَ الِاسْتِقْصَاءُ لَمْ يُمْكِنِ الْكَتْمُ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نَفْتَحَ النساء فنظر إِلَى فُرُوجِهِنَّ، وَلَكِنْ وُكِلَ ذَلِكَ إِلَيْهِنَّ، إِذْ كُنَّ مُؤْتَمَنَاتٍ. انْتَهَى.
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكْتُمَ الْمَرْأَةُ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي رَحِمِهَا مِنْ حَمْلٍ وَلَا حيض، وفيه تغليط، وَإِنْكَارٌ.
456
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: اللَّاتِي تَبْغِينَ إِسْقَاطَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ مِنَ الْأَجِنَّةِ، فَلَا يَعْتَرِفْنَ بِهِ، وَيَجْحَدْنَهُ لِذَلِكَ فَجُعِلَ كِتْمَانُ مَا فِي أَرْحَامِهِنَّ كِنَايَةً عَنْ إِسْقَاطِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُلُّ مَنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ حِضْتُ أَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ، وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهَا إِلَّا أَنْ تَقُولَ: قَدْ أَسْقَطْتُ سَقْطًا قَدِ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تُصَدَّقُ فِيهَا الْمَرْأَةُ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنِ ادَّعَتْ الِانْقِضَاءَ فِي أَمَدٍ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ فِي مِثْلِهِ، قَبْلَ قَوْلِهَا: أَوْ فِي مُدَّةٍ تَقَعُ نَادِرًا، فَقَوْلَانِ،
قَالَ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) إِذَا قَالَتْ حِضْتُ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ، صُدِّقَتْ إِذَا صَدَّقَهَا النِّسَاءُ، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ
وَشُرَيْحٌ، وَقَالَ فِي كِتَابِ (مُحَمَّدٍ) لَا تُصَدَّقُ إِلَّا فِي شَهْرٍ وَنِصْفٍ، وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، أَقَلُّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَحْلَفَ امْرَأَةً لَمْ تَسْتَكْمِلِ الْحَيْضَ
، وَقَضَى بِذَلِكَ عُثْمَانُ.
وَ: لهنّ، متعلق: بيحل، وَاللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ، وَ: مَا، فِي: مَا خَلَقَ، الْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْضًا التَّقْدِيرُ: خَلَقَهُ. وَ: فِي أَرْحَامِهِنَّ، مُتَعَلِّقٌ بخلقه، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ فِي أَرْحَامِهِنَّ حَالًا مِنَ الْمَحْذُوفِ، قِيلَ: وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّهُ وَقْتَ خَلَقَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَتِمَّ خَلْقُهُ.
وَقَرَأَ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: فِي أَرْحَامِهِنَّ وَبِرَدِّهُنَّ، بِضَمِّ الْهَاءِ فِيهِمَا وَالضَّمُّ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا كُسِرَتْ لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا.
إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. هَذَا شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْمَذَاهِبِ، حُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّرُ هُنَا مِنْ لَفْظِهِ، أَيْ: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ لَا يُقْدِمُ عَلَى ارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، وَعَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ حَاصِلًا لَهُنَّ إِيعَادًا وَتَعْظِيمًا لِلْكَتْمِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا تَظْلِمْ، وَإِنْ كُنْتَ حُرًّا فَانْتَصِرْ. يَجْعَلُ مَا كَانَ مَوْجُودًا كَالْمَعْدُومِ، وَيُعَلِّقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ الْكَتْمُ، وَأَنْتَ مُؤْمِنٌ فَلَا تَظْلِمْ، وَأَنْتَ حُرٌّ فَانْتَصِرْ، وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ: أَيْ، إِنْ كُنَّ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حَقَّ الْإِيمَانِ.
وَقِيلَ: إِنْ، بِمَعْنَى: إِذْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ الْوَعِيدَ، فَقَالَ ابْنُ
457
عَبَّاسٍ: لِمَا اسْتَحَقَّهُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجْعَةِ وَقَالَ قَتَادَةُ: لِإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِغَيْرِهِ، كَفِعْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ قَرَأَ مسلمة بن محارب: وبعولتهن، بِسُكُونِ التَّاءِ، فِرَارًا مِنْ ثِقَلِ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ، وَهُوَ مِثْلُ مَا حَكَى أَبُو زَيْدٍ: وَرُسُلْنَا، بِسُكُونِ اللَّامِ.
وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو: أَنَّ لُغَةَ تَمِيمٍ تَسْكِينُ الْمَرْفُوعِ مِنْ: يَعْلَمْهُمْ، وَنَحْوِهِ. وَسَمَّاهُمْ بُعُولَةً بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْأَزْوَاجَ أَحَقُّ لِمُرَاجَعَتِهِنَّ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: بِرِدَّتِهِنَّ بِالتَّاءِ بَعْدَ الدال، وتتعلق: الباء، وفي، بِقَوْلِهِ: أَحَقُّ، وَقِيلَ:
تَتَعَلَّقُ: فِي، بِرَدِّهِنَّ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: فِي ذَلِكَ، إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي أُمِرَتْ أَنْ تَتَرَبَّصَ فِيهِ، وَهُوَ زَمَانُ الْعِدَّةِ. وَقِيلَ: فِي الْحَمْلِ الْمَكْتُومِ، وَالضَّمِيرُ فِي: بُعُولَتِهِنَّ، عَائِدٌ عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالرَّجْعِيَّاتِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خُصُوصَ آخِرِ اللَّفْظِ لَا يَمْنَعُ عُمُومَ أَوَّلِهِ وَلَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالْمُطَلَّقَاتُ، عَامٌّ فِي الْمَبْتُوتَاتِ وَالرَّجْعِيَّاتِ، وَ: بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ، خَاصٌّ فِي الرَّجْعِيَّاتِ، وَنَظِيرُهُ عِنْدَهُمْ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً «١» فَهَذَا عُمُومٌ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ جاهَداكَ «٢» وَهَذَا خَاصٌّ فِي الْمُشْرِكِينَ.
وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مضاف دَلَّ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، تَقْدِيرُهُ: وبعولة رجعياتهن، و: أحق، هُنَا لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، لِأَنَّ غَيْرَ الزَّوْجِ لَا حَقَّ لَهُ وَلَا تَسْلِيطَ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، إِنَّمَا ذَلِكَ لِلزَّوْجِ وَلَا حَقَّ لَهَا أَيْضًا فِي ذَلِكَ، بَلْ لَوْ أَبَتْ كَانَ لَهُ رَدُّهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَبُعُولَتُهُنَّ حَقِيقُونَ بِرَدِّهِنَّ. وَدَلَّ قَوْلُهُ: بِرَدِّهِنَّ، عَلَى انْفِصَالٍ سَابِقٍ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةُ الْوَطْءِ فَالرَّدُّ حَقِيقِيٌّ عَلَى بَابِهِ، وَمَنْ قَالَ: هِيَ مُبَاحَةُ الْوَطْءِ وَأَحْكَامُهَا أَحْكَامُ الزَّوْجَةِ، فَلَمَّا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ تَعَلَّقَ بِهِ زَوَالُ النِّكَاحِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، جَازَ إِطْلَاقُ الرَّدِّ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ رَافِعًا لِذَلِكَ السَّبَبِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بِهِ الرَّدُّ فَقَالَ سَعِيدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ، وطاووس، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا جَامَعَهَا فَقَدْ رَاجَعَهَا وَيُشْهِدُ وَقَالَ اللَّيْثَ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِنَّ وَطْأَهُ مُرَاجَعَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ وَجَهِلَ أَنْ يُشْهِدَ فَهِيَ رَجْعَةٌ وَيَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تمنعه
(١- ٢) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٨.
458
الْوَطْءَ حَتَّى يُشْهِدَ، وَبِهِ قال إسحاق: فإن وطأ وَلَمْ يَنْوِ الرَّجْعَةَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُرَاجِعُ فِي الْعِدَّةِ وَلَا يَطَأُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ يَنْكِحْهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فِي مُدَّةِ بَقِيَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ فَعَلَ فُسِخَ نِكَاحُهُ وَلَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمَاءَ مَاؤُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا جَامَعَهَا فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ نَوَى بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ أَمْ لَا، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَقَالَ مَالِكٌ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قال أبو عمرو: لا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَهْرَ الْمِثْلِ غَيْرَ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ قَالَ الْبَاجِيُّ فِي (الْمُنْتَقَى) : وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ الِارْتِجَاعِ بِالْقَوْلِ، وَلَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ أَثِمَ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يُشْهِدَ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: إِنْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ فَهُوَ رَجْعَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ فِي قَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا قَبْلَ ارْتِجَاعِهَا؟ مَنَعَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ؟ وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ: إِنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ.
وَهَلْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَيَرَى شَيْئًا مِنْ مَحَاسِنِهَا وَتَتَزَيَّنَ لَهُ أَوْ تَتَشَوَّفَ؟ أَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا إِلَّا وَعَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى شَعْرِهَا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَاكِلَهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا، وَلَا يَبِيتُ مَعَهَا فِي بَيْتٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: ثُمَّ رَجَعَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَلَا يَرَى شَعْرَهَا، وَقَالَ سَعِيدٌ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا إِذَا دَخَلَ وَيُسَلِّمُ، أو يشعرها بالتنخم وَالتَّنَحْنُحِ، وَتَلْبَسُ مَا شَاءَتْ مِنَ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَلْيَجْعَلَا بَيْنَهُمَا سِتْرًا وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ هِيَ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمَ الْمَبْتُوتَةِ حَتَّى تُرَاجَعَ بِالْكَلَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُطَلِّقَ إِذَا قَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِامْرَأَتِهِ: كُنْتُ رَاجَعْتُكِ فِي الْعِدَّةِ، وَأَنْكَرَتْ! أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَفِيهِ خِلَافٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً، وَالزَّوْجُ ادَّعَى الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ، وَإِنْ كَذَّبَهَا مَوْلَاهَا! هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا.
إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً هَذَا شَرْطٌ آخَرُ حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ
459
إِبَاحَةَ الرَّجْعَةِ مَعْقُودَةٌ بِشَرِيطَةِ إِرَادَةِ الْإِصْلَاحِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إِذَا رَاجَعَهَا مُضَارًّا فِي الرَّجْعَةِ، مُرِيدًا لِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا أَنَّ رَجْعَتَهُ صَحِيحَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا «١» قَالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الرَّجْعَةِ، وَإِنْ قَصَدَ الضَّرَرَ، لِأَنَّ الْمُرَاجَعَةَ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً إِذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ الضِّرَارِ لِمَا كَانَ ظَالِمًا بِفِعْلِهَا.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي الْإِصْلَاحِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِصْلَاحُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَسَادِ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي: الْقِيَامُ لِمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِنَ الْحَقِّ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالُوا: وَيَسْتَغْنِي الزَّوْجُ فِي الْمُرَاجَعَةِ عَنِ الْوَلِيِّ، وَعَنْ رِضَاهَا، وَعَنْ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ، وَعَنِ الْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَسْقُطُ بِالرَّجْعَةِ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ، وَيَحِلُّ جِمَاعُهَا فِي الْحَالِ، وَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِ هَذَا كُلِّهِ إِلَى دَلِيلٍ وَاضِحٍ مِنَ الشَّرْعِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمَرْأَةَ بِالطَّلَاقِ تَنْفَصِلُ مِنَ الرَّجُلِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ. إِلَّا بِنِكَاحٍ ثَانٍ، ثُمَّ إِذَا طَلَّقَهَا وَأَرَادَ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَإِمَّا أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ عِدَّتِهَا، أَوْ لَا يَبْقَى. إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ عِدَّتِهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا دُونَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ إِنْ أَرَادَ الْإِصْلَاحَ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ غَيْرَ الْإِصْلَاحِ لَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا اسْتَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ طُلِّقَتْ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْعِدَّةِ فَيَرُدَّهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شُرُوطِ النِّكَاحِ، فَيَحْتَاجُ إِثْبَاتُ هَذَا الْحُكْمِ إِلَى دَلِيلٍ وَاضِحٍ كَمَا قُلْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ دَلِيلٌ وَاضِحٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، قُلْنَا بِهِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْنَا بِأَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ عَلَى مَا وَصَفُوا، وَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِيَّاتِ الْفِقْهِ الَّتِي لَا يَسُوغُ النِّزَاعُ فِيهَا، وَأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ هَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ، إِذْ حَذَفَ شَيْئًا مِنَ الْأَوَّلِ أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَأَثْبَتَ شَيْئًا فِي الْأَوَّلِ حَذَفَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ وَلَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِثْلُ الَّذِي لِأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ، فَحُذِفَتْ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لِإِثْبَاتِ: عَلَيْهِنَّ، وَحُذِفَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِإِثْبَاتِ لَهُنَّ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ، فَقِيلَ: الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمُوَافَقَةِ وَالطَّوَاعِيَةِ، وَقَالَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاكُ وَقِيلَ: الْمُمَاثَلَةُ فِي التَّزَيُّنِ وَالتَّصَنُّعِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي لِهَذِهِ الْآيَةِ وَقِيلَ: الْمُمَاثَلَةُ فِي تَقْوَى اللَّهِ فِيهِنَّ، كما عليهنّ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣١.
460
أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيهِمْ، وَلِهَذَا أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ»
أَيْ:
أَسِيرَاتٌ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَقِيلَ: الْمُمَاثَلَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ لَهُنَّ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ وَحَسَنِ الْعِشْرَةِ وَتَرْكِ الضِّرَارِ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُمَاثَلَةُ فِي وُجُوبِ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مِنْ ذَلِكَ، وَوُجُوبِ امْتِثَالِ الْمَرْأَةِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، لَا فِي جِنْسِ الْمُؤَدِّي وَالْمُمْتَثِلِ، إِذْ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مَحْسُوسٌ وَمَعْقُولٌ، وَمَا تَفْعَلُهُ هِيَ مَعْقُولٌ، وَلَكِنِ اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ، فَتَحَقَّقَتِ الْمِثْلِيَّةُ! وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَحُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ فَقَالَ: «أَنْ يُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمَ، وَيَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَى، وَلَا يَضْرِبَ الْوَجْهَ، وَلَا يَهْجُرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ»
وَفِي حَدِيثِ الْحَجِّ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ: «اتَّقَوُا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوَاطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»..
ومثل: مُبْتَدَأٌ، وَ: لَهُنَّ، هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَ: بِالْمَعْرُوفِ، يَتَعَلَّقُ بِهِ: لَهُنَّ، أَيْ:
وَمِثْلُ الَّذِي لِأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ كَائِنٌ لَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيلَ: بِالْمَعْرُوفِ، هُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ: لمثل، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَتَتَعَلَّقُ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ.
وَمَعْنَى: بِالْمَعْرُوفِ أَيْ: بِالْوَجْهِ الَّذِي لَا يُنْكَرُ فِي الشَّرْعِ وَعَادَاتِ النَّاسِ، وَلَا يُكَلِّفُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِنَ الْأَشْغَالِ مَا لَيْسَ مَعْرُوفًا لَهُ، بَلْ يُقَابِلُ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ.
وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أَيْ: مَزِيَّةٌ وَفَضِيلَةٌ فِي الْحَقِّ، أَتَى بِالْمُظْهَرِ عِوَضُ الْمُضْمَرِ إِذْ كَانَ لَوْ أَتَى عَلَى الْمُضْمَرِ لَقَالَ: وَلَهُمْ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، لِلتَّنْوِيهِ بِذِكْرِ الرُّجُولِيَّةِ الَّتِي بِهَا ظَهَرَتِ الْمَزِيَّةُ لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَلِمَا كَانَ يَظْهَرُ فِي الْكَلَامِ بِالْإِضْمَارِ مِنْ تَشَابُهِ الْأَلْفَاظِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي ذَاكَ، إِذْ كَانَ يَكُونُ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَهُمْ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، وَلِقَلَقِ الْإِضْمَارِ حُذِفَ مُضْمَرَانِ وَمُضَافَانِ مِنَ الجملة الأولى.
و: الدرجة، هُنَا فَضْلُهُ عَلَيْهَا فِي الْمِيرَاثِ، وَبِالْجِهَادِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: أَوْ:
بِوُجُوبِ طَاعَتِهَا إِيَّاهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَاعَتُهَا، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُهُ: أَوْ: بِالصَّدَاقِ، وَجَوَازِ ملاعنته إِنْ قَذَفَ، وَحَدِّهَا إِنْ قَذَفَتْ قَالَ الشَّعْبِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَوْ: بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا
461
بِالْإِنْفَاقِ وَغَيْرِهِ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْتِمْتَاعِ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَوْ: بِمِلْكِ الْعِصْمَةِ وَأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. أو: بِمَا يَمْتَازُ مِنْهَا كَاللِّحْيَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ أَوْ: بِمِلْكِ الرَّجْعَةِ أَوْ بِالْإِجَابَةِ إِلَى فِرَاشِهِ إِذَا دَعَاهَا، وَهَذَا دَاخِلٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي: أَوْ: بِالْعَقْلِ، أَوْ بِالدِّيَانَةِ، أَوْ بِالشَّهَادَةِ، أَوْ بِقُوَّةِ الْعِبَادَةِ، أَوْ بِالذُّكُورِيَّةِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمَرْأَةِ خُلِقَتْ مِنَ الرَّجُلِ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَوْ: بِالسَّلَامَةِ مِنْ أَذَى الْحَيْضِ وَالْوِلَادَةِ وَالنِّفَاسِ، أو بالتزويج عَلَيْهَا وَالتَّسَرِّي، وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، أَوْ بِكَوْنِهِ يَعْقِلُ فِي الدِّيَةِ بِخِلَافِهَا، أَوْ بِكَوْنِهِ إِمَامًا بِخِلَافِهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تِلْكَ الدَّرَجَةُ إِشَارَةٌ إِلَى حَضِّ الرِّجَالِ عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالتَّوَسُّعِ لِلنِّسَاءِ فِي الْمَالِ وَالْخُلُقِ، أَيْ: أَنَّ الْأَفْضَلَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَامَلَ عَلَى نَفْسِهِ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الدَّرَجَةَ هِيَ مَا تُرِيدُهُ النِّسَاءُ مِنَ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالطَّوَاعِيَةِ وَالتَّبْجِيلِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ مِثْلَ مَا لِلْآخَرِ عَلَيْهِ، اقْتَضَى ذَلِكَ الْمُمَاثَلَةَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا، وَإِنْ تَمَاثَلَا فِي مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، فَعَلَيْهِنَّ مَزِيدُ إِكْرَامٍ وَتَعْظِيمٍ لِرِجَالِهِنَّ، وَأَشَارَ إِلَى الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ: وَهُوَ كَوْنُهُ رَجُلًا يُغَالِبُ الشَّدَائِدَ وَالْأَهْوَالَ، وَيَسْعَى دَائِمًا فِي مَصَالِحِ زَوْجَتِهِ، وَيَكْفِيهَا تَعَبَ الِاكْتِسَابِ، فَبِإِزَاءِ ذَلِكَ صَارَ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ لِلرَّجُلِ فِي مُبَالَغَةِ الطَّوَاعِيَةِ، وَفِيمَا يُفْضِي إِلَى الِاسْتِرَاحَةِ عِنْدَهَا.
وَمُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، يَقْتَضِي أَنَّ لِلرَّجُلِ دَرَجَةً تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ.
وَ: دَرَجَةٌ، مبتدأ، و: للرجل، خَبَرُهُ، وَهُوَ خَبَرٌ مُسَوِّغٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَ: عَلَيْهِنَّ، مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ مِنَ الْكَيْنُونَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: عَلَيْهِنَّ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ وَصْفًا لِلنَّكِرَةِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ، فَتَعَلَّقَ إِذْ ذَاكَ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ غَيْرُ الْعَامِلِ فِي الْخَبَرِ، وَنَظِيرُهُ: فِي الدَّارِ قَائِمًا رَجُلٌ، كَانَ أَصْلُهُ: رَجُلٌ قَائِمٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: عَلَيْهِنَّ، الْخَبَرُ، وَ: لِلرِّجَالِ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْحَالِ إِذْ ذَاكَ مَعْنَوِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عَلَى جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ: قَائِمًا فِي الدَّارِ زَيْدٌ. وَهُوَ مَمْنُوعٌ لَا ضَعِيفٌ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، فَلَوْ تَوَسَّطَتِ الْحَالُ وَتَأَخَّرَ الْخَبَرُ، نَحْوَ: زَيْدٌ قَائِمًا فِي الدَّارِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي الْحَسَنِ، أَبُو الْحَسَنِ يُجِيزُهَا، وَغَيْرُهُ يَمْنَعُهَا.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِهِمَا لِأَنَّهُ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ مَا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ، وَالنَّهْيُ فِي قَوْلِ: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ، وَالْجَوَازُ فِي قَوْلِهِ:
462
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ، وَالْوُجُوبُ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ، نَاسَبَ وَصْفَهُ تَعَالَى بِالْعِزَّةِ وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، وَهِيَ تُنَاسِبُ التَّكْلِيفَ، وَنَاسَبَ وَصْفَهُ بِالْحِكْمَةِ وَهِيَ إِتْقَانُ الْأَشْيَاءِ وَوَضْعُهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَهِيَ تُنَاسِبُ التَّكْلِيفَ أَيْضًا.
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ رَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ طَلَّقَ أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ، فَطَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ رَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا رَجُلٌ اسْتَبْرَأَ، فَحِينَ طَلَّقَ شَارَفَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُقَرِّبُكِ إِلَيَّ وَلَا تَخْلِينَ مِنِّي، فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ.
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ قَبْلَهَا الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ، وَكَانُوا يُطَلِّقُونَ وَيُرَاجِعُونَ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ وَلَا عَدٍّ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ: مَرَّتَانِ، فَحَصَرَ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ فِي أَنَّهُ مَرَّتَانِ، أَيْ يَمْلِكُ الْمُرَاجَعَةَ إِذَا طَلَّقَهَا، ثُمَّ يَمْلِكُهَا إِذَا طَلَّقَ، ثُمَّ إِذَا طَلَّقَ ثَالِثَةً لَا يَمْلِكُهَا. وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: عدد الطلاق الَّذِي يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ مَرَّتَانِ، وَالثَّالِثَةُ لَا يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ.
فَعَلَى هَذَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الطَّلَاقِ لِلْعَهْدِ فِي الطَّلَاقِ السَّابِقِ، وَهُوَ الَّذِي تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ، وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ، وَقَتَادَةُ، وَقِيلَ: طَلَاقُ السُّنَّةِ الْمَنْدُوبِ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِذَلِكَ تَفْرِيقُ الطَّلَاقِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا، وَهُوَ يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ مَرَّتَيْنِ مَعًا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: طَلَّقَهَا مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: أَعْطَاهُ مَرَّتَيْنِ، حَتَّى يُفَرِّقَ الدَّفْعَ، فَحِينَئِذٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ. هَكَذَا بَحَثُوهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ بَحْثٌ صَحِيحٌ.
وَمَا زَالَ يَخْتَلِجُ فِي خَاطِرِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ لِلطَّلَاقِ، وَيَقْتَضِي الْعَدَدَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ عَامِلٌ فِيهِ يَتَكَرَّرُ وُجُودًا، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ ضَرْبَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُوَ مُبَيِّنٌ لِعَدَدِ الْفِعْلِ، فَمَتَى لَمْ يَتَكَرَّرْ وُجُودًا اسْتَحَالَ أَنْ يُكَرِّرَ مَصْدَرَهُ وَأَنْ يُبَيِّنَ رُتَبَ الْعَدَدِ، فَإِذَا قَالَ:
أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَهَذِهِ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَمَدْلُولُهُ وَاحِدٌ، وَالْوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا أَوِ اثْنَيْنِ، وَنَظِيرُ هَذَا أن ينشىء الْإِنْسَانُ بَيْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ فِي شَيْءٍ ثُمَّ يَقُولُ عِنْدَ التَّخَاطُبِ:
بِعْتُكَ هَذَا ثَلَاثًا، فَقَوْلُهُ ثَلَاثًا لَغْوٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا قَبْلَهُ، وَالْإِنْشَاءَاتُ أَيْضًا يَسْتَحِيلُ التَّكْرَارُ
463
فِيهَا حَتَّى يَصِيرَ الْمُجْمَلُ قَابِلًا لِذَلِكَ الْإِنْشَاءِ، وَهَذَا يَعْسُرُ إِدْرَاكُهُ عَلَى مَنِ اعْتَادَ أَنَّهُ يَفْهَمُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
قَالُوا: وَتَشْتَمِلُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَحْكَامٍ.
مِنْهَا أَنَّ مَسْنُونَ الطَّلَاقِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَعْدَادِ الثَّلَاثِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا، وَأَنَّ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ مُطَلِّقًا لِغَيْرِ السُّنَّةِ.
وَمِنْهَا أَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ ثَبَتَ مَعَ الرَّجْعَةِ، وأنه إذا طلق اثنتين فِي الْحَيْضِ وَقَعَتَا، وَإِنْ نُسِخَ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ.
وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلْوَقْتِ الْمَسْنُونِ فِيهِ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَكَانِ ذِكْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَسَّمُوا هَذَا الطَّلَاقَ إِلَى: وَاجِبٍ، وَمَحْظُورٍ، وَمَسْنُونٍ، وَمَكْرُوهٍ، وَمُبَاحٍ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ، فَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فَيَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ: الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، فَيَكُونُ حُكْمُهُمَا سَوَاءً، وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ اتِّفَاقَ السَّلَفِ وَفُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَيْنِ الْمَمْلُوكَيْنِ يَنْفَصِلَانِ بِالثِّنْتَيْنِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ بَعْدَهُمَا إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ أَمْرَ الْعَبْدِ فِي الطَّلَاقِ إِلَى الْمَوْلَى.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ رَقِيقًا، فَقِيلَ: الطَّلَاقُ بِالنِّسَاءِ، فَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً تَحْتَ عَبْدٍ أَوْ حُرٍّ فَطَلَاقُهَا ثَلَاثٌ، أَوْ أَمَةً تَحْتَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ فَطَلَاقُهُمَا ثِنْتَانِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ.
وَقِيلَ: الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ، فَلَوْ كَانَتْ أَمَةً تَحْتَ حُرٍّ فَطَلَاقُهَا ثَلَاثٌ، أَوْ حُرَّةً تَحْتَ عَبْدٍ فَطَلَاقُهَا ثِنْتَانِ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ.
وَالطَّلَاقُ مَصْدَرُ طُلِّقَتِ الْمَرْأَةُ طَلَاقًا، وَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّطْلِيقِ. كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَمَرَّتَانِ خَبَرُهُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: عدد الطلاق الْمَشْرُوعِ فِيهِ الرَّجْعَةُ، أَوِ الطَّلَاقُ الشَّرْعِيُّ الْمَسْنُونُ مَرَّتَانِ، وَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُضَافِ حَتَّى يَكُونَ الْخَبَرُ هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وَ: مَرَّتَانِ، تَثْنِيَةً حَقِيقَةً، لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ أَوِ الْمَسْنُونَ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، عَدَدُهُ هُوَ مَرَّتَانِ عَلَى التَّفْرِيقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا كَوْنَهُ يَكُونُ عَلَى التَّفْرِيقِ. وَقَالَ
464
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَرَّتَيْنِ التثنية والتكرار كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ «١» أَيْ: كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، لَا كَرَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّتَالِي الَّتِي يُرَادُ بِهَا التكرير، قَوْلُهُمْ:
لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ، وَحَنَانَيْكَ، وهذا ذيك، وَدَوَالَيْكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمُخَالِفٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
أَمَّا مُنَاقَضَتُهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، أَيِ: التَّطْلِيقُ الشَّرْعِيُّ تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ عَلَى التَّفْرِيقِ. دُونَ الْجَمْعِ، وَالْإِرْسَالِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَقَوْلُهُ: تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ مُنَاقِضٌ فِي الظَّاهِرِ لِقَوْلِ: وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَرَّتَيْنِ التَّثْنِيَةَ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُكَ ضَرْبَةً بَعْدَ ضَرْبَةٍ، إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ، وَهُوَ مُسَاوٍ فِي الدَّلَالَةِ لِقَوْلِكَ: ضَرَبْتُكَ ضَرْبَتَيْنِ، وَلِأَنَّ قَوْلَكَ: ضَرْبَتَيْنِ، لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُمَا إِلَّا ضَرْبَةً بَعْدَ ضَرْبَةٍ.
وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنَ التَّثْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلتَّكْرِيرِ، لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّكْرِيرُ لَا يَقْتَضِي بِتَكْرِيرِهَا ثِنْتَيْنِ وَلَا ثَلَاثَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى التَّكْرِيرِ مِرَارًا، فَقَوْلُهُمْ: لَبَّيْكَ، مَعْنَاهُ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ فَمَا زَادَ، وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: كَرَّتَيْنِ، مَعْنَاهُ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ مِرَارًا كَثِيرَةً وَالتَّثْنِيَةُ فِي قَوْلِهِ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا شَفْعُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي التَّثْنِيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَادُ هُنَا بِقَوْلِهِ: مَرَّتَانِ، مَا يَزِيدُ عَلَى الثِّنْتَيْنِ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ هِيَ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ؟ وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدُ:
فَإِنْ طَلَّقَها أَيْ: فَإِنْ سَرَّحَهَا الثَّالِثَةَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: مَرَّتَانِ دَالًّا عَلَى التَّكْرَارِ الَّذِي لَا يَشْفَعُ، بَلْ هُوَ مُرَادٌ بِهِ شَفْعُ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا غَرَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحِيَةُ التَّقْدِيرِ بِقَوْلِهِ: الطَّلَاقُ الشَّرْعِيُّ تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّثْنِيَةِ الَّتِي لَا يشفع الْوَاحِدَ، وَمُرَادٌ بِهَا التَّكْثِيرُ. إِلَّا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَصْلَ شَفْعُ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ التَّثْنِيَةَ الَّتِي لَا تَشْفَعُ الْوَاحِدَ وَيُرَادُ بِهَا التَّكْرَارُ لَا يُقْتَصَرُ بِهَا عَلَى الثَّلَاثِ فِي التَّكْرَارِ، وَلَمَّا حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَرَّتَيْنِ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّثْنِيَةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّكْرِيرُ، احْتَاجَ أَنْ يَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عَلَى أَنَّهُ تَخْيِيرٌ لَهُمْ، بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُطَلِّقُونَ، بَيْنَ أَنْ يُمْسِكُوا النِّسَاءَ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ والقيام بمواجبهنّ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَرِّحُوهُنَّ السَّرَاحَ الْجَمِيلَ الَّذِي عَلَّمَهُمْ.
وَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فيه قولان للسلف.
(١) سورة الملك: ٦٧/ ٤.
465
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيَانٌ لِعَدَدِ الطَّلَاقِ الَّذِي لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْتَجِعَ مِنْهُ دُونَ تَجْدِيدِ مَهْرٍ وَوَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُرْوَةُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعْرِيفُ سُنَّةِ الطَّلَاقِ، أَيْ: مَنْ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الثَّالِثَةِ، فَإِمَّا تَرْكُهَا غَيْرَ مَظْلُومَةٍ شَيْئًا مِنْ حَقِّهَا، وَإِمَّا إِمْسَاكُهَا مُحْسِنًا عِشْرَتَهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الِارْتِجَاعُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ إِلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَالْتِزَامِ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَقَالَ: وَقِيلَ مَعْنَاهُ: الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ مَرَّتَانِ، لِأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَيْ بِرَجْعَةٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ أَيْ بِأَنْ لَا يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَبِينَ بِالْعِدَّةِ، أَوْ بِأَنْ لَا يُرَاجِعَهَا مُرَاجَعَةً يُرِيدُ بِهَا تَطْوِيلَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَضِرَارَهَا، وَقِيلَ:
بِأَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّالِثَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ»
. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَتَفْسِيرُ: التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ، أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَبِينَ بِالْعِدَّةِ، هُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ. وَقَوْلُهُ: أَوْ بِأَنْ لَا يُرَاجِعَهَا مُرَاجَعَةً يُرِيدُ بِهَا تَطْوِيلَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَضِرَارَهَا، كَلَامٌ لَا يَتَّضِحُ تَرْكِيبُهُ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يُرَاجِعَهَا مُرَاجَعَةً حَسَنَةً مَقْصُودًا بِهَا الْإِحْسَانُ وَالتَّآلُفُ وَالزَّوْجِيَّةُ، فَيَصِيرُ هَذَا قَسِيمُ قَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ مُرَاجَعَةٌ مُرَاجَعَةً حَسَنَةً. وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَلْتَئِمُ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلَوْ فُسِّرَ بِهِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ لَكَانَ صَوَابًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقِيلَ بأن يطلقها الثالثة، فَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ، وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ عِنْدِي مِنْ ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ذِكْرُ الطَّلْقَتَيْنِ، فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هِيَ قَوْلُهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ».
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّسْرِيحَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ قرىء: وَإِنْ عَزَمُوا السَّرَاحَ؟.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فَعَّلَ تَفْعِيلًا، هَذَا التَّضْعِيفُ يُعْطِي أَنَّهُ أَحْدَثَ فِعْلًا مُكَرَّرًا عَلَى
466
الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ فِي التَّرْكِ إِحْدَاثُ فِعْلٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّفْعِيلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ: أَنَّ: الطَّلَاقَ، الْأَلِفُ وَاللَّامُ في لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَ قَوْلِهِ: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ وَهُوَ مَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَأَنَّ قَوْلَهُ: مَرَّتانِ بَيَانٌ لِعَدَدِ هَذَا الطَّلَاقِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ بِالْفَاءِ الَّتِي هِيَ لِلتَّعْقِيبِ بَعْدَ صُدُورِ الطَّلْقَتَيْنِ، وَوُقُوعِهَا كِنَايَةٌ عَنِ الرَّدِّ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَفَاءُ التَّعْقِيبِ تَقْتَضِي التَّعْدِيَةَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ صَرِيحٌ فِي الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ وَمَا عُطِفَ عَلَى الْمُتَعَقَّبِ بَعْدَ شَيْءٍ لَزِمَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَقِّبًا لِذَلِكَ الشيء، فجعل له حالتان بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفٍ، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ بِإِحْسَانٍ.
إِلَّا أَنَّ الْعَطْفَ بِأَوْ يَنْبُو عَنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، وَيَقْوَى إِذْ ذَاكَ أَنْ يَكُونَ التَّسْرِيحُ كِنَايَةً عَنِ التَّخْلِيَةِ وَالتَّرْكِ، لِأَنَّ المعنى يكون: الطلاق مرتين فَبَعْدَهُمَا أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْإِمْسَاكُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الرَّدِّ، وَإِمَّا التَّسْرِيحُ، فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنِ التَّخْلِيَةِ.
وَاسْتِمْرَارِ التَّسْرِيحِ لَا إِنْشَاءِ التَّسْرِيحِ، وَإِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى إِيقَاعِ التَّسْرِيحِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ الْمُعَبَّرِ بِهِ عَنِ الرَّدِّ، فَإِنْ قُدِّرَ شَرْطٌ مَحْذُوفٌ، وَجُعِلَ: فَإِمْسَاكٌ، جَوَابًا لِذَلِكَ الشَّرْطِ، وَجُعِلَ الْإِمْسَاكُ كِنَايَةً عَنِ اسْتِمْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ، أَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِالتَّسْرِيحِ إِنْشَاءُ الطَّلَاقِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ:
فَإِنْ أَوْقَعَ التَّطْلِيقَتَيْنِ وَرَدَّ الزَّوْجَةَ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، لِأَنَّ الرَّدَّ يَعْتَقِبُهُ أَحَدُ هَذَيْنِ، إِمَّا الِاسْتِمْرَارُ عن الزَّوْجِيَّةِ، فَيَكُونُ بِمَعْرُوفٍ، وَإِمَّا الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ وَيَكُونُ بِإِحْسَانٍ.
وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) مَا مُلَخَّصٌ مِنْهُ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ، قَالَ قَوْمٌ هُوَ مُبْتَدَأٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّطْلِيقَ الشَّرْعِيَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تطليقة بعد تطليقة على التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَهَذَا تَفْسِيرُ مَنْ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أُبَيٍّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلُّ الطَّلَاقِ مَرَّتَانِ، وَمَرَّةٌ ثَالِثَةٌ، وَهَذَا يُفِيدُ التَّفَرُّقَ لِأَنَّ الْمَرَّاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَفَرُّقِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَفْظُهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا قَالُوا: لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ، اخْتَلَفُوا فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْبَيْتِ: لَا يَقَعُ إِلَّا الْوَاحِدَةُ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَالْقَوْلُ؟؟؟
إِدْخَالٌ لِتِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ مَا لَفَظَ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ.
467
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ مَرَّتَانِ، وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ مَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّلَاثِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ قَبْلَهَا ذَكَرَ فِيهَا أَنَّ حَقَّ الْمُرَاجَعَةِ ثَابِتٌ لِلزَّوْجِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ ثَابِتٌ دَائِمًا أَوْ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْمُبَيِّنِ، أَوْ كَالْعَامِّ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْمُخَصِّصِ، فَبَيَّنَ مَا ثَبَتَ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَهُوَ: أَنْ يُوجَدَ طَلْقَتَانِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ. فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي:
الطَّلَاقِ، لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الرَّجْعَةُ، وَرَجَحَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ قَوْلَهُ:
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ كَانَ عَامًّا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ احْتَاجَ إِلَى مُخَصِّصٍ، أَوْ مُجْمَلًا لِعَدَمِ بَيَانِ شَرْطٍ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ عِنْدَهُ افْتَقَرَ إِلَى الْبَيَانِ، فَجَعْلُهَا مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا مُحَصِّلٌ لِلْمُخَصِّصِ أَوْ لِلْمُبَيِّنِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا تَأْخِيرُهُ فَالْأَرْجَحُ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، وَبِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى ذَلِكَ يُدْخِلُ سَبَبَ النُّزُولِ فِيهِ، وَحَمْلَهُ عَلَى تَنْزِيلِ حُكْمٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ يُخْرِجُهُ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ خَارِجًا عَنِ الْعُمُومِ.
وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) أَيْضًا مَا مُلَخَّصٌ مِنْهُ: مَعْنَى التَّسْرِيحِ قَبْلَ وُقُوعِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَبْلَ تَرْكِ الْمُرَاجَعَةِ حَتَّى تَبِينَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها تَقْتَضِي وُقُوعَ هَذِهِ الطَّلْقَةِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ ذَلِكَ التَّسْرِيحِ، فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ الثَّالِثَةُ لَكَانَ: فَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَابِعَةً، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ بَعْدَهُ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُلْعُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَعْدَ الثَّلَاثِ، فَإِنْ صَحَّ تَفْسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِلتَّسْرِيحِ هُنَا أَنَّهَا الثَّالِثَةُ، فَلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. انْتَهَى مَا قُصِدَ تَلْخِيصُهُ مِنَ (الْمُنْتَخَبِ).
وَلَا يَلْزَمُ بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَهَا رَابِعَةً، كَمَا قَالَ، لِأَنَّهُ فَرَضَ التَّسْرِيحَ وَاقِعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَ مَرَّتَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَرُدَّ وَيُمْسِكَ بِمَعْرُوفٍ، وَالْآخَرُ أَنْ يُسَرِّحُ بَعْدَ الرَّدِّ بِإِحْسَانٍ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ وَقَعَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: وَهُوَ الطَّلَاقُ، فَحُكْمُهُ كَذَا، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَاقِعُ مُغَايِرًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ السَّابِقَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: الرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ تُقِيمَ أَوْ تَرْحَلَ، فَإِنْ رَحَلْتَ كَانَ كَذَا، فَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: فَإِنْ رَحَلْتَ عَلَى أَنَّهُ رَحِيلٌ غَيْرُ الْمُتَرَدَّدِ فِي حُصُولِهِ، وَلَا يَدُلُّ التَّرَدُّدُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالرَّحِيلِ عَلَى وُقُوعِ الرَّحِيلِ، لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مَا ذُكِرَ مِنْ تَرَتُّبِ الْخُلْعِ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، بَلْ ذَكَرَ الْخُلْعَ قَبْلَ ذِكْرِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، لِأَنَّهُ
468
بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنْ طَلَّقَها وَأَيْضًا لَوْ سَلَّمْنَا وُقُوعَ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ لِتَبْيِينِ حُكْمِ الْخُلْعِ، وَإِنْشَاءِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَكَوْنُهَا سِيقَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ فِي التِّلَاوَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ إِلَّا لَوْ صَرَّحَ بِقَيْدٍ يَقْتَضِي تَأَخُّرَ الْخُلْعِ فِي الْوُجُودِ عَنْ وُجُودِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ.
وَارْتِفَاعُ قَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مُتَأَخِّرًا تَقْدِيرُهُ: أَمْثَلُ وَأَحْسَنُ، وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ مُتَقَدِّمًا أَيْ: فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، وَجَوَّزَ فِيهِ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَالْوَاجِبُ إِمْسَاكٌ، وَ: بمعروف، وبإحسان، يَتَعَلَّقُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا يَلِيهِ مِنَ الْمَصْدَرِ، وَ: الْبَاءُ، لِلْإِلْصَاقِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ صِفَةً لِمَا قَبْلَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَقَالُوا: يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ نَصْبُ إِمْسَاكٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ، عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: فَأَمْسِكُوهُنَّ إِمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ سَرِّحُوهُنَّ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ.
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً الْآيَةَ. سَبَبُ النُّزُولِ
أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَتْ تُبْغِضُهُ وَهُوَ يُحِبُّهَا، فَشَكَتْهُ إِلَى أَبِيهَا فَلَمْ يَشْكُهَا، ثُمَّ شَكَتْهُ إِلَيْهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَبِهَا أَثَرُ ضَرْبٍ فَلَمْ يَشْكُهَا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَتْهُ إِلَيْهِ وَأَرَتْهُ أَثَرَ الضَّرْبِ، وَقَالَتْ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَهُ شَيْءٌ، وَاللَّهِ لَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، لَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ مَا أُطِيقُهُ بُغْضًا، إِنِّي رَفَعْتُ جَانِبَ الْخِيَامِ فَرَأَيْتُهُ أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ وَهُوَ أَشَدُّهُمْ سَوَادًا، وَأَقْصَرُهُمْ قَامَةً، وَأَقْبَحُهُمْ وَجْهًا، فَقَالَ ثَابِتٌ: مَا لِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهَا بَعْدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ أَعْطَيْتُهَا حَدِيقَةً تَرُدُّهَا عَلَيَّ، وَأَنَا أُخَلِّي سَبِيلَهَا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَخَلَّى سَبِيلَهَا، وَكَانَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ أَوِ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مِنَ الإحسان أن لا يَأْخُذَ الزَّوْجُ مِنَ امْرَأَتِهِ شَيْئًا مِمَّا أَعْطَى وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ قِصَّةَ الْخُلْعِ، فَأَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي الْآيَةِ، وَكَمَا قال اللَّهُ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً «١» الْآيَةَ، وَالْخِطَابُ فِي: لكم،
(١) سورة: النساء: ٤/ ٢٠.
469
وَمَا بَعْدَهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ الْأَخْذَ وَالْإِيتَاءَ مِنَ الْأَزْوَاجِ حَقِيقَةٌ، فَنُهُوا أَنْ يَأْخُذُوا شَيْئًا، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِشُحِّ النَّفْسِ وَطَلَبِهَا مَا أَعْطَتْ عِنْدَ الشِّقَاقِ وَالْفِرَاقِ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ لِيَلْتَئِمَ مَعَ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لَهُمْ لَا لِلْأَزْوَاجِ، وَنَسَبَ الْأَخْذَ وَالْإِيتَاءَ إِلَيْهِمْ عِنْدَ التَّرَافُعِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُمْضُونَ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْأَزْوَاجِ أَجَابَ بِأَنَّ الْخِطَابَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ، فَيُفْرَدُ كُلُّ خِطَابٍ إِلَى مَنْ يَلِيقُ بِهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ، وَلَا يُسْتَنْكَرُ مِثْلُ هَذَا، وَيَكُونُ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِذْ ذَاكَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ، ومِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ ظَاهِرٌ فِي عُمُومِ مَا آتَوْا عَلَى سَبِيلِ الصَّدَاقِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ هِبَةٍ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بالصدقات، واللفظ عام، وشَيْئاً إِشَارَةٌ إِلَى خَطَرِ الْأَخْذِ مِنْهُنَّ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وشَيْئاً نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ فَتَعُمُّ، وَ: مِمَّا، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تَأْخُذُوا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: شَيْئًا، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ نَعْتًا لَهُ.
إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي يَخَافَا وَيُقِيمَا عَائِدٌ عَلَى صِنْفَيِ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مُخَاطَبٌ وَغَائِبٌ، وَأُسْنِدَ إِلَيْهِمَا حُكْمٌ كَانَ التَّغْلِيبُ لِلْمُخَاطَبِ، فَتَقُولُ: أَنْتَ وَزَيْدٌ تَخْرُجَانِ، وَلَا يَجُوزُ يَخْرُجَانِ، وَكَذَلِكَ مَعَ التَّكَلُّمِ نَحْوَ: أَنَا وَزَيْدٌ نَخْرُجُ، وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مُضِيِّ الْجُمْلَةِ لِلْخِطَابِ جَازَ الِالْتِفَاتُ، وَلَوْ جَرَى عَلَى النَّسَقِ الْأَوَّلِ لَكَانَ: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا أَنْ لَا تُقِيمُوا، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ إِذْ ذَاكَ عَائِدًا عَلَى الْمُخَاطَبِينَ وَعَلَى أَزْوَاجِهِمْ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَيْ: صِنْفَا الزَّوْجَيْنِ، تَرْكَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، بِمَا يَحْدُثُ مِنْ بُغْضِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا حَتَّى تَكُونَ شِدَّةُ الْبُغْضِ سَبَبًا لِمُوَاقَعَةِ الْكُفْرِ، كَمَا فِي قِصَّةِ جَمِيلَةَ مَعَ زوجها ثابت، وأَنْ يَخافا قِيلَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، التَّقْدِيرُ: إِلَّا خَائِفِينَ، فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْأَحْوَالِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ الْخَوْفِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ: أَنْ، مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَالْمَصْدَرُ فِي مَوْضِعِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَهَذَا فِي إِجَازَتِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْمَصْدَرِ حَالًا لَا يَنْقَاسُ، فَأَحْرَى مَا وَقَعَ مَوْقِعُهُ، وَهُوَ: أَنْ الفعل، وَيَكْثُرُ الْمَجَازُ فَإِنَّ الْحَالَ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ: أَنْ وَالْفِعْلَ، الْوَاقِعَانِ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ.
وَقَدْ مَنَعَ سِيبَوَيْهِ وُقُوعَ: أَنْ وَالْفِعْلِ، حَالًا، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي آخِرِ: هَذَا بَابُ مَا يُخْتَارُ فِيهِ الرَّفْعُ وَيَكُونُ فِيهِ الْوَجْهُ فِي جَمِيعِ اللُّغَاتِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَّا بِسَبَبِ خَوْفِ عَدَمِ إِقَامَةِ حُدُودِ
470
اللَّهِ، فَذَلِكَ هُوَ الْمُبِيحُ لَكُمُ الْأَخْذَ، وَيَكُونُ حَرْفُ الْعِلَّةِ قَدْ حُذِفَ مَعَ: أَنْ، وَهُوَ جَائِزٌ فَصِيحًا كَثِيرًا، وَلَا يَجِيءُ هُنَا، خِلَافَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، أَنَّهُ إِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ مِنْ: أَنْ، هَلْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ؟ بَلْ هَذَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالْمَصْدَرُ لَوْ صُرِّحَ بِهِ كَانَ مَنْصُوبًا، وَاصِلًا إِلَيْهِ الْعَامِلُ بِنَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُقَدَّرُ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ: أَنْ وَالْفِعْلَ، إِذَا كَانَا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، فَالْمَوْضِعُ نَصْبٌ لَا غَيْرَ، مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.
وَمَعْنَى الْخَوْفِ هُنَا الْإِيقَانُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، أَوِ: الْعِلْمُ أَيْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَا، قَالَهُ ابْنُ سَلَمَةَ، وَإِيَّاهُ أَرَادَ أَبُو مِحْجَنٍ، بِقَوْلِهِ:
أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقُهَا وَلِذَلِكَ رَفَعَ الْفِعْلَ بَعْدَ: أَنْ، أَوِ: الظَّنُّ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ أُبَيٌّ: إِلَّا أَنْ يَظُنَّا، وَأَنْشَدَ:
أَتَانِي كَلَامُ مَنْ نُصِيبُ بِقَوْلِهِ وَمَا خِفْتُ يَا سَلَّامَ أَنَّكَ عَايِبِي
وَالْأَوْلَى بَقَاءُ الْخَوْفِ عَلَى بَابِهِ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَذَرُ مِنَ الشَّيْءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ. أَوْ يَظُنَّ أَوْ يُوقِنَ أَوْ يَحْذَرَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ، أَنْ لا يقيم حقوق الزوجة لِصَاحِبِهِ حَسْبَمَا يَجِبُ، فَيَجُوزُ الْأَخْذُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِلَّا أن يخافوا أن لَا يُقِيمُوا حُقُوقَ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْأَزْوَاجُ وَالزَّوْجَاتُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ إِذْ لَوْ جَرَى عَلَيْهِ النَّسَقُ الْأَوَّلُ لَكَانَ بِالتَّاءِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَ أَيْضًا: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا بِالتَّاءِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَيَعْقُوبُ، وَيَزِيدُ بن القعقاع إِلَّا أَنْ يُخَافُوا، بِضَمِّ الْيَاءِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ المحذوف: الولاة.
وأن لَا يُقِيمَا، فِي مَوْضِعِ رَفْعِ بَدَلٍ مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ: إلا أن يخاف عدم إقامتهما حدود الله، وَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، كَمَا تَقُولُ: الزَّيْدَانُ أَعْجَبَانِي حُسْنُهُمَا، وَالْأَصْلُ: إِلَّا أَنْ يَخَافُوا، أَنَّهَا: الْوُلَاةُ، عَدَمَ إِقَامَتِهِمَا حُدُودَ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قِرَاءَةٍ يُخَافَا بِالضَّمِّ، أَنَّهَا تَعَدَّتْ خَافَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: أَحَدُهُمَا أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ، وَالْآخَرُ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ بِمَحْذُوفٍ، فَمَوْضِعُ أَنْ خَفْضُ الْجَارِّ الْمُقَدَّرِ عِنْدَ
471
سِيبَوَيْهِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَنُصِبَ عِنْدَ غَيْرِهِمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا حُذِفَ الْجَارُّ الْمُقَدَّرُ وَصَلَ الْفِعْلُ إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، مِثْلَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا، وَأَمَرْتُكَ الْخَيْرَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ نَصُّ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ، إِلَّا التَّنْظِيرَ بِأَسْتَغْفِرُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ تَنْظِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ خَافَ بِأَسْتَغْفِرُ، لِأَنَّ خَافَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، كَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ حِينَ عَدُّوا مَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَأَصْلُ أَحَدِهِمَا بِحَرْفِ الْجَرِّ، بَلْ إِذَا جَاءَ: خِفْتُ زَيْدًا ضَرْبَهُ عَمْرًا، كَانَ ذَلِكَ بَدَلًا، إِذْ: مِنْ ضَرْبِهِ عَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَلَا يُفْهَمُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَقَدْ وَهِمَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي نِسْبَةِ أَنَّ الْمَوْضِعَ خَفْضٌ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالَّذِي نَقَلَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمَوْضِعَ بَعْدَ الْحَذْفِ نَصْبٌ، وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْخَلِيلِ أَنَّهُ جَرٌّ، وَبِهِ قَالَ الْكِسَائِيُّ. وَقَدَّرَ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ ذَلِكَ الْحَرْفَ الْمَحْذُوفَ: عَلَى، فَقَالَ: وَالتَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ يَخَافَا عَلَى أَنْ يُقِيمَا، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أن يصح قول أبي عَلِيٍّ وَفِيهِ بُعْدٌ. وَقَدْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَنْ لَا يُحْسِنُ تَوْجِيهَ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ فِي اللَّفْظِ وَفِي الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُهَا قَوْلُهُ بَعْدُ: فَإِنْ خِفْتُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ الْمُتَوَقَّعَ هُوَ مِنْ غَيْرِ الْأَزْوَاجِ، وَقَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّفَّارُ: مَا عَلِمْتُ فِي اخْتِيَارِ حَمْزَةَ أَبْعَدَ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ الْإِعْرَابُ وَلَا اللَّفْظُ وَلَا الْمَعْنَى، أَمَّا الْإِعْرَابُ فَإِنْ يَحْتَجَّ لَهُ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إِلَّا أَنْ يُخَافُوا أَنْ لَا يُقِيمُوا، فَهُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِذْ ذَاكَ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَوْ قِيلَ إِلَّا أَنْ يُخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا؟ وَقَدِ احْتَجَّ الْفَرَّاءُ لِحَمْزَةَ، وَقَالَ: إِنَّهُ اعْتَبَرَ قِرَاءَةَ عَبْدِ الله: إلا أن يخافوا، وَخَطَّأَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ: لَمْ يُصِبْ، لِأَنَّ الْخَوْفَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَاقِعٌ عَلَى: أَنْ وَفِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَاقِعٌ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَأَمَّا اللَّفْظُ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ خِيفَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى لَفْظِ: فَإِنْ، وَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِلَّا أَنْ يَخَافُوا. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَ غَيْرُكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ جَلَّ وَعَزَّ:
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ مِنْهَا فِدْيَةً، فَيَكُونُ الْخُلْعُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا أَجَازَا الْخُلْعَ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ. انْتَهَى كَلَامُ الصَّفَّارِ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَلْزَمُ، وَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ الضَّمِّ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ وجب على الحكام منه مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَخَافَا، فالضمير لِلزَّوْجَيْنِ، وَالْخَائِفُ مَحْذُوفٌ وَهُمُ: الْوُلَاةُ وَالْحُكَّامُ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أن يَخَافُ الْأَوْلِيَاءُ الزَّوْجَيْنِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَيَجُوزُ الِافْتِدَاءُ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَوْفِ هُنَا.
472
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ خِيفَا فَلَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ فَتْحِ الْيَاءِ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ الصَّفَّارِ أَنْ يُقْرَأَ:
فَإِنْ خَافَا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَأَمَّا تَخْطِئَةُ الْفَرَّاءِ فَلَيْسَتْ صَحِيحَةً، لِأَنَّ قِرَاءَةَ عَبْدِ الله: إلا أن يخافوا، دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: إِلَّا أَنْ يَخَافُوهُمَا أَنْ لَا يُقِيمَا، وَالْخَوْفُ وَاقِعٌ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ عَلَى أَنْ، لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ضَمِيرِهِمَا، وَهُوَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلُ، فَلَيْسَ عَلَى مَا تَخَيَّلَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: خِيفَ زَيْدٌ شَرُّهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَبْعُدُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ لَهُمَا الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، فَمَتَى ظَنُّوا أَوْ أَيْقَنُوا تَرْكَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لَهُمُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدِ اخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ الضَّمِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ خِفْتُمْ، فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجَيْنِ لَقَالَ: فَإِنْ خَافَا.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قوله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ إِلَى آخِرِهِ، جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ.
فَإِنْ خِفْتُمْ: الضَّمِيرُ لِلْأَوْلِيَاءِ أَوِ السُّلْطَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَلِصُلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ مَنْ قَامَ بِهِ أَجْزَأَ.
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتَرْكُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ هُوَ ظُهُورُ النُّشُوزِ وَسُوءُ الْخُلُقِ مِنْهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَالِكٌ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَوْ عَدَمُ طَوَاعِيَةِ أَمْرِهِ وَإِبْرَارِ قَسَمِهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ: وَإِظْهَارُ حَالِ الْكَرَاهَةِ لَهُ بِلِسَانِهَا، قَالَهُ عَطَاءٌ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ قِيلَ:
تَكُونُ التَّثْنِيَةُ أُرِيدَ بِهَا الْوَاحِدُ، أَوْ كَرَاهَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَلَا يُقِيمُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ، قاله طاووس، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ التَّثْنِيَةُ عَلَى بَابِهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً نَشَزَتْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ، فَبَيَّتَهَا فِي اصْطَبْلٍ فِي بَيْتِ الزِّبْلِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، ثُمَّ دَعَاهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِ مَكَانَكِ فَقَالَتْ مَا رَأَيْتُ لَيَالِيَ أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْهَا، وَمَا وَجَدْتُ الرَّاحَةَ مُذْ كُنْتُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذِهِ اللَّيَالِي. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَأَبِيكُمُ النُّشُوزُ، وَقَالَ لِزَوْجِهَا اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا، اخْتَلِعْهَا بِمَا دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا، فَلَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، قَالُوا: وَهُوَ يَقْتَضِي مَفْهُومُهُ
473
أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِحُضُورِ مَنْ لَهُ الْحُكْمُ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ وَلِيٍّ، وَخَوْفُهُ تَرْكَ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، وَمَا قَالُوهُ مِنَ اقْتِضَاءِ الْمَفْهُومِ وُجُودَ الْخَوْفِ صَحِيحٌ، أَمَّا الْحُضُورُ فَلَا.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ إِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَخَصَّ الْحَسَنُ الْخُلْعَ بِحُضُورِ السُّلْطَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي: عَلَيْهِمَا، عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ مَعًا، أَيْ:
لَا جُنَاحَ عَلَى الزَّوْجِ فِيمَا أخذ، وَلَا عَلَى الزَّوْجَةِ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عَلَيْهِمَا، أَيْ: عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا «١» أَيِ: الْمَالِحُ ونَسِيا حُوتَهُما «٢» وَالنَّاسِي يُوشَعُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعَا
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ الْعُمُومُ بِصَدَاقِهَا، وَبِأَكْثَرَ منه، وبكل مالها قاله عمر، وابنه وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ
وَقِيلَ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ مِنَ الصَّدَاقِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ مِنْهُ، قَالَهُ عَلِيٌّ
، وطاووس، وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الرَّبِيعِ، وَكَانَ يَقْرَأُ، هُوَ وَالْحَسَنُ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ مِنْهُ، بِزِيَادَةِ: مِنْهُ، يَعْنِي مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ، وَهُوَ الْمَهْرُ وَحَكَى مَكِّيٌّ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: بِبَعْضِ صَدَاقِهَا، وَلَا يَجُوزُ بِجَمِيعِهِ إِذَا دَخَلَ بِهَا حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ بَقِيَّةٌ لِيَكُونَ بَدَلًا عَنِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ تَشْرِيكُهُمَا فِي تَرْكِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَأَنَّ جَوَازَ الْأَخْذِ مَنُوطٌ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعًا. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا بَعْدَ الْخَوْفِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، وَأَكَّدَ التَّحْرِيمَ بِقَوْلِهِ: فَلا تَعْتَدُوها ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى الِاعْتِدَاءِ، وَأَجْمَعَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ مَالِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ وَفَسَادُ الْعِشْرَةِ مِنْ قِبَلِهَا، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رُوِّينَا مَعْنَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالْقَاسِمِ، وَعُرْوَةَ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَغَيْرُهُمَا: إِنْ كَانَ مَعَ فَسَادِ الزَّوْجَةِ وَنُشُوزِهَا فَسَادٌ مِنَ الزَّوْجِ،
(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٢.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٦١.
474
وَتَفَاقَمَ مَا بَيْنَهُمَا، فَالْفِدْيَةُ جَائِزَةٌ لِلزَّوْجِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ، لَوْ تَرَكَ فَسَادَهُ لَمْ يَزَلْ نُشُوزُهَا هِيَ، وَأَمَّا إِنِ انْفَرَدَ الزَّوْجُ بِالْفَسَادِ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا يُجِيزُ لَهُ الْفِدْيَةَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا جَاءَ الظُّلْمُ وَالنُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ، فَخَالَعَتْهُ، فَهُوَ جَائِزٌ مَاضٍ، وَهُوَ آثِمٌ لَا يَحِلُّ مَا صَنَعَ، وَلَا يَرُدُّ مَا أَخَذَ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُهُ: أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ وَقَالَ مَالِكٌ: يَمْضِي الطَّلَاقُ إِذْ ذَاكَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهَا مَالَهَا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، فِي مَنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مَرِيضَةٌ: إِنْ كَانَتْ نَاشِزَةً كَانَ فِي ثُلُثِهَا، أَوْ غَيْرَ نَاشِزَةٍ رَدَّ عَلَيْهَا وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، قَالَ: وَلَوِ اجْتَمَعَا عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ قَبْلَ الْبِنَاءِ مِنْهَا، وَلَمْ يَبِنْ مِنْهَا نُشُوزٌ، لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إِنْ كَانَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا، أَوْ مِنْ قِبَلِهَا فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقَعِ الْخَوْفُ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُعْطِيَ عَلَى الْفِرَاقِ، وَشَذَّ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا خُلْعًا، لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، قَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ «١» الْآيَةَ، وَضَعُفَ قَوْلُهُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى إِجَازَةِ الْفِدْيَةِ، وَبِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَرِنَ بِآيَةِ الْفِدْيَةِ غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي فِي آيَةِ إِرَادَةِ الِاسْتِبْدَالِ.
وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَنْدَرِجُ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ الضَّرَرُ، والمجهول، كالثمر الَّذِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ، وَالْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ، وَمَا يُثْمِرُهُ نَخْلُهَا، وَمَا تَلِدُهُ غَنَمُهَا وَإِرْضَاعِ وَلَدِهَا مِنْهُ؟ وَكُلُّ هَذَا وَمَا فَرَّعُوا عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
قَالُوا: وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ إِذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ، لِقَوْلِهِ بَعْدُ فَإِنْ طَلَّقَها وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ هِيَ الثَّالِثَةُ، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ قَبْلَهَا طَلَاقًا لَكَانَتْ رَابِعَةً، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ قَالَهُ ابن عباس، وطاووس، وَعِكْرِمَةُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: أَنَّهُ طَلَاقٌ
، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَلَا يَدُلُّ ظَاهِرُهَا عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ كَمَا ذَكَرُوا، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا جِيءَ بِهَا لبيان أحكام
(١) سورة النساء: ٤/ ٢٠.
475
الْخُلْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لَهُ، أَهُوَ فَسْخٌ أَمْ طَلَاقٌ؟ فَلَوْ نَوَى تَطْلِيقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مَا نَوَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها إِشَارَةٌ إِلَى الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ إِلَى هُنَا، وَإِبْرَازُ الْحُدُودِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ، لَا بِالضَّمِيرِ، دَلِيلٌ عَلَى التَّعْظِيمِ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفِي تَكْرَارِ الْإِضَافَةِ تَخْصِيصٌ لَهَا وَتَشْرِيفٌ، وَيَحْسُنُ التَّكْرَارُ بِالظَّاهِرِ كَوْنَ ذَلِكَ فِي جُمَلٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَ: تِلْكَ، مُبْتَدَأٌ، وَ: حُدُودُ اللَّهِ، الْخَبَرُ. وَمَعْنَى: فَلَا تَعْتَدُوهَا، أَيْ: لَا تُجَاوِزُوهَا إِلَى مَا لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِهِ.
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لَمَّا نَهَى عَنِ اعْتِدَاءِ الْحُدُودِ، وَهُوَ تَجَاوُزُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ خِطَابًا لِمَنْ سَبَقَ لَهُ الْخِطَابُ قَبْلَ ذَلِكَ، أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِمَّنْ يَتَعَدَّى الْحُدُودَ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمُ الظَّالِمُونَ، وَالظُّلْمُ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَشَمِلَ بِذَلِكَ الْمُخَاطَبِينَ. قِيلَ: وَغَيْرَهُمْ.
وَ: مَنْ، شَرْطِيَّةٌ، وَالْفَاءُ فِي: فَأُولَئِكَ، جواب الشرط، و: حمل يَتَعَدَّ عَلَى اللَّفْظِ، فَأُفْرِدَ، وَ: أُولَئِكَ، عَلَى الْمَعْنَى. فَجُمِعَ وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: هُمْ، وَأَتَى فِي قَوْلِهِ: الظَّالِمُونَ، بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الَّتِي تُفِيدُ الْحَصْرَ، أَوِ الْمُبَالَغَةَ فِي الْوَصْفِ، وَيُحْتَمَلُ: هُمْ، أَنْ تَكُونَ فَصْلًا مُبْتَدَأً وَبَدَلًا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٠]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
فَإِنْ طَلَّقَها يَعْنِي الزَّوْجَ الَّذِي طَلَّقَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ سَرَّحَهَا التَّسْرِيحَةَ الثَّالِثَةَ الْبَاقِيَةَ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ. وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخُ عِصْمَةٍ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَيُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ لِلطَّلَاقَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخُلْعَ، ثُمَّ ذَكَرَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الطَّلَاقَيْنِ، وَلَمْ يَكُ لِلْخُلْعِ حُكْمٌ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَأَمَّا مَنْ يَرَاهُ طَلَاقًا فَقَالَ: هَذَا اعْتِرَاضٌ بَيِّنُ الطَّلْقَتَيْنِ وَالثَّالِثَةُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُ
476
شَيْءٍ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ إِلَّا بِالشَّرِيطَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ، وَهُوَ حُكْمٌ صَالِحٌ أَنْ يُوجَدَ فِي كُلِّ طَلْقَةٍ طَلْقَةُ وُقُوعِ آيَةِ الْخُلْعِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ حُكْمِيَّةٌ، أَنَّ الرَّجْعَةَ وَالْخُلْعَ لَا يَصْلُحَانِ إِلَّا قَبْلَ الثَّالِثَةِ، فَأَمَّا بَعْدَهَا فَلَا يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ كَالْخَاتِمَةِ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ.
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أَيْ: مِنْ بَعْدِ هَذَا الطَّلَاقِ الثَّالِثِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وَالنِّكَاحُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَعَلَى الْوَطْءِ، فَحَمَلَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَذَكَرَهُ النَّحَّاسُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ لَهُ عَلَى الْعَقْدِ، وَقَالَ: إِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا الثَّانِي حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يُصِبْهَا، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ لِحَدِيثِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْمَشْهُورِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَحِلُّ إِلَّا الْوَطْءُ وَالْإِنْزَالُ، وَهُوَ ذَوْقُ الْعَسِيلَةِ. وَقَالَ بَاقِي الْعُلَمَاءِ: تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ يُحِلُّ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ يُحِلُّ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِلْقَوْلِ قَبْلَهُ، إِذْ لَا يَلْتَقِيَانِ إِلَّا مَعَ الْمَغِيبِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَفِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ جَائِزٌ، إِذْ لَمْ يَعْنِي الْحِلَّ إِلَّا بِنِكَاحِ زَوْجٍ، وَهَذَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ نِكَاحُ زَوْجٍ فَهُوَ جَائِزٌ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَدَاوُدُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ فِي رِوَايَةٍ، وَالثَّوْرِيِّ فِي رِوَايَةٍ. وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِهِ (الْجَدِيدِ الْمِصْرِيِّ) إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ التَّحْلِيلَ فِي حِينِ الْعَقْدِ، وَقَالَ الْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَرَبِيعَةُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعْدٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحَلِّلَهَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجَانِ، وَهُوَ مَأْجُورٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ: لَا يَجُوزُ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَلَا يُقَرُّ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ عَلِمَا أَمْ لَمْ يَعْلَمَا. وَعَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ بَطَلَ الشَّرْطُ، وَجَازَ النِّكَاحُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي ذَلِكَ وَفِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ: إِذَا عَلِمَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بِالتَّحْلِيلِ فَسَدَ النِّكَاحُ.
وَفِي قَوْلِهِ: زَوْجًا غَيْرَهُ، دَلَالَةٌ عَلَى
أَنَّ النَّاكِحَ يَكُونُ زَوْجًا، فَلَوْ كَانَتْ أَمَةً وَطُلِّقَتْ ثَلَاثًا، أَوِ اثْنَتَيْنِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، ثُمَّ وَطِئَهَا سَيِّدُهَا لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ، قَالَهُ عَلِيٌّ
، وَعُبَيْدَةُ، وَمَسْرُوقٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَجَابِرٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَحَمَّادٌ، وَأَبُو زِيَادٍ، وَجَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالزُّبَيْرِ أَنَّهُ يُحِلُّهَا إِذَا غَشِيَهَا غَشَيَانًا لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ مُخَادَعَةً وَلَا إِحْلَالًا، وَتَرْجِعُ إِلَى زَوْجِهَا بِخِطْبَةٍ وَصَدَاقٍ.
وَفِي قَوْلِهِ: زَوْجًا، دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا وَهِيَ أَمَةٌ وَوَهَبَهَا السَّيِّدُ لَهُ
477
بَعْدَ بَتِّ طَلَاقِهَا، أَوِ اشْتَرَاهَا الزَّوْجُ بَعْدَ مَا بَتَّ طَلَاقُهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: عَلَى هَذَا جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وطاووس، وَالْحَسَنُ: تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.
وَفِي قَوْلِهِ: زَوْجًا غَيْرَهُ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تزويج الذِّمِّيَّةَ الْمَبْتُوتَةَ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالثَّلَاثِ ذِمِّيٌّ، وَدَخَلَ بِهَا، وَطُلِّقَتْ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ، وَرَبِيعَةُ: لَا يُحِلُّهَا.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا، أَنَّهُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَلَوْ نُكِحَتْ نِكَاحًا فَاسِدًا لَمْ يَحِلَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عبيد، وأصحاب أبي حنيفة. وَقَالَ الْحَكَمُ: هُوَ زَوْجٌ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَالَتْ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ: قَدْ تَزَوَّجْتُ، وَدَخَلَ عَلَيَّ زَوْجِي وَصَدَّقَهَا. أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْوَرَعُ أَنْ لَا يَفْعَلَ إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهَا كَذَبَتْهُ.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أن سمي زَوْجٍ كَافٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَوِيَّ النِّكَاحِ أَمْ ضَعِيفَهُ أَوْ صَبِيًّا أَوْ مُرَاهِقًا أَوْ مَجْبُوبًا بَقِيَ لَهُ مَا يُغَيِّبُهُ كَمَا يُغَيِّبُ، غَيْرُ الْخَصِيِّ، وَسَوَاءً أَدْخَلَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِهَا، وَكَانَتْ مُحْرِمَةً أَوْ صَائِمَةً، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا وَصَفَ الشَّافِعِيُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَوْ وَطِئَهَا نَائِمَةً أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا لَمْ تَحِلَّ لِمُطَلِّقِهَا، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لِذَلِكَ الزَّوْجِ إِلَّا بِخَمْسَةِ شَرَائِطَ: تَعْتَدُّ مِنْهُ، وَيُعْقَدُ للثاني، ويطأها، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، وَتَعْتَدُّ مِنْهُ.
وَكَوْنُ الْوَطْءِ شَرْطًا قِيلَ: ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَقِيلَ: بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ، وَقِيلَ:
هُوَ الْمُخْتَارُ. لِأَنَّ أَبَا عَلِيٍّ نَقَلَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً بِمَعْنَى عَقَدَ عَلَيْهَا. وَنَكَحَ امْرَأَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَيْ: جَامَعَهَا. وَقَدْ مَرَّ لَنَا طُرُقٌ مِنْ هَذَا.
قَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) : بَعْدَ كَلَامٍ كَثِيرٍ مَحْصُولُهُ أَنَّ قَوْلِهِ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيره، يدل على تَقَدَّمَ الزَّوْجِيَّةَ. وَهِيَ الْعَقْدُ الْحَاصِلُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ النِّكَاحُ عَلَى مَنْ سَبَقَتْ زَوْجَتُهُ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: تَنْكِحَ، دَالًّا عَلَى الْوَطْءِ، وَ: زَوْجًا: يَدُلُّ عَلَى
478
الْعَقْدِ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَتَقَدَّمَ الزَّوْجِيَّةُ بِجَعْلِ تَسْمِيَتِهِ زَوْجًا بِمَا تَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: حَتَّى يَعْقِدَ عَلَى مَنْ يَكُونُ زَوْجًا. وَقَالَ فِي (الْمُنْتَخَبِ) أَيْضًا: أَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي نَفْيَ الْحِلِّ مَمْدُودًا إِلَى غَايَةٍ، وَمَا كَانَ غَايَةً لِلشَّيْءِ يَجِبُ انْتِهَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ ثُبُوتِهِ، فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ النِّكَاحِ، فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ عِبَارَةً عَنِ الْعَقْدِ لَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ انْتِهَاءِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْعَقْدِ، فَكَانَ رَفْعُهَا بِالْخَبَرِ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا النِّكَاحَ عَلَى الْوَطْءِ، وَحَمَلْنَا قَوْلَهُ زَوْجًا عَلَى الْعَقْدِ، لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْإِشْكَالَ. انْتَهَى.
وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بخبر الواحد، لِأَنَّ الْقَائِلَ يَقُولُ: لَمْ يَجْعَلْ نَفْيَ الْحِلِّ مُنْتَهِيًا، إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ نِكَاحُهَا زَوْجًا غَيْرَهُ فَقَطْ. وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ ذَلِكَ، بَلْ ثَمَّ مَعْطُوفَاتٍ، قَبْلَ الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا، يَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهَا، وَهِيَ غَايَاتٌ أَيْضًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ، وَتُعْقَدَ عَلَى زَوْجٍ غَيْرِهِ، وَيَدْخُلَ بِهَا، وَيُطَلِّقَهَا، وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ، فَحِينَئِذٍ تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا أَنْ يَتَرَاجَعَا، فَقَدْ صَارَتِ الْآيَةُ مِنْ بَابِ مَا يَحْتَاجُ بَيَانُ الْحِلِّ فِيهِ إِلَى تَقْدِيرِ هَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ وَتَبْيِينِهَا، وَدَلَّ عَلَى إِرَادَتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الثَّابِتَةُ، وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، وَبَيَّنَ هَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُ أَيْضًا مِنْ حَمْلِ النِّكَاحِ هُنَا عَلَى الْوَطْءِ أَنْ يُضْمَرَ قَبْلَهُ: حَتَّى تُعْقَدَ عَلَى زَوْجٍ وَيَطَأَهَا؟ فَلَا فَرْقَ فِي الْإِضْمَارِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى الغاية المذكورة المراد به الْوَطْءُ، أَوْ يَكُونَ مُؤَخَّرًا عَنْهَا إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَقْدُ، فَهَذَا إِضْمَارٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ.
فَإِنْ طَلَّقَها قِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى: زَوْجِ، النَّكِرَةِ، وَهُوَ الثَّانِي، وَأَتَى بِلَفْظِ:
إِنْ، دُونَ إِذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طَلَاقَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا يَخْطُرُ لَهُ دُونَ الشَّرْطِ. انْتَهَى.
وَمَعْنَاهُ أَنَّ: إِذَا، إِنَّمَا تَأْتِي لِلْمُتَحَقِّقِ، وَإِنْ تَأْتِي لِلْمُبْهَمِ وَالْمُجَوَّزِ وُقُوعُهُ وَعَدَمُ وُقُوعِهِ، أَوْ لِلْمُحَقَّقِ الْمُبْهَمِ زَمَانُ وُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «١» وَالْمَعْنَى: فَإِنْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَيْ: عَلَى الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ الثَّلَاثَ وهذه
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٤.
479
الزَّوْجَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الزَّوْجِ الثَّانِي وَالْمَرْأَةِ، وَتَكُونُ الْآيَةُ قَدْ أَفَادَتْ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَبْتُوتَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ صَدْرِ الْآيَةِ، وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ الثَّانِي الَّذِي طَلَّقَهَا أَنْ يُرَاجِعَهَا، لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ، فَيَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَفْعًا لِمَا يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا الثَّانِي حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، فَبِكَوْنِهَا حَلَّتْ لَهُ اخْتَصَّتْ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلثَّانِي أَنْ يَرُدَّهَا، فَيَكُونَ قَوْلُهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا مُبَيِّنًا أَنَّ حُكْمَ الثَّانِي حُكْمُ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ أَنَّ الْأَوَّلَ يُرَاجِعُهَا، بَلْ بِدَلِيلِ إِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنَ الثَّانِي فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ فِيمَنْ يَرْتَدُّ مِنْهُمَا أن يتزوجه، فَإِنْ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَلِزَوْجِهَا الثَّانِي أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَعَلَى هَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا وَيَحْتَاجَ إِلَى الْحَذْفِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي: عَلَيْهِمَا، عَائِدًا عَلَى الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا وَعَلَى الزَّوْجَةِ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ هُوَ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ، أَيْ: فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّانِي وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَى الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا وَالزَّوْجَةِ أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَقَوْلُهُ: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ: إِنْ ظَنَّ الزَّوْجُ الثَّانِي وَالزَّوْجَةُ أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكَادُ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا عِنْدَ التَّشَاجُرِ وَالتَّخَاصُمِ وَالتَّبَاغُضِ، وَتَكُونُ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا مُنْسَاقَةً انْسِيَاقًا وَاحِدًا لَا تَلْوِينَ فِيهِ، وَلَا اخْتِلَافَ مَعَ اسْتِفَادَةِ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنْ حَمْلِ الضَّمَائِرِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ، بَلِ الَّذِي فَهِمُوهُ هُوَ تَكْوِينُ الضَّمَائِرِ وَاخْتِلَافُهَا.
أَنْ يَتَراجَعا أَيْ: فِي أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَالضَّمِيرُ فِي: عَلَيْهِمَا، وَفِي: أَنْ يَتَرَاجَعَا، عَلَى مَا فَسَّرُوهُ، عَائِدٌ عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَالزَّوْجَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أهل العلم على أنه الْحُرُّ، إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا. ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَنَكَحَتْ زَوْجًا وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا الْأَوَّلُ، أَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَكُونُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا، وَبِهِ قَالَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ:
عُمَرُ، وَعَلِيٌّ
، وَأُبَيٌّ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، ومعاذ بْنُ جَبَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَمِنَ الْأَئِمَّةِ: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ نَصْرٍ.
480
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَكُونُ عَلَى نِكَاحٍ جَدِيدٍ بِهَدْمِ الزَّوْجِ الثَّانِي الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ كَمَا يَهْدِمُ الثَّلَاثَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَشُرَيْحٌ، وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا عُبَيْدَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقِيلَ: قَوْلٌ ثَالِثٌ إِنْ دَخَلَ بِهَا الْآخَرُ فَطَلَاقٌ جَدِيدٌ، وَنِكَاحُ الْأَوَّلِ جَدِيدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بِهَا فَعَلَى مَا بَقِيَ.
إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أَيْ إِنْ ظَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ يُحْسِنُ عِشْرَةَ صَاحِبِهِ، وَمَا يَكُونُ لَهُ التَّوَافُقُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْحُدُودِ الَّتِي حَدَّهَا اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ ذكرنا طرقا مِمَّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي قَوْلِهِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ «١» وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، يَعْنِي أَصْحَابَ مَالِكٍ، هَلْ عَلَى الزَّوْجَةِ خِدْمَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ عَلَى الزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَ بِغَيْرِ الْوَطْءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهَا خِدْمَةُ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَتْ شَرِيفَةَ الْمَحَلِّ، لِيَسَارِ أُبُوَّةٍ أَوْ تَرَفُّهٍ، فَعَلَيْهَا تَدْبِيرُ أَمْرِ الْمَنْزِلِ وَأَمْرِ الْخَادِمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَسِّطَةَ الْحَالِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَفْرِشَ الْفِرَاشَ وَنَحْوَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ نِسَاءِ الكرد والديلم فِي بَلَدِهِنَّ كُلِّفَتْ مَا تكلفه نساءهم، وَقَدْ جَرَى أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ فِي بُلْدَانِهِمْ، فِي قَدِيمِ الْأَمْرِ وَحَدِيثِهِ، بِمَا ذَكَرْنَا. أَلَا تَرَى أَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ كُنَّ يُكَلَّفْنَ الطَّحْنَ وَالْخَبِيزَ وَالطَّبِيخَ وَفَرْشَ الْفِرَاشِ وَتَقْرِيبَ الطَّعَامِ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ امْرَأَةً امْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانُوا يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ إِذَا قَصَّرْنَ فِي ذَلِكَ.
وَ: إِنْ ظَنَّا، شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ جَوَازُ التَّرَاجُعِ مَوْقُوفًا عَلَى شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: طَلَاقُ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَالْآخَرُ: ظَنُّهُمَا إِقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ: إِنْ لَمْ يَظُنَّا، وَمَعْنَى الظَّنِّ هُنَا تَغْلِيبُ أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَى الْخَوْفِ فِي آيَةِ الْخُلْعِ مَعْنَى الظَّنِّ، لِأَنَّ مَسَاقَ الْحُدُودِ مَسَاقٌ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ الْمَعْنَى: أَيْقَنَّا، جَعَلَ الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَضَعُفَ قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، إِذْ هُوَ مَغِيبٌ عَنْهُمَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ فَسَّرَ الْعِلْمَ هُنَا بِالظَّنِّ فَقَدْ وَهِمَ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى:
لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ: عَلِمْتُ أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، وَلَكِنْ: عَلِمْتُ أَنَّهُ يَقُومُ زَيْدٌ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْغَدِ، وإنهم يَظُنُّ ظَنًّا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٨.
481
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ: أَنَّكَ لَا تَقُولُ عَلِمْتُ أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ، قَالُوا: إِنَّ أَنِ النَّاصِبَةَ لِلْمُضَارِعِ لَا يَعْمَلُ فيها فعلا تَحْقِيقٍ، نَحْوَ: الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَالتَّحْقِيقِ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِي أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي (الْإِيضَاحِ) : وَلَوْ قُلْتَ عَلِمْتُ أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، فَنَصَبْتَ الْفِعْلَ: بأن، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ: أَنْ، لِأَنَّهَا مِمَّا قَدْ ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ: أَرْجُو أَنَّكَ تَقُومُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنْ يَجُوزَ أَنْ تَقُولَ: مَا عَلِمْتُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، فَأُعْمِلَ: عَلِمْتُ، فِي: أَنْ.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ: عَلِمْتُ، قَدْ تُسْتَعْمَلُ وَيُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ، فَلَا يَجُوزُ وُقُوعُ: أَنْ، بَعْدَهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْفَارِسِيُّ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ وَيُرَادُ بِهَا الظَّنُّ الْقَوِيُّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِي: أَنْ، وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا وَلَا يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ قَوْلُهُ:
فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ «١» فَالْعِلْمُ هُنَا إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الظَّنُّ الْقَوِيُّ، لِأَنَّ الْقَطْعَ بِإِيمَانِهِنَّ غَيْرُ مُتَوَصَّلٍ إِلَيْهِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرِ ظَنٍّ وَتَقْوَى اللَّهِ مِنْ خَيْرِ الْمَعَادِ
فَقَوْلُهُ: عِلْمَ حَقٍّ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ عِلْمِ حَقٍّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: غَيْرَ ظَنٍّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُقَالُ: عَلِمْتُ وَهُوَ ظَانٌّ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّ: عَلِمْتُ، قَدْ يَعْمَلُ فِي: أَنْ، إِذَا أُرِيدَ بِهَا غَيْرُ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ قول جرير:
نرضى عن اللَّهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ علموا أن لا يدانينا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ
فَأَتَى بِأَنِ، النَّاصِبَةِ لِلْفِعْلِ بَعْدَ عَلِمْتُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَثَبَتَ بِقَوْلِ جَرِيرٍ وَتَجْوِيزِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ: عَلِمَ، تَدْخُلُ عَلَى أَنِ النَّاصِبَةِ، فَلَيْسَ بِوَهْمٍ، كَمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، وَإِنَّمَا يَظُنُّ ظَنًّا، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلِ الْإِنْسَانُ يَعْلَمُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِمَّا يَكُونُ فِي الْغَدِ، وَيَجْزِمُ بِهَا وَلَا يَظُنُّهَا.
وَالْفَاءُ فِي: فَلَا تَحِلُّ، جَوَابُ الشَّرْطِ، وله، ومن بعد، وحتى، ثَلَاثَتُهَا تَتَعَلَّقُ بِتَحِلَّ، وَاللَّامُ مَعْنَاهَا التَّبْلِيغُ، وَمِنْ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَحَتَّى لِلتَّعْلِيلِ. وَبُنِيَ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ مِنْ بَعْدِ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ، وَزَوْجًا أُتِيَ بِهِ لِلتَّوْطِئَةِ، أَوْ لِلتَّقْيِيدِ أَظْهَرُهُمَا الثاني فإن كان
(١) سورة الممتحنة: ٦٠/ ١٠.
482
لِلتَّوْطِئَةِ لَا لِلتَّقْيِيدِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ لأن الإنسان أكثر ما يتزوج الحرائر، ويصير لفط الزَّوْجِ كَالْمُلْغَى، فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أن الْأَمَةَ إِذَا بَتَّ طَلَاقُهَا وَوَطِئَهَا سَيِّدُهَا حَلَّ لِلْأَوَّلِ نِكَاحُهَا، إِذْ لَفْظُ الزَّوْجِ لَيْسَ بِقَيْدٍ وَإِنْ كَانَ لِلتَّقْيِيدِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَلَا يُحَلِّلُهَا وَطْءُ سَيِّدِهَا.
وَالْفَاءُ فِي: فَلَا جُنَاحَ، جَوَابُ الشرط قبله، وعليهما، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، أَمَّا الْمَجْمُوعُ: جُنَاحٌ، إِذْ هُوَ مُبْتَدَأٌ عَلَى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ: لَا، عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ: وأن يَتَرَاجَعَا، أَيْ: فِي أَنْ يَتَرَاجَعَا، وَالْخِلَافُ بَعْدَ حَذْفِ: فِي، أَبْقَى: أَنْ، مَعَ مَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَمْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُهُ، وَ: أَنْ يُقِيمَا، فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ سَدَّ مَسَدَّهُمَا لِجَرَيَانِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ تِلْكَ: مُبْتَدَأٌ، وَ: حُدُودُ خَبَرٌ، وَ: يُبَيِّنُهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُبَيِّنَةً، وَالْعَامِلُ فِيهَا اسْمُ الْإِشَارَةِ، وَذُو الْحَالِ: حُدُودُ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً «١» وَ: لقوم، متعلق: بيبينها، وَ: تِلْكَ، إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وقرىء: نُبَيِّنُهَا، بِالنُّونِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ تُرْوَى عَنْ عَاصِمٍ.
وَمَعْنَى التَّبَيُّنِ هُنَا: الْإِيضَاحُ، وَخَصَّ الْمُبَيَّنَ لَهُمْ بِالْعِلْمِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نَصْبِ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَإِنْ كَانَ التَّبَيُّنُ بِمَعْنَى خَلْقِ الْبَيَانِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ الْمُبَيَّنِ لَهُمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ مَنْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِهِ لَا يُخْلَقُ فِي قَلْبِهِ التَّبْيِينُ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ نَهْيَ اللَّهِ عِبَادَهُ عَنِ ابْتِذَالِ اسْمِهِ تَعَالَى، وَجَعْلِهِ كَثِيرَ التَّرْدَادِ، وَعَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي أَقْسَامِهِمْ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوًى وَإِصْلَاحٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُبَالَغَةَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي أَقْسَامِهِمْ عَلَى مَا يُنَافِي الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالصَّلَاحَ بِجِهَةِ الْأَحْرَى، وَالْأَوْلَى، لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَدَمُ مُبَالَاةٍ واكتراث بالمقسم بِهِ، إِذِ الْأَيْمَانُ مُعَرَّضَةٌ لِحِنْثِ الْإِنْسَانِ فِيهَا كَثِيرًا، وَقَلَّ أَنْ يُرَى كَثِيرُ الْحَلِفِ إِلَّا كَثِيرَ الْحِنْثِ. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمْ.
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٥٢. [.....]
483
ولما تقدم النهي عن مَا ذَكَرْنَاهُ، سَامَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ مَا كَانَ يَسْبِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ اللَّغْوِ، وَعَدَمِ الْقَصْدِ لِلْيَمِينِ، لَا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، وَكَسَبَهُ الْقَلْبُ بِالتَّعَهُّدِ، ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ مِنْ صِفَةِ الْغُفْرَانِ وَالْحِلْمِ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ مَعَ النِّسَاءِ ذَكَرَ حُكْمَ الْإِيلَاءِ مَعَ النِّسَاءِ، وَهُوَ: الْحَلِفُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْئِهِنَّ، فَجَعَلَ لِذَلِكَ مُدَّةً، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَقْصَى مَا تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا غَالِبًا، ثُمَّ بَعْدَ انْتِظَارِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَانْقِضَائِهَا إِنْ فَاءَ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لَا يُؤَاخِذُهُ بَلْ يُسَامِحُهُ فِي تِلْكَ الْيَمِينِ، وَإِنْ عَزَمَ الطَّلَاقَ أَوْقَعَهُ.
وَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الطَّلَاقِ اسْتَطْرَدَ إِلَى ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنْ أَحْكَامِهِ فَذَكَرَ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ وَأَنَّهَا:
ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَدَلَّ ذِكْرُ الْقُرْءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُطَلَّقَاتِ هُنَّ النِّسَاءُ اللَّوَاتِي يَحِضْنَ وَيَطْهُرْنَ، وَلَمْ يُطَلَّقْنَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَلَا هُنَّ حَوَامِلُ، وَدَلَّ عَلَى إِرَادَةِ هَذِهِ الْمُخَصَّصَاتِ آيَاتٌ أُخَرُ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُنَّ كِتْمَانُ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ، فَعَمَّ الدَّمَ وَالْوَلَدَ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يَكْتُمْنَ ذَلِكَ لِأَغْرَاضٍ لَهُنَّ، وَعَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَهُوَ الْخَالِقُ مَا فِي أَرْحَامِهِنَّ، وَعَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْحِسَابُ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى مَا يَرْتَكِبُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَمُخَالَفَتِهِ فِيمَا شَرَعَ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ أَزْوَاجَهُنَّ الَّذِينَ طَلَّقُوهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَشَرَطَ فِي الْأَحَقِّيَّةِ إِرَادَةَ إِصْلَاحِ الْأَزْوَاجِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِرَجْعَتِهَا الضَّرَرَ لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالرَّدِّ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لِلزَّوْجَةِ حُقُوقًا عَلَى الرَّجُلِ، مِثْلَ مَا أَنَّ لِلرَّجُلِ حُقُوقًا عَلَى الزَّوْجَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَطْلُوبٌ بِإِيفَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لِلرَّجُلِ مَزِيدَ مَزِيَّةٍ وَدَرَجَةٍ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَيَكُونُ حَقُّ الرَّجُلِ أَكْثَرَ، وَطَوَاعِيَةُ الْمَرْأَةِ لَهُ أَلْزَمَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الدَّرَجَةَ مَا هِيَ، وَيَظْهَرُ أَنَّهَا مَا يُؤْلَفُ مِنْ كَثْرَةِ الطَّوَاعِيَةِ، وَالِاهْتِبَالِ بِقَدْرِهِ، وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، لِأَنَّ قَبْلَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي عَرَفَهُ النَّاسُ فِي عَوَائِدِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ تَوَدُّدِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَامْتِثَالِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَخَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِوَصْفِ الْعِزَّةِ وَهِيَ: الغلبة، والقهر و: الحكمة، وَهِيَ وَضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُمَا الْوَصْفَانِ اللَّذَانِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا التَّكْلِيفُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ فِي تِلْكَ الْعِدَّةِ، هُوَ مَرَّتَانِ طَلْقَةٌ بَعْدَ طَلْقَةٍ وَبَعْدَ وُقُوعِ الطَّلْقَتَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا وَيُمْسِكَهَا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانٍ،
484
ثُمَّ ذَكَرَ عَقِبَ هَذَا حُكْمَ الْخُلْعِ، لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا قَبْلَ وُجُودِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَأَمَّا بَعْدَهَا فَلَا يَنْبَغِي خُلْعٌ، فَلِذَلِكَ جَاءَ بَيْنَ الطَّلَاقِ الَّذِي لَهُ فِيهِ رَجْعَةٌ، وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الَّذِي يَبُتُّ الْعِصْمَةَ، وَذَكَرَ مِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّهُ: لَا يَحِلُّ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْخَوْفِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعًا، فَلَوْ خَافَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزِ الْخُلْعُ، هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ.
ثُمَّ نَهَى تَعَالَى عَنِ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ وَتَجَاوُزِهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ تَعَدَّاهَا ظَالِمٌ، قَالَ تَعَالَى فَإِنْ طَلَّقَها يَعْنِي: ثَلَاثَةً، وَالْمَعْنَى، إِنْ أَوْقَعَ التَّسْرِيحَ الْمُرَدَّدَ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ فَهِيَ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي، وَأَرَادَ الْأَوَّلُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَلَهُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ شَرَطَ فِي هَذَا التَّرَاجُعِ ظنهما إقامة حدود الله، فمن لَمْ يَظُنَّا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا، هَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُوَضِّحُ آيَاتِهِ لِقَوْمٍ مُتَّصِفِينَ بِالْعِلْمِ، أَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا يَتَّضِحُ لَهُ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «١».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣١ الى ٢٣٣]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
(١) سورة الرعد: ١٣/ ١٩.
485
بَلَغَ: يَبْلُغُ بُلُوغًا، وَصَلَ إِلَى الشَّيْءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمُجْرٍ كَغِلَّانِ الْأُنَيْعِمِ بَالِغٍ ديارا لعدو ذِي زُهَاءٍ وَأَرْكَانِ
وَالْبُلْغَةُ مِنْهُ، وَالْبَلَاغُ الْأَصْلُ، يَقَعُ عَلَى الْمُدَّةِ كُلِّهَا وَعَلَى آخِرِهَا.
يُقَالُ لِعُمْرِ الْإِنْسَانِ: أَجَلٌ: وَلِلْمَوْتِ الَّذِي يَنْتَهِي: أَجَلٌ، وَكَذَلِكَ الْغَايَةُ وَالْأَمَدُ.
الْعَضَلُ: الْمَنْعُ، عَضَلَ أَيِّمَهُ مَنَعَهَا مِنَ الزَّوْجِ يَعْضِلُهَا بِكَسْرِ الضَّادِ وَضَمِّهَا، قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ:
وَإِنَّ فَضَاءَ يَدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي كَرَائِمُ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ
وَيُقَالُ: دَجَاجٌ مُعْضِلٌ إِذَا احْتَبَسَ بَيْضُهَا، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَقَالَ:
وَنَحْنُ عَضَلْنَا بِالرِّمَاحِ نِسَاءَنَا وَمَا فِيكُمُ عَنْ حُرْمَةِ اللَّهِ عَاضِلُ
وَيُقَالُ: أَصْلُهُ الضِّيقُ، عَضَلَتِ الْمَرْأَةُ نَشِبَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، وَعَضَلَتِ الشَّاةُ وَعَضَلَتِ الْأَرْضُ بِالْجَيْشِ ضَاقَتْ بِهِمْ قَالَ أَوْسٌ:
تَرَى الْأَرْضَ مِنَّا بِالْفَضَاءِ مَرِيضَةً مُعَضَّلَةً مِنَّا بِجَيْشٍ عَرَمْرَمِ
وَأَعْضَلَ الدَّاءُ الْأَطِبَّاءَ أَعْيَاهُمْ، وَدَاءٌ عُضَالٌ ضَاقَ عِلَاجُهُ وَلَا يُطَاقُ، قَالَتْ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةُ:
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا
وَأَعْضَلَ الْأَمْرُ اشْتَدَّ وَضَاقَ، وَكُلُّ مُشْكِلٍ عِنْدَ الْعَرَبِ مُعْضِلٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
إِذَا الْمُعْضِلَاتُ تَصَدَّيْنَنِي كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرِ
الرَّضْعُ: مَصُّ الثَّدْيِ لِشُرْبِ اللَّبَنِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَضَعَ يَرْضَعُ رَضْعًا وَرَضَاعًا وَرَضَاعَةً، وَأَرْضَعَتْهُ أُمُّهُ وَيُقَالُ، لِلَّئِيمِ: رَاضِعٌ وَذَلِكَ لِشِدَّةِ بُخْلِهِ لَا يَحْلِبُ الشَّاةَ مَخَافَةَ أَنْ يُسْمَعَ مِنْهُ الْحَلْبُ، فَيُطْلَبَ مِنْهُ اللَّبَنُ، فَيَرْضَعُ ثَدْيَ الشَّاةِ حَتَّى لَا يُفْطَنَ بِهِ.
486
الْحَوْلُ: السَّنَةُ وَأَحْوَلَ الشَّيْءَ صَارَ لَهُ حَوْلٌ قَالَ الشَّاعِرُ:
مِنَ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا
وَيُجْمَعُ عَلَى أَحْوَالٍ، وَالْحَوْلُ الْحِيلَةُ، وَحَالَ الشَّيْءُ انْقَلَبَ وَتَحَوَّلَ انْتَقَلَ، وَرَجُلٌ حُوَلٌ كَثِيرُ التَّقْلِيبِ وَالتَّصَرُّفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَوْلَ يَكُونُ ظَرْفَ مَكَانٍ، تَقُولُ: زَيْدٌ حَوْلَكَ وَحَوَالَيْكَ وَحَوَالَكَ وَأَحْوَالَكَ، أَيْ: فِيمَا قَرُبَ مِنْكَ مِنَ الْمَكَانِ.
الْكُسْوَةُ: اللِّبَاسُ يُقَالُ مِنْهُ كَسَا يَكْسُو، وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ تَقُولُ: كَسَوْتُ زَيْدًا ثَوْبًا، وَقَدْ جَاءَ مُتَعَدِّيًا إِلَى وَاحِدٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَرْكَبُ فِي الرَّوْعِ خَيْفَانَةً كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ
ضمنه معنى غطاء، فَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ، وَيُقَالُ: كسا الرَّجُلُ فَهُوَ كَاسٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَنْ يَعْرَيْنَ إِنْ كُسِيَ الْجَوَارِي وَقَالَ:
وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي التَّكْلِيفُ: الْإِلْزَامُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكَلَفِ، وَهُوَ الْأَثَرُ عَلَى الْوَجْهِ مِنَ السَّوَادِ، فُلَانٌ كلف بكذا أي معرى بِهِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
يُهْدَى بِهَا كَلِفُ الْخَدَّيْنِ مُخْتَبَرٌ مِنَ الْجَمَالِ كَثِيرُ اللَّحْمِ عَيْثُومُ
الْوَارِثُ: مَعْرُوفٌ يُقَالُ مِنْهُ: وَرِثَ يَرِثُ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقِيَاسُهَا فِي الْمُضَارِعِ الْفَتْحُ، وَيُقَالُ: أَرَّثَ وَوَرَّثَ، وَيُقَالُ: الْإِرْثُ كَمَا يُقَالُ أَلَدَّهُ فِي وَلَدِهِ، وَالْأَصْلُ الْوَاوُ.
الْفِصَالُ: مَصْدَرُ فَصَلَ فَصْلًا وَفِصَالًا، وَجَمْعُ فَصِيلٍ، وَهُوَ الْمَفْطُومُ عَنْ ثَدْيِ أُمِّهِ، وَفُصِلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فُرِّقَ فَانْفَصَلَا، وَفَصَلَتِ الْعِيرُ خَرَجَتْ، وَالْمَعْنَى فَارَقَتْ مَكَانَهَا، وَفَصِيلَةُ الرَّجُلِ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَالْفَصِيلَةُ قِطْعَةٌ مِنْ لَحْمِ الْفَخِذِ، وَالتَّفْصِيلُ بِمَعْنَى بالتبيين، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ «١» وَتَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ تَبْيِينُهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى تَفْرِيقِ حُكْمٍ مِنْ حُكْمٍ، فَيَحْصُلُ بِهِ التَّبْيِينُ، وَمَدَارُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى التَّفْرِقَةِ وَالتَّبْعِيدِ.
التَّشَاوُرُ: فِي اللُّغَةِ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الرَّأْيِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: شِرْتُ الْعَسَلَ أَشُورُهُ إِذَا اجْتَنَيْتُهُ، وَالشُّورَةُ وَالْمَشُورَةُ، وَبِضَمِّ الْعَيْنِ وَتُنْقَلُ الْحَرَكَةُ، كَالْمَعُونَةِ قَالَ حَاتِمٌ:
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٣٣.
487
وَلَيْسَ عَلَى نَارِي حِجَابٌ أَكُفُّهَا لِمُقْتَبَسٍ لَيْلًا وَلَكِنْ أُشِيرُهَا
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: شِرْتُ الدَّابَّةَ وَشَوَّرْتُهَا أَجْرَيْتُهَا لِاسْتِخْرَاجِ جَرْيِهَا، وَكَانَ مَدَارُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْإِظْهَارِ، فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشَاوِرِينَ أَظْهَرَ مَا فِي قَلْبِهِ لِلْآخَرِ، وَمِنْهُ الشَّوَارُ، وَهُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ لِظُهُورِهِ لِلنَّاظِرِ، وَشَارَةُ الرَّجُلِ هَيْئَتُهُ لِأَنَّهَا تَظْهَرُ مِنْ زِيِّهِ، وَتَبْتَدِئُ مِنْ زِينَتِهِ، وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَادَّةِ هَذِهِ الْإِشَارَةَ فَقَالَ: وَالْإِشَارَةُ هِيَ إِخْرَاجُ مَا فِي نَفْسِكَ وَإِظْهَارُهُ لِلْمُخَاطَبِ بِالنُّطْقِ وَغَيْرِهِ. انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ هَذَا أَرَادَ أَنَّهُمَا يَتَقَارَبَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الْمَادَّةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ الأمير ابن الأغلب مُتَوَلِّي أَفْرِيقِيَّةَ وَبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، كَيْفَ يُقَالُ إِذَا أَشَارُوا إِلَى الْهِلَالِ عِنْدَ طُلُوعِهِ؟ وَبَنَوْا مِنَ الْإِشَارَةِ تَفَاعَلْنَا، فَقَالَ ابْنُ الْأَغْلَبِ: تَشَاوَرْنَا، وَقَالَ ذَلِكَ الْعَالِمُ تَشَايَرْنَا، وَسَأَلُوا قُتَيْبَةَ صَاحِبَ الْكِسَائِيِّ، وَكَانَ قَدْ أَقْدَمَهُ ابْنُ الْأَغْلَبِ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى أَفْرِيقِيَّةَ لتعليم أولاده، فقال لَهُ: كَيْفَ تَبْنِي مِنَ الْإِشَارَةِ: تَفَاعَلْنَا؟ فَقَالَ: تَشَايَرْنَا. وَأَنْشَدَ لِلْعَرَبِ بَيْتًا شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ عَجُزُهُ.
فَيَا حَبَّذَا يَا عِزَّ ذَاكَ التَّشَايُرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَالْمَادَّةِ الْأُخْرَى مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ.
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ بَشَّارٍ، وَيُقَالُ أَسْنَانٌ الْأَنْصَارِيُّ، طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَتَّى إِذَا بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَكَادَتْ أَنْ تَبِينَ رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا حَتَّى مَضَتْ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ مُضَارَّةً لَهَا، وَلَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ يَوْمَئِذٍ مَحْصُورًا.
وَالْخِطَابُ فِي: طَلَّقْتُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْأَزْوَاجِ، وَقِيلَ: لِثَابِتِ بْنِ يَسَارٍ، خُوطِبَ الْوَاحِدُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ وَأُبْعِدَ مَنْ قَالَ: أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ لِقَوْلِهِ: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَنِسْبَةُ الطَّلَاقِ وَالْإِمْسَاكِ وَالتَّسْرِيحِ لِلْأَوْلِيَاءِ بِعِيدٌ جِدًّا.
فَبَلَغْنَ أَيْ: قَارَبْنَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ وَالْأَجَلِ، هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُعْتَدَّاتِ مِنَ الْإِقْرَاءِ، وَالْأَشْهُرِ، وَوَضْعِ الْحَمْلِ. وَأَضَافَ الْأَجَلَ إليهن لِأَنَّهُ أَمَسُّ بِهِنَّ، وَلِهَذَا قِيلَ: الطَّلَاقُ لِلرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ لِلنِّسَاءِ، وَلَا يُحْمَلُ: بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ إِذْ ذَاكَ لَيْسَ لَهُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، إِذْ قَدْ تَقَضَّتْ عِدَّتُهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا.
488
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَيْ رَاجِعُوهُنَّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَفُسِّرَ الْمَعْرُوفُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ،
وَقِيلَ: بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ، قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ
، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، قَالُوا: الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ هُوَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ طَلَّقَهَا، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْمَعْرُوفِ، فَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ مِنْ أَجْلِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِإِقَامَتِهَا عِنْدَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَتِهَا، حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ.
وَفِي (صَحِيحِ) الْبُخَارِيِّ: تَقُولُ الْمَرْأَةُ إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي! وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَيَلْزَمُهَا الصَّبْرُ عَلَيْهِ، وَتَتَعَلَّقُ النَّفَقَةُ بِذِمَّتِهِ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ.
وَالْقَائِلُونَ بِالْفُرْقَةِ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ بَعْدَ الْبِنَاءِ لَمْ يُسْتَكْمَلْ بِهَا الْعَدَدُ، وَلَا كَانَتْ بِعِوَضٍ، وَلَا لِضَرَرٍ بِالزَّوْجِ، فَكَانَتْ رَجْعِيَّةً كَضَرَرِ الْمُولِي.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ، وَقِيلَ: بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ طلب ضرار بِالْمُرَاجَعَةِ.
أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَيْ: خَلُّوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَتَبِينَ مِنْ غَيْرِ ضِرَارٍ، وَعَبَّرَ بِالتَّسْرِيحِ عَنِ التَّخْلِيَةِ لِأَنَّ مَآلَهَا إِلَيْهِ، إِذْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَصَلَتِ الْبَيْنُونَةُ.
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا هَذَا كَالتَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ نَهَاهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِمْسَاكُ ضِرَارًا، وَحِكْمَةُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ:
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يَحْصُلُ بِإِمْسَاكِهَا مَرَّةً بِمَعْرُوفٍ، هَذَا مَدْلُولُ الْأَمْرِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ وَجَاءَ النَّهْيُ لِيَتَنَاوَلَ سائر الأوقات وعمها، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ الطَّلَاقِ، ثُمَّ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ الطَّلَاقِ عَلَى سَبِيلِ الضِّرَارِ، فَنَهَى عَنْ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الْقَبِيحَةِ بِخُصُوصِهَا، تَعْظِيمًا لِهَذَا المرتكب السَّيِّءِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ إِيذَاءِ النِّسَاءِ، حَتَّى تَبْقَى عِدَّتُهَا فِي ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ.
وَمَعْنَى: ضِرَارًا، مُضَارَّةً وَهُوَ مَصْدَرُ ضَارَّ ضِرَارًا وَمُضَارَّةً، وَفُسِّرَ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَبِتَضْيِيقِ النَّفَقَةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، فَكُلُّ إِمْسَاكٍ لِأَجْلِ الضَّرَرِ وَالْعُدْوَانِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
489
وَانْتَصَبَ: ضِرَارًا، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: مُضَارِّينَ لِتَعْتَدُوا، أَيْ: لِتَظْلِمُوهُنَّ، وَقِيلَ: لِتُلْجِئُوهُنَّ إِلَى الِافْتِدَاءِ.
وَاللَّامُ: لَامُ كَيْ، فَإِنْ كَانَ ضِرَارًا حَالًا تَعَلَّقَتِ اللَّامُ بِهِ، أو: بلا تُمْسِكُوهُنَّ، وَإِنْ كَانَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ تَعَلَّقَتِ اللَّامُ بِهِ، وَكَانَ عِلَّةً لِلْعِلَّةِ، تَقُولُ: ضَرَبْتُ ابْنِي تَأْدِيبًا لِيَنْتَفِعَ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَتَعَلَّقَ: بلا تُمْسِكُوهُنَّ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقْضِي مِنَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ اثْنَيْنِ إِلَّا بِالْعَطْفِ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ، وَلَا يُمْكِنُ هُنَا الْبَدَلُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْإِعْرَابِ، وَمَنْ جَعَلَ اللَّامَ لِلْعَاقِبَةِ جَوَّزَ أَنْ يتعلق: بلا تُمْسِكُوهُنَّ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ قَدْ تَعَدَّى إِلَى عِلَّةٍ وَإِلَى عَاقِبَةٍ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِمْسَاكِ عَلَى سَبِيلِ الضِّرَارِ وَالْعُدْوَانِ، وَظُلْمِ النَّفْسِ بِتَعْوِيضِهَا الْعَذَابَ، أَوْ بِأَنْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ مَنَافِعَ الدِّينِ مِنَ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَمَنَافِعِ الدُّنْيَا مِنْ عَدَمِ رَغْبَةِ التَّزْوِيجِ بِهِ لِاشْتِهَارِهِ بِهَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ.
وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَقُولُ: طَلَّقْتُ وَأَنَا لَاعِبٌ، وَيُعْتِقُ وَيَنْكِحُ وَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: «مَنْ طَلَّقَ أَوْ حَرَّرَ أَوْ نَكَحَ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَاعِبٌ فَهُوَ جَدٌّ».
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ جِدُّوا فِي الْأَخْذِ بِهَا، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا، وَارْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَإِلَّا فَقَدِ اتَّخَذْتُمُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا، وَيُقَالُ لِمَنْ لَمْ يَجِدَّ فِي الْأَمْرِ إنما أنت لاعب وهازىء. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ مَعْنَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، الْمُرَادُ آيَاتُهُ النَّازِلَةُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَخَصَّهَا الْكَلْبِيُّ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ طَلَّقَ لَاعِبًا أَوْ هَازِلًا، أَوْ رَاجَعَ كَذَلِكَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ آيَاتٍ تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي النِّكَاحِ، وَأَمْرَ الْحَيْضِ وَالْإِيلَاءِ، وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةِ وَالْخُلْعِ، وَتَرْكِ الْمُعَاهَدَةِ، وَكَانَتْ هَذِهِ أَحْكَامُهَا جَارِيَةً بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ، وَفِيهَا إِيجَابُ حُقُوقٍ لِلزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ عَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِأَمْرِ النِّسَاءِ وَالِاغْتِفَالِ بِأَمْرِ شَأْنِهِنَّ، وَكُنَّ عِنْدَهُمْ أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ أَمْرٌ أَوْ حَقٌّ
490
عَلَى الزَّوْجِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَحَدَّ حُدُودًا لَا تُتَعَدَّى، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ خَالَفَ فَهُوَ ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ، أَكَّدَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ، الَّتِي مِنْهَا هَذِهِ الْآيَاتُ النَّازِلَةُ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ، هُزُؤًا، بَلْ تُؤْخَذُ وَتُتَقَبَّلُ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَالنَّاسِ.
وَانْتَصَبَ: هُزُؤًا، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ: لتتخذوا، وَتَقُولَ: هَزَأَ بِهِ هُزُؤًا اسْتَخَفَّ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ: هَزْأً، بِإِسْكَانِ الزَّايِ، وَإِذَا وَقَفَ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي تَسْهِيلِ الْهَمْزِ، وَذَكَرُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَسْهِيلِهِ عِنْدَهُ فِيهِ وُجُوهًا تُذْكَرُ فِي علم القراآت، وَهُوَ مِنْ تَخْفِيفِ فُعُلٍ: كَعُنُقٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: كُلُّ اسْمٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ أَوَّلُهُ مَضْمُومٌ وَثَانِيهِ فَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّخْفِيفُ وَالتَّثْقِيلُ.
وَقَرَأَ هُزُوًا بِضَمِّ الزَّايِ وَإِبْدَالٍ مِنَ الْهَمْزَةِ وَاوًا، وَذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّمِّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هُزُؤًا بِضَمَّتَيْنِ وَالْهَمْزِ، قِيلَ: وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أتتخذنا هزؤا) «١».
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ هَذَا أَمْرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ: وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا، وَالنِّعْمَةُ هُنَا لَيْسَتِ التَّاءُ فِيهَا لِلْوَحْدَةِ، وَلَكِنَّهَا بُنِيَ عَلَيْهَا الْمَصْدَرُ، وَيُرِيدُ: النِّعَمَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، وَأَجَلُّهَا مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَ: مَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ، مَعْطُوفٌ عَلَى نِعْمَةٍ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، إِذْ مَا أَنْزَلَ هُوَ مِنَ النِّعْمَةِ، وَهَذَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسَمَّى التَّجْرِيدُ، كَقَوْلِهِ: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «٢» بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ، وَتَقَدَّمَ القول فيه، وأتى: بعليكم، تَنْبِيهًا لِلْمَأْمُورِينَ وَتَشْرِيفًا لَهُمْ، إِذْ فِي الْحَقِيقَةِ مَا أَنْزَلَ إِلَّا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ولكنه لَمَّا كُنَّا مُخَاطَبِينَ بِأَحْكَامِهِ، وَمُكَلَّفِينَ بِاتِّبَاعِهِ، صَارَ كَأَنَّهُ نَزَّلَ عَلَيْنَا.
وَ: الْكِتَابَ، الْقُرْآنُ، وَ: الْحِكْمَةَ، هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي بِهَا كَمَالُ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَتَضَمَّنْهَا الْقُرْآنُ، وَالْمُبَيِّنَةُ مَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «٣».
(١) سورة البقرة: ٢/ ٦٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٩٨.
(٣) سورة النجم: ٥٣/ ٣.
491
وقيل: وَفِي ظَاهِرِهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ يَنْزِلُ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَلَا اجْتِهَادَ، وَذِكْرُ: النِّعَمِ، لَا يُرَادُ بِهِ سَرْدُهَا عَلَى اللِّسَانِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الشُّكْرُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُسْلِمِ النِّعْمَةَ سَبَبٌ لِشُكْرِهَا، فَعَبَّرَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالنِّعْمَةِ الْمُنْعَمِ بِهِ فَيَكُونُ: عَلَيْكُمْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: كَائِنَةٌ عَلَيْكُمْ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ نِعْمَتَهُ تَعَالَى مُنْسَحِبَةٌ عَلَيْنَا، قَدِ اسْتَعْلَتْ وَتَجَلَّلَتْ وَصَارَتْ كَالظُّلَّةِ لَنَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِالنِّعْمَةِ الْإِنْعَامُ فَيَكُونُ: عَلَيْكُمْ، مُتَعَلِّقًا بِلَفْظِ النِّعْمَةِ، وَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَصْدَرًا مِنْ: أَنْعَمَ، عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، كَنَبَاتٍ مِنْ أنبت.
وعليكم، الثانية متعلقة بأنزل، وَ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا مِنَ الْكِتَابِ، وَيَكُونُ حَالًا مِنْ مَا أَنْزَلَ أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَوْصُولِ الْمَحْذُوفِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ. وَمَنْ أَثْبَتَ لمن مَعْنَى الْبَيَانِ لِلْجِنْسِ جَوَّزَ ذَلِكَ هُنَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمُ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
يَعِظُكُمْ بِهِ يُذَكِّرُكُمْ بِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى: مَا، مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أَنْزَلَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنَ الْفَاعِلِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: أَنْزَلَ، وَالْعَامِلُ فِيهَا: أَنْزَلَ، وَجَوَّزُوا فِي: مَا، مِنْ قَوْلِهِ:
وَمَا أَنْزَلَ، أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً. وَ: يَعِظُكُمْ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: والمنزل اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ، وَعَطْفُهُ عَلَى النِّعْمَةِ أَظْهَرُ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ النِّسَاءِ اللَّاتِي هُنَّ مَظِنَّةُ الْإِهْمَالِ وَعَدَمِ الرِّعَايَةِ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّقْوَى، وَهِيَ الَّتِي بِحُصُولِهَا يَحْصُلُ الْفَلَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُ طَلَبَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَالْمَعْنَى: بِطَلَبِ الْعِلْمِ الدَّيْمُومَةِ عَلَيْهِ، إِذْ هُمْ عَالِمُونَ بِذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ نِيَّاتِكُمْ فِي الْمُضَارَّةِ وَالِاعْتِدَاءِ، فَلَا تَلْبِسُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ. وَكَرَّرَ اسْمَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَتَيْنِ، فَتَكْرِيرُهُ أَفْخَمُ، وَتَرْدِيدُهُ فِي النُّفُوسِ أَعْظَمُ.
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ نَزَلَتْ فِي كُلِّ مَنْ مَنَعَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ عَنِ النِّكَاحِ بِغَيْرِهِ إِذَا طَلَّقَهَا، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنَةِ عَمِّ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَأَرَادَ رَجْعَتَهَا، فَأَتَى جَابِرٌ وَقَالَ: طَلَّقْتَ ابْنَةَ عَمِّنَا ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَهَا؟ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ زَوْجَهَا، فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: فِي
492
مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَأُخْتِهِ جُمْلٍ، وَزَوْجِهَا أَبِي الْوَلِيدِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْعَجْلَانِ، جَرَى لَهُمْ مَا جَرَى لِجَابِرٍ فِي قِصَّتِهِ، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَعَلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُخَاطَبُونَ هُمُ الْأَزْوَاجُ، وَعَلَى هَذَا السَّبَبِ الْأَوْلِيَاءُ، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ نِسْبَةَ الطَّلَاقِ إِلَيْهِمْ هُوَ مَجَازٌ بَعِيدٌ، وَهُوَ أن يكون الْأَوْلِيَاءُ قَدْ تَسَبَّبُوا فِي الطَّلَاقِ حَتَّى وَقَعَ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمُ الطَّلَاقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَيَبْعُدُ جِدًّا أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي: وَإِذا طَلَّقْتُمُ لِلْأَزْوَاجِ وَفِي فَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ، لِتَنَافِي التَّخَاطُبِ، وَلِتَنَافُرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَالْأَوْلَى، وَالَّذِي يُنَاسِبُهُ سِيَاقُ الْكَلَامِ، أَنَّ الْخِطَابَ فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِلْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَاتِ هُوَ مَعَ الْأَزْوَاجِ وَلَمْ يَجْرِ لِلْأَوْلِيَاءِ ذِكْرٌ، وَلِأَنَّ الْآيَةَ قَبْلَ هَذِهِ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ فِي كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ خِطَابٌ لَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَهُنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَيَكُونُ الْأَزْوَاجُ الْمُطَلِّقُونَ قَدِ انْتَهَوْا عَنِ الْعَضْلِ، إِذْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ظُلْمًا وَقَهْرًا وَحَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ يَتَزَوَّجْنَ مَنْ شِئْنَ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى: أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ أَيْ: مَنْ يُرِدْنَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَهُ، فَسُمُّوا أَزْوَاجًا بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُونَ إِلَيْهِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ يَكُونُ أَزْوَاجُهُنَّ هُمُ الْمُطَلِّقُونَ، سُمُّوا أَزْوَاجًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَزْوَاجًا حَقِيقَةً.
وَجِهَاتُ الْعَضْلِ مِنَ الزَّوْجِ مُتَعَدِّدَةٌ: بِأَنْ يَجْحَدَ الطَّلَاقَ، أَوْ يَدَّعِيَ رَجْعَةً فِي الْعِدَّةِ، أَوْ يَتَوَعَّدَ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا، أَوْ يُسِيءَ الْقَوْلَ فِيهَا لِيُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْهَا، فَنُهُوا عَنِ الْعَضْلِ مُطْلَقًا بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلنَّاسِ، أَيْ: لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَكُمْ عَضْلٌ، لِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ رَاضُونَ كَانُوا فِي حُكْمِ الْعَاضِلِينَ وَصَدَّرَ بِمَا يُقَارِبُ هَذَا الْمَعْنَى كَلَامَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمُ الْأَزْوَاجُ، وَمِنْهُمُ الْأَوْلِيَاءُ، لِأَنَّهُمُ الْمُرَادُ فِي تَعْضُلُوهُنَّ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا التَّوْجِيهُ يَؤُولُ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي: طلقتم، للأزواج، وفي: فلا تَعْضُلُوهُنَّ، لِلْأَوْلِيَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنَ التَّنَافُرِ.
أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ بَدَلِ اشْتِمَالٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَنْ يَنْكِحْنَ، وَيَنْكِحْنَ مُضَارِعُ نَكَحَ الثُّلَاثِيِّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ
493
أَنْ تَنْكِحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حَقٌّ لَمَا نُهِيَ عَنْهُ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بِالنَّهْيِ عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقِّ، وَظَاهِرُهُ الْعَقْدُ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ إِذَا كَانَ الْخِطَابُ فِي: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ، لِلْأَوْلِيَاءِ النَّهْيَ عَنْ مُطْلَقِ الْعَضْلِ، فَيَتَحَقَّقُ بِعَضْلِهَا عَنْ خَاطِبٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا مَنَعَهَا مِنْ خَاطِبٍ أَوْ خَاطِبَيْنِ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ عَاضِلًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الثَّيِّبُ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا وَتَسْتَوْفِي الْمَهْرَ وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهَا.
وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ جَازَ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا. وَعَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ: ابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ سَلَّمَ الْوَلِيُّ نِكَاحَهَا جَازَ وَإِلَّا فَلَا، إِلَّا إِنْ كَانَ كُفُؤًا فَيُجِيزُهُ الْقَاضِي إِنْ أَبَى الْوَلِيُّ أَنْ يُسَلِّمَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ هَذَا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا وَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا، وَكَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا، فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إِلَّا بِوَلِيٍّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: تُزَوِّجُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ: إِذَا كَانَتْ مُعْتَقَةً، أَوْ مِسْكِينَةً، أَوْ دَنِيئَةً، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَسْتَخْلِفَ رَجُلًا يُزَوِّجُهَا، وَلِلْأَوْلِيَاءِ فَسْخُ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَعَنْهُ خِلَافٌ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ غِنًى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا الْوَلِيُّ أَوِ السُّلْطَانُ، وَحُجَجُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
إِذا تَراضَوْا: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْخُطَّابِ وَالنِّسَاءِ، وَغَلَّبَ الْمُذَكَّرَ، فَجَاءَ الضَّمِيرُ بِالْوَاوِ، وَمَنْ جَعَلَ لِلْأَوْلِيَاءِ ذِكْرًا فِي الْآيَةِ قَالُوا: احْتَمَلَ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ.
وَالْعَامِلُ فِي: إِذَا، يَنْكِحْنَ.
بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ الضَّمِيرُ فِي: بَيْنَهُمْ، ظَرْفٌ مَجَازِيٌّ نَاصِبُهُ: تَرَاضَوْا، بِالْمَعْرُوفِ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِتَرَاضَوْا، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَا يَحْسُنُ مِنَ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ فِي الشَّرَائِطِ، وَقِيلَ: مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقِيلَ: الْمَهْرُ وَالْإِشْهَادُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ: بالمعروف، بينكحن، لا: بتراضوا، وَلَا يُعْتَقَدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ الَّذِي لَا يَنْتَفِي، بَلْ هُوَ مِنَ الْفَصْلِ الْفَصِيحِ، لِأَنَّهُ فَصْلٌ بِمَعْمُولِ الْفِعْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذا تَراضَوْا فَإِذَا مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَنْكِحْنَ وَ: بِالْمَعْرُوفِ، مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَكِلَاهُمَا مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ.
494
ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: لِكُلِّ سَامِعٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خِطَابِ الْجَمَاعَةِ فَقَالَ: مِنْكُمْ، وَقِيلَ: ذَلِكَ بِمَعْنَى:
ذَلِكُمْ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْعَضْلِ، وَ: ذَلِكَ، لِلْبُعْدِ نَابَ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي لِلْقُرْبِ، وَهُوَ: هَذَا، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ قَرِيبًا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ لِعَظَمَةِ الْمُشِيرِ إِلَى الشَّيْءِ، وَمَعْنَى: يُوعَظُ بِهِ أَيْ يُذَكَّرُ بِهِ، وَيُخَوَّفُ. وَ: مِنْكُمْ، مُتَعَلِّقٌ بِكَانَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: يُؤْمِنُ، وَذَكَرَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُكَلِّفُ لِعِبَادِهِ، النَّاهِي لَهُمْ، وَالْآمِرُ. وَ: الْيَوْمَ الْآخِرَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّخْوِيفُ، وَتُجْنَى فِيهِ ثَمَرَةُ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ. وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْوَعْظِ إِلَّا الْمُؤْمِنُ، إِذْ نُورُ الْإِيمَانِ يُرْشِدُهُ إِلَى الْقَبُولِ إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ «١» وَسَلَامَةُ عَقْلِهِ تُذْهِبُ عَنْهُ مُدَاخَلَةَ الْهَوَى، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «٢».
ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أَيِ: التَّمَكُّنُ مِنَ النِّكَاحِ أَزْكَى لِمَنْ هُوَ بِصَدَدِ الْعَضْلِ لِمَا لَهُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَأَطْهَرُ لِلزَّوْجَيْنِ لِمَا يُخْشَى عَلَيْهِمَا مِنَ الرِّيبَةِ إِذَا مُنِعَا مِنَ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَلَاقَاتِ الَّتِي بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْ: يَعْلَمُ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ قُلُوبُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَيْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، لِذَلِكَ نَهَى تَعَالَى عَنِ الْعَضْلِ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ: يَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنَ اكْتِسَابِ الثَّوَابِ وَإِسْقَاطِ الْعِقَابِ. أَوْ: يَعْلَمُ بَوَاطِنَ الْأُمُورِ وَمَآلَهَا. وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا تَعْلَمُونَ مَا ظَهَرَ. أَوْ: يَعْلَمُ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ التَّكَالِيفِ وَمَنْ لَا يَعْمَلُ بِهَا. وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ: تَقْرِيرُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ، وَالْبَلَاغَةِ، مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ.
الْأَوَّلُ: الطِّبَاقُ، وَهُوَ الطَّلَاقُ وَالْإِمْسَاكُ، فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ، وَالتَّسْرِيحُ طِبَاقٌ ثَانٍ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْإِمْسَاكِ، وَالْعِلْمُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ هُوَ الْجَهْلُ.
الثَّانِي: الْمُقَابَلَةُ فِي فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً قَابَلَ الْمَعْرُوفَ بِالضِّرَارِ، وَالضِّرَارُ مُنَكَّرٌ فَهَذِهِ مُقَابَلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ٣٦.
(٢) سورة الرعد: ١٣/ ١٩ والزمر: ٣٩/ ٩.
495
الثَّالِثُ: التَّكْرَارُ فِي: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ كَرَّرَ اللَّفْظَ لِتَغْيِيرِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَصَاحَةِ، إِذِ اخْتِلَافُ مَعْنَى الِاثْنَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْبُلُوغَيْنِ.
الرَّابِعُ: الِالْتِفَاتُ فِي وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ فَقَالَ: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ وَفِي الْآيَةِ، فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ، إذ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ.
الْخَامِسُ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، التَّقْدِيرُ، أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا تَرَاضَوْا.
السَّادِسُ: مُخَاطَبَةُ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، أَوْ فِي أُخْتِ جَابِرٍ، وَقِيلَ ابْنَتُهُ.
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى، لَمَّا ذكر جُمْلَةً فِي: النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْعَضْلِ، أَخَذَ يَذْكُرُ حُكْمَ مَا كَانَ مِنْ نَتِيجَةِ النِّكَاحِ، وَهُوَ مَا شُرِعَ مِنْ حُكْمِ: الْإِرْضَاعِ وَمُدَّتِهِ، وَحُكْمِ الْكُسْوَةِ، وَالنَّفَقَةِ، عَلَى مَا يَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالْوالِداتُ جَمْعُ وَالِدَةٍ بِالتَّاءِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: وَالِدٌ، لَكِنْ قَدْ أَطْلَقَ عَلَى الْأَبِ وَالِدٌ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ وَفِي الْأُمِّ الوالدان فَجَاءَتِ التَّاءُ فِي الْوَالِدَةِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقِ اللُّغَوِيِّ، وَكَأَنَّهُ رُوعِيَ فِي الْإِطْلَاقِ أَنَّهُمَا أَصْلَانِ لِلْوَلَدِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمَا: وَالِدَانِ.
وَظَاهِرُ لَفْظِ: الْوَالِدَاتِ، الْعُمُومُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَاتُ وَالْمُطَلَّقَاتُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمَا: فِي الْمُطَلَّقَاتِ، جَعَلَهَا اللَّهُ حَدًّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ، فَمَنْ دَعَا مِنْهُمَا إِلَى إِكْمَالِ الْحَوْلَيْنِ فَذَلِكَ لَهُ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالْوَالِدَاتُ، عُقَيْبَ آيَةِ الطَّلَاقِ، فَكَانَتْ مِنْ تَتِمَّتِهَا، فَشُرِعَ ذَلِكَ لَهُنَّ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَحْصُلُ فِيهِ التَّبَاغُضُ، فَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى أذى الولد، لأن بايذائه إِيذَاءُ وَالِدِهِ، وَلِأَنَّ فِي رَغْبَتِهَا فِي التَّزْوِيجِ بِآخَرَ إِهْمَالَ الْوَلَدِ.
وَقِيلَ: هِيَ فِي الزَّوْجَاتِ فَقَطْ، لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَسْتَحِقُّ الْكُسْوَةَ، وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ.
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ صُورَتُهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ خَبَرًا، أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي شَرَعَهُ، فَالْوَالِدَاتُ أَحَقُّ بِرَضَاعِ أَوْلَادِهِنَّ، سَوَاءً كَانَتْ فِي حِيَالَةِ الزَّوْجِ أَوْ لَمْ تَكُنْ، فَإِنَّ الْإِرْضَاعَ مِنْ خَصَائِصِ الْوِلَادَةِ لَا مِنْ خَصَائِصِ الزَّوْجِيَّةِ.
496
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ «١» لكنه أمر تدب لَا إِيجَابٍ، إِذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى «٢» فَوُجُوبُ الْإِرْضَاعِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْأُمِّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ ظِئْرًا إِلَّا إِذَا تَطَوَّعَتِ الْأُمُّ بِإِرْضَاعِهِ، وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَهَا، أَوْ لَمْ يُوجِدْ لَهُ ظِئْرًا، وَعَجَزَ الْأَبُ عَنِ الِاسْتِئْجَارِ وَجَبَ عَلَيْهَا إِرْضَاعُهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الْوَالِدَاتِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِرْضَاعَ لَا يَلْزَمُ إِلَّا الْوَالِدَ أَوِ الْجَدَّ، وَإِنْ عَلَا. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ:
أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجَةِ لِأَنَّهُ كَالشَّرْطِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً ذَاتَ نَسَبٍ، فَعُرْفُهَا أَنْ لَا تُرْضِعَ.
وَعَنْهُ خِلَافٌ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْإِرْضَاعِ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وَصَفَ الْحَوْلَيْنِ بِالْكَمَالِ دَفْعًا لِلْمَجَازِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ حَوْلَيْنِ، إِذْ يُقَالُ: أَقَمْتُ عِنْدَ فُلَانٍ حَوْلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُمَا، وَهِيَ صِفَةُ تَوْكِيدٍ كَقَوْلِهِ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «٣» وَجَعَلَ تَعَالَى هَذِهِ الْمُدَّةَ حَدًّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ، فَمَنْ دَعَا مِنْهُمَا إِلَى كَمَالِ الْحَوْلَيْنِ فَذَلِكَ لَهُ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَوْلَادَهُنَّ، الْعُمُومُ، فَالْحَوْلَانِ لِكُلِّ وَلَدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ فِي الْوَلَدِ يَمْكُثُ فِي الْبَطْنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ مَكَثَ سَبْعَةً فَرَضَاعُهُ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، أَوْ: ثَمَانِيَةً، فَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ، أَوْ: تِسْعَةً، فَأَحَدَ وَعِشْرُونَ، وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ انْبَنَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «٤» لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ عَلَى الْإِنْسَانِ عُمُومًا.
وَفِي قَوْلِهِ: يُرْضِعْنَ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِرَضَاعِ الْوَلَدِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا فِي مَسَائِلَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِلَفْظِ الْقُرْآنِ، مِنْهَا: مُدَّةُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمَةِ، وَقَدْرُ الرَّضَاعِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَالْحَضَانَةُ وَمَنْ أَحَقُّ بِهَا بَعْدَ الْأُمِّ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي الْوَلَدِ إِذَا تَزَوَّجَتِ الْأُمُّ؟ وَهَلْ لِلذِّمِّيَّةِ حَقٌّ فِي الرَّضَاعَةِ؟ وَأَطَالُوا بِنَقْلِ الْخِلَافِ وَالدَّلَائِلِ، وَمَوْضُوعُ هَذَا عِلْمُ الْفِقْهِ.
لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِرْضَاعَ فِي الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ بحد
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٨.
(٢) سورة الطلاق: ٦٥/ ٦.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٩٦.
(٤) سورة الأحقان: ٤٦/ ١٥.
497
لَا يُتَعَدَّى، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ، أَمَّا مَنْ لَا يُرِيدُهُ فَلَهُ فَطْمُ الْوَلَدِ دُونَ بُلُوغِ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ لِلْوَلَدِ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: تَضَمَّنَتْ فَرْضَ الْإِرْضَاعِ عَلَى الْوَالِدَاتِ، ثُمَّ يُسِّرَ ذَلِكَ وَخُفِّفَ، فَنَزَلَ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول مُتَدَاعٍ.
قَالَ الرَّاغِبُ: وَفِي قَوْلِهِ: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَجَاوُزُ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا حُكْمَ لِلرَّضَاعِ بَعْدَ الحولين، وتقوية لا رضاع بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَالرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ فِي الشَّرْعِ عُلِّقَ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَمْ يَجُزِ الْإِخْلَالُ بِهِ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، كَخِيَارِ الثَّلَاثِ، وَعَدَدِ حِجَارَةِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمَّا كَانَ الرَّضَاعُ يَجُوزُ الْإِخْلَالُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ النُّقْصَانُ، لَمْ تَجُزْ مُجَاوَزَتُهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: ذِكْرُ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ عَلَى التَّوْقِيتِ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِقَطْعِ الْمُشَاجَرَةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ إِذَا رَأَيَا ذَلِكَ.
وَاللَّامُ فِي: لمن، قيل: متعلقة بيرضعن، كَمَا تَقُولُ: أَرْضَعَتْ فُلَانَةٌ لِفُلَانٍ وَلَدَهُ، وَتَكُونُ اللَّامُ عَلَى هَذَا لِلتَّعْلِيلِ أَيْ: لِأَجْلِهِ، فَتَكُونُ: مَنْ وَاقِعَةٌ عَلَى الْأَبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِأَجْلِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ عَلَى الْآبَاءِ، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ كَهِيَ فِي قَوْلِهِمْ: سَقْيًا لَكَ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَيْتَ لَكَ «٥» فَاللَّامُ لِتَبْيِينِ الْمَدْعُوِّ لَهُ بِالسَّقْيِ، وَلِلْمُهَيَّتِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ قَوْلَهُ: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إِنَّمَا هُوَ: لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ مِنَ الْوَالِدَاتِ، فتكون: من، واقعة على الْأُمِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ مِنَ الْوَالِدَاتِ. أَوْ تَكُونُ، مَنْ، وَاقِعَةٌ عَلَى الْوَالِدَاتِ وَالْمَوْلُودِ لَهُ، كُلُّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ بِالْيَاءِ مِنْ: أَتَمَّ، وَنَصْبِ الرَّضَاعَةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَحُمَيْدٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ: تَتِمَّ، بِالتَّاءِ مِنْ تَمَّ، وَرَفْعِ الرَّضَاعَةِ. وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْجَارُودُ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَسَرُوا الرَّاءَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهِيَ لُغَةٌ: كَالْحَضَارَةِ وَالْحِضَارَةِ، وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَعَ الْهَاءِ وَبِكَسْرِهَا دُونَ الْهَاءِ، وَالْكُوفِيُّونَ يَعْكِسُونَ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ: الرَّضْعَةَ، عَلَى وَزْنِ الْقَصْعَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: أَنْ يُكْمِلَ الرَّضَاعَةَ، بِضَمِّ الياء، وقرىء: أن يتم، برفع
(٥) سورة يوسف: ١٢/ ٢٣.
498
الْمِيمِ، وَنَسَبَهَا النَّحْوِيُّونَ إِلَى مُجَاهِدٍ، وَقَدْ جَازَ رَفْعُ الْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الشِّعْرِ. أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أَنْ تَهْبِطِينَ بِلَادَ قَوْ مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطلاح
وقال الآخر:
أن تقرءان عَلَى أَسْمَاءَ، وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلَامَ، وَأَنْ لَا تُبْلِغَا أَحَدَا
وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، وَتُرِكَ إِعْمَالُهَا حَمْلًا عَلَى: مَا، أُخْتِهَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَصْدَرِيَّةً، وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَهِيَ عِنْدَهُمُ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَشَذَّ وُقُوعُهَا مَوْقِعَ النَّاصِبَةِ، كَمَا شَذَّ وُقُوعُ النَّاصِبَةِ مَوْقِعَ الْمُخَفَّفَةِ في قول جرير:
ترضى عَنِ اللَّهِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا أَنْ لَا يدانينا من خلقه بشر
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إِثْبَاتَ النُّونِ فِي الْمُضَارِعِ الْمَذْكُورِ مَعَ: أَنَّ، مَخْصُوصٌ بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَلَا يُحْفَظُ أَنَّ غَيْرَ نَاصِبَةٍ إِلَّا فِي هَذَا الشِّعْرِ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى مُجَاهِدٍ، وَمَا سَبِيلُهُ هَذَا، لَا تُبْنَى عَلَيْهِ قَاعِدَةٌ.
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الْمَوْلُودُ جِنْسٌ، وَاللَّامُ فِيهِ مَوْصُولَةٌ وُصِلَتْ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ وَ: أل، كمن، وَ: مَا، يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ مُفْرَدًا مُذَكَّرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَعْنَى بِحَسَبِ مَا تُرِيدُهُ مِنَ الْمَعْنَى مِنْ تَثْنِيَةٍ أَوْ جَمْعٍ أَوْ تَأْنِيثٍ، وَهُنَا عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى اللَّفْظِ، فَجَاءَ لَهُ. وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَعْنَى، فَكَانَ يَكُونُ:
لَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْرَأْ بِهِ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ، وهو: الوالدات، و: المفعول بِهِ وَهُوَ: الْأَوْلَادُ، وَأُقِيمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَقَامَ الفاعل، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، أَعْنِي: أَنْ يُقَامَ الْجَارُّ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِذَا حُذِفَ نَحْوَ:
مُرَّ بِزَيْدٍ.
وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِيمَا حَرْفُ الْجَرِّ فِيهِ زَائِدٌ، نَحْوَ: مَا ضُرِبَ مِنْ أَحَدٍ، فَإِنْ كَانَ حَرْفُ الْجَرِّ غَيْرَ زَائِدٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا الِاتِّفَاقِ فِي الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، فَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ وَحْدَهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، كَمَا أَنَّ: يَقُومُ مِنْ؟ زَيْدٌ يَقُومُ. فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ
499
وَهِشَامٌ إِلَى أَنَّ مَفْعُولَ الْفِعْلِ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ مُسْتَتِرٌ فِي الْفِعْلِ، وَإِبْهَامُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنْ مَصْدَرٍ، أَوْ ظَرْفِ زَمَانٍ، أَوْ ظَرْفِ مَكَانٍ، وَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْضُ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَرْفُوعَ الْفِعْلِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالتَّقْدِيرُ: سَيْرٌ هُوَ، يُرِيدُ: أَيْ سَيْرُ السَّيْرِ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْفِعْلِ، وَهَذَا سَائِغٌ عِنْدَ بَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ، وَمَمْنُوعٌ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْبَصْرِيِّينَ، وَالنَّظَرُ في الدلائل هَذِهِ الْمَذَاهِبِ تَصْحِيحًا وَإِبْطَالًا يُذْكَرُ فِي عَالَمِ النَّحْوِ.
وَقَدْ وَهِمَ بَعْضُ كُبَرَائِنَا، فَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى ب (الشرح لِجُمَلِ الزَّجَّاجِيِّ) أَنَّ النَّحْوِيِّينَ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إِقَامَةِ الْمَجْرُورِ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِلَّا السُّهَيْلِيُّ، فَإِنَّهُ مَنَعَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، إِذْ قَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَهِشَامٍ. وَالتَّفْصِيلَ فِي الْمَجْرُورِ. وَمِمَّنْ تَبِعَ السُّهَيْلِيَّ عَلَى قَوْلِهِ: تِلْمِيذُهُ أَبُو عَلِيٍّ الزَّيْدِيُّ شَارِحُ (الْجُمَلِ).
وَ: الْمَوْلُودِ لَهُ، هُوَ الْوَالِدُ، وَهُوَ الْأَبُ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الْوَالِدِ، وَلَا بِلَفْظِ الْأَبِ، بَلْ جَاءَ بِلَفْظِ: الْمَوْلُودِ لَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ إِعْلَامِ الْأَبِ مَا مَنَحَ اللَّهُ لَهُ وَأَعْطَاهُ، إِذِ اللَّامُ فِي:
لَهُ، مَعْنَاهَا شِبْهُ التَّمْلِيكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً «١» وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي اللَّامِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَلِذَلِكَ يَتَصَرَّفُ الْوَالِدُ فِي وَلَدِهِ بِمَا يَخْتَارُ، وَتَجِدُ الْوَلَدَ فِي الْغَالِبِ مُطِيعًا لِأَبِيهِ، مُمْتَثِلًا مَا أَمَرَ بِهِ، مُنَفِّذًا مَا أَوْصَى بِهِ، فَالْأَوْلَادُ فِي الْحَقِيقَةِ هُمْ لِلْآبَاءِ، وَيَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِمْ لَا إِلَى أُمَّهَاتِهِمْ، كَمَا أَنْشَدَ الْمَأْمُونُ بْنُ الرَّشِيدِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً طَبَّاخَةً تُدْعَى مَرَاجِلُ، قَالَ:
فَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْأَبْنَاءِ آبَاءُ
فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ: الْمَوْلُودِ، مُشْعِرًا بِالْمِنْحَةِ وَشِبْهِ التَّمْلِيكِ، أَتَى بِهِ دون لفظ: الوالد، وَلَفْظِ:
الْأَبِ، وَحَيْثُ لَمْ يَرِدْ هَذَا الْمَعْنَى أَتَى بِلَفْظِ الْوَالِدِ وَلَفْظِ الْأَبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ «٢» وَقَالَ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ «٣».
وَلَطِيفَةٌ أُخْرَى فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كُلِّفَ بِمُؤَنِ الْمُرْضِعَةِ لِوَلَدِهِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، نَاسَبَ أَنْ يُسَلَّى بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ هُوَ وَلَدٌ لَكَ لَا لِأُمِّهِ، وَأَنَّكَ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ فِي التَّنَاصُرِ وَتَكْثِيرِ الْعَشِيرَةِ، وَأَنَّ لَكَ عَلَيْهِ الطَّوَاعِيَةَ كَمَا كَانَ عَلَيْكَ لِأَجْلِهِ كُلْفَةُ الرِّزْقِ، والكسوة لمرضعته.
(١) سورة النحل: ١٦/ ٧٢.
(٢) سورة لقمان: ٣١/ ٣٣. [.....]
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٥٥.
500
وَفَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا، الرِّزْقَ، بِأَنَّهُ الطَّعَامُ الْكَافِي، فَجَعَلَهُ اسْمًا لِلْمَرْزُوقِ. كَالطَّحْنِ وَالرَّعْيِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْزُقُوهُنَّ وَيَكْسُوهُنَّ، فشرح الرزق: بأن وَالْفِعْلِ اللَّذَيْنِ يَنْسَبِكُ مِنْهُمَا الْمَصْدَرُ، وَيَحْتَمِلُ الرِّزْقُ الْوَجْهَيْنِ مِنْ إِرَادَةِ الْمَرْزُوقِ، وَإِرَادَةِ الْمَصْدَرِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ: رِزْقًا بِكَسْرِ الرَّاءِ، حُكِيَ مَصْدَرًا، كَرَزْقٍ بِفَتْحِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ جَعَلَهُ مَصْدَرًا أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً «١» وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ الطَّرَاوَةِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَكَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَعْنَى: بِالْمَعْرُوفِ، مَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ لِمِثْلِهَا، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ إِكْثَارٌ وَلَا إِقْلَالٌ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِالْمَعْرُوفِ، يَجْمَعُ جِنْسَ الْقَدْرِ فِي الطَّعَامِ، وَجَوْدَةَ الِاقْتِضَاءِ لَهُ، وَحُسْنَ الِاقْتِضَاءِ مِنَ الْمَرْأَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَا يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الِاقْتِضَاءِ مِنَ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا هِيَ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ من الرزق والكسوة، فبالمعروف، يتعلق برزقهن أو بكسوتهن عَلَى الْإِعْمَالِ، إِمَّا لِلْأَوَّلِ وَإِمَّا لِلثَّانِي إِنْ كَانَا مَصْدَرَيْنِ، وَإِنْ عَنَى بِهِمَا الْمَرْزُوقَ، وَالشَّأْنَ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ.
التَّقْدِيرُ: إِيصَالٌ أَوْ دَفْعٌ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ: بِالْمَعْرُوفِ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْهُمَا، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ فِي: عَلَى.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَكِسْوَتُهُنَّ، بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ: كُسْوَةً وَكِسْوَةً، بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا.
لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها التَّكْلِيفُ إِلْزَامُ مَا يُؤْثَرُ فِي الْكُلْفَةِ، مِنْ: كَلِفَ الْوَجْهُ، وَكَلِفَ الْعِشْقُ، لِتَأْثِيرِهِمَا وُسْعَهَا طَاقَتَهَا وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُهُ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ الْآيَةَ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها الْعُمُومُ فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ، قِيلَ: وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ وَالِدَ الصَّبِيِّ لَا يُكَلَّفُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ، إِلَّا بِمَا تَتَّسِعُ بِهِ قُدْرَتُهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُكَلَّفُ الْمَرْأَةُ الصَّبْرَ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي الْأُجْرَةِ، وَلَا يُكَلَّفُ الزَّوْجُ مَا هُوَ إِسْرَافٌ، بَلْ يُرَاعَى الْقَصْدُ.
وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: لَا تَكَلَّفُ، بِفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ: لَا تَتَكَلَّفُ، وَارْتَفَعَ نَفْسٌ على
(١) سورة النحل: ١٦/ ٧٣.
501
الْفَاعِلِيَّةِ، وَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ، وَ: تَكَلَّفَ تَفَعَّلَ، مُطَاوِعُ فَعَّلَ نَحْوَ: كَسَرْتُهُ فَتَكَسَّرَ، وَالْمُطَاوَعَةُ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا تَفَعَّلَ.
وَرَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ أَنَّهُ قَرَأَ: لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا بِالنُّونِ، مُسْنِدًا الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَ: نَفْسًا، بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ.
لَا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَأَبَانٌ، عَنْ عَاصِمٍ: لَا تُضَارُّ، بِالرَّفْعِ أَيْ: بِرَفْعِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُنَاسِبَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لِاشْتِرَاكِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الرَّفْعِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا، لِأَنَّ الْأُولَى خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَهَذِهِ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا نَهْيِيَّةٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: لَا تُضَارَّ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، جَعَلُوهُ نَهْيًا، فَسُكِّنَتِ الرَّاءُ الْأَخِيرَةُ لِلْجَزْمِ، وَسُكِّنَتِ الرَّاءُ الْأُولَى لِلْإِدْغَامِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُرِّكَ الْأَخِيرُ مِنْهُمَا بِالْفَتْحِ لِمُوَافَقَةِ الْأَلِفِ الَّتِي قَبْلَ الرَّاءِ، لِتَجَانُسِ الْأَلِفِ وَالْفَتْحَةِ، أَلَا تَرَاهُمْ حِينَ رخموا: أسحارّا، وهم اسْمُ نَبَاتٍ، إِذَا سُمِّيَ بِهِ حَذَفُوا الرَّاءَ الْأَخِيرَةَ، وَفَتَحُوا الرَّاءَ السَّاكِنَةَ الَّتِي كَانَتْ مُدْغَمَةً فِي الرَّاءِ الْمَحْذُوفَةِ، لِأَجْلِ الْأَلْفِ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَكْسِرُوهَا عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَرَاعَوُا الْأَلِفَ وَفَتَحُوا، وَعَدَلُوا عَنِ الْكَسْرِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَ؟ وَقُرِأَ: لَا يُضَارِّ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى النَّهْيِ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّفَّارُ: لَا تُضَارّْ، بِالسُّكُونِ مَعَ التَّشْدِيدِ، أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، وَرُوِيَ عَنْهُ:
لَا تُضَارْ، بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْرَجِ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ أُجْرِيَ الْوَصْلُ فِيهِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اخْتَلَسَ الضَّمَّةَ فَظَنَّهُ الرَّاوِي سُكُونًا. انْتَهَى.
وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِ فِي تَغْلِيطِ الْقُرَّاءِ وَتَوْهِيمِهِمْ، وَلَا نَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ.
وَوَجَّهَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ: حَذَفَ الرَّاءَ الثَّانِيَةَ فِرَارًا مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْحَرْفِ الْمُكَرَّرِ، وَهُوَ الرَّاءُ، وَجَازَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّهُ أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، ولأن مَدَّةَ الْأَلِفِ تَجْرِي مَجْرَى الْحَرَكَةِ. انْتَهَى.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُضَارِرْ، بِفَكِّ الْإِدْغَامِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الأول وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا تُضَارِرْ، بِفَكِّ الْإِدْغَامِ أَيْضًا وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ، قِيلَ:
وَرَوَاهَا أَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ.
وَالْإِظْهَارُ فِي نَحْوِ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لُغَةُ الْحِجَازِ، فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، مَرْفُوعَةً أَوْ مَفْتُوحَةً أَوْ مَكْسُورَةً، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ
502
كَمَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَكُونُ ارْتِفَاعُ: والدة ومولود، عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ إِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَعَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ إِنْ قُدِّرَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَإِذَا قَدَّرْنَاهُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَا تُضَارِرْ وَالِدَةٌ زَوْجَهَا بِأَنْ تُطَالِبَهُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الضَّرَرِ، وَلَا يُضَارِرْ مَوْلُودٌ لَهُ زَوْجَتَهُ بِمَنْعِهَا مَا وَجَبَ لَهَا مِنْ رِزْقٍ وَكِسْوَةٍ، وَأَخْذِ وَلَدِهَا مَعَ إِيثَارِهَا إِرْضَاعَهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الضَّرَرِ.
وَالْبَاءُ فِي: بِوَلَدِهَا، وَفِي: بِوَلَدِهِ، بَاءُ السَّبَبِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يُضَارَّ بِمَعْنَى: تَضُرُّ، وَأَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مِنْ صِلَتِهِ لَا تَضُرُّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، فَلَا تُسِيءُ غِذَاءَهُ وَتَعَهُّدَهُ، وَلَا تُفَرِّطُ فِيمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَلَا تَدْفَعُهُ إلى الأب بعد ما آلَفَهَا، وَلَا يَضُرُّ الْوَالِدُ بِهِ بِأَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهَا، أَوْ يُقَصِّرَ فِي حَقِّهَا، فَتُقَصِّرَ هِيَ فِي حَقِّ الْوَلَدِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مِنْ صِلَتِهِ، يَعْنِي مُتَعَلِّقَةً بِتُضَارَّ، وَيَكُونُ ضَارَّ بِمَعْنَى أَضَرَّ، فَاعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، نَحْوَ: بَاعَدْتُهُ وَأَبْعَدْتُهُ، وَضَاعَفْتُهُ وَأَضْعَفْتُهُ، وَكَوْنُ فَاعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ هُوَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَ لَهَا فَاعَلَ، تَقُولُ: أَضَرَّ بِفُلَانٍ الْجُوعُ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَلَا يَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا، بِخِلَافِ التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلسَّبَبِ، فَيَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا كَمَا قَدَّرْنَاهُ.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضِّرَارُ رَاجِعًا إِلَى الصَّبِيِّ، أَيْ: لَا يُضَارُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّبِيَّ، فَلَا يُتْرَكُ رَضَاعُهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ الْأَبُ أَوْ يَنْزِعُهُ مِنْ أُمِّهِ حَتَّى يَضُرَّ بِالصَّبِيِّ، وَتَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً مَعْنَاهُ: لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ وَلَدَهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ وَلَدَهُ انْتَهَى. فَيَكُونُ:
ضَارَّ، بِمَعْنَى: ضَرَّ، فَيَكُونُ مِمَّا وَافَقَ فِيهِ فَاعَلَ الْفِعْلَ الْمُجَرَّدَ الَّذِي هُوَ: ضَرَّ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ:
جَاوَزْتُ الشَّيْءَ وَجُزْتُهُ، وَوَاعَدْتُهُ وَوَعَدْتُهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَ لَهَا فَاعَلَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قراءة من قرأ لا تُضَارِرْ، بِرَاءَيْنِ، الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَتَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْإِدْغَامِ أَنَّ الْفِعْلَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ تَعَيَّنَ كَوْنُ الْبَاءِ لِلسَّبَبِ، وَامْتَنَعَ تَوْجِيهُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ: ضَارَّ بِهِ فِي مَعْنَى: أَضَرَّ بِهِ، وَالتَّوْجِيهُ الْآخَرُ أَنَّ: ضَارَّ بِهِ بِمَعْنَى: ضَرَّهُ، وَتَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً، وَلَا تَنْقَاسُ زِيَادَتُهَا فِي الْمَفْعُولِ، مَعَ
503
أَنَّ فِي التَّوْجِيهَيْنِ إِخْرَاجُ فَاعَلَ عَنِ الْمَعْنَى الْكَثِيرِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُ الِاسْمَيْنِ شَرِيكَيْنِ فِي الْفَاعِلِيَّةِ وَالْمَفْعُولِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْفُوعًا وَالْآخَرُ مَنْصُوبًا.
وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ الْأَرْبَعِ مِنْ بَلَاغَةِ الْمَعْنَى وَنَصَاعَةِ اللَّفْظِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَعَاطَى عِلْمَ الْبَيَانِ.
فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى: أُبْرِزَتْ فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَجَعَلَ الْخَبَرَ فِعْلًا لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ دَائِمًا، ثُمَّ أُضِيفَ الْأَوْلَادُ إِلَى الْوَالِدَاتِ تَنْبِيهًا عَلَى شَفَقَتِهِنَّ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَهَزًّا لَهُنَّ وَحَثًّا عَلَى الْإِرْضَاعِ، وَقَيَّدَ الْإِرْضَاعَ بِمُدَّةٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ. وَجَاءَ الْوَالِدَاتُ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، وَأُضِيفَ الْأَوْلَادُ لِضَمِيرِ الْعَامِّ لِيَعُمَّ، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ إِذَا دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، أَوْ أُضِيفَ إِلَى عَامٍّ، عَمَّ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى (بِالتَّكْمِيلِ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ).
وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: أُبْرِزَتْ أَيْضًا فِي صُورَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ جَارًّا وَمَجْرُورًا بِلَفْظِ: عَلَى، الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَالْوُجُوبِ. فَأُكِّدَ بِذَلِكَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمَرْءِ مَنْعَ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ، وَإِهْمَالَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ، فَأَكَّدَ ذَلِكَ.
وَقَدَّمَ الْخَبَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَجَاءَ الرِّزْقُ مُقَدَّمًا عَلَى الْكِسْوَةِ، لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي بَقَاءِ الْحَيَاةِ، وَالْمُتَكَرِّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ.
وَالْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ: أُبْرِزَتْ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ، وَأَتَى بِمَرْفُوعِهِ نَكِرَةً لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَيَعُمَّ، وَيَتَنَاوَلُ أَوَّلًا مَا سِيقَ لِأَجْلِهِ: وَهُوَ حُكْمُ الْوَالِدَاتِ فِي الْإِرْضَاعِ، وَحُكْمُ الْمَوْلُودِ لَهُ فِي الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ اللَّذَيْنِ لِلْوَالِدَاتِ.
وَالْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ: كَالثَّالِثَةِ، لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَتَعُمَّ أَيْضًا، وَهِيَ كَالشَّرْحِ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا لَمْ تُكَلَّفْ إِلَّا طَاقَتَهَا لَا يَقَعُ ضَرَرٌ لَا لِلْوَالِدَةِ وَلَا لِلْمَوْلُودِ لَهُ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، فَلَا يُنَاسِبُ الْعَطْفَ بِخِلَافِ الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَإِنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهُمَا مُغَايِرَةٌ لِلْأُخْرَى، وَمُخَصَّصَةٌ بِحُكْمٍ لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، وَلَمَّا كَانَ تَكْلِيفُ النَّفْسِ فَوْقَ الطَّاقَةِ، وَمُضَارَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ مِمَّا يَتَجَدَّدُ كُلَّ وَقَتٍ، أَتَى بِالْجُمْلَتَيْنِ فِعْلِيَّتَيْنِ، أَدْخَلَ عَلَيْهِمَا حَرْفَ النَّفْيِ الَّذِي هُوَ: لَا، الْمَوْضُوعُ لِلِاسْتِقْبَالِ غَالِبًا، وَفِي قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ: لَا تُضَارَّ، أَدْخَلَ حَرْفَ النَّهْيِ الْمُخَلِّصَ الْمُضَارِعَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَنَبَّهَ عَلَى مَحَلِّ الشَّفَقَةِ بِقَوْلِهِ: بِوَلَدِهَا، فَأَضَافَ الْوَلَدَ إِلَيْهَا، وَبِقَوْلِهِ. بِوَلَدِهِ، فَأَضَافَ الْوَلَدَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ
504
لِطَلَبِ الِاسْتِعْطَافِ وَالْإِشْفَاقِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ عَدَمِ مُضَارَّةِ الْوَالِدَةِ عَلَى عَدَمِ مُضَارَّةِ الْوَالِدِ مُرَاعَاةً لِلْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، إِذْ بدىء فِيهِمَا بِحُكْمِ الْوَالِدَاتِ، وَثَنَّى بِحُكْمِ الْوَالِدِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُضَارَّ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مُؤَنَّثٌ وَمُذَكَّرٌ مَعْطُوفَانِ، فَالْحُكْمُ فِي الْفِعْلِ السَّابِقِ عَلَيْهِمَا لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا، تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ وَهِنْدٌ وَقَامَتْ هِنْدٌ وَزَيْدٌ، وَيَقُومُ زَيْدٌ وَهِنْدٌ، وَتَقُومُ هِنْدٌ وَزَيْدٌ، إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُؤَنَّثُ مَجَازِيًّا بِغَيْرِ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ فِيهِ فَيَحْسُنُ عَدَمُ إِلْحَاقِ الْعَلَامَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «١».
وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَالْجُمْلَتَانِ قَبْلَ هَذَا كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: بِالْمَعْرُوفِ، اعْتِرَاضٌ بِهِمَا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ.
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: وَعَلَى الْوَرَثَةِ مِثْلُ ذَلِكَ، بِالْجَمْعِ.
وَالظَّاهِرُ فِي الْوَارِثِ أَنَّهُ وَارِثُ الْمَوْلُودِ لَهُ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَوْلُودَ لَهُ وَهُوَ الْأَبُ هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ فِي جُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمَوْلُودُ لَهُ وَجَبَ عَلَى وَارِثِهِ ما وجب عليه من رِزْقِ الْوَالِدَاتِ، وَكِسْوَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَجَنُّبِ الضِّرَارِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ: وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمَنْ يَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ يَلْزَمُهُ الْإِرْضَاعُ كَمَا كَانَ يَلْزَمُ أَبَا الصَّبِيِّ. لَوْ كَانَ حَيًّا، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ: الْوَارِثُ هُوَ الْبَاقِي مِنْ وَالِدَيِ الْمَوْلُودِ بَعْدَ وَفَاةِ الْآخَرِ مِنْهُمَا، وَيَرَى مَعَ ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْوَالِدَةُ هِيَ الْبَاقِيَةُ أَنْ يُشَارِكَهَا الْعَاصِبُ إِرْضَاعَ الْمَوْلُودِ عَلَى قَدْرِ حَظِّهِ مِنَ الْمِيرَاثِ، كَمَا
قَالَ: «وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا».
وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَبَشِيرُ بْنُ نَصْرٍ، قَاضِي عمر بن عبد العزيز الْوَارِثُ هُوَ الصَّبِيُّ نَفْسُهُ، أَيْ: عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِذَا وَرِثَ أَبَاهُ إِرْضَاعَ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
الْوَارِثُ الْوَلَدُ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ، ذَكَرَهُ السَّجَاوَنْدِيُّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ.
فَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الْوارِثِ كَأَنَّهَا نَابَتْ عَنِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى: الْمَوْلُودِ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَلَى وَارِثِ الْمَوْلُودِ لَهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ فِي آخَرِينَ: الْوَارِثُ وَارِثُ الْمَوْلُودِ.
(١) سورة القيامة: ٧٥/ ٩.
505
وَاخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: وَارْثُ الْمَوْلُودِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا، وَيَلْزَمُهُمْ إِرْضَاعُهُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنْهُ.
وَقِيلَ: وَارِثُهُ مِنْ عَصَبَتِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، مِثْلَ: الْجَدِّ، وَالْأَخِ، وَابْنِ الْأَخِ، وَالْعَمِّ، وَابْنِ الْعَمِّ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَحْمَدَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى.
وَقِيلَ: مَنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِذِي رَحِمِ مَحْرَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ قَالَ: الْأَجْدَادُ ثُمَّ الْأُمَّهَاتُ مِثْلُ ذَلِكَ أَيِ:
الْأُجْرَةُ وَالنَّفَقَةُ وَتَرْكُ الْمُضَارَّةِ.
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَأَنَّهَا نَابَتْ عَنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمَوْلُودِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَعَلَى وَارِثِهِ أَيْ وَارِثِ الْمَوْلُودِ.
وَقِيلَ: الْوَارِثُ هُنَا مَنْ يَرِثُ الْوِلَايَةَ عَلَى الرَّضِيعِ، يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الرَّضِيعِ عَلَيْهِ، مِثْلَ مَا كَانَ يُنْفِقُ أَبُوهُ.
فَتَلَخَّصَ فِي الْوَارِثِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ، وَفِي بَعْضِهَا تَفْصِيلٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَيَجِيءُ بِالتَّفْصِيلِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ، مِنْ قَوْلِهِ: مِثْلُ ذَلِكَ، إِلَى مَا وَجَبَ عَلَى الْأَبِ مِنْ رِزْقِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى مَا شَرَحَ فِي الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ وَعَلَى الْوارِثِ وَقَالَهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ.
وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ: مِثْلَ ذَلِكَ، هُوَ: أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَالنَّفَقَةِ، قَالَ: وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وعطاء، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، وَقَبِيصَةَ وَالسُّدِّيِّ.
وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا، وَالزُّهْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَغَيْرُهُمْ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِثْلُ ذَلِكَ، أَنْ لَا يُضَارَّ، وَأَمَّا الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ فَلَا شَيْءَ مِنْهُمَا. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مالك إن الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ أَنَّ الرِّزْقَ وَالْكِسْوَةَ عَلَى الْوَارِثِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ مِنَ الْأُمَّةِ أَنْ لَا يُضَارَّ الْوَارِثُ. انْتَهَى.
وَأَنَّى يَكُونُ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ رَأَيْتُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ؟
506
وَقِيلَ: مِثْلُ ذَلِكَ، أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَالنَّفَقَةُ وَتَرْكُ الْمُضَارَّةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، قَالُوا: وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَلَى: الْمَوْلُودِ لَهُ، النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ، وَأَنْ لَا يُضَارَّ، فَيَكُونُ مِثْلَ ذَلِكَ، مُشِيرًا إِلَى جَمِيعِ مَا عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ.
فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما الضَّمِيرُ فِي: أَرَادَا، عَائِدٌ عَلَى الْوَالِدَةِ والمولود له، والفصال: الْفِطَامُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ. إِذَا ظَهَرَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ اللَّبَنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَرَاضِيهِمَا، فَلَوْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا وَأَبَى الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنِ زيد، وسفيان وَغَيْرُهُمْ.
وَقِيلَ: الْفِطَامُ سَوَاءً كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَتَحْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، وَأَنْ لَا يَتَضَرَّرَ الْمَوْلُودُ، وَأَمَّا بَعْدَ تَمَامِهِمَا فَمَنْ دَعَا إِلَى الْفَصْلِ فَلَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَلْحَقَ الْمَوْلُودَ بِذَلِكَ ضَرَرٌ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ ذَلِكَ تَوْسِعَةً بَعْدَ التَّحْدِيدِ.
وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الْفِصَالُ أَنْ يَفْصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَوْلَ مَعَ صَاحِبِهِ بِتَسْلِيمِ الْوَلَدِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرِ لِئَلَّا يُقْدِمَ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى مَا يَضُرُّ بِالْوَلَدِ، فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مُتَّهَمَ الْعَاقِبَةِ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ اجْتِمَاعِ الآراء.
وقرىء: فَإِنْ أَرَادَ، وَيَتَعَلَّقُ عَنْ تَرَاضٍ، بِمَحْذُوفٍ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ:
فِصَالًا، أَيْ: فِصَالًا كَائِنًا، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ صَادِرًا. وَ: عَنْ، لِلْمُجَاوَزَةِ مَجَازًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَا جرم، وتراض وَزْنُهُ تَفَاعُلٌ، وَعَرَضَ فِيهِ مَا عَرَضَ فِي أَظْبٍ جَمْعُ:
ظَبْيٍ، إِذْ أَصْلُهُ أَظْبِيٌ عَلَى: أَفْعُلٍ، فَتَنْقَلِبُ الْيَاءُ وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِ العرب اسْمٌ آخِرُهُ وَاوٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ لِغَيْرِ الْجَمْعِ، وَأَنَّهُ مَتَى أَدَّى إِلَى ذَلِكَ التَّصْرِيفِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَحُوِّلَتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، وَكَذَلِكَ فُعِلَ فِي تَرَاضٍ. وَتَفَاعُلٌ هُنَا فِي تَرَاضٍ، وَتَشَاوُرٍ عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ مَعَانِيهِ مِنْ كَوْنِهِ وَاقِعًا مِنَ اثْنَيْنِ، وَأَخَّرَ التَّشَاوُرَ لِأَنَّهُ بِهِ يَظْهَرُ صَلَاحُ الْأُمُورِ وَالْآرَاءِ وَفَسَادُهَا، وَ: مِنْهُمَا، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِتَرَاضٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ مُرَادٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَتَشَاوُرٍ، أَيْ: مِنْهُمَا، وَيُحْتَمَلُ فِي تَشَاوُرٍ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاوَرَ الْآخَرَ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاوَرَ غَيْرَ الْآخَرِ لِتَجْتَمِعَ الْآرَاءُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ. فَلا جُناحَ
507
عَلَيْهِما
هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَبْلَ هَذَا الْجَوَابِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ بِهَا يَصِحُّ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ:
فَفَصَلَاهُ، أَوْ فَفَعَلَا ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي الْفِصَالِ.
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ الْخِطَابُ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَفِيهِ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ، وَتَلْوِينٍ فِي الضَّمِيرِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ فَإِنْ أَرادا فِصالًا بِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ، وَكَأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْوَالِدَاتُ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ.
وَ: اسْتَرْضَعَ، فِيهِ خِلَافٌ، هَلْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِنَفْسِهِ، أَوْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، قَوْلَانِ.
فَالْأَوَّلُ: قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: اسْتَرْضَعَ مَنْقُولٌ مِنْ أَرْضَعَ، يُقَالُ: أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ، وَاسْتَرْضَعَهَا الصَّبِيُّ، فَتَعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، كَمَا تَقُولُ: أَنْجَحَ الْحَاجَةَ، وَاسْتَنْجَحَتْهُ الْحَاجَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا الْمَرَاضِعَ أَوْلَادَكُمْ، فَحُذِفَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، كَمَا تَقُولُ: اسْتَنْجَحَتِ الْحَاجَةُ، وَلَا تَذْكُرُ مَنِ اسْتَنْجَحَتْهُ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَفْعُولَيْنِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا عِبَارَةً عَنِ الْأَوَّلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ نَقْلٌ مِنْ نَقْلِ، الْأَصْلِ رَضَعَ الْوَلَدُ، ثُمَّ تَقُولُ: أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ، ثُمَّ تَقُولُ اسْتَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ، وَاسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ أَيْ:
طَلَبْتُ مِنَ الْمَرْأَةِ إِرْضَاعَ الْوَلَدِ، كَمَا تَقُولُ اسْتَسْقَيْتُ زَيْدًا الْمَاءَ، وَاسْتَطْعَمْتُ عَمْرًا الْخُبْزَ، أَيْ: طَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يَسْقِيَنِي وَأَنْ يُطْعِمَنِي، فَكَمَا أَنَّ الْخُبْزَ وَالْمَاءَ مَنْصُوبَانِ وَلَيْسَا عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، كَذَلِكَ: أَوْلَادَكُمْ، مَنْصُوبٌ لَا عَلَى إِسْقَاطِ الْخَافِضِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، الثَّانِي بِحَرْفِ جَرٍّ، وَحُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْلَادَكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: لِأَوْلَادِكُمْ، وَقَدْ جَاءَ اسْتَفْعَلَ أَيْضًا لِلطَّلَبِ مُعَدًّى بِحَرْفِ الْجَرِّ فِي الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ فِي: أَفْعَلَ، مُعَدًّى إِلَى اثْنَيْنِ. تَقُولُ: أَفْهَمَنِي زَيْدٌ الْمَسْأَلَةَ، وَاسْتَفْهَمْتُ زَيْدًا عن المسألة، فلم يجىء: اسْتَطْعَمْتُ، وَيَصِيرُ نَظِيرُ: اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ مِنَ الذَّنْبِ، وَيَجُوزُ حَذْفُ: مِنْ، فَتَقُولُ: الذَّنْبَ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ: كَانَ فُلَانٌ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي فُلَانٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِحَرْفِ جَرٍّ.
فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَبْلَهُ جُمْلَةٌ حُذِفَتْ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ:
فَاسْتَرْضَعْتُمْ أَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الِاسْتِرْضَاعِ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ، هَذَا
508
خِطَابٌ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً، وَهُوَ مِنْ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ما آتَيْتُمْ.
وإِذا سَلَّمْتُمْ شَرْطٌ، قَالُوا: وَجَوَابُهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَجَوَابُهُ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْعَامِلُ فِي: إِذَا، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ: عَلَيْكُمْ. انْتَهَى.
وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ خَطَأٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَامِلَ فِي إِذَا أَوَّلًا الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ، ثُمَّ قَالَ ثَانِيًا إِنَّ إِذَا تَتَعَلَّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ: عَلَيْكُمْ، وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا قَبْلَهُ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ:
وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ، سَقَطَتْ مِنْهُ أَلِفٌ، وَكَانَ: أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ، فَيَصِحُّ إِذْ ذَاكَ الْمَعْنَى، وَلَا تَكُونُ إِذْ ذَاكَ شَرْطًا، بَلْ تَتَمَحَّضُ لِلظَّرْفِيَّةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: مَا أَتَيْتُمْ، بِالْقَصْرِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْمَدِّ وَتَوْجِيهُ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ:
أَنَّ: أَتَيْتُمْ، بِمَعْنَى جِئْتُمُوهُ وَفَعَلْتُمُوهُ، يُقَالُ: أَتَى جَمِيلًا أَيْ: فَعَلَهُ، وَأَتَى إِلَيْهِ، إِحْسَانًا فَعَلَهُ، وَقَالَ إِنَّ وَعْدَهُ كَانَ مَأْتِيًّا، أَيْ: مَفْعُولًا، وَقَالَ زُهَيْرٌ:
فَمَا يَكُ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ
وَتَوْجِيهُ الْمَدِّ أَنَّ الْمَعْنَى: مَا أَعْطَيْتُمْ، وَ: مَا، فِي الْوَجْهَيْنِ مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَعْطَى احْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ حَذْفٍ ثَانٍ، لِأَنَّهَا تَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا ضَمِيرُ: مَا، وَالْآخَرُ، الَّذِي هُوَ فَاعِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى فِي: مَا آتَيْتُمْ، أَيْ: مَا أَرَدْتُمْ إِتْيَانَهُ أَوْ إِيتَاءَهُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ جَوَازُ الِاسْتِرْضَاعِ لِلْوَلَدِ غَيْرَ أُمِّهِ إِذَا أَرَادُوا ذَلِكَ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَسَلَّمُوا إِلَى الْمَرَاضِعِ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ مَا سَلَّمْتُمْ هُوَ الْأُجْرَةُ عَلَى الاسترضاع، قاله السدي، وسفيان. وَلَيْسَ التَّسْلِيمُ شَرْطًا فِي جَوَازِ الِاسْتِرْضَاعِ وَالصِّحَّةِ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، لِأَنَّ فِي إِيتَائِهَا الْأُجْرَةَ معجلا هنيا توطين لنفسها واستعطاف مِنْهَا عَلَى الْوَلَدِ، فَتُثَابِرَ عَلَى إِصْلَاحِ شَأْنِهِ.
وَقِيلَ: سَلَّمْتُمُ الْأَوْلَادَ إِلَى مَنْ رَضِيَهَا الْوَالِدَانِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِإِطْلَاقِ: مَا، الْمَوْضُوعَةِ لِمَا لَا يَعْقِلُ عَلَى الْعَاقِلِ، وَقِيلَ: سَلَّمْتُمْ إِلَى الْأُمَّهَاتِ أَجْرَهُنَّ بِحِسَابِ مَا أَرْضَعْنَ إِلَى وَقْتِ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَقِيلَ: سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ مِنْ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، أَيْ: سَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَرَضِيَ، وَكَانَ عَنِ اتِّفَاقٍ مِنْهُمَا، وَقَصْدِ خَيْرٍ وَإِرَادَةِ مَعْرُوفٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
509
وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ: فِي: مَا آتَيْتُمْ، أَنْ تَكُونَ: مَا، مَصْدَرِيَّةً أَيْ: إِذَا سَلَّمْتُمُ الْإِتْيَانَ، وَالْمَعْنَى مَعَ الْقَصْرِ، وَكَوْنُ: مَا، بِمَعْنَى الَّذِي، أَنْ يَكُونَ الَّذِي مَا آتَيْتُمْ نَقْدَهُ وَإِعْطَاءَهُ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الضَّمِيرُ مَقَامَهُ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: مَا آتَيْتُمُوهُ، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ مِنَ الصِّلَةِ، وَإِذَا كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً اسْتَغْنَى الْكَلَامُ عَنْ هَذَا التَّقْدِيرِ، وَرَوَى شَيْبَانُ عن عاصم:
ما أُوتِيتُمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ: مَا آتَاكُمُ اللَّهُ وَأَقْدَرَكُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَنَحْوِهَا، قَالَ تَعَالَى:
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «١» وَيَتَعَلَّقُ: بِالْمَعْرُوفِ، بِ: سَلَّمْتُمْ، أَيْ: بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ الَّذِي تَطِيبُ النَّفْسُ بِهِ، وَيُعِينُ عَلَى تَحْسِينِ نَشْأَةِ الصَّبِيِّ. وَقِيلَ: تتعلق: بآتيتم.
قَالُوا: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْآبَاءِ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا لِأَوْلَادِهِمْ مَرَاضِعَ إِذَا اتَّفَقُوا مَعَ الْأُمَّهَاتِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّةً جَاهِلِيَّةً، كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْمَرَاضِعَ لِأَوْلَادِهِمْ وَيُفَرِّغُونَ الْأُمَّهَاتِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَالِاسْتِصْلَاحِ لِأَبْدَانِهِنَّ، وَلِاسْتِعْجَالِ الْوَلَدِ بِحُصُولِ الْحَمْلِ، فَأَقَرَّهُمُ الشَّرْعُ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ بِقَطْعِ مَا أَلِفُوهُ، وَجَعَلَ الْأُجْرَةَ عَلَى الْأَبِ بِقَوْلِهِ: إِذا سَلَّمْتُمْ.
واتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَمَّا تَقَدَّمَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، خَرَجَ عَلَى تَقْدِيرِ أَمْرٍ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقًا بِأَمْرِ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بِهِمْ، حَذَّرَ وَهَدَّدَ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا وَأَتَى بِالصِّفَةِ الَّتِي هِيَ: بَصِيرٌ، مُبَالَغَةً فِي الْإِحَاطَةِ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مَعَهُمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي «٢» فِي حَقِّ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، إِذْ كَانَ طِفْلًا.
قَالُوا: وَفِي الْآيَةِ ضُرُوبٌ مِنَ الْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ، مِنْهَا: تَلْوِينُ الْخِطَابِ، وَمَعْدُولُهُ فِي:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ، والتأكيد: بكاملين، وَالْعَدْلُ عَنْ رِزْقِ الْأَوْلَادِ إِلَى رِزْقِ أُمَّهَاتِهِنَّ، لِأَنَّهُنَّ سَبَبُ تَوَصُّلِ ذَلِكَ. وَالْإِيجَازُ فِي: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ وَتَلْوِينُ الْخِطَابِ: فِي وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ثُمَّ قَالَ: إِذا سَلَّمْتُمْ وَهُوَ خِطَابٌ لِلْآبَاءِ خَاصَّةً، وَالْحَذْفُ فِي: أَنْ تَسْتَرْضِعُوا التَّقْدِيرُ: مَرَاضِعَ لِلْأَوْلَادِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ انْتَهَى.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى الْأَزْوَاجَ إِذَا طَلَّقُوا نِسَاءَهُمْ فيقاربوا
(١) سورة الحديد: ٥٧/ ٧.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٣٩.
510
انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِإِمْسَاكِهِنَّ، وَهُوَ مُرَاجَعَتُهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِنَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِالْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفٍ، بِأَنْ نَصَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إِمْسَاكِهِنَّ ضِرَارًا بِهِنَّ، وَجَاءَ النَّهْيُ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ الطَّلَاقِ، ثُمَّ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ الطَّلَاقِ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَارَّةِ لِلنِّسَاءِ، فَنُهُوا عَنْ هَذِهِ الْفِعْلَةِ الْقَبِيحَةِ تَعْظِيمًا لِهَذَا الْفِعْلِ السَّيِّءِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ إِيذَاءِ النِّسَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، أَيْ: إِنَّ إِمْسَاكَ النِّسَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَارَّةِ، وَتَطْوِيلِ عِدَّتِهِنَّ، إِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى نَفْسِهِ، حَيْثُ ارْتَكَبَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ نَهَى تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هزؤا، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ آيَاتٍ فِي النِّكَاحِ، وَالْحَيْضِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْخُلْعِ، وَتَرْكِ الْمُضَارَّةِ، وَتَضَمَّنَتْ أَحْكَامًا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِيجَابَ حُقُوقٍ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ عَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِأَمْرِ النِّسَاءِ حَتَّى كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ احْتِقَارًا لَهُنَّ، وَذَكَرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ مَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فَهُوَ ظَالِمٌ، أَكَّدَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هزؤا، بَلْ تُؤْخَذُ بِجِدٍّ وَقَبُولٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ عَادَاتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ فَيَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يُلْقِي اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ بِالْقَبُولِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ شُكْرًا لِنِعْمَتِهِ السَّابِقَةِ، ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَهُوَ وَاعِظٌ لَكُمْ، فَيَنْبَغِي قَبُولُهُ وَالِانْتِهَاءُ عِنْدَهُ، ثُمَّ أمر بتقوى الله تعالى، وَبِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَهُوَ لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِكُمْ، وَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْأَزْوَاجَ إِذَا طَلَّقُوا نِسَاءَهُمْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ لَا تَعْضُلُوهُنَّ عَنْ تَزَوُّجِ مَنْ أَرَدْنَ إِذَا وَقَعَ تَرَاضٍ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَخَاطِبِهَا، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ مِنْهُمُ امْرَأَةً وَبَتَّهَا يَعْضُلُهَا عَنِ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ، ثُمَّ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إِلَى الْعَضْلِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يُوعَظُ بِهِ الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لَمْ يَزْدَجِرْ عَنْ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَنَبَّهَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ مُخَالَفَةِ النَّهْيِ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ إِلَى التَّمْكِينِ مِنَ التَّزْوِيجِ وَعَدَمِ الْعَضْلِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَطْهَرَ لِمَا يُخْشَى مِنَ اجْتِمَاعِ الْخَاطِبِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى رِيبَةٍ إِذَا مُنِعَا مِنَ التَّزْوِيجِ، ثُمَّ نَسَبَ الْعِلْمَ إِلَيْهِ تَعَالَى وَنَفَاهُ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ، إِذْ هُوَ الْعَالِمُ بِخَفَايَا الْأُمُورِ وَبَوَاطِنِهَا.
ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ أَشْيَاءَ مِنْ نَتَائِجِ التَّزْوِيجِ مِنْ إِرْضَاعِ الْوَالِدَاتِ أَوْلَادَهُنَّ، وَذِكْرِ حَدِّ ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ، وَمَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَعَلَى وَارِثِهِ إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ مِنَ
511
النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إِجْحَافٍ لَا بِالزَّوْجِ وَلَا بِالزَّوْجَةِ، وَذَكَرَ جَوَازَ فَصْلِهِ وَفِطَامِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِرِضَا أَبِيهِ وَأُمِّهِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَجَوَازَ الِاسْتِرْضَاعِ لِلْأَوْلَادِ إِذَا اتَّفَقَ الرَّجُلُ وَالزَّوْجَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَشَارَ إِلَى تَسْلِيمِ أَجْرِ الْأَظْآرِ تَطْيِيبًا لِأَنْفُسِهِنَّ وَإِعَانَةً لَهُنَّ عَلَى مَحَبَّةِ الصَّغِيرِ، وَاشْتِمَالِهِنَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْشَأَ كَأَنَّهُ قَدْ أَرْضَعَتْهُ أُمُّهُ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ جَالِبٌ لِلْمَحَبَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، كَمَا خَتَمَ تَعَالَى الْآيَةَ الْأُولَى بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى بِالْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُجَازَاةِ، وَتَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمَنْ خالف أمره تعالى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٤ الى ٢٣٩]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
يَذَرُ: مَعْنَاهُ يَتْرُكُ، وَيُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْأَمْرُ وَلَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ اسْمُ الْفَاعِلِ وَلَا الْمَفْعُولِ، وَجَاءَ الْمَاضِي مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الشُّذُوذِ.
512
خَبِيرٌ: لِلْمُبَالَغَةِ، مِنْ خَبِرْتُ الشَّيْءَ عَلِمْتُهُ، وَمِنْهُ: قَتَلَ أَرْضًا خَابَرَهَا، وَخَبَرْتُ زَيْدًا اخْتَبَرْتُهُ، وَلِهَذِهِ الْمَادَّةِ يَرْجِعُ الْخَبَرُ لِأَنَّهُ الشَّيْءُ الْمُعْلَمُ بِهِ، وَالْخَبَارُ الْأَرْضُ اللَّيِّنَةُ.
التَّعْرِيضُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الشَّيْءِ دُونَ تَصْرِيحٍ.
الْخِطْبَةُ: بِكَسْرِ الْخَاءِ الْتِمَاسُ النِّكَاحِ، يُقَالُ خَطَبَ فُلَانٌ فُلَانَةً، أَيْ: سَأَلَهَا خِطْبَهُ أَيْ: حَاجَتَهُ، فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا خَطْبُكَ؟ أَيْ: مَا حَاجَتُكَ، وَأَمْرُكَ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْخِطْبَةُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخَطْبِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: إِنَّهُ يُحْسِنُ الْقِعْدَةَ وَالْجِلْسَةَ، يُرِيدُ: الْقُعُودَ وَالْجُلُوسَ.
وَالْخُطْبَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى: الزَّجْرِ، وَالْوَعْظِ، وَالْأَذْكَارِ، وَكِلَاهُمَا رَاجِعٌ لِلْخِطَابِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، وَكَانَتْ سَجَاحُ يَقُولُ لَهَا الرَّجُلُ: خِطْبٌ، فَتَقُولُ: نِكْحٌ.
أَكَنَّ الشَّيْءَ: أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ، وَكَنَّهُ: سَتَرَهُ شَيْءٌ، وَالْهَمْزَةُ فِي أَكَنَّ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، كَأَشْرَقَتِ.
الْعُقْدَةُ: فِي الْحَبْلِ، وَفِي الْغُصْنِ مَعْرُوفَةٌ، يُقَالُ: عَقَدْتُ الْحَبْلَ وَالْعَهْدَ، وَيُقَالُ:
أَعْقَدْتُ الْعَسَلَ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الِاشْتِدَادِ، وَتَعَقَّدَ الْأَمْرُ عَلَيَّ اشْتَدَّ، وَمِنْهُ الْعُقُودُ.
الْمُقَتِّرُ: الْمُقِلُّ أَقْتَرَ الرَّجُلُ وَقَتَّرَ يُقْتِرُ وَيُقَتِّرُ، وَالْقِلَّةُ مَعْنًى شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَوَاقِعِ اشْتِقَاقِهِ، وَمِنْهُ الْقَتِيرُ، وَهُوَ مِسْمَارُ الدِّرْعِ، وَالْقَتْرَةُ أَدْنَى الْغُبَارِ، وَالنَّامُوسِ الصِّغَارِ، وَالْقُتَارُ: رِيحُ الْقِدْرِ.
قَالَ طَرَفَةُ:
حِينَ قَالَ النَّاسُ فِي مَجْلِسِهِمْ أَقُتَارٌ ذَاكَ؟ أَمْ رِيحُ قُطُرْ؟
وَالْقُتُرُ: بُيُوتُ الصَّيَّادِينَ عَلَى الْمَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
رُبَّ رَامٍ مِنْ بَنِي ثُعَلٍ مُثْلِجٍ كَفَّيْهِ فِي قُتُرِهْ
النِّصْفُ: هُوَ الْجُزْءُ مِنَ اثْنَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، وَيُقَالُ: بكسر النون وضمها، ونضيف:
وَمِنْهُ: مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ، أَيْ: نِصْفَهُ، كَمَا يُقَالُ: ثُمُنٌ وَثُمَيْنٌ، وَعُشْرٌ وَعُشَيْرٌ، وَسُدُسٌ وَسُدَيْسٌ، وَمِنْهُ قِيلَ: النَّصَفُ. الْمِقْنَعَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ نَصِيفٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ بَلَغَ نِصْفَ غَيْرِهِ فَهُوَ نِصْفٌ، يُقَالُ: نَصَفَ النَّهَارُ يَنْصُفُ، وَنَصَفَ الْمَاءُ الْقَدَحَ، وَالْإِزَارُ السَّاقَ، وَالْغُلَامُ الْقُرْآنَ، وَحَكَى الْفَرَّاءُ فِي جَمِيعِ هَذَا: أَنْصَفَ.
الْمُحَافَظَةُ عَلَى الشَّيْءِ: الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ الْحِفْظِ، حَفِظَ الْمَكَانَ حَرَسَهُ،
513
وَحَفِظَ الْقُرْآنَ تَذَكَّرَهُ غَائِبًا، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى الْحِرَاسَةِ، وَحَفِظَ فُلَانٌ: غَضِبَ، وَأَحْفَظَهُ:
أَغْضَبَهُ، وَمَصْدَرُ: حَفِظَ، بِمَعْنَى غَضِبَ: الْحَفِيظَةُ وَالْحِفْظُ.
الرُّكُوبُ: مَعْرُوفٌ، وَرُكْبَانٌ: جَمْعُ رَاكِبٍ، وَهُوَ صِفَةٌ اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، فَحَسُنَ أَنْ يُجْمَعَ جَمْعَ الْأَسْمَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي الْأَسْمَاءِ مَحْفُوظٌ قَلِيلٌ، قَالُوا: حَاجِرٌ وَحُجْرَانٌ، وَمِثْلُ، رُكْبَانٍ: صُحْبَانٌ، وَرُعْيَانٌ، جَمْعُ صَاحِبٍ وَرَاعٍ، فَإِنْ لَمْ تُسْتَعْمَلِ الصِّفَةُ اسْتِعْمَالَ الأسماء لم يجىء فِيهَا فِعْلَانٌ، لَمْ يَرِدْ مِثْلُ: ضِرْبَانٍ وَقِتْلَانٍ فِي جَمْعِ: ضَارِبٍ وَقَاتِلٍ.
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ عِدَّةِ طَلَاقِ الْحَيْضِ، وَاتَّصَلَتِ الْأَحْكَامُ إِلَى ذِكْرِ الرَّضَاعِ، وَكَانَ فِي ضِمْنِهَا قَوْلُهُ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ «١» أَيْ: وَارِثُ الْمَوْلُودِ لَهُ، ذِكْرُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ إِذْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِعِدَّةِ طَلَاقِ الْحَيْضِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُتَوَفَّوْنَ، بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ: بِفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُمْ: يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ.
وَإِعْرَابُ: الَّذِينَ، مُبْتَدَأٌ واختلف أنه خَبَرٌ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْكِسَائِيُّ وَالْفِرَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا خَبَرَ لَهُ، بَلْ أَخْبَرَ عَنِ الزَّوْجَاتِ الْمُتَّصِلِ ذكرهن: بالذين، لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعَهُنَّ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ، فَجَاءَ الْخَبَرُ عَمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالْمَعْنَى: مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا تَرَبَّصَتْ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
لَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً عَلَى ابن أبي ذيان أن يَتَنَدَّمَا
فَقَالَ: لَعَلِّي، ثُمَّ قَالَ: أَنْ يَتَنَدَّمَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَعَلَّ ابْنَ أَبِي ذَيَّانَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً أَنْ يَتَنَدَّمَا وَقَالَ الشَّاعِرُ:
بَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ قَيْسٍ، وَقَتْلَهُ بِغَيْرِ دَمٍ، دَارَ الْمَذَلَّةِ حَلَّتِ
أَلْغَى ابْنَ قَيْسٍ، وَقَدِ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِ وَأَخْبَرَ عَنْ قَتْلِهِ أَنَّهُ ذُلٌّ وَتَحْرِيرُ مَذْهَبِ الْفَرَّاءِ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا ذَكَرَتْ أَسْمَاءً مُضَافَةً إِلَيْهَا، فِيهَا مَعْنَى الْخَبَرِ، أَنَّهَا تَتْرُكُ الْإِخْبَارَ عَنِ الِاسْمِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٣.
514
الْخَبَرُ عَنِ الْمُضَافِ، مِثَالُهُ: إِنَّ زَيْدًا وَأُخْتَهُ مُنْطَلِقَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّ أُخْتَ زَيْدٍ مُنْطَلِقَةٌ وَالْبَيْتُ الْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدُوا مِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الضَّرْبَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
فَمَنْ يَكُ سَائِلًا عَنِّي فَإِنِّي وَجِرْوَةَ لَا تَرُودُ وَلَا تُعَارُ
وَالرَّدُّ عَلَى الْفَرَّاءِ، وَتَأْوِيلُ الْأَبْيَاتِ وَالْآيَةِ، مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لَهُ خَبَرًا، وَاخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: هُوَ مَلْفُوظٌ بِهِ، وَهُوَ: يَتَرَبَّصْنَ، وَلَا حَذْفٌ يُصَحِّحُ مَعْنَى الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ رُبِطَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ النُّونَ فِي: يَتَرَبَّصْنَ، عَائِدٌ، فَقِيلَ: عَلَى الْأَزْوَاجِ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، فَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَقِيلَ: يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجَهُمْ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى حَذْفٍ، وَكَانَ إِخْبَارًا صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ.
وَقِيلَ: ثَمَّ حَذْفٌ يُصَحِّحُ مَعْنَى الْخَبَرِيَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْحَذْفِ، فَقِيلَ: مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ، وَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَقِيلَ:
مِنَ الْخَبَرِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ، أَوْ: بَعْدَ مَوْتِهِمْ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ.
وَقِيلَ: مِنَ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ جُمْلَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَخَبَرُهُ يَتَرَبَّصْنَ، تَقْدِيرُهُ: أَزْوَاجُهُمْ يَتَرَبَّصْنَ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْمُظْهَرُ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ.
وَقِيلَ: الْخَبَرُ بِجُمْلَتِهِ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ قَبْلَ الْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا.
وَقَوْلُهُ: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ بَيَانٌ لِلْحُكْمِ الْمَتْلُوِّ، وَهِيَ جُمْلَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، قَالُوا: وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا يَتَّجِهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ لَفْظُ أَمْرٍ بَعْدُ، مِثْلَ قَوْلِهِ:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «١» وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا مَعْنَى الْأَمْرِ لَا لَفْظُهُ، فَيَحْتَاجُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ يُسْتَغْنَى عَنْهُ إِذَا حَضَرَ لَفْظُ الْأَمْرِ، وَحَسُنَ مَجِيءُ الْآيَةِ هَكَذَا أَنَّهَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذِ الْقَصْدُ بِالْمُخَاطَبَةِ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى آخِرِهَا لِلرِّجَالِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْحُكَّامُ وَالنُّظَّارُ عِبَارَةُ الْأَخْفَشِ وَالْمُبَرِّدِ مَا ذَكَرْنَاهُ. انْتَهَى كلامه.
وظاهر قَوْلِهِ: يَتَرَبَّصْنَ، الْعُمُومُ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ تُوَفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَمَةُ والكتابية والصغيرة.
(١) سورة المائدة: ٥/ ٣٨.
515
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عِدَّةَ الْكِتَابِيَّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهَا عِدَّةً، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فَلَا عِدَّةَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْإِحْدَادُ، وَتَخْصِيصُ الْحَامِلِ قِيلَ: بِقَوْلِهِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ «١» الْآيَةَ، وَلَمْ يُخَصِّصِ الشَّافِعِيُّ هُنَا الْعُمُومَ فِي حَقِّ الْحَامِلِ إِلَّا بِالسُّنَّةِ لَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهَا وَرَدَتْ عُقَيْبَ ذِكْرِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هِيَ فِي الْمُطَلَّقَةِ، لَا فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَعَمُّ مِنَ الْأُخْرَى مِنْ وَجْهٍ، وَأَخَصُّ مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّ الْحَامِلَ قَدْ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ لَا يُتَوَفَّى، وَالَّتِي تُوَفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدْ تَكُونُ حَامِلًا وَقَدْ لَا تَكُونُ، فَامْتُنِعَ التَّخْصِيصُ.
وَقِيلَ: الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ أَوَّلًا الْحَوَامِلَ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ «٢» وَعِدَّةُ الْحَامِلِ وَضْعُ حَمْلِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ تَمَامَ عِدَّتِهَا آخِرُ الْأَجَلَيْنِ
، وَاخْتَارَهُ سَحْنُونُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَيْ: يَنْتَظِرْنَ. قِيلَ: وَالتَّرَبُّصُ هُنَا الصَّبْرُ عَنِ النِّكَاحِ، قَالَهُ الْحَسَنُ، قَالَ: وَلَيْسَ الْإِحْدَادُ بِشَيْءٍ وَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَطَيَّبَ، وَضُعِّفَ قَوْلُهُ. وَقِيلَ: تَرْكُ التَّزَوُّجِ وَلُزُومُ الْبَيْتِ وَالْإِحْدَادُ، وَهُوَ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الزِّينَةِ، وَمِنْ لُبْسِ الْمَصْبُوغِ الْجَمِيلِ مِثْلَ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَالْخُضْرَةِ، وَالطِّيبِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى الْإِحْدَادِ، بَلِ التَّرَبُّصُ مُجْمَلٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، ثَبَتَ
فِي حَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ».
وَكَانَتْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، قَالَتْ:
فَاعْتَدَدْتُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَصَحَّ أَنَّهُ
قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَتَلْزَمُ الْمَبِيتَ فِي بَيْتِهَا». وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَغَيْرُهُمَا: تَبِيتُ حَيْثُ شَاءَتْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، وَجَابِرٍ، وَعَائِشَةَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَدَاوُدُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ تَعَالَى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ: يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَلْتَعْتَدَّ حَيْثُ شَاءَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالُوا: مَعْنَاهُ وَعَشْرَ لَيَالٍ، وَلِذَلِكَ حَذَفَ التَّاءَ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمُرَادُ عَشْرُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا، فَيَدْخُلُ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، قِيلَ: وغلب حكم الليالي
(١- ٢) سورة الطلاق: ٦٥/ ٤.
516
إِذِ اللَّيَالِي أَسْبَقُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَالْأَيَّامَ فِي ضِمْنِهَا، وَعَشْرٌ أَخَفُّ فِي اللَّفْظِ، وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إِلَّا بِانْقِضَاءِ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَحَمُّ: لَيْسَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْعِدَّةِ، بَلْ تَنْقَضِي بِتَمَامِ عَشْرِ لَيَالٍ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مَعْنَاهُ وَعَشْرَ مُدَدٍ كُلُّ مُدَّةٍ مِنْهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ: سِرْنَا خَمْسًا، أَيْ: بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَطَافَتْ ثَلَاثًا بَيْنَ يوم وليلة وكان النكيرات تُضِيفَ وَتَجْأَرَا
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقيل عشرا ذهابا إِلَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ دَاخِلَةٌ مَعَهَا، وَلَا تَرَاهُمْ قَطُّ يَسْتَعْمِلُونَ التَّذْكِيرَ فِيهِ ذَاهِبِينَ إِلَى الْأَيَّامِ، تَقُولُ: صُمْتُ عَشْرًا، وَلَوْ ذُكِرَتْ خَرَجَتْ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَمِنَ الْبَيِّنِ فِيهِ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً «١» إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «٢» انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ عَشْرٌ بِأَنَّهَا لَيَالٍ لِأَجْلِ حَذْفِ التَّاءِ، وَلَا إِلَى تَأْوِيلِهَا بِمُدَدٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ، بَلِ الَّذِي نَقَلَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ: إِذَا كَانَ الْمَعْدُودُ مُذَكَّرًا وَحَذَفْتَهُ، فَلَكَ فِيهِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْأَصْلُ: أَنْ يَبْقَى الْعَدَدُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يُحْذَفِ الْمَعْدُودُ، فَتَقُولُ: صُمْتُ خَمْسَةً. تُرِيدُ: خَمْسَةَ أَيَّامٍ، قَالُوا: وَهُوَ الْفَصِيحُ، قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ مِنْهُ كُلِّهِ تَاءُ التَّأْنِيثِ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ: صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُصَامُ مِنَ الشَّهْرِ إِنَّمَا هِيَ الْأَيَّامُ، وَالْيَوْمُ مُذَكَّرٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَإِلَّا فَسِيرِي مِثْلَ مَا سَارَ رَاكِبٌ يُتَمِّمُ خَمْسًا لَيْسَ فِي سَيْرِهِ أَمَمْ
يُرِيدُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَعَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَجَاءَ قَوْلُهُ: عَشْرًا عَلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، وَحُسْنُهُ هُنَا أَنَّهُ مَقْطَعُ كَلَامٍ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْفَوَاصِلِ، كَمَا حَسَّنَ قَوْلَهُ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً «٣» كَوْنُهُ فَاصِلَةً، فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ مَجِيءُ هَذَا عَلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ، فَقَوْلُهُ: وَلَوْ ذُكِرَتْ لَخَرَجَتْ عَنْ كَلَامِهِمْ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ لَوْ ذُكِرَ لَكَانَ أَتَى عَلَى الْكَثِيرِ الَّذِي نَصُّوا عَلَيْهِ أَنَّهُ الْفَصِيحُ، إِذْ حَالُهُ عِنْدَهُمْ مَحْذُوفًا كَحَالِهِ مُثْبَتًا فِي الْفَصِيحِ، وَجَوَّزُوا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَرَاهُمْ قَطُّ يَسْتَعْمِلُونَ التَّذْكِيرَ فِيهِ، كَمَا ذُكِرَ، بَلِ اسْتِعْمَالُ التَّذْكِيرِ هُوَ الْكَثِيرُ الْفَصِيحُ فِيهِ. كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ: وَمِنَ
(١- ٣) سورة طه: ٢٠/ ١٠٣.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ١٠٤.
517
الْبَيِّنِ فِيهِ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً «١» قَدْ بَيَّنَّا مَجِيءَ هَذَا عَلَى الْجَائِزِ فِيهِ، وَأَنَّ مُحَسِّنَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ كَوْنُهُ فَاصِلَةً، وَقَوْلُهُ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «٢» فَائِدَةٌ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا أَنَّهُ عَلَى زَعْمِهِ أَرَادَ اللَّيَالِيَ، وَالْأَيَّامُ دَاخِلَةٌ مَعَهَا، فَأَتَى بِقَوْلِهِ: إِلَّا يَوْمًا، لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: عَشْرًا، إِنَّمَا يُرِيدُ بِهَا الْأَيَّامَ، لِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ اللُّبْثِ، فَقَالَ قَوْمٌ: عَشْرٌ، وَقَالَ، أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: يَوْمٌ، فَقَوْلُهُ: إِلَّا يَوْمًا، مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِمْ إِلَّا عَشْرًا، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْعَشْرِ الْأَيَّامَ، إِذْ لَيْسَ مِنَ التَّقَابُلِ أَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ: عَشْرُ لَيَالٍ، وَيَقُولُ بَعْضٌ: يَوْمًا.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّهْرِ، فَلَوْ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ مَعَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَاعْتَدَّتْ بِالْأَهِلَّةِ، كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا. وَإِنْ وَجَبَتْ فِي بَعْضِ شَهْرٍ، فَقِيلَ: تَسْتَوْفِي مِائَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: تَعْتَدُّ بِمَا يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنَ الْأَهِلَّةِ شُهُورًا، ثُمَّ تُكْمِلُ الْأَيَّامَ الْأُوَلَ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَعْلَمَ ذَلِكَ، فَتَعْتَدَّ إِثْرَ الْوَفَاةِ، جَاءَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا: إِلَيْهِنَّ، وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: بِأَنْفُسِهِنَّ، فَلَوْ مَضَتْ عَلَيْهَا مُدَّةُ الْعِدَّةِ مِنْ حِينِ الْوَفَاةِ، وَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِوَفَاتِهِ إِلَى أَنِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ عِدَّتَهَا مِنْ يَوْمِ الْوَفَاةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَعَطَاءٌ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَخِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو، وَرَبِيعَةُ: مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ
. وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا فِي إِسْنَادِ التَّرَبُّصِ إِلَيْهِنَّ تَأْثِيرًا فِي الْعِدَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ فَالْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِ يَمُوتُ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ فَمِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ، لَوْ كَانَتْ حَامِلًا لَا تَعْلَمُ بِوَفَاةِ الزَّوْجِ حَتَّى وَضَعَتِ الْحَمْلَ، أَنَّ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةٌ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِلَّا لِأَنْ تَتَرَبَّصَ تِلْكَ الْمُدَّةَ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا، قَالَهُ جَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
(١) سورة طه: ٢٠/ ١٠٣.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ١٠٤.
518
وَقِيلَ: لَهَا النَّفَقَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَشُرَيْحٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً أَنَّهُ إِذَا تَرَبَّصَتْ هَذِهِ الْمُدَّةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَلَمْ تَحِضْ فِيهَا، وَقِيلَ: لَا تَبْرَأُ إِلَّا بِحَيْضَةٍ تَأْتِي بِهَا فِي الْمُدَّةِ، وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَرِيبَةٌ، فَتَمْكُثُ حَتَّى تَزُولَ رِيبَتُهَا.
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ناسخة لِمَا بَعْدَهَا مِنَ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ، وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ النَّسْخِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الثَّانِيَ يَنْسَخُ الْأَوَّلَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَوْلَ لَمْ يُنْسَخْ، وَإِنَّمَا هُوَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، بَلْ هُوَ عَلَى النَّدْبِ، فَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، أَقَلُّ مَا تَعْتَدُّ بِهِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْحَوْلُ هُوَ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ، وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ مِنَ الْحَوْلِ: كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ لَمَّا نَقَصَتْ مِنَ الْأَرْبَعِ إلى الاثنتين لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا، بَلْ كَانَ تَخْفِيفًا.
قَالُوا: وَاخْتُصَّ هَذَا الْعَدَدُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا اسْتِبْرَاءً لِلْحَمْلِ
فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَكُونُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَزَادَ اللَّهُ الْعَشْرَ لِأَنَّهَا مَظِنَّةٌ لِظُهُورِ حَرَكَةِ الْجَنِينِ، أَوْ مُرَاعَاةً لِنَقْصِ الشُّهُورِ وَكَمَالِهَا، أَوِ اسْتِظْهَارًا لِسُرْعَةِ ظُهُورِ الْحَرَكَةِ أَوْ بطئها فِي الْجَنِينِ».
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا زِيدَتِ الْعَشْرُ لِأَنَّ نَفْخَ الرُّوحِ يَكُونُ فِيهَا، وَظُهُورَ الْحَمَلِ فِي الْغَالِبِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ولد كل حامل يَرْكُضُ فِي نِصْفِ حَمْلِهِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّ الْوَلَدَ فِي الْأَكْثَرِ، إِذَا كَانَ ذَكَرًا يَتَحَرَّكُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَإِذَا كَانَ أُنْثَى بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ عَشْرًا اسْتِظْهَارًا.
قَالَ: وَخُصَّتِ الْعَشْرَةُ بِالزِّيَادَةِ لِكَوْنِهَا أَكْمَلَ الْأَعْدَادِ وَأَشْرَفَهَا لِمَا تَقَدَّمَ فِي: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «١».
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَمَّا كَانَ حَقُّ الْمَيِّتِ أَعْظَمَ، لِأَنَّ فِرَاقَهُ لَمْ يَكُنْ بِالِاخْتِيَارِ، كَانَتْ مُدَّةُ وَفَاتِهِ أَطْوَلَ، وَفِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ سَنَةً، ثُمَّ رُدَّتْ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وعشرة أيام
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٩٦.
519
لِتَخْفِيفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ عَنْ مَاءِ الزَّوْجِ، ثُمَّ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ أُبِيحَ لَهَا التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ، إِذِ الْمَوْتُ لَا يَسْتَدِيمُ مُوَافَاةً إِلَى آخِرِ عُمْرِ أَحَدٍ. كَمَا قِيلَ:
وَكَمَا تَبْلَى وُجُوهٌ فِي الثَّرَى فَكَذَا يَبْلَى عَلَيْهِنَّ الْحَزَنْ
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ. بُلُوغُ أَجَلِهِنَّ هُوَ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ في التربص، والمخاطبون: بعليكم، الْأَوْلِيَاءُ، أَوِ الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ وَالْعُلَمَاءُ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي الْوَقَائِعِ، أَوْ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ. أَقْوَالٌ، وَرَفَعَ الْجُنَاحَ عَنِ الرِّجَالِ فِي بُلُوغِ النِّسَاءِ أَجَلَهُنَّ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ، وَيَأْخُذُونَهُنَّ بِأَحْكَامِ الْعَدَدِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ إِذْ ذَاكَ يَسُوغُ لَهُمْ نِكَاحُهُنَّ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ حَرَامًا، فَزَالَ الْجُنَاحُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وَالَّذِي فَعَلْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ: النِّكَاحُ الْحَلَالُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ شِهَابٍ، أَوِ: الطِّيبُ، وَالتَّزَيُّنُ، وَالنَّقْلَةُ مِنْ مَسْكَنٍ إِلَى مَسْكَنٍ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، وَمَعْنَى: بِالْمَعْرُوفِ أَيْ:
بِالْإِشْهَادِ، وَقِيلَ: مَا أَذِنَ فِيهِ الشَّرْعُ مِمَّا يَتَوَقَّفُ النِّكَاحُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ، بِالْمَعْرُوفِ: بِالْوَجْهِ الَّذِي لَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُنَّ لَوْ فَعَلْنَ مَا هُوَ مُنْكَرٌ كَانَ عَلَى الْأَئِمَّةِ أَنْ يَكُفُّوهُنَّ، وَإِنْ فَرَّطُوا كَانَ عَلَيْهِمُ الْجُنَاحُ.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَعِيدٌ يَتَضَمَّنُ التَّحْذِيرَ، وَخَبِيرٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا لَطَفَ وَالتَّقَصِّي لَهُ.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ نَفَى اللَّهُ الْحَرَجَ فِي التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ، وَهُوَ: إِنَّكِ لَجَمِيلَةٌ، وَإِنَّكِ لَصَالِحَةٌ، وَإِنَّ مِنْ عَزْمِي أَنْ أَتَزَوَّجَ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ: أُرِيدُ النِّكَاحَ، وَأُحِبُّ امْرَأَةً كَذَا وَكَذَا يَعُدُّ أَوْصَافَهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ: إِنَّكِ لَنَافِقَةٌ، وَإِنْ قُضِيَ شَيْءٌ سَيَكُونُ، قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. أَوْ:
يَصِفُ لَهَا نَفْسَهُ، وَفَخْرَهُ، وَحَسَبَهُ، وَنَسَبَهُ، كَمَا فَعَلَ الْبَاقِرُ مَعَ سَكِينَةَ بِنْتِ حَنْظَلَةَ، أَوْ يَقُولُ لِوَلِيِّهَا: لَا تَسْبِقْنِي بِهَا، كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: «كُونِي عِنْدَ أُمِّ شَرِيكٍ وَلَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ». وَقَدْ أُوِّلَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ عَلَى سَبِيلِ الرَّأْيِ فِيمَنْ يَتَزَوَّجُهَا، لَا أَنَّهُ أَرَادَهَا لِنَفْسِهِ
، وَلِذَلِكَ كَرِهَ مُجَاهِدٌ أَنْ يَقُولَ: لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ، وَرَآهُ مِنَ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا، أَوْ يَقُولُ: مَا عَلَيْكِ تَأَيُّمٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يَسُوقُ إِلَيْكِ خَيْرًا، أَوْ رُبَّ رَجُلٍ يَرْغَبُ فِيكِ، أَوْ: يَهْدِي لَهَا وَيَقُومُ بِشَغْلِهَا إِذَا كَانَتْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي تَزْوِيجِهَا.
520
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَوْ يَقُولُ كُلُّ مَا سِوَى التَّصْرِيحِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِالتَّزْوِيجِ، وَلَا التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَلَا الرَّفَثُ، وَذِكْرُ الْجِمَاعِ، وَالتَّحْرِيضُ عَلَيْهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الشَّافِعِيَّةُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ فِي التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالنَّدْبِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَكَمَا خَالَفَ نَهْيُ حُكْمَيِ التَّعْرِيضِ وَالتَّصْرِيحِ فِي الْخِطْبَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ.
أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أَيْ: أَخْفَيْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ أَمْرِ النِّكَاحِ فَلَمْ تُعَرِّضُوا بِهِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِذِكْرٍ، وَكَانَ الْمَعْنَى رَفْعُ الْجُنَاحِ عَمَّنْ أَظْهَرَ بِالتَّعْرِيضِ أَوْ سَتَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْحَرَجُ عَمَّنْ تَعَرَّضَ بِاللَّفْظِ فَأَحْرَى أَنْ يَرْتَفِعَ عَمَّنْ كَتَمَ، وَلَكِنَّهُمَا حَالَةُ ظُهُورٍ وَإِخْفَاءٍ عُفِيَ عَنْهُمَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْقِدُ قَلْبَهُ عَلَى أَنَّهُ سَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ التَّعْرِيضَ، وَحَرَّمَ التَّصْرِيحَ فِي الْحَالِ، وَأَبَاحَ عَقْدَ الْقَلْبِ عَلَى التَّصْرِيحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِكْنَانُ فِي النَّفْسِ هُوَ الْمَيْلُ إِلَى الْمَرْأَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ إِيضَاحِ الْوَاضِحَاتِ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْخِطْبَةِ أَعْظَمُ حَالًا مِنْ مَيْلِ الْقَلْبِ.
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ هَذَا عُذْرٌ فِي التَّعْرِيضِ، لِأَنَّ الْمَيْلَ مَتَى حَصَلَ فِي الْقَلْبِ عَسُرَ دَفْعُهُ، فَأَسْقَطَ اللَّهُ الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ طَرَفٌ مِنَ التَّوْبِيخِ، كَقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ «١» وَجَاءَ الْفِعْلُ بِالسِّينِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَقَارُبِ الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا تَرَاخِيهِ، لِأَنَّهُنَّ يذكرن عند ما انْفَصَلَتْ حِبَالُهُنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ بِالْمَوْتِ، وَتَتُوقُ إِلَيْهِنَّ الْأَنْفُسُ، وَيُتَمَنَّى نِكَاحُهُنَّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، معنى: ستذكرونهن، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ لَمْ تُنْهَوْا. انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: سَتَذْكُرُونَهُنَّ، شَامِلٌ لِذِكْرِ اللِّسَانِ وَذِكْرِ الْقَلْبِ، فَنَفَى الْحَرَجَ عَنِ التَّعْرِيضِ وَهُوَ كَسْرُ اللِّسَانِ، وَعَنِ الْإِخْفَاءِ فِي النَّفْسِ وَهُوَ ذِكْرُ الْقَلْبِ.
وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
سَتَذْكُرُونَهُنَّ، وَالذِّكْرُ يَقَعُ عَلَى أَنْحَاءٍ وأوجه، فاستدرك منه وجه نَهَى فِيهِ عَنْ ذِكْرٍ مَخْصُوصٍ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَدْرِكْ لَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ لِانْدِرَاجِهِ تَحَتَ مُطْلَقِ الذِّكْرِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِوُقُوعِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِكَ: زَيْدٌ سَيَلْقَى خَالِدًا وَلَكِنْ لَا يُوَاجِهُهُ بِشَرٍّ، فَاسْتَدْرَكَ هَذِهِ الْحَالَةَ مما
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٧. [.....]
521
يَحْتَمِلُهُ اللِّقَاءُ، وَإِنَّ مِنْ أَحْوَالِهِ الْمُوَاجَهَةَ بِالشَّرِّ، وَلَا يَحْتَاجُ لَكِنْ إِلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَهَا، لَكِنْ يَحْتَاجُ مَا بَعْدَ: لَكِنْ، إِلَى وُقُوعِ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمُوَاجَهَةِ بِالشَّرِّ يَسْتَدْعِي وُقُوعَ اللِّقَاءِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ، أَيْنَ الْمُسْتَدْرَكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ. قُلْتُ، هُوَ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ: سَتَذْكُرُونَهُنَّ عَلَيْهِ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فَاذْكُرُوهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ قَبْلَ لَكِنْ، بَلِ الِاسْتِدْرَاكُ جَاءَ مِنْ قِبَلِ قَوْلِهِ: سَتَذْكُرُونَهُنَّ، وَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ النِّسَاءِ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ، وَلَا النَّدْبِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ: فَاذْكُرُوهُنَّ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلَ قَوْلِكَ: سَأَلْقَاكَ وَلَكِنْ لَا تَخَفْ مِنِّي، لَمَّا كَانَ اللِّقَاءُ مِنْ بَعْضِ أَحْوَالِهِ أَنْ يُخَافَ مِنَ الْمُلْقَى اسْتَدْرَكَ فَقَالَ: وَلَكِنْ لَا تَخَفْ مِنِّي.
وَالسِّرُّ ضِدُّ الْجَهْرِ، وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ الْجِمَاعِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، لَكِنَّهُ فِي سِرٍّ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ، وَقَدْ فَسَّرَ: السِّرَّ، هُنَا: بِالزِّنَا الْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ. وَمِمَّا جَاءَ: السِّرُّ، فِي الوطء الحرام، قوله الْحُطَيْئَةِ:
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ الْقِصَاعِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَلَا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: السِّرُّ، هُنَا النِّكَاحُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تَنْكِحُوهُنَّ وَتَكْتُمُونَ ذَلِكَ، فَإِذَا حَلَّتْ أَظْهَرْتُمُوهُ وَدَخَلْتُمْ بهن، فسمى العقد عليهن مُوَاعَدَةً، وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ لَفْظُ الْمُوَاعَدَةِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: جِمَاعًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنْ نَكَحْتُكِ كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، يُرِيدُ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا تَحْتَ اللِّحَافِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَالْجُمْهُورُ: الْمَعْنَى: لَا تُوَافِقُوهُنَّ الْمُوَاعَدَةَ وَالتَّوَثُّقَ وَأَخْذَ الْعُهُودِ فِي اسْتِسْرَارٍ مِنْكُمْ وَخِفْيَةٍ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، يَنْتَصِبُ، سِرًّا، عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُسْتَسِرِّينَ.
وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَنْتَصِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَإِذَا انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ كَانَ مَفْعُولُ:
522
فواعدوهن مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: النِّكَاحُ، وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: مُوَاعَدَةً سِرًّا. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ فِي: وَانْتَصَبَ انْتِصَابَ الظَّرْفِ، عَلَى أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ فِي السِّرِّ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُوَاعَدَةِ بِمَا يُسْتَهْجَنُ لِأَنَّ مُسَارَّتَهُنَّ فِي الْغَالِبِ بِمَا يُسْتَحَى مِنَ الْمُجَاهَرَةِ بِهِ، وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ أَنَّهُمْ: نُهُوا أَنْ يُوَاعِدَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فِي الْعِدَّةِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ بِوَجْهِ التَّزْوِيجِ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ السِّرِّ هُنَا بِالزِّنَا فَبَعِيدٌ، لِأَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِ مَعَ مُعْتَدَّةٍ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْمُوَاعَدَةِ سرا على النقد فبعيد أيضا، وأيد قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ الْمُوَاعَدَةِ بِالنِّكَاحِ سِرًّا وَجَهْرًا، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ الْمُوَاعَدَةِ بِالسِّرِّ.
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً. هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ تَحَتَ: سِرًّا، مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا عَلَى أَيِّ تَفْسِيرٍ فَسَّرْتَهُ، وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هُوَ مَا أُبِيحَ مِنَ التَّعْرِيضِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مِنَ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَقُولَ لِلْمُعْتَدَّةِ: احْبِسِي عَلَيَّ نَفْسَكِ فَإِنَّ لِي بِكِ رَغْبَةً فَتَقُولُ هِيَ: وَأَنَا مِثْلُ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهدا عندي مواعدة.
وإنما التعريض قَوْلِ الرَّجُلِ: إِنَّكُنَّ لَإِمَاءٌ كِرَامٌ، وَمَا قُدِّرَ كَانَ، وَإِنَّكِ لِمُعْجِبَةٌ وَنَحْوَ هَذَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَهُوَ أَنْ تُعَرِّضُوا وَلَا تُصَرِّحُوا.
فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تُوَاعِدُوهُنَّ، أَيْ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ مواعدة قط إلا مواعدة مَعْرُوفَةً غَيْرَ مُنْكَرَةٍ، أَوْ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إِلَّا بِأَنْ تَقُولُوا، أَيْ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إلّا التعريض، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ استثناء مِنْ: سِرًّا، لِأَدَائِهِ إِلَى قَوْلِكَ:
لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إِلَّا التَّعْرِيضَ انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَيَحْتَاجُ إِلَى تَوْضِيحٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَهُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَقَدَّرَهُ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ مُوَاعَدَةً قط إلا مواعدة معروفة غَيْرَ مُنْكَرَةٍ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَقُولُوا لَهُنَّ قَوْلًا تَعِدُونَهُنَّ بِهِ إِلَّا قَوْلًا مَعْرُوفًا، فَصَارَ هَذَا نَظِيرُ: لَا تَضْرِبْ زَيْدًا ضَرْبًا شَدِيدًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِنْ مَجْرُورٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ، وَقَدَّرَهُ: إِلَّا بِأَنْ تَقُولُوا، ثُمَّ أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا بِالتَّعْرِيضِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ
523
سِرًّا، أَيْ نِكَاحًا بِقَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ، إِلَّا بِقَوْلٍ مَعْرُوفٍ، وَهُوَ التَّعْرِيضُ. فَحُذِفَ: مِنْ أَنْ، حَرْفُ الْجَرِّ، فَيَبْقَى مَنْصُوبًا أَوْ مَجْرُورًا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي نَظَائِرِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الَّذِي قَبْلَهُ انْتَصَبَ نَصْبَ الْمَصْدَرِ، وَهَذَا انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ: الْبَاءُ، الَّتِي لِلسَّبَبِ.
قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا مِنْ: سِرًّا، لِأَدَائِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إِلَّا التَّعْرِيضَ، وَالتَّعْرِيضُ لَيْسَ مُوَاعَدًا، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُ أَنْ يَنْصَبَّ عليها الْعَامِلُ، وَهَذَا عِنْدَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا نَظِيرَ: ما رأيت أحدا إلا حِمَارًا. لَكِنَّ هَذَا يَصِحُّ فِيهِ: مَا رَأَيْتُ إِلَّا حِمَارًا، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ فِيهِ، لَا تُوَاعِدُوهُنَّ إِلَّا التَّعْرِيضَ، لِأَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يَكُونُ مُوَاعِدًا بَلْ مُوَاعِدًا بِهِ النِّكَاحَ، فَانْتِصَابُ: سِرًّا، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ: أَنْ تَقُولُوا، مَفْعُولًا، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. هَذَا تَوْجِيهٌ مَنَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ فِيمَا ذَكَرَ، وَهُوَ أَنْ يُمَكِّنَ تِلْكَ الْعَامِلَ السَّابِقَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى قِسْمَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ: أَنْ يَتَسَلَّطَ العامل عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا، كَمَا مَثَّلْنَا بِهِ فِي قَوْلِكَ: مَا رَأَيَتُ أحدا إلّا حمارا. و: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا حِمَارًا.
وَهَذَا النَّوْعُ فِيهِ خِلَافٌ عَنِ الْعَرَبِ، فَمَذْهَبُ الْحِجَازِيِّينَ نَصْبُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُسْتَثْنَى، وَمَذْهَبُ بَنِي تَمِيمٍ إِتْبَاعُهُ لِمَا قَبْلَهُ فِي الْإِعْرَابِ، وَيَصْلُحُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنْ تَحْذِفَ الْأَوَّلَ وَتُسَلِّطَ مَا قَبْلَهُ عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا، فَتَقُولُ: مَا رَأَيَتُ إِلَّا حِمَارًا، وَمَا فِي الدَّارِ إِلَّا حِمَارٌ.
وَيَصِحُّ فِي الْكَلَامِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ «١».
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ قِسْمَيِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ هُوَ أَنْ لَا يُمْكِنَ تَسَلُّطُ الْعَامِلِ عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا، وَهَذَا حُكْمُهُ النَّصْبُ عِنْدَ الْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَمِنْ ذَلِكَ: مَا زَادَ إِلَّا مَا نَقَصَ، وَمَا نَفَعَ إِلَّا مَا ضَرَّ. فَمَا بَعْدَ إِلَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ زَادَ وَلَا نَقَصَ، بَلْ يُقَدَّرُ الْمَعْنَى: مَا زَادَ، لَكِنَّ النَّقْصَ حَصَلَ لَهُ، وَمَا نَفَعَ لَكِنَّ الضَّرَرَ حَصَلَ، فَاشْتَرَكَ هَذَا الْقِسْمُ مَعَ الْأَوَّلِ فِي تقدير إلّا بلكن، لَكِنَّ الْأَوَّلَ يُمْكِنُ تَسْلِيطُ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي،
(١) سورة النساء: ٤/ ١٥٧.
524
وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ التَّعْرِيضَ سَائِغٌ لَكُمْ، وَكَأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ مَا عَلِمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ يَأْتِي عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ عَدَمِ تَوْجِيهِ الْعَامِلِ عَلَى مَا بَعْدَ إِلَّا، فَلِذَلِكَ مَنَعَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَظَاهِرُ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا التَّحْرِيمُ حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ، فِيمَنْ وَاعَدَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، قَالَ: فِرَاقُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَتَكُونُ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا حَلَّتْ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ وُجُوبَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَحَكَى مِثْلَ هَذَا ابْنُ حَارِثٍ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَزَادَ ما تقتضي تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ وَصَرَّحَتْ بِالْإِجَابَةِ وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ صَحَّ النِّكَاحُ، وَالتَّصْرِيحُ بِهِمَا مَكْرُوهٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْمُوَاعَدَةِ فِي الْعِدَّةِ لِلْمَرْأَةِ.
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ نُهُوا عَنِ الْعَزْمِ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَ الْعَزْمُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَأَحْرَى أَنْ يُنْهَى عَنِ الْعُقْدَةِ.
وَانْتِصَابُ: عُقْدَةَ، عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِتَضْمِينِ: تَعْزِمُوا، مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، فَضُمِّنَ مَعْنَى: تَنْوُوا، أَوْ مَعْنَى: تصححوا، أَوْ مَعْنَى: تُوجِبُوا، أَوْ مَعْنَى: تُبَاشِرُوا، أَوْ مَعْنَى: تَقْطَعُوا، أَيْ: تَبُتُّوا. وَقِيلَ: انْتَصَبَ عُقْدَةَ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَى تَعْزِمُوا تَعْقِدُوا.
وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: وَلَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: ضُرِبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، أَيْ عَلَى الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ الْمَأْكَلِ
الْأَصْلُ وَأَظَلُّ عَلَيْهِ، فَحَذَفَ: عَلَى، وَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَى الضَّمِيرِ فَنَصَبَهُ، إِذْ أَصْلُ هَذَا الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى بِعَلَى، قَالَ الشَّاعِرُ:
عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ لِأَمْرٍ مَا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ «١» وَعُقْدَةُ النِّكَاحِ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ النِّكَاحِ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَزْمُ العقدة
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٧.
525
عَقْدُهَا بِالْإِشْهَادِ وَالْوَلِيِّ، وَبُلُوغُ الْكِتَابِ أَجَلَهُ هُوَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ خِلَافُهُ، بَلْ هُوَ مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وَالْكِتَابُ هُنَا هُوَ الْمَكْتُوبُ أَيْ: حَتَّى يَبْلُغَ مَا كَتَبَ، وَأَوْجَبَ مِنَ الْعِدَّةِ أَجَلَهُ أَيْ: وَقْتَ انْقِضَائِهِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: حَتَّى يَبْلُغَ فَرْضُ الْكِتَابِ أَجَلَهُ، وَهُوَ مَا فُرِضَ بِالْكِتَابِ مِنَ الْعِدَّةِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَى التَّزَوُّجِ، وَهَذَا النَّهْيُ مَعْنَاهُ التَّحْرِيمُ، فَلَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ فَسَخَ الْحَاكِمُ النِّكَاحَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَقَالَ عُمَرُ، وَالْجُمْهُورُ: لَا يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيَكُونُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ. وَحَكَى ابْنُ الْجَلَّابِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَتَأَبَّدُ، وَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ وَدَخَلَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَقَوْلَانِ عَنِ الْعُلَمَاءِ، قَالَ قَوْمٌ: يَتَأَبَّدُ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَتَأَبَّدُ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ، وَدَخَلَ بِهَا فِي الْعِدَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ، وَمَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ: يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ: وَلَا تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ،
وَقَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَجَمَاعَةٌ: لَا يَتَأَبَّدُ، بَلْ يُفْسَخُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْهُ وَيَكُونُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ.
قَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حنيفة، والليث، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَالْمَدَنِيُّونَ غَيْرُ مَالِكٍ: تَعْتَدُّ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْآخَرُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ تَكْفِيهِمَا جَمِيعًا، سَوَاءٌ كَانَتْ بِالْحَمْلِ، أَمْ بِالْإِقْرَاءِ، أَمْ بِالْأَشْهُرِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ قِيلَ: الْمَعْنَى مَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ هَوَاهُنَّ، وَقِيلَ: مِنَ الْوَفَاءِ وَالْإِخْلَافِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاحْذَرُوهُ، الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: فَاحْذَرُوا عِقَابَهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَاحْذَرُوهُ وَلَا تَعْزِمُوا عَلَيْهِ. انْتَهَى. فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنَ العزم، أي فاحذور مَا لَا يَجُوزُ وَلَا تَعْزِمُوا عَلَيْهِ، فَتَكُونُ الْهَاءُ فِي: فَاحْذَرُوهُ وَلَا تَعْزِمُوا عَلَيْهِ، عَائِدَةً عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ فِي كَلَامِهِ أَنْ تَعُودَ عَلَى اللَّهِ، وَالْهَاءُ فِي: عَلَيْهِ، عَلَى مَا لَا يَجُوزُ، فَيَخْتَلِفُ
526
مَا تَعُودُ عَلَيْهِ الْهَاءَانِ، وَلَمَّا هَدَّدَهُمْ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْهُ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِالصِّفَتَيْنِ الْجَلِيلَتَيْنِ لِيُزِيلَ عَنْهُمْ بَعْضَ رَوْعِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ عِقَابِهِ، لِيَعْتَدِلَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ فِي الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَخَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْمُقْتَضِيَتَيْنِ الْمُبَالَغَةَ فِي الْغُفْرَانِ وَالْحِلْمِ، لِيُقَوِّيَ رَجَاءَ الْمُؤْمِنِ فِي إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَمَعَهُ فِي غُفْرَانِهِ وَحِلْمِهِ إِنْ زَلَّ وَهَفَا، وَأَبْرَزَ كُلَّ مَعْنًى مِنَ التَّحْذِيرِ وَالْإِطْمَاعِ فِي جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَكَرَّرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّفْخِيمِ، وَالتَّعْظِيمِ بِمَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، وَجَاءَ خَبَرُ أَنَّ الْأُولَى بِالْمُضَارِعِ، لِأَنَّ مَا يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ يَتَكَرَّرُ فَيَتَعَلَّقُ الْعِلْمُ بِهِ، فَكَأَنَّ الْعِلْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ مُتَعَلِّقِهِ، وَجَاءَ خَبَرُ أَنَّ الثَّانِيَةَ بِالِاسْمِ لِيَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْوَصْفِ، وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ.
قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ضُرُوبًا مِنَ الْبَدِيعِ.
مِنْهَا: مَعْدُولُ الْخِطَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ الْآيَةَ عَامٌّ وَالْمَعْنَى عَلَى الْخُصُوصِ. وَمِنْهَا: النَّسْخُ، إِذْ هِيَ نَاسِخَةٌ لِلْحَوْلِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ.
وَمِنْهَا: الِاخْتِصَاصُ، وَهُوَ أَنْ يَخُصَّ عَدَدًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِمَعْنًى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وَمِنْهَا: الْكِنَايَةُ، فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا كَنَّى بِالسِّرِّ عَنِ النِّكَاحِ، وَهِيَ مِنْ أَبْلَغِ الْكِنَايَاتِ. وَمِنْهَا: التَّعْرِيضُ، فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَمِنْهَا: التَّهْدِيدُ، بِقَوْلِهِ فَاحْذَرُوهُ وَمِنْهَا: الزِّيَادَةُ فِي الْوَصْفِ، بِقَوْلِهِ: غَفُورٌ حَلِيمٌ.
لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
نَزَلَتْ فِي أَنْصَارِيٍّ تَزَوَّجَ حَنِيفِيَّةً وَلَمْ يُسَمِّ مَهْرًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِكَ»
: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ.
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الْمُطَلَّقَاتِ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ، بَيَّنَ حُكْمَ الْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَغَيْرِ الْمُسَمَّى لَهَا مَدْخُولًا بِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْمُطَلَّقَاتُ أَرْبَعٌ: مَدْخُولٌ بِهَا مَفْرُوضٌ لَهَا، وَنَقِيضَتُهَا، وَمَفْرُوضٌ لَهَا غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، وَنَقِيضَتُهَا.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ لِلْأَزْوَاجِ، وَمَعْنَى نَفْيِ الْجُنَاحِ هُنَا هُوَ أَنَّهُ:
لَمَّا نَهَى عَنِ التَّزَوُّجِ بِمَعْنَى الذَّوْقِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَأَمَرَ بِالتَّزَوُّجِ طَلَبًا لِلْعِصْمَةِ وَالثَّوَابِ،
527
وَدَوَامِ الصُّحْبَةِ، وَقَعَ فِي بَعْضِ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ قَبْلَ الْبِنَاءِ يكون قد أوقع جزأ مِنْ هَذَا الْمَكْرُوهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ الْجُنَاحَ فِي ذَلِكَ، إِذَا كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ عَلَى الْمَقْصِدِ الْحَسَنِ.
مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تُمَاسُّوهُنَّ، مُضَارِعَ مَاسَّ، فَاعَلَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مُضَارِعَ مَسِسْتُ، وَفَاعِلٌ: يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْمَسِيسِ، وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ قِرَاءَةَ: تَمَسُّوهُنَّ، بِأَنَّ أَفْعَالَ هَذَا الْبَابِ جَاءَتْ ثُلَاثِيَّةً، نَحْوَ: نَكَحَ، وَسَفَدَ، وَفَزِعَ، وَدَقَطَ، وَضَرَبَ الْفَحْلُ، وَالْقِرَابَانِ حَسَنَتَانِ، وَالْمَسُّ هُنَا وَالْمُمَاسَّةُ: الْجِمَاعُ، كَقَوْلِهِ: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ «١» وَ: مَا، فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ الظَّاهِرُ أَنَّهَا ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، التَّقْدِيرُ: زَمَانَ عَدَمِ الْمَسِيسِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنِّي بِحَبْلِكِ وَاصِلٌ حَبْلِي وَبِرِيشِ نَبْلِكِ رَائِشٌ نَبْلِي
مَا لَمْ أَجِدْكِ عَلَى هُدَى أَثَرٍ يَقْرُو مِقَصَّكِ قَائِفٌ قَبْلِي
وَهَذِهِ مَا، الظَّرْفِيَّةُ الْمَصْدَرِيَّةُ، شَبِيهَةٌ بِالشَّرْطِ، وَتَقْتَضِي التَّعْمِيمَ نَحْوَ: أَصْحَبُكَ مَا دُمْتَ لِي مُحْسِنًا، فَالْمَعْنَى: كُلُّ وَقْتِ دَوَامَ إِحْسَانٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا، شَرْطِيَّةٌ، ثُمَّ قَدَّرَهَا بِأَنْ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، تَفْسِيرَ الْمَعْنَى، وَ: مَا إِذَا كَانَتْ شَرْطًا تَكُونُ اسْمًا غَيْرَ ظَرْفِ زَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، وَلَا يَتَأَتَّى هُنَا أَنْ تَكُونَ شَرْطًا بِهَذَا الْمَعْنَى.
وَزَعَمَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّ: مَا، تَكُونُ شَرْطًا ظَرْفَ زَمَانٍ وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُهُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ، وَتَأَوَّلَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ وَالِدُهُ، وَتَأَوَّلْنَا نَحْنُ بَعْضَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ تَأْوِيلِ ابْنِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ) مِنْ تَآلِيفِنَا. عَلَى أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ ذَكَرَ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَا يَقُولُهُ النَّحْوِيُّونَ، وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطَ هُوَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْفُصَحَاءِ عَلَى زَعْمِهِ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ: مَا، فِي قَوْلِهِ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ اسْمًا مَوْصُولًا وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ اللَّاتِي لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، فَلَا يَكُونُ لَفْظُ. مَا، شَرْطًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ: مَا، إِذْ ذَاكَ تَكُونُ وَصْفًا لِلنِّسَاءِ، إِذْ قَدَّرَهَا بِمَعْنَى اللَّاتِي، وَ: مَا، مِنَ الْمَوْصُولَاتِ الَّتِي لَا يُوصَفُ بِهَا بِخِلَافِ الَّذِي وَالَّتِي.
وَكَنَّى بِالْمَسِيسِ عَنِ الْمُجَامَعَةِ تَأْدِيبًا لِعِبَادِهِ فِي اخْتِيَارِ أَحْسَنِ الألفاظ فيما يتخاطبون.
أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً الْفَرِيضَةُ هُنَا هُوَ الصَّدَاقُ، وفرضه تسميته.
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٤٧ ومريم: ١٩/ ٢٠.
528
وَ: أَوْ، عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا تَأْتِي لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، أَوْ لِأَشْيَاءَ، وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا مَعْطُوفٌ عَلَى: تَمَسُّوهُنَّ، فَهُوَ مَجْزُومٌ، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ أَوْ، بِمَعْنَى إِلَّا. التَّقْدِيرُ: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ إِلَّا أَنْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ التَّقْدِيرُ: فَرَضْتُمْ أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا، أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ مَعْطُوفٌ عَلَى: تَمَسُّوهُنَّ، أَقْوَالٌ أربعة.
الأول: لابن عَطِيَّةَ وَغَيْرِهِ وَالثَّانِي: لِلزَّمَخْشَرِيِّ وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يُسَمِّ وَالرَّابِعُ: لِلسَّجَاوَنْدِيِّ وَغَيْرِهِ.
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: يَنْتَفِي الْجُنَاحُ عَنِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ انْتِفَاءِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا الْجِمَاعِ، وَإِمَّا تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، أَمَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ الْجِمَاعِ فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَالْحُكْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ، وَهِيَ الْمُفَوَّضَةُ، إِذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا لَا يَنْتَفِي الْجُنَاحُ عَنْهُ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: يَنْتَفِي الْجُنَاحُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْجِمَاعِ إِلَّا إِنْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ، فَلَا يَنْتَفِي الْجُنَاحُ، وَإِنِ انْتَفَى الْجِمَاعُ، لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنَ الْحَالَاتِ الَّتِي يَنْتَفِي فِيهَا الْجُنَاحُ حَالَةَ فَرْضِ الْفَرِيضَةِ، فَيَثْبُتُ فِيهَا الْجُنَاحُ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: يَنْتَفِي الْجُنَاحُ بِانْتِفَاءِ الْجِمَاعِ فَقَطْ، سَوَاءٌ فَرَضَ أَمْ لَمْ يَفْرِضْ، وَقَالُوا: الْمُرَادُ هُنَا بِالْجُنَاحِ لُزُومُ الْمَهْرِ، فَيَنْتَفِي ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الْجِمَاعِ، فَرَضَ مَهْرًا أَوْ لَمْ يَفْرِضْ، لِأَنَّهُ إِنْ فَرَضَ انْتَقَلَ إِلَى النِّصْفِ، وَإِنْ لَمْ يَفْرِضْ، فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: إِذَا طَلَّقَهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا، أُجْبِرَ عَلَى نِصْفِ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَكِنِ الْمُتْعَةُ.
وَفِي هَذَا الْقَوْلِ الثَّالِثِ حَذْفُ جُمْلَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَرَضْتُمْ، وَإِضْمَارُ: لَمْ، بَعْدَ: أَوْ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا عُطِفَ عَلَى مَجْزُومٍ، نَحْوَ: لَمْ أَقُمْ وَأَرْكَبْ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَجْعَلُ الْعَامِلَ فِي الْمَعْطُوفِ مُقَدَّرًا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ: يَنْتَفِي الْجُنَاحُ بِانْتِفَاءِ الْجِمَاعِ وَتَسْمِيَةِ الْمَهْرِ مَعًا، فَإِنْ وُجِدَ الْجِمَاعُ وَانْتَفَتِ التَّسْمِيَةُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَإِنِ انْتَفَى الْجِمَاعُ وَوُجِدَتِ التَّسْمِيَةُ فَنَصِفُ الْمُسَمَّى، فَيَثْبُتُ الْجُنَاحُ إِذْ ذَاكَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِمَا، وَيَكُونُ الْجُنَاحُ إِذْ ذَاكَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَلْزَمُ الْمُطَلِّقَ بِاعْتِبَارِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.
529
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ جَوَازُ طَلَاقِ الْحَائِضِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى انْتِفَاءِ الْحَرَجِ فِي طَلَاقِهِنَّ عُمُومًا، سواءكنّ حُيَّضًا أَمْ لَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلِمَالِكٍ قَوْلٌ يَمْنَعُ مِنْ طَلَاقِ الْحَائِضِ مدخولا بها أو غير مَدْخُولٍ بِهَا، وَمَوْتُ الزَّوْجِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَقَبْلَ الْفَرْضِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ طَلَاقِهِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ، فَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ وَلَا مِيرَاثٌ، قَالَهُ مَسْرُوقٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ.
وَالشَّافِعِيُّ: لَهَا الْمِيرَاثُ، وَلَا صَدَاقَ لَهَا. وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ: لَهَا صَدَاقُ مِثْلِ نِسَائِهَا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ حَالَ الْمُطَلَّقَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُطَلَّقَةٍ لَمْ يُسَمَّ لَهَا، وَمُطَلَّقَةٍ سُمِّيَ لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْرِضْ لَهَا، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ، لَمْ يَجِبْ لَهَا صَدَاقٌ إِجْمَاعًا. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ لَهَا نِصْفَ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَإِنْ فَرَضَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ يَلْزَمْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا، أَوْ مَهْرَ مِثْلِهَا لَزِمَهَا التَّسْلِيمُ، وَلَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ صَدَاقَهَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ جَائِزٌ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، لَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ، أَمَّا دَلَالَتُهَا عَلَى الصِّحَّةِ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ مَشْرُوعًا، وَلَمْ تَكُنِ النَّفَقَةُ لَازِمَةً، وَأَمَّا أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الصِّحَّةِ الْجَوَازُ بِدَلِيلِ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ حَرَامٌ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ وَاقِعٌ صَحِيحٌ.
وَمَتِّعُوهُنَّ أَيْ: مَلِّكُوهُنَّ مَا يَتَمَتَّعْنَ بِهِ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ يُسَمَّى مُتْعَةً.
وَظَاهِرُ هَذَا الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ: عَلِيٍّ
، وَابْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَحَمَلَهُ عَلَى النَّدْبِ: شُرَيْحٌ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَأَبُو عُبْيَدٍ.
وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي وَمَتِّعُوهُنَّ لِلْمُطَلِّقِينَ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ ضَمِيرُ الْمُطَلَّقَاتِ
530
قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَقَبْلَ الْفَرْضِ، فَيَجِبُ لَهُنَّ الْمُتْعَةُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَتُنْدَبُ فِي حَقِّ غَيْرِهِنَّ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ.
وَرُوِيَ عَنْ: عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالزُّهْرِيِّ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ، فَإِنْ كَانَ فُرِضَ لَهَا وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ
، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَشُرَيْحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ:
لَا مُتْعَةَ لَهَا، بَلْ حَسْبُهَا نِصْفُ مَا فُرِضَ لَهَا وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَهَا الْمُتْعَةُ، وَلِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَزُفَرُ، وَمُحَمَّدٌ: الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَمْ يُسَمَّ لَهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا مَتَّعَهَا، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ، إِذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ تَجِبِ الْمُتْعَةُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو الزِّنَادِ: الْمُتْعَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَلَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَبَيْنَ مَنْ سُمِّيَ لَهَا وَمَنْ لَمْ يُسَمَّ لَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَدْخُولٍ بِهَا وَغَيْرِ مَدْخُولٍ، إِلَّا الْمُلَاعِنَةُ وَالْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ فُرِضَ لَهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إِذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنْ قِبَلِهِ، إِلَّا الَّتِي سَمَّى لَهَا وَطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: يَجِبُ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا مُتْعَةَ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ عَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا:
لِلْمُخْتَلِعَةِ مُتْعَةٌ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لِلْمُلَاعِنَةِ مُتْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا مُتْعَةَ فِي نِكَاحٍ مَنْسُوخٍ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَلَا فِيمَا يَدْخُلُهُ الْفَسْخُ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ، مِثْلُ مِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ.
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا الْمُتْعَةُ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ، تُعْتَقُ تَحْتَ الْعَبْدِ، فَتَخْتَارُ، فَهَذِهِ لَا مُتْعَةَ لَهَا.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُتْعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِإِحْدَى مُطَلَّقَتَيْنِ: مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، سَوَاءٌ
531
فَرَضَ لَهَا، أَوْ لَمْ يَفْرِضْ. وَمُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الْفَرْضِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ هَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ الْوُجُوبَ فِي الْمُتْعَةِ، إِذْ أَتَى بَعْدَ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ بِلَفْظَةِ: عَلَى، الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْوُجُوبِ، كَقَوْلِهِ:
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ «١» فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «٢» وَالْمُوسِعُ: الْمُوسِرُ، وَالْمُقْتِرُ: الضَّيِّقُ الْحَالِ، وَظَاهِرُهُ اعْتِبَارُ حَالِ الزَّوْجِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ بِحَالِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، أَوْ بِحَالِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْقَدْرُ مُبْهَمًا، فَطَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ إِذْ لَمْ يَأْتِ فِيهِ بِشَيْءٍ مُؤَقَّتٍ.
وَمَعْنَى: قَدَرُهُ، مِقْدَارُ مَا يُطِيقُهُ الزَّوْجُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَدْنَاهَا ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا أَوْ شِبْهُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْفَعُهَا خَادِمٌ ثُمَّ كِسْوَةٌ ثُمَّ نَفَقَةٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: مِنْ أَوْسَطِ ذَلِكَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يُمَتِّعُ كُلٌّ عَلَى قَدَرِهِ هَذَا بِخَادِمٍ، وَهَذَا بِأَثْوَابٍ، وَهَذَا بِثَوْبٍ، وَهَذَا بِنَفَقَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ
وَمَتَّعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَزِقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ
، وَمَتَّعَ عَائِشَةَ الْخَثْعَمِيَّةَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالَتْ:
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ وَمَتَّعَ شُرَيْحٌ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ ابْنُ مجلز: عَلَى صَاحِبِ الدِّيوَانِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: أَفْضَلُ الْمُتْعَةِ خِمَارٌ، وَأَوْضَعُهَا ثَوْبٌ. وَقَالَ حَمَّادٌ: يُمَتِّعُهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا: «أَمَتَّعْتَهَا» قَالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ: «مَتِّعْهَا بِقَلَنْسُوَتِكَ»
. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَنْقُصُ عَنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، لِأَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَلَا يَنْقُصُ مِنْ نِصْفِهَا. وَقَدْ مَتَّعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ زَوْجَهُ أُمَّ أَبِي سَلَمَةَ ابْنِهِ بِخَادِمٍ سَوْدَاءَ، وَهَذِهِ الْمَقَادِيرُ كُلُّهَا صَدَرَتْ عَنِ اجْتِهَادِ رَأْيِهِمْ، فَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا صَارَ إِلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَقَادِيرُ مَعْلُومَةٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَهِيَ مِنْ مَسْأَلَةِ تقويم المتلفات.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٣.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢٥.
532
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلَى الْمُوسِعِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَوْسَعَ وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: الْمُوَسَّعِ، بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالسِّينِ وَتَشْدِيدِهَا، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ وَسَّعَ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَنَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ: قدره، بسكوت الدَّالِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ، وَيَزِيدُ، وَرَوْحٌ: بِفَتْحِ الدَّالِ فِيهِمَا، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، بِمَعْنًى حَكَاهُمَا أَبُو زَيْدٍ، وَالْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُمَا، وَمَعْنَاهُ: مَا يُطِيقُهُ الزَّوْجُ، وَعَلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقِيلَ: السَّاكِنُ مَصْدَرٌ، وَالْمُتَحَرِّكُ اسْمٌ: كَالْعَدِّ وَالْعَدَدِ، وَالْمَدِّ وَالْمَدَدِ.
وَكَانَ الْقَدْرُ بِالتَّسْكِينِ الْوُسْعُ، يُقَالُ: هُوَ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِهِ، أَيْ: وُسْعِهِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ بِالتَّحْرِيكِ إِذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِلشَّيْءِ يُقَالُ: هَذَا عَلَى قدر هذا.
وقرىء: قَدَرَهُ، بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَجَوَّزُوا فِي نَصْبِهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ انْتَصَبَ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَى: مَتِّعُوهُنَّ لِيُؤَدِّ كُلٌّ مِنْكُمْ قَدْرَ وُسْعِهِ. وَالثَّانِي: عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، التَّقْدِيرُ: وَأَوْجِبُوا عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرَهُ.
وَفِي السَّجَاوَنْدِيِّ: وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: قَدَرَهُ، أَيْ قَدَّرَهُ اللَّهُ. انْتَهَى. وَهَذَا يُظْهِرُ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَالرَّاءِ، فَتَكُونُ، إِذْ ذَاكَ فِعْلًا مَاضِيًا، وَجَعَلَ فِيهِ ضَمِيرًا مُسْتَكِنًّا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ عَائِدًا عَلَى الْإِمْتَاعِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَتِّعُوهُنَّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ وَكَتَبَ الْإِمْتَاعَ عَلَى الْمُوسِعِ وَعَلَى الْمُقْتِرِ.
وَفِي الْجُمْلَةِ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَلَى الْمُوسِعِ مِنْكُمْ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ نَابَتْ عَنِ الضَّمِيرِ، أَيْ: عَلَى مُوسِعِكُمْ وَعَلَى مُقْتِرِكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً بَيَّنَتْ حَالَ الْمُطَلِّقِ فِي الْمُتْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِيسَارِهِ وَإِقْتَارِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَذُو الْحَالِ هُوَ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ وَفِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ وَالرَّابِطُ هُوَ ذَلِكَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ: مِنْكُمْ.
مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ قَالُوا: انْتَصَبَ مَتَاعًا عَلَى الْمَصْدَرِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْمَتَاعَ هُوَ مَا يُمَتَّعُ بِهِ، فَهُوَ اسْمٌ لَهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ وَمَتِّعُوهُنَّ وَلَوْ جَاءَ عَلَى أَصْلِ مَصْدَرِ وَمَتِّعُوهُنَّ لَكَانَ تَمْتِيعًا، وَكَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَصَاحِبُ الْحَالِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي ذَلِكَ الْعَامِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَدَرُ الْمُوسِعِ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَتَاعًا، وَبِالْمَعْرُوفِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ، أَوْ: بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ صِفَةً لِقَوْلِهِ:
533
مَتَاعًا، أَيْ مُلْتَبِسًا بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوفُ هُوَ الْمَأْلُوفُ شَرْعًا وَمُرُوءَةً، وَهُوَ مَا لَا حَمْلَ لَهُ فِيهِ عَلَى الْمُطْلَقِ وَلَا تَكَلُّفَ.
حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ هَذَا يُؤَكِّدُ أَيْضًا وُجُوبَ الْمُتْعَةِ، وَالْمُرَادُ إِحْسَانُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِحْسَانُ الْعِشْرَةِ، فَيَكُونُ اللَّهُ سَمَّاهُمْ مُحْسِنِينَ قَبْلَ الفعل، باعتبار ما يؤلون إِلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ، نَحْوَ:
«مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ».
وَانْتِصَابُ حَقًّا عَلَى أنه صفة لمتاعا أَيْ: مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ وَاجِبًا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، أَوْ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، أَوْ حَالًا مِمَّا كَانَ حَالًا مِنْهُ مَتَاعًا، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ:
بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ: بِالَّذِي عُرِفَ فِي حَالِ كَوْنِهِ عَلَى الْمُحْسِنِينَ.
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَقَبْلَ الْفَرْضِ، بَيَّنَ حَالَ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسِيسِ الْجِمَاعُ، وَبِالْفَرِيضَةِ الصَّدَاقُ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ فَرَضْتُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَيَشْمَلُ الْفَرْضَ الْمُقَارِنَ لِلْعَقْدِ، وَالْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَقَبْلَ الطَّلَاقِ، فَلَوْ كَانَ فَرَضَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ طَلَّقَ بَعْدَ الْفَرْضِ، تَنَصَّفَ الصَّدَاقُ بِالطَّلَاقِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ لَا يَتَنَصَّفُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، وَارْتِفَاعُ نِصْفُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَقُدِّرَ الْخَبَرُ: فَعَلَيْكُمْ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، أَوْ: فَلَهُنَّ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مُؤَخَّرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، أَيْ: فَالْوَاجِبُ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: فَنِصْفَ، بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: فَادْفَعُوا نِصْفَ مَا فَرَضْتُمْ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا فَرَضْتُمْ، أَنَّهُ إِذَا أَصْدَقَهَا عَرَضًا، وَبَقِيَ إِلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ وَزَادَ أَوْ نَقَصَ، فَنَمَاؤُهُ وَنُقْصَانُهُ لَهُمَا وَيَتَشَطَّرُ، أَوْ عَيْنًا ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَاشْتَرَتْ بِهِ عَرَضًا، فَنَمَا أَوْ نَقَصَ، فَلَا يَكُونُ لَهُ إِلَّا نِصْفُ مَا أَصْدَقَ مِنَ الْعَيْنِ لَا مِنَ الْعَرَضِ، لِأَنَّ الْعَرَضَ لَيْسَ هو المفروض. وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا الْعَرَضُ كَالْعَيْنِ، أَصْلُ ثَمَنِهِ يَتَشَطَّرُ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَتَبَيَّنُ بَقَاءُ مُلْكِهِ عَلَى نِصْفِهِ أَوْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَتْهُ؟.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَشَطَّرُ إِلَّا الْمَفْرُوضُ فَلَوْ كَانَ نَحَلَهَا شَيْئًا فِي الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَهُ لِأَجْلِهِ، فَلَا يَتَشَطَّرُ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَعْنَى الصَّدَاقِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْجِمَاعِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ يُوجِبُ تَشْطِيرَ الصَّدَاقِ، سَوَاءٌ
534
خَلَا بِهَا أَمْ قَبَّلَهَا، أَمْ عَانَقَهَا، أَمْ طَالَ الْمُقَامُ مَعَهَا، وَبِهِ قَالَ: الشَّافِعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا
وَرُوِيَ عن علي، وعمر، وابن عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ: أَنَّ لَهَا بِالْخَلْوَةِ جَمِيعَ الْمَهْرِ
. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ خَلَا بِهَا وَقَبَّلَهَا أَوْ كَشَفَهَا، وَكَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَإِنْ طَالَ فَلَهَا الْمَهْرُ، إِلَّا أَنْ يَضَعَ مِنْهُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا خَلَا بِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا، وَإِنْ كَانَتْ رَتْقَاءَ فَلَهَا شَطْرُ الْمَهْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ تَمْنَعُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنَ الْمَهْرِ بعد الطلاق، وطىء أَوْ لَمْ يَطَأْ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا أَوْ مَرِيضًا، أَوْ لَمْ تَكُنْ حَائِضَةً أَوْ صَائِمَةً فِي رَمَضَانَ، أَوْ رَتْقَاءَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إِذَا لَمْ يَطَأْهَا.
وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِنْ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا دَخَلَ بِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجَامِعْهَا، وَكَانَ أَرْخَى عَلَيْهَا سِتْرًا أَوْ أَغْلَقَ بَابًا فَقَدْ تَمَّ الصَّدَاقُ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إِذَا أَرْخَى عَلَيْهَا سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنِصْفُ بِكَسْرِ النُّونِ وَضَمِّ الْفَاءِ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ عَلِيٍّ وَالْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَفِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى قوله: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قبل المسيس، وقد فرض لَهَا، لَيْسَ لَهَا إِلَّا النِّصْفُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُخْرِجَةٌ لِلْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ وَقَبْلَ الْمَسِيسِ مِنْ حُكْمِ التَّمْتِيعِ، إِذْ كَانَ قَدْ تَنَاوَلَهَا قَوْلُهُ: وَمَتِّعُوهُنَّ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةَ الْأَحْزَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَتِ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَزَعَمَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ أَبُو ثَوْرٍ: بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْمَفْرُوضَ لَهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا فُرِضَ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِإِسْقَاطِ مُتْعَتِهَا بَلْ لَهَا الْمُتْعَةُ وَنِصْفُ الْمَفْرُوضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شيء مِنْ هَذَا.
إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ نَصَّ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، لِأَنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ، وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يَتْرُكْنَ النِّصْفَ الَّذِي وَجَبَ لَهُنَّ عِنْدَ الزَّوْجِ. انْتَهَى.
وَقِيلَ: وَلَيْسَ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، لَكِنَّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
535
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، مَعْنَاهُ: عَلَيْكُمْ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ عَفْوِهِنَّ عَنْكُمْ، فَلَا يَجِبُ، وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ: فَلَهُنَّ نِصْفُ فَالْوَاجِبُ مَا فَرَضْتُمْ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا وَكَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْأَحْوَالِ ظَاهِرٌ، وَنَظِيرُهُ: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «١» إِلَّا أَنَّ سِيبَوَيْهِ مَنَعَ أَنْ تَقَعَ أَنْ وَصِلَتُهَا حَالًا، فَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ يَكُونُ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِلَّا أَنْ يُعْفُونَهُ، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ النِّصْفِ، وَالْأَصْلُ: يَعْفُونَ عَنْهُ، أَيْ: عَنِ النِّصْفِ، فَلَا يَأْخُذْنَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَاءُ لِلِاسْتِرَاحَةِ، كَمَا تَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ عَلَى مَدَدِ الْأَيَّامِ مَا فُعِلَ الْبِرُّ
وَحُرِّكَتْ تَشْبِيهًا بِهَاءِ الضَّمِيرِ. وَهُوَ تَوْجِيهٌ ضَعِيفٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِلَّا أَنْ تَعْفُونَ، بِالتَّاءِ بِثِنْتَيْنِ مِنْ أَعْلَاهَا، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ كَانَ ضَمِيرُهُنَّ غَائِبًا فِي قَوْلِهِ: لَهُنَّ، وَمَا قَبْلَهُ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ وَخَاطَبَهُنَّ، وَفِي خِطَابِهِ لَهُنَّ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَفْوًا مَا يَدُلُّ عَلَى نَدْبِ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابِهِ.
وَفَرَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَيْنَ قَوْلِكَ: الرِّجَالُ يَعْفُونَ، وَالنِّسَاءُ يَعْفُونَ، بِأَنَّ الْوَاوَ فِي الْأَوَّلِ ضَمِيرٌ، وَالنُّونَ عَلَامَةُ الرَّفْعِ، وَالْوَاوَ فِي الثَّانِي لَامُ الْفِعْلِ وَالنُّونَ ضَمِيرُهُنَّ، وَالْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لَا أَثَرَ فِي لَفْظِهِ لِلْعَامِلِ. انْتَهَى. فَرْقُهُ، وَهَذَا مِنَ النَّحْوِ الْجَلِيِّ الَّذِي يُدْرَكُ بِأَدْنَى قِرَاءَةٍ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَنَقَصَهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ لَامَ الْفِعْلِ فِي الرِّجَالُ: يَعْفُونَ، حُذِفَتْ لِالْتِقَائِهَا سَاكِنَةً مَعَ وَاوِ الضَّمِيرِ، وَأَنْ يَذْكُرَ خِلَافًا فِي نَحْوِ النِّسَاءُ يَعْفُونَ، فَذَهَبَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالسُّهَيْلِيُّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا اتَّصَلَتْ بِهِ نُونُ الْإِنَاثِ مُعْرَبٌ لَا مَبْنِيٌّ، وَيُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَى كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُوَضَّحٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ المسيس، وقد فرض لها، فَلَهَا أَنْ تَعْفُوَ. قَالُوا: وَأُرِيدَ هُنَا بِالْعُمُومِ الْخُصُوصُ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهَا لَهَا أَنْ تَعْفُوَ، فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ فِي حِجَابٍ أَوْ وَصِيٍّ فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْعَفْوُ، وَأَمَّا الْبِكْرُ الَّتِي لَا وَلِيَّ لَهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ ذَلِكَ لَهَا، وَحَكَى سَحْنُونُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لها.
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٦٦.
536
أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ
وَهُوَ: الزَّوْجُ، قَالَهُ عَلِيٌّ
، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَشُرَيْحٌ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَعَفْوُهُ أَنْ يُعْطِيَهَا الْمَهْرَ كُلَّهُ، وَرُوِيَ أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ تَزَوَّجَ وَطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَأَكْمَلَ الصَّدَاقَ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ.
وَسُمِّيَ ذَلِكَ عَفْوًا إِمَّا عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ كَانُوا يَسُوقُونَ الْمَهْرَ عِنْدَ التَّزَوُّجِ، أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ»
يَعْنِي أَنْ يُصْدِقَهَا فَاطِمَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهَا، فَسَمَّى تَرْكَ أَخْذِهِمُ النِّصْفَ مِمَّا سَاقُوهُ عَفْوًا عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، والحسن، وعلقمة، وطاووس، وَالشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُجَاهِدٍ، وَشُرَيْحٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهُ الْوَلِيُّ الَّذِي الْمَرْأَةُ فِي حِجْرِهِ، فَهُوَ: الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الَّتِي لَمْ تَمْلِكْ أَمْرَهَا، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ وَجَوَّزَ شُرَيْحٌ عَفْوَ الْأَخِ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَقَالَ: أَنَا أَعْفُو عَنْ مُهُورِ بَنِي مُرَّةَ وَإِنْ كَرِهْنَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَمًّا كَانَ أَوْ أَخًا أَوْ أَبًا، وَإِنْ كَرِهَتْ، وَيَكُونُ دُخُولُ.
أَوْ: هُنَا لِلتَّنْوِيعِ فِي الْعَفْوِ، إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ إِنْ كُنَّ مِمَّنْ يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْهُنَّ، أَوْ يَعْفُو وَلِيُّهُنَّ، إِنْ كُنَّ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْهُنَّ، أَوْ لِلتَّخْيِيرِ، أَيْ: هُنَّ مُخَيَّرَاتٌ بَيْنَ أَنْ يَعْفُونَ، أَوْ يَعْفُوَ وَلِيُّهُنَّ.
وَرَجَّحَ كَوْنَهُ الْوَلِيَّ بِأَنَّ الزَّوْجَ الْمُطَلِّقَ يَبْعُدُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَأَنْ يُجْعَلَ تَكْمِيلُهُ الصَّدَاقَ عَفْوًا، وَأَنْ يُبْهَمَ أَمْرُهُ حَتَّى يَبْقَى كَالْمُلْبِسِ، وَهُوَ قَدْ أَوْضَحَ بِالْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فَلَوْ جَاءَ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّوْضِيحِ لَكَانَ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ تَعْفُوا أَنْتُمْ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا دَرَجَةٌ ثَالِثَةٌ، إِذْ ذَكَرَ الْأَزْوَاجَ، ثُمَّ الزَّوْجَاتِ، ثُمَّ الْأَوْلِيَاءَ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ من حَيْثُ كَانَ عَقَدَهَا قَبْلُ، فَعَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ الْحَالَةِ السَّابِقَةِ، وَلِلنَّصِّ الَّذِي سَبَقَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ وَالْمُرَادُ بِهِ خِطَابُ الْأَزْوَاجِ.
537
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ، أَوْ لِكَوْنِهِ قَدْ سَاقَ الصَّدَاقَ إِلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا إِلْبَاسَ فِيهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ فِيهِ خُرُوجٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا إِلْبَاسَ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ، لِإِجْمَاعِ أهل العلم عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا مِنْ مَالِ ابنته لَا لِزَوْجٍ وَلَا لِغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ، إِذْ لَا فَرْقَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: بِيَدِهِ حَلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أَيْ: عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ.
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، لَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى الْمُحْكَمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «١» وَقَالَ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً «٢» وَقَالَ:
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا «٣» الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا دُخُولَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَخْذِ مَالِ الزَّوْجَةِ، وَرُجِّحَ أَيْضًا أَنَّهُ الزَّوْجُ بِأَنَّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ كَانَتْ بِيَدِ الْوَلِيِّ فَصَارَتْ بِيَدِ الزَّوْجِ، وَبِأَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مِلْكِ الْإِنْسَانِ، وَعَفْوُ الْوَلِيِّ عَفْوٌ عنما لَا يَمْلِكُ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَضْلَ فِي هِبَةِ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ لَا مَالَ غَيْرِهِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: أَوْ يَعْفُو، بِتَسْكِينِ الْوَاوِ، فَتَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ لِالْتِقَائِهَا سَاكِنَةً مَعَ السَّاكِنِ بَعْدَهَا، فَإِذَا وَقَفَ أَثْبَتَهَا، وَفَعَلَ ذَلِكَ اسْتِثْقَالًا لِلْفَتْحَةِ فِي حَرْفِ الْعِلَّةِ، فَتُقَدَّرُ الْفَتْحَةُ فِيهَا كَمَا تُقَدَّرُ فِي الْأَلِفِ فِي نَحْوِ: لَنْ يَخْشَى، وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ عَلَى اسْتِخْفَافِ الْفَتْحَةِ فِي الْوَاوِ وَالْيَاءِ فِي نَحْوِ: لَنْ يَرْمِيَ وَلَنْ يَغْزُوَ، وحتى أَنَّ أَصْحَابَنَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ إِسْكَانَ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، وَقَالَ:
فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسَمُو بِأُمٍّ وَلَا أَبِ
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ اسْتَثْقَلَ الْفَتْحَةَ عَلَى وَاوٍ مُتَطَرِّفَةٍ قَبْلَهَا مُتَحَرِّكٌ لِقِلَّةِ مَجِيئِهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: لم يجىء فِي الْكَلَامِ وَاوٌ مَفْتُوحَةٌ مُتَطَرِّفَةٌ قَبْلَهَا فَتْحَةٌ إِلَّا فِي قَوْلِهِمْ: عَفَوَةٌ، وَهُوَ جَمْعُ: عَفْوٍ، وَهُوَ وَلَدُ الْحِمَارِ، وَكَذَلِكَ الْحَرَكَةُ مَا كَانَتْ قَبْلَ الْوَاوِ مَفْتُوحَةً، فَإِنَّهَا ثَقِيلَةٌ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
(١) سورة النساء: ٤/ ٤.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢٠.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٩.
538
وَقَوْلُهُ: لِقِلَّةِ مَجِيئِهَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يَعْنِي مَفْتُوحَةً مَفْتُوحًا مَا قَبْلَهَا، هَذَا الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَكَةَ قَبْلَهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ ضَمَّةً أَوْ فَتْحَةً أَوْ كَسْرَةً، إِنْ كَانَتْ ضَمَّةً فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي فِعْلٍ أَوِ اسْمٍ، إِنْ كَانَ فِي فِعْلٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ، بَلْ جَمِيعُ الْمُضَارِعِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ النَّاصِبُ، أَوْ لَحِقَهُ نُونُ التَّوْكِيدِ، عَلَى مَا أُحْكِمَ فِي بَابِهِ، ظَهَرَتِ الْفَتْحَةُ فِيهِ نَحْوَ:
لَنْ يَغْزُوَ، وَهَلْ يَغْزُونَ، وَالْأَمْرُ نَحْوَ: اغْزُونَ، وَكَذَلِكَ الْمَاضِي عَلَى فَعُلَ نَحْوَ: سَرُوَ الرَّجُلُ، حَتَّى مَا بُنِيَ مِنْ ذوات الباء عَلَى فَعُلَ تَقُولُ فِيهِ: لَقَضُوَ الرَّجُلُ، وَلَرَمُوَتِ الْيَدُ، وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ عَلَى مَا أُحْكِمَ فِي بَابِهِ وَإِنْ كَانَ فِي اسْمٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى هَاءِ التَّأْنِيثِ، أَوْ لَا. إِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى هَاءِ التَّأْنِيثِ فَجَاءَ كَثِيرًا نَحْوَ: عَرْقُوَةٍ، وَتَرْقُوَةٍ، وقمحدوه، وَعَنْصُوَةٍ، وَتُبْنَى عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَرَكَةُ فَتْحَةً فَهُوَ قَلِيلٌ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ، وَإِنْ كَانَتْ كَسْرَةً انْقَلَبَتِ الْوَاوُ فِيهِ يَاءً، نَحْوَ الْغَازِي، وَالْغَازِيَةِ، وَالْعَرِيقِيَةِ، وَشَذَّ مِنْ ذَلِكَ: أَقْرُوَةٌ جَمْعُ قَرْوٍ، وَهِيَ مِيلَغَةُ الْكَلْبِ، و: سواسوة وَهُمُ: الْمُسْتَوُونَ فِي الشَّرِّ، و: مقاتوه جَمْعُ مُقْتَوٍ، وَهُوَ السَّايِسُ الْخَادِمُ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي النِّكَاحِ لِلْعَهْدِ أَيْ عُقْدَةٌ لَهَا، قَالَ الْمَغْرِبِيُّ: وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْبَصْرِيِّينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلُ الْإِضَافَةِ أَيْ: نِكَاحُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللَّهُ غَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ
أَيْ: وَأَحْلَامُهُمْ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْكُوفِيِّينَ.
وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. هَذَا خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَغَلَبَ الْمُذَكَّرُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خَاطَبَ تَعَالَى الْجَمِيعَ تَأَدُّبًا بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أَيْ: يَا جَمِيعَ النَّاسِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ فَقَطْ، وَقَالَهُ الشعبي، إذ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالْتِفَاتِ، إِذْ رَجَعَ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَهُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهِ، إِلَى الْخِطَابِ الَّذِي اسْتَفْتَحَ بِهِ صَدْرَ الْآيَةِ، وَكَوْنُ عَفْوِ الزَّوْجِ أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَسَرَ قَلْبَ مُطَلَّقَتِهِ، فَيَجْبُرُهَا بِدَفْعِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ لَهَا، إِذْ كَانَ قَدْ فَاتَهَا مِنْهُ صُحْبَتُهُ، فَلَا يَفُوتُهَا مِنْهُ نِحْلَتُهُ، إِذْ لَا شَيْءَ أَصْعَبُ عَلَى النِّسَاءِ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِذَا بَذَلَ لَهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ لَمْ تَيْأَسْ مِنْ رَدِّهَا إِلَيْهِ، وَاسْتَشْعَرَتْ مِنْ نَفْسِهَا أَنَّهُ مَرْغُوبٌ فِيهَا، فَانْجَبَرَتْ بِذَلِكَ.
539
وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ، وَأَبُو نَهِيكٍ: وأن يعفوا، بِالْيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ تَحْتِهَا، جَعَلَهُ غَائِبًا، وَجُمِعَ عَلَى مَعْنَى: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ لِلْجِنْسِ لَا يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُؤَيِّدُ أَنَّ الْعَفْوَ مُسْنَدٌ لِلْأَزْوَاجِ، قِيلَ: وَالْعَفْوُ أَقْرَبُ لِاتِّقَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظُلْمَ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ:
لِاتِّقَاءِ مَعَاصِي اللَّهِ.
وَ: أَقْرَبُ، يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كهذه، ويتعدّى بإلى كَقَوْلِهِ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ «١» وَلَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى، وَلَا إِنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدِيَةِ لِمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ الْمُتَوَصَّلِ إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَمَعْنَى اللَّامِ وَمَعْنَى إِلَى مُتَقَارِبَانِ مِنْ حَيْثُ التَّعْدِيَةُ، وَقَدْ قِيلَ: بِأَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَضْمِينِ الْحُرُوفِ، وَلَا يَقُولُ بِهِ الْبَصْرِيُّونَ.
وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ، فَيَدُلُّ عَلَى عِلَّةِ ازْدِيَادِ قُرْبِ الْعَفْوِ عَلَى تَرْكِهِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ فِي الْقُرْبِ مَحْذُوفٌ، وَحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْعَفْوُ مِنْكُمْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى مِنْ تَرْكِ الْعَفْوِ.
وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ الْخِطَابُ فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ تَعْفُوا.
وَالنِّسْيَانُ هُنَا التَّرْكُ مِثْلُ: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «٢» وَالْفَضْلُ: هُوَ فِعْلُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنَ الْبِرِّ، فَهُوَ مِنَ الزَّوْجِ تَكْمِيلُ الْمَهْرِ، وَمِنَ الزَّوْجَةِ تَرْكُ شَطْرِهِ الَّذِي لَهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الزَّوْجَ فَهُوَ تَكْمِيلُ الْمَهْرِ.
وَدَخَلَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَلَى سعد بن أبي وقاص، فَعَرَضَ عَلَيْهِ بِنْتًا لَهُ، فَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا خَرَجَ طَلَّقَهَا وَبَعَثَ إِلَيْهَا بِالصَّدَاقِ كَامِلًا، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَزَوَّجْتَهَا؟ فَقَالَ: عَرَضَهَا عَلَيَّ فَكَرِهْتُ رَدَّهُ، قِيلَ: فَلِمَ بَعَثْتَ بِالصَّدَاقِ كَامِلًا؟ قَالَ: فَأَيْنَ الْفَضْلُ؟.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: وَلَا تَنَاسَوُا الْفَضْلَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُتَمَكِّنَةُ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَنَاسٍ لَا نِسْيَانٍ إِلَّا عَلَى التَّشْبِيهِ. انْتَهَى.
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يعمر: وَلَا تَنْسَوِا الْفَضْلَ، بِكَسْرِ الْوَاوِ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، تَشْبِيهًا لِلْوَاوِ الَّتِي هِيَ ضَمِيرٌ بِوَاوِ لَوْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوِ اسْتَطَعْنا «٣» كَمَا شَبَّهُوا: وَاوَ:
لَوْ، بِوَاوِ الضَّمِيرِ، فَضَمُّوهَا، قَرَأَ لَوِ اسْتَطَعْنا «٤» بِضَمِّ الْوَاوِ.
(١) سورة ق: ٥٠/ ١٦ والواقعة: ٥٦/ ٨٥.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٦٧.
(٣- ٤) سورة التوبة: ٩/ ٤٢.
540
وَانْتِصَابِ: بَيْنَكُمْ، بِالْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَ: بَيْنَ، مُشْعِرٌ بِالتَّخَلُّلِ وَالتَّعَارُفِ، كَقَوْلِهِ:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «١» فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ ذَلِكَ مُشْتَهِرًا بينهم، قد تواطأوا عَلَيْهِ وَعَلِمُوا بِهِ، لِأَنَّ مَا تَخَلَّلَ أَقْوَامًا يَكُونُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ.
إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُبْصَرَاتِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعَفْوِ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ وَالْمُطَلِّقِينَ، وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ شَطْرَ مَا قَبَضْنَ أَوْ يُكْمِلُونَ لَهُنَّ الصَّدَاقَ، هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ الْمَجِيءَ بِالصِّفَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُبْصِرَاتِ.
وَلَمَّا كَانَ آخِرُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ الْآيَةَ قَوْلَهُ: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِمَّا يُدْرَكُ بِلُطْفٍ وَخَفَاءٍ، خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَفِي خَتْمِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَعْدٌ جَمِيلٌ لِلْمُحْسِنِ وَحِرْمَانٌ لِغَيْرِ الْمُحْسِنِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنْوَاعًا مِنَ الْفَصَاحَةِ، وَضُرُوبًا مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ وَالْبَلَاغَةِ.
الْكِنَايَةَ فِي: أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَالتَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ، فِي: فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً، وَالطِّبَاقَ فِي: الْمُوسِعِ وَالْمُقْتِرِ، وَالتَّأْكِيدَ بِالْمَصْدَرَيْنِ في: متاعا وحقا، وَالِاخْتِصَاصَ: فِي: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ: التَّتْمِيمِ، لَمَّا قَالَ: حَقًّا، أَفْهَمَ الْإِيجَابَ، فَلَمَّا قَالَ:
عَلَى الْمُحْسِنِينَ، تَمَّمَ الْمَعْنَى، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ لَا مِنْ بَابِ الْإِيجَابِ، فَلَمَّا قَالَ: عَلَى الْمُحْسِنِينَ تَمَّمَ التَّعْمِيمَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ، لَا مِنْ بَابِ الْإِيجَابِ وَالِالْتِفَاتَ: فِي: وَأَنْ تَعْفُوا، وَلَا تَنْسَوْا وَالْعُدُولَ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ فِي:
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، عَبَّرَ عَنِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِالْعُقْدَةِ الَّتِي تُعْقَدُ حَقِيقَةً، لِمَا فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنَ الِارْتِبَاطِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ.
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ قَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ آيَاتِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْمُطَلَّقَاتِ، وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِنَّ فِي النُّزُولِ، مُتَأَخِّرَةٌ فِي التِّلَاوَةِ وَرَسْمِ الْمُصْحَفِ، وَشَبَّهُوهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً «٢» وَبِقَوْلِهِ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً «٣» قالوا:
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٨.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٦٧. [.....]
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٧٢.
541
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَسُوقَةً عَلَى الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهَا أَحْوَالَ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ، قَالُوا: وَجَاءَ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَبْعَدَ مِنْ هَذَا، زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ «١» رَدًّا لِقَوْلِهِ: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «٢» قَالُوا: وَأَبْعَدُ مِنْهُ: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «٣» رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «٤» الآية قالوا: أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ خَوْفٌ قَبْلَ إِنْزَالِ إِتْمَامِ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَحْكَامَ صَلَاةِ الْخَوْفِ عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ، ثُمَّ أَنْزَلَ إِتْمَامَ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ.
قَالُوا: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ وَرَسْمِ الْمُصْحَفِ، مُتَأَخِّرَةً فِي النُّزُولِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ، عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «٥» وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ كَمَا تَرَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ تَعَالَى، لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى جُمْلَةً كَثِيرَةً مِنْ أَحْوَالِ الْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ، وَأَحْكَامِهِمْ فِي النِّكَاحِ وَالْوَطْءِ، وَالْإِيلَاءِ وَالطَّلَاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْإِرْضَاعِ والنفقة والكسوة، والعدد وَالْخِطْبَةِ، وَالْمُتْعَةِ وَالصَّدَاقِ وَالتَّشَطُّرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَانَتْ تَكَالِيفَ عَظِيمَةً تَشْغَلُ مَنْ كُلِّفَهَا أَعْظَمَ شُغْلٍ، بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَسَعُ مَعَهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَكَانَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ مَا يَسْتَفْرِغُ فِيهِ الْوَقْتَ، وَيَبْلُغُ مِنْهُ الْجَهْدَ، وَأَمَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْآخَرِ حَتَّى فِي حَالَةِ الْفِرَاقِ، وَكَانَتْ مَدْعَاةً إِلَى التَّكَاسُلِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِبَادَةِ إِلَّا لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَمَرَ تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الَّتِي هِيَ الْوَسِيلَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ أَمَرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَدَاءِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَأَنْ يُؤْمَرَ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحَقُّ، وَلِذَلِكَ
جَاءَ: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى»
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَشْغَلَنَّكُمُ التَّعَلُّقُ بِالنِّسَاءِ وَأَحْوَالِهِنَّ عَنْ أَدَاءِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَمَعَ تِلْكَ الْأَشْغَالِ الْعَظِيمَةِ لَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، حَتَّى فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهَا رِجَالًا وَرُكْبَانًا، وَإِنْ كَانَتْ حَالَةُ الْخَوْفِ أَشَدَّ مِنْ حَالَةِ الِاشْتِغَالِ بِالنِّسَاءِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ الشَّاقَّةُ جِدًّا لَا بُدَّ مَعَهَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَحْرَى مَا هُوَ دُونَهَا مِنَ الأشغال المتعلقة بالنساء.
(١) سورة النساء: ٤/ ١٢٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١١١.
(٣) سورة المعارج: ٧/ ١.
(٤) سورة الأنفال: ٨/ ٣٢.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ١٩٠ و ٢٤٤.
542
وَقِيلَ: مُنَاسَبَةُ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ عُقَيْبَ الْأَوَامِرِ السَّابِقَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى امْتِثَالِهَا، وَصَوْنًا لَهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهَا، وَقِيلَ: وَجْهُ ارْتِبَاطِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَبِمَا بَعْدَهَا، أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُقُوقِ الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ نَاسَبَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُقُوقِ الْحَقِّ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَيَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَمَاتِ، ذَكَرَهُ بَعْدَهُ، فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً «١» الآية.
والخطاب: يحافظوا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَلْ يَعُمُّ الْكَافِرِينَ؟ فِيهِ خِلَافٌ.
وَ: حَافِظُوا، مِنْ بَابِ: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَلَمَّا ضُمِّنَ الْمَعْنَى التَّكْرَارَ وَالْمُوَاظَبَةَ عُدِّيَ بِعَلَى، وَقَدْ رَامَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَبْقَى فَاعِلٌ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَكْثَرِ فِيهَا مِنَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَجَعَلَ الْمُحَافَظَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: احْفَظْ هَذِهِ الصَّلَاةَ يَحْفَظْكَ اللَّهُ الَّذِي أَمَرَ بِهَا، وَمَعْنَى الْمُحَافَظَةِ هُنَا: دَوَامُ ذِكْرِهَا، أَوِ الدَّوَامُ عَلَى تَعْجِيلِهَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا، أَوْ: إِكْمَالِ فُرُوضِهَا وَسُنَنِهَا، أَوْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ. أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهَا لِلْعَهْدِ، وَهِيَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. قَالُوا: وَكُلُّ صَلَاةٍ فِي الْقُرْآنِ مَقْرُونَةٌ بِالْمُحَافَظَةِ، فَالْمُرَادُ بِهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
وَالصَّلاةِ الْوُسْطى الْوُسْطَى فُعْلَى مُؤَنَّثَةُ الْأَوْسَطِ، كَمَا قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرِهِمْ وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وَهُوَ خِيَارُ الشَّيْءِ وَأَعْدَلُهُ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مِنْ وَاسِطَةِ قَوْمِهِ، أَيْ: مِنْ أَعْيَانِهِمْ، وَهَلْ سُمِّيَتِ: الْوُسْطَى، لِكَوْنِهَا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مِنْ: وَسَطَ فُلَانٌ يَسِطُ، إِذَا كَانَ وَسَطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ؟ أَوْ:
مِنْ وَسَطَ قَوْمَهُ إِذَا فَضَلَهُمْ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى مُؤَنَّثَ الْأَوْسَطِ، بِمَعْنَى الْفُضْلَى مُؤَنَّثِ الْأَفْضَلِ، كَالْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدْنَاهُ: يا أوسط الناس، وذكر أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَا يُبْنَى إِلَّا مِمَّا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ التَّعَجُّبِ، فَكُلُّ مَا لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ لَا يُبْنَيَانِ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَقُولُ زَيْدٌ أَمْوَتُ النَّاسِ؟ وَلَا: مَا أَمْوَتَ زَيْدًا؟
لِأَنَّ الْمَوْتَ شَيْءٌ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النَّقْصَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَكَوْنُ الشَّيْءِ وَسَطًا بين شيئين
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٠.
543
لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النَّقْصَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّهُ لَا تَفَاضُلَ فِيهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى بِمَعْنَى الْأَخِيرِ وَالْأَعْدَلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنًى يَقْبَلُ التَّفَاوُتَ، وَخُصَّتِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدِ انْدَرَجَتْ فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ قَبْلَهَا، تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى فَضْلِ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فِي تَجْرِيدِهِمَا بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ:
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «١» وَعَلَى فَضْلِ مَنْ ذَكَرَ وَجَرَّدَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ قَوْلِهِ:
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «٢» الْآيَةَ، وَعَلَى فَضْلِ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «٣» وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا النوع من الذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ:
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «٤».
وَكَثُرَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ، فِي الْمُرَادِ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَلِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وَالَّذِي تَلَخَّصَ فِيهِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا:
أَنَّهَا الْعَصْرُ، قَالَهُ عَلِيٌّ
، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وابن عمر في رواية، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَعَائِشَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَحَفْصَةُ، وَالْحَسَنُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٌ فِي رواية، وطاووس، وَالضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَعُبَيْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَذِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ، مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى (بالقبس فِي شَرْحِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسْ) وَاخْتِيَارُ أَبِي محمد بن عطية في تَفْسِيرِهِ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا».
وَقَالَ عَلِيٌّ: كُنَّا نَرَاهَا الصُّبْحَ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَعَرَفْنَا أَنَّهَا الْعَصْرُ.
وَرَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الصلاة الوسطى صلاة العصر
، وَفِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ، وَإِمْلَاءِ حَفْصَةَ: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَهِيَ الْعَصْرُ، وَمَنْ رَوَى: وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، أَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ عَطَفَ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ عَلَى الأخرى.
(١- ٤) سورة البقرة: ٢/ ٩٨.
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٧.
(٣) سورة الرحمن: ٥٥/ ٦٨.
544
وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، عَلَى الْبَدَلِ.
الثَّانِي:
أَنَّهَا الْفَجْرُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ فِي رِوَايَةٍ
، وَأَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَابْنِ عُمَرَ. فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وطاووس فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ: وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَّيْتُ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَاةَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيُّمَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى؟ فَقَالُوا: الَّتِي صَلَّيْتَ قَبْلُ.
وَرَوَوْا عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، فَقَنَتَ فِيهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعَ يديه، فلما فرع قَالَ: هَذِهِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا أَنْ نَقُومَ فِيهَا قَانِتِينَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا الظُّهْرُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدٍ، وَأُسَامَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَعَائِشَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ قَالُوا: وَرَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْهَاجِرَةَ وَالنَّاسُ فِي هَاجِرَتِهِمْ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ إِلَيْهِ أَحَدٌ فَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى يُرِيدُ الظُّهْرَ،
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إِلَّا الصَّفُّ وَالصَّفَّانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أُحَرِّقَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ بُيُوتَهُمْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْمَغْرِبُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ.
الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَحَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ فِرْقَةٍ.
السَّادِسُ: أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، قَالَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ.
السَّابِعُ: أَنَّهَا إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، لَا بِعَيْنِهَا. وَبِهِ قَالَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ، وَأَخْفَاهَا لِيُحَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، كَمَا أَخْفَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَاسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ، وَسَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ،
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَتْ: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نُسِخَتُ فَنَزَلَتْ:
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا نَسْخُ تَعْيِينِهَا، وَأُبْهِمَتْ بَعْدَ أَنْ عُيِّنَتْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِهَا وَأَدَائِهَا.
545
الثَّامِنُ:
أَنَّهَا الْجُمُعَةُ، وَفِي سَائِرِ الْأَيَّامِ الظُّهْرُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ.
التَّاسِعُ: أَنَّهَا الْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ، قَالَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ.
الْعَاشِرُ: أَنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ مَعًا، قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَرَجَّحَ كُلَّ قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي عُيِّنَتْ فِيهَا: أَنَّ الْوُسْطَى هِيَ كَذَا، بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي فَضْلِ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَرُجِّحَ بَعْضُهَا بِأَنَّهَا وَسَطٌ بَيْنِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذِكْرَ فَضْلِ صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَلِأَنَّ كَوْنَهَا وَسَطًا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ.
وَقَدْ صَنَّفَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ، أَوْحَدُ زَمَانِهِ وَحَافِظُ أَوَانِهِ، شَرَفُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَفِيفِ شَرَفِ بْنِ الْخَضِرِ بْنِ مُوسَى الدِّمْيَاطِيُّ كِتَابًا فِي هَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ (كِتَابُ كَشْفِ الْمُغَطَّى فِي تَبْيِينِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى) قَرَأْنَاهُ عَلَيْهِ، وَرَجَّحَ فِيهِ
أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ نَصًّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ:
علي بن أبي طالب
، وَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو هَاشِمِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. وَذَكَرَ فِيهِ بَقِيَّةَ الْأَقَاوِيلِ الْعَشَرَةِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا، وَزَادَ سَبْعَةَ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْجُمُعَةُ خَاصَّةً. الثَّانِي: أَنَّهَا الْجَمَاعَةُ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ. الثَّالِثُ:
أَنَّهَا صَلَاةُ الْخَوْفِ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا الْوَتْرُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخَاوِيُّ النَّحْوِيُّ الْمُقْرِيُّ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا صَلَاةُ عِيدِ الْأَضْحَى. السَّادِسُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعِيدِ يَوْمَ الْفِطْرِ. السَّابِعُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى، حَكَاهُ بَعْضُهُمْ وَتَرَدَّدَ فِيهِ.
فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْقَوْلُ فَيَكُونُ تَمَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ نُعَوِّلَ عَلَيْهِ مِنْهَا هُوَ.
قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ
، وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَخْبَرَنَا الْمُسْنِدُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمُحْسِنِ الدِّمَشْقِيُّ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، حَرَسَهَا اللَّهُ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمُؤَيَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الطُّوسِيِّ الْمُقْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا فَقِيهُ الْحَرَمِ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَدَ الصَّاعِدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ الْفَارِسِيُّ (ح).
546
وأخبرنا أستادنا الْعَلَّامَةُ أَبُو جَعْفَرٍ، أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم بن الزبير الثَّقَفِيُّ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِغَرْنَاطَةَ، مِنْ جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْفَارِقِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَجَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ زُغَيْبَةَ الْمُشَاوِرُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسِ بْنِ دِلْهَاثٍ (ح).
وَأَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ، مُنَاوَلَةً عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْمَدِ بْنِ عمر بن أَحْمَدَ الْخَزْرَجِيِّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ، وَلَمْ يُحَدِّثْنَا عَنْهُ مِنْ شُيُوخِنَا غَيْرُهُ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ الْجُذَامِيِّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ دلهات، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مِنْدَارٍ بِمَكَّةَ قَالَا، أَعْنِي عَبْدَ الْغَفَّارِ، وَابْنَ مِنْدَارٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ الْجُلُودِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ سَلَامٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ الْيَامِيُّ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، أَوِ اصْفَرَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا»، أَوْ: «حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا»..
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلَى: الصَّلاةِ الْوُسْطى بِإِعَادَةِ الْجَارِّ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ: وَالصَّلَاةَ، بِالنَّصْبِ، وَوَجَّهَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَاعَى مَوْضِعُ: عَلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ نَصْبٌ كَمَا تَقُولُ: مَرَرَتُ بِزَيْدٍ وَعَمْرًا، وَرُوِيَ عَنْ قالون أنه قرأ: الوسطى، بِالصَّادِ أُبْدِلَتِ السِّينُ صَادًا لِمُجَاوَرَةِ الطَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هذا في قَوْلِهِ: الصِّرَاطَ.
وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أَيْ: مُطِيعِينَ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ. أَوْ: خَاشِعِينَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوْ: مُطِيلِينَ الْقِيَامَ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ: دَاعِينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَوْ: سَاكِتِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: عَابِدِينَ، أَوْ:
مُصَلِّينَ، أَوْ: قَارِئِينَ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَوْ: ذَاكِرِينَ اللَّهَ فِي الْقِيَامِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَوْ: رَاكِدِينَ كَافِّي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ قَبْلُ بِالْخُشُوعِ.
547
وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى السُّكُوتِ، إِذْ صَحَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ:
وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فَأُمِرُوا بِالسُّكُوتِ. وَالْمَعْنَى: وَقُومُوا فِي الصَّلَاةِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ إِلَى الصَّلَاةِ هَابَ الرَّحْمَنَ أَنْ يَمُدَّ بَصَرَهُ، أَوْ يَلْتَفِتَ، أَوْ يُقَلِّبَ الْحَصَا، أَوْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْآيَةِ هُوَ السُّكُوتُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ: لَوْ تَكَلَّمَ عَامِدًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي إِصْلَاحِ صَلَاتِهِ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّ الْكَلَامَ لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ، أَوْ مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْجِسَامِ، لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ.
أَوْ: سَاهِيًا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَفْسُدُ، وَعَنْ مَالِكٍ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْكَلَامِ خِلَافٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: تَفْسُدُ كَالْعَمْدِ، لِإِصْلَاحِ صَلَاةٍ كَانَ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ أَحْمَدَ فَنَقَلَ الْخِرَقِيُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْهُ: إِنْ تَكَلَّمَ لِإِصْلَاحِهَا لَمْ تَفْسُدْ، أَوْ لِغَيْرِهِ فَسَدَتْ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ دَلِيلٌ عَلَى مَطْلُوبِيَّةِ الْقِيَامِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ صَحِيحٍ قَادِرٍ عَلَيْهِ، كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إِمَامًا؟ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُومِ الصَّحِيحِ يُصَلِّي خَلْفَ إِمَامٍ مَرِيضٍ قَاعِدًا لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ، فَأَجَازَ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِثْلُ: مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: فَيُصَلِّي وَرَاءَهُ جَالِسًا عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، وَأَفْتَى بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ: جَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَقَيْسُ بْنُ فِهْرٍ. وَرَوَى هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَسٌ، وَعَائِشَةُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ.
وَأَجَازَتْ طَائِفَةٌ صَلَاةَ الْقَائِمِ خَلْفَ صَلَاةِ الْمَرِيضِ قَاعِدًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ: الشَّافِعِيُّ، وَدَاوُدُ، وزفر، وجماعة بالمدينة، وَهِيَ رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ وَهِيَ رِوَايَةٌ غَرِيبَةٌ عَنْهُ.
وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ أَحَدٌ جَالِسًا، فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ إِلَّا إِنْ كَانَ عَلِيلًا، فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ: وَأَوَّلُ مَنْ أَبْطَلَ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ قَاعِدًا إِذَا صَلَّى إِمَامُهُ جَالِسًا الْمُغِيرَةُ بْنُ
548
مِقْسَمٍ صَاحِبُ النَّخَعِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، ثُمَّ أَخَذَ عَنْ حَمَّادٍ أَبُو حَنِيفَةَ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ.
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً لَمَّا ذَكَرَ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ فِيهَا قَانِتِينَ، كَانَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْمُصَلِّينَ حَالَةٌ يَخَافُونَ فِيهَا، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مَاشِينَ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَرَاكِبِينَ.
وَالْخَوْفُ يَشْمَلُ الْخَوْفَ مِنْ: عَدُوٍّ، وَسَبُعٍ، وَسَيْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّ أَمْرٍ يُخَافُ مِنْهُ فَهُوَ مُبِيحٌ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ هَذِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ فِي غَيْرِ خَوْفِ الْعَدُوِّ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ إِنْ وَقَعَ الْأَمْنُ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَسَاوِي الْخَوْفِ.
وَ: رِجَالًا، مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، قَالُوا تَقْدِيرُهُ: فَصَلُّوا رِجَالًا، وَيَحْسُنُ أَنْ يُقَدَّرَ مِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ، أَيْ: فَحَافِظُوا عَلَيْهَا رِجَالًا، وَرِجَالًا جَمْعُ رَاجِلٍ، كَقَائِمٍ وَقِيَامٍ، قَالَ تَعَالَى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا «١» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَبَنُو غُدَانَةَ شَاخِصٌ أَبْصَارُهُمْ يَمْشُونَ تَحْتَ بُطُونِهِنَّ رِجَالَا
وَالْمَعْنَى: مَاشِينَ عَلَى الْأَقْدَامِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَجِلَ يَرْجُلُ رَجْلًا، إِذَا عَدِمَ الْمَرْكُوبَ، وَمَشَى عَلَى قَدَمَيْهِ، فَهُوَ رَاجِلٌ وَرَجِلٌ وَرَجُلٌ، عَلَى وَزْنِ رَجُلٍ مُقَابِلِ امْرَأَةٍ. وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، يَقُولُونَ: مَشَى فُلَانٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيًا رَجُلًا، وَيُقَالُ رَجْلَانُ وَرَجِيلٌ وَرَجْلٌ، قَالَ الشاعر:
عليّ إذا لا قيت لَيْلَى بِخَلْوَةٍ أَنَ ازْدَارَ بَيْتَ اللَّهِ رَجْلَانَ حَافِيَا
قَالُوا: وَيُجْمَعُ عَلَى: رِجَالٍ وَرَجِيلٍ وَرُجَالَى وَرَجَالَى وَرَجَّالَةٍ وَرَجَالَى وَرُجْلَانٍ وَرَجْلَةٍ وَرَجَلَةٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَأَرْجِلَةٍ وَأَرَاجِلٍ وَأَرَاجِيلَ قَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو مِجْلَزٍ: فَرُجَّالًا، بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ التَّخْفِيفُ مَعَ ضَمِّ الراء، وقرىء: فَرُجَّلًا، بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الجيم مشدودة بغير ألف وقرىء: فَرَجْلًا، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ.
وَقَرَأَ بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ: فَرِجَالًا فَرُكْبَانًا بِالْفَاءِ، وَهُوَ جَمْعُ رَاكِبٍ. قَالَ الْفَضْلُ: لَا يُقَالُ رَاكِبٌ إِلَّا لِصَاحِبِ الْجَمَلِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْفَرَسِ فَيُقَالُ لَهُ فَارِسٌ، وَلِرَاكِبِ الْحِمَارِ حَمَّارٌ، وَلِرَاكِبِ الْبَغْلِ بَغَّالٌ، وَقِيلَ: الْأَفْصَحُ أَنْ يُقَالَ: صَاحِبُ بغل، وصاحب حمار.
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٢٧.
549
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ حُصُولُ مُطْلَقِ الْخَوْفِ، وَأَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْخَوْفِ تُبَاحُ الصَّلَاةُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.
وَقَالُوا: هِيَ صَلَاةُ الْغَدَاةِ لِلَّذِي قَدْ ضَايَقَهُ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالَةِ الْمُسَايَفَةِ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْخَوْفِ بِالْإِمَامِ، وَانْقِسَامِ النَّاسِ فَلَيْسَ حُكْمُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقِيلَ: فَرِجَالًا، مُشَاةٌ بِالْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُمْ يَمْشُونَ إِلَى الْعَدُوِّ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، أَوْ رُكْبَانًا أَيْ: وِجْدَانًا بِالْإِيمَاءِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَرِجَالًا، أَنَّهُمْ يُوقِعُونَ الصَّلَاةَ وَهُمْ مَاشُونَ، فَيُصَلُّونَ عَلَى كل حال، والراكب يومىء وَيَسْقُطُ عَنْهُ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
لَا يُصَلُّونَ فِي حَالِ الْمَشْيِ وَالْمُسَايَفَةِ مَا لَمْ يُمْكِنِ الْوُقُوفُ.
وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِعَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي هَذَا الْخَوْفِ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ عَنْ عَدَدِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ إِنْ كَانُوا فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: تُصَلَّى رَكْعَةً إِيمَاءً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: تُصَلَّى فِي الْمُسَايَفَةِ وَغَيْرِهَا رَكْعَةً، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيُكَبِّرْ تَكْبِيرَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا عَلَى تَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدُوٍّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفٍة: يُعِيدُونَ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّهُ مَتَى عَرَضَ لَهُ الْخَوْفُ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، فَلَوْ صَلَّى رَكْعَةً آمِنًا ثُمَّ طَرَأَ لَهُ الْخَوْفُ رَكِبَ وَبَنَى، أَوْ عَكْسُهُ: أَتَمَّ وَبَنَى، عِنْدَ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا اسْتَفْتَحَ آمِنًا ثُمَّ خَافَ، اسْتَقْبَلَ وَلَمْ يَبْنِ فَإِنْ صَلَّى خَائِفًا ثُمَّ أَمِنَ بَنَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَبْنِي فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ.
وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ وتأكيد طلبها إذا لَمْ تَسْقُطْ بِالْخَوْفِ، فَلَا تَسْقُطُ بِغَيْرِهِ مِنْ مَرَضٍ وَشُغْلٍ وَنَحْوِهِ، حَتَّى الْمَرِيضُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ فِعْلُهَا لَزِمَهُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَبِهَذَا تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ وَيُتَرَخَّصُ فِيهَا.
فَإِذا أَمِنْتُمْ قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْ: خَرَجْتُمْ مِنَ السَّفَرِ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ، وَرَدَّهُ الطَّبَرِيُّ، قِيلَ: وَلَا يَنْبَغِي رَدُّهُ لِأَنَّهُ شَرَحَ الْأَمْنَ بِمَحَلِّ الْأَمْنِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ سَفَرِهِ وَحَلَّ دَارَ
550
إِقَامَتِهِ أَمِنَ، فَكَانَ السَّفَرُ مَظِنَّةَ الْخَوْفِ، كَمَا أَنَّ دَارَ الْإِقَامَةِ مَحَلُّ الْأَمْنِ. وَقِيلَ: مَعْنَى فَإِذَا أَمِنْتُمْ أَيْ: زَالَ خَوْفُكُمُ الَّذِي أَلْجَأَكُمْ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: فَإِذَا كُنْتُمْ آمِنِينَ، أَيْ: مَتَى كُنْتُمْ عَلَى أَمْنٍ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ..
فَاذْكُرُوا اللَّهَ بِالشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ كَما عَلَّمَكُمْ أَيْ: أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ بِتَعْلِيمِكُمْ مَا كُنْتُمْ جَاهِلِيهِ مِنْ أَمْرِ الشَّرَائِعِ، وَكَيْفَ تُصَلُّونَ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَحَالِ الْأَمْنِ.
وَ: مَا، مَصْدَرِيَّةٌ، وَ: الْكَافُ، لِلتَّشْبِيهِ.
أَمَرَ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرًا يُعَادِلُ وَيُوَازِي نِعْمَةَ مَا عَلَّمَهُمْ، بِحَيْثُ يَجْتَهِدُ الذَّاكِرُ فِي تَشْبِيهِ ذِكْرِهِ بِالنِّعْمَةِ فِي الْقَدْرِ وَالْكَفَاءَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى بُلُوغِ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى: كَمَا عَلَّمَكُمْ، كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ فَعَلَّمَكُمْ، فَعَبَّرَ بِالْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ، لِأَنَّ التعليم ناشىء عَنْ إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ وَإِحْسَانِهِ لَهُ.
وَقَدْ تَكُونُ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ لِأَجْلِ تَعْلِيمِهِ إِيَّاكُمْ أَيْ: يَكُونُ الْحَامِلُ لَكُمْ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ تَعْلِيمُهُ إِيَّاكُمْ، لِأَنَّهُ لَا مِنْحَةَ أَعْظَمُ مِنْ مِنْحَةِ الْعِلْمِ.
مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مَا: مَفْعُولٌ ثَانٍ لِعَلَّمَكُمْ، وَفِيهِ الِامْتِنَانُ بِالتَّعْلِيمِ عَلَى الْعَبْدِ، وَفِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ إِفْهَامُ أَنَّكُمْ عُلِّمْتُمْ شَيْئًا لَمْ تَكُونُوا لِتَصِلُوا لِإِدْرَاكِهِ بِعُقُولِكُمْ لَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَكُمُوهُ، أَيْ: أَنَّكُمْ لَوْ تُرِكْتُمْ دُونَ تَعْلِيمٍ لَمْ تَكُونُوا لِتَعْلَمُوهُ أَبَدًا.
وَحَكَى النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَعْنَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَيْ صَلُّوا الصَّلَاةَ الَّتِي قَدْ عُلِّمْتُمُوهَا، أَيْ: صَلَاةً تَامَّةً بِجَمِيعِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَتَكُونُ: مَا، فِي: كَما عَلَّمَكُمْ مَوْصُولَةً أَيْ: فَصَلُّوا الصَّلَاةَ كَالصَّلَاةِ الَّتِي عَلَّمَكُمْ، وَعَبَّرَ بِالذِّكْرِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالْكَافُ إِذْ ذَاكَ لِلتَّشْبِيهِ بَيْنَ هَيْئَتَيِ الصَّلَاتَيْنِ: الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ أَوَّلًا قَبْلَ الْخَوْفِ، وَالصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ الْخَوْفِ فِي حَالَةِ الْأَمْنِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: مَا لَمْ تَكُونُوا بَدَلٌ مِنْ: مَا، الَّتِي فِي قَوْلِهِ:
كَمَا، وَإِلَّا لَمْ يَتَّسِقْ لَفْظُ الْآيَةِ. انْتَهَى. وَهُوَ تَخْرِيجٌ يُمْكِنُ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي عَلَّمَكُمْ الْعَائِدِ عَلَى مَا، إِذِ التَّقْدِيرُ عَلَّمَكُمُوهُ، أَيْ: عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ.
وَقَدْ أَجَازَ النَّحْوِيُّونَ: جَاءَنِي الَّذِي ضَرَبْتُ أَخَاكَ، أَيْ ضَرَبْتُهُ أَخَاكَ، عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ المحذوف
551

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٠ الى ٢٤٢]

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمَنْصُوصِ فِيهَا عَلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَالْعِدَّةُ كَانَتْ قَدْ ثَبَتَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ وَصِيَّةً مِنْهُ: سُكْنَى سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَإِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ. حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْأَلْفَاظُ الَّتِي حَكَاهَا الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَلَا نَصَّ مُجَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ بِنُزُولِ الْفَرَائِضِ، فَأَخَذَتْ رُبُعَهَا أَوْ ثُمُنَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لنا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ، وَصَارَتِ الْوَصَايَا لِمَنْ لَا يَرِثُ.
وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضُ بْنُ مُوسَى الْيَحْصُبِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَسْخِ الْحَوْلِ بِالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْبَقَرَةِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً إِلَى قَوْلِهِ: غَيْرَ إِخْراجٍ قَدْ نَسَخَتِ الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا. قَالَ: نَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي، لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ مَكَانِهِ.
انْتَهَى. وَيَعْنِي عُثْمَانُ: مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي رَتَّبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَةِ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مِنَ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلِ الْوَصِيَّةُ كَانَتْ وَاجِبَةً مِنَ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: كَانَ لَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ حَوْلًا فِي مَالِهِ مَا لَمْ تَخْرُجْ بِرَأْيِهَا، ثُمَّ نُسِخَتِ النَّفَقَةُ بِالرُّبُعِ أَوِ الثُّمُنِ، وَسُكْنَى الْحَوْلِ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ. أَمْ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ؟ نَدَبُوا بِأَنْ يُوصُوا لِلزَّوْجَاتِ بِذَلِكَ، فَيَكُونُ يُتَوَفَّوْنَ عَلَى هَذَا يُقَارِبُونَ.
وَقَالَهُ قَتَادَةُ أَيْضًا، وَالسُّدِّيُّ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْفَارِسِيُّ الْآيَةَ فِي الْحُجَّةِ لَهُ.
552
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: وَصِيَّةٌ بِالرَّفْعِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ، بِالنَّصْبِ وَارْتِفَاعِ: وَالَّذِينَ، على الابتداء. ووصية بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَهِيَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ فِي الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: وَصِيَّةٌ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ اللَّهِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَصِيَّةِ، أَهِيَ عَلَى الْإِيجَابِ مِنَ اللَّهِ؟ أَوْ عَلَى النَّدْبِ لِلْأَزْوَاجِ؟ وَخَبَرُ هَذَا الْمُبْتَدَأِ هُوَ قَوْلُهُ: لِأَزْوَاجِهِمْ، وَالْجُمْلَةُ: مِنْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنِ: الَّذِينَ، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ: وَصِيَّةٌ، مُبْتَدَأً وَ: لِأَزْوَاجِهِمْ، صِفَةً. وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّ: وَصِيَّةٌ، مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ، قِيلَ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرُ معنى لا تفسير إعراب، إِذْ لَيْسَ هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُضْمَرُ فِيهَا الْفِعْلُ.
وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَوَصِيَّةُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، أَوْ: وَحُكْمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وَصِيَّةٌ لِأَزْوَاجِهِمْ، فَيَكُونُ ذلك مبتدأ على مُضَافٍ، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصِيَّةٍ، فَجَعَلَ الْمَحْذُوفَ مِنَ الْخَبَرِ، وَلَا ضَرُورَةَ تدعو بنا إلى الادعاء بهذا الْحَذْفِ، وَانْتِصَابُ وَصِيَّةً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، التَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، فَيَكُونُ:
وَالَّذِينَ، مُبْتَدَأً وَ: يُوصُونَ الْمَحْذُوفُ، هُوَ الْخَبَرُ، وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِيُوصُوا، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ ارْتِفَاعَ: وَالَّذِينَ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَانْتِصَابُ وَصِيَّةً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، التَّقْدِيرُ: وَأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَصِيَّةً، وَهَذَا ضَعِيفٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ إِضْمَارِ الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ فِي الضَّعْفِ مَنْ رَفَعَ: وَالَّذِينَ، عَلَى إِضْمَارِ:
وَلْيُوصِ، الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، وَبِنَصْبِ وَصِيَّةً عَلَى الْمَصْدَرِ، وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْوَصِيَّةُ لِأَزْوَاجِهِمْ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَ: لِأَزْوَاجِهِمُ الْخَبَرِ، أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: عَلَيْهِمُ الْوَصِيَّةُ.
وَانْتَصَبَ مَتَاعًا إِمَّا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ مِنْ لَفْظِهِ أَيْ: مَتِّعُوهُنَّ مَتَاعًا، أَوْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ مَتَاعًا، أَوْ بِقَوْلِهِ: وَصِيَّةً أَهُوَ مَصْدَرٌ مُنَوَّنٌ يَعْمَلُ، كَقَوْلِهِ:
فَلَوْلَا رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ
وَيَكُونُ الْأَصْلُ: بِمَتَاعٍ، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ؟ فَإِنْ نَصَبْتَ: وَصِيَّةً فَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ مَتَاعًا بِالْفِعْلِ النَّاصِبِ لِقَوْلِهِ: وَصِيَّةً، وَيَكُونُ انْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى: يُوصِي بِهِ يمتع بِكَذَا، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مَتَاعًا صِفَةً لِوَصِيَّةٍ، وَبَدَلًا وَحَالًا مِنَ الْمُوصِينَ، أَيْ: مُمَتِّعِينَ، أَوْ
553
ذَوَى مَتَاعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ حَالًا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ، أَيْ: مُمَتَّعَاتٍ أَوْ ذَوَاتِ مَتَاعٍ، وَيَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مِنَ الْأَزْوَاجِ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: مَتَاعٌ لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ: فَمَتَاعٌ، وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي خَبَرِ: وَالَّذِينَ، لِأَنَّهُ مَوْصُولٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يُتَوَفَّ، وَيَنْتَصِبُ: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ، بِهَذَا الْمَصْدَرِ، إِذْ مَعْنَاهُ التَّمْتِيعُ، كَقَوْلِكَ: أَعْجَبَنِي ضَرْبٌ لَكَ زَيْدًا ضَرْبًا شَدِيدًا.
وَانْتَصَبَ: غَيْرَ إِخْرَاجٍ، صفة لمتاعا، أو بدلا من متاع أَوْ حَالًا مِنَ الْأَزْوَاجِ أَيْ: غَيْرَ مُخْرَجَاتٍ، أَوْ: مِنَ الْمُوصِينَ أَيْ: غَيْرَ مُخْرِجِينَ، أَوْ مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا، أَيْ: لَا إِخْرَاجًا، قَالَهُ الْأَخْفَشُ.
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ مَنَعَ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِنَّ مِنْ إِخْرَاجِهِنَّ، فَإِنْ خَرَجْنَ مُخْتَارَاتٍ لِلْخُرُوجِ ارْتَفَعَ الْحَرَجُ عَنِ النَّاظِرِ فِي أَمْرِهِنَّ، إِذْ خُرُوجُهُنَّ مُخْتَارَاتٍ جَائِزٌ لَهُنَّ، وَمُوَضَّحٌ انْقِطَاعُ تَعَلُّقِهِنَّ بِحَالِ الْمَيِّتِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُنَّ مِمَّا يَفْعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ: تَزْوِيجٍ، وَتَرْكِ إِحْدَادٍ، وَتَزَيُّنٍ، وَخُرُوجٍ، وَتَعَرُّضٍ لِلْخُطَّابِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ شَرْعًا.
وَيَتَعَلَّقُ: فِيمَا فَعَلْنَ، بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، عَلَيْكُمْ أَيْ: فَلَا جُنَاحَ يَسْتَقِرُّ عَلَيْكُمْ فيما فعلن.
وَمَا، مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَعَلْنَهُ، وَ: مِنْ مَعْرُوفٍ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي: فَعَلْنَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ فَعَلْنَهُ كَائِنًا مِنْ مَعْرُوفٍ.
وَجَاءَ هُنَا: مِنْ مَعْرُوفٍ، نكرة مجرورة بمن، وَفِي الْآيَةِ النَّاسِخَةِ لَهَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، جَاءَ: بِالْمَعْرُوفِ، مُعَرَّفًا مَجْرُورًا بِالْبَاءِ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ نَظِيرَتُهَا فِي قَوْلِكَ: لَقِيتُ رَجُلًا، ثُمَّ تَقُولُ: الرَّجُلُ مِنْ وَصْفِهِ كَذَا وَكَذَا، وَكَذَلِكَ: أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ، وَهَذِهِ بِعَكْسِهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ «١» عَلَى ظَاهِرِ مَا نُقِلَ مَعَ قَوْلِهِ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ «٢».
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ خَتَمَ الْآيَةَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، فَقَوْلُهُ: عَزِيزٌ، إظهار للغلبة والقهر
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٤٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٤٤.
554
لِمَنْ مَنَعَ مِنْ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّمْتِيعِ الْمَذْكُورِ، أَوْ أَخْرَجَهُنَّ وَهُنَّ لَا يَخْتَرْنَ الْخُرُوجَ، وَمُشْعِرٌ بِالْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: حَكِيمٌ، إِظْهَارُ أَنَّ مَا شُرِعَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالْإِتْقَانِ، وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ زَالَ حُكْمُهُ بِالنَّسْخِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إِلَّا مَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ عَلَى الطَّبَرِيِّ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْآيَةِ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي ذَلِكَ.
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو ثَوْرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَتِّعُوهُنَّ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يُخَصَّصُ بِهِ الْعُمُومُ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَتَعَلَّقَ: بِالْمَعْرُوفِ، بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لِلْمُطَلَّقَاتِ، وقيل بقوله: متاع، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ هُنَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ.
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةً لِأَمْرِ الْمُتْعَةِ، لِأَنَّهُ نَزَلَ قَبْلُ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ «١» فَقَالَ رَجُلٌ: فَإِنْ لَمْ أُرِدْ أَنْ أُحْسِنَ لَمْ أُمَتِّعْ، فَنَزَلَتْ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ.
وَإِعْرَابُ: حَقًّا، هُنَا كَإِعْرَابِ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَظَاهِرُ: الْمُتَّقِينَ: مَنْ يَتَّصِفُ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنَ اتِّقَاءِ الشِّرْكِ، وَخُصُّوا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ وُقُوفًا وَاللَّهُ أَسْرَعَهُمْ لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَلَى الْمُتَّقِينَ أَيْ: مُتَّقِيِ الشِّرْكِ.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أَيْ مِثْلَ هَذَا التَّبْيِينِ الَّذِي سَبَقَ مِنَ الْأَحْكَامِ، يُبَيِّنُ لَكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُكَلَّفُهَا الْعِبَادُ.
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مَا يُرَادُ مِنْكُمْ مِنَ الْتِزَامِ الشَّرَائِعِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَهَا، لِأَنَّ التَّبْيِينَ لِلْأَشْيَاءِ مِمَّا يَتَّضِحُ لِلْعَقْلِ بِأَوَّلِ إِدْرَاكٍ، بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمُغَيَّبَاتِ وَالْمُجْمَلَاتِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ يَرْتَبِكُ فِيهَا، وَلَا يَكَادُ يَحْصُلُ مِنْهَا عَلَى طَائِلٍ.
قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ بَدَائِعِ الْبَدِيعِ، وَصُنُوفِ الْفَصَاحَةِ: النقل من صيغة:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٦. [.....]
555
افْعَلُوا، إِلَى: فَاعِلُوا، لِلْمُبَالَغَةِ وَذَلِكَ فِي: حَافِظُوا، وَالِاخْتِصَاصُ بِالذِّكْرِ فِي: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي: فَإِنْ خِفْتُمْ.
لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي: حَافِظُوا، وَهُوَ مُرَاعَاةُ أَوْقَاتِهَا وهيآتها إِذَا كُنْتُمْ آمِنِينَ، وَالْحَذْفُ فِي:
فَإِنْ خِفْتُمْ، الْعَدُوَّ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَاهُ. وَفِي: فَرِجَالًا، أَيْ: فَصَلُّوا رِجَالًا، وَفِي: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ، سَوَاءٌ رُفِعَ أَمْ نُصِبَ، وَفِي: غَيْرَ إِخْرَاجٍ، أَيْ: لَهُنَّ مِنْ مَكَانِهِنَّ الَّذِي يعتدون فِيهِ، وَفِي: فَإِنْ خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ مِنْ غَيْرِ رِضًا مِنْهُنَّ، وَفِي: فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ، أَيْ:
مِنْ مَيْلِهِنَّ إِلَى التَّزْوِيجِ أَوِ الزِّينَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَفِي: بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ: عَادَةً أَوْ شَرْعًا وَفِي: عَزِيزٌ، أَيِ: انْتِقَامُهُ، وَفِي: حكيم، فِي أَحْكَامِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: حَقًّا، أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حَقًّا، وَفِي: عَلَى الْمُتَّقِينَ، أَيْ عَذَابُ اللَّهِ وَالتَّشْبِيهُ: فِي: كَمَا عَلَّمَكُمْ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُمَاثِلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلَيْنِ أَوْ بِاسْمَيْنِ، وَذَلِكَ فِي: عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ: فِي غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خرجهن، والمجاز في: يوفون، أَيْ يُقَارِبُونَ الْوَفَاةَ، وَالتَّكْرَارُ: فِي مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ، ثُمَّ قَالَ: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ، فَيَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ إِنْ كَانَ إِيَّاهُ وَلِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ إِنْ كَانَ غَيْرَهُ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ حُكْمَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَأَنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَأَنَّهُنَّ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ لا حرج على من كَانَ مُتَوَلِّيًا أَمْرَهُنَّ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ فِيمَا فَعَلْنَ مِنْ: تَعَرُّضٍ لِخِطْبَةٍ، وَتَزَيُّنٍ، وَتَرْكِ إِحْدَادٍ، وَتَزَوُّجٍ وَذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ شَرْعًا، وَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنَّا، وَأَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ عَرَّضَ بِالْخِطْبَةِ أَوْ أَكَنَّ التَّزْوِيجَ فِي نَفْسِهِ، وَأَفْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ التَّصْرِيحَ فِيهِ الْجُنَاحُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَذَرَ فِي التَّعْرِيضِ بِأَنَّ النُّفُوسَ تَتُوقُ إِلَى التَّزَوُّجِ وَذِكْرِ النِّسَاءِ، وَنَهَى تَعَالَى عَنْ مُوَاعَدَةِ السِّرِّ وَهُوَ النِّكَاحُ، وَأَبَاحَ قَوْلًا مَعْرُوفًا مِنَ التَّنْبِيهِ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَرْغُوبٌ فِيهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ جَبْرًا لَهَا وَبَعْضَ تَأْنِيسٍ مِنْهُ لَهَا بِذَلِكَ. ثُمَّ نَهَى عَنْ بَتِّ النِّكَاحِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَعْلَمَ أَنَّ مَا فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُحْذَرَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ يَسْتَدْعِي مَخُوفًا، أَعْلَمَ أَنَّهُ غَفُورٌ يَسْتُرُ الذَّنْبَ، حَلِيمٌ يَصْفَحُ عَنِ الْمُسِيءِ، لِيَتَعَادَلَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنْ مَنْ طَلَّقَ الْمَرْأَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا الصَّدَاقَ، إِذْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا يُبَاحُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّمْتِيعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مِمَّا كَانَ فَاتَهَا مِنَ الزَّوْجِ، وَمِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي تَشَطَّرُ بِالطَّلَاقِ، وَجَبْرًا لَهَا بِذَلِكَ وَلِغَيْرِ الْمَفْرُوضِ لَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ التَّمْتِيعَ عَلَى حَسَبِ
556
وَجْدِ الزَّوْجِ وَإِقْتَارِهِ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمِقْدَارَ، بَلْ قَالَ: أَنَّ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الَّذِي أُلِفَ عَادَةً وَشَرْعًا، وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَى مَنْ كَانَ مُحْسِنًا. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَبَعْدَ الْفَرْضِ فإنه ينتظر المسمى، فيجب لها نفس الصَّدَاقِ إِلَّا إِنْ عَفَتِ الْمَرْأَةُ فَلَمْ تَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، أَوْ عَفَا الزَّوْجُ فَأَدَّى إِلَيْهَا الصَّدَاقَ كَامِلًا إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْعَفْوَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ مِنْهُمَا أَقْرَبُ لِتَحْصِيلِ التَّقْوَى لِلْعَافِي، إِذْ هُوَ: إِمَّا بَيْنَ تَارِكٍ حَقَّهُ، أَوْ بَاذِلٍ فَوْقَ الْحَقِّ. ثُمَّ نَهَى عَنْ نِسْيَانِ الْفَضْلِ، فَفِي هَذَا النَّهْيِ الْأَمْرُ بِالْفَضْلِ.
ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بَصِيرٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَحْكَامَ النِّكَاحِ، وَكَادَتْ تَسْتَغْرِقُ الْمُكَلَّفَ، نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى أَشْرَفِ العبادات التي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمُكَلَّفُ، وَأَمَرَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَهِيَ:
الصَّلَوَاتُ، وَخَصَّ الْوُسْطَى مِنْهَا بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِهَا، وَمِنْ تَسْمِيَتِهَا بِالْوُسْطَى تَبَيَّنَ تَمْيِيزُهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَهِيَ بِلَا شَكٍّ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِيَامِ لِلَّهِ مُتَلَبِّسِينَ بِطَاعَتِهِ، ثُمَّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَوْكِيدِ إِيجَابِ الصَّلَوَاتِ لَمْ يُسَامِحْ بِتَرْكِهَا حَالَةَ الْخَوْفِ، بَلْ أَمَرَ أَنْ تُؤَدَّى فِي تِلْكَ الْحَالِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخَائِفُ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ اخْتِلَالٍ لِشُرُوطِهَا ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُؤَدَّى عَلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ من إتمام شروطها، وهيآتها إِذَا أَمِنَ الْخَائِفُ، وَأَنْ يُؤَدِّيَهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ فِي أَدَائِهَا قَبْلَ الْخَوْفِ.
وَذَكَرَ أَنَّ اللَّوَاتِي يُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ لَهُنَّ وَصِيَّةٌ بِتَمْتِيعٍ إِلَى انْقِضَاءِ حَوْلٍ مِنْ وَفَاةِ الْأَزْوَاجِ، وَأَنَّهُنَّ لَا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ، فَإِنِ اخْتَرْنَ الْخُرُوجَ فَخَرَجْنَ، فَلَا جُنَاحَ عَلَى مُتَوَلِّي أَمْرِهَا فِيمَا فَعَلَتْ فِي نَفْسِهَا، ثُمَّ أَعْلَمَ أَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ وَيُقْهَرُ، حَكِيمٌ بِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعًا مِمَّا عُرِفَ شَرْعًا وَعَادَةً، وَاقْتَضَى ذَلِكَ عُمُومَ كُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَتَاعَ حَقٌّ عَلَى مَنِ اتَّقَى.
وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ عِدَّةَ أَحْكَامٍ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ، أَحَالَ عَلَى ذَلِكَ التَّبْيِينِ، وَشَبَّهَ التَّبْيِينَ الَّذِي قَدْ يَأْتِي لِسَائِرِ الْآيَاتِ بِالتَّبْيِينِ الَّذِي سَبَقَ. وَأَنَّ التَّبْيِينَ هُوَ لِرَجَائِكُمْ أن تعقلوا عَنِ اللَّهِ أَحْكَامَهُ فَتَجْتَنِبُوا مَا نَهَى تَعَالَى عَنْهُ، وَتَمْتَثِلُوا مَا بِهِ أَمَرَ تعالى.
557

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٣ الى ٢٤٧]

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
الْأَلْفُ: عَدَدٌ مَعْرُوفٌ وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ آلَافٌ وَفِي الْكَثْرَةِ أُلُوفٌ، وَيُقَالُ: آلَفْتُ الدَّرَاهِمَ وَآلَفَتْ هِيَ، وَقِيلَ: أُلُوفٌ جَمْعُ أَلْفٍ كَشَاهِدٍ وَشُهُودٍ.
الْقَرْضُ: الْقَطْعُ بِالسِّنِّ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمِقْرَاضُ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ، وَيُقَالُ: انْقَرَضَ الْقَوْمُ أَيْ مَاتُوا، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُمْ، وَمِنْهُ: أَقْرَضْتُ فُلَانًا أَيْ قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ الْمَالِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: لَكَ عِنْدِي قَرْضُ صِدْقٍ وَقَرْضُ سُوءٍ، لِأَمْرٍ: تَأْتِي مَسَرَّتُهُ وَمَسَاءَتُهُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْقَرْضُ: الْبَلَاءُ الْحَسَنُ والبلاء السيء وَقَالَ اللَّيْثُ: الْقَرْضُ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُلْتَمَسُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، يُقَالُ: أَقْرَضَ فُلَانٌ فُلَانًا، أَعْطَاهُ مَا يَتَجَازَاهُ مِنْهُ. وَالِاسْمُ مِنْهُ:
الْقَرْضُ، وهو ما أعطيته لتكافىء عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْقَرْضُ: أَنْ تُعْطِيَ شَيْئًا لِيَرْجِعَ إِلَيْكَ مِثْلُهُ، وَيُقَالَ: تَقَارَضَا الثَّنَاءَ أَثْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُقَالُ قَارَضَهُ الْوُدَّ وَالثَّنَاءَ وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: الْقِرْضُ بِالْكَسْرِ، والأشهر بفتح الْقَافِ.
558
الضِّعْفُ: مِثْلُ قَدْرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَيُقَالُ مِثْلُ الشَّيْءِ فِي الْمِقْدَارِ، وَضِعْفُ الشَّيْءِ مِثْلُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا قِيلَ ضِعْفَانِ فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ الْمِثْلَيْنِ فِي الْقَدْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُضَعِّفُ الْآخَرَ، كَمَا يُقَالُ: الزَّوْجَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجًا لِلْآخَرِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ: يُضَاعِفُ وَيُضَعِّفُ، فَقَالَ: التَّضْعِيفُ: لِمَا جُعِلَ مِثْلَيْنِ، وَالْمُضَاعَفَةُ لِمَا زِيدَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
الْقَبْضُ: ضَمُّ الشَّيْءِ وَالْجَمْعُ عَلَيْهِ وَالْبَسْطُ ضِدُّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ:
تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حَتَّى لَوَ انَّهُ دَعَاهَا لِقَبْضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهُ
الْمَلَأُ: الْأَشْرَافُ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْلَاءٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَالَ لَهَا الْأَمْلَاءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا
وَسُمُّوا بِذَلِكَ لأنهم يملأون الْعُيُونَ هَيْبَةً، أَوِ الْمَكَانَ إِذَا حَضَرُوهُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ مَلِيئُونَ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَلَأُ الرِّجَالُ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ فِيهِمُ امْرَأَةٌ، وَكَذَلِكَ: الْقَوْمُ، وَالنَّفَرُ، وَالرَّهْطُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَلَأُ: هُمُ الْوُجُوهُ وَذَوُو الرَّأْيِ.
طَالُوتُ: اسْمُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ: سَايِلُ، وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ: سَاوُلُ بْنُ قَيْسٍ، مِنْ أَوْلَادِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَسُمِّيَ طَالُوتَ. قَالُوا: لِطُولِهِ، وَكَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِرَأْسِهِ وَمَنْكِبَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَزْنُهُ: فَعَلُوتًا، كَرَحَمُوتٍ وَمَلَكُوتٍ، فَتَكُونُ أَلِفُهُ مُنْقَلِبَةً عَنْ وَاوٍ، إِلَّا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الِاشْتِقَاقِ مَنْعُهُ الصَّرْفَ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ مَفْقُودٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا فِي اللسان العجمي. وقد التقت اللُّغَتَانِ فِي مَادَّةِ الْكَلِمَةِ، كَمَا زَعَمُوا فِي: يَعْقُوبَ، أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِبِ، لَكِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ بِهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ.
الْجِسْمُ: مَعْرُوفٌ، وَجُمِعَ فِي الْكَثْرَةِ عَلَى: جُسُومٍ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الْجِسْمِ.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى مَتَى ذَكَرَ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقَصَصِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِبَارِ لِلسَّامِعِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الِانْقِيَادِ وَتَرْكِ الْعِنَادِ، وَكَانَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْكَامِ الْمَوْتَى وَمَنْ خَلَفُوا، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ، وَكَيْفَ أَمَاتَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَكَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْيَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْمُتَوَفَّيْنَ فِي الْآخِرَةِ، فَيُجَازِي كُلًّا مِنْهُمْ بِمَا عَمِلَ. فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَنْبِيهٌ
559
عَلَى الْمَعَادِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَيَلِيقُ بِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَعْمَلَ لِمَعَادِهِ: بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَى عِبَادَةِ ربه، وأن يوفي حُقُوقِ عِبَادِهِ.
وَقِيلَ: لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ النِّكَاحِ، بَيَّنَ حُكْمَ الْقِتَالِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ تَحْصِينٌ لِلدِّينِ، وَالْقِتَالَ تَحْصِينٌ لِلدِّينِ وَالْمَالِ وَالرُّوحِ، وَقِيلَ: مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ:
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «١» ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِأَنَّهَا مِنْ عَظِيمِ آيَاتِهِ، وَبَدَائِعِ قُدْرَتِهِ.
وَهَذِهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ، فَصَارَ الْكَلَامُ تَقْرِيرًا، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ عَلِمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْرِفْهَا إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ وَالتَّعَجُّبُ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ، وَالرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ، وَضُمِّنَتْ مَعْنَى مَا يتعدّى بإلى، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَى كَذَا.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: رَأَيْتُ، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ دُونَ الْجَارِّ، لَكِنْ لَمَّا اسْتُعِيرَ قَوْلُهُمْ: أَلَمْ تر المعنى: أَلَمْ تَنْظُرْ، عُدِّيَ تَعْدِيَتَهُ، وَقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ التَّقْرِيرِ، مَا يُقَالُ: رَأَيْتُ إِلَى كَذَا. انْتَهَى.
وَ: أَلَمْ تَرَ، جَرَى مَجْرَى التَّعَجُّبِ فِي لِسَانِهِمْ، كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى مُجَزِّزٍ!» وَذَلِكَ فِي رُؤْيَتِهِ أَرْجُلَ زَيْدٍ وَابْنِهِ أُسَامَةَ، وَكَانَ أَسْوَدَ، فَقَالَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى مُجَزِّزٍ!»
الْحَدِيثَ.
وَقَدْ جَاءَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا «٢» أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «٣» أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «٤» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا وَجَدَتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تُطَيَّبِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ سَامِعٍ.
وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: تَرْ، بِسُكُونِ الرَّاءِ، قَالُوا: عَلَى تَوَهُّمٍ أَنَّ الرَّاءَ آخِرُ الْكَلِمَةِ، قال الراجز:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٢.
(٢) سورة الحشر: ٥٩/ ١١.
(٣) سورة المجادلة: ٥٨/ ١٤.
(٤) سورة الفرقان: ٢٥/ ٤٥.
560
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقًا وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِمًا لَبِيقَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: كَإِثْبَاتِ أَلِفِ:
الظُّنُونَا والسَّبِيلَا والرَّسُولَا فِي الْوَصْلِ.
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ، فَخَافُوا الْقَتْلَ، فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ لِيُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْمَوْتِ شَيْءٌ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَعَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ فَخَرَجُوا فِرَارًا منه، فأماتهم الله فينى عَلَيْهِمْ سَائِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَائِطًا حَتَّى إِذَا بَلِيَتْ عِظَامُهُمْ بَعَثَ اللَّهُ حِزْقِيلَ فَدَعَا اللَّهَ فَأَحْيَاهُمْ لَهُ. حَكَى هَذَا قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ أُمَّةٌ كَانَتْ قِبَلَ وَاسِطٍ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا دَاوَرْدَانُ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ، فَهَرَبُوا مِنْهُ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيَعْتَبِرُوا وَيَعْلَمُوا أَنْ لَا مَفَرَّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَرَّ عَلَيْهِمْ حِزْقِيلُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ وَقَدْ عَرِيَتْ عِظَامُهُمْ، وَتَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَلَوَى شِدْقَهُ وَأَصَابِعَهُ تَعَجُّبًا مِمَّا رَأَى. فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: نَادِ فِيهِمْ أَنْ قُومُوا بِإِذْنِ اللَّهِ. فَنَادَى، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ قِيَامًا يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ لَا أَنْتَ. وَمِمَّنْ قَالَ فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ:
الْحَسَنُ، وَعَمَّارُ بْنُ دِينَارٍ.
وَقِيلَ: فَرُّوا مِنَ الْحُمَّى، حَكَاهُ النَّقَّاشُ.
وَقَدْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَالزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْقِصَصِ، إِلَّا إِنْ عُيِّنَ أَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ هُمْ مَنْ ذُكِرَ فِي الْقِصَّةِ لَا غَيْرُ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ إِنْ ذُكِرَتْ كُلُّ قِصَّةٍ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفِرَّ نَاسٌ مِنَ الْجِهَادِ، وَنَاسٌ مِنَ الطَّاعُونِ، وَنَاسٌ مِنَ الْحُمَّى، فَيُمِيتُهُمْ ثُمَّ يُحْيِيهِمْ لِيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ، وَيَعْتَبِرَ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، وَلِيَعْلَمُوا جَمِيعًا أَنَّ الْإِمَاتَةَ وَالْإِحْيَاءَ بِيَدِ اللَّهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَافَ مِنْ شَيْءٍ مُقَدَّرٍ، وَلَا يَغْتَرَّ فَطِنٌ بِحِيلَةٍ أَنَّهَا تُنْجِيهِ مِمَّا شَاءَ اللَّهُ.
وَهُمْ أُلُوفٌ فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْكَثْرَةَ وَالتَّعَاضُدَ، وَإِنْ كَانَا نَافِعَيْنِ فِي دَفْعِ الْأَذِيَّاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَيْسَا بِمُغْنِيَيْنِ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ. وَهِيَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَأُلُوفٌ جَمْعُ أَلْفٍ جَمْعُ كَثْرَةٍ، فَنَاسَبَ أَنْ يُفَسَّرَ بِمَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، فَقِيلَ: سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
561
تِسْعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا سَبْعُونَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْبَعُونَ. وَقَالَ أَيْضًا:
بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: ثَلَاثُونَ، يَعْنُونَ أَلْفًا.
وَقَدْ فُسِّرَ بِمَا هُوَ لِأَدْنَى الْعَدَدِ اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ لِلْجَمْعِ الْقَلِيلِ، فَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: عَشَرَةُ آلَافٍ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: ثَمَانِيَةٌ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: سَبْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: أَرْبَعَةٌ وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: الْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا زِيَادَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، لِأَنَّ أُلُوفًا جَمْعُ الْكَثِيرِ، وَلَا يُقَالُ لِمَا دُونَ الْعَشْرَةِ الْآلَافِ أُلُوفٌ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ، فَقَدْ يُسْتَعَارُ أَحَدُ الْجَمْعَيْنِ لِلْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ اسْتِعْمَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَوْضُوعِهِ.
وَهَذِهِ التَّقْدِيرَاتُ كُلُّهَا لَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَفْظُ الْقُرْآنِ: وَهُمْ أُلُوفٌ لَمْ يَنُصَّ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُرَادَ ظَاهِرُ جَمْعِ أَلْفٍ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّكْثِيرُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ عَالَمٌ كَثِيرُونَ، لَا يَكَادُونَ يُحْصِيهِمْ عَادٌّ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَهُمْ أُلُوفٌ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: جِئْتُكَ أَلْفَ مَرَّةٍ، لَا تُرِيدُ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ إِنَّمَا تُرِيدُ جِئْتُكَ مِرَارًا كَثِيرَةً لَا تَكَادُ تُحْصَى مِنْ كَثْرَتِهَا وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
هُوَ الْمُنْزِلُ الْآلَافَ مِنْ جَوِّ نَاعِطٍ بَنِي أَسَدٍ حُزْنًا مِنَ الْأَرْضِ أَوْعَرَا
وَلَعَلَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ أُلُوفًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا آلَافًا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّكْثِيرَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُكَثِّرُ بِآلَافِ وَتَجْمَعُهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُمْ أُلُوفٌ، جَمْعُ أَلْفٍ الْعَدَدِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيرُ مِائَةٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أُلُوفٌ جَمْعُ أَلْفٍ. كَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ.
أَيْ: خَرَجُوا وَهُمْ مُؤْتَلِفُونَ لَمْ يُخْرِجْهُمْ فُرْقَةُ قَوْمِهِمْ وَلَا فِتْنَةٌ بَيْنَهُمْ، بَلِ ائْتَلَفُوا، فَخَالَفَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ، فَخَرَجَتْ فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ وَابْتِغَاءَ الْحَيَاةِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ فِي مَنْجَاهُمْ بِزَعْمِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقَالَ الْقَاضِي: كَوْنُهُ جَمْعَ أَلْفٍ مِنَ الْعَدَدِ أَوْلَى، لِأَنَّ وُرُودَ الْمَوْتِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ كَثْرَةٌ عَظِيمَةٌ تُفِيدُ مَزِيدَ اعْتِبَارٍ، وَأَمَّا وُرُودُهُ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمُ ائْتِلَافٌ فَكَوُرُودِهِ وَبَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ وَجْهَ الِاعْتِبَارِ لَا يَتَغَيَّرُ.
حَذَرَ الْمَوْتِ هَذَا عِلَّةٌ لِخُرُوجِهِمْ، لَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمُ الْمَوْتُ بِالطَّاعُونِ أَوْ بِالْجِهَادِ، حَمَلَهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ لَهُ مَوْجُودَةٌ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مَصْدَرًا مُتَّحِدَ الْفَاعِلِ وَالزَّمَانِ.
562
فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ظَاهِرُهُ أَنَّ ثَمَّ قَوْلًا لِلَّهِ، فَقِيلَ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ، وَقِيلَ: عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ. وَحُكِيَ: أَنَّ مَلَكَيْنِ صَاحَا بِهِمْ: مُوتُوا، فَمَاتُوا. وَقِيلَ: سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ فَتَوَفَّتْهُمْ، وَقِيلَ: لَا قَوْلَ هُنَاكَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَابِلِيَّتِهِمُ الْمَوْتَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَوْتِهِمْ كَمَوْتَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى:
فَأَمَاتَهُمْ، لَكِنْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّخْصِ الْمَأْمُورِ بِشَيْءٍ، الْمُسْرِعِ الِامْتِثَالَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَلَا امْتِنَاعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْ فَيَكُونُ «١».
وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، التَّقْدِيرُ: فَمَاتُوا، وَظَاهِرُ هَذَا الْمَوْتِ مُفَارَقَةُ الْأَرْوَاحِ الْأَجْسَادَ، فَقِيلَ: مَاتُوا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ بَعْدُ، بِدُعَاءِ حِزْقِيلَ وَقِيلَ: سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ الْقِصَصِ أَنَّهُ عَرِيَتْ عِظَامُهُمْ وَتَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ فِي ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَهَذَا الْمَوْتُ لَيْسَ بِمَوْتِ الْآجَالِ، بَلْ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي هَؤُلَاءِ كَمَرَضٍ وَحَادِثٍ مِمَّا يَحْدُثُ عَلَى الْبَشَرِ، كَحَالِ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ «٢» الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا.
ثُمَّ أَحْياهُمْ العطف بثم يَدُلُّ عَلَى تَرَاخِي الْإِحْيَاءِ عَنِ الْإِمَاتَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمْ لِيَسْتَوْفُوا آجَالَهُمْ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا قَوْمَ حِزْقِيلَ، فَخَرَجَ فَوَجَدَهُمْ مَوْتَى، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي جَعَلْتُ حَيَاتَهُمْ إِلَيْكَ، فَقَالَ لَهُمُ: احْيَوْا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّبِيُّ شَمْعُونُ، وَرِيحُ الْمَوْتَى تُوجَدُ فِي أَوْلَادِهِمْ. وَقِيلَ: النَّبِيُّ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَالَ وَهْبٌ: اسْمُهُ شَمْوِيلُ وَهُوَ ذُو الْكِفْلِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا أُحْيُوا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ يَعْرَقُونَ، لَكِنَّ سَحْنَةَ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَلَا يَلْبَسُ أَحَدٌ مِنْهُمْ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ كَفَنًا دَسِمًا، حَتَّى مَاتُوا لِآجَالِهِمُ الَّتِي كُتِبَتْ لَهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى إِمَاتَتِهِمْ تَذْلِيلُهُمْ تَذْلِيلًا يَجْرِي مَجْرَى الْمَوْتِ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ كَثْرَتُهُمْ وَتَظَاهُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، ثُمَّ أَعَانَهُمْ وَخَلَّصَهُمْ لِيَعْرِفُوا قُدْرَةَ اللَّهِ فِي أَنَّهُ يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَقِيلَ: عَنَى بِالْمَوْتِ: الْجَهْلَ، وَبِالْحَيَاةِ: الْعِلْمَ، كَمَا يَحْيَا الْجَسَدُ بِالرُّوحِ.
وَأَتَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بَيْنَ يَدَيِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ تَشْجِيعًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وحثا على الجهاد
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١٧، وآل عمران: ٣/ ٤٧ و ٥٩. والأنعام: ٦/ ٧٣. والنحل: ١٦/ ٤٠، ومريم: ١٩/ ٣٥، ويس: ٣٦/ ٨٣، وغافر: ٤٠/ ٦٨.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٩.
563
وَالتَّعْرِيضِ لِلشَّهَادَةِ، وَإِعْلَامًا أَنْ لَا مَفَرَّ مِمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا «١» وَاحْتِجَاجًا عَلَى الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى بِإِنْبَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَدْفَعُونَ صِحَّتَهُ، مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا، وَلَمْ يُدَارِسْ أَحَدًا، وَعَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِذْ مَنْ قَرَأَ الْكُتُبَ يُصَدِّقُهُ فِي إِخْبَارِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِمَّا هُوَ فِي كُتُبِهِمْ.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أَكَّدَ هذه الجملة: بإن، وَاللَّامِ، وَأَتَى الْخَبَرُ: لَذُو، الدَّالَّةُ عَلَى الشَّرَفِ، بِخِلَافِ صَاحِبٍ، وَ: النَّاسِ، هُنَا عَامٌّ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لِلَّهِ عَلَيْهِ فَضْلٌ أَيُّ فَضْلٍ، وَخُصُوصًا هُنَا، حَيْثُ نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا بِهِ يَسْتَبْصِرُونَ وَيَعْتَبِرُونَ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ عَقْلًا، كَائِنَةٌ بِإِخْبَارِهِ تَعَالَى: إِذْ أَعَادَ إِلَى الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ الْمُشَاهَدَةِ بِالْعَيْنِ الْأَرْوَاحَ الْمُفَارِقَةَ، وَأَبْقَاهَا فِيهَا الْأَزْمَانَ الطَّوِيلَةَ إِلَى أَنْ قَبَضَهَا ثَانِيَةً، وَأَيُّ فَضْلٍ أَجَلُّ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ، إِذْ تَتَضَمَّنُ جَمِيعَ كُلِّيَّاتِ الْعَقَائِدِ الْمُنْجِيَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ: بالناس، هاهنا الْخُصُوصُ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ فَفَرُّوا مِنْهُ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ، فَأَمَاتَهُمْ، ثُمَّ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْإِحْيَاءِ وَطَوَّلَ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ لِيَسْتَيْقِنُوا أن لا مفر من الْقَدَرِ، وَيَسْتَدْرِكُوا مَا فَاتَهُمْ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا نَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ بَلْ نَمْتَثِلُ مَا يَأْمُرُ بِهِ تَعَالَى.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ تَقَدَّمَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِالْإِيجَادِ وَالرِّزْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى ذلك، وهذا الاستدراك:
بلكن، مِمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ: فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى فَضْلِهِ، فَاسْتَدْرَكَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّاكِرَ قَلِيلٌ، كَقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «٢» وَيَخُصُّ: النَّاسِ، الثَّانِي بِالْمُكَلَّفِينَ.
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ هَذَا خِطَابٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَتْ تِلْكَ الْقِصَّةُ، كَمَا قُلْنَا، تَنْبِيهًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ لَا تَفِرَّ مِنَ الْمَوْتِ كَفِرَارِ أُولَئِكَ، وَتَشْجِيعًا لَهَا، وَتَثْبِيتًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ أَمْرٌ لِمَنْ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ بِالْجِهَادِ، أَيْ: وَقَالَ لَهُمْ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا وَجْهَ لِهَذَا الْقَوْلِ. انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ ملتحمة بقوله:
(١) سورة التوبة: ٩/ ٥١.
(٢) سورة سبأ: ٣٤/ ١٣.
564
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ «١» وَبِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً «٢» لِأَنَّ فِي هَذَا إِشْعَارًا بِلِقَاءِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ مَا جَاءَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ جَاءَ كَالِاعْتِرَاضِ، فَقَوْلُهُ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ «٣» تَتْمِيمٌ أَوْ تَوْكِيدٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِ الْمُطَلَّقَاتِ، وَقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اعْتِبَارٌ بِمَنْ مَضَى مِمَّنْ فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ، فَمَاتَ، أَنْ لَا نَنْكُصَ وَلَا نُحْجِمَ عَنِ الْقِتَالِ، وَبَيَانُ الْمُقَاتِلِ فِيهِ، وَأَنَّهُ سَبِيلُ اللَّهِ فِيهِ حَثٌّ عَظِيمٌ عَلَى الْقِتَالِ، إِذْ كَانَ الْإِنْسَانُ يُقَاتِلُ لِلْحَمِيَّةِ، وَلِنَيْلِ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُوَرِّثٌ لِلْعِزِّ الْأَبَدِيِّ وَالْفَوْزِ السَّرْمَدِيِّ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَسْمَعُ مَا يَقُولُهُ الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْقِتَالِ وَالْمُتَبَادِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ النِّيَّاتُ، فَيُجَازِي عَلَى ذَلِكَ.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْسِيسِ وَالتَّقْرِيبِ لِلنَّاسِ بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، شَبَّهَ تَعَالَى عَطَاءَ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ بِالْقَرْضِ، كَمَا شَبَّهَ بذل النفوس والأموال في الْجَنَّةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى بَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي إِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ، أَثْنَى عَلَى مَنْ بَذَلَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَكَانَ هَذَا أَقَلَّ حَرَجًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا بَذْلُ الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ، فَأَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ مَعْنَى الطَّلَبِ.
قَالَ ابْنُ الْمَغْرِبِيِّ: انْقَسَمَ الْخَلْقُ حِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ إلى فرق ثلاث.
الْأُولَى: الْيَهُودُ، قَالُوا: إِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ يَحْتَاجُ إِلَيْنَا وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ عَظِيمَةٌ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ «٤».
وَالثَّانِيَةُ: آثَرَتِ الشُّحَّ وَالْبُخْلَ، وَقَدَّمَتِ الرغبة في المال.
الثالثة: بَادَرَتْ إِلَى الِامْتِثَالِ، كَفِعْلِ أَبِي الدَّحْدَاحِ وَغَيْرِهِ. انْتَهَى.
وَ: مَنْ، اسْتِفْهَامِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: ذَا، وَ: الَّذِي، نَعْتٌ: لِذَا، أَوْ: بَدَلٌ مِنْهُ، وَمَنَعَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ: من، وذا، بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ، كَمَا كانت: ما، مع:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٨.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٩.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٤١.
(٤) سورة آل عمران: ٣/ ١٨١.
565
ذَا، قَالَ: لِأَنَّ: مَا، أَشَدُّ إِبْهَامًا مِنْ: مَنْ، إِذَا كَانَتْ: مَنْ، لِمَنْ يَعْقِلُ. وَأَصْحَابُنَا يُجِيزُونَ تَرْكِيبَ: مَنْ، مَعَ: ذَا، فِي الِاسْتِفْهَامِ وَتَصْيِرَهُمَا كَاسْمٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي: مَا، وَ: ذَا، فَيُجِيزُونَ فِي: مَنْ ذَا عِنْدَكَ، أن يكون: من وذا، بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَانْتَصَبَ لفظ الجلالة: بيقرض، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: عِبَادَ اللَّهِ الْمَحَاوِيجَ، أَسْنَدَ الِاسْتِقْرَاضَ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْحَاجَاتِ، تَرْغِيبًا فِي الصَّدَقَةِ، كَمَا أَضَافَ الْإِحْسَانَ إِلَى الْمَرِيضِ وَالْجَائِعِ وَالْعَطْشَانِ إِلَى نَفْسِهِ تَعَالَى
فِي قَوْلِهِ، جَلَّ وَعَلَا: «يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي وَاسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي وَاسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي». الْحَدِيثَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ.
وَانْتَصَبَ: قَرْضًا، عَلَى الْمَصْدَرِ الْجَارِي عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِقْرَاضًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى: مَقْرُوضٍ، أَيْ: قِطْعَةً مِنَ الْمَالِ، كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ.
وَانْتَصَبَ: حَسَنًا، عَلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: قَرْضًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ إِذَا أَعْرَبْنَا قَرْضًا مَفْعُولًا بِهِ، أَيْ: إِقْرَاضًا حَسَنًا، وَوَصْفُهُ بِالْحُسْنِ لِكَوْنِهِ طَيِّبَ النِّيَّةِ خَالِصًا لِلَّهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ. أَوْ، لِكَوْنِهِ يَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَهُ، أَوْ: لِكَوْنِهِ جَيِّدًا كَثِيرًا، أَوْ: لِكَوْنِهِ بِلَا مَنٍّ وَلَا أَذًى، قَالَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، أَوْ: لِكَوْنِهِ لَا يَطْلُبُ بِهِ عِوَضًا، قَالَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ التُّسْتَرِيُّ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ: فَيُضَعِّفُهُ، بِالتَّشْدِيدِ مِنْ ضَعَّفَ، وَالْبَاقُونَ: فَيُضَاعِفُهُ، مِنْ ضَاعَفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، بِنَصْبِ الْفَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى صِلَةِ الَّذِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُقْرِضُ، أَوْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: فَهُوَ يُضَاعِفُهُ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ لَا حَذْفَ فِيهِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ، وَإِنْ كَانَ عَنِ الْمُقْرِضِ، فَهُوَ عَنِ الْإِقْرَاضِ فِي الْمَعْنَى فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَيُقْرِضُ اللَّهَ أَحَدٌ فَيُضَاعِفَهُ؟
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الرَّفْعُ أَحْسَنُ، وَذَهَبَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، لَا عَنِ الْحُكْمِ، فَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْفَاءِ فِي الْجَوَابِ، فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَقَدْ جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»
. وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ الِاسْمِيَّةِ وَالْحَرْفِيَّةِ.
566
وَانْتَصَبَ: أَضْعَافًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي: يُضَاعِفُهُ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، تَضَمَّنَ مَعْنَى فَيُضَاعِفُهُ: فَيُصَيِّرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِاعْتِبَارِ أَنْ يُطْلِقَ الضِّعْفَ، وَهُوَ الْمُضَاعِفُ أَوِ الْمُضَعَّفُ، بِمَعْنَى الْمُضَاعَفَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ، كَمَا أَطْلَقَ الْعَطَاءَ وَهُوَ اسْمُ الْمُعْطَى بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ، وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ جِهَاتِ التَّضْعِيفِ بِاعْتِبَارِ الْإِخْلَاصِ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ لَكِنَّهَا كَثِيرَةٌ.
قَالَ الْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: لَا يَعْلَمُ كُنْهَ التَّضْعِيفِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَتْ مَقَادِيرُ مِنَ التَّضْعِيفِ، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ «١» ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «٢».
قِيلَ وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ: صَدَقَةٍ، وَجِهَادٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: خَاصَّةٌ بِالنَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ، وَقِيلَ: بِالصَّدَقَةِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْمُحْتَاجِينَ.
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أَيْ: يَسْلُبُ قَوْمًا وَيُعْطِي قَوْمًا، أَوْ: يُقَتِّرُ وَيُوَسِّعُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، أَوْ: يَقْبِضُ الصَّدَقَاتِ وَيَخْلُفُ الْبَذْلَ مَبْسُوطًا، أَوْ: يَقْبِضُ أَيْ: يُمِيتُ لِأَنَّ مَنْ أَمَاتَهُ فَقَدْ قَبَضَهُ، وَيَبْسُطُ أَيْ: يُحْيِيهِ، لِأَنَّ مَنْ مَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ فَقَدْ بَسَطَهُ، أَوْ: يَقْبِضُ بَعْضَ الْقُلُوبِ فَلَا تَنْبَسِطُ، وَيَبْسُطُ بَعْضَهَا فَيُقَدِّمُ خَيْرًا لِنَفْسِهِ، أَوْ: يَقْبِضُ بِتَعْجِيلِ الْأَجَلِ، وَيَبْسُطُ بِطُولِ الْأَمَلِ، أَوْ: يَقْبِضُ بالحظر وَيَبْسُطُ بِالْإِبَاحَةِ، أَوْ: يَقْبِضُ الصَّدْرَ وَيُوَسِّعُهُ، أَوْ يَقْبِضُ يَدَ مَنْ يَشَاءُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ، وَيَبْسُطُ يَدَ مَنْ يَشَاءُ بِالْإِنْفَاقِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُ، أَوْ: يَقْبِضُ الصَّدَقَةَ وَيَبْسُطُ الثَّوَابَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَلِلْمُتَصَوِّفَةِ فِي: الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، أَقَاوِيلُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ هَذِهِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِخِلَافٍ عَنْ خَلَّادٍ، وَحَفْصٍ، وَهِشَامٍ، وَقُنْبُلٍ، وَالنَّقَّاشِ، عَنِ الْأَخْفَشِ هُنَا، وَأَبُو قُرَّةَ عَنْ نَافِعٍ: يَبْسُطُ بالسين، وخير الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ قَالُونَ، عَنْ نَافِعٍ، وَالْبَاقُونَ: بِالصَّادِ.
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ خَبَرٌ مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ أَيْ: فَيُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ضُرُوبِ عِلْمِ الْبَيَانِ، وَصُنُوفِ الْبَلَاغَةِ:
الِاسْتِفْهَامَ الَّذِي أُجْرِيَ مَجْرَى التَّعَجُّبِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ وَالْحَذْفَ بَيْنَ: مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، أَيْ: فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ، أَيْ: مَلَكُ اللَّهِ بِإِذْنِهِ،
(١- ٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٦١.
567
وفي: لَا يَشْكُرُونَهُ، وَفِي قَوْلِهِ: سَمِيعٌ لِأَقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِكُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: تُرْجَعُونَ، فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا عَمِلَ. وَالطِّبَاقَ فِي قَوْلِهِ: مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، وَفِي: يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَالتَّكْرَارَ فِي: عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَالِالْتِفَاتَ فِي: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالتَّشْبِيهَ بِغَيْرِ أَدَاتِهِ فِي: قَرْضًا حَسَنًا، شَبَّهَ قَبُولَهُ تَعَالَى إِنْفَاقَ الْعَبْدِ فِي سَبِيلِهِ وَمُجَازَاتِهِ عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ الْحَقِيقِيِّ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْقَرْضِ عَلَيْهِ، وَالِاخْتِصَاصَ بِوَصْفِهِ بِقَوْلِهِ: حَسَنًا وَالتَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي قَوْلِهِ: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قِصَّةَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ حَذَرَ الْمَوْتِ، إِمَّا بِالْقِتَالِ أَوْ بِالطَّاعُونِ، عَلَى سَبِيلِ التَّشْجِيعِ وَالتَّثْبِيتِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ: لَا يُنْجِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، أَرْدَفَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَطْلُوبًا مَشْرُوعًا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَلَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي خُصِصْتُمْ بِهَا، لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ كَانَتِ النَّفْسُ أَمْيَلَ لِقَبُولِهِ مِنَ التَّكْلِيفِ الَّذِي يَكُونُ يَقَعُ بِهِ الِانْفِرَادُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَالْمَلَأُ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
جَمِيعُ الْقَوْمِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ، وَهَذَا هُوَ أَصْلُ وَضْعِ اللَّفْظَةِ. وَتُسَمَّى الْأَشْرَافُ الْمَلَأَ تَشْبِيهًا. انْتَهَى. يَعْنِي: وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَشْبِيهًا بِجَمِيعِ الْقَوْمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْمَلَأِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ.
مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ هُوَ صِلَةٌ لِلْمَلَأِ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُعَرَّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا، كَمَا زَعَمُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيَتُ أَكْرَمُ أَهْلِهِ فَأَكْرَمُ عِنْدَهُمْ صِلَةٌ لِلْبَيْتِ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، كَذَلِكَ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الْعَامِلُ فِيهِ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ.
مِنْ بَعْدِ مُوسى مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ: مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ هُوَ كَائِنِينَ، وَتَعَدَّى إِلَى حَرْفَيْ جَرٍّ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ لاختلاف المعنى فمن، الْأُولَى تَبْعِيضِيَّةٌ وَ: مِنْ، الثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، إِذِ الْعَامِلُ فِي هَذَا الظَّرْفِ، قَالُوا: تَرَ، وَقَالُوا: هُوَ بَدَلٌ مِنْ: بَعْدِ، لِأَنَّهُمَا زَمَانَانِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ.
568
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِنَّ أَلَمْ تَرَ تَقْرِيرٌ، وَالْمَعْنَى: قَدِ انْتَهَى عِلْمُكَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ نَظَرْتَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالُوا، وَلَيْسَ انْتِهَاءُ عِلْمِهِ إِلَيْهِمْ، وَلَا نَظَرُهُ إِلَيْهِمْ كَانَ فِي وَقْتِ قَوْلِهِمْ لِنَبِيٍّ لَهُمْ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا لِلِانْتِهَاءِ، وَلَا لِلنَّظَرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْمُولًا لَهُمَا، أَوْ لِأَحَدِهِمَا؟ هَذَا مَا لَا يَصِحُّ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَبَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَدَلًا مِنْ: بَعْدِ، لَكَانَ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَامِلِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ عَلَيْهِ، أَعْنِي: مِنْ، الدَّاخِلَةَ عَلَى: بَعْدِ، لَا تَدْخُلُ عَلَى: إِذْ، لَا تَقُولُ: مِنْ إِذْ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الظُّرُوفُ الَّتِي يَدْخُلُ عَلَيْهَا: مَنْ، كَوَقْتٍ وَحِينٍ، لَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى أَيْضًا، لِأَنَّ: مِنْ، بَعْدِ: مُوسَى، حَالٌ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ. إِذِ الْعَامِلُ فِيهِ: كَائِنِينَ، وَلَوْ قُلْتَ: كَائِنِينَ مِنْ حِينِ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا، لَمَا صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، فَيُنْظَرُ مَا يَعْمَلُ فِيهِ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَحْذُوفٌ بِهِ يَصِحُّ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْعَامِلُ، وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ تَقْدِيرُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى قِصَّةِ الْمَلَأِ، أَوْ: حَدِيثِ الْمَلَأِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ. لِأَنَّ الذَّوَاتَ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يُتَعَجَّبُ مِمَّا جَرَى لَهُمْ، فَصَارَ الْمَعْنَى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا جَرَى لِلْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى، إِذْ قَالُوا؟ فَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، هُوَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ، وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِهِ، وتعلق قوله: لنبي، بقالوا، وَاللَّامُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ لِلتَّبْلِيغِ، وَاسْمُ هَذَا النَّبِيِّ: شَمْوِيلُ بْنُ بَالِي، قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَوْ: شَمْعُونُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ اسْمُهُ عِيسَى، وَضَعَّفَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُوشَعُ بِأَنْ يُوشَعَ هُوَ فَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ دَاوُدَ قُرُونٌ كَثِيرَةٌ،
وَقَدْ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ وَنَحْنُ نُلَخِّصُهَا فَنَقُولُ: لَمَّا مَاتَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُوشَعَ يُقِيمُ فِيهِمُ التَّوْرَاةَ، ثُمَّ قُبِضَ فَخَلَفَ حِزْقِيلُ، ثُمَّ قُبِضَ فَفَشَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، حَتَّى عَبَدُوا الْأَوْثَانَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ إِلْيَاسَ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ الْيَسَعَ، ثُمَّ قُبِضَ، فَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، وَظَهَرَ لَهُمْ عَدُّوهُمُ الْعَمَالِقَةُ قَوْمُ جَالُوتَ، كَانُوا سُكَّانَ سَاحِلِ بَحْرِ الرُّومِ، بَيْنَ مِصْرَ وَفِلَسْطِينَ، وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَغَلَبُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَأَسَرُوا مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِهِمْ كَثِيرًا، وَضَرَبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَأَخَذُوا تَوْرَاتَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَهُمْ، وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبِيًّا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ، وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ هَلَكُوا إِلَّا امْرَأَةً حُبْلَى دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَرَزَقَهَا شَمْوِيلَ، فَتَعَلَّمَ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَفَلَهُ شَيْخٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَتَبَنَّاهُ فَلَمَّا بَلَغَ النُّبُوَّةَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ إِلَى جَنْبِ الشَّيْخِ، وَكَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ، فَدَعَاهُ بِلَحْنِ الشَّيْخِ: يَا شَمْوِيلُ، فَقَامَ
569
فَزِعًا، وَقَالَ: يَا أَبَتِ دَعَوْتَنِي، فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: لَا، فَيَفْزَعَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ نَمْ، فَجَرَى بِذَلِكَ لَهُ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ دَعَوْتُكَ الثَّالِثَةَ فَلَا تُجِبْنِي، فَظَهَرَ لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ فَبَلِّغْ قَوْمَكَ رِسَالَةَ رَبِّكَ، قَدْ بَعَثَكَ نَبِيًّا. فَأَتَاهُمْ، فَكَذَّبُوهُ، وَقَالُوا: إِنْ كُنَتَ صَادِقًا فَابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سبيل الله آيَةً مِنْ نُبُوَّتِكَ، وَكَانَ قوام بني إسرائيل بالإجماع عَلَى الْمُلُوكِ، وَكَانَ الْمَلِكُ يَسِيرُ بِالْجُمُوعِ، وَالنَّبِيُّ يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ وَقَالَ وَهْبٌ: بُعِثَ شَمْوِيلُ نَبِيًّا فَلَبِثُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً بِأَحْسَنِ حَالٍ، وَكَانَ اللَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمُ الْجِهَادَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تولوا، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ جَالُوتَ وَالْعَمَالِقَةِ مَا كَانَ.
وَمَعْنَى: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا: أَنْهِضْ لَنَا مَنْ نَصْدُرُ عنه في تدبير بالحرب، وَنَنْتَهِي إِلَى أَمْرِهِ، وَانْجَزَمَ: نُقَاتِلْ، عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ اللَّامِ عَلَى الصفة للملك وقرىء بِالنُّونِ وَرَفْعِ اللَّامِ عَلَى الحال من المجرور، وقرىء بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ.
قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا لَمَّا طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يُنْهِضَ لَهُمْ مَلِكًا، وَرَتَّبُوا عَلَى بَعْثِهِ أَنْ يُقَاتِلُوا وَكَانُوا قَدْ ذُلُّوا، وَسُبِيَ مُلُوكُهُمْ، فَأَخَذَتْهُمُ الْأَنَفَةُ، وَرَغِبُوا فِي الجهاد، أراد أن يستتب مَا طَلَبُوهُ مِنَ الْجِهَادِ، وَأَنْ يَتَعَرَّفَ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ بَوَاطِنُهُمْ، فَاسْتَفْهَمَ عَنْ مُقَارَبَتِهِمْ تَرْكَ الْقِتَالِ إِنْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ دَاعٍ إِلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، فَقَالُوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أَيْ هَذِهِ حَالُ مَنْ يُبَادِرُ إِلَى الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ طَالِبُ ثَأْرٍ، وَمُتَرَجٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ الظَّفَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ إِنَّمَا كَانَ بِذُنُوبِهِمْ، فَلَمَّا أَقْلَعُوا وَتَابُوا، وَرَجَعُوا لِطَوْعِ الْأَنْبِيَاءِ، قَوِيَتْ آمَالُهُمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، قِيلَ: وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ ظَنَّ مِنْهُمُ الْجُبْنَ وَالْفَشَلَ فِي الْقِتَالِ، فَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمَ، وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا ظَنَّهُ وَتَوَقَّعَهُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْهُمْ، وَكَانَ كَمَا تَوَقَّعَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ: عَسِيتُمْ، بِكَسْرِ السِّينِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْقِتَالِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: عَسَى، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْأَكْثَرُ فَتْحُ السِّينِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَوَجْهُ الْكَسْرِ قَوْلُ الْعَرَبِ: هُوَ عَسٌ بِذَلِكَ، مِثْلُ: حروشج، فَإِنْ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى ظَاهِرٍ فَقِيَاسُ عَسِيتُمْ، أَنْ يُقَالَ: عَسِيَ زَيْدٌ، مِثْلُ: رَضِيَ، فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ الْقِيَاسُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فَسَائِغٌ أَنْ تَأْخُذَ بِاللُّغَتَيْنِ وَتُسْتَعْمَلُ إِحْدَاهُمَا فِي مَوْضِعِ الْأُخْرَى، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ.
انْتَهَى. وَالْمَحْفُوظُ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُ لَا تُكْسَرُ السِّينُ إِلَّا مَعَ تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَنُونِ
570
الإناث، نحو: عسيت، وَعَسِينَ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ لَا الْوُجُوبِ، وَيُفْتَحُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَلَا يُسَوَّغُ الْكَسْرُ نَحْوَ: عَسَى زَيْدٌ وَالزَّيْدَانِ عَسَيَا، وَالزَّيْدُونَ عَسَوْا، والهندان عسيا، وعساك، وعساني، وَعَسَاهُ. وَقَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَدْفُوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ يَكْسِرُونَ السِّينَ مِنْ عَسَى مَعَ الْمُضْمَرِ خَاصَّةً، وَإِذَا قِيلَ: عَسَى زَيْدٌ فَلَيْسَ إِلَّا الْفَتْحُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الْمُضْمَرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَوْ كَانَ عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السين لقرىء: عَسِيَ رَبُّكُمْ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ أَبِي عُبَيْدٍ بِهَذِهِ اللُّغَةِ، وَدُخُولُ: هَلْ، عَلَى: عَسَيْتُمْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَسَى فِعْلٌ خَبَرِيٌّ لَا إِنْشَائِيٌّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ عَسَى إِنْشَاءٌ لِأَنَّهُ تَرَجٍّ، فَهِيَ نَظِيرَةُ لَعَلَّ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: جَاءَنِي الَّذِي عَسَى أَنْ يُحْسِنَ إِلَيَّ! وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هِشَامٌ فَأَجَازَ وَصْلَ الْمَوْصُولِ بِهَا، وَوُقُوعُهَا خَبَرًا لِأَنَّ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فِعْلٌ خَبَرِيٌّ، وَهُوَ جَائِزٌ. قَالَ الرَّاجِزُ:
لَا تَلْحَنِي إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمًا إِلَّا إِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ لَا تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
لِأَنَّ: إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ خَبَرًا لَهَا مِنَ الْجُمَلِ، إِلَّا الْجُمَلَ الْخَبَرِيَّةَ، وَهِيَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، هَذَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ ضَعِيفٌ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ: إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، مَحْذُوفٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَتَوَسَّطَ الشَّرْطُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الدَّلِيلِ عَلَى حَذْفِهِ، كَمَا تَوَسَّطَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ «١» وَخَبَرُ عَسَيْتُمْ: أَنْ لَا تُقَاتِلُوا، هَذَا عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، فَيَكُونُ: أَنْ، زِيدَتْ فِي الْخَبَرِ، إِذْ: عَسَى لِلتَّرَاخِي، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ: عَسَى، يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ، جَعَلَ: أَنْ لَا تُقَاتِلُوا، هُوَ الْمَفْعُولَ، وَ: أَنْ، مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَاوُ فِي:
وَمَا لَنَا، لِرَبْطِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَوْ حُذِفَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عَنْهُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي اللَّفْظِ وَإِنْكَارٌ فِي الْمَعْنَى، وَ: أَنْ لَا نُقَاتِلَ، أَيْ: فِي تَرْكِ الْقِتَالِ، حُذِفَ الْجَرُّ الْمُتَعَلِّقُ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ: لَنَا، الْوَاقِعُ خَبَرًا لِمَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِذْ هِيَ مُبْتَدَأٌ، وَ: أَنْ لَا نُقَاتِلَ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَوْ: فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَ سيبويه والخليل و: ذهب أَبُو الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ: أَنْ، زَائِدَةٌ، وَعَمِلَتِ النَّصْبَ كَمَا عَمِلَ بَاءُ الْجَرِّ الزَّائِدُ الْجَرَّ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أي:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٧٠. [.....]
571
وَمَا لَنَا غَيْرُ مُقَاتِلِينَ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ «١» مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «٢» وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «٣» وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: مَا لَكَ قَائِمًا؟ وَقَالَ تَعَالَى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «٤» وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى حَذْفِ الْوَاوِ مِنْ:
أَنْ لَا نُقَاتِلَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا لَنَا وَلِأَنْ لَا نُقَاتِلَ؟ قَالَ: كَمَا تَقُولُ: إِيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ، بِمَعْنَى إِيَّاكَ وَأَنْ تَتَكَلَّمَ، وَهَذَا وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ لَيْسَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ وَالْحَذْفَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلَا نَذْهَبُ إِلَيْهِمَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو هُنَا إِلَى ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى فِي عَدَمِ الزِّيَادَةِ وَالْحَذْفِ، وَأَمَّا: إِيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ، فَلَيْسَ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، بَلْ: إِيَّاكَ، مُضَمَّنٌ مَعْنَى احْذَرْ. فَأَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: احْذَرِ التَّكَلُّمَ، وَقَدْ أُخْرِجْنَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ: أَنْكَرُوا تَرْكَ الْقِتَالِ، وَقَدِ الْتَبَسُوا بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَالْقَائِلُ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ، لَكِنَّهُ أُخْرِجَ مِثْلُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ إِخْرَاجًا لَهُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمُ اسْتُولِيَ عَلَى بِلَادِهِمْ، وَأُسِرَ أَبْنَاؤُهُمْ، فَارْتَحَلُوا إِلَى غَيْرِ بلادهم التي كان منشأهم بِهَا، كَمَا مَرَّ فِي قِصَّتِهِمْ.
وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَقَدْ أَخْرَجَنَا، أَيِ الْعَدُوُّ، وَالْمَعْنَى. فِي: وَأَبْنَائِنَا، أَيْ: مِنْ بَيْنِ أَبْنَائِنَا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْقَلْبِ أَيْ: وَأُخْرِجَ مِنَّا أَبْنَاؤُنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ: بأخرجنا، عَلَى قِرَاءَةِ عُبَيْدٍ الْمَذْكُورِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ: وَقَدْ أَخْرَجَنَا اللَّهُ بِعِصْيَانِنَا وَذُنُوبِنَا، فَنَحْنُ نَتُوبُ وَنُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِ لِيَرُدَّنَا إِلَى أَوْطَانِنَا، وَيَجْمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبْنَائِنَا، كَمَا تَقُولُ: مَا لِي لَا أُطِيعُ اللَّهَ وَقَدْ عَاقَبَنِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟ فَيَنْبَغِي أَنْ أُطِيعَهُ حَتَّى لَا يُعَاقِبَنِي، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
أَظْهَرُوا التَّجَلُّدَ وَالتَّصَلُّبَ فِي الْقِتَالِ ذَبًّا عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ حَيْثُ قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلِذَلِكَ لَمْ يَتِمَّ قَصْدُهُمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِحَقِّ اللَّهِ عَزْمُهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَا لَنَا أَنْ لَا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَنَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْنَا، لَعَلَّهُمْ وُفِّقُوا لِإِتْمَامِ مَا قَصَدُوا.
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ هَذَا شَأْنُ الْمُتْرَفِ الْمُنَعَّمِ، مَتَى كَانَ مُتَلَبِّسًا بِالنِّعْمَةِ قَوِيَ عَزْمُهُ وَأَنِفَ، فَإِذَا ابْتُلِيَ بشيء من الخطوب ركع وَذُلُّ.
التَّوَلِّي: حَقِيقَةً هُوَ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ لِلْحَرْبِ، وَمَعْنَاهُ هُنَا: صَرْفُ عَزَائِمِهِمْ عَنْ ما سألوه
(١) سورة يوسف: ١٢/ ١١.
(٢) سورة نوح: ٧١/ ١٣.
(٣) سورة الحديد: ٥٧/ ٨.
(٤) سورة المدثر: ٧٤/ ٤٩.
572
مِنَ الْقِتَالِ، وَانْتَصَبَ: قَلِيلًا، عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمَا، لَوْ قُلَتَ: ضَرَبْتُ الْقَوْمَ إِلَّا رِجَالًا، لَمْ يَصِحَّ، وَصَحَّ هَذَا لِاخْتِصَاصِهِ بِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ، وَلِتَقْيِيدِهِ بِقَوْلِهِ: مِنْهُمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا عِدَّةَ هَذَا الْقَلِيلِ، وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ،
صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لما سُئِلَ عَنْ عِدَّةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى عِدَّةِ قَوْمِ طَالُوتَ»، وَهَؤُلَاءِ الْقَلِيلُ ثَبَتُوا عَلَى نِيَّاتِهِمُ السَّابِقَةِ، وَاسْتَمَرَّتْ عَزَائِمُهُمْ عَلَى قِتَالِ أَعْدَائِهِمْ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تَوَلَّوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ الْكَوْنَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ جُثَثٌ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ، وَزَيْدًا، بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَامَّةً، وَالنَّصْبُ عَلَى أنها ناقصة، واسمها ضَمِيرٌ مُسْتَكِنٌّ فِيهَا يَعُودُ عَلَى الْبَعْضِ الْمَفْهُومِ مِمَّا قَبْلَهُ، التَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ، أَيْ: بَعْضُهُمْ زَيْدًا، وَالْمَعْنَى قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا كَوْنُ زَيْدٍ فِي الْقَائِمِينَ، وَيَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ فِي الْقَائِمِينَ أَنَّهُ لَيْسَ قَائِمًا، فَلَا فَرْقَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بَيْنَ قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَبَيْنَ قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ أَوْ زَيْدًا.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فِيهِ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ تَقَاعَدَ عَنِ الْقِتَالِ بَعْدَ أَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ بِسُؤَالِهِ وَرَغْبَتِهِ، وَأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ ظُلْمٌ، إِذِ الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ في غير موضعه.
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً
قَوْلُ النَّبِيِّ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ، لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ
، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسُؤَالٍ مِنَ النَّبِيِّ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ سُؤَالِهِ، بَلْ لَمَّا عَلِمَ حَاجَتَهُمْ إِلَيْهِ بَعَثَهُ.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ مَلِكًا، فَأَتَى بِعَصًا وَقَرْنٍ فِيهِ دُهْنُ الْقُدْسِ وَقِيلَ: الَّذِي يَكُونُ مَلِكًا طُولُهُ طُولُ هَذِهِ الْعَصَا، وَقِيلَ: لِلنَّبِيِّ. انْظُرِ الْقَرْنَ فَإِذَا دَخَلَ رَجُلٌ فَنَشَّ الدُّهْنَ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَهُوَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَاسُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعَصَا فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَهَا، وَكَانَ: طَالُوتُ سَقَّاءً عَلَى مَاءٍ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، أَوْ: دَبَّاغًا عَلَى مَا قَالَهُ وَهْبٌ، أَوْ مُكَارِيًا، وَضَاعَ حِمَارٌ لَهُ، أَوْ حُمُرٌ لِأَهْلِهِ، فَاجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ لِيَسْأَلَهُ عَنْ مَا ضَاعَ لَهُ وَيَدْعُو اللَّهَ لَهُ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَهُ نَشَّ ذَلِكَ الْقَرْنَ، وَقَاسَهُ النَّبِيُّ بِالْعَصَا، فَكَانَ طُولَهَا، فَقَالَ لَهُ: قَرِّبْ رَأْسَكَ فَقَرَّبَهُ وَدَهَنَهُ بِدُهْنِ الْقُدْسِ، وَقَالَ: أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أُمَلِّكَكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ طَالُوتُ: أَنَا؟
573
قال: نعم. قال: أو ما عَلِمْتَ أَنَّ سِبْطِي أَدْنَى أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَفَمَا عَلِمْتَ أَنَّ بَيْتِي أَدْنَى بُيُوتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَبِآيَةِ أَنَّكَ تَرْجِعُ وَقَدْ وَجَدَ أَبُوكَ حُمُرَهُ. وَكَانَ كَذَلِكَ.
وَانْتَصَبَ: مَلِكًا عَلَى الْحَالِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَلَّكَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ.
قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ هَذَا كَلَامُ مَنْ تَعَنَّتَ وَحَادَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهِيَ عَادَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ إِذْ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ عَنِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً أن يسلموا لأمر الله، وَلَا تُنْكِرُهُ قُلُوبُهُمْ، وَلَا يَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَفِي الْمَقَادِيرِ أَسْرَارٌ لَا تُدْرَكُ، فَقَالُوا: كَيْفَ يُمَلَّكُ عَلَيْنَا من هو دوننا.
لَيْسَ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ الَّذِي هُوَ سِبْطُ يَهُوذَا. وَمِنْهُ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ؟ وَلَيْسَ مِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ الَّذِي هُوَ سِبْطُ لَاوِي وَمِنْهُ مُوسَى وَهَارُونُ؟ قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: وَكَانَ سِبْطُ طَالُوتَ قَدْ عَمِلُوا ذَنْبًا عَظِيمًا، نَكَحُوا النِّسَاءَ نَهَارًا عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَنَزَعَ النُّبُوَّةَ وَالْمُلْكَ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ سِبْطَ الْإِثْمِ.
وَفِي قَوْلِهِمْ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا إِلَى آخِرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْكُوزٌ فِي الطِّبَاعِ أَنْ لَا يُقَدَّمَ الْمَفْضُولُ عَلَى الْفَاضِلِ، وَاسْتِحْقَارُ مَنْ كَانَ غَيْرَ مُوَسَّعٍ عَلَيْهِ، فَاسْتَبْعَدُوا أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَالْمُلْكُ يَحْتَاجُ إِلَى أَصَالَةٍ فِيهِ، إِذْ يَكُونُ أَعْظَمَ فِي النُّفُوسِ، وَإِلَى غِنًى يَسْتَعْبِدُ بِهِ الرِّجَالَ، وَيُعِينُهُ عَلَى مَقَاصِدِ الْمُلْكِ، لَمْ يَعْتَبِرُوا السَّبَبَ الْأَقْوَى، وَهُوَ: قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ «١» وَاعْتَبَرُوا السَّبَبَ الْأَضْعَفَ، وَهُوَ: النَّسَبُ والغنى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «٢»
«لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ»
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ «٣» قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَعْجَبُ شَيْءٍ إِلَى عَاقِلٍ فُتُوٌّ عَنِ الْمَجْدِ مُسْتَأْخِرَهْ
إِذَا سُئِلُوا مَا لَهُمْ مِنْ عُلًا؟ أَشَارُوا إِلَى أَعْظُمٍ ناخره
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٢٦.
(٢) سورة الحجرات: ٤٩/ ١٣.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٢١.
574
وَ: أَنَّى، هُنَا بِمَعْنَى: كَيْفَ؟ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَ: يَكُونُ، الظَّاهِرُ أَنَّهَا نَاقِصَةٌ، وَ: لَهُ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي: أَنَّى، وَ: عَلَيْنَا، مُتَعَلِّقٌ:
بالملك، عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ، تَقُولُ: فُلَانٌ مَلِكٌ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، وَقِيلَ: عَلَيْنَا، حَالٌ مِنَ:
الْمُلْكُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً وَ: لَهُ، متعلق، بيكون، أَيْ: كَيْفَ يَقَعُ؟ أَوْ: يَحْدُثُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ؟ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ اسْمِيَّةٌ عُطِفَ عَلَيْهَا جُمْلَةٌ فعلية، وهي لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْحَالِ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ هَذَانِ الْوَصْفَانِ، وُجُودُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ، وَفَقْرُهُ، لَا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ. وَيُعَلَّقُ: بِالْمُلْكِ، وَ: مِنْهُ، بأحق، وتعلق: من المال، بيؤت، وَفُتِحَتْ سِينُ السَّعَةِ لِفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ، إِذْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَقِيَاسُهَا الْكَسْرُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلُهُ، يُوسِعُ، كَوَثِقَ يَثِقُ، وَإِنَّمَا فُتِحَ عَيْنُ الْمُضَارِعِ لِكَوْنِ لَامِهِ حَرْفَ حَلْقٍ، فَهَذِهِ فَتْحَةٌ أَصْلُهَا الْكَسْرُ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتِ الْوَاوُ، لِوُقُوعِهَا فِي يَسَعُ بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، لَكِنْ فُتِحَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهَا الْفَتْحَ لَمْ يَجُزْ حَذْفُ الْوَاوِ، أَلَا تَرَى ثُبُوتَهَا فِي يَوْجَلُ؟
لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ بَيْنَ كَسْرَةٍ وَيَاءٍ، فَالْمَصْدَرُ وَالْأَمْرُ فِي الْحَذْفِ مَحْمُولَانِ عَلَى الْمُضَارِعِ، كَمَا حَمَلُوا: عِدَةً وعد عَلَى يَعِدُ.
قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ أَيِ: اخْتَارَهُ صَفْوَةً، إِذْ هُوَ أَعْلَمُ تَعَالَى بِالْمَصَالِحِ، فَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَى اللَّهِ.
وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ قِيلَ: فِي الْعِلْمِ بِالْحُرُوبِ، وَالظَّاهِرُ عِلْمُ الدِّيَانَاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَقِيلَ: قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ ونبىء، وَأَمَّا الْبَسْطَةُ فِي الْجِسْمِ فَقِيلَ: أُرِيدَ بِذَلِكَ مَعَانِي:
الْخَيْرِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَقَهْرِ الْأَعْدَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ: الِامْتِدَادُ، وَالسَّعَةُ فِي الْجِسْمِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ طَالُوتُ يَوْمَئِذٍ أَعْلَمَ رَجُلٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَجْمَلَهُ وَأَتَمَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي طُولِهِ، وَنَبَّهَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ طَالُوتَ لِلْمُلْكِ بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ «١» وَبِمَا أَعْطَاهُ مِنَ السَّعَةِ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ الْوَصْفُ الَّذِي لَا شَيْءَ أَشْرَفُ مِنْهُ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «٢» أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَمِنْ بَسْطَةِ الْجِسْمِ، فَإِنَّ لِذَلِكَ عِظَمًا فِي النُّفُوسِ وَهَيْبَةً وَقُوَّةً، وَكَثِيرًا مَا تَمَدَّحَتِ الْعَرَبُ بِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ:
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٦٨.
(٢) سورة فاطر: ٣٥/ ٢٨.
575
فَجَاءَتْ بِهِ سَبْطَ الْعِظَامِ كَأَنَّمَا عِمَامَتُهُ بَيْنَ الرِّجَالِ لِوَاءُ
وَقَالَ:
بَطَلٌ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ
وَقَالَ:
تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ وَأَنَّ أَعِزَّاءَ الرِّجَالِ طِيَالُهَا
وَقَالُوا فِي الْمَدْحِ: طَوِيلُ النِّجَادِ رَفِيعُ الْعِمَادِ،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا مَاشَى الطِّوَالَ طَالَهُمْ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بَعْدَ الْمُلْكِ، وَقَالَ وَهْبٌ، وَالسُّدِّيُّ، قَبْلَ الْمُلْكِ، فَالْمَعْنَى: وَزَادَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ بَسْطَةً، بِالسِّينِ، أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، و: بالصاد نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، رِوَايَةُ النقاش، وزرعان، والشموني. وَزَادَ: لَئِنْ بَصَطْتَ، وَبِبَاصِطٍ، وَكَبَاصِطٍ، وَمَبْصُوطَتَانِ، وَلَا تَبْصُطْهَا كُلَّ الْبَصْطِ، وَأَوْصَطِ، وَفَمَا اصْطَاعُوا، وَيَصْطُونَ، وَالْقِصْطَاسِ، وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو نَشِيطٍ عَنْ قَالُونَ.
وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ مَعْمُولِ قَوْلِ النَّبِيِّ لَهُمْ، لَمَّا عَلِمَ بُغْيَتَهُمْ فِي مَسَائِلِهِمْ وَمُجَادَلَتِهِمْ فِي الْحُجَجِ الَّتِي تُبْدِيهَا، أَتَمَّ كَلَامَهُ بِالْأَمْرِ الْقَطْعِيِّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَلَمَّا قَالُوا: وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ فَكَانَ فِي قَوْلِهِمُ ادِّعَاءُ الْأَحَقِّيَّةِ فِي الْمُلْكِ، حَتَّى كَأَنَّ الْمُلْكَ هُوَ فِي مُلْكِهِمْ، أَضَافَ الْمُلْكَ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: مَلِكًا، فَالْمَلِكُ مُلْكُهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا أَرَادَ، فَلَسْتُمْ بِأَحَقَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ مُلْكُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَقِيلَ: هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ لَيْسَتَا دَاخِلَتَيْنِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ، بَلْ هِيَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، جَاءَتْ لِلتَّشْدِيدِ وَالتَّقْوِيَةِ لِمَنْ يُؤْتِيهِ اللَّهُ الْمُلْكَ، أَيْ: فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفَ فِي مُلْكِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ «١» وَخَتَمَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، إِذْ تَقَدَّمَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْمُلْكِ، وَأَنَّهُمُ الْأَغْنِيَاءُ، وَأَنَّ طَالُوتَ لَيْسَ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ، وَأَنَّهُ فَقِيرٌ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ وَاسِعٌ، يُوَسِّعُ فَضْلَهُ عَلَى الْفَقِيرِ، عَلِيمٌ بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ، فَيَضَعُهُ فِيهِ وَيَخْتَارُهُ لَهُ.
وَفِي قِصَّةِ طَالُوتَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَيْسَتْ وِرَاثَةً، لِإِنْكَارِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا أَنْكَرُوهُ مِنَ التَّمْلِيكِ عَلَيْهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مستحق بالعلم والقوّة
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٣.
576
لَا بِالنَّسَبِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلنَّسَبِ مَعَ الْعِلْمِ، وَفَضَائِلِ النَّفْسِ، وَأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ لِاخْتِيَارِ اللَّهِ طَالُوتَ عَلَيْهِمْ، لِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا أَشْرَفَ مِنْهُ نَسَبًا.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الشَّرِيفَةُ الْإِخْبَارَ بِقِصَّةِ الْخَارِجِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَهُمْ عَالَمٌ لَا يُحْصَوْنَ، فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ، إِمَّا بِالْقَتْلِ إِذْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ، وَإِمَّا بِالْوَبَاءِ، فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا مَفَرَّ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِئَلَّا نَسْلُكَ مَا سَلَكُوهُ، فَنُحْجِمَ عَنِ الْقِتَالِ، فَأَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُثْبِتَةً لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَذَلِكَ بِإِحْيَائِهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يُؤَدِّي شُكْرَ اللَّهِ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِأَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِنَا، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِنَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ أَقْرَضَ اللَّهَ فَاللَّهُ يُضَاعِفُهُ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بِيَدِهِ الْقَبْضَ وَالْبَسْطَ، وَأَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِقِصَّةِ الملإ من بني إسرائيل، وذلك لنعتبر بها وتقتدي مِنْهَا بِمَا كَانَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ حَسَنًا، وَنَجْتَنِبَ مَا كَانَ قَبِيحًا. وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي قَصَصِ الْأَوَّلِينَ عَلَيْنَا لِنَعْتَبِرَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ حِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ، فَمَلَكَ بِلَادَهُمْ وَأَسَرَ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلِكٌ يَسُوسُهُمْ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ، إِذْ هِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى مَنْ يُصْدَرُ عَنْ أَمْرِهِ وَيُجْتَمَعُ عَلَيْهِ، فَسَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يُنْهِضَ.
لَهُمْ مَلِكًا بِرَسْمِ الجهاد في سبيل الله، فَتَوَقَّعَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ نَكَصُوا عَنْهُ، فَأَجَابُوهُ: بِأَنَّا قَدْ وُتِرْنَا، وَأُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا، وَأَبْنَائِنَا، وَهَذَا أَصْعَبُ شَيْءٍ عَلَى النُّفُوسِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ مَسْكَنٍ أَلِفَهُ، وَيُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبْنَائِهِ، وَلِهَذَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اللَّهُمَّ حَبِّبْ لَنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَكْثَرَ». وَكَثِيرًا مَا بَكَى الشُّعَرَاءُ الْمَسَاكِنَ وَالْمَعَاهِدَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بِلَالٍ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَكَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الْمُحَدِّثُ قَدْ رُزِقَ مِنَ النَّصِيبِ فِي الدُّنْيَا وَالْجَلَالَةِ، وَحَمَلَ النَّاسُ الْعِلْمَ عَنْهُ، وَكَانَ بِبَغْدَادَ، فَعَبَرَ مَرَّةً عَلَى مَكَانِ مَوْلِدِهِ وَمَنْشَئِهِ صَغِيرًا بِبَغْلَانَ، قِيلَ: وَهِيَ ضَيْعَةٌ مِنْ أَصْغَرِ الضَّيَاعِ، فَتَمَنَّى أَنْ لَوْ كَانَ مُقِيمًا بِهَا، وَيَتْرُكَ رِئَاسَةَ بَغْدَادَ، دَارِ الْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ نُزُوعٌ إِلَى الْوَطَنِ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ الْقِتَالُ عَلَيْهِمْ: أَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِهِ إِلَّا قَلِيلًا فَإِنَّهُ أَخَذَ أَمْرَ اللَّهِ بِالْقَبُولِ، ثُمَّ عَرَّضَ تَعَالَى بِالظَّالِمِينَ، وَهُمُ: الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا أَمْرَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا طَلَبُوهُ، فَهُوَ يُجَازِيهِمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِمْ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنِ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ بَعَثَ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْفَسِهِمْ وَلَا أَشْرَفِهِمْ مَنْصِبًا، إِذْ لَيْسَ مِنْ
577
سِبْطِ النُّبُوَّةِ، وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمُلْكِ، فَلَمْ يَأْخُذُوا مَا أَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ، وَشَرَعُوا يَتَعَنَّتُونَ عَلَى عَادَتِهِمْ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَاسْتَبْعَدُوا تَمْلِيكَهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ عَلَى زَعْمِهِمْ، إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ فَيُعَظَّمُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَلِأَنَّهُ فَقِيرٌ، وَهَاتَانِ الْخَلَّتَانِ هُمَا يُضْعِفَانِ الْمُلْكَ، إِذْ سَابِقُ الرِّئَاسَةِ وَالْجَاهِ وَالْمَلَاءَةِ بِالْأَمْوَالِ مِمَّا يَسْتَتْبِعُ الرِّجَالَ، وَيَسْتَعْبِدُ الْأَحْرَارَ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ عِنَايَةَ الْمَقَادِيرِ تَجْعَلُ الْمَفْضُولَ فَاضِلًا. فَأَخْبَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَهُ عَلَيْكُمْ، وَشَرَّفَهُ بِخَصْلَتَيْنِ: هُمَا فِي ذَاتِهِ: إِحْدَاهُمَا: الْخُلُقُ الْعَظِيمُ، وَالْأُخْرَى: الْمَعْرِفَةُ الَّتِي هِيَ الْفَضْلُ الْجَسِيمُ، وَاسْتَغْنَى بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الذَّاتِيَّيْنِ عَنِ الْوَصْفَيْنِ الْخَارِجَيْنِ عَنِ الذَّاتِ، وَهُمَا الْفَخْرُ: بِالْعَظْمِ الرَّمِيمِ، وَالِاسْتِكْثَارُ بِالْمَالِ الَّذِي مَرْتَعُهُ وَخِيمٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي مُلْكَهُ مَنْ أَرَادَ، وَأَنَّهُ الْوَاسِعُ الْفَضْلِ، الْعَالِمُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فلا اعتراض عليه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٨ الى ٢٥٢]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
578
التَّابُوتُ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ الصُّنْدُوقُ، وَفِي التَّابُوتِ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَزْنَهُ فَاعُولٌ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ اشْتِقَاقٌ وَلُغَةٌ فِيهِ التَّابُوهُ، بِالْهَاءِ آخِرًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ بَدَلًا مِنَ التَّاءِ كَمَا أَبْدَلُوهَا مِنْهَا فِي الْوَقْفِ، فِي مِثْلِ: طَلْحَةَ فَقَالُوا: طَلْحَهْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: فَعَلُوتًا كَمَلَكُوتٍ، مِنْ: تَابَ يَتُوبُ، لِفُقْدَانِ مَعْنَى الِاشْتِقَاقِ فِيهِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّهُ فَعَلُوتٌ مِنَ التَّوْبِ، وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ تُوضَعُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُودَعُهُ فَلَا يَزَالُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَصَاحِبُهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مُودَعَاتِهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَلَا يَكُونُ فَاعُولًا لِقِلَّةٍ نَحْوَ سَلِسَ، وَقَلِقَ، وَلِأَنَّهُ تَرْكِيبٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَعْرُوفِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بِالْهَاءِ فَفَاعُولٌ إِلَّا فِيمَنْ جَعَلَ هاءه مِنَ التَّاءِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْهَمْسِ، وَأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، وَلِذَلِكَ أُبْدِلَتْ مِنْ تاء التأنيث.
السكينة: فعلية مِنَ السُّكُونِ، وَهُوَ الْوَقَارُ تَقُولُ: فِي فُلَانٍ سَكِينَةٌ أَيْ: وَقَارٌ وَثَبَاتٌ.
هَارُونَ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ يُمْنَعُ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ.
الْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْجَنَدِ وَهُوَ: الْغَلِيظُ مِنَ الْأَرْضِ إِذْ بَعْضُهُمْ يَعْتَصِمُ بِبَعْضٍ.
الْغُرْفَةُ: بِضَمِّ الْغَيْنِ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُغْتَرَفِ مِنَ الْمَاءِ، كَالْأُكْلَةِ لِلْقَدْرِ الَّذِي يُؤْكَلُ، وَبِفَتْحِ الْغَيْنِ مَصْدَرٌ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ نَحْوَ: ضَرَبْتُ ضَرْبَةً وَالِاغْتِرَافُ وَالْغَرْفُ مَعْرُوفٌ، وَالْغُرْفَةُ الْبِنَاءُ الْعَالِي الْمُشْرِفُ.
جَاوَزَ: وَجَازَ الْمَكَانَ قَطَعَهُ.
جَالُوتُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، كَانَ مَلِكَ الْعَمَالِقَةِ، وَيُقَالُ إِنَّ الْبَرْبَرَ مِنْ نَسْلِهِ.
الْفِئَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ فَاءَ يَفِيءُ إِذَا رَجَعَ، فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ عَيْنَ الْكَلِمَةِ، أَوْ مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ: كَسَرْتُهُ: فَيَكُونُ الْمَحْذُوفُ لَامَ الْكَلِمَةِ قَوْلًا.
غَلَبَ: غَلْبًا وَغَلَبَةً: قَهَرَ، وَالْأَغْلَبُ الْقَوِيُّ الْغَلِيظُ، وَالْأُنْثَى غَلْبَى.
579
بَرَزَ: يَبْرُزُ بُرُوزًا، ظَهَرَ، وَامْرَأَةٌ بَرَزَةٌ أَخَذَ مِنْهَا السِّنُّ، فَلَمْ تَسْتُرْ وَجْهَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الْبِرَازُ وَالْمُتَبَرَّزُ.
أَفْرِغْ: صُبَّ وَفَرَغَ مِنْ كَذَا، خَلَا مِنْهُ.
ثَبَتَ: اسْتَقَرَّ وَرَسَخَ، وَثَبَّتَهُ أَقَرَّهُ وَمَكَّنَهُ بِحَيْثُ لَا يَتَزَحْزَحُ.
الْقَدَمُ: الرِّجْلُ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهَا: قُدَيْمَةٌ، وَالِاشْتِقَاقُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ يَرْجِعُ لِمَعْنَى التَّقَدُّمِ.
هَزَمَ: كَسَرَ الشَّيْءَ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَزَمْتُ عَلَى زَيْدٍ: عَطَفْتُ عَلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
هَزَمْتُ عَلَيْكِ الْيَوْمَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ فَجُودِي عَلَيْنَا بِالنَّوَالِ وَأَنْعِمِي
دَاوُدُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُنِعَ الصَّرْفَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ، وَهُوَ هُنَا: أَبُو سُلَيْمَانَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيسَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَيُقَالُ دَاوُدُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنُ يَنْوَى، مِنْ سِبْطِ يَهُودَ بْنِ يعقوب بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
الدَّفْعُ: الصَّرْفُ: دَفَعَ يَدْفَعُ دَفْعًا، وَدَافَعَ مُدَافَعَةً وَدِفَاعًا.
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ هَذَا النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «١».
وَلَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَهُمُ الله: ب إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً «٢» أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِآيَةٍ تَدُلُّ عَلَى مُلْكِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْبِيطِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي قَرَنَهَا اللَّهُ بِمُلْكِ طَالُوتَ وَجَعَلَهَا آيَةً لَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ، وَحَكَى مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ: تَعَنَّتَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: وَمَا آيَةُ مُلْكِ طَالُوتَ؟ وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ سُؤَالِ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِمْ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً «٣» وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ مِنَ الْأَوَّلِ بِأَخْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَكْذِيبِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ، وَقِيلَ: خَيَّرَهُمُ النَّبِيُّ فِي آيَةٍ، فَاخْتَارُوا التَّابُوتَ، وَلَا يَكُونُ إِتْيَانُ التَّابُوتِ آيَةً إِلَّا إِذَا كَانَ يَقَعُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً عَلَى صِدْقِ الدَّعْوَى، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجِيئُهُ هُوَ الْمُعْجِزَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا فيه هو
(١- ٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٧.
580
الْمُعْجِزَ، وَهُوَ سَبَبٌ لِاسْتِقْرَارِ قُلُوبِهِمْ، وَاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ وَنِسْبَةُ الْإِتْيَانِ إِلَى التَّابُوتِ مَجَازٌ لِأَنَّ التَّابُوتَ لَا يَأْتِي، إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ، كَقَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «١» فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «٢».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: التَّابُوتُ بِالتَّاءِ وَقَرَأَ أُبِيٌّ وَزَيْدٌ: بِالْهَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْهَاءِ أَهِيَ بَدَلٌ مِنَ التَّاءِ؟ أَمْ أَصْلٌ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ السَّائِبِ: كَانَ التَّابُوتُ مِنْ عُودِ الشَّمْشَارِ، وَهُوَ خَشَبٌ تُعْمَلُ مِنْهُ الْأَمْشَاطُ، وَعَلَيْهِ صَفَائِحُ الذَّهَبِ، وَقِيلَ:
كَانَتِ الصَّفَائِحُ مُمَوَّهَةً بِالذَّهَبِ، وَكَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، وَقَدْ كَثُرَ الْقَصَصُ فِي هَذَا التَّابُوتِ وَالِاخْتِلَافُ فِي أَمْرِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَابُوتٌ مَعْرُوفٌ حَالُهُ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا قَدْ فَقَدُوهُ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا أَبْهَمَ حَالَهُ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى تَعْيِينِ مَا فِيهِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ، وَنَحْنُ نُلِمُّ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ، فَذَكَرُوا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ تَابُوتًا عَلَى آدَمَ فِيهِ صُوَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبُيُوتٌ بِعَدَدِهِمْ، وَآخِرُهُ بَيْتُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَتَنَاقَلَهُ بَعْدَهُ، أَوْلَادُهُ شِيثٌ فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ كَانَ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ، ثم عند ابنه قيدار، فَنَازَعَهُ إِيَّاهُ بَنُو عَمِّهِ أَوْلَادُ إِسْحَاقَ، وَقَالُوا لَهُ: وقد صُرِفَتِ النُّبُوَّةُ عَنْكُمْ إِلَّا هَذَا النُّورَ الْوَاحِدَ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، وَجَاءَ يَوْمًا يَفْتَحُهُ فَتَعَسَّرَ، فَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ لَا يَفْتَحُهُ إِلَّا نَبِيٌّ، فَادْفَعْهُ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ يَعْقُوبَ، فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ إِلَى كَنْعَانَ، فَدَفَعَهُ لِيَعْقُوبَ، فَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَضَعَ فِيهِ التَّوْرَاةَ وَمَتَاعًا مِنْ مَتَاعِهِ، ثُمَّ تَوَارَثَهَا أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى شَمْوِيلَ، فَكَانَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
وَقِيلَ: اتَّخَذَ مُوسَى التَّابُوتَ لِيَجْمَعَ فِيهِ رُضَاضَ الْأَلْوَاحِ.
وَالسَّكِينَةُ: هِيَ الطُّمَأْنِينَةُ وَلَمَّا كَانَتْ حَاصِلَةً بِإِتْيَانِ التَّابُوتِ، جُعِلَ التَّابُوتُ ظَرْفًا لَهَا، وَهَذَا مِنَ الْمَجَازِ الْحَسَنِ، وَهُوَ تشبيه المعاني بالإحرام، وَجَاءَ
فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطَةٌ، فَغَشِيَتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ».
وَفِي حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ كَانَتْ تَسْمَعُ لِذَلِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ تَرَاهَا الناس ما
(١) سورة محمد: ٤٧/ ٢١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٦. [.....]
581
تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ».
فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نُزُولِ السَّكِينَةِ مَرَّةً، وَمَرَّةً عَنْ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَدَلَّ حَدِيثُ أُسَيْدٍ عَلَى أَنَّ نُزُولَ السَّكِينَةِ فِي حَدِيثِ عمران هو على مُضَافٍ، أَيْ: تِلْكَ أَصْحَابُ السَّكِينَةِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ فِي حَدِيثِ أُسَيْدٍ، وَجُعِلُوا ذَوِي السَّكِينَةِ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ فِي غَايَةِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَطَوَاعِيَتَهُمْ دَائِمَةٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَقَدْ جَاءَ
فِي (الصَّحِيحِ) :«مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ. وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
فَنُزُولُ السَّكِينَةِ عَلَيْهِمْ كِنَايَةٌ عَنِ الْتِبَاسِهِمْ بِطُمَأْنِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاسْتِقْرَارِ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ مَنْ تَلَا كِتَابَ اللَّهِ وَتَدَارَسَهُ يَحْصُلُ لَهُ بِالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهِ. وَالتَّفَكُّرِ فِي أَسَالِيبِهِ، مَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ، وَتَسْتَقِرُّ لَهُ نَفْسُهُ، وَكَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ التِّلَاوَةِ لَهُ وَالدِّرَاسَةِ خَالِيًا مِنْ ذَلِكَ، فَحِينَ تَلَا نَزَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَ قَتَادَةُ السَّكِينَةُ هُنَا الْوَقَارُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْآيَاتِ فَيَسْكُنُونَ إِلَيْهَا، وَقَالَ نَحْوَهُ الزَّجَّاجُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّابُوتُ صُنْدُوقُ التَّوْرَاةِ، كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَاتَلَ قَدَّمَهُ فَكَانَتْ تَسْكُنُ نُفُوسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا يَفِرُّونَ، وَالسَّكِينَةُ: السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَذُكِرَ
عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ السَّكِينَةَ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ رِيحٌ هَفَّافَةٌ
، وَقِيلَ: السَّكِينَةُ صُورَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ أَوْ يَاقُوتٍ، لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْهِرِّ، وَذَنَبٌ كَذَنَبِهِ، وَجَنَاحَانِ، فَتَئِنُّ فَيَزُفُّ التَّابُوتُ نَحْوَ الْعَدُوِّ، وَهُمْ يَمْضُونَ معه، فإذا استقر ثبتوا وَسَكَنُوا، وَنَزَلَ النَّصْرُ. وَقِيلَ: بالسكينة بِشَارَاتٌ مِنْ كُتِبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ طَالُوتَ وَجُنُودَهُ، وَيُقَالُ: جَعَلَ تَعَالَى سَكِينَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّابُوتِ الَّذِي فِيهِ رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ، وَالْعَصَا، وَآثَارُ أَصْحَابِ نُبُوَّتِهِمْ، وَجَعَلَ تَعَالَى سَكِينَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَفَرَّقَ بَيْنَ مَقَرٍّ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي، قَدْ فَرَّ مَرَّةً، وَغُلِبَ عَلَيْهِ مَرَّةً، وَبَيْنَ مقربين أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ.
وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّاكِ: سَكِّينَةٌ، بِتَشْدِيدِ الْكَافِ وَارْتِفَاعُ سَكِينَةٌ، بِقَوْلِهِ: فِيهِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَائِنًا فِيهِ سَكِينَةٌ. وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ: كَائِنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أَوْ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ: فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ سَكِينَاتِ رَبِّكُمْ.
وَالْبَقِيَّةُ قِيلَ: رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ الَّتِي تَكَسَّرَتْ حِينَ أَلْقَاهَا مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ
582
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: عَصَا مُوسَى قَالَهُ وَهْبٌ وَقِيلَ: عَصَا مُوسَى وَهَارُونَ وَثِيَابُهُمَا وَلَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْمَنِّ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. وَقِيلَ: الْعِلْمُ وَالتَّوْرَاةُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ وَقِيلَ: رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَطَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ وَعَصَا مُوسَى وَعِمَامَتُهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: قَفِيزٌ مِنْ مَنٍّ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ حَكَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقِيلَ: الْعَصَا وَالنَّعْلَانِ، حَكَاهُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، وَقِيلَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِذَلِكَ أُمِرُوا، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: لَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وثياب موسى وهارون وَعَصَوَاهُمَا، وَكَلِمَةُ اللَّهِ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَكِيمُ الْكَرِيمُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ السموات السَّبْعِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقِيلَ: عَصَا مُوسَى وَأُمُورٌ مِنَ التَّوْرَاةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَ مَا ذُكِرَ فِي التَّابُوتِ، فَأَخْبَرَ كُلُّ قَائِلٍ عَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ، وَانْحَصَرَ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا فِي التَّابُوتِ مِنَ الْبَقِيَّةِ.
مِمَّا تَرَكَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لبقية، وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ.
وَ: آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ هُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَيْهِمَا مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ شَرِيعَةٍ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ آلَ موسى وآل هارون هم الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَهُمَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ فُقِدَ. وَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ فَقْدِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِمَّا تَرَكَهُ موسى وهارون، والآل مقحم لتفخيم شأنهما.
انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: آلُ هَنَا زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مِمَّا ترك موسى وهارون، وَمِنْهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى، يُرِيدُ نَفْسَهُ، وَلَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ، أَيْ: مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ وَمِنْهُ قَوْلُ جَمِيلٍ:
بُثَيْنَةُ مِنْ آلِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا يَكُنَّ لِأَدْنَى، لَا وِصَالَ لِغَائِبِ
أَيْ: مِنَ النِّسَاءِ. انْتَهَى. وَدَعْوَى الْإِقْحَامِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَسْمَاءِ لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ نَحْوِيٌّ مُحَقِّقٌ، وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَالْآلُ مُقْحُمٌ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِمَا إِنْ عَنَى بِالْإِقْحَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ كَلَامِهِ فِي قَوْلِهِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مما تركه موسى وهارون، فَلَا أَدْرِي كَيْفَ يُفِيدُ زِيَادَةُ آلُ تَفْخِيمَ شَأْنِ موسى وهارون؟ وَإِنْ عَنَى بِالْآلِ الشَّخْصَ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى شَخْصِ الرَّجُلِ آلِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مما ترك موسى وهارون أَنْفُسُهُمَا، فَنَسَبَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَضَمَّنَهَا التَّابُوتُ إِلَى أَنَّهَا مِنْ بَقَايَا موسى وهارون شَخْصَيْهِمَا، أَيْ أَنْفُسِهِمَا لَا مِنْ بَقَايَا غَيْرِهِمَا، فَجَرَى آلُ هَنَا مَجْرَى التَّوْكِيدِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ: أَنَّ الْمَتْرُوكَ مِنْ ذَلِكَ الْخَيْرِ هُوَ مَنْسُوبٌ لِذَاتِ مُوسَى
583
وهارون، فيكونه في التنصيص عليهما ذاتهما تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ مُقْحَمًا لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: مما ترك موسى وهارون لَاكْتَفَى، وَكَانَ ظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا أَنْفُسَهُمَا، تَرَكَا ذَلِكَ وَوُرِثَ عَنْهُمَا.
تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: يَحْمِلُهُ، بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلَ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى التَّابُوتِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ التَّابُوتِ، أَيْ حَامِلًا لَهُ الْمَلَائِكَةُ، وَيُحْتَمَلُ الِاسْتِئْنَافُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَنْ يَأْتِي بِهِ وَقَدْ فُقِدَ؟ فَقَالَ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ اسْتِعْظَامًا لِشَأْنِ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُبَاشِرُ إِتْيَانَهُ إِلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَكُونُونَ مُعَدِّينَ لِلْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَلَهُمُ الْقُوَّةُ وَالتَّمْكِينُ وَالِاطِّلَاعُ بِإِقْدَارِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى تَلَقِّيهِمُ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ وَتَنْزِيلِهِمْ بِهَا عَلَى مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، وَقَلْبِهِمْ مَدَائِنَ الْعُصَاةِ، وقبض الأرواح، وإزجاء السَّحَابِ، وَحَمْلِ الْعَرْشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ، وَالْمَعْنَى: تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِلَيْكُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ.
قَالَ وَهْبٌ: قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: انْعَتْ وَقْتًا تَأْتِينَا بِهِ! فَقَالَ: الصُّبْحُ، فَلَمْ يَنَامُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى سَمِعُوا حَفِيفَ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ التَّابُوتُ فِي التِّيهِ خَلَّفَهُ مُوسَى عِنْدَ يُوشَعَ، فَبَقِيَ هُنَاكَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَحَمَلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي دَارِ طَالُوتَ، فَأَقَرُّوا بِمُلْكِهِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: غَيْرَ رَاضِينَ، وَقِيلَ: سَبَى التَّابُوتَ أَهْلُ الْأُرْدُنِّ، قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى فِلَسْطِينَ، وَجَعَلُوهُ فِي بَيْتِ صَنَمٍ لَهُمْ تَحْتَ الصَّنَمِ، فَأَصْبَحَ الصَّنَمُ تَحْتَ التَّابُوتِ، فَسَمَّرُوا قَدَمَيِ الصَّنَمِ عَلَى التَّابُوتِ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مُلْقًى تَحْتَ التَّابُوتِ، وَأَصْنَامُهُمْ مُنَكَّسَةٌ، فَوَضَعُوهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ مَدِينَتِهِمْ فَأَخَذَ أَهْلُهَا وَجَعٌ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ، فَدَفَنُوهُ بِالصَّحْرَاءِ فِي مُتَبَرَّزٍ لَهُمْ، فَكَانَ مَنْ تَبَرَّزَ هُنَاكَ أَخَذَهُ النَّاسُورُ وَالْقُولَنْجُ، فَتَحَيَّرُوا، وَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: ما تزالون تَرَوْنَ مَا تَكْرَهُونَ مَا دَامَ هَذَا التَّابُوتُ فِيكُمْ! فَأَخْرِجُوهُ عَنْكُمْ! فَحَمَلُوا التَّابُوتَ عَلَى عَجَلَةٍ، وَعَلَّقُوا بِهَا ثَوْرَيْنِ أَوْ بَقَرَتَيْنِ، وَضَرَبُوا جَنُوبَهُمَا، فَوَكَّلَ اللَّهُ أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا، فَمَا مَرَّ التَّابُوتُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا كَانَ مُقَدَّسًا، إِلَى أَرْضِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وُضِعَ التَّابُوتُ فِي أَرْضٍ فِيهَا حَصَادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَجَعَا إِلَى أَرْضِهِمَا، فَلَمْ يَرْعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا التَّابُوتُ، فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ عَلَى تَمْلِيكِ طَالُوتَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ.
584
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ التَّابُوتَ وَالْعَصَا فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ يَخْرُجَانِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ:
عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى التَّابُوتِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْإِتْيَانِ أَيْ: إِتْيَانِ التَّابُوتِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ لِيُنَاسِبَ أَوَّلُ الْآيَةِ آخِرَهَا، لِأَنَّ أَوَّلَهَا إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وَالْمَعْنَى لَآيَةً لَكُمْ عَلَى مُلْكِهِ وَاخْتِيَارِهِ لَكُمْ، وَقِيلَ:
عَلَامَةً لَكُمْ عَلَى نَصْرِكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِالتَّابُوتِ أَيْنَمَا تَوَجَّهُوا، فينصرون.
و: إن، قِيلَ عَلَى حَالِهَا مِنْ وَضْعِهَا لِلشَّرْطِ. أَيْ: ذَلِكَ آيَةً لَكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ إِيمَانِكُمْ لِأَنَّهُمْ قِيلَ: صَارُوا كَفَرَةً بِإِنْكَارِهِمْ عَلَى نَبِيِّهِمْ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِكُمْ وَهِمَمِكُمُ الْإِيمَانُ بِمَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ، وَقِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا.
وَقِيلَ: مُصَدِّقِينَ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. وَقِيلَ: إِنَّ، بِمَعْنَى: إِذْ، وَلَمْ يَسْأَلُوا تَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا تَعَرُّفًا لِوَجْهِ الْحِكْمَةِ، وَالسُّؤَالُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ لَا يَكُونُ إِنْكَارًا كُلِّيًّا.
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالْجُمْلَةِ قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
فَجَاءَهُمُ التَّابُوتُ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالْمُلْكِ، وَتَأَهَّبُوا لِلْخُرُوجِ، فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ، أَيِ: انْفَصَلَ مِنْ مَكَانِ إِقَامَتِهِ، يُقَالُ: فَصَلَ عَنِ الْمَوْضِعِ انْفَصَلَ، وَجَاوَزَهُ. قِيلَ: وَأَصْلُهُ فَصَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ كَثُرَ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ حَتَّى صَارَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي: كَانْفَصَلَ، وَالْبَاءُ فِي، بِالْجُنُودِ، لِلْحَالِ، أَيْ: وَالْجُنُودُ مُصَاحِبُوهُ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ ثَمَانِينَ أَلْفًا قَالَهُ عِكْرِمَةُ. أَوْ مِائَةَ أَلْفٍ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَوْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا.
قَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا رَأَى بَنُو إِسْرَائِيلَ التَّابُوتَ سَارَعُوا إِلَى طَاعَتِهِ وَالْخُرُوجِ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ طَالُوتُ: لَا يَخْرُجُ مَعِي مَنْ بَنَى بِنَاءً لَمْ يَفْرَغْ مِنْهُ، وَلَا مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَا صَاحِبُ زَرْعٍ لَمْ يَحْصُدْهُ، وَلَا صَاحِبُ تِجَارَةٍ لَمْ يَرْحَلْ بِهَا، وَلَا مَنْ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا كَبِيرٌ، وَلَا عَلِيلٌ. فَخَرَجَ مَعَهُ مَنْ تَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِي عَدَدِهِمْ عَلَى شَرْطِهِ، فَسَارَ بِهِمْ، فَشَكَوْا قِلَّةَ الْمَاءِ وَخَوْفَ الْعَطَشِ، وَكَانَ الْوَقْتُ قَيْظًا، وَسَلَكُوا مَفَازَةً، فَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَ لَهُمْ نَهَرًا.
قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ قَالَ وَهْبٌ: هُوَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ:
هُوَ نَهَرٌ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ. وَقِيلَ: نَهَرُ فِلَسْطِينَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْضًا.
585
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَهَرٍ، بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ، وَأَبُو السَّمَّاكِ، وَغَيْرُهُمْ: بِإِسْكَانِ الْهَاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِ طَالُوتَ: إِنَّ اللَّهَ يُوحِي، إِمَالَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ، أَوْ يُوحِي إِلَى نَبِيِّهِمْ، وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ طَالُوتَ بِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يكون هَذَا مِمَّا أَلْهَمَ اللَّهُ طَالُوتَ إِلَيْهِ، فَجَرَتْ بِهِ جُنْدُهُ، وَجُعِلَ الْإِلْهَامُ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، وَمَعْنَى هَذَا الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُهُمْ، فَمَنْ ظَهَرَتْ طَاعَتُهُ فِي تَرْكِ الْمَاءِ عَلِمَ أَنَّهُ يُطِيعُ، فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَمَنْ غَلَبَتْهُ شَهْوَتُهُ فِي الْمَاءِ، وَعَصَى الْأَمْرَ فَهُوَ بِالْعِصْيَانِ فِي الشَّدَائِدِ أَحْرَى. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَبَعْدَ أَنْ يُخْبِرَ طَالُوتُ عَنْ مَا خَطَرَ بِبَالِهِ بِأَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ، عَلَى طَرِيقِ الْجَزْمِ عَنِ اللَّهِ.
فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ: لَيْسَ مِنْ أَتْبَاعِي فِي هَذِهِ الْحَرْبِ، وَلَا أَشْيَاعِي، وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْإِيمَانِ نَحْوَ:
«مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»
، «لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ وَلَطَمَ الْخُدُودَ»
، أَوْ: لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِي وَمُتَّحِدٍ مَعِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: فلان مني كأنه بَعْضُهُ، لِاخْتِلَاطِهِمَا وَاتِّحَادِهِمَا قَالَ النَّابِغَةِ:
إِذَا حَاوَلَتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أَيْ: مَنْ لَمْ يَذُقْهُ، وَطَعْمُ كُلِّ شَيْءٍ ذَوْقُهُ، وَمِنْهُ التَّطَعُّمُ، يُقَالُ: تَطَعَّمْتُ مِنْهُ أَيْ: ذُقْتُهُ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ لَا تَمِيلُ نَفْسُهُ إِلَى مَأْكُولٍ، تُطْعَمُ مِنْهُ يَسْهُلُ أَكْلُهُ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَطْعَمْتُكَ الْمَاءَ تُرِيدُ أَذَقْتُكَ، وَطَعَمْتُ الْمَاءَ أَطْعَمُهُ بِمَعْنَى ذُقْتُهُ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ عَلَيْكُمْ وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أُطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا
النُّقَاخُ: الْعَذْبُ، وَالْبَرْدُ: النَّوْمُ، وَيُقَالُ: مَا ذُقْتُ غِمَاضًا.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. «فِي مَاءِ زَمْزَمَ. طَعَامُ طُعْمٍ»
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرَ وَالْمَاءَ»
. وَالطَّعْمُ يَقَعُ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَاخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ، لِأَنَّ نَفْيَ الطَّعْمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الشُّرْبِ، وَنَفْيَ الشُّرْبِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الطَّعْمِ، لِأَنَّ الطَّعْمَ يَنْطَلِقُ عَلَى الذَّوْقِ، وَالْمَنْعُ مِنَ الطَّعْمِ أَشُقُّ فِي التَّكْلِيفِ مِنَ الْمَنْعِ مِنَ الشُّرْبِ، إِذْ يَحْصُلُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْفَمِ، وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْهُ، نَوْعُ رَاحَةٍ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ طَعَامٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
586
وَاخْتُلِفَ فِي جَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَجَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ ذَلِكَ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَرَيَانُ الرِّبَا فِيهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هُوَ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ التَّفَاضُلُ.
وَكَأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الشُّرْبِ مِنَ النَّهَرِ، حَتَّى لَوْ أُخِذَ بِالْكُوزِ وَشُرْبُهُ، لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مَنْ شَرِبَ مِنْهُ، إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الشُّرْبَ مِنَ النَّهَرِ، وَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ إِنْ قَالَ إِنْ شَرِبْتُ مِنَ الْقِرْبَةِ فَعَبْدِي حُرٌّ، يُحْمَلُ عَلَى الْكُرُوعِ، وَإِنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ، أَوْ شَرِبَ بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ. قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَظَرَ الشُّرْبَ مِنَ النَّهَرِ، وَحَظَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُطْعَمَ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الطَّعْمِ مِنْهُ الِاغْتِرَافَ، فَحَظْرُ الشُّرْبِ بَاقٍ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاغْتِرَافَ لَيْسَ بِشُرْبٍ، وَأَتَى بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ مُعَدًّى لِضَمِيرِ الْمَاءِ، لَا إِلَى النَّهَرِ، لِيُزِيلَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ، وَلِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ وُصُولِهِمْ إِلَى الْمَاءِ مِنَ النَّهَرِ، بِمُبَاشَرَةِ الشُّرْبِ مِنْهُ، أَوْ بِوَاسِطَةٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي سَدُّ الذَّرَائِعِ، لِأَنَّ أَدْنَى الذَّوْقِ يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الطَّعْمِ، فَإِذَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنِ الطَّعْمِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى وُقُوعِ الشُّرْبِ مِمَّنْ يَتَجَنَّبُ الطَّعْمَ، وَلِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ، لَمْ يَأْتِ الْكَلَامُ: وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ دُونَ الْكُرُوعِ فَهُوَ مِنِّي، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِذَا اعْتَقَبَ جُمْلَتَيْنِ، أَوْ جُمَلًا، يُمْكِنُ عَوْدُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَخِيرَةِ، وَهَذَا عَلَى خِلَافٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِبَعْضِ الْجُمَلِ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، وَهُنَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ تَدَلُّ عَلَيْهَا الْأُولَى بِالْمَفْهُومِ، لِأَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِيهِمْ بِنَهَرٍ، وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنْهُ، فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ الثانية كلّا فصل بَيْنَ الْأُولَى وَالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهَا إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأُولَى، حَتَّى إِنَّهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُصَرَّحًا بِهَا لَفُهِمَتْ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ التَّصَانِيفِ مَا نَصُّهُ:
إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ. اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْأُولَى، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الثَّانِيَةِ. انْتَهَى. وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى أَنَّ: مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، فَيَلْزَمُ فِي
587
الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِيَدِهِ غُرْفَةً فَلَيْسَ مِنْهُ، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَفْسُوحٌ لَهُمُ الِاغْتِرَافُ غُرْفَةً بِالْيَدِ دُونَ الْكُرُوعِ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأُولَى، لِأَنَّهُ حَكَمَ فِيهَا أَنَّ: مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنْهُ، فَيَلْزَمُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ: مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، إِذْ هُوَ مَفْسُوحٌ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا، وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا، عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبَهَا، أَوْ لِلشُّرْبِ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عُمَرَ، و: غَرْفَةً، بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى الْمَغْرُوفِ، وَقِيلَ: الْغَرْفَةُ بِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ، وَبِالضَّمِّ مَا تَحْمِلُهُ الْيَدُ، فَإِذَا كَانَ مَصْدَرًا فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ، إِذْ لَوْ جَاءَ عَلَى الصَّدْرِ لَقَالَ: اغْتِرَافَةً، وَيَكُونُ مَفْعُولُ اغْتَرَفَ مَحْذُوفًا، أَيْ: مَاءً، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَغْرُوفِ كَانَ مَفْعُولًا بِهِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ يُرَجِّحُ ضَمَّ الْغَيْنِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا: أَنَّ غَرْفَةً بِالْفَتْحِ إِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ اغْتِرَافٍ. انْتَهَى.
وَهَذَا التَّرْجِيحُ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ وَالنَّحْوِيُّونَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ لَا يَنْبَغِي، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ وَمَرْوِيَّةٌ ثَابِتَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ حَسَنٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا تَرْجِيحُ قِرَاءَةٍ عَلَى قِرَاءَةٍ.
وَيَتَعَلَّقُ: بِيَدِهِ، بِقَوْلِهِ: اغتراف. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِغُرْفَةٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْمَحْذُوفِ. وَظَاهِرُ: غُرْفَةً بِيَدِهِ، الِاقْتِصَارُ عَلَى غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهَا تَكُونُ بِالْيَدِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: كَانَتِ الْغُرْفَةُ يَشْرَبُ مِنْهَا هُوَ وَدَوَابُّهُ وَخَدَمُهُ وَيَحْمِلُ مِنْهَا، قَالَ مُقَاتِلٌ:
وَيَمْلَأُ مِنْهَا قِرْبَتَهُ، قِيلَ: فَيَجْعَلُ اللَّهُ فِيهَا الْبَرَكَةَ حَتَّى تَكْفِيَ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ، وَكَانَ هَذَا مُعْجِزَةً لِنَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَمْ يُرِدْ غُرْفَةَ الْكَفِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ بِقِرْبَةٍ أَوْ جَرَّةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهَذَا الِابْتِلَاءُ الَّذِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ جُنُودَ طَالُوتَ ابْتِلَاءٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ مُنِعُوا مِنَ الْمَاءِ مَعَ وُجُودِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي شِدَّةِ الحر واليقظة، وَأَنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ مِقْدَارُ مَا يَغْرِفُ بِيَدِهِ، فَأَيْنَ يَصِلُ مِنْهُ ذَلِكَ؟ وَهَذَا أَشَدُّ فِي التَّكْلِيفِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ أَهْلُ أَيْلَةَ مِنْ تَرْكِ الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ، مَعَ إِمْكَانِ ذَلِكَ فِيهِ، وَكَثْرَةِ مَا يَرِدُ إِلَيْهِمْ فِيهِ مِنَ الْحِيتَانِ.
فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ أَيْ: كَرَعُوا فِيهِ، ظَاهِرُهُ أَنَّ الْأَكْثَرَ شَرِبُوا، وَأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْرَبُوا، وَيُحْمَلُ الشُّرْبُ الَّذِي وَقَعَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ الشُّرْبُ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ،
588
وَوَقَعَ بِهِ الْمُخَالَفَةُ، وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْرَبُوا ذَلِكَ الشرب الذي لم يؤذن فِيهِ، فَبَقِيَ تَحْتَ الْقَلِيلِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: لَمْ يَطْعَمْهُ البتة والثانية: الذين: اغْتَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ الْأَكْثَرَ شَرِبُوا عَلَى قَدْرِ يَقِينِهِمْ، فَشَرِبَ الْكُفَّارُ شُرْبَ الْهِيمِ، وَشَرِبَ الْعَاصُونَ دُونَ ذَلِكَ، وَانْصَرَفَ مِنَ الْقَوْمِ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَبَقِيَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَشْرَبْ شَيْئًا، وَأَخَذَ بَعْضُهُمُ الْغُرْفَةَ. فَأَمَّا مَنْ شَرِبَ فَلَمْ يُرْوَ، بَلْ بَرِحَ بِهِ الْعَطَشُ، وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الْمَاءَ فَحَسُنَتْ حَالُهُ، وَكَانَ أَجْدَرَ مِمَّنْ أَخَذَ الْغُرْفَةَ. وَقِيلُ:
الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ، فَلَمْ يُرْوَوْا، وَبَقُوا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ، وَجَبُنُوا عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَلَمْ يُجَاوِزُوا وَلَمْ يَشْهَدُوا الْفَتْحَ. وَقِيلَ: بَلْ كُلُّهُمْ جَاوَزَ لَكِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْقِتَالَ إِلَّا الْقَلِيلُ الَّذِينَ لَمْ يَشْرَبُوا. وَالْقَلِيلُ الْمُسْتَثْنَى أَرْبَعَةُ آلَافٍ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأُبَيٌّ وَالْأَعْمَشُ: إِلَّا قَلِيلٌ، بِالرَّفْعِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا مِنْ مَيْلِهِمْ مَعَ الْمَعْنَى، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّفْظِ جَانِبًا، وَهُوَ بَابٌ جَلِيلٌ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى: فَشَرِبُوا مِنْهُ، فِي مَعْنَى: فَلَمْ يُطِيعُوهُ، حُمِلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يُطِيعُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ. وَنَحْوَهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
(وَعَضُّ زَمَانٌ يَا بْنَ مَرَوَانَ) لَمْ يَدَعْ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ
كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتٌ، أَوْ مُجَلَّفٌ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمُوجَبَ الَّذِي هُوَ: فَشَرِبُوا مِنْهُ، هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْفِيِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
فَلَمْ يُطِيعُوهُ، فَارْتَفَعَ: قَلِيلٌ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ لَمْ يُلْحَظْ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ لَمْ يَكُنْ لِيَرْتَفِعَ مَا بَعْدَ: إِلَّا، فَيَظْهَرُ أَنَّ ارْتِفَاعَهُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَالْمُوجَبُ فِيهِ كَالْمَنْفِيِّ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ ارْتَفَعَ مَا بَعْدَ: إِلَّا، عَلَى التَّأْوِيلِ هُنَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظِ الِاتِّبَاعَ بَعْدَ الْمُوجَبِ، فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَهُ.
وَنَقُولُ: إِذَا تَقَدَّمَ مُوجَبٌ جَازَ فِي الَّذِي بَعْدَ: إِلَّا، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ الْأَفْصَحُ: وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ: إِلَّا، تَابِعًا لِإِعْرَابِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إِنْ رَفْعًا فَرَفْعٌ، أَوْ نَصْبًا فَنَصْبٌ، أَوْ جَرًّا فَجَرٌّ، فَتَقُولُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ، وَرَأَيْتُ الْقَوْمَ إِلَّا زَيْدًا، وَمَرَرْتُ بِالْقَوْمِ إِلَّا زَيْدٍ: وَسَوَاءٌ كَانَ مَا قَبْلَ: إِلَّا، مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا. وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِهِ، فَقِيلَ: هُوَ تَابِعٌ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَا قَبْلَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ.
589
وَقَالَ: يُنْعَتُ بِمَا بَعْدَ: إِلَّا، الظَّاهِرُ وَالْمُضْمَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُنْعَتُ بِهِ إِلَّا النَّكِرَةُ أَوِ الْمَعْرِفَةُ بِلَامِ الْجِنْسِ، فَإِنْ كَانَ مَعْرِفَةً بِالْإِضَافَةِ نَحْوَ: قَامَ إِخْوَتُكَ، أَوْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ لِلْعَهْدِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّعَارِيفِ غَيْرَ لَامِ الْجِنْسِ، فَلَا يَجُوزُ الِاتِّبَاعُ، وَيَلْزَمُ النَّصْبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّحْوِيِّينَ يَعْنُونَ بِالنَّعْتِ هُنَا عَطْفَ الْبَيَانِ، وَمِنَ الِاتِّبَاعِ بَعْدَ الْمُوجَبِ قَوْلُهُ:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الزَّمَخْشَرِيِّ هَذَا الْمُوجَبَ بِمَعْنَى النَّفْيِ لَا نَضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ ذَاكِرٍ لِمَا قَرَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ فِي الْمُوجَبِ.
فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَا جاوز النَّهَرَ إِلَّا هُوَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا انْحَرَفُوا، وَلَمْ يُجَاوِزُوا، وَقِيلَ: بَلْ كُلُّهُمْ جَاوَزَ لَكِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْقِتَالَ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَجَاوَزَ: فَاعِلٌ فِيهِ بِمَعْنَى فَعَلَ، أَيْ جَازَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ: جَازَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْهُمْ مَنْ شَرِبَ، قَالَا: فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى جَالُوتَ وَجُنُودِهِ، قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ، وَرَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةٍ وَبِضْعَةٌ وَثَمَانُونَ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَاوَزَ النَّهَرَ مَنْ لَمْ يَشْرَبْ إِلَّا غُرْفَةً. وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ جُمْلَةً. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ بَصَائِرُ هَؤُلَاءِ، فَبَعْضٌ كَعَّ، وَقَلِيلٌ صَمَّمَ، وَ: هُوَ، تَوْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَسْتَكِنِّ فِي جاوزه، وَ: الَّذِينَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْحَالِ أَنْ يَكُونُوا جَاوَزُوا مَعَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَطْفِ وَإِدْغَامُ جَاوَزَهُ فِي هُوَ ضَعِيفٌ، وَلَا يُسْتَحْسَنُ، إِلَّا إِنْ كَانَتِ الْهَاءُ مُخْتَلَسَةٌ لَا إِمَالَةَ لَهَا.
قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قَائِلُ ذَلِكَ الْكَفَرَةُ الذين انخذلوا، وَهُوَ الْفَاعِلُ فِي شَرِبُوا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: مَنْ قَلَّتْ بَصِيرَتُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ جَاوَزُوا النَّهَرَ وَهُمُ الْقَلِيلُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالزَّجَّاجُ.
طَاقَةَ: مِنَ الطَّوْقِ، وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَهُوَ مِنْ: أَطَاقَ، كَأَطَاعَ طَاعَةً، وَأَجَابَ جَابَةً، وَأَغَارَ غَارَةً. وَيَتَعَلَّقُ: لَنَا، بِمَحْذُوفٍ إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ: بِطَاقَةٍ، لِأَنَّهُ
590
كَانَ يَكُونُ طَاقَةً مُطَوَّلًا، فيلزم تنوين، واليوم مَنْصُوبٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لنا وبجالوت: مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ: بِجَالُوتَ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ.
قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ، وَمَعْنَى:
مَلَاقُو اللَّهِ، أَيْ يُسْتَشْهَدُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِعَزْمِهِمْ عَلَى صِدْقِ الْقِتَالِ، وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى لِقَاءِ أَعْدَائِهِمْ، كَمَا جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حِزَامٍ فِي أُحُدٍ، وَغَيْرِهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ فِي آخَرِينَ. وَقِيلَ:
مُلَاقُو ثَوَابِ اللَّهِ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ. لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَعْلَمُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ظَانًّا، وَقِيلَ: مُلَاقُو طَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَنَّ عَمَلَهُ هذا طاعة، لِأَنَّهُ رُبَّمَا شَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَقِيلَ: مَلَاقُو وَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ فَهُوَ مَظْنُونٌ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ بِمَعْنَى الْإِيقَانِ: أَيْ: يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ قَالَهُ السُّدِّيُّ فِي آخَرِينَ.
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ. هَذَا الْقَوْلُ تَحْرِيضٌ مِنَ الْعَازِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ وَحَضٌّ عَلَيْهِ، وَاسْتِشْعَارٌ لِلصَّبْرِ وَاقْتِدَاءٌ بِمَنْ صَدَّقَ اللَّهَ. وَالْمَعْنَى: أنا لا نكترث بجالوت وَجُنُودِهِ وَإِنْ كَثُرُوا، فَإِنَّ الْكَثْرَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلِانْتِصَارِ، فَكَثِيرًا مَا انْتَصَرَ الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ وَلَمَّا كَانَ قَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ. وَعَلِمُوا بِذَلِكَ، أُخْبِرُوا بِصِيغَةِ: كَمْ، الْمُقْتَضِيَةُ للتكثر. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَكَأَيِّنْ، وَهِيَ مُرَادِفَةٌ: لَكُمْ، فِي التَّكْثِيرِ، وَلَمْ يَأْتِ تَمْيِيزُهَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مَصْحُوبًا بِمِنْ، وَلَوْ حُذِفَتْ: مِنْ، لَانْجَرَّ تَمْيِيزُ: كَمِ، الْخَبَرِيَّةِ بِالْإِضَافَةِ، وَقِيلَ بِإِضْمَارِ: مِنْ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ حَمْلًا عَلَى: كَمِ، الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَانْتَصَبَ تَمْيِيزُ: كَأَيِّنْ، فَتَقُولُ كَأَيِّنْ رَجُلًا جَاءَكَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَطْرُدُ الْيَأْسَ بِالرَّجَا فَكَأَيِّنْ أَمَلًا حُمَّ يُسْرَهُ بَعْدَ عُسْرِ
وَ: كَمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَ: مِنْ فِئَةٍ، قِيلَ زَائِدَةٌ، وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَتِهَا، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لكم، وَ: فِئَةٍ، هُنَا مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَثِيرٌ مِنْ فِئَاتٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ. وَقَرَأَ الْأَعْشَى فِيهِ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، نَحْوَ: مِيرَةٍ فِي: مِئْرَةٍ، وَهُوَ إِبْدَالٌ نَفِيسٌ، وَخَبَرُ: كَمْ، قَوْلُهُ: غَلَبَتْ، وَمَعْنَى: بِإِذْنِ اللَّهِ، بِتَمْكِينِهِ وَتَسْوِيفِهِ الْغَلَبَةَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قِتَالِ الْجَمْعِ الْقَلِيلِ لِلْجَمْعِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ كَانُوا أَضْعَافَ أَضْعَافِهِمْ، إِذَا عَلِمُوا أَنَّ فِي ذَلِكَ نِكَايَةً لَهُمْ، وَأَمَّا جَوَازُ الْفِرَارِ مِنَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ إِذَا زَادُوا عَنْ ضِعْفِهِمْ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
591
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، تَحْرِيضٌ عَلَى الصَّبْرِ فِي الْقِتَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ مَنْ صَبَرَ لِنُصْرَةِ دِينِهِ، يَنْصُرُهُ وَيُعِينُهُ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا مِنَ اللَّهِ، قَالَهُ الْقَفَّالُ.
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ صَارُوا بِالْبَرَازِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ وَاسْتَوَى، وَالْمُبَارَزَةُ فِي الْحَرْبِ أَنْ يَظْهَرَ كُلُّ قَرْنٍ لِصَاحِبِهِ بِحَيْثُ يَرَاهُ قَرْنُهُ، وَكَانَ جُنُودُ طَالُوتَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، وَقِيلَ: مِائَةَ أَلْفٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تِسْعِينَ أَلْفًا.
قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً الصَّبْرُ: هُنَا حَبْسُ النَّفْسِ لِلْقِتَالِ، فَزِعُوا إِلَى الدُّعَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَنَادَوْا بِلَفْظِ الرَّبِّ الدَّالِّ عَلَى الْإِصْلَاحِ وَعَلَى الْمُلْكِ، فَفِي ذَلِكَ إِشْعَارٌ بِالْعُبُودِيَّةِ.
وَقَوْلُهُمْ: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا سُؤَالٌ بِأَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ، وَيَكُونَ لَهُمْ كَالظَّرْفِ وَهُمْ كَالْمَظْرُوفِينَ فِيهِ.
وَثَبِّتْ أَقْدامَنا فَلَا تَزَلُّ عَنْ مَدَاحِضِ الْقِتَالِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَشْجِيعِ قُلُوبِهِمْ وَتَقْوِيَتِهَا، وَلَمَّا سَأَلُوا مَا يَكُونُ مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّبْرِ سَأَلُوا تَثْبِيتَ أَقْدَامِهِمْ وَإِرْسَاخَهَا.
وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَيْ: أعنا عليهم، وجاؤا بِالْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِخُذْلَانِ أَعْدَائِهِمْ، وَهُوَ الْكُفْرُ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَفِي قَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، إِقْرَارٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَإِقْرَارٌ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ.
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: فَغَلَبُوهُمْ بِتَمْكِينِ اللَّهِ.
وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ طَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قِصَّةِ كَيْفِيَّةِ قَتْلِ دَاوُدَ لِجَالُوتَ، وَلَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ، وَقَدِ اخْتَصَرَ ذَلِكَ السَّجَاوَنْدِيُّ اخْتِصَارًا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ، فَقَالَ: كَانَ أَصْغَرَ بَنِيهِ، يَعْنِي بَنِي إِيشَا، وَالِدِ دَاوُدَ، الثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَكَانَ مُخَلَّفًا فِي الْغَنَمِ، وَأُوحِيَ إِلَى نَبِيِّهِمْ أَنَّ قَاتِلَ جَالُوتَ مَنِ اسْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ وَلَدِ إِيشَا دِرْعٌ عِنْدَ طَالُوتَ، فَلَمْ تَسْتَوِ إِلَّا عَلَى دَاوُدَ، وَقِيلَ: لَمَّا بَرَزَ جَالُوتُ نَادَى طَالُوتُ: مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ أُشَاطِرُهُ مُلْكِي وَأُزَوِّجُهُ بِنْتِي، فَبَرَزَ دَاوُدُ وَرَمَاهُ بِحَجَرٍ فِي قَذَّافَةٍ فَنَفَذَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ إِلَى قَفَاهُ وَأَصَابَ عَسْكَرَهُ، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ وَانْهَزَمُوا، ثُمَّ نَدِمَ طَالُوتُ مِنْ شَرْطِهِ بَعْدَ الْوَفَاءِ، وَهَمَّ بِقَتْلِ دَاوُدَ، وَمَاتَ تَائِبًا قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ وَهْبٌ: نَدِمَ قَبْلَ الْوَفَاءِ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَقِيلَ: أَصَابَ دَاوُدُ مَوْضِعَ أَنْفِ جَالُوتَ، وَقِيلَ: تَفَتَّتَ الْحَجَرُ حَتَّى أَصَابَ كُلَّ مَنْ فِي الْعَسْكَرِ شَيْءٌ مِنْهُ، كَالْقَبْضَةِ الَّتِي رَمَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ.
592
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ أَبُو دَاوُدَ فِي عَسْكَرِ طَالُوتَ مَعَ سِتَّةٍ مِنْ بَنِيهِ، وَكَانَ دَاوُدُ سَابِعَهُمْ وَهُوَ صَغِيرٌ يَرْعَى الْغَنَمَ، فَأُوحِي إِلَى شَمْوِيلَ أَنَّ دَاوُدَ بْنَ إِيشَا يَقْتُلُ جَالُوتَ، فَطَلَبَهُ مِنْ أَبِيهِ، فَجَاءَ وَقَدْ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ دَعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنْ يَحْمِلَهُ، وَقَالَتْ لَهُ: إِنَّكَ تَقْتُلُ بِنَا جَالُوتَ، فَحَمَلَهَا فِي مِخْلَاتِهِ، وَرَمَى بِهَا جَالُوتَ فَقَتَلَهُ، وَزَوَّجَهُ طَالُوتُ بِنْتَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ حَسَدَهُ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، ثُمَّ تَابَ. انْتَهَى. وَرُوِيَ: أَنَّ دَاوُدَ كَانَ مِنْ أَرْمَى النَّاسِ بِالْمِقْلَاعِ، وَرُوِيَ: أَنَّ الْأَحْجَارَ الْتَأَمَتْ فِي الْمِخْلَاةِ فَصَارَتْ حَجَرًا وَاحِدًا.
وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ رُوِيَ أَنَّ طَالُوتَ تَخَلَّى لدَاوُدَ عَنِ الْمُلْكِ، فَصَارَ الْمَلِكَ.
وَرُوِيَ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَلَبَتْ طَالُوتَ عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ قَتْلِ دَاوُدَ جَالُوتَ،
وَرُوِيَ أَنَّ طَالُوتَ أَخَافَ دَاوُدَ فَهَرَبَ مِنْهُ، فَكَانَ فِي جَبَلٍ إِلَى أَنْ مَاتَ طَالُوتُ، فَمَلَّكَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ
، قَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْكَلْبِيُّ: مُلِّكَ دَاوُدُ بَعْدَ قَتْلِ جَالُوتَ سَبْعَ سِنِينَ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى مَلِكٍ وَاحِدٍ إِلَّا عَلَى دَاوُدَ.
وَاخْتُلِفَ أَكَانَ دَاوُدُ نَبِيًّا عِنْدَ قَتْلِ جَالُوتَ أَمْ لَا؟ فَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا، لِأَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ عَلَى نَبِيٍّ، وَالْحِكْمَةُ وَضْعُ الْأُمُورِ مَوَاضِعَهَا عَلَى الصَّوَابِ، وَكَمَالُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالنُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ قَبْلَهُ، كَانَ الْمُلْكُ فِي سِبْطٍ وَالنُّبُوَّةُ فِي سِبْطٍ، فَلَمَّا مَاتَ شَمْوِيلُ وَطَالُوتُ اجْتَمَعَ لِدَاوُدَ الْمُلْكُ وَالنُّبُوةُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْحِكْمَةَ الزَّبُورُ، وَقِيلَ: الْعَدْلُ فِي السِّيرَةِ؟ وَقِيلَ: الْحِكْمَةَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ سِلْسِلَةٌ كَانَتْ مُتَدَلِّيَةً مِنَ السَّمَاءِ لَا يَمْسِكُهَا ذُو عاهة إلّا برىء، يُتَحَاكَمُ إِلَيْهَا، فَمَنْ كَانَ مُحِقًّا تَمَكَّنَ مِنْهَا حَتَّى إِنَّ رَجُلًا كَانَتْ عِنْدَهُ دُرَّةٌ لِرَجُلٍ، فَجَعَلَهَا فِي عُكَّازَتِهِ وَدَفَعَهَا إِلَيْهِ أَنِ احْفَظْهَا حَتَّى أَمَسَّ السِّلْسِلَةَ، فَتَمَكَّنَ مِنْهَا لِأَنَّهُ رَدَّهَا، فَرُفِعَتْ لِشُؤْمِ احْتِيَالِهِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ كَانَ ذِكْرُ الْمُلْكِ قَبْلَهَا. وَالنُّبُوَّةِ بَعْدَهُ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي.
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قِيلَ: صَنْعَةُ الدُّرُوعِ، وَقِيلَ: مَنْطِقُ الطَّيْرِ وَكَلَامُهُ لِلنَّحْلِ وَالنَّمْلِ، وَقِيلَ: الزَّبُورُ، وَقِيلَ: الصَّوْتُ الطَّيِّبُ والألحان، قيل: وَلَمْ يُعْطِ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ مِثْلَ
593
صَوْتِهِ، كَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ تَدْنُو الْوُحُوشُ حَتَّى يَأْخُذَ بِأَعْنَاقِهَا، وَتُظِلُّهُ الطَّيْرُ مُصِيخَةً لَهُ، وَيَرْكُدُ الْمَاءُ الْجَارِي، وَتَسْكُنُ الرِّيحُ، وَمَا صُنِعَتِ الْمَزَامِيرُ وَالصُّنُوجُ إِلَّا عَلَى صَوْتِهِ.
وَقِيلَ: مِمَّا يَشاءُ فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَالْأَمْرُ بِهَا، وَاجْتِنَابُ الْمَعَاصِي. وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي: يَشَاءُ عَائِدٌ عَلَى دَاوُدَ أَيْ: مِمَّا يَشَاءُ دَاوُدُ.
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ قَرَأَ نَافِعٌ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ:
وَلَوْلَا دِفَاعُ، وَهُوَ مَصْدَرُ دَفَعَ، نَحْوُ: كَتَبَ كِتَابًا أَوْ مَصْدَرُ دَافَعَ بِمَعْنَى دَفَعَ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
وَلَقَدْ حَرِصْتُ بِأَنْ أُدَافِعَ عَنْهُمْ فَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لَا تُدْفَعُ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: دَفْعُ، مَصْدَرُ دَفَعَ، كَضَرَبَ ضَرْبًا. وَالْمَدْفُوعُ بِهِمْ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَدْفُوعُونَ المشركون، ولفسدت الْأَرْضُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ وَالْمَسَاجِدِ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وجماعة من الْمُفَسِّرِينَ.
أَوِ الْأَبْدَالُ وَهُمْ أَرْبَعُونَ، كُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ أَقَامَ اللَّهُ وَاحِدًا بَدَلَ آخَرَ، وَعِنْدَ الْقِيَامَةِ يَمُوتُونَ كُلُّهُمْ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ بِالشَّامِ، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِالْعِرَاقِ.
وَرُوِيَ حَدِيثُ الْأَبْدَالِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَرَفَعَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
. أَوْ الْمَذْكُورُونَ
فِي حَدِيثِ: «لَوْلَا عُبَّادٌ رُكَّعٌ، وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ لُصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا»
أَوْ: مَنْ يُصَلِّي وَمَنْ يُزَكِّي وَمَنْ يَصُومُ يُدْفَعُ بِهِمْ عَمَّنْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، أَوِ:
الْمُؤْمِنُ يُدْفَعُ بِهِ عَنِ الْكَافِرِ كَمَا يُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ بِالْكَافِرِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، أَوِ: الرَّجُلُ الصَّالِحُ يُدْفَعُ بِهِ عَنْ مَا بِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَجِيرَانِهِ الْبَلَاءُ، أَوِ: الشُّهُودُ الَّذِينَ يُسْتَخْرَجُ بِهِمُ الْحُقُوقُ، قَالَهُ الثَّوْرِيُّ، أَوِ: السُّلْطَانُ، أَوِ: الظَّالِمُ يَدْفَعُ يَدَ الظَّالِمِ، أَوْ: دَاوُدُ دُفِعَ بِهِ عَنْ طالوت ولا ذَلِكَ غَلَبَتِ الْعَمَالِقَةُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَكُونُ: النَّاسُ، عَامًّا وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّ الْمَدْفُوعَ بِهِمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كَانَ يُطْبِقُهَا وَيَتَمَادَى فِي جَمِيعِ أَقْطَارِهَا، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَلِّي زَمَانًا مِنْ قَائِمٍ يَقُومُ بِالْحَقِّ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ، وَيَكُفُّ بِهِمْ فَسَادَهُمْ، لَغَلَبَ الْمُفْسِدُونَ، وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَبَطَلَتْ مَنَافِعُهَا، وَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهَا مِنَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَسَائِرِ مَا يُعَمِّرُ الْأَرْضَ. انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَالَّذِي قَبْلَهُ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ.
594
وَالْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ: دَفْعٌ، أَوْ: دِفَاعٌ، مُضَافٌ إِلَى الفاعل، وبعضهم بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ بدل بعض من كل، وَالْبَاءُ فِي: بِبَعْضٍ، مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ وَالْبَاءُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلْمَصْدَرِ، لِأَنَّ دَفْعُ يَتَعَدَّى إِلَى وَاحِدٍ ثُمَّ عُدِّيَ إِلَى ثَانٍ بِالْبَاءِ، وَأَصْلُ التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ، وَأَصْلُ التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ اللَّازِمِ: نَحْوَ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ «١» فَإِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فَقِيَاسُهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، تَقُولُ: طَعِمَ زَيْدٌ اللَّحْمَ، ثُمَّ تَقُولُ أَطْعَمْتُ زَيْدًا اللَّحْمَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: طَعَّمْتُ زَيْدًا بِاللَّحْمِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ قَلِيلًا بِحَيْثُ لَا يَنْقَاسُ، مِنْ ذَلِكَ:
دَفَعَ، وَصَكَّ، تَقُولُ: صَكَّ الْحَجَرُ الْحَجَرَ، وَتَقُولُ: صَكَكْتُ الْحَجَرَ بِالْحَجَرِ، أَيْ جَعَلْتُهُ يَصُكُّهُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا: صَكَكْتُ الْحَجَرَيْنِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ نَظِيرُ: دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَالْهَمْزَةِ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ التَّعْدِيَةَ بِالْهَمْزَةِ وَالتَّضْعِيفَ مَا نَصُّهُ: وَعَلَى ذَلِكَ دَفَعْتُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، عَلَى حَدِّ قَوْلِكِ: أَلْزَمْتُ، كَأَنَّكَ قُلْتَ فِي التَّمْثِيلِ: أَدْفَعْتُ، كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ: أَذْهَبْتُ بِهِ، وَأَذْهَبْتُهُ مِنْ عِنْدِنَا، وَأَخْرَجْتُهُ، وَخَرَجْتُ بِهِ مَعَكَ، ثُمَّ قَالَ سِيبَوَيْهِ:
صَكَكْتُ الْحَجَرَيْنِ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ قَوْلِكَ: اصْطَكَّ الْحَجَرَانِ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ: وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ. انْتَهَى كَلَامُ سِيبَوَيْهِ.
وَلَا يَبْعُدُ فِي قَوْلِكَ: دَفَعْتُ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ، أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْآلَةِ، فَلَا يَكُونُ الْمَجْرُورُ بِهَا مَفْعُولًا بِهِ فِي الْمَعْنَى، بَلِ الَّذِي يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ هُوَ الْمَنْصُوبُ، وَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ يَكُونُ الْمَنْصُوبُ مَفْعُولًا بِهِ فِي اللَّفْظِ فَاعِلًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَعَلَى أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْآلَةِ يَصِحُّ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ فِي: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، كَتَبْتُ الْقَلَمِ.
وَأَسْنَدَ الْفَسَادَ إِلَى الْأَرْضِ حَقِيقَةً: بِالْخَرَابِ، وَتَعْطِيلِ الْمَنَافِعِ، أَوْ مَجَازًا: وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا.
وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ هُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى مَدْفُوعٍ بِهِ وَمَدْفُوعٍ، وَأَنَّهُ بِدَفْعِهِ بَعْضَهَمْ بِبَعْضٍ امْتَنَعَ فَسَادُ ارض، فَيَهْجِسُ فِي نَفْسِ مَنْ غَلَبَ وَقَهَرَ عَنْ مَا يُرِيدُ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، غَيْرُ مُتَفَضِّلٍ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يُبْلِغْهُ مَقَاصِدَهُ وَمَآرِبَهُ، فَاسْتَدْرَكَ أَنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَقَاصِدَهُ هَذَا الطَّالِبُ لِلْفَسَادِ أَنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عليه،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٠.
595
وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ. وَانْدَرَجَ فِي عُمُومِ الْعَالَمِينَ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ «١» وَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلِلَّهِ عَلَيْهِ فَضَلٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا فَضْلُ الِاخْتِرَاعِ.
وَهَذَا الَّذِي أَبْدَيْنَاهُ مِنْ فَائِدَةِ الِاسْتِدْرَاكِ هُوَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ مِنْ أَنَّ:
لَكِنَّ، تَكُونُ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ بِوَجْهٍ مَا وَيَتَعَلَّقُ عَلَى الْعَالَمِينَ بِفَضْلٍ، لأن فعله يتعدى: بعلى، فَكَذَلِكَ الْمَصْدَرُ، وَرُبَّمَا حُذِفَتْ: عَلَى، مَعَ الْفِعْلِ، تَقُولُ: فَضَّلْتُ فُلَانًا أَيْ عَلَى فُلَانٍ، وَجُمِعَ بَيْنَ الْحَذْفِ وَالْإِثْبَاتِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وجدنا نهشلا فضلت فقيما كَفَضْلِ ابْنِ الْمَخَاضِ عَلَى الْفَصِيلِ
وَإِذَا عُدِّي إِلَى مَفْعُولٍ بِهِ بِالتَّضْعِيفِ لَزِمَتْ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ «٢».
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ تلك إشارة للبعيد، وآيات اللَّهِ قِيلَ: هِيَ الْقُرْآنُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا الْآيَاتُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْقَصَصِ السَّابِقِ مِنْ خُرُوجِ أُولَئِكَ الْفَارِّينَ مِنَ الْمَوْتِ، وَإِمَاتَةِ اللَّهِ لَهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِحْيَاءَةً وَاحِدَةً، وَتَمْلِيكِ طَالُوتَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَيْسَ مِنْ أَوْلَادِ مُلُوكِهِمْ، وَالْإِتْيَانُ بِالتَّابُوتِ بَعْدَ فَقْدِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى بَقَايَا مِنْ إِرْثِ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ، وَكَوْنُهُ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ مُعَايَنَةً عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ الِابْتِلَاءُ الْعَظِيمُ بِالنَّهَرِ فِي فَصْلِ الْقَيْظِ وَالسَّفَرِ، وَإِجَابَةُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي النُّصْرَةِ، وَقَتْلُ دَاوُدَ جَالُوتَ، وَإِيتَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ، فَهَذِهِ كُلُّهَا آيَاتٌ عَظِيمَةٌ خَوَارِقُ، تَلَاهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ بِالْحَقِّ أَيْ مَصْحُوبَةً بِالْحَقِّ لَا كَذِبَ فِيهَا وَلَا انْتِحَالَ، وَلَا بِقَوْلِ كَهَنَةٍ، بَلْ مُطَابِقًا لِمَا فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْقَصَصِ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ فِي الِاسْتِنْصَارِ بِاللَّهِ وَالْإِعْدَادِ لِلْكُفَّارِ، وَأَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ قَدْ يغلبها العقل، وَأَنَّ الْوُثُوقَ بِاللَّهِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْمُلِمَّاتِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ تَلَا الْآيَاتِ عَلَى نَبِيِّهِ، أَعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَأَكَدَّ ذلك بان وَاللَّامِ حَيْثُ أَخْبَرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةِ كِتَابٍ، وَلَا مُدَارَسَةِ أَحْبَارٍ، وَلَا سَمَاعِ أَخْبَارٍ.
وَتَضَمَّنَتِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ أَخْبَارَ بَنِي إسرائيل حيث استفيدوا تَمْلِيكَ طَالُوتَ عَلَيْهِمْ أَنَّ لِذَلِكَ آيَةً تَدُلُّ عَلَى تَمْلِكِيهِ، وَهُوَ أَنَّ التَّابُوتَ الَّذِي فَقَدْتُمُوهُ يَأْتِيكُمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْبَقِيَّةِ الْمُخَلَّفَةِ عَنْ آلِ مُوسَى وَآلِ هَارُونَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ، وان في ذلك
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٣.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٩٥.
596
آيَةً أَيْ آيَةً لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا، لِأَنَّ هَذَا خَارِقٌ عَظِيمٌ. وَفَصْلُ طَالُوتَ بِالْجُنُودِ وَتَبْرِيزُهُ بِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَلَّكُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ مُبْتَلِيهِمْ بِنَهَرٍ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ نَبَّأَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ نَبِيِّهِمْ لَهُ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ كَرَعًا فَلَيْسَ مِنْهُ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفَ أَكْثَرُهُمْ فَشَرِبُوا مِنْهُ، وَلَّمَا عَبَرُوا النَّهَرَ وَرَأَوْا مَا هُوَ فِيهِ جَالُوتُ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ مَنْ أَيْقَنَ بِلِقَاءِ اللَّهِ: بِأَنَّ الْكَثْرَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْغَلَبَةِ، فَكَثِيرًا مَا غَلَبَ الْقَلِيلُ الْكَثِيرَ بِتَمْكِينِ اللَّهِ وَإِقْدَارِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، فَحُضُّوا عَلَى التَّصَابُرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَحِينَ بَرَزُوا لِأَعْدَائِهِمْ، وَوَقَعَتِ الْعَيْنُ عَلَى الْعَيْنِ لجأوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَسَأَلُوا مِنْهُ الصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَتَثْبِيتَ الْأَقْدَامِ عِنْدَ الْمَدَاحِضِ، وَالنَّصْرَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ، وَكَانَتْ نَتِيجَةُ هَذَا الْقَوْلِ وَصِدْقِ الْقِتَالِ أَنْ مَكَّنَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلَ مَلِكَهُمْ، وَإِذَا ذَهَبَ الرَّأْسُ ذَهَبَ الْجَسَدُ، وَأَعْطَى اللَّهُ دَاوُدَ مُلْكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالنُّبُوَّةَ وَهِيَ: الْحِكْمَةُ، وَعَلَّمَهُ مِمَّا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ مِنَ: الزَّبُورِ، وَصَنْعَةِ اللَّبُوسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ إِصْلَاحَ الْأَرْضِ هُوَ بِدَفْعِ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا، فَلَوْلَا أَنْ دَفَعَ اللَّهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَزِيمَةِ قَوْمِ جَالُوتَ وَقَتْلِ دَاوُدَ جَالُوتَ، لَغَلَبَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ وَاسْتُؤْصِلُوا قَتْلًا وَنَهْبًا وَأَسْرًا، وَكَذَلِكَ مَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، وَلَكِنَّ فَضْلَ اللَّهِ هُوَ السَّابِقُ، حَيْثُ لَمْ يُمَكِّنْ مِنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْهُمْ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْعِبَرَ وَهَذِهِ الْخَوَارِقَ تَلَاهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ بِالْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُ فِي الزَّمَانِ، وَالرِّسَالَةُ فَوْقَ النُّبُوَّةِ، وَدَلَّ عَلَى رِسَالَتِهِ إِخْبَارُهُ بِهَذَا الْقَصَصِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ مَنْ أَخْبَرَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِهَا مُعْلِمٌ إِلَّا اللَّهَ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٣ الى ٢٥٧]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
597
الْبَيْعُ: مَعْرُوفٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ بَاعَ يَبِيعُ، وَمَنْ قَالَ: أَبَاعَ فِي مَعْنَى بَاعَ أَخْطَأَ.
الْخُلَّةُ: الصَّدَاقَةُ كَأَنَّهَا تَتَخَلَّلُ الْأَعْضَاءَ أَيْ: تَدْخُلُ خِلَالَهَا، وَالْخُلَّةُ الصَّدِيقُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَانَ لَهَا فِي سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ يُسَارِقُ بِالطَّرَفِ الْخِبَاءَ الْمُسَتَّرَا
السِّنَةُ وَالْوَسَنُ: قِيلَ: النُّعَاسُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ مِنَ الْفُتُورِ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
وَيَبْقَى مَعَ السِّنَةِ بَعْضُ الذِّهْنِ، وَالنَّوْمُ هُوَ الْمُسْتَثْقَلُ الَّذِي يَزُولُ مَعَهُ الذِّهْنُ، وَهَذَا الْبَيْتُ يَظْهَرُ مِنْهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَسْنَانُ الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ، حَتَّى رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ عَلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ، ابْنُ زَيْدٍ لَيْسَ بِمَفْهُومٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ الْمُفَضَّلُ: السِّنَةُ ثِقَلٌ فِي الرَّأْسِ، وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَلْبِ.
الْكُرْسِيُّ: آلَةٌ مِنَ الْخَشَبِ أَوْ غَيْرِهِ مَعْلُومَةٌ، يُقْعَدُ عَلَيْهَا، وَالْيَاءُ فِيهِ كَالْيَاءِ فِي:
قمري، لَيْسَتْ لِلنَّسَبِ، وَجَمْعُهُ كَرَاسِيٌّ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
آدَهُ الشَّيْءُ يَؤُدُهُ: أَثْقَلَهُ، وَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَشَقَّةً قَالَ الشَّاعِرُ:
598
أَلَا مَا لِسَلْمَى الْيَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا وَضَنَّتْ، وَمَا كَانَ النَّوَالُ يَؤُدُهَا
الْغَيُّ: مُقَابِلُ الرُّشْدِ، يُقَالُ غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي أَيْ: ضَلَّ فِي مُعْتَقَدٍ أَوْ رَأْيٍ، وَيُقَالُ:
أَغْوَى الْفَصِيلُ إِذَا بَشِمَ، وَإِذَا جَاعَ عَلَى الضِّدِّ.
الطَّاغُوتُ: بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنْ طَغَى يَطْغَى، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ يَطْغُو إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَوَزْنُهُ الْأَصْلِيُّ: فَعْلُوتُ، قُلِبَ إِذْ أَصْلُهُ: طَغْوُوتُ، فَجُعِلَتِ اللَّامُ مَكَانَ الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ مَكَانَ اللَّامِ، فَصَارَ: طَوْغُوتَ، تَحَرَّكَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا، فَصَارَ:
طَاغُوتَ، وَمَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّهُ مَصْدَرٌ: كَرَهَبُوتٍ وَجَبَرُوتٍ، وَهُوَ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ كَأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ لِلْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَزَعَمَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَّهُ جَمْعٌ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ التَّاءَ فِي طَاغُوتَ بَدَلٌ مِنْ لَامِ الْكَلِمَةِ، وَوَزْنُهُ: فَاعُولٌ.
الْعُرْوَةُ: مَوْضِعُ الْإِمْسَاكِ وَشَدِّ الْأَيْدِي وَالتَّعَلُّقِ، وَالْعُرْوَةُ شَجَرَةٌ تَبْقَى عَلَى الْجَذْبِ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْخِصْبِ مِنْ: عَرَوْتُهُ: أَلْمَمْتُ به متعلقا، واعتراه التم: تَعَلَّقَ بِهِ.
الِانْفِصَامُ: الِانْقِطَاعُ، وَقِيلَ الِانْكِسَارُ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ، وَالْقَصْمُ بِالْقَافِ الْكَسْرُ بِبَيْنُونَةٍ، وَقَدْ يَجِيءُ الْفَصْمُ بِالْفَاءِ فِي مَعْنَى الْبَيْنُونَةِ.
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ اصْطِفَاءَ طَالُوتَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَفَضُّلَ دَاوُدَ عَلَيْهِمْ بِإِيتَائِهِ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَتَعْلِيمِهِ، ثُمَّ خَاطَبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَكَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ، بَيَّنَ بِأَنَّ الْمُرْسَلِينَ مُتَفَاضِلُونَ أَيْضًا، كَمَا كَانَ التَّفَاضُلُ بين غير المرسلين:
كطالوت وبني إِسْرَائِيلَ.
وَ: تِلْكَ، مُبْتَدَأٌ وَخَبُرُهُ: الرُّسُلُ، وَ: فَضَّلْنَا، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَذُو الْحَالِ: الرُّسُلُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: الرُّسُلُ، صِفَةً لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، وَأَشَارَ بِتِلْكَ الَّتِي لِلْبَعِيدِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْأَزْمَانِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ الْإِشَارَةُ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ لِلرُّسُلِ الَّتِي ثَبَتَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْمُرْسَلِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «١» وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْيَانِهِمْ، بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٢. ويس: ٣٦/ ٣.
599
بَعْضٍ، وَأَتَى: بِتِلْكَ، الَّتِي لِلْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ جَمْعًا، لِأَنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ فِي الْوَصْفِ، وَفِي عَوْدِ الضَّمِيرِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ هُنَا لِاخْتِصَارِ اللَّفْظِ، وَلِإِزَالَةِ قَلَقِ التَّكْرَارِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَاءَ: أُولَئِكَ الْمُرْسَلُونَ فَضَّلْنَا، كَانَ اللَّفْظُ فِيهِ طُولٌ، وَكَانَ فِيهِ التَّكْرَارُ. وَالِالْتِفَاتُ فِي: نَتْلُوهَا، وَفِي:
فَضَّلْنَا، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ إِلَى مُتَكَلِّمٍ مِنْ غَائِبٍ، إِذْ قَبْلَهُ ذُكِرَ لَفْظُ: اللَّهِ، وَهُوَ لَفْظٌ غَائِبٌ.
وَالتَّضْعِيفُ فِي: فَضَّلْنَا، لِلتَّعْدِيَةِ، وَ: عَلَى بَعْضٍ، متعلق بفضلنا، قِيلَ: وَالتَّفْضِيلُ بِالْفَضَائِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَوِ الشَّرَائِعِ عَلَى غَيْرِ ذِي الشَّرَائِعِ، أَوْ بِالْخَصَائِصِ كَالْكَلَامِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ لَمَّا أَوْجَبَ ذَلِكَ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْحَسَنَاتِ. انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ.
وَنَصَّ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ تَعْيِينِ مَفْضُولٍ. وَهَكَذَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ».
وَقَالَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى»
وَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى»
. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّشْدِيدِ وَرَفَعِ الْجَلَالَةِ، وَالْعَائِدُ عَلَى: مَنْ، مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَنْ كَلَّمَهُ وقرىء بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ وَالْفَاعِلُ مُسْتَتِرٌ فِي: كَلَّمَ، يَعُودُ عَلَى: مَنْ، وَرَفْعُ الْجَلَالَةِ أَتَمُّ فِي التَّفْضِيلِ مِنَ النَّصْبِ، إِذِ الرَّفْعُ يَدُلُّ عَلَى الْحُضُورِ وَالْخِطَابِ مِنْهُ تَعَالَى لِلْمُتَكَلِّمِ، وَالنُّصْبُ يَدُلُّ عَلَى الْحُضُورِ دُونَ الْخِطَابِ مِنْهُ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ، وَأَبُو نهشل، وابن السميفع: كَالَمَ اللَّهَ بِالْأَلِفِ وَنَصَبِ الْجَلَالَةِ مِنَ الْمُكَالَمَةِ، وَهِيَ صُدُورُ الْكَلَامِ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمِنْهُ قِيلَ: كَلِيمُ اللَّهِ أَيْ مُكَالِمُهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ: كَجَلِيسٍ وَخَلِيطٍ. وَذَكَرَ التَّفْضِيلَ بِالْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ تَفْضِيلٍ حَيْثُ جَعَلَهُ مَحَلًّا لِخِطَابِهِ وَمُنَاجَاتِهِ مِنْ غَيْرِ سَفِيرٍ، وَتَضَافَرَتْ نُصُوصُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُكَلَّمِ هُنَا هُوَ مُوسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آدَمَ: أَنْبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ».
وَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ حَيْثُ ارْتَقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَقَامٍ تَأَخَّرَ عَنْهُ فِيهِ جِبْرِيلُ، أَنَّهُ جَرَتْ بَيْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى مُخَاطَبَاتٌ وَمُحَاوَرَاتٌ
، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ:
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ: مُوسَى وَآدَمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَكْلِيمُ اللَّهِ لَهُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: كَلَّمَ اللَّهُ الْتِفَاتٌ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ إِلَى ظَاهِرٍ غَائِبٍ مِنْ ضَمِيرٍ مُتَكَلِّمٍ، لِمَا
600
فِي ذِكْرِ هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلِزَوَالِ قَلَقِ تَكْرَارِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، إِذْ كَانَ يَكُونُ: فَضَّلْنَا، وَكَلَّمْنَا، وَرَفَعْنَا، وَآتَيْنَا.
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، أَوْ إِبْرَاهِيمُ، أَوْ إِدْرِيسُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، قَالُوا: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل اللَّفْظُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ عَظُمَتْ آيَاتُهُ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ. انْتَهَى. وَيَعْنِي أَنَّهُ تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أَيْ وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَ بَعْدَ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْفَضْلِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَهُ أَحَدٌ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَكَاثِرَةِ الْمُرْتَقِيَةِ إِلَى أَلْفِ آيَةٍ وَأَكْثَرَ، وَلَوْ لَمْ يُؤْتَ إِلَّا الْقُرْآنَ وَحْدَهُ لَكَفَى بِهِ فَضْلًا مُنِيفًا عَلَى سَائِرِ مَا أُوتِيَ الْأَنْبِيَاءُ، لِأَنَّهُ الْمُعْجِزَةُ الْبَاقِيَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ دُونَ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ.
وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ مِنْ تَفْخِيمِ فَضْلِهِ، وَإِعْلَاءِ قَدْرِهِ مَا لَا يَخْفَى، لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَشْتَبِهُ، وَالْمُتَمَيِّزُ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟
فَيَقُولُ: أَحَدُكُمْ، أَوْ بَعْضُكُمْ! يُرِيدُ بِهِ الَّذِي تَعَوْرَفَ وَاشْتَهَرَ بِنَحْوِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَيَكُونُ، أَفْخَمَ مِنَ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَأَنْوَهَ بِصَاحِبِهِ.
وَسُئِلَ الْحُطَيْئَةُ عَنْ أَشْعَرِ النَّاسِ، فَذَكَرَ، زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ الثَّالِثَ. أَرَادَ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لَذَكَرْتُ نَفْسِي، لَمْ يُفَخِّمْ أَمْرَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا وَغَيْرَهُمَا مِنْ أُولَى الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، لِأَنَّهُ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيَ الْخَمْسَ الَّتِي لَمْ يُعْطَهَا أَحَدٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ أُمَّةً، وَخُتِمَ بِهِ بَابُ النُّبُوَّاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَعْطَاهُ، وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ، وَبَاهِرِ آيَاتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ أُوتِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةُ آلَافِ مُعْجِزَةٍ وَخِصِّيصَةٍ، وَمَا أُوتِيَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةً إِلَّا أُوتِيَ مُحَمَّدٌ ﷺ مَثْلَهَا وَزَادَ عَلَيْهِمْ بِآيَاتٍ.
وَانْتِصَابُ: دَرَجَاتٍ، قِيلَ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ الدَّرَجَةَ بِمَعْنَى الرِّفْعَةِ، أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ عَلَى الْحَالِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَوِي دَرَجَاتٍ، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِرَفَعَ عَلَى طَرِيقِ التَّضْمِينِ لِمَعْنَى: بَلَغَ، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَوَصَلَ
601
الْفِعْلَ وَحَرْفَ الْجَرِّ، إِمَّا: عَلَى، أَوْ: فِي، أَوْ: إِلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، أَيْ:
وَرَفَعَ دَرَجَاتِ بَعْضِهِمْ، وَالْمَعْنَى عَلَى دَرَجَاتِ بَعْضٍ.
وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ «١» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَخَصَّ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ وَعِيسَى مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ لِمَا أُوتِيَا مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَلِأَنَّ آيَتَيْهِمَا مَوْجُودَتَانِ، فَتَخْصِيصُهُمَا بِالذِّكْرِ طَعْنٌ عَلَى تَابِعَيْهِمَا حَيْثُ لَمْ يَنْقَادُوا لِهَذَيْنِ الرَّسُولَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَوَقَعَ مِنْهُمُ الْمُنَازَعَةُ وَالْخِلَافُ.
وَنَصَّ هُنَا لِعِيسَى عَلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ تَقْبِيحًا لِأَفْعَالِ الْيَهُودِ حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّتَهُ مَعَ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْوَاضِحَةِ، وَلَمَّا كَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ هُوَ الَّذِي أُوتِيَ مَا لم يؤته أحد من كَثْرَةِ الْمُعْجِزَاتِ وَعِظَمِهَا، وَكَانَ الْمَشْهُودَ لَهُ بِإِحْرَازِ قَصَبَاتِ السَّبْقِ، حُفَّ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الرَّسُولَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، لِيَحْصُلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِمُجَاوَرَةِ ذِكْرِهِ الشَّرَفُ، إِذْ هُوَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةُ عِقْدِ النُّبُوَّةِ، فَيَنْزِلُ مِنْهُمَا مَنْزِلَةَ وَاسِطَةِ الْعِقْدِ الَّتِي يَزْدَانُ بِهَا مَا جَاوَرَهَا مِنَ اللَّآلِئِ، وَتَنَوَّعَ هَذَا التَّقْسِيمُ وَلَمْ يَرِدْ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، فَجَاءَتِ الْجُمْلَةُ الْأَوْلَى مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ مُصَدَّرَةً بِمِنَ الدَّالَّةِ عَلَى التَّقْسِيمِ، وَجَاءَتِ الثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةً مُسْنَدَةً لِضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، لَا لَفْظِهِ، لِقُرْبِهِ، إِذْ لَوْ أُسْنِدَ إِلَى الظَّاهِرِ لَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ اللَّهُ، فَكَانَ يَقْرُبُ التَّكْرَارُ، فَكَانَ الْإِضْمَارُ أَحْسَنَ.
وَفِي الْجُمْلَتَيْنِ: الْمُفَضَّلُ مِنْهُمْ لَا مُعَيَّنٌ بِالِاسْمِ، لَكِنْ يُعَيَّنُ الْأَوَّلُ صِلَةَ الْمَوْصُولِ، لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ عِنْدَ السَّامِعِ، وَيُعَيَّنُ الثَّانِي مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِدَرَجَاتٍ، وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ لَيْسَتْ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتِ الثَّانِيَةُ فِعْلِيَّةً مُسْنَدَةً لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى سَبِيلِ الْالْتِفَاتِ، إِذْ قَبْلَهُ غَائِبٌ، وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي أَفَانِينِ الْبَلَاغَةِ وَأَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ قِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذَفٌ، التَّقْدِيرُ: فَاخْتَلَفَ أُمَمُهُمْ وَاقْتَتَلُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَفْعُولُ شَاءَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنْ لَا تَقْتَتِلُوا، وَقِيلَ: أَنْ لَا يَأْمُرَ بِالْقِتَالِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْ لَا تَخْتَلِفُوا الْاخْتِلَافَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقِتَالِ، وَقِيلَ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَضْطَرَّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَلَمْ يقتتلوا، وقال أبو
(١) سورة البقرة: ٢/ ٨٧.
602
عَلِيٍّ بِأَنْ يَسْلُبَهُمُ الْقُوَى وَالْعُقُولَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا التَّكْلِيفُ، وَلَكِنْ كَلَّفَهُمْ فَاخْتَلَفُوا بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هَذِهِ مَشِيئَةُ الْقُدْرَةِ، مِثْلُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «١» وَلَمْ يَشَأْ ذَلِكَ، وَشَاءَ تَكْلِيفَهُمْ فَاخْتَلَفُوا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَشِيئَةَ إِلْجَاءٍ وَقَسْرٍ، وَجَوَابُ لَوْ: مَا اقْتَتَلَ، وَهُوَ فِعْلٌ مَنْفِيٌّ بِمَا، فَالْفَصِيحُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ اللَّامُ كَمَا فِي الْآيَةِ، وَيَجُوزُ فِي الْقَلِيلِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ اللَّامُ، فَتَقُولُ: لَوْ قَامَ زَيْدٌ لَمَا قَامَ عَمْرٌو، وَ: مِنْ بَعْدِهِمْ صِلَةٌ لِلَّذِينَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيِ: الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الرُّسُلِ، وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى وَأَتْبَاعِهِمَا.
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ بَعْدِ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ: مَا اقْتَتَلَ النَّاسُ بَعْدَ كُلِّ نَبِيٍّ، فَلُفَّ الْكَلَامُ لَفًّا لَمْ يَفْهَمْهُ السَّامِعُ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ:
اشْتَرَيْتُ خَيْلًا ثُمَّ بِعْتُهَا، وَإِنَّ كُنْتَ قَدِ اشْتَرَيْتَهَا فَرَسًا فَرَسًا وَبِعْتَهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا، إِنَّمَا اخْتُلِفَ بَعْدَ كُلِّ نَبِيٍّ، وَ: مِنْ بَعْدِ، قِيلَ: بَدَلٌ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ مَا اقْتَتَلَ، إِذْ كَانَ فِي الْبَيِّنَاتِ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الْوَاضِحَةُ، مَا يُفْضِي إِلَى الِاتِّفَاقِ وَعَدَمِ التَّقَاتُلِ، وَغَنِيَّةٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ لِلتَّقَاتُلِ.
وَلكِنِ اخْتَلَفُوا هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ وَاضِحٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا ضِدٌّ لِمَا بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى:
لَوْ شَاءَ الِاتِّفَاقَ لَاتَّفَقُوا، وَلَكِنْ شَاءَ الِاخْتِلَافَ فَاخْتَلَفُوا.
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ مَنْ آمَنَ بِالْتِزَامِهِ دِينَ الرُّسُلِ وَاتِّبَاعِهِمْ، وَمَنْ كَفَرَ بِإِعْرَاضِهِ عَنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ حَسَدًا وَبَغْيًا وَاسْتِئْثَارًا بِحُطَامِ الدُّنْيَا.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا قِيلَ: الْجُمْلَةُ تَكَرَّرَتْ تَوْكِيدًا لِلْأُولَى، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقِيلَ: لَا تَوْكِيدَ لِاخْتِلَافِ الْمَشِيئَتَيْنِ، فَالْأُولَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقِتَالِ بِأَنْ يَسْلُبَهُمُ الْقُوَى وَالْعُقُولَ، وَالثَّانِيَةُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ، وَلَكِنْ أَمَرَ وَشَاءَ أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَتَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُثْبِتُو الْقَدْرِ وَنَافُوهُ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مُخْتَلَفًا فِيهِ حَتَّى كَانَ الْأَعْشَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَافِيًا حَيْثُ قَالَ:
اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وبالعد ل وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَا
وَكَانَ لُبَيْدٌ مُثْبِتًا حَيْثُ قَالَ:
(١) سورة يونس: ١٠/ ٩٩.
603
مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلَّ
وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ فِعْلَهُ فَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّ ارادة غيره غيره مُؤَثِّرَةٍ، وَهُوَ تَعَالَى الْمُسْتَأْثِرُ بِسِرِّ الْحِكْمَةِ فِيمَا قَدَّرَ وَقَضَى مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ فِعْلُهُ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِنَ الْخُذْلَانِ وَالْعِصْمَةِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيَّةِ.
قِيلَ: وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ: التَّقْسِيمَ، فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ بِوَاسِطَةٍ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ اقْتَضَاهُ الْمَعْنَى، وَفِي قَوْلِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَهَذَا التَّقْسِيمُ ملفوظ به. و: الاختصاص، مشارا إليه ومنصوبا عليه، و: التكرار، فِي لَفْظِ الْبَيِّنَاتِ، وَفِي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. و: الحذف، فِي قَوْلِهِ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أَيْ كِفَاحًا وَفِي قَوْلِهِ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ يَعْنِي مِنْ هِدَايَةِ مَنْ شَاءَ وَضَلَالَةِ مَنْ شَاءَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ الِاخْتِلَافَ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَأَرَادَ الِاقْتِتَالَ، وَأَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْجِهَادُ يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ، أَمَرَ تَعَالَى بِالنَّفَقَةِ مِنْ بَعْضِ مَا رُزِقَ، فَشَمَلَ النَّفَقَةَ فِي الْجِهَادِ، وَهِيَ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، مُنْدَرِجَةٌ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا، وَدَاخِلَةٌ فِيهَا دُخُولًا أَوَلِيًّا، إِذْ جَاءَ الْأَمْرُ بِهَا عَقِبَ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَاقْتِتَالِهِمْ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَالْأَكْثَرُونَ:
الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ وَاجِبَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ فِي الزَّكَاةِ، وَالزَّكَاةُ مِنْهَا جُزْءٌ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَقَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قَالَ: أَرَادَ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ لِاتِّصَالِ الْوَعِيدِ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا تَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ، لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ فِيهِ حَتَّى تَبْتَاعُوا مَا تُنْفِقُونَهُ، وَلَا خُلَّةَ حَتَّى تُسَامِحَكُمْ أَخِلَّاؤُكُمْ بِهِ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحُطَّ عَنْكُمْ مَا فِي ذِمَّتِكُمْ مِنَ الْوَاجِبِ لَمْ تَجِدُوا شَفِيعًا يَشْفَعُ لَكُمْ فِي حَطِّ الْوَاجِبَاتِ، لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ ثَمَّ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لَا غَيْرَ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَرَادَ: وَالتَّارِكُونَ الزَّكَاةَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَقَالَ:
وَالْكَافِرُونَ، لِلتَّغْلِيظِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ الْحَجِّ: وَمَنْ كَفَرَ، مَكَانَ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، فِي قَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «١» انتهى كلامه.
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٦ و ٧.
604
وَرُدَّ قَوْلُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ وَعِيدٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَصِّلُوا مَنَافِعَ الْآخِرَةِ حِينَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ إِذَا خَرَجْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا لَا يُمْكِنُكُمْ تَحْصِيلُهَا وَاكْتِسَابُهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ ثَمَّ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لَا غَيْرَ، هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَكُونُ لِلْعُصَاةِ، فَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ، وَلَا لِلْعُصَاةِ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ، فَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِالشَّفَاعَةِ.
وَقِيلَ: المراد منه الإنفاق في الْجِهَادِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَذْكُورٌ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا مُرَادٌ بِهَا جَمِيعُ وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ سَبِيلِ خَيْرٍ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، وَلَكِنْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ فِي ذِكْرِ الْقِتَالِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي صُدُورِ الْكَافِرِينَ، يَتَرَجَّحُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا النَّدْبَ إِنَّمَا هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: فَكَافِحُوهُمْ بِالْقِتَالِ بِالْأَنْفُسِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَنَدَبَ تَعَالَى الْعَبْدَ إِلَى أَنْ يُنْفِقَ مِمَّا رَزَقَهُ، وَالرِّزْقُ، وَإِنْ تَنَاوَلَ غَيْرَ الْحَلَالِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الْحَلَالُ، وَ: مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَنْفِقُوا، وَ: مَا، مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: رَزَقْنَاكُمُوهُ، وَقِيلَ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: مِنْ رِزْقِنَا إِيَّاكُمْ، وَ: مِنْ قَبْلُ، مُتَعَلِّقٌ: بأنفقوا، أَيْضًا، وَاخْتُلِفَ فِي مَدْلُولِ: مِنْ: فَالْأُولَى: لِلتَّبْعِيضِ، وَالثَّانِيَةُ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أنها تتعلق: برزقناكم.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ حَذَّرَ تَعَالَى مِنَ الْإِمْسَاكِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ هَذَا الْيَوْمَ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
لَا بَيْعٌ فِيهِ أَيْ: لَا فِدْيَةٌ فِيهِ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَذُكِرَ لَفْظُ الْبَيْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُعَاوَضَةِ وَأَخْذِ البدل، وقيل: لا فداء عَمَّا مَنَعْتُمْ مِنَ الزَّكَاةِ تَبْتَاعُونَهُ تُقَدِّمُونَهُ عَنِ الزَّكَاةِ يَوْمَئِذٍ. وَقِيلَ: لَا بَيْعَ فِيهِ لِلْأَعْمَالِ فَتُكْتَسَبُ.
وَلا خُلَّةٌ أَيْ: لَا صَدَاقَةٌ تَقْتَضِي الْمُسَاهَمَةَ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَالْمُتَّقُونَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خُلَّةٌ، لَكِنْ لَا نَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَخُلَّةُ غَيْرِهِمْ لَا تُغْنِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
وَلا شَفاعَةٌ اللَّفْظُ عَامٌّ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ، أَيْ: وَلَا شَفَاعَةٌ لِلْكُفَّارِ، وَقَالَ تَعَالَى:
605
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ «١» أَوْ: وَلَا شَفَاعَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى:
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ «٢» وَقَالَ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «٣» فَعَلَى الْخُصُوصِ بِالْكُفَّارِ لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ وَلَا مِنْهُمْ، وَعَلَى تَأْوِيلِ الْإِذْنِ: لَا شَفَاعَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْعُمُومُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ انْتِدَابَ الشَّافِعِ وَتَحَكُّمَهُ عَلَى كُرْهِ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الَّتِي تُوجَدُ بِالْإِذْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَحَقِيقَتُهَا رَحْمَةُ اللَّهِ، لَكِنْ شَرَّفَ تَعَالَى الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَشْفَعَ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: وَلَا شَفَاعَةٌ، مُنْكِرُو الشَّفَاعَةِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا نَفْيٌ لِأَصْلِ الشَّفَاعَةِ، وَقَدْ أُثْبِتَتِ الشَّفَاعَةُ فِي الْآخِرَةِ مَشْرُوطَةٌ بِإِذْنِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، وصح حديث الشفاعة الذين تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، فَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ الثَّلَاثَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ، وَكَذَلِكَ: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ «٤» فِي إِبْرَاهِيمَ وَ: لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «٥» فِي الطَّوْرِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِعْرَابِ الِاسْمِ بَعْدَ: لَا، مَبْنِيًّا عَلَى الْفَتْحِ، وَمَرْفُوعًا مُنَوَّنًا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا بَيْعٌ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ التَّقْدِيرُ:
وَلَا شَفَاعَةَ فِيهِ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ: فِيهِ، الْأُولَى عَلَيْهِ.
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ يعني الجائرين الْحَدَّ، وَ: هُمْ، يَحْتَمِلُ أن يكون بدلا من: الْكَافِرُونَ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَأَنْ يَكُونَ فَصْلًا. قَالَ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: وَالْكَافِرُونَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَلَوْ نَزَلَ هَكَذَا لَكَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَى كُلِّ ظَالِمٍ، وَهُوَ مَنْ يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، بِالْكُفْرِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَخْلُصَ مِنَ الْكُفْرِ كُلَّ عَاصٍ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ من العصيان.
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ هَذِهِ الْآيَةُ تُسَمَّى آيَةَ الْكُرْسِيِّ لِذِكْرِهِ فِيهَا، وَثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) مِنْ حديث أُبَيٍّ أَنَّهَا أَعْظَمُ آيَةٍ، وَفِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ قَارِئَهَا إِذَا آوَى إِلَى فِرَاشِهِ لَنْ يَزَالَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يقربه شيطان حتى
(١) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٠٠ و ١٠١.
(٢) سورة سبأ: ٣٤/ ٢٣.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٨.
(٤) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣١.
(٥) سورة الطور: ٥٢/ ٢٣.
606
يُصْبِحَ،
وَوَرَدَ أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَوَرَدَ أَنَّهَا مَا قُرِئَتْ فِي دَارٍ إِلَّا اهْتَجَرَتْهَا الشَّيَاطِينُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَا يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلَا سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا
وَوَرَدَ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ أَمَّنَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَجَارِهِ وَجَارِ جَارِهِ، وَالْأَبْيَاتِ حَوْلَهُ
وَوَرَدَ: أَنَّ سَيِّدَ الْكَلَامِ الْقُرْآنُ، وَسَيِّدَ الْقُرْآنِ الْبَقَرَةُ، وَسَيِّدَ الْبَقَرَةِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ
، وَفُضِّلَتْ هَذَا التَّفْضِيلَ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَذَكْرِ صِفَاتِهِ الْعُلَا، وَلَا مَذْكُورَ أَعْظَمُ مِنَ اللَّهِ، فَذِكْرُهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ ذِكْرٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ: أَنَّ أَشْرَفَ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ عِلْمُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ، وَلَا يُنَفِّرَنَّكَ عَنْهُ كثرة أعدائه ف:
إن الْعَرَانِينَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً انْتَهَى كَلَامُهُ. وَأَهْلُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِهِمْ مِنْ أَبْيَاتٍ:
أَنْ أَنْصُرَ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ فِي كُلِّ مَقَامٍ بَاذِلًا جُهْدِي
وَهَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ لِغُلُوِّهِ فِي مَحَبَّةِ مَذْهَبِهِ يَكَادُ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكَانَهُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ، وَفُسِّرَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ، وَفُسِّرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَصَّ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَفْضِيلُ الْمَتْبُوعِ يُفْهَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُ التَّابِعِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ أَحْدَثُوا بَعْدَ نَبِيِّهِمْ بِدَعًا فِي أَدْيَانِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ، وَنَسَبُوا اللَّهَ تَعَالَى إِلَى مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَكَانَ مِنْهُمُ الْعَرَبُ، وَكَانُوا قَدِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً وَأَشْرَكُوا، فَصَارَ جَمِيعُ النَّاسِ الْمَبْعُوثُ إِلَيْهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ فِي شَرَائِعِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَهُمُ الْوَاضِعُونَ الشَّيْءَ غَيْرَ مَوَاضِعِهِ، أَتَى بِهَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْمُتَضَمِّنَةِ صِفَاتِهِ الْعُلَا مِنَ: الْحَيَاةِ، وَالِاسْتِبْدَادِ بِالْمُلْكِ، وَاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، وَمُلْكِهِ لما في السموات وَالْأَرْضِ، وَامْتِنَاعِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَسِعَةِ عِلْمِهِ، وَعَدَمِ إِحَاطَةِ أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ، وَبَاهِرِ مَا خَلَقَ مِنَ الْكُرْسِيِّ الْعَظِيمِ الِاتِّسَاعِ، وَوَصْفِهِ بالمبالغة الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ، إِلَى سَائِرِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا، نَبَّهَهُمْ بِهَا عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى طَرْحِ مَا سِوَاهَا.
607
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظَةِ: اللَّهُ، وَعَلَى قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْحَيُّ: وَصْفٌ وَفِعْلُهُ حَيِيَ، قِيلَ: وَأَصْلُهُ: حَيِوَ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَأُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ فَيْعَلٌ، فَخُفِّفَ كَمَيِّتٍ فِي مَيْتٍ، وَلَيِّنٍ فِي لَيْنٍ، وَهُوَ وَصْفٌ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى من صِفَاتِ الذَّاتِ حَيٌّ بِحَيَاةٍ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزُولُ، وَفُسِّرَ هُنَا بِالْبَاقِي، قَالُوا: كَمَا فِي قَوْلِ لُبَيْدٍ:
فَإِمَّا تَرَيِنِّي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِمًا فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلَابٍ وَجَعْفَرِ
أَيْ: فَلَسْتَ بِأَبْقَى، وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ، يُقَالُ: حَيٌّ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَيُسَلِّمُ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهُ حَيٌّ لَا بِحَيَاةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحَيُّ الْبَاقِي الَّذِي لَا سَبِيلَ لِلْفَنَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ وَيُقَدِّرَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَعَنَى بِالْمُتَكَلِّمِينَ مُتَكَلِّمِي مَذْهَبِهِ، وَالْكَلَامُ عَلَى وَصْفِ اللَّهِ بِالْحَيَاةِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْقَيُّومُ، عَلَى وَزْنِ فَيْعُولُ، أَصْلُهُ قَيْوُومُ اجْتَمَعَتِ الْيَاءُ وَالْوَاوُ، وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الْيَاءُ وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عمر، وَعَلْقَمَةُ، وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَعْمَشُ: الْقَيَّامُ وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ أَيْضًا: الْقَيِّمُ، كَمَا تَقُولُ: دَيُّورٌ وَدَيَّارٌ وَقَالَ أُمَيَّةُ:
لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ وَالنُّجُومُ وَالشَّمْسُ مَعَهَا قَمَرٌ يَعُومُ
قَدَّرَهَا الْمُهَيْمِنُ الْقَيُّومُ وَالْحَشْرُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّعِيمُ
إِلَّا لِأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِمَا يَجِبُ لَهُ، بِهَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الدَّائِمُ الْوُجُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يُحَوَّلُ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. وَقِيلَ: الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَقُومُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَيْ: يَعْلَمُ مَا فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: الَّذِي لَا يَبْلَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الدَّائِمُ الْقِيَامِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ وَحِفْظِهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تُقَارِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَقَالُوا: فَيْعُولُ، مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، وَجَوَّزُوا رَفْعَ الْحَيِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ: اللَّهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ: هُوَ، أَوْ مِنْ: اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ: عَلَى
608
أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ: لَا تَأْخُذُهُ، وَأَجْوَدُهَا الْوَصْفُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: الْحَيَّ الْقَيُّومَ بِالنَّصْبِ، فَقَطَعَ عَلَى إِضْمَارِ: أَمْدَحُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَصْفًا مَا جَازَ فِيهِ الْقَطْعُ، وَلَا يُقَالُ: فِي هَذَا الْوَجْهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ حَسَنٌ، تَقُولُ: زَيْدٌ قَائِمُ الْعَاقِلِ.
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ يُقَالُ: وَسِنَ سِنَةٌ وَوَسِنًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفُلُ عَنْ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ، عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ الْغَفْلَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُهَا، فَأَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَعْنَاهُ لَا تَحِلُّهُ الْآفَاتُ وَالْعَاهَاتُ الْمُذْهِلَةُ عَنْ حِفْظِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأُقِيمَ هَذَا الْمَذْكُورُ مِنَ الْآفَاتِ مَقَامَ الْجَمِيعِ، وَهَذَا هُوَ مَفْهُومُ الْخِطَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ «١» وَقِيلَ: نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لِمَا فِيهَا مِنَ الرَّاحَةِ، وَهُوَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّعَبُ وَالِاسْتِرَاحَةُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَقْهَرُهُ شَيْءٌ وَلَا يَغْلِبُهُ، وَفِي الْمَثَلِ: النَّوْمُ سُلْطَانُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْقَيُّومِ، لِأَنَّ مِنْ جَازَ عَلَيْهِ ذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ قَيُّومًا. وَمِنْهُ
حَدِيثُ مُوسَى أَنَّهُ سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قَوْمِهِ كَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ: أَيَنَامُ رَبُّنَا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنْ يُوقِظُوهُ ثَلَاثًا وَلَا تَتْرُكُوهُ يَنَامُ. ثُمَّ قَالَ: خُذْ بيدك قارورتين مملوؤتين، فَأَخَذَهُمَا، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ، النُّعَاسَ، فَضَرَبَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَانْكَسَرَتَا، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيْهِ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ إِنِّي أمسك السموات وَالْأَرْضَ بِقُدْرَتِي، فَلَوْ أَخَذَنِي نَوْمٌ أَوْ نُعَاسٌ لَزَالَتَا. انْتَهَى
. هَكَذَا أَوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْخَبَرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ يَعْنِي السُّؤَالَ مِنْ قَوْمِهِ، كَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ، يَعْنِي أَنَّ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُسْتَحِيلِ، كَمَا اسْتَحَالَ النَّوْمُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مِنْ عَادَتِهِ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، يَذْكُرُهُ حَيْثُ لَا تَكُونُ الْآيَةُ تَتَعَرَّضُ لِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ.
وَأَوْرَدَ غَيْرُهُ هَذَا الْخَبَرَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى: هَلْ يَنَامُ اللَّهُ
؟ وَسَاقَ الْخَبَرَ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
قَالَ بَعْضُ مُعَاصِرِينَا: هَذَا حَدِيثٌ وَضَعَهُ الْحَشَوِيَّةُ، وَمُسْتَحِيلٌ أَنْ سَأَلَ مُوسَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ قَوْمِهِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ اللَّهَ يَنَامُ أَوْ لَا يَنَامُ، فَكَيْفَ الرُّسُلُ؟ انْتَهَى كلامه.
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٢٣.
609
وَفَائِدَةُ تَكْرَارِ: لَا، فِي قَوْلِهِ: وَلَا نَوْمٌ، انْتِفَاؤُهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ لو أسقطت، لا: لا، احتمل انْتِفَاؤُهُمَا بِقَيْدِ الِاجْتِمَاعِ، تَقُولُ: مَا قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، بَلْ أَحَدُهُمَا، وَلَا يُقَالُ:
مَا قَامَ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، بَلْ أَحَدُهُمَا.
وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ خَبَرًا لِقَوْلِهِ: الْحَيُّ، عَلَى أَنْ يَكُونَ: الْحَيُّ، مُبْتَدَأً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ اللَّهِ، فَيَكُونُ قَدْ أَخْبَرَهُ بَعْدَهُ إِخْبَارًا، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْقَيُّومِ، أَيْ:
قَيُّومٌ بِأَمْرِ الْخَلْقِ غَيْرَ غَافِلٍ.
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ خَبَرٍ، كَمَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَ: مَا، لِلْعُمُومِ تَشْمَلُ كُلَّ مَوْجُودٍ، و: اللام، لِلْمُلْكِ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مظروف السموات وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ تَعَالَى، وَكَرَّرَ: مَا، لِلتَّوْكِيدِ. وَكَانَ ذِكْرُ الْمَظْرُوفِ هُنَا دُونَ ذِكْرِ الظَّرْفِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ، لِأَنَّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ الَّتِي في السموات: كَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالشِّعْرَى وَالْأَشْخَاصِ الْأَرْضِيَّةِ: كَالْأَصْنَامِ، وَبَعْضِ بَنِي آدَمَ، كُلٌّ مِنْهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ السموات والأرض، فلم يذكرهما كَوْنَهُ مَالِكًا لَهُمَا اسْتِغْنَاءً بِمَا تَقَدَّمَ.
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ، وَعِظَمِ كِبْرِيَائِهِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْدِمَ أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «١» وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى وُجُودِ الشَّفَاعَةِ بِإِذْنِهِ تَعَالَى، وَالْإِذْنُ هُنَا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، كَمَا
وَرَدَ: اشْفَعْ تُشَفَّعُ
، أَوِ الْعِلْمُ أَوِ التَّمْكِينُ إِنْ شَفَعَ أَحَدٌ بِلَا أَمْرٍ.
وَ: مَنْ، رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ: إِلَّا، فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَالُوا: ذَا، وَيَكُونُ: الَّذِي، نَعْتًا لِذَا، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، وَعَلَى هذا
(١) سورة النبأ: ٧٨/ ٣٨. [.....]
610
الَّذِي قَالُوا يَكُونُ: ذَا، اسْمَ إِشَارَةٍ، وَفِي ذَلِكَ بُعْدٌ، لِأَنَّ: ذَا، إِذَا كَانَ اسْمَ إِشَارَةٍ وَكَانَ خَبَرًا عَنْ: مَنْ، اسْتَقَلَّتْ بِهِمَا الْجُمْلَةُ، وَأَنْتَ تَرَى احْتِيَاجَهَا إِلَى الْمَوْصُولِ بَعْدَهَا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ: مَنْ، الِاسْتِفْهَامِيَّةِ رُكِّبَ مَعَهَا: ذَا، وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهَا بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ: ذَا، لَغْوٌ، فَيَكُونُ: مَنْ ذَا، كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْمَوْصُولُ بَعْدَهُمَا هُوَ الْخَبَرُ، إِذْ بِهِ يَتِمُّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَ: عنده، معمول: ليشفع، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَشْفَعُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يَشْفَعُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى يَشْفَعُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْحَالُ أَقْوَى لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَشْفَعْ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ وَقَرِيبٌ مِنْهُ، فَشَفَاعَةُ غَيْرِهِ أَبْعَدُ، وَ: بإذنه، متعلق: بيشفع، وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْحَالِ، أَيْ:
لَا أَحَدَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا مَأْذُونًا لَهُ.
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى: مَا، وَهُمُ الْخَلْقُ، وَغَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ، وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ في: أيديهم وخلفهم، عَائِدَانِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْقِلُ مِمَّنْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ: مَنْ ذَا، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَلَائِكَةِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ، وَ: مَا بَيْنَ أيديهم، أمر الآخرة، و: ما خَلْفَهُمْ، أَمْرُ الدُّنْيَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، أو الْعَكْسُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جريح، والحم بْنُ عُتْبَةَ، وَالسُّدِّيُّ وَأَشْيَاخُهُ.
وَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، هُوَ مَا قَبْلَ خَلْقِهِمْ، و: ما خَلْفَهُمْ، هُوَ مَا بَعْدَ خَلْقِهِمْ، أَوْ: مَا بَيْنَ أيديهم، ما أظهروه، و: ما خَلْفَهُمْ، مَا كَتَمُوهُ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، أَوْ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، و: ما خلفهم، ما في السموات. أو: ما بين أيديهم، الْحَاضِرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، و: ما خَلْفَهُمْ، مَا سَيَكُونُ. أَوْ: عَكْسُهُ، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَاجُ الْقُرَّاءِ فِي تَفْسِيرِهِ.
أَوْ: مَا بَيْنَ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ أَمْرِ الشَّفَاعَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا أَوْ بِالْعَكْسِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. أَوْ مَا فَعَلُوهُ وَمَا هُمْ فَاعِلُوهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَكَنَّى بِهَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ عَنْ سَائِرِ جِهَاتِ مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِهِ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَبَ زِيدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، وَأَنْتَ تَعْنِي بِذَلِكَ جَمِيعَ جَسَدِهِ، وَاسْتُعِيرَتِ الْجِهَاتُ لِأَحْوَالِ الْمَعْلُومَاتِ،
611
فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِسَائِرِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَلَا يُرَادُ بِمَا بَيْنَ الْأَيْدِي وَلَا بِمَا خَلْفَهُمْ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ. كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ الْإِحَاطَةُ تَقْتَضِي الْحُفُوفَ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَالِاشْتِمَالَ عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ هُنَا الْمَعْلُومُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لَا يَتَبَعَّضُ، كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ
، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومَاتُ، وَقَالُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ عِلْمَكَ فِينَا، أَيْ مَعْلُومَكَ، وَالْمَعْنَى: لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ مَعْلُومُ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا مَا شَاءَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِلَّا بِمَا أَنْبَأَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ تَثْبِيتًا لِنُبُوَّتِهِمْ.
وَ: بِشَيْءٍ، وبما شاء، متعلقان: بيحيطون، وَصَارَ تَعَلُّقَ حَرْفَيْ جَرٍّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِعَامِلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، نَحْوُ قَوْلِكَ: لَا أَمُرُّ بِأَحَدٍ إِلَّا بِزَيْدٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُقَدِّرَ مَفْعُولَ شَاءَ أَنْ يُحِيطُوا بِهِ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: وَلَا يُحِيطُونَ عَلَى ذَلِكَ.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَسِعَ بِكَسْرِ السِّينِ، وقرىء شاذا بسكونها، وقرىء أَيْضًا شَاذًّا وَسْعُ بِسُكُونِهَا وضم العين، والسموات وَالْأَرْضُ بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأً، وَخَبَرًا، وَالْكُرْسِيُّ: جِسْمٌ عَظِيمٌ يَسَعُ السموات وَالْأَرْضَ، فَقِيلَ: هُوَ نَفْسُ الْعَرْشِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: دُونَ الْعَرْشِ وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقِيلَ: تَحْتَ الْأَرْضِ كَالْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ، عَنِ السُّدِّيِّ وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ قَدَمَيِ الرُّوحِ الْأَعْظَمِ، أَوْ: مَلَكٌ آخَرُ عَظِيمُ الْقَدْرِ. وَقِيلَ: السُّلْطَانُ وَالْقُدْرَةُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ الْكُرْسِيَّ، وَسَمَّى الْمُلْكَ بِالْكُرْسِيِّ لِأَنَّ الْمُلْكَ فِي حَالِ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ بِاسْمِ مَكَانِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ عَلِمَ الْقُدُّوسُ مَوْلَى الْقُدْسِ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
فِي مَعْدِنِ الْمُلْكِ الْقَدِيمِ الْكُرْسِيِّ وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ الْعِلْمُ. لِأَنَّ مَوْضِعَ الْعَالِمِ هُوَ الْكُرْسِيُّ، سُمِّيَتْ صِفَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكَانِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعُلَمَاءِ: كَرَاسِيُّ، لِأَنَّهُمُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: أَوْتَادُ الْأَرْضِ، وَمِنْهُ الْكَرَّاسَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
612
أَيْ: تَرْجِعُ، وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ السر قال الشاعر:
تَحِفُّ بِهِمْ بِيضُ الْوُجُوهِ وَعُصْبَةُ كَرَاسِيٍّ بِالْأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
مالي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ وَلَا بِكُرْسِيِّ عِلْمِ اللَّهِ مَخْلُوقُ
وَقِيلَ: الْكُرْسِيُّ: مَلَكٌ مِنَ الملائكة يملأ السموات وَالْأَرْضَ، وَقِيلَ: قُدْرَةُ اللَّهِ، وَقِيلَ:
تَدْبِيرُ اللَّهِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ: هُوَ الْأَصْلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. قَالَ الْمَغْرِبِيُّ: مِنْ تَكَرَّسَ الشَّيْءُ تَرَاكَبَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَكْرَسْتُهُ أَنَا، قَالَ الْعَجَّاجُ:
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكَرَّسًا... قَالَ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأُكَرِّسَا
وَقَالَ آخَرُ:
نَحْنُ الْكَرَاسِيُّ لَا تُعَدُّ هَوَازَنُ أَمْثَالَنَا فِي النَّائِبَاتِ وَلَا الْأَشَدِّ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحُدُهَا: أَنَّ كُرْسِيَّهُ لم يضق عن السموات وَالْأَرْضِ لِبَسْطَتِهِ وَسِعَتِهِ، وَمَا هُوَ إِلَّا تَصْوِيرٌ لِعَظَمَتِهِ وَتَخْيِيلٌ فَقَطْ، وَلَا كُرْسِيَّ ثَمَّةَ، وَلَا قُعُودَ، وَلَا قَاعِدَ، لِقَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «١» مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ قَبْضَةٍ وَطَيٍّ وَيَمِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ لِعَظَمَةِ شَأْنِهِ، وَتَمْثِيلٌ حِسِّيٌّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «٢» ؟ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ.
وَاخْتَارَ الْقَفَّالُ مَعْنَاهُ قَالَ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ وَتَعْزِيزِهِ، خَاطَبَ الْخَلْقَ فِي تَعْرِيفِ ذَاتِهِ بِمَا اعْتَادُوهُ فِي مُلُوكِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ.
وَقِيلَ: كُرْسِيُّ لُؤْلُؤٍ، طُولُ الْقَائِمَةِ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَطُولُ الْكُرْسِيِّ حَيْثُ لَا يَعْلَمُهُ الْعَالِمُونَ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ الْكُرْسِيَّ مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ، وَالْعَرْشُ أَعْظَمُ مِنْهُ،
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا السموات السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ».
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ».
وَهَذِهِ الْآيَةُ مُنْبِئَةٌ عَنْ عِظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ. انتهى كلامه.
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٦٧.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٩١. والحج: ٢٢/ ٧٤. والزمر: ٣٩/ ٦٧.
613
وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما قرأ الجمهور: يؤوده بالهمز، وقرىء شَاذًّا بِالْحَذْفِ، كَمَا حُذِفَتْ همزة أناس، وقرىء أيضا: يووده، بِوَاوٍ مَضْمُومَةٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْهَمْزَةِ أَيْ:
لَا يَشُقُّهُ، وَلَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ تَغْلَبٍ:
لَا يَتَعَاظَمُهُ حِفْظُهُمَا، وَقِيلَ: لَا يَشْغَلُهُ حفظ السموات عَنْ حِفْظِ الْأَرَضِينَ، وَلَا حِفْظُ الْأَرَضِينَ عَنْ حِفْظِ السموات.
وَالْهَاءُ تَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: تَعُودُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِتَكُونَ الضَّمَائِرُ مُتَنَاسِبَةً لِوَاحِدٍ وَلَا تَخْتَلِفُ، وَلِبُعْدِ نِسْبَةِ الْحِفْظِ إِلَى الْكُرْسِيِّ.
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ عَلِيٌّ فِي جَلَالِهِ، عَظِيمٌ فِي سُلْطَانِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِي كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ، وَقِيلَ: الْعَظِيمُ الْمُعَظَّمُ، كَمَا يُقَالُ: الْعَتِيقُ فِي الْمُعَتَّقِ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَكَأَنَّ الْخَمْرَ الْعَتِيقَ مِنَ الْإِسْ فَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلَالِ
وَأُنْكِرَ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ هَذَا الْوَصْفِ قَبْلَ الْخَلْقِ وَبَعْدَ فَنَائِهِمْ، إِذْ لَا مُعَظِّمَ لَهُ حِينَئِذٍ، فَلَا يَجُوزُ هَذَا الْقَوْلُ. وَقِيلَ: وَالْجَوَابُ أَنَّهَا صِفَةُ فِعْلٍ: كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، فَلَا يَلْزَمُ مَا قَالُوهُ. وَقِيلَ:
الْعَلِيُّ الرَّفِيعُ فَوْقَ خَلْقِهِ، الْمُتَعَالِي عَنِ الْأَشْبَاهِ وَالْأَنْدَادِ، وَقِيلَ: الْعَالِي مِنْ: عَلَا يَعْلُو:
ارْتَفَعَ، أَيِ: الْعَالِي عَلَى خَلْقِهِ بِقُدْرَتِهِ، وَالْعَظِيمُ ذُو الْعَظَمَةِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، فَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَلِيِّ وَالْعَالِي وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَالِيَ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي مَحَلِّ الْعُلُوِّ، وَالْعَلِيُّ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُلُوِّ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَالِيَ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُشَارَكَ، وَالْعَلِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارَكَ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِالْعَلِيِّ لَا بِالْعَالِي، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِمَا، وَقِيلَ: الْعَلِيُّ: الْقَاهِرُ الْغَالِبُ لِلْأَشْيَاءِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: عَلَا فُلَانٌ فُلَانًا غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ تَرَكْنَاهُمْ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ
وَمِنْهُ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «١» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعَلِيُّ الشَّأَنُ الْعَظِيمُ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ قَوْمٌ: الْعَلِيُّ عَنْ خَلْقِهِ بِارْتِفَاعِ مَكَانِهِ عَنْ أَمَاكِنِ خَلْقِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلُ جَهَلَةٍ مُجَسِّمِينَ، وَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ لَا يُحْكَى. وَقَالَ أَيْضًا: الْعَلِيُّ يُرَادُ بِهِ عُلُوُّ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ، لَا عُلُوُّ الْمَكَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عن التحيز. انتهى.
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٤.
614
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الْجُمَلُ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ عَطْفٍ؟
قُلْتُ: مَا مِنْهَا جُمْلَةٌ إِلَّا وَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ لِمَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ، وَالْبَيَانُ مُتَّحِدٌ بِالْمُبِينِ، فَلَوْ تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا عَطْفٌ لَكَانَ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: بَيْنَ الْعَصَا ومحائها، فَالْأُولَى: بَيَانٌ لِقِيَامِهِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ وَكَوْنِهِ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ غَيْرَ سَاهٍ عَنْهُ وَالثَّانِيَةُ: لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِمَا يُدَبِّرُهُ.
وَالثَّالِثَةُ: لِكِبْرِيَاءِ شَأْنِهِ، وَالرَّابِعَةُ: لِإِحَاطَتِهِ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ وَعِلْمِهِ بِالْمُرْتَضِي مِنْهُمُ الْمُسْتَوْجِبُ لِلشَّفَاعَةِ وَغَيْرِ الْمُرْتَضِي. وَالْخَامِسَةُ: لِسِعَةِ عِلْمِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا، أَوْ:
بِجَلَالِهِ وَعِظِيمِ قَدْرِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ صِفَاتِ الذَّاتِ، مِنْهَا: الْوَحْدَانِيَّةُ، بِقَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَالْحَيَاةُ، الدَّالَّةُ عَلَى الْبَقَاءِ بِقَوْلِهِ: الحي، و: القدرة، بِقَوْلِهِ: الْقَيُّومُ، وَاسْتَطْرَدَ مِنَ القيومية لانتفاء ما يؤول إِلَى الْعَجْزِ، وَهُوَ مَا يَعْرِضُ لِلْقَادِرِ غَيْرُهُ تَعَالَى مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْآفَاتِ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ وَصْفُهُ بِالْقُدْرَةِ إِذْ ذَاكَ، وَاسْتَطْرَدَ مِنَ الْقَيُّومِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقُدْرَةِ إِلَى مُلْكِهِ وَقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ لِمَا في السموات وَالْأَرْضِ، إِذِ الْمُلْكُ آثَارُ الْقُدْرَةِ، إِذْ لِلْمَالِكِ التَّصَرُّفُ في المملوك.
و: الارادة، بقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهَذَا دَالٌّ عَلَى الْاخْتِيارِ وَالْإِرَادَةِ، و: العلم بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ثُمَّ سَلَبَ عَنْهُمُ الْعِلْمَ، إِلَّا أَنْ أَعْلَمَهُمْ هُوَ تَعَالَى، فَلَمَّا تَكَمَّلَتْ صِفَاتُ الذَّاتِ الْعُلَا، وَانْدَرَجَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَانْتَفَى عَنْهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، خَتَمَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ: الْعَلِيُّ الْقَدْرِ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ.
لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَقْوَالٌ مَضْمُونُ أَكْثَرِهَا: أَنَّ بَعْضَ أَوْلَادِ الْأَنْصَارِ تَنَصَّرَ، وَبَعْضَهُمْ تَهَوَّدَ، فَأَرَادَ آبَاؤُهُمْ أَنْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ أَنَسٌ: نَزَلَتْ فِيمَنْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أَسْلِمْ». فَقَالَ: أَجِدُنِي كَارِهًا.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَهِيَ مَنْسُوخَةٌ؟ أَمْ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ؟ فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَهِيَ مِنْ آيَاتِ الْمُوَادَعَةِ الَّتِي نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ، وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ خَاصَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ الْجِزْيَةَ، قَالَا: أُمِرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، ثُمَّ أُمِرَ فِيمَنْ سِوَاهُمْ أَنْ يَقْبَلَ الْجِزْيَةَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ سِوَى قُرَيْشٍ، فَتَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً فِيمَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ لَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا إِكْرَاهَ بَعْدَ إِسْلَامِ الْعَرَبِ، وَيَقْبَلُ
615
الْجِزْيَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تَنْسِبُوا إِلَى الْكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا، يُقَالُ: أَكْفَرَهُ نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُونِي بِحُبِّهِمْ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا: مُسِيءٌ وَمُذْنِبُ
وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ خَرَجَ إِلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَالْقَفَّالُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا بَنَى تَعَالَى أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَإِنَّمَا بَنَاهُ عَلَى التَّمَكُّنِ وَالِاخْتِيَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ بَيَانًا شَافِيًا، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ يَبْقَ عُذْرٌ فِي الْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يُقْسَرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَيُجْبَرَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ فِي دَارِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ دَارُ الْابْتِلَاءِ، إِذْ فِي الْقَهْرِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ بُطْلَانُ مَعْنَى الْابْتِلَاءِ. وَيُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ بَعْدُ: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يَعْنِي: ظَهَرَتِ الدَّلَائِلُ وَوَضَحَتِ الْبَيِّنَاتُ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا إِلَّا طَرِيقُ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ لِأَنَّهُ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ وَالْقَفَّالُ لَائِقٌ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَجْرِ اللَّهُ أَمْرَ الْإِيمَانِ عَلَى الْإِجْبَارِ وَالْقَسْرِ، وَلَكِنْ عَلَى التَّمْكِينِ وَالْاخْتِيَارِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «١» أَيْ: لَوْ شَاءَ لَقَسَرَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْاخْتِيارِ.
وَالدِّينُ هُنَا مِلَّةُ الْإِسْلَامِ وَاعْتِقَادُهُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَقِيلَ: بَدَلٌ مِنَ الْإِضَافَةِ أَيْ: فِي دِينِ اللَّهِ.
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أَيِ: اسْتَبَانَ الْإِيمَانُ مِنَ الْكُفْرِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الدِّينَ هُوَ مُعْتَقَدُ الْإِسْلَامِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرُّشْدُ، عَلَى وَزْنِ الْقُفْلِ، وَالْحَسَنُ: الرُّشْدُ، عَلَى وَزْنِ الْعُنُقِ. وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الرُّشْدُ، عَلَى وَزْنِ الْجُبْلِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الرَّشَادُ، بِالْأَلِفِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى إِدْغَامِ دَالِ، قَدْ، فِي: تاء، تبين. وقرىء شَاذًّا بِالْإِظْهَارِ، وَتَبَيَّنَ الرُّشْدَ، بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ وَبِعْثَةِ الرَّسُولِ الدَّاعِي إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَأَنَّهَا كَالْعِلَّةِ لِانْتِفَاءِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ، لِأَنَّ وُضُوحَ الرُّشْدِ وَاسْتِبَانَتَهُ تحمل عَلَى الدُّخُولِ فِي الدِّينِ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ.
(١) سورة يونس: ١٠/ ٩٩.
616
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى الطَّاغُوتِ:
الشَّيْطَانُ. قَالَهُ عُمَرُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. أَوِ: السَّاحِرُ، قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ. أَوِ: الْكَاهِنُ، قَالَهُ جَابِرٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَرَفِيعٌ، وابن جريح. أَوْ: مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِمَّنْ يَرْضَى ذَلِكَ: كَفِرْعَوْنَ، وَنُمْرُوذَ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. أَوِ: الْأَصْنَامُ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ.
وَيَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا تَمْثِيلًا، لِأَنَّ الطَّاغُوتَ مَحْصُورٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ لِيُظْهِرَ الِاهْتِمَامَ بِوُجُوبِ الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ. انْتَهَى.
وَنَاسَبَ ذَلِكَ أَيْضًا اتِّصَالُهُ بِلَفْظِ الْغَيِّ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ بِهَا هُوَ رَفْضُهَا، وَرَفَضُ عِبَادَتِهَا، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا لَا تَسْتَلْزِمُ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ، إِذْ قَدْ يَرْفُضُ عِبَادَتَهَا وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، لَكِنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِذِكْرِ الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ عَلَى الِانْسِلَاخِ بِالْكُلِّيَّةِ، مِمَّا كَانَ مُشْتَبَهًا بِهِ، سَابِقًا لَهُ قَبْلَ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ فِي النَّصِّيَّةِ عَلَيْهِ مَزِيدُ تَأْكِيدٍ عَلَى تَرْكِهِ.
وَجَوَابُ الشَّرْطِ: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ، وَأُبْرِزَ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي الْمَقْرُونِ بِقَدِ الدَّالَّةِ فِي الْمَاضِي عَلَى تَحْقِيقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مِمَّا وَقَعَ اسْتِمْسَاكُهُ وَثَبَتَ وَذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ، وَ: بِالْعُرْوَةِ، متعلق باستمسك، جَعَلَ مَا تُمْسِكُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ عُرْوَةً، وَهِيَ فِي الْأَجْرَامِ مَوْضِعُ الْإِمْسَاكِ وَشَدُّ الْأَيْدِي شَبَّهَ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْمَعْلُومِ بِالنَّظَرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمُشَاهَدِ الْمَحْسُوسِ، حَتَّى يَتَصَوَّرَهُ السَّامِعُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَيَحْكُمُ اعْتِقَادُهُ وَالتَّيَقُّنُ.
وَالْمُشَبَّهُ بِالْعُرْوَةِ الْإِيمَانُ، قَالَهُ: مُجَاهِدٌ. أَوِ: الْإِسْلَامُ قَالَهُ السُّدِّيُّ أَوْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، أَوِ: الْقُرْآنُ، قَالَهُ السُّدِّيُّ أَيْضًا، أَوِ: السُّنَّةُ، أَوِ:
التَّوْفِيقُ. أَوِ: الْعَهْدُ الْوَثِيقُ. أَوِ: السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى رِضَا اللَّهِ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.
لَا انْفِصامَ لَها لَا انْكِسَارَ لَهَا وَلَا انْقِطَاعَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الِانْفِصَامُ وَالِانْقِصَامُ هُمَا لُغَتَانِ، وَبِالْفَاءِ أَفْصَحُ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: الْفَصْمُ انْكِسَارٌ بِغَيْرِ بَيْنُونَةٍ، وَالْقَصْمُ انْكِسَارٌ بِبَيْنُونَةٍ.
617
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الحال من الْعُرْوَةِ، وَقِيلَ: مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي الْوُثْقَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا مِنَ اللَّهِ عَنِ الْعُرْوَةِ، و: لها، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: كَائِنٌ لَهَا.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَتَى بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ مِمَّا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ وَيَعْتَقِدُهُ الْجِنَانُ، فَنَاسَبَ هَذَا ذِكْرَ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَقِيلَ: سَمِيعٌ لِدُعَائِكَ يَا مُحَمَّدُ، عَلِيمٌ بِحِرْصِكَ وَاجْتِهَادِكَ.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ الْوَلِيُّ، هُنَا النَّاصِرُ وَالْمُعِينُ أَوِ الْمُحِبُّ أَوْ مُتَوَلِّي أُمُورَهُمْ، وَمَعْنَى: آمَنُوا، أَرَادُوا أن يؤمنوا، والظلمات: هُنَا الْكُفْرُ، وَالنُّورُ الْإِيمَانُ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ. قِيلَ: وَجُمِعَتِ الظُّلُمَاتِ لِاخْتِلَافِ الضَّلَالَاتِ، وَوُحِّدَ النُّورِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَاحِدٌ.
وَالْإِخْرَاجُ هُنَا إِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ كَافِرًا ثُمَّ آمَنَ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ مَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي الظُّلُمَاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى يُخْرِجُهُمْ يَمْنَعُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ خَلَا عَنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ لَوَقَعَ فِي الظُّلُمَاتِ، فَصَارَ تَوْفِيقُهُ سَبَبًا لَدَفْعِ تِلْكَ الظُّلْمَةِ، قَالُوا: وَمِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ شَائِعٌ سَائِغٌ فِي كَلَامِهِمْ، كَمَا قَالَ طُفَيْلٌ الْغَنَوِيُّ:
فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ غَيْرَ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ، وَهُوَ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «١» فَإِنَّهُ أَرَادَ بِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ نُفُوسِهِمْ إِلَى آدَابِهَا: كَالرِّضَا وَالصِّدْقِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ.
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: يُخْرِجُهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْوَحْشَةِ وَالْفُرْقَةِ إِلَى نُورِ الْوَصْلَةِ وَالْأُلْفَةُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: آمَنُوا أَرَادُوا أَنْ يُؤْمِنُوا، تَلَطَّفَ بِهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ بِلُطْفِهِ وَتَأْيِيدِهِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، أَوِ: اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الشُّبَهِ فِي الدِّينِ إِنْ وقعت لهم، بما
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١.
618
يَهْدِيهِمْ وَيُوَفِّقُهُمْ لَهَا مِنْ حَلِّهَا، حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى نُورِ الْيَقِينِ. انْتَهَى. فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: آمَنُوا عَلَى حَقِيقَتِهِ.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَبَدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ آمَنُوا بِعِيسَى، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَرُوا بِهِ، فَذَلِكَ إِخْرَاجُهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتِفْتَاحِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كُفْرِهِمْ بِهِ، وَقِيلَ: مِنْ فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الْإِقْرَارِ بِالْمِيثَاقِ، وَقِيلَ: مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ إِلَى النِّفَاقِ. وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْعَذَابِ فِي النَّارِ.
وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الْحَقِّ إِلَى ظُلْمَةِ الْهَوَى. وَقِيلَ: مِنْ نُورِ الْعَقْلِ إِلَى ظُلْمَةِ الْجَهْلِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ نُورِ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ لَهُمْ إِلَى ظُلُمَاتِ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَفْظُ الْآيَةِ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّخْصِيصِ، بَلْ هُوَ مُتَرَتِّبٌ فِي كُلِّ أُمَّةٍ كَافِرَةٍ آمَنَ بَعْضُهَا كَالْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فَاللَّهُ وَلِيُّهُ، أَخْرَجَهُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ وُجُودِ الدَّاعِي، النَّبِيِّ الْمُرْسَلِ، فَشَيْطَانُهُ وَمُغْوِيهِ كَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، إِذْ هُوَ مُعَدٌّ، وَأَهْلٌ لِلدُّخُولِ فِيهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ مَنْعَكَ الدُّخُولَ فِي أَمْرٍ:
أَخْرَجْتَنِي يَا فُلَانُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ أَلْبَتَّةَ. انْتَهَى.
وَالْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ: الصَّنَمُ، لِقَوْلِهِ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «١» وَقِيلَ:
الشَّيَاطِينُ وَالطَّاغُوتُ اسْمُ جِنْسٍ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: الطَّوَاغِيتُ بِالْجَمْعِ.
وَقَدْ تَبَايَنَ الْإِخْبَارُ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ، فَاسْتُفْتِحَتْ آيَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ تَشْرِيفًا لَهُمْ إذ بدىء فِي جُمْلَتِهِمْ بِاسْمِهِ تَعَالَى، وَلِقُرْبِهِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَاسْتُفْتِحَتْ آيَةُ الْكَافِرِينَ بِذِكْرِهِمْ نَعْيًا عَلَيْهِمْ، وَتَسْمِيَةً لَهُمْ بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الْقَبِيحِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّ أَوْلِيَاءَهُمُ الطَّاغُوتُ، وَلَمْ يُصَدِّرِ الطَّاغُوتَ اسْتِهَانَةً بِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْعَلَ مُقَابِلًا لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ عكس الإخبار فيه فابتدأ بِقَوْلِهِ:
أَوْلِيَاؤُهُمْ، وَجُعِلَ الطَّاغُوتُ خَبَرًا. كَأَنَّ الطَّاغُوتَ هُوَ مَجْهُولٌ. أَعْلَمَ الْمُخَاطَبَ بِأَنَّ أولياء
(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣٦.
619
الْكُفَّارِ هُوَ الطَّاغُوتُ، وَالْأَحْسَنُ فِي: يُخْرِجُهُمْ وَيُخْرِجُونَهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْوِلَايَةِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بَيَّنَ وَجْهَ الْوِلَايَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، بِأَنَّهَا إِخْرَاجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَكَذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: يُخْرِجُهُمْ، حَالًا وَالْعَامِلُ فِيهِ: وَلِيُّ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ: يُخْرِجُونَهُمْ، حَالًا وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى الطَّاغُوتِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ: مِنْ نَصْبِ: نَزَّاعَةً، عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا: لَظَى، وَسَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ الله و: من، و: إلى، متعلقان بيخرج.
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَذَكَرُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أنواعا من الفصاحة وَعِلْمِ الْبَيَانِ، مِنْهَا فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ:
حُسْنُ الِافْتِتَاحِ لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِأَجَلِّ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكْرَارُ اسْمِهِ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا، وَتَكْرِيرُ الصِّفَاتِ، وَالْقَطْعُ لِلْجُمَلِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَصِلْهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ. وَالطِّبَاقِ:
فِي قَوْلِهِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ فَإِنَّ النَّوْمَ مَوْتٌ وَغَفْلَةٌ، وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ يُنَاقِضُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ وَالتَّشْبِيهُ: فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَيْ كَوَسَعِ، فَإِنْ كَانَ الْكُرْسِيُّ جَرْمًا فَتَشْبِيهُ مَحْسُوسٍ بِمَحْسُوسٍ، أَوْ مَعْنًى فَتَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَمَعْدُولُ الْخِطَابِ فِي لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى لَا تُكْرِهُوا عَلَى الدِّينِ أَحَدًا. وَالطِّبَاقُ: أَيْضًا فِي قَوْلِهِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَفِي قَوْلِهِ: آمَنُوا وكَفَرُوا وَفِي قَوْلِهِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالتَّكْرَارُ: فِي الْإِخْرَاجِ لِتَبَايُنِ تَعْلِيقِهِمَا، وَالتَّأْكِيدُ:
بِالْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ الْإِشَارَةَ إِلَى الرُّسُلِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَفُسِّرَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وبدىء بِهِ لِتَقَدُّمِهِ فِي الزَّمَانِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَفُسِّرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وذكر ثالثا عيسى بن مَرْيَمَ، فَجَاءَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطًا بَيْنَ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، فَكَانَ كَوَاسِطَةِ الْعِقْدِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ اقْتِتَالَ الْمُتَقَدِّمِينَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ.
620
ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ وَانْقِسَامَهَمْ إِلَى مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ تَوَسُّلٌ بِصَدَاقَةٍ وَلَا شَفَاعَةٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ هُمُ الْمُجَاوِزُونَ الحد الذي حده اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَذَلِكَ عُقَيْبَ ذِكْرِ الْكَافِرِينَ. وذكر أتباع موسى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
ثُمَّ سَرَدَ صِفَاتِهِ الْعُلَا وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُعْتَقَدَ فِي اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا حَيًّا قَائِمًا بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ، لَا يَلْحَقُهُ آفَةٌ، مَالِكًا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمًا بِسَرَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ، لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا يَشَاءُ هُوَ تَعَالَى، وَذَكَرَ عَظِيمَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّ بَعْضَهَا، وَهُوَ الْكُرْسِيُّ، يَسَعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَا يَثْقُلُ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ بَعْدَ وُضُوحِ صِفَاتِهِ الْعُلَا فَ لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَتْ طُرُقُ الرَّشَادِ مِنْ طُرِقِ الْغَوَايَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِالطَّاغُوتِ وَآمَنَ بِاللَّهِ فَهُوَ مُسْتَمْسِكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، عُرْوَةُ الْإِيمَانِ، وَوَصَفَهَا بِالْوُثْقَى لِكَوْنِهَا لَا تَنْقَطِعُ وَلَا تَنْفَصِمُ، وَاسْتَعَارَ لِلْإِيمَانِ عُرْوَةً إِجْرَاءً لِلْمَعْقُولِ مَجْرَى الْمَحْسُوسِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاؤُهُمُ الْأَصْنَامُ وَالشَّيَاطِينُ، وَهُمْ عَلَى الْعَكْسِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ وَأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[سُورَةُ البقرة (٢) : الآيات ٢٥٨ الى ٢٦٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
621
بُهِتَ: تَحَيَّرَ وَدَهِشَ، وَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا عَلَى وَزْنِ فَعَلَ، وَمِنْهُ: فَتَبْهَتُهُمْ، وَلَازِمًا عَلَى وَزْنِ فَعُلَ كَظَرُفَ وَفَعِلَ كَدَهِشَ، وَالْأَكْثَرُ فِي اللَّازِمِ الضَّمُّ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ: بَهَتَ بِفَتْحِ الْهَاءِ لَازِمًا، وَيُقَالُ بَهَتُّهُ وَبَاهَتُّهُ وَاجَهَهُ بِالْكَذِبِ،
وَفِي الْحَدِيثِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ.
الْخَاوِي: الْخَالِي، خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَى غَيْرُ مَمْدُودٍ، وَخُوِيًّا، وَالْأُولَى أَفْصَحُ، وَيُقَالُ خَوَى الْبَيْتُ انْهَدَمَ لِأَنَّهُ بِتَهَدُّمِهِ يَخْلُو مِنْ أَهْلِهِ، وَالْخَوَى: الْجُوعُ: لِخُلُوِّ الْبَطْنِ مِنَ الْغِذَاءِ، وَخَوَّتِ الْمَرْأَةُ وَخَوِيَتْ خَلَا جَوْفُهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَخَوَّيْتُ لَهَا تَخْوِيَةً علمت لَهَا خَوِيَّةً تَأْكُلُهَا، وَهِيَ طَعَامٌ. وَالْخَوِيُّ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ: الْبَطْنُ السَّهْلُ مِنَ الْأَرْضِ، وَخَوَّى الْبَعِيرُ جَافَى بَطْنَهُ عَنِ الْأَرْضِ فِي مَبْرَكِهِ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ فِي سُجُودِهِ قَالَ الرَّاجِزُ:
خَوَّى عَلَى مُسْتَوَيَاتٍ خَمْسٍ كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ
الْعَرْشُ: سَقَفُ الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَا يُهَيَّأُ لِيُظِلَّ أَوْ يَكُنَّ فَهُوَ عَرِيشٌ الدَّالِيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى:
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ «١»
وَفِي الْحَدِيثِ لَمَّا أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَالُوا: نَبْنِيهِ لَكَ بُنْيَانًا قَالَ: «لَا بَلْ عَرْشٌ كَعَرْشِ أَخِي مُوسَى» فَوَضَعُوا النَّخْلَ عَلَى الْحِجَارَةِ وَغَشُّوهُ بِالْجَرِيدِ وَسَعَفِهِ
، وَقِيلَ:
الْعَرْشُ الْبُنْيَانُ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنْ يقتلوك فقد ثللث عُرُوشَهُمْ بِعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابِ
مِائَةَ: اسْمٌ لِرُتْبَةٍ مِنَ الْعَدَدِ مَعْرُوفَةٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى مِئَاتٍ وَمِئِينَ، وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ مَحْذُوفَةُ اللَّامِ، وَلَامُهَا يَاءٌ، فَالْأَصْلُ مِئْيَةٌ، وَيُقَالُ: أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ إِذَا صيرتها مائة، وأمأت هي، أي:
صارت مِائَةً.
الْعَامُ: مُدَّةٌ مِنَ الزَّمَانِ مَعْرُوفَةٌ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، لِقَوْلِهِمْ: الْعُوَيْمُ وَالْأَعْوَامُ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الْعَامُ مَصْدَرٌ كَالْعَوْمِ، سُمِّيَ بِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ لِأَنَّهَا عَوْمَةٌ مِنَ الشَّمْسِ في
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٣٧.
622
الْفَلَكِ، وَالْعَوْمُ كَالسَّبْحِ، وَقَالَ تَعَالَى وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «٢» وَالْعَامُ عَلَى هَذَا:
كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ.
اللُّبْثُ: الْمُكْثُ وَالْإِقَامَةُ.
يَتَسَنَّهُ: إِنْ كَانَتِ الْهَاءُ أَصْلِيَّةً فَهُوَ مِنَ السَّنَةِ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لَامَهَا الْمَحْذُوفَ هَاءً، قَالُوا فِي التَّصْغِيرِ: سُنَيْهَةٌ، وَفِي الْجَمْعِ سَنَهَاتٌ. وَقَالُوا: سَانَهْتُ وَأَسْنَهْتُ عِنْدَ بَنِي فُلَانٍ، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رُجَبِيَّةٍ وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ الْجَوَائِحِ
وَإِنْ كَانَتِ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُبَرِّدِ، فَلَامُ الْكَلِمَةِ مَحْذُوفَةٌ لِلْجَازِمِ، وَهِيَ أَلْفٌ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لَامَ سَنَةٍ الْمَحْذُوفَ وَاوًا. لِقَوْلِهِمْ: سُنَيَّةٌ وَسَنَوَاتٌ، وَاشْتُقَّ مِنْهُ الْفِعْلُ، فَقِيلَ: سَانَيْتُ وَأَسْنَى وَأَسْنَتْ. أُبْدِلَ مِنَ الْوَاوِ تَاءٌ، أَوْ تَكُونُ الْأَلِفُ مُنْقَلِبَةً عَنْ يَاءٍ مُبْدَلَةٍ مِنْ نُونٍ، فَتَكُونُ مِنَ الْمَسْنُونِ أَيِ: الْمُتَغَيِّرِ، وَأُبْدِلَتْ كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ الْأَمْثَالِ، كَمَا قَالُوا: تَظَنِّي، ويتلعى الأصل تظنن ويتلعع، قاله أبو عمر، وَخَطَّأَهُ الزَّجَّاجُ. قَالَ: لِأَنَّ الْمَسْنُونَ: الْمَصْبُوبُ عَلَى سُنَّةِ الطَّرِيقِ وَصَوْبِهِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَرَدَّ النُّحَاةُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ لأنه لو كان من أَسِنَ الْمَاءُ لَجَاءَ لَمْ يَتَأَسَّنْ، لِأَنَّكَ لَوْ بَنَيْتَ تَفْعَلُ مِنَ الْأَكْلِ لَقَلَّتْ تَأْكُلُ، وَيَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ النَّقَّاشُ عَلَى اعْتِقَادِ الْقَلْبِ، وَجَعْلِ فَاءِ الْكَلِمَةِ مَكَانَ اللَّامِ، وَعَيْنِهَا مَكَانَ الْفَاءِ، فَصَارَ: تَسْنَأَ، وَأَصْلُهُ تَأَسَّنَ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ كَمَا قَالُوا فِي: هَدَأَ وَقَرَأَ واستقر، أهدا وَقَرَا وَاسْتَقْرَا.
الْحِمَارُ: هُوَ الْحَيَوَانُ الْمَعْرُوفُ، وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى: أَفْعِلَةٍ قَالُوا: أَحْمِرَةٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى: فُعُلٍ، قَالُوا: حُمُرٍ، وَعَلَى: فَعِيلٍ، قَالُوا: حَمِيرٍ.
أَنْشَرَ: اللَّهُ الْمَوْتَى، وَنَشَرَهُمْ، وَنَشَرَ الْمَيِّتُ حَيَّى قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وَأَمَّا: أَنْشُزُ، بِالزَّايِ فَمِنَ النَّشْزِ، وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَعْنَى: أَنْشَزَ الشَّيْءَ جَعَلَهُ نَاشِزًا، أَيْ: مُرْتَفِعًا، وَمِنْهُ: انْشُزُوا فَانْشُزُوا، وَامْرَأَةٌ نَاشِزٌ، أَيْ: مُرْتَفِعَةٌ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا مَعَ الزَّوْجِ.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٣. ويس: ٣٦/ ٤٠.
623
الطُّمَأْنِينَةُ: مَصْدَرُ اطْمَأَنَّ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ: وَالْقِيَاسُ الْاطْمِئْنَانُ، وَهُوَ: السُّكُونُ، وَطَامَنْتُهُ أَسْكَنْتُهُ، وَطَامَنْتُهُ فَتَطَامَنَ: خَفَّضْتُهُ فَانْخَفَضَ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي اطْمَأَنَّ أَنَّهُ مِمَّا قُدِّمَتْ فِيهِ الْمِيمُ عَلَى الْهَمْزَةِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ، وَمَذْهَبُ الْجَرْمِيِّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي اطْمَأَنَّ كَأُطَامِنُ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ.
الطَّيْرُ: اسْمُ جَمْعٍ: كَرَكْبٍ وَسَفَرٍ، وَلَيْسَ بِجَمْعٍ خِلَافًا لِأَبِي الْحَسَنِ.
صَارَ: يَصُورُ قَطَعَ. وَانْصَارَ: انْقَطَعَ، وَصُرْتُهُ أَصُورُهُ: أَمَلْتُهُ، وَيُقَالُ أَيْضًا فِي الْقَطْعِ وَالْإِمَالَةِ: صَارَهُ يُصَيِّرُهُ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الضَّمُّ فِي الصَّادِ يَحْتَمِلُ الْإِمَالَةَ وَالتَّقْطِيعَ، وَالْكَسْرُ فِيهَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْقَطْعَ، وَقَالَ أَيْضًا: صَارَهُ مَقْلُوبُ صَرَّاهُ عَنْ كَذَا، أَيْ: قَطَعَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْكَسْرُ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، وَالضَّمُّ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ.
الْجَبَلُ: مَعْرُوفٌ وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ عَلَى: أَجْبَالٍ وَأَجْبُلٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى: جِبَالٍ.
الْجُزْءُ: مِنَ الشَّيْءِ، الْقِطْعَةُ مِنْهُ وَجَزَّأَ الشَّيْءَ جَعَلَهُ قِطَعًا.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا أخبر أنه ولي الذين آمنوا، وأخبر: أن الكفار أولياؤهم الطاغوت، ذكر هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي حَاجَّهُ، وَأَنَّهُ نَاظَرَ ذَلِكَ الْكَافِرَ فَغَلَبَهُ وَقَطَعَهُ، إِذْ كَانَ اللَّهُ وَلِيَّهُ، وَانْقَطَعَ ذَلِكَ الْكَافِرُ وَبُهِتَ إِذْ كَانَ وَلَيُّهُ هُوَ الطَّاغُوتَ: أَلَا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «١» أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «٢» فَصَارَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ اللَّذَيْنِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ «٣» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَمْ تَرْ، بِسُكُونِ الرَّاءِ
، وَهُوَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَالَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ: هو نمروذ بْنُ كَنْعَانَ بْنِ كُوشِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، مَلِكُ زَمَانِهِ وَصَاحِبُ النَّارِ وَالْبَعُوضَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ أَوَّلُ مَلَكٍ فِي الْأَرْضِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
هُوَ أَوَّلُ مَنْ تَجَبَّرَ، وَهُوَ صَاحِبُ الصَّرْحِ ببابل. قيل: إِنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا وَنَفَذَتْ فِيهَا طِينَتُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَلَكَ الْأَرْضَ مُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَكَافِرَانِ: نُمْرُوذُ وَبُخْتُ نَصَّرَ. وَقِيلَ: هو نمروذ بن يحاريب بن كوش بن كنعان بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وقيل: نمروذ بن
(١) سورة المائدة: ٥/ ٥٦.
(٢) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢٢.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٣.
624
فَايِخَ بْنِ عَابِرَ بْنِ سَايِخَ بْنِ أَرْفَخْشَدَه بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ: النُّمْرُوذُ بْنُ كوش بن كنعان بن حَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ مَلِكًا عَلَى السُّودَانِ، وَكَانَ مَلِكُهُ الضَّحَّاكَ الَّذِي يُعْرَفُ بالازدهاق، واسمه اندراوست ابن انْدِرَشْتَ، وَكَانَ مَلِكَ الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ أفريدون ابن أَهْبَانَ، وَفِيهِ يَقُولُ أَبُو تَمَّامٍ حَبِيبُ فِي قَصِيدٍ مَدَحَ بِهِ الْأُفْشِينَ، وَذَكَرَ أخذه بابك الْخَرْمِيَّ:
بَلْ كَانَ كَالضَّحَّاكِ فِي فَتَكَاتِهِ بِالْعَالَمِينَ، وَأَنْتَ أَفْرِيدُونُ
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَلَبَ وَقَطَعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلَ، وَمَلَكَ نُمْرُوذُ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ فيما ذكروا: وَلَهُ ابْنٌ يُسَمَّى نُمْرُوذُ الْأَصْغَرُ مَلَكَ عَامًا وَاحِدًا.
وَمَعْنَى: حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَيْ: عَارَضَ حُجَّتَهُ بِمِثْلِهَا، أَوْ: أَتَى عَلَى الْحُجَّةِ بِمَا يُبْطِلُهَا، أَوْ: أَظْهَرَ الْمُغَالَبَةَ فِي الْحُجَّةِ. ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ الْمُحَاجَّةِ،
فَقِيلَ: خَرَجُوا إِلَى عِيدٍ لَهُمْ، فَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى أَصْنَامِهِمْ فَكَسَّرَهَا، فَلَمَّا رَجَعُوا قَالَ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ؟ فَقَالَ لَهُ: فَمَنْ تَعْبُدُ؟ قَالَ: أَعْبُدُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَقِيلَ: كَانَ نُمْرُوذُ يَحْتَكِرُ، فَإِذَا احْتَاجُوا اشْتَرَوْا مِنْهُ الطَّعَامَ، فَإِذَا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَجَدُوا لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ، فقال: مالك لَمْ تَسْجُدْ لِي؟
فَقَالَ: أَنَا لَا أَسْجُدُ إِلَّا لِرَبِّي! فَقَالَ لَهُ نُمْرُوذُ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.
وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ كُلَّمَا جَاءَ قَوْمٌ قَالَ مَنْ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ، فَيَقُولُ:
مِيرُوهُمْ وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ يَمْتَارُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ وَإِلَهُكَ؟ فَقَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ!.
وَقِيلَ: كانت المحاجة بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنَ النَّارِ الَّتِي أَلْقَاهُ فِيهَا النُّمْرُوذُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمِرْهُ النُّمْرُوذُ، مَرَّ عَلَى رَمْلٍ أَعْفَرَ، فَأَخَذَ مِنْهُ وَأَتَى أَهْلَهُ وَنَامَ، فَوَجَدُوهُ أَجْوَدَ طَعَامٍ، فَصَنَعَتْ مِنْهُ وَقَرَّبَتْهُ لَهُ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ! فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ، فَحَمَدَ اللَّهَ.
وَقِيلَ: مَرَّ عَلَى رَمْلَةٍ حَمْرَاءَ، فَأَخَذَ مِنْهَا، فَوَجَدُوهَا حِنْطَةً حَمْرَاءَ، فَكَانَ إِذَا زَرَعَ مِنْهَا جَاءَ سُنْبُلُهُ مِنْ أَصْلِهَا إِلَى فَرْعِهَا حَبًّا مُتَرَاكِبًا.
فِي: رَبِّهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى النُّمْرُوذِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ.
625
أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: آتَاهُ، عَائِدٌ عَلَى: الَّذِي حَاجَّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، و: أن آتَاهُ، مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى الْمُحَاجَّةِ هُوَ إِيتَاؤُهُ الْمُلَكَ، أَبْطَرَهُ وَأَوْرَثَهُ الْكِبَرَ وَالْعُتُوَّ، فَحَاجَّ لِذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَضَعَ الْمُحَاجَّةَ مَوْضِعَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى إِيتَائِهِ الْمُلْكَ، كَمَا تَقُولُ: عَادَانِي فُلَانٌ لِأَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ، تُرِيدُ أَنَّهُ عَكَسَ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُوَالَاةِ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ.
وَمِنْهُ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «١» وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: حَاجَّ وَقْتَ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، فَإِنْ عَنَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، فَيُمْكِنُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِيهِ بُعْدًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُحَاجَّةَ لَمْ تَقَعْ وَقْتَ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ. إِلَّا أَنْ يَجُوزَ فِي الْوَقْتِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ مِنْ أَنَّهُ وَقْتُ ابْتِدَاءِ إِيتَاءِ اللَّهِ الْمُلْكَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِيتَاءَ اللَّهِ الْمُلْكَ إِيَّاهُ سابق على الحاجة وَإِنْ عَنَى أَنَّ: أَنْ وَالْفِعْلَ، وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ ظَرْفِ الزَّمَانِ؟ كَقَوْلِكَ: جِئْتُ خَفُوقَ النَّجْمِ، وَمَقْدَمَ الْحَاجِّ، وَصِيَاحَ الدِّيكِ؟ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ مَضَوْا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ ظَرْفِ الزَّمَانِ إِلَّا الْمَصْدَرُ الْمُصَرِّحُ بِلَفْظِهِ، فَلَا يَجُوزُ: أَجِيِءُ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، وَلَا جِئْتُ أَنْ صَاحَ الدِّيكُ. وَقَالَ الَمَهْدَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: أَيْ آتَاهُ مُلْكَ النُّبُوَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا تَحَامُلٌ مِنَ التَّأْوِيلِ. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ الَمَهْدَوِيُّ احْتِمَالًا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالُوا: الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَا عَنِ الْكَافِرِ الَّذِي حَاجَّهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «٢» وَالْمُلْكُ عَهْدٌ مِنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً «٣» وَرُدَّ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا عُرِفَ بِالْمَلِكِ، وَبِقَوْلِ الْكَافِرِ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، وَلَوْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ الْمَلِكَ لَمَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى مُحَاجَّتِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَبِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، جَاءَ بِرَجُلَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا لَمْ يَقْتُلْ بَيْنَ يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، إِذْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ هُوَ الْمَلِكَ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْأَوْجُهِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ مُلْكِ النُّبُوَّةِ لِإِبْرَاهِيمَ لَا يُنَافِي مُلْكَ الْكَافِرِ، لِأَنَّهُمَا مَلِكَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِفَضْلِ الشَّرَفِ فِي الدِّينِ كَالنُّبُوَّةِ وَالْإِمَامَةِ. وَالْآخَرُ: بِفَضْلِ الْمَالِ وَالْقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالِاتِّبَاعِ. وَحُصُولُ الْمُلْكِ لِلْكَافِرِ بِهَذَا الْمَعْنَى يُمْكِنُ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ مُشَاهَدٌ.
(١) سورة الواقعة: ٥٦/ ٨٢.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٢٤.
(٣) سورة النِّسَاءِ: ٤/ ٥٤. [.....]
626
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ الْمُلْكَ الْكَافِرَ؟
قُلْتُ: فِيهِ قَوْلَانِ: آتَاهُ مَا غَلَبَ بِهِ وَتَسَلَّطَ مِنَ الْمَالِ وَالْخَدَمِ وَالْأَتْبَاعِ، وَأَمَّا التَّغْلِيبُ وَالتَّسْلِيطُ فَلَا، وَقِيلَ: مَلَّكَهُ امْتِحَانًا لِعِبَادِهِ. انْتَهَى. وَفِيهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَأَمَّا التَّغْلِيبُ وَالتَّسْلِيطُ فَلَا، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي تَغَلَّبَ وَتَسَلَّطَ، فَالتَّغْلِيبُ وَالتَّسْلِيطُ فِعْلُهُ لَا فِعْلَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ.
إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هَذَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ سُؤَالٍ سَبَقَ مِنَ الْكَافِرِ، وَهُوَ أَنْ قَالَ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَإِلَّا فَلَا يُبْتَدَأُ كَلَامٌ بِهَذَا.
وَاخْتَصَّ إِبْرَاهِيمُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ لِأَنَّهُمَا أَبْدَعُ آيَاتِ اللَّهِ وَأَشْهَرُهَا، وَأَدُلُّهَا عَلَى تَمَكُّنِ الْقُدْرَةِ، وَالْعَامِلُ فِي إِذْ حَاجَّ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ بدلا من: أَنْ آتَاهُ، إِذَا جُعِلَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ضَعْفَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَالظَّرْفَانِ مُخْتَلِفَانِ إِذْ وَقَتُ إِيتَاءِ الْمُلْكِ لَيْسَ وَقْتَ قَوْلِهِ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَفِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِي رَبِّهِ، عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
ورَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ الْكَافِرَ وَيُحْيِيهِ وَيُمِيتُهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيكَ وَفِي أَشْبَاهِكَ بِمَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَا أَشْبَاهُكَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ الْمُشَاهَدَيْنِ لِلْعَالَمِ اللَّذَيْنِ لَا يَنْفَعُ فِيهِمَا حِيَلُ الْحُكَمَاءِ وَلَا طِبُّ الْأَطِبَّاءِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لِأَنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْخَبَرَ، إِذَا كَانَ بِمِثْلِ هَذَا، دَلَّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، فَتَقُولُ: زَيْدٌ الَّذِي يَصْنَعُ كَذَا، أَيِ: الْمُخْتَصُّ بِالصُّنْعِ.
قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ لَمَّا ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ رَبَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ عَارَضَهُ الْكَافِرُ بِأَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنَا الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَكَانَ الْحِسُّ يُكَذِّبُهُ إِذْ قَدْ حُيِيَ نَاسٌ قَبْلَ وُجُودِهِ وماتوا، وإنما أرادا أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ الَّذِي ادَّعَيْتَ فِيهِ الِاخْتِصَاصَ لِرَبِّكَ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَنَا مُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: أَحْضَرَ رَجُلَيْنِ، قَتَلَ أَحَدَهُمَا وَأَرْسَلَ الْآخَرَ، وَقِيلَ: أَدْخَلَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ بَيْتًا حَتَّى جَاعُوا، فَأَطْعَمَ اثْنَيْنِ فَحَيِيَا، وَتَرَكَ اثْنَيْنِ فَمَاتَا، وَقِيلَ: أَحْيَا بِالْمُبَاشَرَةِ وَإِلْقَاءِ النُّطْفَةِ، وَأَمَاتَ بِالْقَتْلِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ: أَنَا إِذَا كَانَ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ أو مضمرة. وروى أبو نسيط
627
إِثْبَاتَهَا مَعَ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ، وَإِثْبَاتُ الْأَلِفِ وَصْلًا وَوَقْفًا لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وَلُغَةُ غَيْرِهِمْ حَذْفُهَا فِي الْوَصْلِ، وَلَا تَثْبُتُ عِنْدَ غَيْرِ بَنِي تَمِيمٍ وَصْلًا إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ نَحْوُ قَوْلِهِ:
فَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالِي الْقَوَافِي بَعْدَ الْمَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارَا
وَالْأَحْسَنُ أَنْ تُجْعَلَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ. لِأَنَّهُ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ، قَالَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُحْسِنُ الْأَخْذُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ. انْتَهَى. فَإِذَا حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ كَانَ فَصِيحًا.
قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ لَمَّا خَيَّلَ الْكَافِرُ أَنَّهُ مُشَارِكٌ لِرَبِّ إِبْرَاهِيمَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمُ مِنْ مُعَارَضَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ فَهْمِهِ أَوْ مُغَالَطَتِهِ، فَإِنَّهُ عَارَضَ اللَّفْظَ بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَتَدَبَّرِ اخْتِلَافَ الْوَصْفَيْنِ، ذَكَرَ لَهُ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَلَا يُغَالِطَ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَلْ ذَلِكَ انْتِقَالٌ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ؟ أَوْ هُوَ دَلِيلٌ وَاحِدٌ وَالِانْتِقَالُ فِيهِ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ أَوْضَحُ مِنْهُ؟ وَإِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَالَ: وَكَانَ الِاعْتِرَاضُ عَتِيدًا، وَلَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَمِعَ جَوَابَهُ الْأَحْمَقَ لَمْ يُحَاجَّهُ فِيهِ، وَلَكِنِ انْتَقَلَ إِلَى مَا لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ الْجَوَابِ لِيُبْهِتَهُ أَوَّلَ شَيْءٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِانْتِقَالِ مِنْ حُجَّةٍ إِلَى حُجَّةٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَعْنَى قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَكَانَ الِاعْتِرَاضُ عَتِيدًا: أَيْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، لَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: أَحْيِ مَنْ أَمَتَّ، فَكَانَ يَكُونُ فِي ذَلِكَ نُصْرَةُ الْحُجَّةِ الْأُولَى، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَانْقَطَعَ بِهِ، وَأَرْدَفَهُ إِبْرَاهِيمُ بِحُجَّةٍ ثَانِيَةٍ، فَحَاجَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَصْدًا لِقَطْعِ الْمُحَاجَّةِ، لَا عَجْزًا عَنْ نُصْرَةِ الْحُجَّةِ الْأُولَى، وَقِيلَ: كَانَ نُمْرُوذُ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ: إِبْراهِيمَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أَيِ: الَّذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا لَا مَنْ نَسَبْتَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ افْتِرَاءَهُ الْعَظِيمَ، وَادِّعَاءَهُ الْبَاطِلَ تَمْوِيهًا وَتَلْبِيسًا، اقْتَرَحَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَأُفْحِمَ وَبَانَ عَجْزُهُ وَظَهَرَ كَذِبُهُ.
وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ لَهُ النُّمْرُوذُ: وَأَنْتَ رَأَيْتَ هَذَا؟ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رَآهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَيْهِ انْتَقَلَ إِلَى مَا هُوَ وَاضِحٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: انْتَقَلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ الشَّمْسَ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَقْهُورَةٌ.
628
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ انْتِقَالًا مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ، بَلِ الدَّلِيلُ وَاحِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَهَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، قَالُوا: وَهُوَ إِنَّا نَرَى حُدُوثَ أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِحْدَاثِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ قَادِرٍ يَتَوَلَّى إِحْدَاثَهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهَا أَمْثِلَةٌ. مِنْهَا: الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ.
وَمِنْهَا: السَّحَابُ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ. وَمِنْهَا: حَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ. وَالْمُسْتَدِلُّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ، فَكَانَ مَا فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَابِ مَا يَكُونُ الدَّلِيلُ وَاحِدًا لَا أَنَّهُ يَقَعُ الِانْتِقَالُ عِنْدَ إِيضَاحِهِ مِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ آخَرَ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يَقَعُ الِانْتِقَالُ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ الَّذِي سَأَلَهُ الْكَافِرُ عَنْ رَبِّهِ حِينَ ادَّعَى الْكَافِرُ الرُّبُوبِيَّةَ، قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَلَمَّا انْتَقَلَ إِلَى دَلِيلٍ أَوْ مِثَالٍ أَوَضَحَ وَأَقْطَعَ لِلْخَصْمِ، عَدَلَ إِلَى الِاسْمِ الشَّائِعِ عِنْدَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ قَرَّرَ بِذَلِكَ بِأَنَّ رَبَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هُوَ الَّذِي أَوَجَدَكَ وَغَيْرَكَ أَيُّهَا الْكَافِرُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِنَّ رَبِّي يَأْتِي بِالشَّمْسِ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ كُلِّهِمْ هُوَ رَبُّهُ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ، وَلِأَنَّ الْعَالَمَ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَّا إِلَهُهُمْ.
وَمَجِيءُ الْفَاءِ فِي: فَإِنَّ، يَدُلُّ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَهَا، إِذْ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَحْكِيَّةَ فَقَطْ لَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ وَكَأَنَّ التَّرْكِيبَ قال إبراهيم: إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ، وَتَقْدِيرُ الْجُمْلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ إِنْ زَعَمَتْ ذَلِكَ أَوْ مَوَّهَتْ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المشرق، و: الباء، في بالشمس لِلتَّعْدِيَةِ، تَقُولُ: أَتَتِ الشَّمْسُ، وَأَتَى بِهَا اللَّهُ، أَيْ أَحْيَاهَا، وَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ.
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ إِبْرَاهِيمُ إِذْ هُوَ الْمُنَاظِرُ لَهُ، فَلَمَّا أَتَى بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ بَهَتَهُ بِذَلِكَ وَحَيَّرَهُ وَغَلَبَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ الْمَصْدَرَ الْمَفْهُومَ مِنْ: قَالَ، أَيْ: فَحَيَّرَهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَبَهَتَهُ.
وقرأ ابن السميفع: فَبَهَتَ، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْهَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَبُهِتَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ فَبَهَتَ إِبْرَاهِيمُ الَّذِي كَفَرَ وَقِيلَ: الْمَعْنَى، فَبُهِتَ الْكَافِرُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: سَبَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ انْقَطَعَ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ حِيلَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا وَيَكُونَ الَّذِي كَفَرَ فَاعِلًا، وَالْمَعْنَى:: بُهِتَ أَوْ أَتَى بِالْبُهْتَانِ.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَبَهُتَ، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ. وقرىء فِيمَا حَكَاهُ الْأَخْفَشُ: فَبَهِتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ.
629
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يَهْدِيهِ، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَالْمُرَادُ هِدَايَةٌ خَاصَّةٌ، أَوْ ظَالِمُونَ مَخْصُوصُونَ، فَمَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ أَنَّهُ لَا يُرْشِدُهُمْ فِي حُجَّتِهِمْ، وَقِيلَ: لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا إِلَى الْجَنَّةِ، وَقِيلَ:
لَا يَلْطُفُ بِهِمْ وَلَا يُلْهِمُ وَلَا يُوَفِّقُ، وَخَصَّ الظَّالِمُونَ بِمَنْ يُوَافِي ظَالِمًا أَيْ كَافِرًا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهِ، وَقَضَى بِأَنْ يَكُونَ ظَالِمًا أَيْ كَافِرًا وَقَدَّرَ أَنْ لَا يُسْلِمَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ هِدَايَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ «١».
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا الْإِخْبَارِ ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ حَالَ مُدِّعِ شَرِكَةِ اللَّهِ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، مُمَوِّهًا بِمَا فَعَلَهُ أَنَّهُ إِحْيَاءٌ وَإِمَاتَةٌ، وَلَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الظُّلْمِ لَا يَهْدِيهِ اللَّهُ إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَمِثْلُ هَذَا مَحْتُومٌ لَهُ عَدَمُ الْهِدَايَةِ، مَخْتُومٌ لَهُ بِالْكُفْرِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى لَيْسَتْ مِمَّا يَلْتَبِسُ عَلَى مُدَّعِيهَا، بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الزَّنْدَقَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالسَّفْسَطَةِ، فَمُدَّعِيهَا إِنَّمَا هُوَ مُكَابِرٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ هَذَا الْكَافِرَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِذْ مَنْ كَابَرَ فِي ادِّعَاءِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ قَدْ يُكَابِرُ فِي ذَلِكَ وَيَدَّعِيهِ. وَهَلِ الْمَسْأَلَتَانِ إِلَّا سَوَاءٌ فِي دَعْوَى مَا لَا يُمْكِنُ لِبَشَرٍ؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ بُهُوتًا دَهِشًا مُتَحَيِّرًا مُنْقَطِعًا إِكْرَامًا لِنَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِظْهَارًا لِدِينِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، لِظُهُورِ كَذِبِهِ لِأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، إِذْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ، وَالشَّمْسُ كَانَتْ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ قَبْلَ حُدُوثِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنَا آتِي بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ لِعِلْمِهِ بِعَجْزِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ سَكَتَ وَانْقَطَعَ.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ، سَاكِنَةَ الْوَاوِ، قِيلَ: وَمَعْنَاهَا التَّفْصِيلُ، وَقِيلَ: التَّخْيِيرُ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ مَنْ يَنْشَأُ مِنْهُمَا.
وَقَرَأَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حُسَيْنٍ: أَوَ كَالَّذِي، بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ دَخَلَ عَلَيْهَا أَلِفُ التَّقْرِيرِ، والتقدير: وأ رأيت مِثْلَ الَّذِي وَمَنْ قَرَأَ: أَوْ، بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ مَعْنَى: أَلَمْ تَرَ
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ١٩.
630
إِلَى الَّذِي؟ أَرَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ؟ فَعُطِفَ قَوْلُهُ: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الشَّاعِرُ:
تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكْثِرْ غَنِيمَةً بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلَا بِحَقَلَّدِ
الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَكْثُرْ: لَيْسَ بِمُكْثِرٍ: وَلِذَلِكَ رَاعَى هَذَا الْمَعْنَى فَعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:
وَلَا بِحَقَلَّدٍ. وَقَالَ آخَرُ:
أَجَدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ أو لا ببيداء ناجية ذمولا
وَلَا مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طِفْلٌ بِبَعْضِ نَوَاشِعِ الْوَادِي حُمُولَا
الْمَعْنَى: أَجِدَّكَ لَسْتَ بِرَآءٍ، وَلَمَّا رَاعَى هَذَا الْمَعْنَى عَطَفَ عَلَيْهِ قوله: ولا متدارك، وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَاسُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَوْ كَالَّذِي: مَعْنَاهُ أَوْ رَأَيْتَ مِثْلَ الَّذِي؟ فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ: أَلَمْ تَرَ؟ عَلَيْهِ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا كلمة تعجيب. انْتَهَى. وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ إِضْمَارَ الْفِعْلِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ أَسْهَلُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى، وَقَدْ جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ.
وَقِيلَ: الْكَافُ زَائِدَةٌ، فَيَكُونُ: الَّذِي، قَدْ عُطِفَ عَلَى: الَّذِي، التَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حاج إبراهيم؟ أو الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ؟ قِيلَ: كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «١». وفي قوله الرَّاجِزِ:
فَصُيِّرُوا مَثَلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ فِعْلٍ، وَلَا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَا عَلَى زِيَادَةِ الْكَافِ، بَلْ تَكُونُ الْكَافُ اسْمًا عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ، فَتَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، مَعْطُوفَةً عَلَى الَّذِي، التَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أو إلى مثل كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَمَجِيءُ الْكَافِ اسْمًا فَاعِلَةً، ومبتدا وَمَجْرُورَةً بِحَرْفِ الْجَرِّ ثَابِتٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَتَأْوِيلُهَا بَعِيدٌ، فَالْأَوْلَى هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ، وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهُمُ الْإِشْكَالُ مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ حَرْفِيَّةِ الْكَافِ، حَمْلًا عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ، أَلَا تَرَى فِي الْفَاعِلِيَّةِ لِمِثْلٍ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ضَعِيفٍ وَلَمْ يغلبك مثل مغلب؟
(١) وردت الآية في الأصل: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والآية من سورة الشورى ٤٢/ ١١، وليس فيها: السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، علما أن وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ترد بكثرة في آيات القرآن الكريم ولكن ليس بهذا السياق التام.
631
وَالْكَلَامُ عَلَى الْكَافِ يُذْكَرُ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ هُوَ عُزَيْرٌ، قَالَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُقَاتِلٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ، وَنَاجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ، وَسَالِمٌ الْخَوَّاصُ.
وَقِيلَ: أَرْمِيَاءُ، قَالَهُ وَهْبٌ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَبَكْرُ بْنُ مُضَرٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ أَرْمِياءُ، وَهُوَ الْخَضِرُ، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ وَهْبٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَمَا نَرَاهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ اسْمًا وَافَقَ اسْمًا، لِأَنَّ الْخَضِرَ مُعَاصِرٌ لِمُوسَى، وَهَذَا الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ هُوَ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ فِيمَا رَوَى وَهْبٌ.
قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَضِرُ بِعَيْنِهِ وَيَكُونَ مِنَ الْمُعَمِّرِينَ، فَيَكُونُ أَدْرَكَ زَمَانَ خَرَابِ الْقَرْيَةِ، وَهُوَ إِلَى الْآنِ بَاقٍ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقِيلَ: عَلَى كَافِرٍ مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَكَانَ عَلَى حِمَارٍ وَمَعَهُ سَلَّةُ تِينٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ:
رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرُ مُسَمًّى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِيمَا حَكَاهُ مَكِّيٌّ. وَقِيلَ: غُلَامُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقيل: شعياء.
وَالَّذِي أَحْيَاهَا بَعْدَ خَرَابِهَا: لَوْسَكُ الْفَارِسِيُّ، حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ الْقُتَيْبِيِّ.
وَالْقَرْيَةُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ، قَالَهُ وَهْبٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ. أَوْ:
قَرْيَةُ الْعِنَبِ، وَهِيَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوِ: الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، أَوِ: الْمُؤْتَفِكَةُ، قَالَهُ قَوْمٌ، أَوِ: الْقَرْيَةُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا الْأُلُوفُ حَذَرَ الْمَوْتِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَوْ: دَيْرُ هِرَقْلَ، قَالَهُ ابن عباس. أو: شابور أباد، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، أَوْ: سَلْمَايَاذَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قِيلَ: الْمَعْنَى خَاوِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا ثَابِتَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، فَالْبُيُوتُ قَائِمَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ. سَاقِطَةٌ مُتَهَدِّمَةٌ جُدْرَانُهَا عَلَى سُقُوفِهَا بَعْدَ سُقُوطِ السُّقُوفِ، وَقِيلَ: عَلَى، بِمَعْنَى: مَعَ، أَيْ: مَعَ أَبْنِيَتِهَا، وَالْعُرُوشُ عَلَى هَذِهِ الْأَبْنِيَةِ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ الَّذِي فِي: مَرَّ، أَوْ: مِنْ قَرْيَةٍ، وَالْحَالُ مِنَ النَّكِرَةِ إِذَا تَأَخَّرَتْ تَقِلُّ، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْقَرْيَةِ، وَيُبْعِدُ هَذَا القول الواو، و: على، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ إِذَا كَانَ الْمَعْنَى: خَاوِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، أَيْ: مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، أو: بخاوية إِذَا كَانَ الْمَعْنَى سَاقِطَةً. وَقِيلَ: عَلَى عُرُوشِهَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: قَرْيَةٍ، أَيْ: مَرَّ عَلَى
632
عُرُوشِهَا، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لقرية، أَيْ: مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ كَائِنَةٍ عَلَى عُرُوشِهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ.
قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها قِيلَ: لَمَّا خَرَّبَ بُخْتَ نَصَّرُ الْبَابِلِيُّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، حِينَ أَحْدَثَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْأَحْدَاثَ، وَقَفَ أَرْمِياءُ، أَوْ عُزَيْرٌ، عَلَى الْقَرْيَةِ وَهِيَ كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ وَسَطَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّ بُخْتَ نَصَّرَ أَمَرَ جُنْدَهُ بِنَقْلِ التُّرَابِ إِلَيْهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَالْجَبَلِ، فَقَالَ هَذَا الْكَلَامَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَارُّ كَانَ كَافِرًا بِالْبَعْثِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِانْتِظَامِهِ مَعَ نُمْرُوذَ فِي سِلْكٍ، وَلِكَلِمَةِ الِاسْتِبْعَادِ الَّتِي هِيَ: أَنَّى يُحْيِي، وَقِيلَ: عُزَيْرٌ، أَوِ: الْخَضِرُ، أَرَادَ أَنْ يُعَايِنَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى لِيَزْدَادَ بَصِيرَةً كَمَا طَلَبَهُ إِبْرَاهِيمُ. انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّكِّ لَا يَقَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ. وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ هُنَا مَجَازَانِ، عَبَّرَ بِالْإِحْيَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ، وَبِالْمَوْتِ عَنِ الْخَرَابِ. وَقِيلَ: حَقِيقَتَانِ فَيَكُونُ ثُمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَنَّى يُحْيِي أَهْلَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، أَوْ يَكُونُ هَذِهِ إِشَارَةً إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى مِنْ عِظَامِ أَهْلِهَا الْبَالِيَةِ، وَجُثَثِهِمُ الْمُتَمَزِّقَةِ، وَأَوْصَالِهِمُ الْمُتَفَرِّقَةِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْمَجَازِ يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي عَلَى سَبِيلِ التَّلَهُّفِ مِنَ الْوَاقِفِ الْمُعْتَبَرِ عَلَى مَدِينَتِهِ الَّتِي عَهِدَ فِيهَا أَهْلَهُ وَأَحِبَّتَهُ، وَضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ قَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي اعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ طَرِيقَةِ الْإِحْيَاءِ وَاسْتِعْظَامًا لِقُدْرَةِ الْمُحْيِي، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّكِّ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ، فَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ.
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أَيْ أَحْيَاهُ وَجَعَلَ لَهُ الْحَرَكَةَ وَالِانْتِقَالَ.
قِيلَ: لَمَّا مَرَّ سَبْعُونَ سَنَةً مِنْ مَوْتِهِ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وَمَنَعَ الْعُيُونَ أَنْ تَرَاهُ، أَرْسَلَ اللَّهُ مَلَكًا إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ عَظِيمٍ يُقَالُ لَهُ لَوْسَكُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْفِرَ بقومك فَتُعَمِّرْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَإِيلِيَاءَ وَأَرْضَهَا حَتَّى تَعُودَ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ، فَانْتَدَبَ الْمَلِكُ قِيلَ ثَلَاثَةَ آلَافِ قَهْرَمَانَ مَعَ كُلِّ قَهْرَمَانَ أَلْفُ عَامِلٍ، وَجَعَلُوا يُعَمِّرُونَهَا، وَأَهْلَكَ اللَّهُ بُخْتَ نَصَّرَ بِبَعُوضَةٍ دَخَلَتْ دِمَاغَهُ، وَنَجَّى اللَّهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَدَّهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَوَاحِيهِ فَعَمَّرُوهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَثُرُوا حَتَّى كَانُوا كَأَحْسَنِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
قالَ كَمْ لَبِثْتَ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: كَيْفَ نُنْشِزُها وَقِيلَ:
633
هَاتِفٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: جِبْرِيلُ، وَقِيلَ: نَبِيٌّ، وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ شَاهَدَهُ حِينَ مَاتَ وَعَمَّرَ إِلَى حِينِ إِحْيَائِهِ.
وَعَلَى اخْتِيَارِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْبَعْثِ كَافِرًا، فَلِذَلِكَ سَاغَ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ.
انْتَهَى. وَلَا نَصَّ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ شِفَاهًا.
وَ: كَمْ، ظَرْفٌ، أَيْ: كَمْ مُدَّةً لَبِثْتَ؟ أَيْ: لَبِثْتَ مَيِّتًا وَهُوَ سُؤَالٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ.
قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ: أَمَاتَهُ اللَّهُ غَدْوَةَ يَوْمٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَقَالَ: قَبْلَ النَّظَرِ إِلَى الشَّمْسِ: يَوْمًا، ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى بَقِيَّةً مِنَ الشَّمْسِ، فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَكَانَ قَوْلُهُ: يَوْمًا عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ، ثُمَّ لَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يُكْمِلِ الْيَوْمَ، قَالَ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
وَالْأَوْلَى أَنْ لَا تَكُونَ، أَوْ، هُنَا لِلتَّرْدِيدِ، بَلْ تَكُونُ لِلْإِضْرَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: بَلْ بَعْضَ يَوْمٍ، لَمَّا لَاحَتْ لَهُ الشَّمْسُ أَضْرَبَ عَنِ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ عَلَى طَرِيقِ الظَّنِّ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِالثَّانِي عَلَى طَرِيقِ التَّيَقُّنِ عِنْدَهُ.
وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُطْلِقُ لَفْظَ بَعْضٍ عَلَى أَكْثَرِ الشَّيْءِ.
قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ بَلْ، لِعَطْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مَحْذُوفَةِ التَّقْدِيرِ، قَالَ: مَا لَبِثْتَ هَذِهِ الْمُدَّةَ بَلْ: لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ بِإِظْهَارِ التَّاءِ فِي: لَبِثْتَ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْإِدْغَامِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
وَذَكَرَ تَعْيِينَ الْمُدَّةِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْيِينَهَا فِي قَوْلِهِ: قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا «١» وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي جَوَابِ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «٢» لِأَنَّ الْمَبْعُوثَ فِي الْبَقَرَةِ وَاحِدٌ فَانْحَصَرَتْ مُدَّةُ إِمَاتَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَأُولَئِكَ مُتَفَاوِتُو اللُّبْثَ تَحْتَ الْأَرْضِ نَحْوَ مَنْ مَاتَ فِي أَوَّلِ الدُّنْيَا، وَمَنْ مَاتَ فِي آخِرِهَا، فَلَمْ يَنْحَصِرُوا تَحْتَ عَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَلِذَلِكَ أُدْرِجُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ قَلِيلَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِمُدَّةِ لُبْثِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ ذَكَرَ مُدَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ لَاحْتِيجَ فِي عِدَّةِ ذَلِكَ إِلَى أَسْفَارٍ كثيرة.
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١١٤.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ١٩ والمؤمنون: ٢٣/ ١١٣.
634
فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ فِي قِصَّةِ عُزَيْرٍ
أَنَّهُ لَمَّا نَجَا مِنْ بَابِلَ ارْتَحَلَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ هِرَقْلَ عَلَى شَطِّ دِجْلَةَ، فَطَافَ فِي الْقَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا أَحَدًا، وَعَامَّةُ شَجَرِهَا حَامِلٌ، فَأَكَلَ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَاعْتَصَرَ مِنَ الْعِنَبِ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَجَعَلَ فَضْلَ الْفَاكِهَةِ فِي سَلَّةٍ وَفَضْلَ الْعِنَبِ فِي زِقٍّ، فَلَمَّا رَأَى خَرَابَ الْقَرْيَةِ وَهَلَاكَ أَهْلِهَا قَالَ: أَنَّى يُحْيِي؟ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ، لَا شَكًا فِي الْبَعْثِ، وَقِيلَ: كَانَ شَرَابُهُ لَبَنًا. قِيلَ: وَجَدَ التِّينَ وَالْعِنَبَ كَمَا تَرَكَهُ جَنْيًا، وَالشَّرَابَ عَلَى حَالِهِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ عَلَى أَنَّهَا هَاءُ السَّكْتِ، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ أَصْلِيَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ: لَمْ يَسَّنَّهْ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ، كما قرىء: لَا يَسْمَعُونَ، وَالْأَصْلُ: لَا يَتَسَمَّعُونَ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَغَيْرُهُ: لِمِائَةِ سَنَةٍ، مَكَانَ: لَمْ يَتَسَنَّهْ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهَذَا شَرَابُّكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وَالضَّمِيرُ فِي: يَتَسَنَّهْ مُفْرَدٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا عَلَى الشَّرَابِ خَاصَّةً، وَيَكُونَ قَدْ حُذِفَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ مِنَ الطَّعَامِ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ أُفْرِدَ ضَمِيرُهُمَا لِكَوْنِهِمَا مُتَلَازِمَيْنِ، فَعُومِلَا مُعَامَلَةَ الْمُفْرَدِ، أَوْ لِكَوْنِهِمَا فِي مَعْنَى الْغِذَاءِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَانْظُرْ إِلَى غِذَائِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي الْمُتَلَازِمَيْنِ:
وَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ أَوْ سُنْبُلًا كُحِّلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ
وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَتَسَنَّهْ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ منفية: بلم، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَاوِ فِي الْجُمْلَةِ المنفية بلم هُوَ الْمُخْتَارُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيمُوا سُيُوفَهُمْ وَلَمْ تَكْثُرِ الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتْ
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَنْفِيًّا فَالْأَوْلَى أَنْ يُنْفَى: بِلَمَّا، نَحْوُ: جَاءَ زَيْدٌ وَلَمَّا يَضْحَكْ، قَالَ:
وَقَدْ تَكُونُ مَنْفِيَّةً: بِلَمْ وَمَا، نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ وَلَمْ يَضْحَكْ، أَوْ: مَا يَضْحَكُ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ جِدًّا.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ إِثْبَاتُ: الْوَاوِ، مَعَ: لَمْ، أَحْسَنَ مِنْ عَدَمِهَا، بَلْ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا فَصِيحًا، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ تَعَالَى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «١» وَقَالَ تَعَالَى: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ «٢» وَمَنْ قَالَ:
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٧٤.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٩٣.
635
إِنَّ النَّفْيَ بِلَمْ قَلِيلٌ جِدًّا فَغَيْرُ مُصِيبٍ، وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ: الْحَالِ، فِي (مَنْهَجِ السَّالِكِ عَلَى شَرْحِ أَلْفِيَّةِ ابْنِ مَالِكٍ) مِنْ تَأْلِيفِنَا.
وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ
قِيلَ: لَمَّا مَضَتِ الْمِائَةُ أَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ عَيْنَيْهِ، وَسَائِرُ جَسَدِهِ مَيِّتٌ، ثُمَّ أَحْيَا جَسَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ. ثُمَّ نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ، فَإِذَا عِظَامُهُ مُتَفَرِّقَةٌ بِيضٌ تَلُوحُ، فَسَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي، فَاجْتَمَعَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَاتَّصَلَتْ، ثُمَّ نُودِيَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا وَجِلْدًا، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ حِينَ أَحْيَاهُ اللَّهُ نَهَقَ، وَقِيلَ: رَدَّ اللَّهُ الْحَيَاةَ فِي عَيْنَيْهِ وَأَخَّرَ جَسَدَهُ مَيِّتًا، فَنَظَرَ إِلَى إِيلِيَاءَ وَمَا حَوْلَهَا وَهِيَ تُعَمَّرُ وَتُجَدَّدُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ وَاقِفًا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ رَبَطَهُ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ أَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُ وَهُوَ يَرَى، وَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَقَدْ أَتَى عَلَيْهِ رِيحُ مِائَةِ عَامٍ وَمَطَرُهَا وَشَمْسُهَا وَبَرْدُهَا. وَقَالَ وَهْبٌ، وَالضَّحَّاكُ: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ قَائِمًا فِي مَرْبَطِهِ لَمْ يَصُبْهُ شَيْءٌ مِائَةَ سَنَةٍ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ أَنْ يُعِيشَهُ مِائَةَ عَامٍ مِنْ غَيْرِ عَلَفٍ وَلَا مَاءٍ، كَمَا حَفِظَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنَ التَّغَيُّرِ.
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ قِيلَ: الْوَاوُ، مُقْحَمَةٌ أَيْ: لِنَجْعَلَكَ آيَةً، وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَيْ: أَرَيْنَاكَ ذَلِكَ لِتَعَلَمَ قُدْرَتَنَا، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ. وَقِيلَ:
بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَأْخِيرُهُ، أَيْ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فَعَلْنَا ذَلِكَ، يُرِيدُ إِحْيَاءَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَحِفْظَ مَا مَعَهُ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَوْنُهُ آيَةً هُوَ أَنَّهُ جَاءَ شَابًا عَلَى حَالِهِ يَوْمَ مَاتَ، فَوَجَدَ الْحَفَدَةَ وَالْأَبْنَاءَ شُيُوخًا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: جَاءَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا كَانَ يَوْمَ مَاتَ، وَوَجَدَ بنيه قد ينوفون عَلَى مِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ: كَوْنُهُ آيَةً هُوَ أَنَّهُ جَاءَ وَقَدْ هَلَكَ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ، وَكَانَ آيَةً لِمَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ قَوْمِهِ، إِذْ كَانُوا مُوقِنِينَ بِحَالِهِ سَمَاعًا، وَقِيلَ: أَتَى قومه راكبا حِمَارَهُ، وَقَالَ: أَنَا عُزَيْرٌ، فَكَذَّبُوهُ، فَقَالَ: هَاتُوا التَّوْرَاةَ، فَأَخَذَ يُهَذْهِذُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي الْكِتَابِ، فَمَا خَرَمَ حَرْفًا، فَقَالُوا هُوَ: ابْنُ اللَّهِ.
وَلَمْ يَقْرَأِ التَّوْرَاةَ ظَاهِرًا أَحَدٌ قَبْلَ عُزَيْرٍ، فَذَلِكَ كَوْنُهُ آيَةً. وَفِي إِمَاتَتِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ ثُمَّ إِحْيَائِهِ أَعْظَمُ آيَةٍ، وَأَمْرُهُ كُلُّهُ آيَةٌ لِلنَّاسِ غَابِرَ الدَّهْرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَخْصِيصِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: لِلنَّاسِ، لِلْعَهْدِ إن غنى بِهِ مَنْ بَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ، أَوْ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ. أَوْ لِلْجِنْسِ إِذْ هُوَ آيَةٌ لِمَنْ عَاصَرَهُ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
636
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها يَعْنِي، بِالْعِظَامِ عِظَامَ نَفْسِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ زَيْدٍ. أَوْ: عظام حماره، أو عظامهما. زَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عِظَامَ الْمَوْتَى الَّذِينَ تَعَجَّبَ مِنْ إِحْيَائِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحْيُوا لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يُقَالُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها وَإِنَّمَا هَذَا قِيلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِلَّا عَلَى عِظَامِهِ، أَوْ عظام حماره، أو عظامهما. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ عِظَامُ الْحِمَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَى الْعِظَامِ مِنْهُ، أَوْ، عَلَى رَأَيِ الْكُوفِيِّينَ، أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ، أَيْ: إِلَى عِظَامِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ بَعَثَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِمُحَاوَرَتِهِ تَعَالَى لَهُ فِي السُّؤَالِ عَنْ مِقْدَارِ مَا أَقَامَ مَيِّتًا، ثُمَّ أَعْقَبَ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ بِالْفَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِحْيَاءَهُ تَقَدَّمَ عَلَى الْمُحَاوَرَةِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: نُنْشِرُهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: بِفَتْحِ النُّونِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُمَا مِنْ أَنْشَرَ وَنَشَرَ بِمَعْنَى: أَحْيَا. وَيَحْتَمِلُ نَشَرَ أَنْ يَكُونَ ضِدَّ الطَّيِّ، كَأَنَّ الْمَوْتَ طَيُّ الْعِظَامِ وَالْأَعْضَاءِ، وَكَأَنَّ جَمْعَ بَعْضِهَا إلى بعض نشز وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: نُنْشِزُهَا، بِضَمِّ النُّونِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ: بِفَتْحِ النُّونِ، وَضَمِّ الشِّينِ وَالزَّايِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ، عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا مَعَ الرَّاءِ وَالزَّايِ.
وَمَعْنَى: نُنْشِزُهَا، بِالزَّايِ: نُحَرِّكُهَا، أَوْ نَرْفَعُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ لِلتَّرْكِيبِ لِلْإِحْيَاءِ، يُقَالُ: نَشَزَ وَأَنْشَزْتُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَعَلَّقَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى النُّشُوزِ رَفْعَ الْعِظَامِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا النُّشُوزُ الِارْتِفَاعُ قَلِيلًا، فَكَأَنَّهُ وَقَفَ عَلَى نَبَاتِ العظام الرفاة، وَخَرَجَ مَا يُوجَدُ مِنْهَا عِنْدَ الِاخْتِرَاعِ. وَقَالَ النَّقَّاشِيُّ: نُنْشِزُهَا مَعْنَاهُ نُنْبِتُهَا، وَانْظُرِ اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ تَجِدُهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وَمِنْ ذَلِكَ: نَشَزَ نَابُ الْبَعِيرِ، وَالنَّشِزُ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِذَلِكَ، وَنَشَزَتِ الْمَرْأَةُ، كَأَنَّهَا فَارَقَتِ الْحَالَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهَا، وَانْشُزُوا فَانْشُزُوا أَيِ ارْتَفَعُوا شَيْئًا فَشَيْئًا كَنُشُوزِ النَّابِ، فَبِذَلِكَ تَكُونُ التَّوْسِعَةُ، فَكَأَنَّ النُّشُوزَ ضَرْبٌ مِنَ الِارْتِفَاعِ. وَيَبْعُدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِمَنِ ارْتَفَعَ فِي حَائِطٍ أَوْ غُرْفَةٍ: نَشَزَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: كَيْفَ نُنْشِيهَا، بِالْيَاءِ أَيْ نَخْلُقُهَا. وَقَالَ بعضهم: العظام لا تحيى عَلَى الِانْفِرَادِ حَتَّى يَنْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَالزَّايُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَعْنَى، إِذْ هُوَ بِمَعْنَى الِانْضِمَامِ دُونَ الْإِحْيَاءِ، فَالْمَوْصُوفُ بِالْإِحْيَاءِ الرَّجُلُ دُونَ الْعِظَامِ. وَلَا يُقَالُ: هَذَا عَظْمٌ حَيٌّ.
637
فَالْمَعْنَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَرْفَعُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَى جِسْمِ صَاحِبِهَا لِلْإِحْيَاءِ.
انْتَهَى.
وَالْقِرَاءَةُ بالراء متوترة، فَلَا تَكُونُ قِرَاءَةُ الزَّايِ أَوْلَى.
وَ: كَيْفَ، مَنْصُوبَةٌ بننشزها نَصْبُ الْأَحْوَالِ، وَذُو الْحَالِ مفعول ننشرها، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا: انْظُرْ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قبله. وأعربوا: كيف ننشرها، حَالًا مِنَ الْعِظَامِ، تَقْدِيرُهُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ مُحْيَاةً، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ لَا تَقَعُ حَالًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ حَالًا: كَيْفَ، وَحَّدَهَا نَحْوَ: كَيْفَ ضَرَبْتَ زَيْدًا؟ وَلِذَلِكَ تَقُولُ: قَائِمًا أَمْ قَاعِدًا؟ فَتُبْدَلُ مِنْهَا الْحَالُ.
وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنَ الْعِظَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ: انْظُرْ، الْبَصْرِيَّةَ تَتَعَدَّى بِإِلَى، وَيَجُوزُ فِيهَا التَّعْلِيقُ، فَتَقُولُ: انْظُرْ كَيْفَ يَصْنَعُ زَيْدٌ، قَالَ تَعَالَى:
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «١» فَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى المفعول: بالنظر، لِأَنَّ مَا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، إِذَا عُلِّقَ، صَارَ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ، تَقُولُ: فَكَّرْتُ فِي أَمْرِ زَيْدٍ، ثُمَّ تَقُولُ: فَكَّرْتُ هَلْ يَجِيءُ زَيْدٌ؟ فَيَكُونُ: هَلْ يَجِيءُ زَيْدٌ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِفَكَّرْتُ، فَكَيْفَ، نُنْشِزُهَا بَدَلٌ مِنَ الْعِظَامِ عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: فَانْظُرْ إِلَى حَالِ الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ:
عَرَفْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ. عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ. فَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِكَ: أَبُو مَنْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ زَيْدًا مَفْعُولَ عَرَفْتُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ: عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ أَبُو مَنْ.
وَلَيْسَ الِاسْتِفْهَامُ فِي بَابِ التَّعْلِيقِ مُرَادًا بِهِ مَعْنَاهُ، بَلْ هَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَرَتْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مُغَلَّبًا عَلَيْهَا أَحْكَامُ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَنَظِيرُ ذَلِكَ: أَيْ، فِي بَابِ الِاخْتِصَاصِ. فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ غَلَبَ عَلَيْهَا أَكْثَرُ أَحْكَامِ النِّدَاءِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى النِّدَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا، إِنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لِلْمَعْنَى، وَهُوَ أَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقِسْمٌ يَغْلِبُ فِيهِ أَحْكَامُ اللَّفْظِ كَهَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْوَاقِعِ فِي التَّعْلِيقِ، وَالْوَاقِعِ فِي التَّسْوِيَةِ. وَقِسْمٌ يَغْلِبُ فِيهِ أَحْكَامُ الْمَعْنَى نَحْوَ: أَقَائِمٌ الزَّيْدَانِ. وَقَدْ أَمْعَنَّا الْكَلَامَ عَلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْوَاقِعِ فِي التَّعْلِيقِ فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى (بِالتَّذْكِرَةِ) وَهِيَ إِحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي سَأَلَنِي عَنْهَا قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٢١.
638
الْقُشَيْرِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ وَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَهُ فِيهَا، وَكَانَ سُؤَالُهُ فِي
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»
. ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً الْكُسْوَةُ حَقِيقَةٌ هِيَ مَا وَارَى الْجَسَدَ مِنَ الثِّيَابِ، وَاسْتَعَارَهَا هُنَا لِمَا أَنْشَأَ مِنَ اللَّحْمِ الَّذِي غَطَّى بِهِ الْعَظْمَ. كَقَوْلِهِ: فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً «١» وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، إِذْ هِيَ اسْتِعَارَةُ عَيْنٍ لِعَيْنٍ، وَقَدْ جَاءَتِ الِاسْتِعَارَةُ فِي الْمَعْنَى لِلْجُرْمِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الْإِسْلَامِ سِرْبَالَا
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُشَاهِدُ اللَّحْمَ وَالْعَصَبَ وَالْعُرُوقَ كَيْفَ تَلْتَئِمُ وَتَتَوَاصَلُ
، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ: أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ لَهُ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ بَعْثِهِ، لَا أَنَّ الْقَوْلَ كَانَ بَعْدَ إِحْيَاءِ بَعْضِهِ.
وَالتَّعْقِيبُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَانْظُرْ إِلَى آخِرِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِظَامَ لَا يُرَادُ بِهَا عِظَامُ نَفْسِهِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا، إِلَّا إِنْ كَانَ وَضَعَ: نَنْشُرُهَا، مَكَانَ: أَنْشَرْتُهَا، وَ: نَكْسُوهَا، مَكَانَ: كَسَوْتُهَا، فَيُحْتَمَلُ. وَتَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الثَّلَاثِ الْخَوَارِقِ، وَلَمْ يُنَسَّقْ نَسَقَ الْمُفْرَدَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا خَارِقٌ عَظِيمٌ، وَمُعْجِزٌ بَالِغٌ، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالنَّظَرِ إِلَى الْعِظَامِ وَالشَّرَابِ حَيْثُ لَمْ يَتَغَيَّرَا عَلَى طُولِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ، إِذْ هُمَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَسَارَعُ إِلَيْهَا الْفَسَادُ، إِذْ مَا قَامَ بِهِ الْحَيَاةُ وَهُوَ الْحِمَارُ يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْتَشَّ بِنَفْسِهِ وَيَأْكُلَ وَيَرِدَ الْمِيَاهَ. كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ: «مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَأْتِيَهَا رَبُّهَا»
. وَلَمَّا أُمِرَ بِالنَّظَرِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْحِمَارِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ صُحْبَتَهُ، وَقَالَ تَعَالَى:
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ: وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كَالْمُجْمَلِ، بَيَّنَ لَهُ جِهَةَ النَّظَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحِمَارِ، فَجَاءَ النَّظَرُ الثَّالِثُ تَوْضِيحًا لِلنَّظَرِ الثَّانِي، مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَنْظُرُ إِلَى الْحِمَارِ، وَهِيَ جِهَةُ إِحْيَائِهِ وَارْتِفَاعِ عِظَامِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا عِنْدَ التَّرْكِيبِ وَكَسَوْتِهَا اللَّحْمَ، فَلَيْسَ نَظَرًا مُسْتَقِلًّا، بَلْ هُوَ مِنْ تَمَامِ النَّظَرِ الثَّانِي، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ بِقَوْلِهِ:
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ.
وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَإِنَّ الْأَنْظَارَ مَنْسُوقٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ إِلَخْ هو مُقَدَّمٌ فِي اللَّفْظِ، مُؤَخَّرٌ في الرتبة.
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٤.
639
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى الْبَعْثِ إِذْ وَقَعَتِ الْإِمَاتَةُ وَالْإِحْيَاءُ فِي دَارِ الدُّنْيَا مُشَاهَدَةً.
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَبَيَّنَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبَيَّنَ لَهُ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع:
بَيَّنَ لَهُ، بِغَيْرِ تَاءٍ مَبْنِيًّا لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ الظَّاهِرُ أَنَّ تَبَيَّنَ فِعْلٌ لَازِمٌ وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ، يَعْنِي أَمْرَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرُ مَعْنًى وَتَفْسِيرُ الْإِعْرَابِ أَنْ يُقَدِّرَ مُضْمَرًا يَعُودُ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ الَّتِي اسْتَغْرَبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَمَّا اتَّضَحَ لَهُ عِيَانًا مَا كَانَ مُسْتَنْكِرًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ قَبْلَ إِعَادَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ أَلْزَمَ مَا لَا يَقْتَضِيهِ، وَفَسَّرَ عَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ، وَالِاحْتِمَالُ الضَّعِيفُ مَا حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ شَكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ.
انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَدَأَ بِهِ مَا نَصُّهُ: وَفَاعِلُ تَبَيَّنَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قدير، قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَحُذِفِ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: ضَرَبَنِي وَضَرَبْتُ زَيْدًا. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْعَامِلَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَرِكَا، وَأَدَّى ذَلِكَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْفَصْلُ مُعْتَبَرًا، وَيَكُونَ الْعَامِلُ الثَّانِي مَعْمُولًا لِلْأَوَّلِ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِكَ: جَاءَنِي يَضْحَكُ زَيْدٌ. فَجَعَلَ فِي جَاءَنِي ضَمِيرًا أَوْ فِي يَضْحَكُ، حَتَّى لَا يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ فَاصِلًا، وَلَا يَرُدَّ عَلَى هَذَا جَعْلُهُمْ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً «١» ولا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ «٢» وَلَا تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ «٣» وَلَا يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «٤» مِنَ الْإِعْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَامِلَ مُشْتَرِكَةٌ بِوَجْهٍ مَا مِنْ وُجُوهِ الِاشْتِرَاكِ، وَلَمْ يَحْصُلِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعَطْفِ وَلَا الْعَمَلِ، وَلِتَقْرِيرِ هَذَا بَحْثٌ يُذْكَرُ فِي النَّحْوِ. فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا نَصُّوا فَلَيْسَ العامل الثاني مشتركا بَيْنَهُ وَبَيْنَ: تَبَيَّنَ، الَّذِي هُوَ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ بِحَرْفِ عَطْفٍ، وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَا هُوَ مَعْمُولٌ: لِتَبَيَّنَ، بَلْ هُوَ مَعْمُولٌ: لَقَالَ، وَقَالَ جَوَابُ، لَمَّا أَنْ قُلْنَا: إِنَّهَا حَرْفٌ وَعَامِلَةٌ فِي، لَمَّا أَنْ قُلْنَا إِنَّهَا ظَرْفٌ، وَ: تَبَيَّنَ، عَلَى هذا
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٩٦.
(٢) سورة الحاقة: ٦٩/ ١٩.
(٣) سورة المنافقون: ٦٣/ ٥.
(٤) سورة النساء: ٤/ ١٧٦.
640
الْقَوْلِ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالظَّرْفِ، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّحْوِيُّونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ: لَوْ جَاءَ قَتَلْتَ زَيْدًا، وَلَا: مَتَى جَاءَ قَتَلْتَ زَيْدًا، وَلَا: إِذَا جَاءَ ضَرَبْتَ خَالِدًا. وَلِذَلِكَ حَكَى النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ: أَكْرَمْتَ أَهَنْتَ زَيْدًا.
وَقَدْ نَاقَضَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ قَالَ: وَفَاعِلُ تَبَيَّنَ مُضْمَرٌ، ثُمَّ قَدَّرَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ قَالَ أَعْلَمُ... إِلَى آخِرِهِ، قَالَ: فَحُذِفَ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: ضَرَبَنِي وَضَرَبْتُ زَيْدًا، وَالْحَذْفُ يُنَافِي الْإِضْمَارَ لِلْفَاعِلِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إِضْمَارٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَلَا يُجِيزُ الْبَصْرِيُّونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ حَذْفَ الْفَاعِلِ أَصْلًا، فَإِنَّ كَانَ أَرَادَ بِالْإِضْمَارِ الْحَذْفَ فَقَدْ خَرَجَ إِلَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ مِنْ أَنَّ الْفَاعِلَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُضْمَرُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْإِضْمَارِ قَبْلَ الذِّكْرِ، بَلْ يُحْذَفُ عِنْدَهُ الْفَاعِلُ، وَالسَّمَاعُ يَرُدُّ عليه. قال الشاعر:
هويتني وَهَوَيْتُ الْخُرُدَ الْعُرْبَا أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطًا بِي هَوًى وَصِبَا
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَمَّا فِي قراءة ابن السميفع فَهُوَ مُضْمَرٌ: أَيْ: بَيَّنَ لَهُ هُوَ، أَيْ: كَيْفِيَّةَ الإحياء.
وقرأ الجمهور: قال، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، عَلَى قِرَاءَةِ جُمْهُورِ السَّبْعَةِ: أَعْلَمُ، مُضَارِعًا ضَمِيرُهُ يَعُودُ عَلَى الْمَارِّ، وَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا غَرِيبًا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وقال أبو علي: مَعْنَاهُ أَعْلَمُ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ أَكُنْ عَلِمْتُهُ، يَعْنِي يَعْلَمُ عِيَانًا مَا كَانَ يَعْلَمُهُ غَيْبًا. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي رَجَاءٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ اعْلَمْ، فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ عَلِمَ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ عَلَى الْمَلَكِ الْقَائِلِ لَهُ عَنِ اللَّهِ، وَيُنَاسِبُ هَذَا الْوَجْهُ الْأَوَامِرَ السَّابِقَةَ مِنْ قَوْلِهِ: وَانْظُرْ، فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَعْمَشِ:
قِيلَ، اعْلَمْ، فَبَنَى: قِيلَ، لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ضَمِيرُ الْقَوْلِ لَا الْجُمْلَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ مُشْبِعًا فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ الْمَارِّ، وَيَكُونَ نَزَّلَ نَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الْمُخَاطَبِ الْأَجْنَبِيِّ، كَأَنَّهُ قَالَ لِنَفْسِهِ: اعْلَمْ، وَمِنْهُ: وَدِّعْ هُرَيْرَةَ، وَأَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ، وَتَطَاوَلَ لَيْلُكَ، وَإِنَّمَا يُخَاطِبُ نَفْسَهُ، نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ.
وَرَوَى الْجَعْبِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: أُعْلِمْ، أَمْرًا مِنْ أَعْلَمَ، فالفاعل بقال يَظْهَرُ أَنَّهُ ضَمِيرٌ
641
يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أَمَرَهُ أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِمَا شَاهَدَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، وَعَلَى مَا جَوَّزُوا فِي: اعْلَمْ الْأَمْرُ، مِنْ عَلِمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ ضَمِيرَ الْمَارِّ.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، إِذْ كِلَاهُمَا أَتَى بِهَا دَلَالَةً عَلَى الْبَعْثِ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ لِنُمْرُوذَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لَكِنَّ الْمَارَّ عَلَى الْقَرْيَةِ أَرَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَفِي حِمَارِهِ، وإبراهيم أَرَاهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ، وَقُدِّمَتْ آيَةُ الْمَارِّ عَلَى آيَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُقَدَّمًا فِي الزَّمَانِ عَلَى الْمَارِّ، لِأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنَ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ تَعَجُّبَ اعْتِبَارٍ فَأَشْبَهَ الْإِنْكَارَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارًا فَكَانَ أَقْرَبَ إلى قصة النمروذ وإبراهيم، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَارُّ كَافِرًا فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ أَقْوَى ظُهُورٍ. وَأَمَّا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَهِيَ سُؤَالٌ لِكَيْفِيَّةِ إِرَاءَةِ الْإِحْيَاءِ، لِيُشَاهِدَ عِيَانًا مَا كَانَ يَعْلَمُهُ بِالْقَلْبِ، وَأَخْبَرَ بِهِ نُمْرُوذَ.
وَالْعَامِلُ فِي: إِذْ، عَلَى مَا قَالُوا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ مَذْكُورٌ وَهُوَ: أَلَمْ تَرَ، الْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ إِذْ قَالَ، وهو مفعول: بتر. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي: إِذْ، قَوْلُهُ قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ «١» وَفِي افْتِتَاحِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ، حُسْنُ اسْتِلْطَافٍ وَاسْتِعْطَافٍ لِلسُّؤَالِ، وَلِيُنَاسِبَ قَوْلَهُ لِنُمْرُوذَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ النَّاظِرُ فِي حَالِهِ، وَالْمُصْلِحُ لِأَمْرِهِ، وَحُذِفَتْ يَاءُ الْإِضَافَةِ اجْتِزَاءً بِالْكَسْرَةِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى فِي نِدَاءِ الْمُضَافِ لِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَحُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَ: أَرِنِي، سُؤَالُ رغبة، وهو معمول: لقال، والرؤية هنا بصيرية، دَخَلَتْ عَلَى رَأَى هَمْزَةُ النَّقْلِ، فَتَعَدَّتْ لِاثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْآخَرُ الْجُمْلَةُ الاستفهامية.
فقوله: كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَتُعَلِّقُ الْعَرَبُ رَأَى الْبَصْرِيَّةَ مِنْ كَلَامِهِمْ، أَمَا تَرَى، أَيَّ بَرْقٍ هَاهُنَا. كَمَا عَلَّقَتْ: نَظَرَ، الْبَصْرِيَّةَ. وَقَدْ تَقَرَّرَ.
وَعُلِمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ الَّتِي فِيهَا رَذِيلَةٌ إِجْمَاعًا، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وإذا كان كذلك، فقد تَكَلَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا فِي حَقِّ مَنْ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ هُنَا بِكَلَامٍ ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ صَفْحًا، وَنَقُولُ: أَلْفَاظُ الْآيَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى عُرُوضِ شَيْءٍ يَشِينُ الْمُعْتَقِدَ، لِأَنَّ ذَلِكَ سُؤَالُ أَنْ يُرِيَهُ عِيَانًا كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَتَيَقَّنَهُ،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٠.
642
وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نُمْرُوذَ فِي قَوْلِهِ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رُؤْيَةَ ذَلِكَ، لِمَا فِي مُعَايَنَةِ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَةِ اجْتِمَاعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَلَاشِيَةِ، وَالْأَعْضَاءِ الْمُتَبَدِّدَةِ، وَالصُّوَرِ الْمُضْمَحِلَّةِ، وَاسْتِعْظَامِ بَاهِرِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى. وَالسُّؤَالُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ يَقْتَضِي تَيَقُّنَ مَا سَأَلَ عَنْهُ:
وَهُوَ الْإِحْيَاءُ، وَتَقَرُّرُهُ، وَالْإِيمَانُ بِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّا انْطَوَى الضَّمِيرُ عَلَى اعْتِقَادِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَعَانِي: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ مِنْ رَبِّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْقُلُوبَ، فَتَأْوِيلٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالُوا وفي سَبَبِ سُؤَالِهِ أَقْوَالَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَأَى دَابَّةً قَدْ تَوَزَّعَتْهَا السِّبَاعُ وَالْحِيتَانُ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَى حَاشِيَةِ الْبَحْرِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. أَوْ: الْفِكْرُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِمَا قَالَهُ نُمْرُوذُ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، أَوِ: التَّجْرِبَةُ لِلْخُلَّةِ مِنَ اللَّهِ إِذْ بَشَّرَ بِهَا، لِأَنَّ الْخَلِيلَ يُدَلُّ بِمَا لَا يُدَلُّ غَيْرُهُ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ.
قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ الضَّمِيرُ فِي: قَالَ، عَائِدٌ عَلَى الرَّبِّ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ، كَقَوْلِهِ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا؟
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «١» الْمَعْنَى: أَنْتُمْ خَيْرُ، وَقَدْ شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، وَكَذَلِكَ هَذَا مَعْنَاهُ: قَدْ آمَنْتُ بِالْإِحْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. إِيمَانًا مُطْلَقًا دَخَلَ فِيهِ فِعْلُ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَالْوَاوُ: وَاوُ حَالٍ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ التَّقْرِيرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَوْنُ الْوَاوِ هُنَا لِلْحَالِ غَيْرَ وَاضِحٍ، لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ لِلْحَالِ فلابد أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَإِذْ ذَاكَ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ عَامِلٍ، فَلَا تَكُونُ الْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ دَخَلَتْ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا وَعَلَى ذِي الْحَالِ، وَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَسَأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ؟ أَيْ: أَسَأَلْتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ؟.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّقْرِيرَ إِنَّمَا هُوَ مُنْسَحِبٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ، وَأَنَّ: الْوَاوَ، لِلْعَطْفِ، كَمَا قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً «٢» وَنَحْوُهُ. وَاعْتَنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَقُدِّمَتْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي هَذَا، وَلِذَلِكَ كان الجواب: ببلى، فِي قَوْلِهِ قالَ: بَلى وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ جَوَابَ التَّقْرِيرِ الْمُثْبَتِ، وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ النَّفْيِ، تُجْرِيهِ الْعَرَبُ مَجْرَى جَوَابِ النَّفْيِ الْمَحْضِ، فَتُجِيبُهُ عَلَى صُورَةِ النَّفْيِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَعْنَى الْإِثْبَاتِ، وَهَذَا مِمَّا قَرَّرْنَاهُ، أَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يُلْحَظُ فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ عِلَّةٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَعَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ أَنَّ: الْوَاوَ، لِلْحَالِ لَا يَتَأَتَّى أَنْ يُجَابَ العامل في الحال
(١) سورة الشرح: ٩٤/ ١. [.....]
(٢) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٦٧.
643
بِقَوْلِهِ: بَلَى، لِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مُثْبَتٌ مُسْتَفْهَمٌ عَنْهُ، فَالْجَوَابُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي التَّصْدِيقِ: بِنَعَمْ، وَفِي غَيْرِ التَّصْدِيقِ: بِلَا، أَمَّا أَنْ يجاب: ببلى، فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ: أو لم تُؤْمِنْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَثْبَتُ النَّاسِ إِيمَانًا؟.
قُلْتُ: لِيُجِيبَ بِمَا أَجَابَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ الْجَلِيلَةِ لِلسَّامِعِينَ، وَ: بَلَى، إِيجَابٌ لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ، مَعْنَاهُ: بَلَى آمَنْتُ، وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، لِيَزِيدَ سُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً بِمُضَامَّةِ عِلْمِ الضَّرُورَةِ عَلَمُ الِاسْتِدْلَالِ. وَتَظَاهُرُ الْأَدِلَّةِ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَأَزْيَدُ لِلْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ، وَلِأَنَّ عِلْمَ الِاسْتِدْلَالِ يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَأَرَادَ بِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ الْعِلْمَ الَّذِي لَا مَجَالَ فِيهِ لِلتَّشْكِيكِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ عِلْمُ الِاسْتِدْلَالِ يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ كَمَا قَالَ، بَلْ مِنْهُ مَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ. أَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ مُقَدِّمَاتِ صَحِيحَةٍ فَلَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ، كَعِلْمِنَا بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَبِوَحْدَانِيَّةِ الْمُوجِدِ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ مَعَهُ التَّشْكِيكُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِيَطْمَئِنَّ، مَعْنَاهُ: لِيَسْكُنَ عَنْ فِكْرِهِ فِي الشَّيْءِ الْمُعْتَقَدِ، وَالْفِكْرُ فِي صُورَةِ الْإِحْيَاءِ غَيْرُ مَحْظُورٍ، كَمَا لَنَا نَحْنُ الْيَوْمَ أَنْ نُفَكِّرَ فِيهَا، بَلْ هِيَ فِكَرٌ فِيهَا عِبَرٌ، إِذْ حَرَّكَهُ إِلَى ذَلِكَ، إِمَّا أَمْرُ الدَّابَّةِ الْمَأْكُولَةِ، وَإِمَّا قَوْلُ النُّمْرُوذِ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَطْمَئِنَّ، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ بَعْدَ لَكِنْ، التَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ سَأَلْتُ مُشَاهَدَةَ الْكَيْفِيَّةِ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، فَيَقْتَضِي تَقْدِيرُ هَذَا الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرَ مَحْذُوفٍ آخَرَ قَبْلَ لَكِنْ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْرَاكُ، التَّقْدِيرُ: قَالَ: بَلَى أَيْ آمَنْتُ، وَمَا سَأَلْتُ عَنْ غَيْرِ إِيمَانٍ، وَلَكِنْ سَأَلْتُ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.
وَرُوِيَ عَنِ: ابْنِ جُبَيْرٍ، وإبراهيم، وَقَتَادَةَ: لِيَزْدَادَ يَقِينًا، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: لِأَزْدَادَ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا زِيَادَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تُمْكِنُ إِلَّا السُّكُونُ عَنِ الْفِكْرِ، وَإِلَّا فَالْيَقِينُ لَا يَتَبَعَّضُ. انْتَهَى.
وَقَالَ النَّصْرَابَاذِيُّ: حَنَّ الْخَلِيلُ إِلَى صُنْعِ خَلِيلِهِ وَلَمْ يَتَّهِمْهُ فِي أَمْرِهِ، فَكَأَنَّهُ قَوَّلَهُ الشَّوْقُ: أَرِنِي، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ تَعَلَّلَ بِرُؤْيَةِ الصُّنْعِ لَهُ تَأَدُّبًا. وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ أَنَّهُ قِيلَ: اسْتَجْلَبَ خِطَابًا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ لَهُ الحق: أو لم تُؤْمِنْ؟ قَالَ: بَلَى
644
آمَنْتُ، وَلَكِنِ اشْتَقْتُ إِلَى قولك: أو لم تؤمن؟ فإني بقولك: أو لم تُؤْمِنْ؟ يَطَمَئِنُّ قَلْبِي وَالْمُحِبُّ أَبَدًا يَجْتَهِدُ فِي أَنْ يَجِدَ خِطَابَ حَبِيبِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ.
قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ لَمَّا سَأَلَ رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى أَجَابَهُ تَعَالَى لِذَلِكَ، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَصْنَعُ أَوَّلًا، فَأَمْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى تَعْيِينَ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ هِيَ مِنَ الطَّيْرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُعَيَّنًا، وَمَا ذُكِرَ تَعْيِينُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِأَخْذِ أَرْبَعَةٍ، أَيْ أَرْبَعَةً كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، إِذْ لَا كَبِيرَ عِلْمٍ فِي ذِكْرِ التَّعْيِينِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا أَخَذَ، فَقَالَ ابن عباس: أخذ طاووسا وَنَسْرًا وَدِيكًا وَغُرَابًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا حَمَامَةً بَدَلَ النَّسْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، فِيمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُبَيْرَةَ عَنْهُ: أَخَذَ حَمَامَةً وَكُرْكِيًّا وديكا وطاووسا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ: أخذ طاووسا وَدِيكًا وَدَجَاجَةً سِنْدِيَّةً وَأَوِزَّةً. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُ مَكَانُ الدَّجَاجَةِ السِّنْدِيَّةِ: الرَّأْلُ، وَهُوَ فَرْخُ النَّعَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِيمَا رَوَى لَيْثٌ: دِيكٌ وحمامة وبطة وطاووس. وَقَالَ: دِيكٌ وَحَمَامَةٌ وَبَطَّةٌ وَغُرَابٌ.
وَزَادَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَصْفًا فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَقَالَ: دِيكٌ أَحْمَرُ، وَحَمَامَةٌ بَيْضَاءُ، وَبَطَّةٌ خَضْرَاءُ، وَغُرَابٌ أَسْوَدُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: طاووس وَحَمَامَةٌ وَدِيكٌ وَهُدْهُدٌ، وَلَمَّا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفِيَّةَ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَكَانَ لَفْظُ الْمَوْتَى جَمْعًا، أُجِيبَ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا مَدْلُولُهُ جَمْعٌ، لَا أَنْ يَأْخُذَ وَاحِدًا.
قِيلَ: وَخَصَّ هَذَا الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ إِشَارَةً إِلَى الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي فِي تَرْكِيبِ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَكَانَتْ مِنَ الطَّيْرِ، قِيلَ لِأَنَّ الطَّيْرَ هِمَّتُهُ الطَّيَرَانُ فِي السَّمَاءِ وَالِارْتِفَاعُ، وَالْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعُلُوَّ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَلَكُوتِ، فَجُعِلَتْ مُعْجِزَتُهُ مُشَاكِلَةً لِهِمَّتِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَعْيِينِ الْأَرْبَعَةِ بِمَا عُيِّنَ قِيلَ: خُصَّ الطَّاوُوسُ إِشَارَةً إِلَى مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ حُبِّ الزِّينَةِ وَالْجَاهِ وَالتَّرَفُّعِ، وَالنَّسْرُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الشَّغَفِ بِالْأَكْلِ وَطُولِ الْأَمَلِ، وَالدِّيكُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الشَّغَفِ بِقَضَاءِ شَهْوَةِ النِّكَاحِ، وَالْغُرَابُ إِشَارَةً إِلَى شِدَّةِ الْحَرْصِ وَالطَّلَبِ. وَمَا أَبْدَوْهُ فِي تَخْصِيصِ الْأَرْبَعَةِ وَفِي تَعْيِينِهَا لَا تَكَادُ تَظْهَرُ حِكْمَتُهُ فِيمَا ذَكَرُوهُ، وَمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ مُخْتَلِفٌ، وَحِكْمَةُ اخْتِصَاصِ كُلِّ نَبِيٍّ بِمَا أَجْرَى اللَّهُ لَهُ مِنْهَا مَغِيبَةٌ عَنَّا. أَلَا تَرَى خَرْقَ الْعَادَةِ لِمُوسَى فِي أَشْيَاءَ، وَلِعِيسَى فِي أَشْيَاءَ غَيْرِهَا، وَلِرَسُولِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَعَلَيْهِمْ فِي أَشْيَاءَ لَا يَظْهَرُ لَنَا سِرُّ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ؟ فَكَذَلِكَ كَوْنُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الطَّيْرِ، لَا يَظْهَرُ لَنَا سِرُّ حِكْمَتِهِ فِي ذَلِكَ.
645
وَأَمَرَهُ بِالْأَخْذِ لِلطُّيُورِ وَهُوَ: إِمْسَاكُهَا بِيَدِهِ لِيَكُونَ أَثْبَتَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِكَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ حَاسَّةُ الرُّؤْيَةِ، وَحَاسَّةِ اللَّمْسِ.
وَالطَّيْرُ اسْمُ جَمْعٍ لِمَا لَا يَعْقِلُ، يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ، وَهُنَا أَتَى مُذَكَّرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ وَجَاءَ عَلَى الْأَفْصَحِ فِي اسْمِ الْجَمْعِ فِي الْعَدَدِ حَيْثُ فُصِلَ: بِمِنْ، فَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الطَّيْرِ يَجُوزُ الْإِضَافَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تِسْعَةُ رَهْطٍ «١» وَنَصَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الْإِضَافَةَ لِاسْمِ الْجَمْعِ فِي الْعَدَدِ نَادِرَةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لِمَا لَا يَعْقِلُ مُؤَنَّثٌ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ صَوَابٍ.
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أَيْ قَطِّعْهُنَّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ بِالنَّبَطِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: هِيَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
قَطِّعْهُنَّ. وَأَنْشَدَ لِلْخَنْسَاءِ:
فَلَوْ يُلَاقِي الَّذِي لَاقَيْتُهُ حِضْنٌ لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهِيَ تَنْصَارُ
أَيْ تَتَقَطَّعُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَصِلْهُنَّ، وَعَنْهُ: مَزِّقْهُنَّ وَفَرِّقْهُنَّ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ:
اضْمُمْهُنَّ إِلَيْكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: اجْمَعْهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، أَوْثِقْهُنَّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: شَقِّقْهُنَّ، بِالنَّبَطِيَّةِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَمِلْهُنَّ.
وَإِذَا كَانَ: فَصُرْهُنَّ، بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ فَتَتَعَلَّقُ إِلَيْكَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ بمعنى التقطيع تعلق بخذ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَيَزِيدُ، وَخَلَفٌ، وَرُوَيْسٌ، بِكَسْرِ الصَّادِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ. وَهُمَا لُغَتَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ: صَارَ يُصَوِّرُ وَيَصِيرُ، بِمَعْنَى أَمَالَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَوْمٌ: فَصُرُّهُنَّ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا مَنْ صَرَّهُ يَصُرُّهُ وَيَصِرُّهُ، إِذَا جَمَعَهُ، نَحْوَ: ضَرَّهُ يَضُرُّهُ وَيَضِرُّهُ، وَكَوْنُهُ مُضَاعَفًا مُتَعَدِّيًا جَاءَ عَلَى يَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ، وَعَنْهُ: فَصَرِّهُنَّ، بِفَتْحِ الصَّادِّ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا مِنَ التَّصْرِيَةِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ. وَعَنْهُ أَيْضًا:
فَصُرِّهُنَّ إِلَيْكَ، بِضَمِّ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ.
وَإِذَا تُؤُوِّلَ: فَصُرْهُنَّ، بِمَعْنَى الْقَطْعِ فَلَا حَذْفَ، أَوْ بِمَعْنَى: الْإِمَالَةِ فَالْحَذْفُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَقَطِّعْهُنَّ وَاجْعَلْهُنَّ أَجْزَاءً، وَعَلَى تَفْسِيرِ: فَصُرْهُنَّ بِمَعْنَى أَمِلْهُنَّ وَضُمَّهُنَّ إِلَى
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٤٨.
646
نَفْسِكَ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ ليتأمل أشكالها وهيئاتها وحلالها لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ.
ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً الْعُمُومُ فِي كُلِّ جَبَلٍ مُخَصَّصٍ بِوَصْفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: يَلِيكَ، أَوْ: بِحَضْرَتِكَ، دُونَ مُرَاعَاةِ عَدَدٍ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ رُبْعٍ مِنْ أَرْبَاعِ الدُّنْيَا، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَخُصِّصَتِ الْجِبَالُ بِعَدَدِ الْأَجْزَاءِ، فَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَقِيلَ: عَشَرَةٌ، قَالَه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ، وَقَالَ عَنْهُ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ: إِنَّهُ الْعُشْرُ، إِذْ كَانَتْ أَشْلَاءُ الطُّيُورِ عَشَرَةً.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ ثَلَاثَةً مِمَّا يُشَاهِدُهُ بَصَرُهُ، بِحَيْثُ يَرَى الْأَجْزَاءَ، وَكَيْفَ تَلْتَئِمُ إِذَا دَعَا الطُّيُورَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جُزْءًا بِإِسْكَانِ الزَّايِ وَبِالْهَمْزِ، وَضَمَّ أَبُو بَكْرٍ: الزَّايَ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، جُزًّا، بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ حِينَ حَذَفَ ضَعَّفَ الزَّايَ، كَمَا يَفْعَلُ فِي الْوَقْفِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا فَرْجٌ ثُمَّ أَجْرَى مَجْرَى الْوَقْفِ.
وَ: اجْعَلْ، هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: أَلْقِ، فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَيَتَعَلَّقُ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ. بِاجْعَلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: صَيَّرَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، وَيَكُونُ الثَّانِي عَلَى كُلِّ جَبَلٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً أَمَرَهُ بِدُعَائِهِنَّ وَهُنَّ أَمْوَاتٌ، لِيَكُونَ أَعْظَمَ لَهُ فِي الْآيَةِ، وَلِتَكُونَ حَيَاتُهَا مُتَسَبِّبَةً عَنْ دُعَائِهِ، وَلِذَلِكَ رَتَّبَ عَلَى دُعَائِهِ إِيَّاهُنَّ إِتْيَانَهُنَّ إِلَيْهِ، وَالسَّعْيُ هُوَ:
الْإِسْرَاعُ فِي الشَّيْءِ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: لَا يُقَالُ سَعَى الطَّائِرُ، يَعْنِي عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، فَيُقَالُ: وَتَرْشِيحُهُ هُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَاهُنَّ فَأَتَيْنَهُ تَنَزَّلْنَ مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ الَّذِي يُوصَفُ بِالسَّعْيِ، وَكَانَ إِتْيَانُهُنَّ مُسْرِعَاتٍ فِي الْمَشْيِ أَبْلَغَ فِي الْآيَةِ، إِذْ إِتْيَانُهُنَّ إِلَيْهِ مِنَ الْجِبَالِ يَمْشِينَ مُسْرِعَاتٍ هُوَ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ لَهُنَّ مِنَ الطَّيَرَانِ، وَلِيُظْهِرَ بِذَلِكَ عِظَمَ الْآيَةِ، إِذْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُنَّ يَأْتِينَ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِنَّ مِنَ الطَّيَرَانِ، فَكَانَ كَذَلِكَ. وَجَعَلَ سَيْرَهُنَّ إِلَيْهِ سَعْيًا، إِذْ هُوَ مِشْيَةُ الْمُجِدِّ الرَّاغِبِ فِيمَا يَمْشِي إِلَيْهِ، لِإِظْهَارِ جِدِّهَا فِي قَصْدِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ.
647
وَانْتِصَابُ: سَعْيًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الطُّيُورِ، أَيْ:
سَاعِيَاتٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّ الْمَعْنَى يَأْتِينَكَ وَأَنْتَ تَسْعَى سَعْيًا. فَعَلَى هَذَا يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكَافِ، وَكَانَ الْمَعْنَى: يَأْتِينَكَ وَأَنْتَ سَاعٍ إِلَيْهِنَّ، أَيْ يَكُونُ مِنْهُنَّ إِتْيَانٌ إِلَيْكَ، وَمِنْكَ سَعْيٌ إِلَيْهِنَّ، فَتَلْتَقِي بِهِنَّ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَقِيلَ: انْتَصَبَ: سَعْيًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِأَنَّ السَّعْيَ وَالْإِتْيَانَ مُتَقَارِبَانِ.
وَرُوِيَ فِي قَصَصِ الْآيَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَخَذَ هَذِهِ الطُّيُورَ وَذَكَاهَا وَقَطَعَهَا قِطَعًا صِغَارًا، وَجَمَعَ ذَلِكَ مَعَ الدَّمِ وَالرِّيشِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ الْمُخْتَلِطِ جُزْءًا عَلَى كُلِّ جَبَلٍ، وَوَقَفَ هُوَ مِنْ حَيْثُ يَرَى الأجزاء، وأمسك رؤوس الطَّيْرِ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: تَعَالَيْنَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَتَطَايَرَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ وَصَارَ الدَّمُ إِلَى الدَّمِ، وَالرِّيشُ إِلَى الرِّيشِ، حَتَّى الْتَأَمَتْ كما كانت أولا، وبقيت بلا رؤوس، ثُمَّ كَرَّرَ النِّدَاءَ فَجَاءَتْهُ سَعْيًا حَتَّى وُضِعَتْ أَجْسَادُهَا في رؤوسها، وَطَارَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ.
وَزَادَ النَّحَاسُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ إِذَا أَشَارَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِغَيْرِ رَأْسِهِ تَبَاعَدَ الطَّائِرُ، وَإِذَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ قَرُبَ مِنْهُ حَتَّى لَقِيَ كُلُّ طَائِرٍ رَأْسَهُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: ذَبَحَهُنَّ وَنَحَزَ أَجَزَاءَهُنَّ فِي المنحاز، يعني الهاون لأرؤسهن، وَجَعَلَ ذَلِكَ الْمُخْتَلِطَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ عَلَى عَشَرَةِ جِبَالٍ، ثُمَّ جَعَلَ مَنَاقِيرَهُنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ دَعَاهُنَّ فَأَتَيْنَ سَعْيًا يَتَطَايَرُ اللَّحْمُ إِلَى اللَّحْمِ، وَالرِّيشُ إِلَى الرِّيشِ، وَالْجِلْدُ إِلَى الْجِلْدِ، بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَطَعَ أَعْضَاءَهَا وَلُحُومَهَا وَرِيشَهَا وَخَلَطَ بعضها ببعص مَعَ دِمَائِهَا، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَقَالَ: لَمَّا طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ إِحْيَاءَ الْمَيِّتِ مِنَ اللَّهِ، أَرَاهُ مِثَالًا قَرَّبَ بِهِ الْأَمْرَ عَلَيْهِ، والمراد: بصرهنّ إِلَيْكَ: أَمِلْهُنَّ، وَمُرْ بِهِنَّ عَلَى الْإِجَابَةِ بِحَيْثُ يَصِرْنَ إِذَا دَعَوْتَهُنَّ أَجَبْنَكَ، فَإِذَا صِرْنَ كَذَلِكَ فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ وَاحِدًا مِنْهَا حَالَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا.
وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ فِي عَوْدِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ، وَأَنْكَرَ الْقَوْلَ بِالتَّقْطِيعِ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ فِي: فَصُرْهُنَّ، أَمْلِهُنَّ. وَأَمَّا التَّقْطِيعُ وَالذَّبْحُ، فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى: قَطِّعْهُنَّ، لَمْ يَقُلْ: إِلَيْكَ، وَتَعْلِيقُهُ: بِخُذْ، خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَبِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي: ثُمَّ ادْعُهُنَّ، وَفِي يَأْتِينَكَ عَائِدٌ إِلَيْهَا لَا إِلَى الْأَجْزَاءِ وَعَوْدُهُ عَلَى الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا دَلِيلَ فِيمَا ذُكِرَ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى التَّقْطِيعِ، وَبِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ
648
بِإِبْرَاهِيمَ، فَلَا مَزِيَّةَ لَهُ. وَبِأَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَلَا إِرَاءَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ.
وَاحْتَجَّ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُجِيبَ بِأَنَّ ظَاهِرَ: ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ منهنّ جزأ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الطيور جعلت جزأ جزأ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا سُمِّيَ جُزْءًا وَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى جَبَلٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَزِيزٌ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُ، حَكِيمٌ فِيمَا يُرِيدُ وَيُمَثِّلُ، وَالْعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ، لِأَنَّ الْغَلَبَةَ تَكُونُ عَنِ الْعِزَّةِ. وَقِيلَ: عَزِيزٌ مُنْتَقِمٌ مِمَّنْ يُنْكِرُ بَعْثَ الْأَمْوَاتِ، حَكِيمٌ فِي نَشْرِ الْعِظَامِ الرفاة.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْقِصَصُ الثَّلَاثُ، مِنْ فَصِيحِ الْمُحَاوَرَةِ بِذِكْرِ: قَالَ، سُؤَالًا وَجَوَابًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ، إِذْ لَا يُحْتَاجُ إِلَى التَّشْرِيكِ بِالْحَرْفِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُشْرِكْ لَمْ يَسْتَقِلْ، فَيُؤْتَى بِحَرْفِ التَّشْرِيكِ لِيَدُلَّ عَلَى مَعْنَاهُ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَالْأَحْسَنُ تَرْكُ الْحَرْفِ إِذَا كَانَ أَخَذَ بَعْضُهُ بِعُنُقِ بَعْضٍ، وَمُرَتَّبٌ بَعْضُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «١».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦١ الى ٢٦٦]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
(١) سورة البقرة: ٢/ ٣٠.
649
الْحَبَّةُ: اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا يَزْرَعُهُ ابْنُ آدَمَ وَيَقْتَاتُهُ، وَأَشْهَرُ ذَلِكَ الْبُرُّ، وَكَثِيرًا مَا يُرَادُ بِالْحَبِّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ:
آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أُطْعَمُهُ وَالْحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ
وَحَبَّةُ الْقَلْبِ سُوَيْدَاؤُهُ، وَالْحِبَّةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ بُذُورُ الْبَقْلِ مِمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ، وَالْحُبَّةُ بِالضَّمِّ الْحُبُّ وَالْحُبُّ الْحَبِيبُ.
الْإِنْبَاتُ: الْإِخْرَاجُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَلُّدِ.
السُّنْبُلَةُ: مَعْرُوفَةٌ، وَوَزْنُهَا فُنْعُلَةٌ، فَالنُّونُ زَائِدَةٌ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ: أَسْبَلَ الزَّرْعُ أَرْسَلَ مَا فِيهِ كَمَا يَنْسَبِلُ الثَّوْبُ، وَحَكَى بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ سَنْبَلَ الزَّرْعَ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا النُّونُ أَصْلِيَّةٌ، وَوَزْنُهُ فَعْلَلَ، لِأَنَّ فَنَعْلَ لَمْ يَثْبُتْ فَيَكُونُ مَعَ أَسْبَلَ كَسِبْطٍ وَسِبَطَرٍ.
الْمَنُّ: مَا يُوزَنُ بِهِ، وَالْمَنُّ قَدَرُ الشَّيْءِ وَوَزْنُهُ، وَالْمَنُّ وَالْمِنَّةُ النِّعْمَةُ، مَنَّ عَلَيْهِ أَنْعَمَ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الْمَنَّانُ، وَالْمَنُّ النَّقْصُ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَخْسُ لَهُ، وَمِنْهُ الْمَنُّ الْمَذْمُومُ، وَهُوَ ذِكْرُ الْمِنَّةِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَخْرِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَالِاعْتِدَادِ عَلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ، وَأَصْلُ الْمَنِّ الْقَطْعُ، لِأَنَّ الْمُنْعِمَ يَقْطَعُ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ لِمَنْ يُنْعَمُ عَلَيْهِ.
الْغَنِيُّ: فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ غِنَى وَهُوَ الَّذِي لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتُهُ وَيُقَالُ غَنِيٌّ: أَقَامَ بِالْمَكَانِ، وَالْغَانِيَةُ: هِيَ الَّتِي غَنِيَتْ بِحُسْنِهَا عَنِ التَّحَسُّنِ.
650
الرِّئَاءُ: فِعَالٌ مَصْدَرٌ مِنْ رَاءٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ هَمْزَتِهِ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنْ يَرَى النَّاسَ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْبِرِّ حَتَّى يُثْنُوا عَلَيْهِ وَيُعَظِّمُوهُ بِذَلِكَ لَا نِيَّةَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ.
الصَّفْوَانُ: الْحَجَرُ الْكَبِيرُ الْأَمْلَسُ، وَتَحْرِيكُ فَائِهِ بِالْفَتْحِ لُغَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَاحِدُهُ صَفْوَانَةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الصَّفْوَانُ وَاحِدُهُ صَفِيٌّ، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ، وَقَالَ: صُفِيٌّ جَمْعُ صَفَا نَحْوَ: عَصَا وَعُصِيٍّ، وَقَفَا وَقُفِيٍّ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا: صَفْوَانٌ وَاحِدٌ، وَجَمْعُهُ صفوان بكر الصَّادِ. وَقَالَهُ النَّحَاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَكْسُورُ الصَّادِ وَاحِدًا. وَمَا قَالَهُ الْكِسَائِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ صَفْوَانٌ جمل لِصَفَا. كَوَرَلٍ وَوِرْلَانِ، وَأَخٍ وَإِخْوَانٍ. وَكَرَى وَكَرَوَانِ.
التُّرَابُ: مَعْرُوفٌ وَيُقَالُ فِيهِ تَوْرَابٌ، وَتَرِبَ الرَّجُلُ افْتَقَرَ، وَاتَّرَبَ اسْتَغْنَى، الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ، أَيْ: زَالَ عَنْهُ التُّرْبُ وهو القر، وَإِذَا زَالَ عَنْهُ كَانَ غَنِيًّا.
الْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، وَبَلَتِ السَّمَاءُ تَبِلُّ، وَالْأَرْضُ مَوْبُولَةٌ. وَقَالَ النَّضْرُ: أَوَّلُ مَا يَكُونُ الْمَطَرُ رَشًّا، ثُمَّ طَسًّا، ثُمَّ طَلًّا، وَرَذَاذًا، ثُمَّ نَضْحًا وَهُوَ قَطْرَتَيْنِ قَطْرَتَيْنِ، ثُمَّ هَطْلًا وَتَهْتَانًا ثُمَّ وَابِلًا وُجُودًا. والوبيل: الوخيم، والوبيل: العصي الغليظة، والبيلة حُزْمَةُ الْحَطَبِ.
الصَّلْدُ: الْأَجْرَدُ الْأَمْلَسُ النَّقِيُّ مِنَ التُّرَابِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ صَلَدَ جَبِينُ الْأَصْلَعِ بَرَقَ. يُقَالُ: صَلَدَ يَصْلُدُ صَلَدًا. بِتَحْرِيكِ اللَّامِ فَهُوَ صَلْدٌ بِالْإِسْكَانِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: الصَّلْدُ الْأَجْرَدُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. وَحَكَى أَبَانُ بْنُ تَغْلِبٍ: أَنَّ الصَّلْدَ هُوَ اللَّيِّنُ مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: الصَّلْدُ، الْخَالِي مِنَ الْخَيْرِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَرَضِينَ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ: قَدْرٌ صَلُودٌ:
بَطِيئَةُ الْغَلَيَانِ.
الرَّبْوَةُ: قَالَ الْخَلِيلُ: أَرْضٌ مُرْتَفِعَةٌ طَيِّبَةٌ، وَيُقَالُ فِيهَا: الرِّبَاوَةُ، وَتُثَلَّثُ الرَّاءُ فِي اللُّغَتَيْنِ، وَيُقَالُ: رَابِيَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَغَيْثٍ من الوسميّ جوّ تِلَاعُهُ أَجَابَتْ رَوَابِيهِ النِّجَا وَهَوَاطِلُهُ
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَيُخْتَارُ الضَّمُّ فِي رَبْوَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُسْمَعُ فِي الْجَمْعِ إِلَّا الرِّبَا، وَأَصْلُهُ مِنْ رَبَا الشَّيْءُ زَادَ وَارْتَفَعَ. وَتَفْسِيرُ السُّدِّيِّ بِأَنَّهَا: مَا انْخَفَضَ مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
الطَّلُّ: الْمُسْتَدَقُّ مِنَ الْقَطْرِ الْخَفِيفِ، هَذَا مَشْهُورُ اللُّغَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ:
الطَّلُّ النَّدَى، وَهَذَا تَجَوُّزٌ. وَفِي (الصِّحَاحِ) : الطَّلُّ أَضْعَفُ الْمَطَرِ، وَالْجَمْعُ طِلَالٌ، يُقَالُ:
طَلَّتِ الْأَرْضُ وهو مَطْلُولٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
651
وَلَمَّا نَزَلْنَا مَنْزِلًا طَلَّهُ النَّدَى وَيُقَالُ أَيْضًا: أَطَلَّهَا النَّدَى، وَالطَّلَّةُ الزَّوْجَةُ.
النَّخِيلُ: اسْمُ جَمْعٍ أَوْ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، كَنَخْلٍ اسْمُ الْجِنْسِ، كَمَا قَالُوا كَلْبٌ وَكُلَيْبٌ.
قَالَ الرَّاغِبُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْخُولُ الْأَشْجَارِ وَصَفْوُهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَكْرَمُ مَا يَنْبُتُ، لِكَوْنِهِ مُشَبَّهًا لِلْحَيَوَانِ فِي احْتِيَاجِ الْأُنْثَى مِنْهُ إِلَى الْفَحْلِ فِي التَّذْكِيرِ، أَيِ التَّلْقِيحِ، وَأَنَّهُ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهُ لَمْ يُثْمِرْ.
الْعِنَبُ: ثَمَرُ الْكَرْمِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَاحِدُهُ عِنَبَةٌ، وَجُمِعَ عَلَى أَعْنَابٍ. وَيُقَالُ: عِنَبَاءُ بِالْمَدِّ غِيرِ مُنْصَرِفٍ عَلَى وَزْنِ سِيَرَاءَ فِي مَعْنَى الْعِنَبِ.
الْإِعْصَارُ: رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَرْتَفِعُ فَيَرْتَفِعُ مَعَهَا غُبَارٌ إِلَى السَّمَاءِ يُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ الزَّوْبَعَةُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَقِيلَ: الرِّيحُ السَّمُومُ الَّتِي تَقْتُلُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعْصِرُ السَّحَابَ، وَجَمْعُهَا أَعَاصِيرُ.
الِاحْتِرَاقُ: مَعْرُوفٌ وَفِعْلُهُ لَا يَتَعَدَّى، وَمُتَعَدِّيهِ رُبَاعِيٌّ، تَقُولُ: أَحْرَقَتِ النَّارُ الْحَطَبَ وَالْخُبْزَ، وَحَرَقَ نَابُ الرَّجُلِ ثُلَاثِيٌّ لَازِمٌ إِذَا احْتَكَّ بِغَيْرِهِ غَيْظًا، وَمُتَعَدٍّ تَقُولُ: حَرَقَ الرَّجُلُ نَابَهُ، حَكَّهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْغَيْظِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابَهُ عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهُ
قَرَأْنَاهُ بِرَفْعِ النَّابِ وَنَصْبِهِ.
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ الْمَارِّ عَلَى قَرْيَةٍ وَقِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَا مِنْ أَدَلِّ دَلِيلٍ عَلَى الْبَعْثِ، ذَكَرَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ يَوْمَ الْبَعْثِ، وَمَا يَجِدُ جَدْوَاهُ هُنَاكَ. وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَعْقَبَ قِصَّةَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ بِقَوْلِهِ:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «١» وَكَمَا أَعْقَبَ قَتْلَ دَاوُدَ جَالُوتَ، وَقَوْلَهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا «٢» بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ «٣» فَكَذَلِكَ أَعْقَبَ هُنَا ذِكْرَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ بِذِكْرِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّفَقَةِ فِي سبيل
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٣.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٤.
652
اللَّهِ، لِأَنَّ ثَمَرَةَ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّمَا تَظْهَرُ حَقِيقَةً يَوْمَ الْبَعْثِ: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً «١» وَاسْتِدْعَاءُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُذَكِّرٌ بِالْبَعْثِ، وَخَاضَ عَلَى اعْتِقَادِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُودَهُ لَمَا كَانَ يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي تَمْثِيلِ النَّفَقَةِ بِالْحَبَّةِ الْمَذْكُورَةِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى الْبَعْثِ، وَعَظِيمِ الْقُدْرَةِ، إِذْ حَبَّةٌ وَاحِدَةٌ يُخْرِجُ اللَّهُ مِنْهَا سَبْعَمِائَةِ حَبَّةٍ، فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعُجَابِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إحياء الموات، ويجامع مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنَ التَّغْذِيَةِ وَالنُّمُوِّ.
وَيُقَالُ: لَمَّا ذَكَرَ الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ، وَدَلَائِلَ سحتها، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ، فَبَدَأَ بِإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمْعَنَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى كَيْفِيَّةِ تَحْصِيلِ الأموال بالوجه الذي جوز شَرْعًا. وَلَمَّا أَجْمَلَ فِي ذِكْرِ التَّضْعِيفِ فِي قَوْلِهِ: أَضْعافاً كَثِيرَةً «٢» وَأَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ «٣» فَصَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَيَّدَ بِذِكْرِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَمَا بَيْنَ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُحْسِنِ التَّكْلِيفَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ. وَالْمَثَلُ هُنَا الصِّفَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ:
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَيْ كَصِفَةِ حَبَّةٍ، وَتَقْدِيرُ زِيَادَةِ الْكَافِ، أَوْ زِيَادَةِ مَثَلٍ. قَوْلٌ بَعِيدٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ فِي تَقْدِيرِ الْحَذْفِ بِقَوْلِهِ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ «٤» فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحَذْفُ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ: مَثَلُ مُنْفِقِ الَّذِينَ، أَوْ مِنَ الثَّانِي: أَيْ كَمَثَلِ زَارِعٍ، حَتَّى يَصِحَّ التَّشْبِيهُ، أَوْ مِنَ الْأَوَّلِ وَمِنَ الثَّانِي بِاخْتِلَافِ التَّقْدِيرِ، أَيْ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمُنْفِقُهُمْ. كَمَثَلِ حَبَّةٍ وَزَارِعُهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ فِي قِصَّةِ الْكَافِرِ وَالنَّاعِقِ، فَيُطَالَعُ هُنَاكَ.
وَهَذَا الْمَثَلُ يَتَضَمَّنُ التَّحْرِيضَ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمِيعَ مَا هُوَ طَاعَةٌ، وَعَائِدُ نَفْعِهِ عَلَى المسلمين، وأعظمها وأعناها الْجِهَادُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ: بِسَبِيلِ اللَّهِ، هُنَا الْجِهَادُ خَاصَّةً، وَظَاهِرُ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يقتضي الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، وَيَقْتَضِي الْإِنْفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَالْإِنْفَاقَ عَلَى غَيْرِهِ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةٍ مِنْ جِهَادٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَشُبِّهَ الْإِنْفَاقُ بِالزَّرْعِ، لِأَنَّ الزرع لا ينقطع.
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٣٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٥.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٧١.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١٧١.
653
وَأَظْهَرَ تَاءَ التَّأْنِيثِ عِنْدَ السِّينِ: الْحَرَمِيَّانِ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ ذَكْوَانَ، وَأَدْغَمَ الْبَاقُونَ.
وَلِتُقَارِبِ السِّينِ مِنَ التَّاءِ أُبْدِلَتْ مِنْهَا: النَّاتُ، وَالْأَكْيَاتُ فِي: النَّاسِ، وَالْأَكْيَاسِ.
وَنُسِبَ الْإِنْبَاتُ إِلَى الْحَبَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَتْ سَبَبًا لِلْإِنْبَاتِ، كَمَا يُنْسَبُ ذَلِكَ إِلَى الْمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْمَنْبَتُ هُوَ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَبَّةَ خَرَجَ مِنْهَا سَاقٌ، تَشَعَّبَ مِنْهَا سَبْعَ شُعَبٍ، فِي كُلِّ شُعْبَةٍ سُنْبُلَةٌ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ تَصْوِيرٌ لِلْأَضْعَافِ كَأَنَّهَا مَاثِلَةٌ بَيْنَ عَيْنَيِ النَّاظِرِ، قَالُوا: وَالْمُمَثَّلُ بِهِ مَوْجُودٌ، شُوهِدَ ذَلِكَ فِي سُنْبُلَةِ الْجَاوَرْسِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مَوْجُودٌ فِي الدُّخْنِ وَالذُّرَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَرُبَّمَا فُرِّخَتْ سَاقُ الْبُرَّةِ فِي الْأَرَاضِي الْقَوِيَّةِ الْمُغِلَّةِ، فَبَلَغَ حَبُّهَا هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ لَكَانَ صَحِيحًا فِي سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الدُّخْنِ، عَلَى أَنَّ التَّمْثِيلَ يَصِحُّ بِمَا يُتَصَوَّرُ، وَإِنْ لَمْ يُعَايَنْ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا تَدُومُ عَلَى عَهْدٍ تَكُونُ بِهِ كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَكَمَا قَالَ امْرِؤُ الْقَيْسِ:
أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ
وَخَصَّ سَبْعًا مِنَ الْعَدَدِ لِأَنَّهُ كَمَا ذَكَرَ، وَأَقْصَى مَا تُخْرِجُهُ الْحَبَّةُ مِنَ الْأَسْؤُقِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدْ يُوجَدُ فِي سُنْبُلِ الْقَمْحِ مَا فِيهِ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَأَمَّا فِي سَائِرِ الْحُبُوبِ فَأَكْثَرُ، وَلَكِنَّ الْمِثَالَ وَقَعَ بِمِائَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الْحَسَنَةَ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا، وَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ نَفَقَةَ الْجِهَادِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. انْتَهَى مَا ذكره.
وقيل: وَاخْتَصَّ هَذَا الْعَدَدَ لِأَنَّ السَّبْعَ أَكْثَرُ أَعْدَادِ الْعَشَرَةِ، وَالسَبْعِينَ أَكْثَرُ أَعْدَادِ الْمِائَةِ، وَسَبْعُ الْمِائَةِ أَكْثَرُ أَعْدَادِ الْأَلْفِ، وَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تُرَاعِي هَذِهِ الْأَعْدَادَ. قَالَ تعالى:
سَبْعَ سَنابِلَ وسَبْعَ لَيالٍ «١» وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ «٢» وسَبْعَ بَقَراتٍ «٣»
(١) سورة الحاقة: ٦٩/ ٧.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٤٣ و ٤٦.
(٣) سورة يوسف: ١٢/ ٤٣ و ٤٦.
654
سَبْعَ سَماواتٍ «١» وسَبْعَ سِنِينَ «٢» وإِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «٣» ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً «٤» وَفِي الْحَدِيثِ: «إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ»، «إِلَى سَبْعَةِ آلَافٍ» «إِلَى مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إِلَّا اللَّهُ» وَأَتَى التَّمْيِيزُ هُنَا بِالْجَمْعِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْآحَادِ، وَفِي سُورَةِ يُوسُفَ بِالْجَمْعِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فِي قَوْلِهِ: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ «٥».
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ: سَبْعَ سُنْبُلاتٍ عَلَى حَقِّهِ مِنَ التَّمْيِيزِ لِجَمْعِ الْقِلَّةِ، كَمَا قَالَ: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ؟
قُلْتُ: هَذَا لَمَّا قُدِّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «٦» مِنْ وُقُوعِ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ مُتَعَاوِرَةٍ مَوَاقِعُهَا. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَجُعِلَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ، وَوُقُوعِ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ مَوْقِعَ الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، إِذْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُمَيَّزَ بِأَقَلِّ الْجَمْعِ، لِأَنَّ السَّبْعَ مِنْ أَقَلِّ الْعَدَدِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَنَقُولُ: جَمْعُ السَّلَامَةِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، أَوْ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، لَا يُمَيَّزُ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الْمُفْرَدِ جَمْعٌ غَيْرُ هَذَا الْجَمْعِ، أَوْ جَاوَرَ مَا أُهْمِلَ فِيهِ هَذَا الْجَمْعُ، وَإِنْ كَانَ الْمُجَاوِرُ لَمْ يُهْمَلْ فِيهِ هَذَا الْجَمْعُ.
فَمِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: سَبْعَ سَماواتٍ فَلَمْ يَجْمَعْ سَمَاءَ هَذِهِ الْمَظَلَّةِ سِوَى هَذَا الْجَمْعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:
فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَّا فَنَصُّوا عَلَى شُذُوذِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَبْعَ بَقَراتٍ وتِسْعَ آياتٍ «٧» وخمس صَلَوَاتٍ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ وَالْآيَةَ وَالصَّلَاةَ لَيْسَ لَهَا سِوَى هَذَا الْجَمْعِ، وَلَمْ يُجْمَعْ عَلَى غَيْرِهِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ لَمَّا عُطِفَ عَلَى: سَبْعَ بَقَراتٍ وَجَاوَرَهُ حَسُنَ فِيهِ جَمْعُهُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَلَوْ كَانَ لَمْ يَعْطِفْ وَلَمْ يُجَاوِرْ لَكَانَ:
سَبْعَ سَنابِلَ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِذَلِكَ إِذَا عُرِّيَ عَنِ الْمُجَاوِرِ جَاءَ عَلَى مَفَاعِلَ فِي الْأَكْثَرِ، وَالْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ يُجْمَعُ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: سَبْعَ طَرائِقَ «٨»
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٩ وفصلت: ٤١/ ١٢ والطلاق: ٦٥/ ١٢ والملك: ٦٧/ ٣ ونوح: ٧١/ ١٥. [.....]
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٤٧.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٨٠.
(٤) سورة الحاقة: ٦٩/ ٣٢.
(٥) سورة يوسف: ١٢/ ٤٣ و ٤٦.
(٦) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٨.
(٧) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠١ والنمل: ٢٧/ ١٢.
(٨) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٧.
655
وسَبْعَ لَيالٍ «١» وَلَمْ يَقُلْ: طَرِيقَاتٌ، وَلَا: لَيْلَاتٌ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي جَمْعِ طَرِيقَةٍ وَلَيْلَةٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: عَشَرَةِ مَساكِينَ «٢»، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي جَمْعِهِ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ سَلَامَةٍ.
فَتَقُولُ: مِسْكِينُونَ وَمِسْكِينِينَ، وَقَدْ آثَرُوا مَا لَا يُمَاثِلُ مَفَاعِلَ مِنْ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ عَلَى جَمْعِ التَّصْحِيحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُجَاوِرٌ يُقْصَدُ مُشَاكَلَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثَمانِيَ حِجَجٍ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِيهِ أَنْ يُجْمَعَ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، لِأَنَّ مُفْرَدَهُ حَجَّةٌ، فَتَقُولُ: حَجَّاتٌ، فَعَلَى هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ إِذَا كَانَ لِلِاسْمِ جَمْعَانِ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ، وَجَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَجَمْعُ التَّكْسِيرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْكَثْرَةِ أَوْ لِلْقِلَّةِ، فَإِنْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ مَفَاعِلَ، أَوْ مِنْ غَيْرِ بَابِ مَفَاعِلَ، إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ مَفَاعِلَ أُوثِرَ عَلَى جَمْعِ التَّصْحِيحِ، فَتَقُولُ: جَاءَنِي ثَلَاثَةُ أَحَامِدَ، وَثَلَاثُ زَيَانِبَ، وَيَجُوزُ التَّصْحِيحُ عَلَى قِلَّةٍ، فَتَقُولُ: جَاءَنِي ثلاثة أحمدين، وَثَلَاثُ زَيْنَبَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ مَفَاعِلَ. فَإِمَّا أَنْ يَكْثُرَ فِيهِ غَيْرُ التَّصْحِيحِ، وَغَيْرُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، فَلَا يَجُوزُ التَّصْحِيحُ، وَلَا جَمْعُ الْكَثْرَةِ إِلَّا قَلِيلًا، مِثَالُ، ذَلِكَ: جَاءَنِي ثَلَاثَةُ زُيُودٍ، وَثَلَاثُ هُنُودٍ، وَعِنْدِي ثَلَاثَةُ أَفْلُسٍ، وَلَا يَجُوزُ: ثَلَاثَةُ زَيْدِينَ، وَلَا: ثَلَاثُ هِنْدَاتٍ، وَلَا: ثَلَاثَةُ فُلُوسٍ، إِلَّا قَلِيلًا.
وَإِنْ قَلَّ فِيهِ غَيْرُ التَّصْحِيحِ، وَغَيْرُ جَمْعِ الْكَثْرَةِ أُوثِرَ التصحيح وجمع الكثرة، مِثَالُ ذَلِكَ: ثَلَاثُ سُعَادَاتٍ، وَثَلَاثَةُ شُسُوعٍ، وَيَجُوزُ عَلَى قِلَّةٍ: ثَلَاثُ سَعَائِدَ، وَثَلَاثَةُ أُشْسُعٍ.
وَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ أن قوله سَبْعَ سَنابِلَ جَاءَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ كَوْنِهِ جَمْعًا مُتَنَاهِيًا، وَأَنَّ قَوْلَهُ: سَبْعَ سُنْبُلاتٍ «٣» إِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ مُشَاكَلَةِ: سَبْعَ بَقَراتٍ «٤» وَمُجَاوَرَتِهِ، فَلَيْسَ استعذار الزمخشري بصحيح.
وفِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ فِي مَوْضِعِ الصفة: لسنابل، فَتَكُونُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ، أو: لسبع، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَتَرْتَفِعُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: مِائَةُ، عَلَى الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْجَارَ قد اعتمد بكونه صفة، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَ: فِي كُلِّ، خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ، لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْمُفْرَدِ أَوْلَى مِنَ الْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِنْهَا، أَيْ: مِنَ السنابل.
وقرىء شَاذًّا: مِائَةَ حَبَّةٍ، بِالنَّصْبِ، وَقُدِّرَ بِأَخْرَجَتْ، وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنْبَتَتْ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْحَبَّةِ، وَجَوَّزَ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْبَدَلِ من: سَبْعَ سَنابِلَ وَفِيهِ نَظَرٌ، لأنه لا يصح
(١) سورة الحاقة: ٦٩/ ٧.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ٢٧.
(٣- ٤) سورة يوسف: ١٢/ ٤٣ و ٤٦.
656
أَنْ يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، لِأَنَّ مِائَةُ حَبَّةٍ لَيْسَ نَفْسَ سَبْعَ سَنابِلَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، لِأَنَّهُ لَا ضَمِيرَ فِي الْبَدَلِ يَعُودُ عَلَى الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، وَلَيْسَ: مِائَةُ حَبَّةٍ بَعْضًا مِنْ سَبْعَ سَنابِلَ لِأَنَّ الْمَظْرُوفَ لَيْسَ بَعْضًا مِنَ الظَّرْفِ، وَالسُّنْبُلَةُ ظَرْفٌ لِلْحَبِّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ؟ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِعَدَمِ عَوْدِ الضَّمِيرِ مِنَ الْبَدَلِ عَلَى الْمُبَدَّلِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَمِلَ عَلَى مِائَةِ حَبَّةٍ هُوَ سُنْبُلَةٌ مِنْ سَبْعِ سَنَابِلَ، إِلَّا إِنْ قِيلَ: الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْمُشْتَمِلِ عَلَى الشَّيْءِ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، والسنبلة مشتمل عليها سَبْعِ سَنَابِلَ، فَالسَّبْعُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حَبِّ السُّنْبُلَةِ، فَإِنْ قَدَّرْتَ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا.
وَهُوَ: أَنْبَتَتْ حَبَّ سَبْعِ سَنَابِلَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ: مِائَةُ حَبَّةٍ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ عَلَى حَذْفِ:
حَبَّ، وَإِقَامَةُ سَبْعَ مَقَامَهُ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مِائَةُ حَبَّةٍ الْعَدَدُ الْمَعْرُوفُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ حَبٌّ كَثِيرٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُكْثِرُ بِالْمِائَةِ، وَتَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ نَحْوِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ «١».
قِيلَ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الزَّرْعِ مِنْ أَعْلَى الْحَرْفِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا النَّاسُ، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ الْمَثَلَ فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الْآيَةَ.
وَفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ). «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً».
وَفِي رواية أخرى. «وما رزىء فَهُوَ صَدَقَةٌ».
وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «الْتَمِسُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ»
يَعْنِي: الزَّرْعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أُعَالِجُهُ، فَقَالَ:
تَتَبَّعْ خَبَايَا الْأَرْضِ وَادْعُ مَلِيكَهَا لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُجَابَ وَتُرْزَقَا
وَالزَّرْاعَةُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِهَا.
وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أَيْ هَذَا التَّضْعِيفَ إِذْ لَا تَضْعِيفَ فَوْقَ سَبْعِمِائَةٍ، وَقِيلَ:
يُضَاعِفُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ التَّضْعِيفَ يَنْتَهِي لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ هَذَا بِثَابِتِ الْإِسْنَادِ عَنْهُ. انْتَهَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُضَاعِفُ إِلَى أُلُوفِ الْأُلُوفِ،
وَخَرَّجَ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ الْمُسَمَّى (بِالتَّقَاسِيمِ وَالْأَنْوَاعِ) عَنِ ابْنِ عمر
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٣.
657
قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي». فَنَزَلَتْ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «١» وَفِي (سُنَنِ النَّسَائِيِّ) قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ نُزُولَ. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً «٢».
وَقَوْلُهُ: لِمَنْ يَشاءُ أَيْ: لِمَنْ يَشَاءُ التَّضْعِيفَ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حَذْفِ، ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ يُضَاعِفُ تِلْكَ الْمُضَاعَفَةَ لَا لِكُلِّ مُنْفِقٍ، لِتَفَاوُتِ أَحْوَالِ الْمُنْفِقِينَ، أَوْ يُضَاعِفُ سَبْعَ الْمِائَةِ وَيَزِيدُ عَلَيْهَا أَضْعَافًا لِمَنْ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ. انْتَهَى.
فَقَوْلُهُ: لِمَنْ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ، فِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.
وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ: وَاسْعٌ بِالْعَطَاءِ، عَلِيمٌ بِالنِّيَّةِ. وَقِيلَ: وَاسْعُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُجَازَاةِ، عَلِيمٌ بِمَقَادِيرِ الْمُنْفَقَاتِ وَمَا يُرَتِّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً. قِيلَ:
نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ،
وَقِيلَ: فِي عَلِيِّ
، وَقِيلَ: فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعُثْمَانَ، جَاءَ ابْنُ عَوْفٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ عِنْدَهُ مِثْلَهَا، وَجَاءَ عُثْمَانُ بِأَلْفِ بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا، وتصدق برمة رَكِيَّةً كَانَتْ لَهُ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: جَاءَ عُثْمَانُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شَبَّهَ تَعَالَى صِفَةَ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِزَارِعِ الْحَبَّةِ الَّتِي أَنْجَبَتْ فِي تَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِ كَكَثْرَةِ مَا أَخْرَجَتِ الْحَبَّةُ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ لَا يُتْبِعُ إِنْفَاقَهُ مَنًّا وَلَا أَذًى، لِأَنَّهُمَا مُبْطِلَانِ لِلصَّدَقَةِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا، بَلْ يُرَاعَى جِهَةُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا جَزاءَ مِنَ الْمُنْفِقِ عَلَيْهِ وَلَا شُكْرًا لَهُ، فَيَكُونُ قَصْدُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا الْتَمَسَ بِإِنْفَاقِهِ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ كَانَ صَاحِبَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، وَإِنِ الْتَمَسَ الْجَزَاءَ كَانَ تَاجِرًا مُرْبِحًا لَا يَسْتَحِقُّ حَمْدًا وَلَا شُكْرًا. وَالْمَنُّ مِنَ الْكَبَائِرِ ثَبَتَ
فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَحَدُ «الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».
وَفِي النَّسَائِيِّ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَانُّ بِمَا أَعْطَى».
وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَمْضِي
(١) سورة الزمر: ٢٩/ ١٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٥.
658
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ يَتْبَعُهَا مَا يُبْطِلُهَا، وَهُوَ الْمَنُّ وَالْأَذَى، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ، أَعْنِي: قَبُولَهَا عَلَى شَرِيطَةٍ، وَهُوَ أَنْ لَا يُتْبِعَهَا مَنًّا وَلَا أَذًى.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يَكُونَانِ مِنَ الْمُنْفِقِ عَلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ عَلَى سَبِيلِ التَّجْهِيزِ أَوِ الْإِعَانَةِ فِيهِ، أَمْ كَانَ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُنْفِقُ مُجَاهِدًا أَمْ غَيْرَ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ فِي الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ إِلَى الْجِهَادِ، بَلْ يُنْفِقُونَ وَهُمْ قُعُودٌ. وَالْآيَةُ قَبْلَهَا فِي الَّذِينَ يَخْرُجُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ شَرَطَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَشْرُطْ عَلَى الْأَوَّلِينَ.
وَالْأَذَى يَشْمَلُ الْمَنَّ وَغَيْرَهُ، وَنُصَّ عَلَى الْمَنِّ وَقُدِّمَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ مِنَ الْمُتَصَدِّقِ، فَمِنَ الْمَنِّ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ وَنَعَشْتُكَ، وَشِبْهُهُ. أَوْ يَتَحَدَّثُ بِمَا أَعْطَى، فَيَبَلُغُ ذَلِكَ الْمُعْطَى، فَيُؤْذِيهِ. وَمِنَ الْأَذَى أَنْ يَسُبَّ الْمُعْطَى، أَوْ يَشْتَكِيَ مِنْهُ، أَوْ يَقُولَ: مَا أَشَدَّ إلحاحك، و: خلصنا الله منك، و: أنت أَبَدًا تَجِيئُنِي، أَوْ يُكَلِّفُهُ الْاعْتِرَافَ بِمَا أَسْدَى إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: الْأَذَى أَنْ يَذْكُرَ إِنْفَاقَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ لَا يُحِبُّ وُقُوفَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنْ ظَنَنْتَ أَنَّ سَلَامَكَ يَثْقُلُ عَلَى مَنْ أَنْفَقْتَ عَلَيْهِ، تُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ لَهُ:
امْرَأَةٌ يَا أَبَا أُسَامَةَ؟ دُلَّنِي عَلَى رَجُلٍ يُخْرِجُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُخْرِجُونَ الْفَوَاكِهَ، فَإِنَّ عِنْدِي أَسْهُمًا وَجِيعَةً. فَقَالَ لَهَا: لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي أَسْهُمِكِ وَجِيعَتِكِ، فَقَدْ آذَيْتِهِمْ قَبْلَ أَنْ تُعْطِيَهُمْ.
لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فأغنى عن إعادته.
والَّذِينَ يُنْفِقُونَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ خَبَرٌ، وَلَمْ يُضَمَّنِ الْمُبْتَدَأُ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلَمْ تَدْخُلِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ، وَكَانَ عَدَمُ التَّضْمِينِ هُنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُفَسِّرَةٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا أُخْرِجَتْ مَخْرَجَ الشَّيْءِ الثَّابِتِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ، وَهُوَ نِسْبَةُ إِنْفَاقِهِمْ بِالْحَبَّةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْأَجْرِ الْكَثِيرِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، كَذَلِكَ أُخْرِجَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ فِيهِمَا مُخْرَجَ الشَّيْءِ الثَّابِتِ الْمُسْتَقِرِّ الَّذِي لَا يَكَادُ خَبَرُهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيقِ اسْتِحْقَاقٍ بِوُقُوعِ مَا قَبْلَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا دَخَلَتِ الْفَاءُ فَإِنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِتَرَتُّبِ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ بِهِ.
659
وَقِيلَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُمُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ولَهُمْ أَجْرُهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، أَعَنِي: جُعِلَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، بَلِ الْأَوْلَى إِذَا أُعْرِبَ: الَّذِينَ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَنْ يَكُونَ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ، مُسْتَأْنَفًا وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: هَلْ لَهُمْ أَجْرٌ؟ وَعِنْدَ مَنْ أَجْرُهُمْ؟ فَقِيلَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وعطف: بثم، الَّتِي تَقْتَضِي الْمُهْلَةَ، لِأَنَّ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظَاهِرًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ غَالِبًا الْمَنُّ وَالْأَذَى، بَلْ إِذَا كَانَتْ بِنِيَّةِ غير وجه الله تعالى، لَا يَمُنُّ وَلَا يُؤْذِي على الفور، فذلك دَخَلَتْ: ثُمَّ، مُرَاعَاةً لِلْغَالِبِ. وَإِنَّ حُكْمَ الْمَنِّ وَالْأَذَى المتعقبين لِلْإِنْفَاقِ، وَالْمُقَارِنَيْنِ لَهُ حُكْمُ الْمُتَأَخِّرَيْنِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى: ثُمَّ، إِظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَتَرْكِ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَأَنَّ تَرْكَهُمَا خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ الْإِنْفَاقِ، كَمَا جَعَلَ الاستقامة عَلَى الْإِيمَانِ خَيْرًا مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَقامُوا «١» انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ لِلزَّمَخْشَرِيِّ ادِّعَاءُ هَذَا المعنى لثم، وَلَا أَعْلَمَ لَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفًا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا قَبْلَ هَذَا مَعَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَ: مَا، مِنْ مَا أَنْفَقُوا مَوْصُولٌ عَائِدُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ:
أَنْفَقُوهُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: إِنْفَاقَهُمْ، وَثُمَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَنًّا عَلَى الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وَلَا أَذًى لَهُ، وَبَعْدَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ وَلَا أَذًى مِنْ صِفَةِ الْمُعْطِي، وَهُوَ مُسْتَأْنَفٌ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ وَلَا يَمَنُّونَ وَلَا يَتَأَذَّوْنَ بِالْإِنْفَاقِ، وَكَذَلِكَ يَبْعُدُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّ حَقَّ الْمُنْفِقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْ يُطَيِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، وَأَنْ لَا يُعْقِبَهُ الْمَنَّ، وَأَنْ لَا يُشْفِقَ مِنْ فَقْرٍ يَنَالُهُ مِنْ بَعْدُ، بَلْ يَثِقُ بِكِفَايَةِ اللَّهِ وَلَا يَحْزَنُ إِنْ نَالَهُ فَقْرٌ.
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً أَيْ: رَدٌّ جَمِيلٌ مِنَ الْمَسْئُولِ، وَعَفُوٌّ مِنَ السَّائِلِ إِذَا وَجَدَ مِنْهُ مَا يَثْقُلُ عَلَى الْمَسْئُولِ مِنْ إِلْحَاحٍ أَوْ سب أو تعريض بسبب، كَمَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْتَعْطِينَ، وَقِيلَ: مَعْنَى و: مغفرة، أَيْ: نَيْلُ مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ بِسَبَبِ الرَّدِّ الْجَمِيلِ. وَقِيلَ: وَمَغْفِرَةٌ، أَيْ عَفْوٌ مِنْ جِهَةِ السَّائِلِ، لِأَنَّهُ إِذَا رَدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا عَذَرَهُ.
وَقِيلَ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، هُوَ الدُّعَاءُ وَالتَّأَسِّي وَالتَّرْجِئَةُ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ، وَقِيلَ: الدُّعَاءُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَقِيلَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ خَيْرٌ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وَقِيلَ: التَّسْبِيحَاتُ وَالدُّعَاءُ وَالثَّنَاءُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالْمَغْفِرَةُ، أَيِ: السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ وَالْكَفُّ عَنْ إِظْهَارِ مَا ارْتَكَبَ مِنَ
(١) سورة فصلت: ٤١/ ٣٠ والأحقاف: ٤٦/ ١٣. [.....]
660
الْمَآثِمِ خَيْرٌ، أَيْ: أَخْفُ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى. وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَوْلِ الْحَسَنِ، وَقِيلَ: الْمَغْفِرَةُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْغُفْرَانَ لِتَقْصِيرٍ فِي عَطَاءٍ وَسَدِّ خَلَّةٍ، وَقِيلَ:
الْمَغْفِرَةُ هُنَا سَتْرُ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ، وَسُوءِ حَالِهِ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ، لِأَعْرَابِيٍّ سأل بِكَلَامٍ فَصِيحٍ، مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ اللَّهُمَّ غُفْرًا سُوءُ الِاكْتِسَابِ يُمْنَعُ مِنِ الِانْتِسَابِ، وَقِيلَ: أَنْ يَسْتُرَ عَلَى السَّائِلِ سُؤَالَهُ وَبَذْلَ وَجْهِهِ لَهُ وَلَا يَفْضَحُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ:
الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ أَنْ تَحُثَّ غَيْرَكَ عَلَى إِعْطَائِهِ. وهذا كله على أن يَكُونَ الْخِطَابُ مَعَ الْمَسْئُولِ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذَا، وَفِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا، إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْمُتَصَدِّقِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلسَّائِلِ، وَهُوَ حَثٌّ لَهُ عَلَى إِجْمَالِ الطَّلَبِ، أَيْ يَقُولُ قَوْلًا حَسَنًا مِنْ تَعْرِيضٍ بِالسُّؤَالِ أَوْ إِظْهَارٍ لِلْغِنَى حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ، ويكسب خير مِنْ مِثَالِ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى، وَاشْتَرَكَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ وَالْمَغْفِرَةُ مَعَ الصَّدَقَةِ الَّتِي يَتْبَعُهَا أَذًى فِي مُطْلَقِ الْخَيْرِيَّةِ، وَهُوَ: النَّفْعُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ النَّفْعِ، فَنَفْعُ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْمَغْفِرَةِ بَاقٍ، وَنَفْعُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرِيَّةُ هُنَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ لَا شَيْءٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَنْعُكَ لِلنَّدَى بِجَمِيلِ قَوْلٍ أَحَبُّ إليّ من بذل ومنّه
وَقَالَ آخَرُ فَأَجَادَ:
إِنْ لَمْ تَكُنْ وَرَقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهَا لِلْمُعْتَفِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ
لَا يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ مِنْ خُلُقِي إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِ
وَارْتِفَاعُ: قَوْلٌ، عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ وَصْفُهَا، وَمَغْفِرَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَمُسَوِّغُ جَوَازِ الْابْتِدَاءِ بِهِ وَصْفٌ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الْمَسْئُولِ، أَوْ:
مِنَ السَّائِلِ. أَوْ: مِنَ اللَّهِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ. وَ: خَيْرٌ، خَبَرٌ عَنْهُمَا.
وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ وَغَيْرُهُ: هُمَا جُمْلَتَانِ، وَخَبَرُ: قَوْلٌ، مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أَوْلَى وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هذا ذهاب ترويق الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُقَدَّرُ كَالظَّاهِرِ. انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ حَسَنٌ، وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْمَأْمُورُ بِهِ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْمَنِّ فِي قَوْلِهِ: يَتْبَعُهَا، لِأَنَّ الْأَذَى يَشْمَلُ الْمَنَّ وَغَيْرَهُ كَمَا قُلْنَا.
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ أَيْ غَنِيٌّ عَنِ الصَّدَقَةِ، حَلِيمٌ بِتَأَخُّرِ الْعُقُوبَةِ، وَقِيلَ: غَنِيٌّ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى مُنْفِقٍ يَمُنُّ وَيُؤْذِي، حَلِيمٌ عَنْ مُعَاجَلَةِ الْعُقُوبَةِ. وَهَذَا سُخْطٌ مِنْهُ وَوَعِيدٌ.
661
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَمَّا شَرَطَ فِي الْإِنْفَاقِ أَنْ لَا يُتْبَعَ مَنًّا وَلَا أَذًى، لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى جَعَلَ الْمَنَّ وَالْأَذَى مُبْطِلًا لِلصَّدَقَةِ، وَنَهَى عَنِ الْإِبْطَالِ بِهِمَا لِيُقَوِّيَ اجْتِنَابَ الْمُؤْمِنِ لَهُمَا، وَلِذَلِكَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ. وَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْمَنِّ وَالْأَذَى مَرَّتَيْنِ، أَعَادَهُمَا هُنَا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى مُبْطِلَانِ لِلصَّدَقَةِ، وَمَعْنَى إِبْطَالِهِمَا أَنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهَا عِنْدَ اللَّهِ. وَالسُّدِّيُّ يَعْتَقِدُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ، فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: الصَّدَقَةُ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِهَا أَنَّهُ يَمُنُّ وَيُؤْذِي لَا تَتَقَبَّلُ، وَقِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ لِلْمَلَكِ عَلَيْهَا أَمَارَةً، فَهُوَ لَا يَكْتُبُهَا إِذْ نِيَّتُهُ لَمْ تَكُنْ لِوَجْهِ اللَّهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ أَيْ: لَا تَأْتُوا بِهَذَا الْعَمَلِ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ إِذَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ أُتِيَ بِهِ عَلَى جِهَةِ الْبُطْلَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: مَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ وَقَعَتْ وَتَقَدَّمَتْ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُبْطَلَ. فَالْمُرَادُ إِذَنْ إِبْطَالُ أَجْرِهَا، لِأَنَّ الْأَجْرَ لَمْ يُحَصَّلْ بَعْدُ، وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، فَيَصِيرُ إِبْطَالُهُ بِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْمَعْنَيَانِ تَحْمِلُهُمَا الْآيَةُ، وَلِتَعْظِيمِ قُبْحِ الْمَنِّ أَعَادَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي مَعَارِضِ الْكَلَامِ، فَأَثْنَى عَلَى تَارِكِهِ أَوَّلًا وَفَضَّلَ الْمَنْعَ عَلَى عَطِيَّةٍ يَتْبَعُهَا الْمَنُّ ثَانِيًا. وَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا ثَالِثًا، وَخَصَّ الصَّدَقَةَ بِالنَّهْيِ إِذْ كَانَ الْمَنُّ فِيهَا أَعْظَمَ وَأَشْنَعَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: بِالْمَنِّ، مَعْنَاهُ عَلَى الْفَقِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْمَنِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ صدقته، والأذى للسائل. و: الكاف، قِيلَ فِي مَوْضِعِ نَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ إِبْطَالًا، كَإِبْطَالِ صَدَقَةِ الَّذِي يُنْفِقُ، وَقِيلَ:
الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: لَا تُبْطِلُوا مُشَبَّهِينَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ بالرياء.
وفي هذا المنافق قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمُنَافِقُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ يُنْفِقُ لِلسُّمْعَةِ وَلِيُقَالَ إِنَّهُ سَخِيٌّ كَرِيمٌ، هَذِهِ نِيَّتُهُ، لَا يُنْفِقُ لِرِضَا اللَّهِ وَطَلَبِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ الْمُجَاهِرُ، وَذَلِكَ بِإِنْفَاقِهِ لِقَوْلِ النَّاسِ: مَا أَكْرَمَهُ وَأَفْضَلَهُ! وَلَا يُرِيدُ بِإِنْفَاقِهِ إِلَّا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَرَجَّحَ مَكِّيٌّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ بِأَنَّهُ أَضَافَ إِلَيْهِ الرِّيَاءَ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُنَافِقِ السَّاتِرِ لِكُفْرِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ رِيَاءٌ لِأَنَّهُ مُنَاصِبٌ لِلدِّينِ مُجَاهِرٌ بِكُفْرِهِ.
662
وَانْتِصَابُ رِئَاءَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: رِيَاءَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَاصِمٍ.
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً هَذَا تَشْبِيهٌ ثَانٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَمَثَلُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَلِإِفْرَادِهِ ضَرَبَ اللَّهُ لِهَذَا الْمُنَافِقِ الْمُرَائِي، أَوِ الْكَافِرِ الْمُبَاهِي، الْمَثَلَ بِصَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ، يَظُنُّهُ الظَّانُّ أَرْضًا مُنْبِتَةً طَيِّبَةً، فَإِذَا أَصَابَهُ وَابِلٌ مِنَ الْمَطَرِ أَذْهَبَ عَنْهُ التُّرَابَ، فَيَبْقَى صَلْدًا مُنْكَشِفًا، وَأَخْلَفَ مَا ظَنَّهُ الظَّانُّ، كَذَلِكَ هَذَا الْمُنَافِقُ يَرَى النَّاسُ أَنَّ لَهُ أَعْمَالًا كَمَا يُرَى التُّرَابُ عَلَى هَذَا الصَّفْوَانِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ اضْمَحَلَّتْ وَبَطَلَتْ، كَمَا أَذْهَبَ الْوَابِلُ مَا كَانَ عَلَى الصَّفْوَانِ مِنَ التُّرَابِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي فَمَثَلُهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَانِّ الْمُؤْذِي، وَأَنَّهُ شُبِّهَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَالثَّانِي: بِصَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ، وَيَكُونُ قَدْ عَدَلَ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَمِنْ جَمْعٍ إِلَى إِفْرَادٍ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: ذَكَرَ تَعَالَى لِكَيْفِيَّةِ إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى مَثَلَيْنِ، فَمَثَّلَهُ أَوَّلًا بِمَنْ يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كَافِرٌ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، لِأَنَّ إِبْطَالَ نَفَقَةِ هَذَا الْمُرَائِي الْكَافِرِ أَظْهَرُ مِنْ بُطْلَانِ أَجْرِ صَدَقَةِ مَنْ يُتْبِعُهَا بِالْمَنِّ وَالْأَذَى. ثُمَّ مَثَّلَهُ ثَانِيًا بِالصَّفْوَانِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَغُبَارٌ. ثُمَّ إِذَا أَصَابَهُ الْمَطَرُ الْقَوِيُّ فَيُزِيلُ ذَلِكَ الْغُبَارَ عَنْهُ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ مَا عَلَيْهِ تُرَابٌ وَلَا غُبَارٌ أَصْلًا، قَالَ: فَكَمَا أَنَّ الْوَابِلَ أَزَالَ التُّرَابَ الَّذِي وَقَعَ عَلَى الصَّفْوَانِ، فَكَذَا الْمَنُّ وَالْأَذَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُبْطِلَيْنِ لِأَجْرِ الْإِنْفَاقِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَذَلِكَ صَرِيحُ الْقَوْلِ فِي الْإِحَاطَةِ وَالتَّكْفِيرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ فِي الْقَوْلِ فِي الْإِحْبَاطِ وَالتَّكْفِيرِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً ثُمَّ بَطَلَتْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا تُوقِعُوهَا بَاطِلَةً، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى التَّشْبِيهُ بِقَوْلِهِ: كَالَّذِي يُنْفِقُ، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ وَقَعَتْ بَاطِلَةً لِمُقَارَنَةِ الْكُفْرِ لَهَا، فَيَمْتَنِعُ دُخُولُهَا صَحِيحَةً فِي الْوُجُودِ.
وَأَمَّا التَّمْثِيلُ الثَّانِي فَإِنَّهُ عِنْدَ عَبْدِ الجيار وَأَصْحَابِهِ، جَعَلَ الْوَابِلَ مُزِيلًا لِذَلِكَ التُّرَابِ بَعْدَ كَيْنُونَتِهِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْمَنُّ وَالْأَذَى مُزِيلَانِ لِلْأَجْرِ بَعْدَ حُصُولِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِالتُّرَابِ الْوَاقِعَ عَلَى الصَّفْوَانِ هُوَ الصَّدَقَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالنِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَوْلَاهَا
663
لَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مُرَتَّبًا عَلَيْهَا حُصُولُ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. قِيلَ: والحمل عى هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى، لِأَنَّ التُّرَابَ إِذَا وَقَعَ عَلَى الصَّفْوَانِ لَمْ يَكُنْ مُلْتَصِقًا بِهِ، وَلَا غَائِصًا فِيهِ، فَهُوَ فِي مَرْأَى الْعَيْنِ مُتَّصِلٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ مُنْفَصِلٌ. فَكَذَا الْإِنْفَاقُ الْمَقْرُونُ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، يُرَى فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ عَمَلُ بِرٍّ وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا تُبْطِلُوا أُجُورَ صَدَقَاتِكُمْ، أَوْ: لَا تُبْطِلُوا أَصْلَ صَدَقَاتِكُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيُّ: صَفَوَانَ بِفَتْحِ الْفَاءِ، قِيلَ: وَهُوَ شَاذٌّ فِي الْأَسْمَاعِ.
إِنَّمَا بَابُهُ الْمَصَادِرُ: كالغليان والتروان، وَفِي الصِّفَاتِ نَحْوُ: رَجُلٍ صيمان، وَتَيْسٍ عُدْوَانَ.
وَارْتَفَعَ تُرَابٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيِ: اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَأَصَابَهُ وَابِلٌ. وَ: فَأَصَابَهُ، مَعْطُوفٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الرَّافِعِ لِلتُّرَابِ، وَالضَّمِيرُ فِي: فَأَصَابَهُ، عَائِدٌ عَلَى الصَّفْوَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى التُّرَابِ، وَفِي: فَتَرَكَهُ، عَائِدٌ عَلَى الصَّفْوَانِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جُعِلَ فِيهَا الْعَمَلُ الظَّاهِرُ: كَالتُّرَابِ، وَالْمَانُّ الْمُؤْذِي، أَوِ الْمُنَافِقُ كَالصَّفْوَانِ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ كَالْوَابِلِ، وَعَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: الْمَنُّ وَالْأَذَى كَالْوَابِلِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ ذَخَائِرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ عَمِلَ بِإِخْلَاصٍ فَكَأَنَّهُ طَرَحَ بَذْرًا فِي أَرْضٍ طَيِّبَةٍ، فَهُوَ يَتَضَاعَفُ لَهُ وَيَنْمُو، أَلَا تَرَى أَنَّهُ ضَرَبَ الْمَثَلَ فِي ذَلِكَ بِجَنَّةٍ فَوْقَ رَبْوَةٍ؟ فَهُوَ يَجِدُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَانُّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقُ، فَكَمَنَ بَذَرَ فِي الصَّفْوَانِ لَا يَقْبَلُ بَذْرًا وَلَا يَنْمُو فِيهِ شَيْءٌ، عَلَيْهِ غُبَارٌ قَلِيلٌ أَصَابَهُ جُودٌ فَبَقِيَ مُسْتَوْدَعَ بَذْرٍ خَالِيًا، فَعِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الزَّرْعِ لَا يَجِدُ فِيهِ شَيْئًا. انْتَهَى مَا لُخِّصَ مِنْ كَلَامِهِ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّ التَّشْبِيهَ انْطَوَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى بَذْرٍ وَزَرْعٍ.
لَا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا اخْتُلِفَ فِي الضَّمِيرِ فِي: يَقْدِرُونَ، فَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، إِذْ هُوَ رُجُوعٌ مِنْ خِطَابٍ إِلَى غَيْبَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِمَّا كَسَبْتُمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى كَالَّذِي يُنْفِقُ لِأَنَّ: كَالَّذِي جِنْسٌ، فَلَكَ أَنْ تُرَاعِيَ لَفْظَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ فَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ، وَلَكَ أَنْ تُرَاعِيَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَعْنَاهُ جَمْعٌ، وَصَارَ هَذَا كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ «١» ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «٢».
(١- ٢) سورة الْبَقَرَةِ: ٢/ ١٧.
664
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ انْحَمَلَ الْكَلَامُ قَبْلُ عَلَى لَفْظِ: الَّذِي، وَهَذَا هُوَ مَهْيَعُ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَوِ انْحَمَلَ أَوَّلًا عَلَى الْمَعْنَى لَقَبُحَ بَعْدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اللَّفْظِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ مَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى تَفْصِيلٌ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي مَبْسُوطَاتِ النَّحْوِ.
وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورِ الْمَعْنَى لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الْبَذْرِ الْمُلْقَى فِي ذَلِكَ التُّرَابِ الَّذِي على بالصفوان، لِأَنَّهُ زَالَ ذَلِكَ التُّرَابُ وَزَالَ مَا كَانَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْمَانُّ وَالْمُؤْذِي وَالْمُنَافِقُ، لَا يَنْتَفِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُرَائِي الْكَافِرِ أَوِ الْمُنَافِقِ، أَوْ عَلَى الْمَانِّ، أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِ شَيْءٍ مِنْ إِنْفَاقِهِمْ، وَهُوَ كَسْبُهُمْ، عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَعَبَّرُوا عَنِ النَّفَقَةِ بِالْكَسْبِ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَا الْكَسْبَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «١» وَقَوْلِهِ: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «٢» الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ:
أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ «٣» وَيَكْفِي مِنْ ذِكْرِ الْعَمَلِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ حَدِيثُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ: الْمُسْتَشْهَدُ وَالْعَالِمُ وَالْجَوَّادُ.
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يَعْنِي الْمُوَافِقِينَ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا يَهْدِيهِمْ فِي كُفْرِهِمْ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ مَحْضٌ. أَوْ: لَا يَهْدِيهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ وَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِي هَذَا تَرَجُّحٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ عَائِدٌ عَلَى الْكَافِرِ.
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ لَمَّا ضَرَبَ مَثَلَ: مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَهُوَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، ذَكَرَ ضِدَّهُ بِتَمْثِيلٍ مَحْسُوسٍ لِلذِّهْنِ، حَتَّى يَتَصَوَّرَ السَّامِعُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ أَسَالِيبِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ. وَلَمَّا وَصَفَ صَاحِبَ النَّفَقَةِ بِوَصْفَيْنِ، قَابَلَ ذَلِكَ هُنَا بوصفين، فقوله:
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: رِئاءَ النَّاسِ وَقَوْلُهُ: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْبِيتِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ وَتَرْكِ مَا يُفْسِدُهُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ يَقِينٍ بِالْآخِرَةِ. وَالتَّقَادِيرُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ جَارِيَةٌ هُنَا، أَيْ: وَمَثَلُ الْمُنَافِقِينَ كمثل
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٣.
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٨.
(٣) سورة النور: ٢٤/ ٣٩.
665
غَارِسٍ حَبَّةٍ، أَوْ: مَثَلُ نَفَقَتِهِمْ كَحَبَّةٍ، أَوْ: مَثَلُ الْمُنْفِقِينَ وَنَفَقَتِهِمْ كَمَثَلِ حَبَّةٍ وَغَارِسِهَا.
وَجَوَّزُوا فِي: ابْتِغَاءَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. أَيْ: مُبْتَغِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ: وَتَثْبِيتًا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاءَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، لِعَطْفِ، وَتَثْبِيتًا عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي: وَتَثْبِيتًا أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ التَّثْبِيتِ.
وَقَالَ مَكِّيٌّ فِي (الْمُشْكَلِ) : كِلَاهُمَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا بَيَّنَّاهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَتَثْبِيِتٌ، مَصْدَرُ: ثَبَتَ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ الثواب من الله تعالى، أَيْ: وَتَثْبِيتًا وَتَحْصِيلًا مِنْ أَنْفُسِهِمُ الثَّوَابُ عَلَى تِلْكَ النَّفَقَةِ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ تَثْبِيِتُ الثَّوَابِ وَتَحْصِيلُهُ مِنَ اللَّهِ حَامِلًا عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَمَنْ قَدَّرَ الْمَفْعُولَ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْ: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَعْمَالُهُمْ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ: مِنْ، بِمَعْنَى: اللَّامُ، أَيْ: لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ كَسْرًا مِنْ شَهْوَتِي، أَيْ: لِشَهْوَتِي، فَلَا يَتَّضِحُ فِيهِ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ وَتَيَقُّنًا، أَيْ: أَنَّ نُفُوسَهُمْ لَهَا بَصَائِرُ مُتَأَكِّدَةٌ، فَهِيَ تُثَبِّتُهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ. وَيُؤَكِّدُهُ قراءة من قرأ: أو تبيينا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: وَاحْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ، وَالْكَلْبِيُّ: وَتَصْدِيقًا، أَيْ: يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَالِكٍ: تَحْقِيقًا فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِخْلَاصًا وَتَوْطِيدًا لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي نَفَقَاتِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَمُقِرِّينَ حِينَ يُنْفِقُونَ أَنَّهَا مِمَّا يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهَا.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا: عَزْمًا. وَقَالَ يَمَانٌ أَيْضًا: بَصِيرَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ، أَيْ يَضَعُونَ صَدَقَاتِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ يَتَثَبَّتُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ أَمْضَاهُ، وَإِنْ خَالَطَهُ شَكٌّ أَمْسَكَ.
وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْمِصْرِيِّينَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَتَثْبِيتًا. بِمَعْنَى: تَثَبُّتًا، فَيَكُونُ لَازِمًا.
قَالَ: وَالْمَصَادِرُ قَدْ تَخْتَلِفُ، وَيَقَعُ بَعْضُهَا مَوْقِعَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «١» أَيْ تَبَتُّلًا وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَصْدَرِ نَحْوَ الْآيَةِ، أَمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ بِنَائِهِ عَلَى فِعْلٍ مَذْكُورٍ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ الَّذِي لَهُ في الأصل،
(١) سورة المزمل: ٧٣/ ٨.
666
تَقُولُ: إِنْ ثَبَتَ فِعْلٌ لَازِمٌ مَعْنَاهُ: تَمَكَّنَ، وَرَسَخَ، وَتَحَقَّقَ. وَثَبَتَ مُعَدًّى بِالتَّضْعِيفِ، وَمَعْنَاهُ:
مَكَّنَ، وَحَقَّقَ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ يُخَاطِبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حُسْنٍ تَثْبِيتَ عِيسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا
فَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُمْ يَثْبُتُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَذَا الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ إِخْرَاجُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ عَدِيلُ الرُّوحِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ رِضًا، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَمَلِ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ لِتَثْبِيتِ النَّفْسِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَا تَرْجُو مِنَ اللَّهِ بِهَذَا الْعَمَلِ الصَّعْبِ، لِأَنَّهَا إِذَا ثَبَتَتْ عَلَى الْأَمْرِ الصَّعْبِ انْقَادَتْ وَذَلَّتْ لَهُ.
وَإِذَا كَانَ التَّثْبِيتُ مُسْنَدًا إِلَيْهِمْ كَانَتْ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْسِ الْمَصْدَرِ، وَتَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، مِثْلُهَا فِي: هَزَّ مِنْ عطفه، و: حرك مِنْ نَشَاطِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّثْبِيتُ مُسْنَدًا فِي الْمَعْنَى إِلَى أَنْفُسِهِمْ كَانَتْ: مِنْ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْضًا صِفَةً لِلْمَصْدَرِ تَقْدِيرُهُ: كَائِنًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى التَّبْعِيضِ؟
قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ بَذَلَ مَالَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ ثَبَّتَ بَعْضَ نَفْسِهِ، وَمَنْ بَذَلَ مَالَهُ وَرُوحَهُ مَعًا فَهُوَ الَّذِي ثَبَّتَهَا كُلَّهَا وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ «١» انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ الَّتِي تُثَبِّتُهُ وَتَحْمِلُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَيْسَ لَهُ مُحَرِّكٌ إِلَّا هِيَ، لِمَا اعْتَقَدَتْهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، فَهِيَ الْبَاعِثَةُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُثَبِّتَةُ لَهُ بِحُسْنِ إِيمَانِهَا وَجَلِيلِ اعْتِقَادِهَا.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ كَمَثَلِ حَبَّةٍ بِالْحَاءِ وَالْبَاءُ فِي: بِرَبْوَةٍ، ظَرْفِيَّةٌ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ. وَخَصَّ الرَّبْوَةَ لِحُسْنِ شَجَرِهَا وَزَكَاءِ ثَمَرِهَا. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
تَرَفَّعَتْ عَنْ نَدَى الْأَعْمَاقِ وَانْخَفَضَتْ عَنِ الْمَعَاطِشِ وَاسْتَغْنَتْ بِسُقْيَاهَا
فَمَالَ بِالْخَوْخِ وَالرُّمَّانِ أَسْفَلَهَا وَاعْتَمَّ بِالنَّخْلِ وَالزَّيْتُونِ أَعْلَاهَا
وتفسير ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّبْوَةُ، بِالْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ الَّذِي لَا يَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ، إِنَّمَا يُرِيدُ المذكورة هنا لِقَوْلِهِ: أَصابَها وابِلٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ جَارٍ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ جِنْسَ الرَّبْوَةِ لَا يجري
(١) سورة الصف: ٦١/ ١١.
667
فِيهَا مَاءٌ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ «١» وَخُصَّتْ بِأَنَّ سُقْيَاهَا الْوَابِلُ لَا الْمَاءُ الْجَارِي فِيهَا عَلَى عَادَةِ بِلَادِ الْعَرَبِ بِمَا يُحِسُّونَهُ كَثِيرًا.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ محمد بن عُمَرَ الرَّازِيُّ: الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: الْبُسْتَانُ إِذَا كَانَ فِي رَبْوَةٍ كَانَ أَحْسَنَ، وَأَكْثَرَ رِيعًا، وَفِيهِ لِي إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَلَا تَرْتَفِعُ إِلَيْهِ الْأَنْهَارُ، وَتَضْرِبُهُ الرِّيَاحُ كَثِيرًا، فَلَا يُحْسَنُ رِيعُهُ. وَإِذَا كَانَ فِي وَهْدَةٍ انْصَبَّتْ إِلَيْهِ الْمِيَاهُ، وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ آثَارُ الرِّيَاحِ، فَلَا يُحْسَنُ أَيْضًا رِيعُهُ، وَإِنَّمَا يُحْسَنُ رِيعُهُ فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، فَالْمُرَادُ بِالرَّبْوَةِ لَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَوْنُ الْأَرْضِ طَيِّبَةً بِحَيْثُ إِذَا نُظِرَ نُزُولُ الْمَطَرِ عَلَيْهَا انْتَفَخَتْ وَرَبَتْ، فَيَكْثُرُ رِيعُهَا، وَتَكْمُلُ الْأَشْجَارُ فِيهَا. وَيُؤَيِّدُهُ: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً «٢» الْآيَةَ.
وَأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَطَرُ، وَهُوَ: الصَّفْوَانُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَمَا قَالَهُ قَالَهُ قَبْلَهُ الْحَسَنُ. الرَّبْوَةُ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الَّتِي لَا تَعْلُو فَوْقَ الْمَاءِ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي رِيَاضِ الْحَزْنِ:
مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْحَزْنِ مُعْشِبَةٌ خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا وَابِلٌ هَطِلُ
وَلَا يُرَادُ: بِرِيَاضِ الْحَزْنِ، رِيَاضُ الرُّبَا، كَمَا زَعَمَ الطَّبَرِيُّ، بَلْ: رِيَاضُ الْحَزْنِ هِيَ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى نَجْدٍ، وَنَجْدٌ يُقَالُ لَهَا: الْحَزْنُ، وَإِنَّمَا نُسِبَتِ الرَّوْضَةُ إِلَى الْحَزْنِ وَهُوَ نَجْدٌ، لِأَنَّ نَبَاتَهُ أَعْطَرُ، وَنَسِيمَهُ أَبْرَدُ، وَأَرَقُّ. فَهِيَ خَيْرٌ مِنْ رِيَاضِ تِهَامَةَ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ. وَكَذَلِكَ خِلَافُهُمْ فِي قَدْ أَفْلَحَ «٣» وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: بِرَبَاوَةٍ، عَلَى وَزْنِ:
كَرَاهَةٍ. وَأَبُو الْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيُّ: بِرِبَاوَةٍ، عَلَى وَزْنِ رِسَالَةٍ.
أَصابَها وابِلٌ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لجنة، وبدىء بِالْوَصْفِ بِالْمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالْوَصْفِ بِالْجُمْلَةِ، وَهَذَا الْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وبدىء بِالْوَصْفِ الثَّابِتِ، وَهُوَ: كَوْنُهَا بِرَبْوَةٍ، ثُمَّ بِالْوَصْفِ الْعَارِضِ، وَهُوَ أَصابَها وابِلٌ وَجَاءَ فِي وَصْفِ صَفْوَانَ قَوْلُهُ: عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ، وَهُنَا لَمْ يُعْطَفْ، بَلْ أُخْرِجَ صِفَةً، وَيُنْظُرُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ
(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٥٠.
(٢) سورة الحج: ٢٢/ ٥.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ٦٤ والمؤمنون: ٢٣/ ١ والأعلى: ٨٧/ ١٤ والشمس: ٩١/ ٩.
668
الْمَوْضِعَيْنِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ: أَصابَها وابِلٌ حَالًا مِنْ جَنَّةٍ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ، وَقَدْ وُصِفَتْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ.
فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ آتَتْ بِمَعْنَى: أَعْطَتْ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ:
فَآتَتْ صَاحِبَهَا، أَوْ: أَهْلَهَا أُكُلَهَا. كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ كَمَثَلِ جَنَّةٍ أَيْ: صَاحِبِ أَوْ:
غَارِسِ جَنَّةٍ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ مَا يُثْمِرُ لَا لِمَنْ تُثْمِرُ، إِذْ هُوَ مَعْلُومٌ، وَنَصْبُ: ضِعْفَيْنِ، عَلَى الْحَالِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ: ضِعْفَيْنِ، مَفْعُولٌ ثَانٍ: لِآتَتْ، فَهُوَ سَاهٍ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ آتَتْ بِمَعْنَى أَخْرَجَتْ، وَأَنَّهَا تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، إِذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَنِسْبَةُ الْإِيتَاءِ إِلَيْهَا مَجَازٌ، وَالْأُكُلُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ الشَّيْءُ الْمَأْكُولُ، وَأُرِيدَ هُنَا الثَّمَرُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ، كَسَرْجِ الدَّابَّةِ، إِذْ لَيْسَ الثَّمَرُ مِمَّا تَمْلِكُهُ الْجَنَّةُ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ، وَأَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَإِسْكَانِ الْكَافِ، وَكَذَا كُلُّ مُضَافٍ إِلَى مُؤَنَّثٍ. وَنَقَلَ أَبُو عَمْرٍو فِيمَا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مَكْنِيٍّ، أَوْ إِلَى مَكْنِيٍّ مُذَكَّرٍ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّثْقِيلِ.
وَمَعْنَى: ضِعْفَيْنِ: مِثْلَا مَا كَانَتْ تُثْمِرُ بِسَبَبِ الْوَابِلِ، وَبِكَوْنِهِ فِي رَبْوَةٍ، لِأَنَّ رِيعَ الرُّبَا أَكْثَرُ، وَمِنَ السَّيْلِ وَالْبَرْدِ أَبْعَدُ، وَقِيلَ: ضِعْفَيْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَرَضِينَ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ضِعْفَ الشَّيْءِ مِثْلَاهُ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهَا، قَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ. وَلَيْسَ لِهَذَا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَجْهٌ، وَإِيتَاءُ الضِّعْفَيْنِ هُوَ فِي حَمْلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ: مَعْنَى ضِعْفَيْنِ أَنَّهَا حَمَلَتْ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ضِعْفَيْنِ، مِمَّا لَا يُزَادُ بِهِ شَفْعُ الْوَاحِدِ، بَلْ يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ التَّكْثِيرُ. وَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ، ضِعْفًا بَعْدَ ضِعْفٍ أَيْ:
أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّشْبِيهِ لِلنَّفَقَةِ بِالْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْحَسَنَةَ لَا يَكُونُ لَهَا ثَوَابُ حَسَنَتَيْنِ، بَلْ جَاءَ تُضَاعَفُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا، وَسَبْعَ مِائَةٍ وَأَزِيدُ.
فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ قَالَ ابْنُ عِيسَى: فِيهِ إِضْمَارٌ، التَّقْدِيرُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُصِيبُهَا وَابِلٌ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أَيْ: لَمْ تَكُنْ تَلِدْنِي، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الطَّلَّ يَكْفِيهَا وَيَنُوبُ مَنَابَ الْوَابِلِ فِي إِخْرَاجِ
669
الثَّمَرَةِ ضِعْفَيْنِ، وَذَلِكَ أَكْرَمُ الْأَرْضِ وَطَيِّبُهَا، فَلَا تَنْقُصُ ثَمَرَتُهَا بِنُقْصَانِ الْمَطَرِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَيَتَضَاعَفُ ثَمَرُهَا، وَأَصَابَهَا طَلٌّ فَأَخْرَجَتْ دُونَ مَا تُخْرِجُهُ بِالْوَابِلِ، فَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تُثْمِرَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: زَرْعُ الطَّلِّ أَضْعَفُ مِنْ زَرْعِ الْمَطَرِ وَأَقَلُّ رِيعًا، وَفِيهِ: وَإِنْ قَلَّ تَمَاسُكٌ وَنَفْعٌ. انْتَهَى.
وَدَعْوَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْآيَةِ، عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى أَصَابَهَا وَابِلٌ.
فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ حَتَّى يُجْعَلَ إِيتَاؤُهَا الْأُكُلَ ضِعْفَيْنِ عَلَى الْحَالَيْنِ مِنَ الْوَابِلِ وَالطَّلِّ، لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا. وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مِنْ ضَرُورَاتِ الشِّعْرِ، فَيُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمَضْرُوبُ بِهِ الْمَثَلَ أَرْضُ مِصْرَ، إِنْ لَمْ يُصِبْهَا مَطَرٌ زَكَتْ، وَإِنْ أَصَابَهَا مَطَرٌ أَضْعَفَتْ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَثَّلَ حَالَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ عَلَى الرَّبْوَةِ، وَنَفَقَتَهَمُ الْكَثِيرَةَ وَالْقَلِيلَةَ بِالْوَابِلِ وَالطَّلِّ، فَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَطَرَيْنِ يُضَعِّفُ أُكُلَ الْجَنَّةِ، فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهُمْ كَثِيرَةً، كَانَتْ أَوْ قَلِيلَةً، بَعْدَ أَنْ يُطْلَبَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ وَيُبْذَلَ فِيهَا الْوُسْعُ، زَاكِيَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، زَائِدَةٌ فِي زُلْفَاهُمْ وَحُسْنِ حَالِهِمْ عِنْدَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ قَرِيبًا مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: أَرَادَ بِضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ كَثِيرَ الْبِرِّ مِثْلُ زَرْعِ الْمَطَرِ، كَثِيرِ النَّفْعِ، وَقَلِيلَ الْبِرِّ مِثْلُ زَرْعِ الطَّلِّ، قَلِيلِ النَّفْعِ. فَلَا يَدَعُ قَلِيلَ الْبِرِّ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَثِيرَهُ، كَمَا لَا يَدَعُ زَرْعَ الطَّلِّ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى زَرْعِ الْمَطَرِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: شَبَّهَ نُمُوَّ نَفَقَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُرَبِّي اللَّهُ صَدَقَاتِهِمْ كَتَرْبِيَةِ الْفَصِيلِ وَالْفَلُوِّ، بِنُمُوِّ نَبَاتِ هَذِهِ الْجَنَّةِ بِالرَّبْوَةِ الْمَوْصُوفَةِ، بِخِلَافِ الصَّفْوَانِ الَّذِي انْكَشَفَ عَنْهُ تُرَابُهُ فَبَقِيَ صَلْدًا.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْجَنَّةِ لَا يَخِيبُ فَإِنَّهَا إِنْ أَصَابَهَا الطَّلُّ حَسُنَتْ، وَإِنْ أَصَابَهَا الْوَابِلُ أَضْعَفَتْ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ. انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: فَطَلٌّ، جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ بِحَيْثُ تَصِيرُ جُمْلَةً، فَقَدَّرَهُ الْمُبَرِّدُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ: فَطَلٌّ يُصِيبُهَا، وَابْتُدِئْ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ. وَذَكَرَ بعضهم أن هذا من مُسَوِّغَاتِ جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ
670
فِي الْمَثَلِ: إِنْ ذَهَبَ عِيرٌ فَعِيرٌ فِي الرِّبَاطِ. وَقَدَّرَهُ غَيْرُ الْمُبَرِّدِ: خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ:
فَالَّذِي يُصِيبُهَا، أَوْ: فَمُصِيبُهَا طَلٌّ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ فَاعِلًا، أَيْ فَيُصِيبُهَا طَلٌّ، وَكُلُّ هَذِهِ التَّقَادِيرِ سَائِغَةٌ. وَالْآخَرُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ جَوَابًا، وَإِبْقَاءِ مَعْمُولٍ لِبَعْضِهَا، لِأَنَّهُ مَتَى دَخَلَتِ الْفَاءُ عَلَى الْمُضَارِعِ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «١» أَيْ فَهُوَ يَنْتَقِمُ، فَكَذَلِكَ يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُنَا أَيْ: فَهِيَ، أَيِ:
الْجَنَّةُ يُصِيبُهَا طَلٌّ، وَأَمَّا فِي التَّقْدِيرَيْنِ السَّابِقَيْنِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَّا إِلَى حَذْفِ أَحَدِ جُزْئَيِ الْجُمْلَةِ، وَنَظِيرُ مَا فِي الْآيَةِ قَوْلُهُ:
أَلَا إِنْ لَا تَكُنْ إِبِلٌ فَمِعْزَى كَأَنَّ قُرُونَ جُلَّتِهَا الْعِصِيُّ
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَرَأَ الزُّهْرِيُّ، بِالْيَاءِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فَلَا يَخْتَصُّ بِالْمُنَافِقِينَ، بَلْ يَعُودُ عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ، عَلَى الْخِطَابِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَقَاصِدِ مِنْ رِيَاءٍ وَإِخْلَاصٍ، وَفِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ لَمَّا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَشَبَّهَ فَاعِلَ ذَلِكَ بِالْمُنْفِقِ رِئَاءً، وَمَثَّلَ حَالَهُ بِالصَّفْوَانِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ مَثَّلَ حَالَ مَنْ أَنْفَقَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: هَذَا مَثَلٌ آخَرُ لِلْمُرَائِي. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
هُوَ مَثَلٌ لَلْمَانِّ فِي الصَّدَقَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ: لِلْمُفْرِطِ فِي الطَّاعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لِمَنْ أُعْطِيَ الشَّبَابَ وَالْمَالَ، فَلَمْ يَعْمَلْ حَتَّى سُلِبَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنْ عَمِلَ أَنْوَاعَ الطَّاعَاتِ كَجَنَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، فَخَتَمَهَا بِإِسَاءَةٍ كَإِعْصَارٍ، فَشَبَّهَ تَحَسُّرَهُ حِينَ لَا عَوْدَ، بِتَحَسُّرِ كَبِيرٍ هَلَكَتْ جَنَّتُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا، وَأَعْجَزَ عَنْ عِمَارَتِهَا، وَرُوِيَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا عَنْ عُمَرَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ قَلَّ وَاللَّهِ مَنْ يَعْقِلُهُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعُفَ جِسْمُهُ وَكَثُرَ صِبْيَانُهُ، أَفْقَرُ مَا كَانَ إِلَى جَنَّتِهِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ وَاللَّهِ أَفْقَرُ مَا يَكُونُ إِلَى عَمَلِهِ إِذَا انْقَطَعَتْ عَنْهُ الدُّنْيَا.
وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّبْعِيدِ وَالنَّفْيِ، أَيْ: مَا يَوَدُّ أَحَدٌ ذلك؟ و: أحد، هُنَا لَيْسَ الْمُخْتَصَّ بِالنَّفْيِ وشهبه، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَيَوَدُّ وَاحِدٌ مِنْكُمْ؟ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِيَّةِ.
(١) سورة المائدة: ٥/ ٩٥.
671
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: جَنَّاتٌ، بِالْجَمْعِ.
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَمَّا كَانَ النَّخِيلُ وَالْأَعْنَابُ أَكْرَمَ الشَّجَرِ وَأَكْثَرَهَا مَنَافِعَ، خُصَّا بِالذِّكْرِ، وَجُعِلَتِ الْجَنَّةُ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ غَيْرُهُمَا، وَحَيْثُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ هَذَا، نَصَّ عَلَى النَّخِيلِ دُونَ الثَّمَرَةِ. وَعَلَى ثَمَرَةِ الْكَرْمِ دُونَ الْكَرْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعْظَمَ مَنَافِعِ الْكَرْمِ هُوَ ثَمَرَتُهُ دُونَ أَصْلِهِ، وَالنَّخِيلُ كُلُّهُ مَنَافِعُهُ عَظِيمَةٌ، تُوَازِي مَنْفَعَةَ ثَمَرَتِهِ مِنْ خَشَبِهِ وَجَرِيدِهِ وَلِيفِهِ وَخُوصِهِ، وَسَائِرِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ النَّخِيلِ وَثَمَرَةِ الْكَرْمِ.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِيهِ أَشْجَارٌ غَيْرُ النَّخِيلِ وَالْكَرْمِ، كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا الظَّاهِرِ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يُرِيدَ بِالثَّمَرَاتِ الْمَنَافِعَ الَّتِي كَانَتْ تَحْصُلُ لَهُ فِيهَا.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، فَعَلَى مَذْهَبِ الأخفش: من، زائدة، التقدير: لَهُ فِيهَا كُلُّ الثَّمَرَاتِ، عَلَى إِرَادَةِ التَّكْثِيِرِ بِلَفْظِ الْعُمُومِ، لَا أَنَّ الْعُمُومَ مُرَادٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا فِي زِيَادَتِهَا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا نَكِرَةٌ، نَحْوَ: قَدْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، فَلَا يَجُوزُ زِيَادَتُهَا، لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا غَيْرُ مُوجَبٍ، وَبَعْدَهَا نَكِرَةٌ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى تَقْيِيدٍ، قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (مَنْهَجِ السَّالِكِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا. وَيَتَخَرَّجُ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ، لَهُ فِيهَا رِزْقٌ، أَوْ: ثَمَرَاتٌ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْحَذْفِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ تُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ
التَّقْدِيرُ: كَأَنَّكَ جَمَلٌ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ، حُذِفَ: جَمَلٌ، لِدَلَالَةِ: مِنْ جِمَالِ، عَلَيْهِ، كَمَا حُذِفَ ثَمَرَاتٌ لِدَلَالَةِ: مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «١» أَيْ: وَمَا أَحَدٌ مِنَّا، فأحد مبتدأ محذوف، و: منا، صِفَةٌ، وَمَا بَعْدَ إِلَّا جُمْلَةُ خَبَرٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ.
وَأَصابَهُ الْكِبَرُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ، وَقَدْ مُقَدَّرَةٌ أَيْ وَقَدْ أَصَابَهُ الْكِبَرُ، كقوله:
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ١٦٤.
672
وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «١» وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا «٢» أَيْ: وَقَدْ كنتم، و: قد قَعَدُوا، وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ: وَيُصِيبُهُ، فَعُطِفَ الْمَاضِي عَلَى الْمُضَارِعِ لِوَضْعِهِ مَوْضِعَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي: يَوَدُّ، لأنه يتلقى مرة بأن، ومرة بأو، فَجَازَ أَنْ يُقَدَّرَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ، يُقَالُ: وَدِدْتُ لَوْ كَانَ كَذَا، فَحُمِلَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ لَوْ كَانَتْ لَهُ جَنَّةٌ، وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ؟ انْتَهَى.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنْ يَكُونَ: وَأَصَابَهُ، مَعْطُوفًا عَلَى مُتَعَلِّقِ: أَيَوَدُّ، وَهُوَ: أَنْ تَكُونَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى: لَوْ كَانَتْ، إِذْ يُقَالُ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ لَوْ كَانَتْ؟ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ حَيْثُ: أَنْ يَكُونَ، مَعْطُوفًا عَلَى: كَانَتْ، الَّتِي قَبْلَهَا لَوْ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقُ الْوُدِّ، وَأَمَّا: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الْوُدِّ، لِأَنَّ إِصَابَةَ الْكِبَرِ لَا يَوَدُّهُ أَحَدٌ، وَلَا يَتَمَنَّاهُ، لَكِنْ يُحْمَلُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَى أَنَّهُ: لَمَّا كَانَ: أَيَوَدُّ، اسْتِفْهَامًا، مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ، جُعِلَ مُتَعَلِّقُ الْوِدَادَةِ الْجَمْعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَهُمَا كَوْنُ جَنَّةٍ لَهُ، وَإِصَابَةُ الْكِبَرِ إِيَّاهُ، لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مَوْدُودًا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ وِدَادَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَفِي لَفْظِ الْإِصَابَةِ مَعْنَى التَّأْثِيرِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ: وَكَبِرَ، وَكَذَلِكَ: بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ، وَعَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ، وَلَمْ يَأْتِ:
وَبَلَتْ، وَلَا تُوبِلُ.
وَالْكِبَرُ الشَّيْخُوخَةُ، وَعُلُوُّ السِّنِّ.
وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ وقرىء: ضِعَافٌ، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ: ضَعِيفٍ، كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ.
وَظِرَافٍ، وَالْمَعْنَى ذُرِّيَّةٌ صِبْيَةٌ صِغَارٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِضُعَفَاءَ: مَحَاوِيجُ.
فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ قَالَ فِيهِ، فَأَتَى بِالضَّمِيرِ مُذَكَّرًا، لِأَنَّ الْإِعْصَارَ مُذَكَّرٌ مِنْ سَائِرِ أَسْمَاءِ الرِّيَاحِ، وَارْتِفَاعُ: نَارٌ، عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِالْجَارِ قَبْلَهُ، أَوْ: كَائِنٌ فِيهِ نَارٌ، وَفِي الْعَطْفُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا حِينَ أَزْهَتْ وَحَسُنَتْ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا أَعْقَبَهَا الْإِعْصَارُ.
فَاحْتَرَقَتْ هَذَا فِعْلٌ مُطَاوِعٌ لِأَحْرَقَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فِيهِ نار أحرقتها فاحترقت، كقولهم:
أَنْصَفْتُهُ فَانْتَصَفَ، وَأَوْقَدْتُهُ فَاتَّقَدَ. وَهَذِهِ الْمُطَاوَعَةُ هِيَ انْفِعَالٌ فِي الْمَفْعُولِ يَكُونُ لَهُ قَابِلِيَّةٌ لِلْوَاقِعِ بِهِ، فَيَتَأَثَّرُ له.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٨.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٦٨.
673
وَالنَّارُ الَّتِي فِي الْإِعْصَارِ هِيَ السَّمُومُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: السَّمُومُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ مِنْهَا الْجَانَّ جُزْءٌ مِنْ سبعين جزأ مِنَ النَّارِ، يَعْنِي، نَارَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ فَسَّرَ أَنَّهَا هَلَكَتْ بِالصَّاعِقَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ. إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ، أَيْ: رِيحٌ فِيهَا صِرُّ بَرْدٍ.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أَيْ: مِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ تُصْرَفُ الْأَمْثَالُ الْمُقَرِّبَةُ الْأَشْيَاءِ لِلذِّهْنِ، يُبَيِّنُ لَكُمُ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يُوَصَّلُ بِهَا إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ.
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي: تعملون أَفْكَارَكُمْ فِيمَا يَفْنَى وَيَضْمَحِلُّ مِنَ الدُّنْيَا، وَفِيمَا هُوَ بَاقٍ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَتَزْهَدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَتَرْغَبُونَ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ وَصُنُوفِ الْبَلَاغَةِ أَنْوَاعًا: مِنَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْخُصُوصِ إِلَى الْعُمُومِ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ، وَمِنَ التَّشْبِيهِ، وَمِنَ الْحَذْفِ، وَمِنَ الِاخْتِصَاصِ، وَمِنَ الْأَمْثَالِ، وَمِنَ الْمَجَازِ. وَكُلُّ هَذَا قَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ غُضُونُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٧ الى ٢٧٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
674
التميم: الْقَصْدُ يُقَالُ أَمَّ كَرَدَّ. وَأُمَمٌ كَأُخَرَ، وَتَيَمَّمَ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ، وَتَأَمَّمَ بِالتَّاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَكُلُّهَا بِمَعْنًى وَقَالَ الْخَلِيلُ أَمَمْتُهُ قَصَدْتُ أَمَامَهُ، وَيَمَّمْتُهُ قَصَدْتُهُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ.
الْخَبِيثَ: الرَّدِيءَ وَهُوَ ضِدُّ الطَّيِّبِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ خَبُثَ.
الْإِغْمَاضُ: التَّسَاهُلُ يُقَالُ: أَغْمَضَ فِي حَقِّهِ تَسَاهَلَ فِيهِ وَرَضِيَ بِهِ، وَالْإِغْمَاضُ تَغْمِيضُ الْعَيْنِ، وَهُوَ كَالْإِغْضَاءِ. وَأَغْمَضَ الرَّجُلُ أَتَى غَامِضًا مِنَ الْأَمْرِ، كَمَا يُقَالُ: أَعْمَنَ وَأَعْرَقَ وَأَنْجَدَ، أَيْ: أَتَى عُمَانَ وَالْعِرَاقَ وَنَجْدًا، وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنَ الْغُمُوضِ وَهُوَ:
الْخَفَاءُ، غَمَضَ الشَّيْءُ يَغْمُضُ غُمُوضًا: خَفِيَ، وَإِطْبَاقُ الْجَفْنِ إِخْفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْغَمْضُ الْمُتَطَامِنُ الْخَفِيُّ مِنَ الْأَرْضِ.
الْحَمِيدُ: الْمَحْمُودُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَلَا يَنْقَاسُ، وَتَقَدَّمَتْ أَقْسَامُ فَعِيلٍ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَتَفْسِيرُ الْحَمْدِ فِي أَوَّلِ سُورَتِهِ.
النَّذْرُ: تَقَدَّمَتْ مَادَّتُهُ فِي قَوْلِهِ: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «١» وَهُوَ عَقْدُ الْإِنْسَانِ ضَمِيرَهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ وَالْتِزَامِهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ. نَذَرَ يَنْذِرُ وَيَنْذُرُ، بِضَمِّ الذَّالِ وَكَسْرِهَا، وَكَانَتِ النُّذُورُ مِنْ سِيرَةِ الْعَرَبِ يُكْثِرُونَ مِنْهَا فِيمَا يَرْجُونَ وُقُوعَهُ، وَكَانُوا أَيْضًا يَنْذُرُونَ قَتْلَ أَعْدَائِهِمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
الشَّاتِمِي عِرْضِي، وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا وَالنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَقِيتُهُمَا دَمِي
وَأَمَّا عَلَى مَا يَنْطَلِقُ شَرْعًا فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
نِعِمَّ: أَصْلُهَا نِعْمَ، وَهِيَ مُقَابِلَةُ بِئْسَ، وَأَحْكَامُهَا مَذْكُورَةٌ فِي النَّحْوِ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: بِئْسَ، فِي قَوْلِهِ: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «٢».
التَّعَفُّفُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الْعِفَّةِ، عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ أَمْسَكَ عَنْهُ، وَتَنَزَّهَ عَنْ طَلَبِهِ، مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا. أَيْ: كَفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٦. [.....]
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٩٠.
675
فَعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الْغَسَقِ وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعِشْقِ
السِّيمَا: الْعَلَامَةُ، وَيُمَدُّ وَيُقَالُ: بِالسِّيمْيَاءِ، كَالْكِيمْيَاءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
غُلَامٌ رَمَاهُ اللَّهُ بِالْحُسْنِ يَافِعًا لَهُ سِيمْيَاءُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرِ
وَهُوَ مِنَ الْوَسْمِ، والسمة العلامة، جعلت فأوه مَكَانَ عَيْنِهِ، وَعَيْنُهُ مَكَانَ فَائِهِ، وَإِذَا مُدَّ:
سِيمْيَاءُ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلْإِلْحَاقِ لَا لِلتَّأْنِيثِ.
الْإِلْحَافُ: الْإِلْحَاحُ وَاللَّجَاجُ فِي السُّؤَالِ، وَيُقَالُ: أَلْحَفَ وَأَحْفَى، وَاشْتِقَاقُ:
الْإِلْحَافِ، مِنَ اللِّحَافِ، لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقِيلَ: مِنْ: أَلْحَفَ الشَّيْءُ إِذَا غَطَّاهُ وَعَمَّهُ بِالتَّغْطِيَةِ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ:
يَظَلُّ يَحُفُّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ وَيُلْحِفْهُنَّ هَفْهَافًا ثَخِينَا
يَصِفُ ذَكَرَ النَّعَامِ يَحْضُنَّ بَيْضًا بِجَنَاحَيْهِ، وَيَجْعَلُ جَنَاحَهُ كَاللِّحَافِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
ثُمَّ رَاحُوا عَبِقَ الْمِسْكُ بِهِمْ يُلْحِفُونَ الْأَرْضَ هُدَّابَ الْأُزُرْ
أَيْ: يَجْعَلُونَهَا كَاللِّحَافِ لِلْأَرْضِ، أَيْ يُلْبِسُونَهَا إِيَّاهَا. وَقِيلَ: اشْتِقَاقُهُ مِنْ لَحَفَ الْجَبَلُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُشُونَةِ، وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ: لَحَّفَنِي مِنْ فَضْلِ لِحَافِهِ، أَيْ: أَعْطَانِي مِنْ فَضْلِ مَا عِنْدَهُ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ تضافرت النُّصُوصُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ كَانُوا يَأْتُونَ بِالْأَقْنَاءِ مِنَ التَّمْرِ فَيُعَلِّقُونَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِيَأْكُلَ مِنْهَا الْمَحَاوِيجُ، فَجَاءَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِحَشَفٍ، وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: بِشِيصٍ، وَفِي بَعْضِهَا: بِرَدِيءٍ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَنَزَلَتْ. وَهَذَا الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَامٌّ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
قَالَ عَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ: هِيَ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ
، وَأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِالْقَلِيلِ فَلَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِنَازِلٍ فِي الْقَدْرِ، وَدِرْهَمٌ زَائِفٌ خَيْرٌ مِنْ تَمْرَةٍ، فَالْأَمْرُ عَلَى هَذَا لِلْوُجُوبِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهَا فِي التَّطَوُّعِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ نَدَبُوا إِلَى أَنْ لَا يَتَطَوَّعُوا إِلَّا بِجَيِّدٍ مُخْتَارٍ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فَضْلَ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَحَثَّ عَلَيْهَا،
676
وَقَبَّحَ الْمِنَّةَ وَنَهَى عَنْهَا، ثم دكر الْقَصْدَ فِيهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَابْتِغَاءِ رِضَا اللَّهِ، ذَكَرَ هُنَا وَصْفَ الْمُنْفِقِ مِنَ الْمُخْتَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ: طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ هُوَ الْجَيِّدُ الْمُخْتَارُ، وَأَنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الرَّدِيءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ طيبات، أي: الحلال والخبيث الْحَرَامَ،
وَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ
. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ مِنْ طَيِّباتِ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْصَدَ بِهِ لَا الْحِلُّ وَلَا الْجَيِّدُ، لَكِنْ يَكُونُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفِقُوا مِمَّا كَسَبْتُمْ، فَهُوَ حَضٌّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَقَطْ، ثُمَّ دَخَلَ ذِكْرُ الطَّيِّبِ تَبْيِينًا لِصِفَةِ حُسْنِهِ فِي الْمَكْسُوبِ عَامًّا، وَتَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ. كَمَا تَقُولُ: أَطْعَمْتُ فُلَانًا مِنْ مَشْبَعِ الْخُبْزِ، وَسَقَيْتُهُ مِنْ مَرْوِيِّ الْمَاءِ، وَالطَّيِّبُ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ يَعُمُّ الْجَوْدَةَ، وَالْحِلَّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خَبِيثٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا كَسَبْتُمْ عُمُومُ كُلِّ مَا حَصَلَ بِكَسْبٍ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفِقِ، وَسِعَايَةٍ وَتَحْصِيلٍ بِتَعَبٍ بِبَدَنٍ، أَوْ بِمُقَاوَلَةٍ فِي تِجَارَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمُلْكُ مِنْ حَادِثٍ أَوْ قَدِيمٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَالُ الْمَوْرُوثُ لِأَنَّهُ مَكْسُوبٌ لِلْمَوْرُوثِ عَنْهُ.
الضمير فِي: كَسَبْتُمْ، إِنَّمَا هُوَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَخْصِيصُ الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْمَوْرُوثِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِمَا يَكْتَسِبُهُ أَضَنُّ بِهِ مِمَّا يَرِثُهُ، فَإِذْنُ الْمَوْرُوثِ مَعْقُولٌ مِنْ فَحْوَاهُ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ.
وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَ: مَا، فِي مَا كَسَبْتُمْ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَيُحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِالْمَفْعُولِ، تَقْدِيرُهُ: مِنْ طَيِّبَاتِ كَسْبِكُمْ، أَيْ: مَكْسُوبِكُمْ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الطَّيِّبَةِ، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهَا، مُفْتَقِرٌ إِلَى الْبَيَانِ بِذِكْرِ الْمَقَادِيرِ، فَيَصِحُّ الْاحْتِجَاجُ بِهَا فِي إِيجَابِ الْحَقِّ فِيمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، نَحْوُ: أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَصَدَقَةِ الْخَيْلِ، وَزَكَاةِ مَالِ الصَّبِيِّ، وَالْحُلِيِّ الْمُبَاحِ اللَّبْسِ غَيْرِ الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ، وَالْعُرُوضِ، وَالْغَنَمِ، وَالْبَقَرِ الْمَعْلُوفَةِ، وَالدَّيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ.
677
وقال خويزمنداذ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْوَالِدِ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوْلَادُكُمْ مِنْ طِيبِ أَكْسَابِكُمْ فَكُلُوا مَنْ مال أولادكم هنيأ»
انْتَهَى.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ»
. وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ، وَفِي قَوْلِهِ: أَخْرَجْنَا لَكُمْ، امْتِنَانٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّامِّ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «١» وَالْمُرَادُ: مِنْ طَيِّبَاتِ مَا أَخْرَجْنَا، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَكَرَّرَ حَرْفَ الْجَرِّ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَوْ إِشْعَارًا بِتَقْدِيرِ عَامِلٍ آخَرَ، حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مَرَّتَيْنِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، إِذْ قُلْنَا إِنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِمَّا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ تُذْكَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ هَذَا مُؤَكِّدٌ لِلْأَمْرِ، إِذْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَفِي هَذَا طِبَاقٌ بِذِكْرِ الطَّيِّبَاتِ وَالْخَبِيثِ.
وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ: وَلَا تَيَمَّمُوا، بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، أَصْلُهُ: تَتَيَمَّمُوا، فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي التَّاءِ، وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ حَصَرْتُهَا فِي قصيدتي في القراآت المسماة (عقدة اللَّآلِئِ) وَذَلِكَ فِي أَبْيَاتٍ وَهِيَ:
تَوَلَّوْا بِأَنْفَالٍ وَهُودٍ هُمَا مَعًا وَنُورٍ وَفِي الْمِحْنَةِ بِهِمْ قَدْ تَوَصَّلَا
تَنَزَّلُ فِي حِجْرٍ وَفِي الشُّعْرَا مَعًا وَفِي الْقَدْرِ فِي الْأَحْزَابِ لَا أَنْ تَبَدَّلَا
تَبَرَّجْنَ مَعَ تَنَاصَرُونَ تَنَازَعُوا تَكَلَّمُ مَعَ تَيَمَّمُوا قَبْلَهُنَّ لَا
تَلْقَفُ أَنَّى كَانَ مَعَ لِتَعَارَفُوا وَصَاحِبَتَيْهَا فَتَفَرَّقَ حَصِّلَا
بِعِمْرَانَ لَا تَفَرَّقُوا بِالنِّسَاءِ أَتَى تَوَفَّاهُمْ تَخَيَّرُونَ لَهُ انْجَلَا
تَلَهَّى تَلَقَّوْنَهُ تَلَظَّى تَرَبَّصُو نَ زِدْ لَا تَعَارَفُوا تَمَيَّزُ تَكْمُلَا
ثَلَاثِينَ مَعَ إِحْدَى وَفِي اللَّاتَ خَلْفَهُ تَمَنَّوْنَ مَعَ مَا بَعْدَ ظَلْتُمْ تَنَزَّلَا
وَفِي بَدْئِهِ خَفِّفْ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا لَدَى الْوَصْلِ حَرْفُ الْمَدِّ مُدَّ وطوّلا
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٩.
678
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنِ الْبَزِّيِّ: تَخْفِيفُ التَّاءِ كَبَاقِي الْقُرَّاءِ، وَهَذِهِ التَّاءَاتُ مِنْهَا مَا قَبْلَهُ مُتَحَرِّكٌ، نَحْوَ: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ «١» فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ «٢» وَمِنْهَا مَا قَبْلَهُ سَاكِنٌ مِنْ حَرْفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ نَحْوَ: وَلا تَيَمَّمُوا وَمِنْهَا مَا قَبْلَهُ ساكن غير حرف مدّولين نَحْوُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا «٣» نَارًا تَلَظَّى «٤» إِذْ تَلَقَّوْنَهُ «٥» هَلْ تَرَبَّصُونَ «٦» قَالَ صَاحِبُ (الْمُمْتِعِ) : لَا يُجِيزُ سِيبَوَيْهِ إِسْكَانَ هَذِهِ التَّاءِ فِي يَتَكَلَّمُونَ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّهَا إِذَا سَكَنَتِ احْتِيجَ لَهَا أَلِفُ وَصْلٍ، وَأَلِفُ الْوَصْلِ لَا تَلْحَقُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ، فَإِذَا اتَّصَلَتْ بِمَا قَبْلَهَا جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَمْزَةِ وَصْلٍ. إِلَّا أَنَّ مِثْلَ إِنْ تَوَلَّوْا وإِذْ تَلَقَّوْنَهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى حَالٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، وَلَيْسَ السَّاكِنُ الأول حرف مدّولين. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقِرَاءَةُ الْبَزِّيِّ ثَابِتَةٌ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ مَحْصُورًا وَلَا مَقْصُورًا عَلَى مَا نَقَلَهُ وَقَالَهُ الْبَصْرِيُّونَ، فَلَا تَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَلَا تَأَمَّمُوا، مِنْ: أَمَمْتُ، أَيْ: قَصَدْتُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ: تَيَمَّمُوا.
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَا تَأُمُّوا، مِنْ: أَمَمْتُ، أَيْ: قَصَدْتُ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ صِفَتَانِ غَالِبَتَانِ لَا يُذْكَرُ مَعَهُمَا الْمَوْصُوفُ إِلَّا قَلِيلًا، وَلِذَلِكَ جَاءَ:
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ وَجَاءَ: وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ «٧» وَقَالَ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ «٨»
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ»
. و: منه، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: تُنْفِقُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهُ، عَائِدٌ عَلَى الْخَبِيثِ. وَ: تُنْفِقُونَ، حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: تَيَمَّمُوا، قِيلَ: وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْهُ يَقَعُ بَعْدَ الْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من الْمَفْعُولِ، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَيْهِ، وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: الْخَبِيثَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ خَبَرًا آخَرَ فِي وَصْفِ الْخَبِيثِ، فَقَالَ: تُنْفِقُونَ مِنْهُ، وَأَنْتُمْ لَا تَأْخُذُونَهُ إِلَّا إِذَا أَغْمَضْتُمْ، أَيْ تَسَاهَلْتُمْ، كَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى عِتَابٌ لِلنَّاسِ وَتَقْرِيعٌ، وَفِيهِ تنبيه
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٣.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١١٧ والشعراء: ٢٦/ ٤٥.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٣٢. وهود: ١١/ ٥٧، والنور: ٢٤/ ٥٤.
(٤) سورة الليل: ٩٢/ ١٤.
(٥) سورة النور: ٢٤/ ١٥.
(٦) سورة التوبة: ٥٩/ ٥٢.
(٧) سورة النور: ٢٤/ ٢٦.
(٨) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٧.
679
عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْقَصْدُ لِلرَّدِيءِ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي يَدِهِ، فَيَخُصُّهُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا إِنْفَاقُ الرَّدِيءِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ، أَوْ لِمَنْ لَا يَقْصِدُهُ، فَغَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ.
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقِيلَ:
الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.
قَالَ الْبَرَاءُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ فِي دُيُونِكُمْ وَحُقُوقِكُمْ عِنْدَ النَّاسِ، إِلَّا بِأَنْ تَسَاهَلُوا فِي ذَلِكَ، وَتَتْرُكُونَ مِنْ حُقُوقِكُمْ وَتَكْرَهُونَهُ وَلَا تَرْضَوْنَهُ، أَيْ: فَلَا تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ مَا لَا تَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِكُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي السُّوقِ يُبَاعُ إِلَّا أَنْ يُهْضَمَ لَكُمْ مِنْ ثَمَنِهِ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَالَ الْبَرَاءُ أَيْضًا: مَعْنَاهُ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ لَوْ أُهْدِيَ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا، أَيْ: تَسْتَحُوا مِنَ الْمُهْدِي أَنْ تقبلوا من مَا لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِهِ، وَلَا قَدْرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَلَسْتُمْ بِآخِذِي الْحَرَامَ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِي مَكْرُوهِهِ.
وَالظَّاهِرُ عُمُومُ نَفِيِ الْأَخْذِ بِأَيِّ طَرِيقٍ أُخِذَ الْخَبِيثُ، مِنْ أَخْذِ حَقٍّ، أَوْ هِبَةٍ.
وَالْهَاءُ فِي: بِآخِذِيهِ، عَائِدَةٌ عَلَى الْخَبِيثِ، وَهِيَ مَجْرُورَةٌ بِالْإِضَافَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَفْعُولَةً. قَالَ بَعْضُ الْمُعْرِبِينَ: وَالْهَاءُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: بآخذين، وَالْهَاءُ وَالنُّونُ لَا يَجْتَمِعَانِ، لِأَنَّ النُّونَ زَائِدَةٌ، وَهَاءَ الضَّمِيرِ زَائِدَةٌ وَمُتَّصِلَةٌ كَاتِّصَالِ النُّونِ، فَهِيَ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْمُضْمَرِ الْمُتَّصِلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ: أَنَّ التَّنْوِينَ وَالنُّونَ قَدْ تَسْقُطَانِ لِلَطَافَةِ الضَّمِيرِ لَا لِلْإِضَافَةِ، وَذَلِكَ فِي نَحْوِ: ضَارِبُكَ، فَالْكَافُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهَا لِلَطَافَةِ الضَّمِيرِ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ أَجَازَ هِشَامٌ:
ضَارَبَنْكَ، بِالتَّنْوِينِ، وَنَصْبِ الضَّمِيرِ، وَقِيَاسُهُ جَوَازُ إِثْبَاتِ النُّونِ مَعَ الضَّمِيرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ:
هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ وَقَوْلِهِ:
وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ مَوْضِعُ أَنْ نَصْبٌ أَوْ خَفْضٌ عِنْدَ مَنْ قَدَّرَهُ إِلَّا بِأَنْ تُغْمِضُوا، فُحِذَفَ الْحَرْفُ، إِذْ حَذْفُهُ جَائِزٌ مطرد، وقيل: نصب بتغمضوا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَالِ، وَقَدْ
680
قَدَّمْنَا قَبْلُ، أَنَّ سِيبَوَيْهِ لَا يُجِيزُ انْتِصَابَ أَنْ وَالْفِعْلِ مُقَدَّرًا بِالْمَصْدَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِنْ أَغْمَضْتُمْ أَخَذْتُمْ، وَلَكِنْ إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى أَنْ فَفَتَحَتْهَا، وَمِثْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَخافا «١» وإِلَّا أَنْ يَعْفُونَ «٢» هَذَا كُلُّهُ جَزَاءٌ، وَأَنْكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَغَيْرُهُ قَوْلَ الْفَرَّاءِ، وَقَالُوا: أَنْ، هَذِهِ لَمْ تَكُنْ مَكْسُورَةً قَطُّ، وَهِيَ الَّتِي تَتَقَدَّرُ، هِيَ وَمَا بَعْدَهَا، بِالْمَصْدَرِ، وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا بِإِغْمَاضِكُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُغْمِضُوا، مِنْ أَغْمَضَ، وَجَعَلُوهُ مِمَّا حُذِفَ مَفْعُولُهُ، أَيْ: تُغَمِّضُوا أبصاركم أو بصائركم، وجوزوا أن يكون لازما مثل: أغضى عن كذا، وقرأ الزهري تُغَمِّضُوا بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الغين وكسر الميم مشدودة، ومعناه مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنْهُ:
تَغْمِضُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، مُضَارِعُ: غَمِضَ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي أَغْمَضَ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْيَزِيدِيِّ: تَغْمُضُوا، بِفَتْحِ وَضَمِّ الْمِيمِ، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يَخْفَى عَلَيْكُمْ رَأْيُكُمْ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: تُغَمَّضُوا مُشَدَّدَةَ الْمِيمِ مَفْتُوحَةً. وَقَرَأَ قَتَادَةُ تُغْمَضُوا، بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، مُخَفَّفًا، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يُغْمَضَ لَكُمْ.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تُوجَدُوا قَدْ أَغَمَضْتُمْ فِي الْأَمْرِ بِتَأَوُّلِكُمْ أَوْ بِتَسَاهُلِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدَ الرَّجُلُ أُصِيبَ مَحْمُودًا، وَقِيلَ: مَعْنَى قِرَاءَةِ قَتَادَةَ: إِلَّا أَنْ تَدْخُلُوا فِيهِ وَتُجْذَبُوا إِلَيْهِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيْ: غَنِيٌّ عَنْ صَدَقَاتِكُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ تُرَدُّ عَلَيْكُمْ، حَمِيدٌ أَيْ: مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِذْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَحْمِدُ إِلَى خَلْقِهِ، أَيْ: يُعْطِيهِمْ نِعَمًا يَسْتَدْعِي بِهَا حَمْدَهُمْ. وَقِيلَ:
مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ عَلَى مَا تَعَبَّدَكُمْ بِهِ.
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِالْفَقْرِ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ أَمْسِكْ! فَإِنْ تَصَدَّقْتَ افْتَقَرْتَ! وَرَوَى أَبُو حَيْوَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الرِّبَاطِ أَنَّهُ قَرَأَ: الْفُقْرَ، بِضَمِّ الْفَاءِ، وَهِيَ لغة.
وقرىء: الْفَقَرَ، بِفَتْحَتَيْنِ.
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أَيْ: يُغْرِيكُمْ بِهَا إِغْرَاءَ الْآمِرِ، وَالْفَحْشَاءُ: الْبُخْلُ وَتَرْكُ الصَّدَقَةِ، أَوِ الْمَعَاصِي مُطْلَقًا، أَوِ الزِّنَا، أَقْوَالٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفَحْشَاءُ: الْكَلِمَةُ السَّيِّئَةُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٩.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٧.
681
وَلَا يَنْطِقُ الْفَحْشَاءَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ إِذَا جَلَسُوا مِنَّا وَلَا مِنْ سِوَائِنَا
وَكَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُ الْفَقْرَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ، وَيَأْمُرُهُ، إِذْ مَنَعَ، بِالرَّدِّ الْقَبِيحِ عَلَى السَّائِلِ، وَبَّخَهُ وَأَقْهَرَهُ بِالْكَلَامِ السَّيْءِ.
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً مِنِ ابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَتَعَوَّذْ. وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَوَعْدٌ بِالْحَقِّ وَتَصْدِيقٌ بِالْخَيْرِ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ». ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ الْآيَةَ.
وَتَقَدَّمَ وَعْدُ الشَّيْطَانِ عَلَى أَمْرِهِ، لِأَنَّهُ بِالْوَعْدِ يَحْصُلُ الِاطْمِئْنَانُ إِلَيْهِ، فَإِذَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ وَخَافَ الْفَقْرَ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، إِذِ الْأَمْرُ اسْتِعْلَاءٌ عَلَى الْمَأْمُورِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاحِشُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْبَخِيلُ، وَقَالَ أَيْضًا: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَيُغْرِيكُمْ عَلَى الْبُخْلِ وَمَنْعِ الصَّدَقَاتِ، انْتَهَى. فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ كَالتَّوْكِيدِ لِلْأُولَى، وَنَظَرْنَا إِلَى مَا شَرَحَهُ الشُّرَّاحُ فِي الْفَاحِشِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
حَتَّى تَأْوَى إِلَى لَا فَاحِشٍ بَرَمٍ وَلَا شَحِيحٍ إِذَا أَصْحَابُهُ غَنِمُوا
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ
فَقَالُوا: الْفَاحِشُ السَّيْءُ الْخُلُقِ، وَلَوْ كَانَ الْفَاحِشُ هُوَ الْبَخِيلَ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَلَا شَحِيحَ، مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ. وَقَالَ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ، وَوَافَقَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَبَا مُسْلِمٍ فِي تَفْسِيرِ الْفَاحِشِ بِالْبَخِيلِ، وَالْفَحْشَاءِ بِالْبُخْلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ. وَأَنْشَدَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْلَ طُرْفَةَ:
عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ قَالَ: وَالْأَغْلَبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْبَيْتِ الَّذِي أُنْشِدُهُ أَنَّ الْفَاحِشَ السَّيْءُ الرَّدِّ لِضِيفَانِهِ، وَسُؤَالِهِ. قَالَ: وَقَدْ وَجَدْنَا بَعْدَ ذَلِكَ شِعْرًا يَشْهَدُ لِتَأْوِيلِ أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّ الْفَحْشَاءَ الْبُخْلُ. وَقَالَ رَاجِزٌ مِنْ طَيِّءٍ:
682
قَدْ أَخَذَ الْمُجِدُّ كَمَا أَرَادَا لَيْسَ بِفَحَّاشٍ يُصِرُّ الزَّادَا
انْتَهَى. وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْبَيْتِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْفَحَّاشِ الْبَخِيلَ، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى السَّيْءِ الْخُلُقِ، أَوِ السَّيْءِ الرَّدِّ، وَيَفْهَمُ الْبَخِيلُ مِنْ قَوْلِهِ: يُصِرُّ الزَّادَا.
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا أَيْ سَتْرًا لِذُنُوبِكُمْ مُكَافَأَةً لِلْبَذْلِ، وَفَضْلًا زِيَادَةٌ عَلَى مُقْتَضَى ثَوَابِ الْبَذْلِ. وَقِيلَ: وَفَضْلًا، أَنْ يُخْلِفَ عَلَيْكُمْ أَفْضَلَ مِمَّا أَنْفَقْتُمْ، أَوْ وَثَوَابًا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَكَانَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشُّحُّ وَالْبُخْلُ بِالْجَيِّدِ الَّذِي مُثِيرُهُ الشَّيْطَانُ، بدىء بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَإِنَّ مَا تَصَدَّقْتُمْ مِنَ الْخَبِيثِ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ لِيُقَبِّحَ لَهُمْ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ أَبْعَدَ شَيْءٍ عَنْهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى فِي مُقَابَلَةِ وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَعْدَ اللَّهِ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: السَّتْرُ لِمَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالثَّانِي: الْفَضْلُ وَهُوَ زِيَادَةُ الرِّزْقِ وَالتَّوْسِعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
رُوِيَ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ: عَبْدِي، أَنْفِقْ مِنْ رِزْقِي أَبْسُطْ عَلَيْكَ فَضْلِي، فَإِنَّ يَدِي مَبْسُوطَةٌ عَلَى كُلِّ يَدٍ مَبْسُوطَةٍ
، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ مِصْدَاقُهُ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ «١».
وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ: وَاسْعٌ بِالْجُودِ وَالْفَضْلِ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ، عَلِيمٌ بِنِيَّاتِ مَنْ أَنْفَقَ، وَقِيلَ: عَلِيمٌ أَيْنَ يَضَعُ فَضْلَهُ، وَوَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِتَفْضِيلِ الْإِنْفَاقِ وَالسَّمَاحَةِ وَذَمِّ الْبُخْلِ، مِنْهَا
حَدِيثُ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِنْفَاقَ وَيُبْغِضُ الْإِقْتَارَ فَكُلْ وَأَطْعِمْ وَلَا تُصْرِرْ، فَيَعْسُرُ عَلَيْكَ الطَّلَبُ».
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَرْدَأُ مِنَ الْبُخْلِ»
. يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قَرَأَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ بِالتَّاءِ فِي: تُؤْتِي، وَفِي: تَشَاءُ، عَلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ إِذْ هُوَ خُرُوجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى خِطَابٍ، وَالْحِكْمَةُ: الْقُرْآنُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ فِي آخَرِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ: مَعْرِفَةُ نَاسِخِ الْقُرْآنِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَمُقَدَّمِهُ وَمُؤَخَّرِهِ. وَقَالَ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو صَالِحٍ: النُّبُوَّةُ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ: الْفَهْمُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ مجاهد فيما رواه عنه ليث: العلم والفقه وَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابن نجيح: الإصابة في القول والفعل،
(١) سورة سبإ: ٣٤/ ٣٩.
683
وقاله مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْخَشْيَةُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَأَبُوهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْعَقْلُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ شَرِيكٌ:
الْفَهْمُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، لَا يُسَمَّى حَكِيمًا حَتَّى يَجْمَعَهُمَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: الْكِتَابَةُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: مَا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِصِحَّتِهِ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
وَقَالَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُ، وَقَالَ أَيْضًا: طَاعَةُ اللَّهِ وَالْفِقْهُ وَالدِّينُ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمَغْفِرَةُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: نُورٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْوَسْوَاسِ وَالْمَقَامِ. وَوُجِدَتْ فِي نُسْخَةٍ: وَالْإِلْهَامُ بَدَلُ الْمَقَامِ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْكَ خَاطَرُ الْحَقِّ دُونَ شَهْوَتِكَ. وَقَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ: سُرْعَةُ الْجَوَابِ مَعَ إِصَابَةِ الصَّوَابِ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: الرَّدُّ إِلَى الصَّوَابِ. وَقَالَ الْكَتَّانِيُّ: مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ. وَقِيلَ إِشَارَةٌ بِلَا عِلَّةٍ، وَقِيلَ: إِشْهَادُ الْحَقِّ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَقِيلَ: صَلَاحُ الدِّينِ وَإِصْلَاحُ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ. وَقِيلَ: تَجْرِيدُ السِّرِّ لِوُرُودِ الْإِلْهَامِ. وَقِيلَ:
التَّفَكُّرُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاتِّبَاعُ لَهُ. وَقِيلَ: مَجْمُوعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: فَهَذِهِ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَقَالَةً لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ جُمْلَةً مِنَ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الْحِكْمَةِ مَا نَصُّهُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا، مَا عَدَا قَوْلَ السُّدِّيِّ، قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ مَصْدَرٌ مِنَ الْإِحْكَامِ وَهُوَ الْإِتْقَانُ فِي عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَكِتَابُ اللَّهِ حِكْمَةٌ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ حِكْمَةٌ، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ الْجِنْسُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ «١» فَكَانَ يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ تَفْسِيرِهَا هُنَا، إِلَّا أَنَّهُ ذُكِرَتْ هُنَا أَقَاوِيلُ لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُفَسِّرُونَ هُنَاكَ، فَلِذَلِكَ فُسِّرَتْ هُنَا.
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَهُوَ ضَمِيرُ:
مَنْ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ: ليؤت. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: وَمَنْ يُؤْتِ، بِكَسْرِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَعْنَى وَمَنْ يُؤْتِهِ اللَّهُ. انْتَهَى.
فَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَيْسَ فِي يُؤْتَ ضَمِيرُ نَصْبٍ حُذِفَ، بَلْ مَفْعُولُهُ مُقَدَّمٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ، كَمَا تَقُولُ: أَيًّا تُعْطَ دِرْهَمًا أَعْطِهِ درهما.
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٢٩. [.....]
684
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَمَنْ يُؤْتِهُ الْحِكْمَةَ، بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الأول: ليؤت، وَالْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ضَمِيرٌ مَسْتَكِنٌ فِي: يُؤْتَ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرَّرَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ وَلَمْ يُضْمِرْهَا لِكَوْنِهَا فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى، وَلِلِاعْتِنَاءِ بِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِهَا وَفَضْلِهَا وَخِصَالِهَا.
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْفِعْلُ الْمَاضِي الْمَصْحُوبُ: بِقَدْ، الْوَاقِعُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يَكُونُ مَاضِيَ اللَّفْظِ، مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى. كَهَذَا. فَهُوَ الْجَوَابُ حَقِيقَةً، وَقَدْ يَكُونُ مَاضِيَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «١» فَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَاقِعٌ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُسْتَقْبَلٌ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مُسْتَقْبَلٌ، فَالْجَوَابُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ مَحْذُوفٌ، وَدَلَّ هَذَا عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَتَسَلَّ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَحَالُكَ مَعَ قَوْمِكَ كَحَالِهِمْ مَعَ قَوْمِهِمْ.
قال الزمخشري: وخيرا كَثِيرًا، تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَقَدْ أُوتِيَ أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ.
انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَسْتَدْعِي أَنَّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ تَنْكِيرَ تَعْظِيمٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَتَقْدِيرُهُ، أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ، إِنَّمَا هُوَ على أن يجعل خير صِفَةً لِخَيْرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا، أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ. وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ إِذَا وُصِفَ بِأَيٍّ، فَإِنَّمَا تُضَافُ لِلَفْظٍ مِثْلِ الْمَوْصُوفِ، تَقُولُ: مررت برجل أي رجل كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
دَعَوْتُ امْرَأً، أَيَّ امْرِئٍ، فَأَجَابَنِي وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلَاذًا وَمَوْئِلَا
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَهَلْ يَجُوزُ وَصْفُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ؟ أَيْ: إِذَا كَانَتْ صِفَةً، فَتَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَيِّ رَجُلٍ كَرِيمٍ، أَوْ لَا يَجُوزُ؟ يَحْتَاجُ جَوَابُ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَأَيْضًا فَفِي تَقْدِيرِهِ: أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ، حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ أَيَّ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي نَدُورٍ، لَا تَقُولُ: رَأَيْتُ أَيَّ رَجُلٍ، تُرِيدُ رَجُلًا، أَيَّ رَجُلٍ إِلَّا فِي نَدُورٍ. نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا حَارَبَ الْحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ عَلَاهُ بِسَيْفٍ كُلَّمَا هُزَّ يَقْطَعُ
يُرِيدُ: مُنَافِقًا، أَيَّ مُنَافِقٍ، وَأَيْضًا: فَفِي تَقْدِيرِهِ: خَيْرًا كَثِيرًا أيّ كَثِيرٍ، حَذَفَ أَيَّ الصِّفَةَ،
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٤.
685
وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهَا، وَقَدْ حَذَفَ الْمَوْصُوفَ بِهِ، أَيْ: فَاجْتَمَعَ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ بِهِ وَحَذْفُ الصِّفَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى دَلِيلٍ.
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. أَصْلُهُ: يَتَذَكَّرُ، فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الذَّالِ، وَ: أُولُو الْأَلْبَابِ، هُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ، وَفِي هَذَا حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَالِامْتِثَالِ لِمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ، وَنَهَى عَنْهُ مِنَ التَّصَدُّقِ بِالْخَبِيثِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ وَعْدِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ، وَوُثُوقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْعَقْلُ الْمُمَيَّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَذَكَرَ التَّذَكُّرَ لِمَا قَدْ يَعْرِضُ لِلْعَاقِلِ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، ثُمَّ يَتَذَكَّرُ مَا بِهِ صَلَاحُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ.
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ صَدَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ عَامٌّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَتَى بِالْمُمَيِّزِ فِي قوله: من نفقة، و: من نَذْرٍ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ، وَمِنْ قَوْلِهِ: أَوْ نَذَرْتُمْ، مِنْ نَذْرٍ، لِتَأْكِيدِ انْدِرَاجِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً، وَقِيلَ: تَخْتَصُّ النَّفَقَةُ بِالزَّكَاةِ لِعَطْفِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ النَّذْرُ، وَالنَّذْرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُحَرَّمٍ وَهُوَ كُلُّ نَذْرٍ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَمُعْظَمُ نُذُورِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ عَلَى ذَلِكَ وَمُبَاحٍ مَشْرُوطٍ وَغَيْرِ مَشْرُوطٍ، وَكِلَاهُمَا مُفَسِّرٌ، نَحْوُ: إِنْ عُوفِيتُ مَنْ مَرِضِ كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَةُ دِينَارٍ، وَنَحْوُ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ. وغير مفسر، نحوه إِنْ عُوفِيتُ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ أَوْ نَذْرٌ، وَأَحْكَامُ النَّذْرِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ مَعْنَى: يَعْلَمُهُ، يُحْصِيهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُجَازِي عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يَحْفَظُهُ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعْدًا وَوَعِيدًا بِتَرْتِيبِ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى مَا أنفقوا أو نذروا، و: من نفقة، و: من نَذْرٍ، تَقَدَّمَ نَظَائِرُهَا فِي الْإِعْرَابِ فَلَا تُعَادُ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ نَذْرٍ، دَلَالَةٌ عَلَى حَذْفِ مَوْصُولٍ قَبْلَ قَوْلِهِ: نَذَرْتُمْ، تَقْدِيرُهُ: أَوْ مَا نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ، لِأَنَّ: مِنْ نَذْرٍ، تَفْسِيرٌ وَتَوْضِيحٌ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَحُذِفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَلِدَلَالَةِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ، عَلَيْهِ، كَمَا حُذِفَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ؟
التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، فَحَذْفُهُ لِدَلَالَةِ: مَنْ، الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هذا الذي تقرر من حَذْفِ
686
الْمَوْصُولِ، فَجَاءَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، لِأَنَّ الْعَطْفَ بِأَوْ، وَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِأَوْ كَانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا، لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ هُوَ أَحَدُهُمَا، وَتَارَةً يُرَاعَى بِهِ الْأَوَّلُ فِي الذِّكْرِ، نَحْوَ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَتَارَةً يُرَاعَى بِهِ الثَّانِي نَحْوَ: زَيْدٌ أَوْ هِنْدٌ مُنْطَلِقَةٌ. وَأَمَّا أَنْ يَأْتِيَ مُطَابِقًا لِمَا قَبْلَهُ فِي التَّثْنِيَةِ أَوِ الْجَمْعِ فَلَا، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ النَّحْوِيُّونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «١» بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَعَلَى الْمَهْيَعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «٢» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
«٣» كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَلَمَّا عَزَبَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، جَعَلُوا إِفْرَادَ الضَّمِيرِ مِمَّا يَتَأَوَّلُ، فَحُكِيَ عَنِ النَّحَاسِ أَنَّهُ قَالَ: التَّقْدِيرُ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهَا، أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ. ثُمَّ حُذِفَ قَالَ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها «٤» وَقَوْلِهِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ «٥» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا، وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ، وَوَالِدِي بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي
التَّقْدِيرُ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا رَاضُونَ، وَكُنْتُ مِنْهُ بَرِيئًا، وَوَالِدِي بَرِيئًا. انْتَهَى. فَأَجْرَى أَوْ مَجْرَى الْوَاوِ فِي ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ فِي يَعْلَمُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ أَرَادَ مَا ذَكَرَ أَوْ نَصَّ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا حَسَنٌ، فَإِنَّ الضَّمِيرَ يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَثُرَ. انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُ حُكْمِ: أَوْ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْوَاوِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَاجُ لِتَأْوِيلِ ابْنِ عَطِيَّةَ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى الْحُكْمِ الْمُسْتَقِرِّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ فِي: أَوْ.
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَكُلُّ ظَالِمٍ لَا يَجِدُ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: هُمُ الْمُنْفِقُونَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ، وَالْمُبَذِّرُونَ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: المنفقو الحرام.
(١) سورة النساء: ٤/ ١٣٥.
(٢) سورة الجمعة: ٦٢/ ١١.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١١٢.
(٤) سورة التوبة: ٩/ ٣٤.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ٤٥.
687
وَالْأَنْصَارُ: الْأَعْوَانُ جَمْعُ نَصِيرٍ، كَحَبِيبٍ وَأَحْبَابٍ، وَشَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. أَوْ: نَاصِرٍ، كَشَاهِدٍ وَأَشْهَادٍ، وَجَاءَ جَمْعًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا قَبْلَهُ جَمْعٌ، كَمَا جَاءَ: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ «١» وَالْمُفْرَدُ يُنَاسِبُ الْمُفْرَدَ نَحْوُ: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ «٢» لَا يُقَالُ: انْتِفَاءُ الْجَمْعِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُفْرَدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ نَفْيِ النَّفْعِ وَالْإِغْنَاءِ، وَحُصُولِ الِاسْتِعَانَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْجَمْعُ وَلَمْ يُغْنِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يُجْدِيَ وَلَا يُغْنِيَ الْوَاحِدُ.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فَضْلَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَنَا مِنَ الْجُنُوحِ إِلَى نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَذَكَّرَنَا بِوَعْدِ اللَّهِ الْجَامِعِ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْوَعْدَيْنِ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا مَنْ تَخَصَّصَ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي يُؤْتِيهَا اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ النَّفَقَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يَسْهُو، وَصَارَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ كَالِاسْتِطْرَادِ، وَالتَّنْوِيهِ بِذِكْرِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى مَعْرِفَتِهَا.
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أَيْ: إِنْ تُظْهِرُوا إِعْطَاءَ الصَّدَقَاتِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ:
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الْآيَةَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَصَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ أَمْ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ؟
فَنَزَلَتْ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: نَزَلَتْ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَانَ يَأْمُرُ بِقِسْمِ الزَّكَاةِ فِي السر، والصدقات ظَاهِرُ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ الْمَفْرُوضَةَ وَالْمُتَطَوَّعَ بِهَا.
وَقِيلَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ، فَتُصْرَفُ إِلَى الْمَفْرُوضَةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ الصَّدَقَاتِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا صَدَقَاتُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلِ الْأَفْضَلُ إِظْهَارُ الْمَفْرُوضَةِ أَمْ إِخْفَاؤُهَا؟ فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّ إِظْهَارَهَا أَفْضَلُ مِنْ إِخْفَائِهَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَقَالَ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ: إِخْفَاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ:
صَدَقَاتُ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفَضُلُ عَلَانِيَتَهَا بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَصَدَقَةُ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتُهَا أَفْضَلُ مِنْ سِرِّهَا بِخَمْسَةٍ وعشرين ضعفا.
(١) سورة آل عمران: ٣/ ٢٢ و ٥٦ و ٩١ والنحل: ١٦/ ٣٧، والروم: ٣٠/ ٢٩.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٢٠.
688
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كِلَاهُمَا إِخْفَاؤُهُ أَفْضَلُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ إِخْفَاءُ الزَّكَاةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَالنَّاسُ مُسِيئُونَ الظَّنَّ فَإِظْهَارُهَا أَفْضَلُ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ، وَلَا صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى صَدَقَةِ السِّرِّ، حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَنِعِمَّا هِيَ الفاء جواب الشرط، و: نعم، فِعْلٌ لَا يَتَصَرَّفُ، فَاحْتِيجَ فِي الْجَوَابِ إِلَى الْفَاءِ وَالْفَاعِلُ بِنِعِمْ مُضْمَرٌ مُفَسَّرٌ بِنَكِرَةٍ لَا تَكُونُ مُفْرَدَةً فِي الْوُجُودِ نَحْوُ: شَمْسٍ وقمر.
و: لا مُتَوَغِّلَةً فِي الْإِبْهَامِ نَحْوُ غَيْرِ. وَلَا أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ نَحْوُ أَفْضَلِ مِنْكَ، وَذَلِكَ نَحْوِ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وَالْمُضْمَرُ مُفْرَدٌ وَإِنْ كَانَ تَمْيِيزُهُ مُثَنًّى أَوْ مَجْمُوعًا، وَقَدْ أَعْرَبُوا: مَا، هُنَا تَمْيِيزًا لِذَلِكَ الْمُضْمَرِ الَّذِي في نعم، وقدروه بشيئا. فما، نَكِرَةٌ تَامَّةٌ لَيْسَتْ مَوْصُوفَةً وَلَا مَوْصُولَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: مَا، اللَّاحِقَةِ لِهَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ، أَعَنَى: نِعْمَ وَبِئْسَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا «١» وَقَدْ ذَكَرْنَا مَذَاهِبَ النَّاسِ فِيهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَهِيَ: ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: فَنِعِمَّا إِبْدَاؤُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، بَلْ يَعُودُ عَلَى الصَّدَقَاتِ بِقَيْدِ وَصْفِ الْإِبْدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي: فَنِعِمَّا هِيَ، فَنِعِمَّا الصَّدَقَاتُ الْمَبْدَاةُ وَهِيَ مُبْتَدَأٌ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، وَجُمْلَةُ الْمَدْحِ خَبَرٌ عَنْهُ، وَالرَّابِطُ هُوَ الْعُمُومُ الَّذِي فِي الْمُضْمَرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي: نِعْمَ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَوَرْشٌ، وَحَفْصٌ: فَنِعِمَّا، بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ هُنَا وَفِي النِّسَاءِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُحَرِّكُ الْعَيْنَ، فَيَقُولُ: نِعِمْ، وَيُتْبِعُ حَرَكَةَ النُّونِ بِحَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَتَحْرِيكُ الْعَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ أَسْكَنَ الْعَيْنَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِثْلَ: جِسْم مَّالِكٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُهُ عَلَى مَا ذَكَرُوا.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: فَنَعِمَّا، فِيهِمَا بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ. وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ وَزْنَهُ عَلَى فَعِلَ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَحْتَمِلُ قِرَاءَةُ كَسْرِ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ أَسْكَنَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ مَا وَأُدْغِمَتْ حُرِّكَتِ الْعَيْنُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَقَالُونُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِكَسْرِ النُّونِ وَإِخْفَاءِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمُ الْإِسْكَانُ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَشْهَرُ، وَوَجْهُ الْإِخْفَاءِ طَلَبُ الْخِفَّةِ، وَأَمَّا الْإِسْكَانُ فَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: الْإِسْكَانُ، فِيمَا
يُرْوَى، لُغَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي هَذَا اللَّفْظِ، قَالَ لعمرو بن الْعَاصِ: «نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ للرجل
(١) سورة البقرة: ٢/ ٩٠.
689
الصَّالِحِ»
. وَأَنْكَرَ الْإِسْكَانُ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو عَلِيٍّ لِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ سَاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حدّه.
وقال أَبُو الْعَبَّاسِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَرُومُ الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَيُحَرَّكُ وَلَا يَأْتِيهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَمْ تَضْبُطِ الرُّوَاةُ اللَّفْظَ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَعَلَّ أَبَا عَمْرٍو أَخْفَى، فَظَنَّهُ السَّامِعُ إِسْكَانًا. وَقَدْ أَتَى عَنْ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ مَا أَنْكَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ الْإِسْكَانُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وفي بعض تاآت الْبَزِّيِّ، وَفِي: اسْطَاعُوا وَفِي: يَخِصِّمُونَ. انْتَهَى مَا لَخَّصَ مِنْ كَلَامِهِمْ.
وَإِنْكَارُ هَؤُلَاءِ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ أَئِمَّةَ القراءة لم يقرأوا إِلَّا بِنَقْلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَتَى تَطَرَّقَ إِلَيْهِمُ الْغَلَطُ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ مِثْلِ هَذَا، تَطَرَّقَ إِلَيْهِمْ فِيمَا سِوَاهُ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ ونقوله: إن نقل القراآت السَّبْعِ مُتَوَاتِرٌ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ الْغَلَطِ فِيهِ.
وَإِنْ تُخْفُوها الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: تُخْفُوهَا، عَائِدٌ عَلَى الصَّدَقَاتِ، لَفْظًا وَمَعْنًى، بِأَيِّ تَفْسِيرٍ فُسِّرَتِ الصَّدَقَاتُ، وَقِيلَ: الصَّدَقَاتُ الْمُبْدَاةُ هِيَ الْفَرِيضَةُ، وَالْمُخْفَاةُ هِيَ التَّطَوُّعُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ قَدْ عَادَ عَلَى الصَّدَقَاتِ لَفْظًا لَا مَعْنًى، فَيَصِيرُ نَظِيرَ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، كَذَلِكَ: وَإِنْ تُخْفُوهَا، تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تُخْفُوا الصَّدَقَاتِ غَيْرَ الْأُولَى، وَهِيَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا احْتَجْنَا فِي: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، إِلَى أَنْ نَقُولَ: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الدِّرْهَمِ لَفْظًا لَا مَعْنًى لِاضْطِرَارِ الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يُرِيدُ أَنَّ عِنْدَهُ دِرْهَمًا وَنِصْفَ هَذَا الدِّرْهَمِ الَّذِي عِنْدَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ خَرِيقٍ وَهِيَ سَاكِنَةُ الْهُبُوبِ
يُرِيدُ: رِيحًا أُخْرَى سَاكِنَةَ الْهُبُوبِ.
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَطَلُّبِ مَصَارِفِهَا وَتَحَقُّقِ ذَلِكَ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ.
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ الْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوها التَّقْدِيرُ: فَالْإِخْفَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: خَيْرٌ، هُنَا أُرِيدَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الْخُيُورِ، وَ: لَكُمْ، فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
690
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِبْدَاءُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِبْدَائِهَا.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ إِخْفَاءَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَفْضَلُ، سَوَاءٌ كَانَتْ فرضا أو نفلا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لِبُعْدِ الْمُتَصَدِّقِ فِيهَا عَنِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَلَوْ لَمْ يُعْلِمِ الْفَقِيرَ بِنَفْسِهِ، وَأَخْفَى عَنْهُ الصَّدَقَةَ أَنْ يَعْرِفَ، كَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ بِخُلُوصِ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِذَا اصْطَنَعْتَ الْمَعْرُوفَ فَاسْتُرْهُ، وَإِذَا اصْطُنِعَ إِلَيْكَ فَانْشُرْهُ.
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: تَعْجِيلِهِ، وَتَصْغِيرِهِ فِي نَفْسِكَ، وَسَتْرِهِ. فَإِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّيْتَهُ، وَإِذَا صَغَرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ:
يُخْفِي صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا
وَفِي الْإِبْدَاءِ وَالْإِخْفَاءِ طِبَاقٌ لَفْظِيٌّ، وَفِي قَوْلِهِ: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْتِي الصَّدَقَاتِ إِلَّا الْأَغْنِيَاءُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ يَبْدُ الصَّدَقَاتِ الْأَغْنِيَاءُ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ حَقٌّ لِلْفَقِيرِ، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أن يفرق الصدق بِنَفْسِهِ.
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قَرَأَ بِالْوَاوِ الْجُمْهُورُ فِي: وَيُكَفِّرُ، وَبِإِسْقَاطِهَا وَبِالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَالنُّونِ، وَبِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا، وَبِرَفْعِ الرَّاءِ وَجَزْمِهَا وَنَصْبِهَا، فَإِسْقَاطُ الْوَاوِ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَلٌ عَلَى الْمَوْضِعِ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأنه في موضع جَزْمٍ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: يَكُنْ لَكُمُ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا مِنَ الْإِبْدَاءِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ حَرْفِ الْعَطْفِ: أَيْ وَيُكَفِّرُ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِالْيَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالْيَاءِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ عِكْرِمَةُ إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الْفَاءَ وَبَنَى الْفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ، فِيمَا حَكَى عَنْهُ الَمَهَدَوِيُّ بِالتَّاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: بِالتَّاءِ وَنَصْبِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ: بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ، وَرُوِيَ الْخَفْضُ عَنِ الْأَعْمَشِ بِالنُّونِ وَنَصْبِ الرَّاءِ فِيمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ.
فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَنُكَفِّرُ، بِالنُّونِ فَإِنَّهُ ضَمِيرٌ لِلَّهِ
691
تَعَالَى بِلَا شَكٍّ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الصَّرْفِ، أَيْ صَرْفِ الصَّدَقَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى الْإِخْفَاءِ أَيْ: وَيُكَفِّرُ إِخْفَاءَ الصَّدَقَاتِ وَنَسَبَ التَّكْفِيرَ إِلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ سَبَبُ التَّكْفِيرِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالضَّمِيرُ فِي الْفِعْلِ لِلصَّدَقَاتِ، وَمَنْ رَفَعَ الرَّاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَنَحْنُ نُكَفِّرُ، أَيْ: وَهُوَ يُكَفِّرُ، أَيِ: اللَّهُ. أَوِ الْإِخْفَاءُ أَيْ:
وَهِيَ تُكَفِّرُ أَيِ: الصَّدَقَةُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، وَتَكُونُ الْوَاوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةِ كَلَامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ، إِذْ لَوْ وَقَعَ مُضَارِعٌ بَعْدَهَا لَكَانَ مَرْفُوعًا، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «١» وَمَنْ جَزَمَ الرَّاءَ فَعَلَى مُرَاعَاةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ جَزَاءً، إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، كَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ «٢».
وَنَذَرْهُمْ، فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ: وَنَذَرَهُمْ، وَمَنْ نَصَبَ الرَّاءَ فَبِإِضْمَارِ: أَنْ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَنَظِيرُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ «٣» بِنَصْبِ الرَّاءِ، إِلَّا أَنَّهُ هُنَا يَعْسُرُ تَقْدِيرُ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ الْمُتَوَهَّمِ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُحَاسِبْكُمْ، فَإِنَّهُ يُقَدِّرُ تَقَعُ مُحَاسَبَةٌ فَغُفْرَانٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ: وَإِنْ تُخْفُوهَا يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ، وَأَنْ نُكَفِّرَ عَنْكُمْ. انْتَهَى.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ تَقْدِيرَهُ: وَأَنْ نُكَفِّرَ، يَكُونُ مُقَدَّرًا بِمَصْدَرٍ، وَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى:
خَيْرًا، خَبَرُ يَكُنِ الَّتِي قَدَّرَهَا كَأَنَّهُ قَالَ: يَكُنِ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا لَكُمْ وَتَكْفِيرًا، فَيَكُونُ: أَنْ يُكَفِّرَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.
وَالَّذِي تَقَرَّرَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنِ الْمُضْمَرَةَ مَعَ الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَا هُوَ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مَرْفُوعٍ، تَقْدِيرُهُ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْتَ:
مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثُنَا، فَالتَّقْدِيرُ: مَا يَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ فحديث، وكذلك إن تجيء وَتُحْسِنْ إِلَيَّ أُحْسِنُ إِلَيْكَ، التَّقْدِيرُ إِنْ يَكُنْ مِنْكَ مَجِيءٌ وَإِحْسَانٌ أُحْسِنُ إِلَيْكَ. وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ بَعْدَ جَوَابِ الشَّرْطِ. كَالتَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ فِي: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ «٤»، فِي قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ، فيغفر،
(١) سورة المائدة: ٥/ ٩٥.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٦.
(٣- ٤) سورة البقرة: ٢/ ٢٨٤.
692
فعلى هذا يكون القدير: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ يَكُنْ زِيَادَةُ خَيْرٍ لِلْإِخْفَاءِ عَلَى خَيْرٍ لِلْإِبْدَاءِ وَتَكْفِيرٌ.
وَقَالَ الَمَهَدَوِيُّ: فِي نَصْبِ الرَّاءِ: هُوَ مُشَبَّهٌ بِالنَّصْبِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، إِذِ الْجَزَاءُ يَجِبُ بِهِ الشَّيْءُ لِوُجُوبِ غَيْرِهِ كَالِاسْتِفْهَامِ.
وَقَالَ ابن عطية: بالجزم فِي الرَّاءِ أَفْصَحُ هَذِهِ القراآت لِأَنَّهَا تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التَّكْفِيرِ فِي الْجَزَاءِ، وَكَوْنِهِ مَشْرُوطًا إِنْ وَقَعَ الْإِخْفَاءُ، وَأَمَّا رَفْعُ الرَّاءِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى. انْتَهَى.
وَنَقُولُ: إِنَّ الرَّفْعَ أَبْلَغُ وَأَعَمُّ، لِأَنَّ الْجَزْمَ يَكُونُ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جَوَابِ الشرط الثاني، والرفع يدل عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ مُتَرَتِّبٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى بَذْلِ الصَّدَقَاتِ، أَبْدَيْتَ أَوْ أَخْفَيْتَ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا التَّكْفِيرَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قبله، ولا يختص التَّكْفِيرُ بِالْإِخْفَاءِ فَقَطْ، وَالْجَزْمُ يُخَصِّصُهُ بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي يُبْدِي الصَّدَقَاتِ لَا يُكَفِّرُ مِنْ سَيِّئَآتِهِ، فَقَدْ صَارَ التَّكْفِيرُ شَامِلًا لِلنَّوْعَيْنِ مِنْ إِبْدَاءِ الصَّدَقَاتِ وَإِخْفَائِهَا، وَإِنْ كَانَ الْإِخْفَاءُ خَيْرًا مِنَ الإبداء.
وَ: مِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ، لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُكَفِّرُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ.
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ قَالَتْ: مِنْ، زَائِدَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مِنْهُمْ خَطَأٌ، وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَهَا سَبَبِيَّةً وَقَدَّرَ: مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِكُمْ، ضَعِيفٌ.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ خَتَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا لَطُفَ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَخَفِيَ، فَنَاسَبَ الرفع خَتْمَهَا بِالصِّفَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا خُفِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ اخْتَلَفَ النَّقْلُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَضْمُونُهَا أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ كَرِهَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى قَرِيبِهِ الْمُشْرِكِ، أَوْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَوْ نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، أَوِ امْتَنَعَ هُوَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَأَلَهُ يَهُودِيٌّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَظَاهِرُ الْهُدَى أَنَّهُ مُقَابِلُ الضَّلَالِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَهْدِيَهُمْ، أَيْ: خَلْقَ الْهُدَى فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْهُدَى بِمَعْنَى الدُّعَاءِ فَهُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا. وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَهُوَ نَظِيرُ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «١» فَالْمَعْنَى: لَيْسَ
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٨.
693
عَلَيْكَ هُدَى مَنْ خَالَفَكَ حَتَّى تَمْنَعَهُ الصَّدَقَةَ لِأَجْلِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، هُدَاهُمْ لَيْسَ إِلَيْكَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا الْهُدَى لَيْسَ مُقَابِلًا لِلضَّلَالِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ، فَقَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَهُمْ مَهْدِيِّينَ إِلَى الِانْتِهَاءِ عَمَّا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَبِيثِ وَغَيْرِهِ، وَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَهُمُ النَّوَاهِيَ فَحَسْبُ، وَيُبْعِدُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قوله: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ هُدَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ تَلَطُفٌ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللُّطْفَ يَنْفَعُ فِيهِ، فَيَنْتَهِي عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ. انْتَهَى. فَلَمْ يَحْمِلِ الْهُدَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْإِيمَانِ الْمُقَابِلِ لِلضَّلَالِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هُدًى خَاصٍّ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، كَمَا قُلْنَا. وَقِيلَ: الْهِدَايَةُ هُنَا الْغِنَى أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُغْنِيَهُمْ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُوَاسِيَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ.
وَتَسْمِيَةُ الْغِنَى: هِدَايَةٌ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ: رَشَدْتُ وَاهْتَدَيْتُ، لِمَنْ ظَفِرَ، وَغَوَيْتُ لِمَنْ خَابَ وَخَسِرَ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمُ عَلَى الْغَيِّ لَائِمًا
وَتَفْسِيرُ الْهُدَى بِالْغِنَى أَبْعَدُ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ: هُدَاهُمْ، طِبَاقٌ مَعْنَوِيٌّ، إِذِ الْمَعْنَى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَى الضَّالِّينَ، وَظَاهِرُ الْخِطَابِ فِي: لَيْسَ عَلَيْكَ، أَنَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
وَمُنَاسَبَةُ تَعَلُّقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قَوْلَهُ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ الْآيَةَ اقْتَضَى أَنْهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَانْقَسَمَ النَّاسُ مِنْ مَفْهُومِ هَذَا إِلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَعْمَلُ بِهَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْتِهِ إِيَّاهَا فَهُوَ يَخْبِطُ عَشْوَاءً فِي الضَّلَالِ. فَنَبَّهَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، بَلِ الْهِدَايَةُ وَإِيتَاءُ الْحِكْمَةِ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِيَتَسَلَّى بِذَلِكَ فِي كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَلِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ هُوَ لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُلْجِئَهُمْ إِلَى الْهُدَى بِوَاسِطَةِ أَنْ تَقِفَ صَدَقَتَكَ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِيمَانِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، بَلِ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عَلَى سَبِيلِ الطَّوْعِ وَالِاخْتِيَارِ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَتَجْنِيسٌ مُغَايِرٌ إِذْ: هُدَاهُمُ اسْمٌ، وَيَهْدِي فِعْلٌ.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أَيْ: فَهُوَ لِأَنْفُسِكُمْ، لَا يَعُودُ نَفْعُهُ وَلَا جَدْوَاهُ إِلَّا
694
عَلَيْكُمْ، فَلَا تَمَنُّوا بِهِ، وَلَا تُؤْذُوا الْفُقَرَاءَ، وَلَا تُبَالُوا بِمَنْ صَادَفْتُمْ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ إِنَّمَا هُوَ لَكُمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَعْنَى: فَلِأَنْفُسِكُمْ، فَلِأَهْلِ دِينِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «١» وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «٢» أَيْ: أَهْلُ دِينِكُمْ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْفَرْضِ مِنَ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ حُكْمِ التَّطَوُّعِ، فَإِنَّ الْفَرْضَ لِأَهْلِ دِينِكُمْ دُونَ الْكُفَّارِ.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، ثُمَّ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ مَعَ أَحَدٍ خَيْرًا قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ مَعَ نَفْسِي، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَحْسَنْتُ إِلَى أَحَدٍ قَطُّ، وَلَا أَسَأْتُ لَهُ ثُمَّ يَتْلُو: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «٣»
. وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أَيْ: وَمَا تُنْفِقُونَ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّ لَكُمْ قَبُولُهَا إِلَّا مَا كَانَ إِنْفَاقُهُ لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَإِذَا عَرِيَتْ مِنْ هَذَا الْقَصْدِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا فَهَذَا خَبَرُ شَرْطٍ فِيهِ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَمَا تُنْفِقُونَ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّةَ الْقَبُولَ، فَيَكُونُ هَذَا الْخِطَابُ لِلْأُمَّةِ. وقيل: هو خير مِنَ اللَّهِ أَنَّ نَفَقَتَهُمْ أَيْ: نَفَقَةَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مَا وَقَعَتْ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنِ ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ شَهَادَةً لَهُمْ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَتَبْشِيرًا بِقَبُولِهَا، إِذْ قَصَدُوا بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَخَرَجَ هَذَا الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، فَيَكُونُ هَذَا الْخِطَابُ خَاصًّا بِالصَّحَابَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَتْ نَفَقَتُكُمْ إِلَّا لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، وَلِطَلَبِ مَا عِنْدَهُ، فَمَا لَكُمْ تَمُنُّونَ بِهَا وَتُنْفِقُونَ الْخَبِيثَ الَّذِي لَا يُوَجَّهُ مِثْلُهُ إِلَى اللَّهِ؟ وَهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً، ثُمَّ عَرَضَ لَهَا الْإِبْطَالُ. بِخِلَافِ قَوْلِ غَيْرِهِمْ: إِنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى قَارَنَهَا. وَقِيلَ: هُوَ نَفْيُ مَعْنَاهُ النَّهْيُ، أَيْ: وَلَا تُنْفِقُوا إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَمَجَازُهُ أنه: لما نهى عن أَنْ يَقَعَ الْإِنْفَاقُ إِلَّا لِوَجْهِ اللَّهِ، حَصَلَ الِامْتِثَالُ، وَإِذَا حَصَلَ الِامْتِثَالُ، فَلَا يَقَعُ الْإِنْفَاقُ إِلَّا لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّهْيِ بِالنَّفْيِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَانْتِصَابُ ابْتِغَاءَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: مُبْتَغِينَ، وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنِ الرِّضَا، كَمَا قَالَ: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وذلك على عادة
(١) سورة النور: ٢٤/ ٦١. [.....]
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢٩.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٧.
695
الْعَرَبِ، وَتَنَزُّهِ اللَّهِ عَنِ الْوَجْهِ بِمَعْنَى: الْجَارِحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نِسْبَةِ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «١» مُسْتَوْفًى، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَيْ: يُوَفَّرُ عَلَيْكُمْ جَزَاؤُهُ مُضَاعَفًا، وَفِي هَذَا، وَفِيمَا قَبْلَهُ، قَطْعُ عُذْرِهِمْ فِي عَدَمِ الْإِنْفَاقِ، إِذِ الَّذِي يُنْفِقُونَهُ هُوَ لَهُمْ حَيْثُ يَكُونُونَ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ، فَيُوَفُّونَهُ كَامِلًا مُوَفَّرًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِنْفَاقُهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَفْضَلِهَا، وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «٢»
وَقَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا تَصَدَّقَ الْعَبْدُ بِالصَّدَقَةِ وَقَعَتْ فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ، أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ»
. وَالضَّمِيرُ فِي: يُوَفَّ، عَائِدٌ عَلَى: مَا، وَمَعْنَى تَوْفِيَتُهُ: إِجْزَالُ ثَوَابِهِ.
وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، الْعَامِلُ فِيهَا يُوَفَّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَا تُنْفِقُونَ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ إِنْفَاقِكُمْ.
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقَاتِلٌ: هُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُ مَنْ كَانَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارُوا زَمْنَى، وَاخْتَارَ هَذَا الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ: أُحْصِرُوا مِنَ الْمَرَضِ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَبْسَ مِنَ الْعَدُوِّ لَقَالَ: حَصَرُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِحْصَارِ وَالْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ «٣» وَثَبَتَ مِنَ اللُّغَةِ هُنَاكَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أُحْصِرَ وَحُصِرَ، وَحَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُحْصِرُوا مِنْ خَوْفِ الْكُفَّارِ، إِذْ أَحَاطُوا بِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْغَزْوِ، وَمَنَعَهُمُ الْفَقْرُ مِنَ الْغَزْوِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: مَنَعَهُمْ عُلُوُّ هِمَّتِهِمْ عَنْ رَفْعِ حَاجَتِهِمْ إِلَّا إِلَى اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَحْصَرَهُمُ الْجِهَادُ، لَا يَسْتَطِيعُونَ لِاشْتِغَالِهِمْ بِهِ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ لِلْكَسْبِ. انْتَهَى.
وَ: لِلْفُقَرَاءِ، فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
لِمَنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتُ الْمَحْثُوثُ عَلَى فِعْلِهَا؟ فَقِيلَ: لِلْفُقَرَاءِ، أَيْ: هِيَ لِلْفُقَرَاءِ. فَبَيَّنَ مَصْرِفَ
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٧٦.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٩٦.
696
النَّفَقَةِ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللَّامُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَعَجِبُوا لِلْفُقَرَاءِ، أَوِ اعْمَدُوا لِلْفُقَرَاءِ، وَاجْعَلُوا مَا تُنْفِقُونَ لِلْفُقَرَاءِ، وَأَبْعَدَ الْقَفَّالُ فِي تَقْدِيرِ: إِنْ تَبْدُوَا الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَّقَهُ بِقَوْلِهِ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ: لِلْفُقَرَاءِ، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ:
فَلِأَنْفُسِكُمْ، لِكَثْرَةِ الْفَوَاصِلِ الْمَانِعَةِ مِنْ ذَلِكَ.
لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أَيْ تَصَرُّفًا فِيهَا، إِمَّا لِزَمِنِهِمْ وَإِمَّا لِخَوْفِهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ لِقِلَّتِهِمْ، فَقِلَّتُهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاكْتِسَابِ بِالْجِهَادِ، وَإِنْكَارُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ إِسْلَامَهُمْ يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَةِ، فَبَقُوا فُقَرَاءَ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: أَحُصِرُوا عَاجِزِينَ عَنِ التَّصَرُّفِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ.
يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، بِفَتْحِ السِّينِ حَيْثُ وَقَعَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ مَاضِيَهُ عَلَى فَعِلَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ مَسْمُوعٌ فِي أَلْفَاظٍ، مِنْهَا: عَمَدَ يَعْمُدُ وَيَعْمِدُ وَقَدْ ذَكَرَهَا النَّحْوِيُّونَ، وَالْفَتْحُ فِي السِّينِ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَالْكَسْرُ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِفَرْطِ انْقِبَاضِهِمْ، وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ، وَاعْتِمَادِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، يَحْسَبُهُمْ مَنْ جَهِلَ أَحْوَالَهُمْ أَغْنِيَاءَ، وَ: مِنْ، سَبَبِيَّةٌ، أَيِ الْحَامِلُ عَلَى حُسْبَانِهِمْ أَغْنِيَاءَ هُوَ تَعَفُّفُهُمْ، لِأَنَّ عَادَةَ مَنْ كَانَ غَنِيَّ مَالٍ أَنْ يَتَعَفَّفَ، وَلَا يسأل، ويتعلق، بيحسبهم وَجُرَّ الْمَفْعُولُ لَهُ هُنَاكَ بِحَرْفِ السَّبَبِ، لِانْخِرَامِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَفْعُولِ لَهُ مِنْ أَجْلِهِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْفَاعِلِ، لِأَنَّ فَاعِلَ يَحْسَبُ هُوَ: الْجَاهِلُ، وَفَاعِلَ التَّعَفُّفِ هُوَ: الْفُقَرَاءُ. وَهَذَا الشَّرْطُ هُوَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الشَّرْطُ مُنْخَرِمًا لَكَانَ الْجَرُّ بِحَرْفِ السَّبَبِ أَحْسَنُ فِي هَذَا الْمَفْعُولِ لَهُ، لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ حَرْفُ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ نَصْبُهُ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ كَمَا أَنْشَدُوا.
لَا أَقْعُدُ الْجُبْنَ عَنِ الْهَيْجَاءِ أَيْ: لِلْجُبْنِ، وَإِنَّمَا عُرِّفَ الْمَفْعُولُ لَهُ، هُنَا لِأَنَّهُ سَبَقَ مِنْهُمُ التَّعَفُّفُ مِرَارًا، فَصَارَ مَعْهُودًا مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مِنْ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ مِنْ تَعَفُّفِهِمُ ابْتَدَأَتْ مَحْسَبَتُهُ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهِمْ لَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ غِنَى تَعَفَّفٍ، وَإِنَّمَا يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ مَالٍ، فَمَحْسَبَتُهُ مِنَ التَّعَفُّفِ نَاشِئَةٌ، وَهَذَا عَلَى أَنَّهُمْ مُتَعَفِّفُونَ عِفَّةً تَامَّةً مِنَ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ،
697
وَكَوْنُهَا لِلسَّبَبِ أَظْهَرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ: مِنْ، بِأَغْنِيَاءَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ إِلَى ضِدِّ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى: حَالُهُمْ يَخْفَى على الجاهل به، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَعَلَى تَعْلِيقِ: مِنْ، بِأَغْنِيَاءَ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْجَاهِلَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَلَكِنْ بِالتَّعَفُّفِ، وَالْغَنِيُّ بِالتَّعَفُّفِ فَقِيرٌ مِنَ الْمَالِ، وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ: مِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ، قَالَ: يَكُونُ التَّعَفُّفُ دَاخِلًا فِي الْمَحْسَبَةِ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ سُؤَالٌ، بَلْ هُوَ قَلِيلٌ. وَبِإِجْمَالٍ فَالْجَاهِلُ بِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِفَقْرِهِمْ يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ عِفَّةٍ. فَمِنْ، لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ.
انْتَهَى. وَلَيْسَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنْ: مِنْ، هَذِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِبَيَانِ الْجِنْسِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ لَهَا اعْتِبَارًا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْمَعْنَى لِمَنْ يَتَقَدَّرُ بِمَوْصُولٍ، وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ يَحْصُلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، نَحْوَ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «١» التَّقْدِيرُ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ. وَلَوْ قُلْتَ هُنَا: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ الَّذِي هُوَ التَّعَفُّفُ، لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّقْدِيرُ، وَكَأَنَّهُ سَمَّى الْجِهَةَ الَّتِي هُمْ أَغْنِيَاءُ بِهَا بَيَانَ الْجِنْسِ، أَيْ: بَيَّنَتْ بِأَيِّ جِنْسٍ وَقَعَ غِنَاهُمْ بِالتَّعَفُّفِ، لَا غِنَى بِالْمَالِ. فَتُسَمَّى: مِنْ، الدَّاخِلَةُ عَلَى مَا يُبَيِّنُ جِهَةَ الْغِنَى لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَلَيْسَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّ مِنْ سَبَبِيَّةٌ، لَكِنَّهَا تَتَعَلَّقُ: بِأَغْنِيَاءَ، لَا: بيحسبهم، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: يَحْسَبُهُمْ، جُمْلَةً حَالِيَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً.
تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ الْخِطَابُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ بِالسِّيمَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تَعْرِفُ فَقْرَهَمْ بِالسِّيمَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْفَقْرِ، مِنْ: رَثَاثَةِ الْأَطْمَارِ، وَشُحُوبِ الْأَلْوَانِ لِأَجْلِ الْفَقْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
السِّيمَا الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْفَاقَةُ، وَالْجُوعُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَقِلَّةُ النِّعْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَثَاثَةُ أَثْوَابِهِمْ، وَصُفْرَةُ وُجُوهِهِمْ. وَقِيلَ: أَثَرُ السُّجُودِ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ:
لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَفَرِّغِينَ لِلْعِبَادَةِ، فَكَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «٢» إِلَّا إِنْ كَانَ يَكُونُ أَثَرُ السُّجُودِ فِي هَؤُلَاءِ أَكْثَرَ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ السِّيمَا بِالْخُشُوعِ، فَالْخُشُوعُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ظَاهِرًا إِنَّمَا هُوَ: رَثَاثَةُ الْحَالِ، وَشُحُوبُ الْأَلْوَانِ. وَلِلصُّوفِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ السيما
(١) سورة الحج: ٢٢/ ٣٠.
(٢) سورة الفتح: ٤٨/ ٢٩.
698
مَقَالَاتٌ. قَالَ الْمُرْتَعِشُ: عِزَّتُهُمْ عَلَى الْفَقْرِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: فَرَحُهُمْ بِالْفَقْرِ، وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: إِيثَارُ مَا عِنْدَهُمْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: تِيهُهُمْ عَلَى الْغَنِيِّ، وَقِيلَ: طِيبُ الْقَلْبِ وَبَشَاشَةُ الْوَجْهِ.
والباء متعلقة: بتعرفهم، وَهِيَ لِلسَّبَبِ، وَجَوَّزُوا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا جَوَّزُوا فِي الْجُمَلِ قَبْلَهَا، مِنَ الْحَالِيَّةِ، وَمِنَ الِاسْتِئْنَافِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ طِبَاقٌ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي قَوْلِهِ: أحصروا وضربا فِي الْأَرْضِ، وَالثَّانِي: فِي قوله: للفقراء وأغنياء.
لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً إِذَا نُفِيَ حُكْمٌ عَنْ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِقَيْدٍ، فَالْأَكْثَرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ انْصِرَافُ النَّفْيِ لِذَلِكَ الْقَيْدِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا ثُبُوتَ سُؤَالِهِمْ، وَنَفْيَ الْإِلْحَاحِ أَيْ: وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ سُؤَالٌ، فَإِنَّمَا يَكُونُ بِتَلَطُّفٍ وَتَسَتُّرٍ لَا بِإِلْحَاحٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فَيَنْتَفِي ذَلِكَ الْقَيْدُ، فَيَكُونُ عَلَى هَذَا نَفْيُ السُّؤَالِ وَنَفْيُ الْإِلْحَاحِ، فَلَا يَكُونُ النَّفْيُ عَلَى هَذَا مُنْصَبًّا عَلَى الْقَيْدِ فَقَطْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْأَلُونَ إِلْحَافًا وَلَا غَيْرَ إِلْحَافٍ، وَنَظِيرُ هَذَا: مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا.
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا، إِنَّمَا تَأْتِي وَلَا تُحَدِّثُ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: مَا يَكُونُ مِنْكَ إِتْيَانٌ فَلَا يَكُونُ حَدِيثٌ، وَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَقَعُ مِنْهُمْ سُؤَالٌ الْبَتَّةَ فَلَا يَقَعُ إِلْحَاحٌ. وَنَبَّهَ عَلَى نَفْيِ الْإِلْحَاحِ دُونَ غَيْرِ الْإِلْحَاحِ لِقُبْحِ هَذَا الْوَصْفِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ هَذَا الْوَصْفِ وَحْدَهُ وَوُجُودُ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَصِيرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِنَفْيِ مِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ نَفْيُ الْمُتَرَتِّبَاتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ نَفَى الْأَوَّلَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، فَتُنْفَى مُتَرَتِّبَاتُهُ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ الْإِتْيَانَ فَانْتَفَى الْحَدِيثُ، انْتَفَتْ جَمِيعُ مُتَرَتِّبَاتِ الْإِتْيَانِ مِنَ: الْمُجَالَسَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْكَيْنُونَةِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِذِكْرِ مُتَرَتِّبٍ وَاحِدٍ لِغَرَضٍ مَا عَنْ سَائِرِ الْمُتَرَتِّبَاتِ، وَتَشْبِيهُ الزَّجَّاجِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ، بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بمناره إِنَّمَا هُوَ مُطْلَقَ انْتِفَاءِ الشَّيْئَيْنِ، أَيْ لَا سُؤَالَ وَلَا إِلْحَافَ. وَكَذَلِكَ: هَذَا لَا مَنَارَ وَلَا هِدَايَةَ، لَا أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي خُصُوصِيَّةِ النَّفْيِ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا إِلْحَافَ، فَلَا سُؤَالَ، وَلَيْسَ تَرْكِيبُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يَصِحُّ: لَا إِلْحَافَ فَلَا سُؤَالَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ نَفْيِ الْخَاصِّ نَفْيُ الْعَامِّ، كَمَا لَزِمَ مِنْ نَفْيِ الْمَنَارِ نَفْيُ الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَعْضِ
699
لَوَازِمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّي مَعْنَى النَّفْيِ عَلَى طَرِيقَةِ النَّفْيِ فِي الْبَيْتِ أَنْ لَوْ كَانَ التَّرْكِيبُ: لَا يُلْحِفُونَ النَّاسَ سُؤَالًا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ السُّؤَالِ نَفْيُ الْإِلْحَافِ، إِذْ نَفِيُ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخَاصِّ، فَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ نَفْيَ الشَّيْئَيْنِ تَارَةً يُدْخِلُ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى شَيْءٍ فَتَنْتَفِي جَمِيعُ عَوَارِضِهِ، وَنَبَّهَ عَلَى بَعْضِهَا بِالذِّكْرِ لغرض ما، وتارة يُدْخِلُ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى عَارِضٍ مِنْ عَوَارِضِهِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُهُ، فَيَنْتَفِي لِنَفْيِهِ عَوَارِضَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَشْبِيهُهُ، يَعْنِي الزَّجَّاجَ، الْآيَةَ بِبَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ غَيْرُ صَحِيحٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ انْتِفَاءَ صِحَّةِ التَّشْبِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي خُصُوصِيَّةِ النَّفْيِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمَنَارِ فِي الْبَيْتِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْهِدَايَةِ، وَلَيْسَ انْتِفَاءُ الْإِلْحَاحِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ السُّؤَالِ، وَأَطَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ الزَّجَّاجِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُطْلَقِ انْتِفَاءِ الشَّيْئَيْنِ، وَقَرَّرْنَا ذَلِكَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى إِلْحَافًا أَنَّهُ السُّؤَالُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ بِهِ الْمَالُ لِكَثْرَةِ تَلَطُّفِهِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ بِالرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا، فَلِأَنْ لَا يُوجَدَ بِطَرِيقِ الْعُنْفِ أَوْلَى، وَقِيلَ:
مَعْنَى إِلْحَافًا أَنَّهُمْ يُلْحِفُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي تَرْكِ السُّؤَالِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُونَ لِإِلْحَاحِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ في: ترك، السُّؤَالَ، وَمَنْعُهُمْ ذَلِكَ بِالتَّكْلِيفِ الشَّدِيدِ، وَقِيلَ: مَنْ سَأَلَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُلِحَّ، فَنَفْيُ الْإِلْحَاحِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا مُوجِبٌ لِنَفْيِ السُّؤَالِ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ عَدَمِ إِظْهَارِ آثَارِ الْفَقْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يَضُمُّونَ إلى السكوت مِنْ رَثَاثَةِ الْحَالِ وَالِانْكِسَارِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَ السُّؤَالِ الْمُلِحِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا، وَأَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً.
وَمَنْ جَوَّزَ الْحَالَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ وَذُو الْحَالِ وَاحِدٌ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ تَعَدَّدَ الْحَالِ لِذِي حَالٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مَذْكُورٍ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَجَوَّزُوا فِي إِعْرَابِ: إِلْحَافًا، أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ: يَسْأَلُونَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُلْحِفُونَ. وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: لَا يَسْأَلُونَ مُلْحِفِينَ.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تَقَدَّمَ: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ، وَالتَّأْكِيدِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ قَيْدِ الْآخَرِ فَالْأَوَّلُ: ذَكَرَ أَنَّ الْخَيْرَ الذي يعلمه مَعَ غَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَيْهِ جَزَاؤُهُ، وَالثَّانِي: ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الناشئ عَنِ الْخَيْرِ يُوَفَّاهُ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا بَخْسٍ،
700
وَالثَّالِثُ: ذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِمَا يُنْفِقُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِقْدَارِهِ، وَكَيْفِيَّةِ جِهَاتِهِ الْمُؤْثِرَةِ فِي تُرَتِّبِ الثَّوَابِ، فَأَتَى بِالْوَصْفِ الْمُطَّلِعِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ: الْعِلْمُ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً قَالَ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْغَافِقِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَرَبَاحُ بْنُ بُرَيْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ:
هِيَ فِي عَلَفِ الْخَيْلِ الْمُرْتَبِطَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُرْتَبَطِهَا. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا مَرَّ بِفَرَسٍ سَمِينٍ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ، كَانَتْ عِنْدَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ، لَمْ يَمْلُكْ غَيْرَهَا، فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا، وَبِدِرْهَمٍ نَهَارًا، وَبِدِرْهَمٍ سِرًا، وَبِدِرْهَمٍ عَلَانِيَةً.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ بَعَثَ بِوَسَقِ تَمْرٍ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ لَيْلًا
، وَفِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بَعَثَ إِلَيْهِمْ بِدَرَاهِمَ كَثِيرَةٍ نَهَارًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْمُنْفِقِينَ مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ وَلَا تَقْتِيرٍ. انْتَهَى. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بِكْرٍ، تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ: عَشَرَةٌ بِاللَّيْلِ، وَعَشَرَةٌ بِالنَّهَارِ، وَعَشَرَةٌ فِي السِّرِّ، وَعَشَرَةٌ فِي الْجَهْرِ.
وَالْآيَةُ، وَإِنْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الْآيَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ، فِيمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعُمُّونَ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالَ بِالصَّدَقَةِ لِحِرْصِهِمْ عَلَى الْخَيْرِ، فَكُلَّمَا نَزَلَتْ بِهِمْ حَاجَةُ مُحْتَاجٍ عَجَّلُوا قَضَاءَهَا، وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ، وَلَمْ يَتَعَلَّلُوا بِوَقْتٍ وَلَا حَالٍ. انْتَهَى.
وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَفْضَلِيَّةَ الصَّدَقَةِ فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ، وَلَا فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ اعْتِمَادًا عَلَى الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَهِيَ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أَوْ جَاءَ تَفْصِيلًا عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ مِنْ صَدَقَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدَقَةِ عَلِيٍّ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ تَقْدِيمَ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ، وَالسِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ يَدُلُّ عَلَى تِلْكَ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَاللَّيْلُ مَظِنَّةُ صَدَقَةِ السِّرِّ، فَقَدَّمَ الْوَقْتَ الَّذِي كَانَتِ الصَّدَقَةُ فِيهِ أَفْضَلَ، وَالْحَالُ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا أَفْضَلَ.
701
وَالْبَاءُ فِي: بِاللَّيْلِ، ظَرْفِيَّةٌ، وَانْتِصَابُ: سِرًّا وَعَلَانِيَةً، عَلَى أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: مُسَرِّينَ وَمُعْلِنِينَ، أَوْ: عَلَى أَنَّهُمَا حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، أَوْ: نَعْتَانِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِنْفَاقًا سرا، على مشهور الإغراب فِي: قُمْتُ طَوِيلًا، أَيْ قِيَامًا طَوِيلًا.
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فَلَا نُعِيدُهُ، وَدَخَلَتِ: الْفَاءُ فِي فَلَهُمْ، لِتَضَمُّنِ الْمَوْصُولِ مَعْنَى اسْمِ الشَّرْطِ لِعُمُومِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا يُوجَدُ الشَّبَهُ، يَعْنِي بَيْنَ الْمَوْصُولِ وَاسْمِ الشَّرْطِ، إِذَا كَانَ:
الَّذِي، مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى: الَّذِي، عَامِلٌ يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ. انْتَهَى. فَحَصَرَ الشَّبَهَ فِيمَا إِذَا كَانَ: الَّذِي، مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُحَرَّرٍ، إِذْ مَا ذُكِرَ لَهُ قُيُودٌ:
أَوَّلُهَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالَّذِي بَلْ كُلُّ مَوْصُولٍ غَيْرُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الَّذِي بَلَا خِلَافٍ، وَفِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ خِلَافٌ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ الْفَاءِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ مَوْصُولًا بِفِعْلٍ، فَأَطْلَقَ فِي الْفِعْلِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ شَرْطُ الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، فَلَوْ قُلْتَ: الَّذِي يَأْتِينِي، أَوْ: لَمَّا يَأْتِينِي، أَوْ: مَا يَأْتِينِي، أَوْ: لَيْسَ يَأْتِينِي، فَلَهُ دِرْهَمٌ، لَمْ يَجُزْ لِأَدَاةِ الشَّرْطِ، لَا يُصْلِحُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفِعْلِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الظَّرْفُ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ كَالْفِعْلِ فِي ذَلِكَ، فَمَتَى كَانَتِ الصِّلَةُ وَاحِدًا مِنْهُمَا جَازَ دُخُولُ الْفَاءِ. وَقَوْلُهُ: وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى: الَّذِي، عَامِلٌ يغير معناه عِبَارَةً غَيْرَ مُخَلِّصَةٍ، لِأَنَّ الْعَامِلَ الدَّاخِلَ عَلَيْهِ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يُغَيِّرُ مَعْنَى الْمَوْصُولِ، إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: مَعْنَى جُمْلَةِ الِابْتِدَاءِ فِي الْمَوْصُولِ، وَخَبَرُهُ فَيُخْرِجُهُ إِلَى تَغْيِيرِ الْمَعْنَى الِابْتِدَائِيِّ مِنْ: تَمَنٍّ، أَوْ تَشْبِيهٍ، أَوْ ظَنٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. لَوْ قُلْتَ: الَّذِي يَزُورُنَا فَيُحْسِنُ إِلَيْنَا لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَيْضًا لِابْنِ عَطِيَّةَ أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ شَرْطَ دُخُولِ الْفَاءِ فِي الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا بِالصِّلَةِ، نَحْوَ مَا جَاءَ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ تَرَتُّبَ الْأَجْرِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِنْفَاقِ.
وَمَسْأَلَةُ دُخُولِ الْفَاءِ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ يَسْتَدْعِي كَلَامًا طَوِيلًا، وَفِي بَعْضِ مَسَائِلِهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ) مِنْ تأليفنا.
702

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٥ الى ٢٧٦]

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)
الرِّبَا: الزِّيَادَةُ يُقَالُ: رَبَا يَرْبُو وَأَرْبَاهُ غَيْرُهُ. وَأَرْبَى الرَّجُلُ، عَامَلَ بِالرِّبَا، وَمِنْهُ الربوة والرابي. وَقَالَ حَاتِمٌ:
وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كأن كعوبه نوى القشب قَدْ أَرْبَى ذِرَاعًا عَلَى الْعَشْرِ
وَكُتِبَ فِي الْقُرْآنِ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ بَعْدَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِالْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ، وَبِالْأَلِفِ. وَتُبْدَلُ الْبَاءُ مِيمًا قَالُوا: الرِّمَا، كَمَا أَبْدَلُوهَا فِي كَتَبَ قَالُوا: كَتَمَ، وَيُثَنَّى: رِبَوَانِ، بِالْوَاوِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ أَلِفَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْهَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: وَيُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَكَذَلِكَ الثُّلَاثِيُّ الْمَضْمُومُ الْأَوَّلُ نَحْوُ: ضُحَى، فَتَقُولُ: رِبَيَانِ وَضَحْيَانِ، فَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا نَحْوَ: صَفَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى الْوَاوِ.
وَأَمَّا الرِّبَا الشَّرْعِيُّ فَهُوَ مَحْدُودٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ.
تَخَبَّطَ: تَفَعَّلَ مِنَ الْخَبْطِ وَهُوَ الضَّرْبُ عَلَى غَيْرِ اسْتِوَاءٍ، وَخَبَطَ الْبَعِيرُ الْأَرْضَ بِأَخْفَافِهِ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يَتَصَرَّفُ وَلَا يَهْتَدِي: خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَتَوَرَّطَ فِي عَمْيَاءَ. وَقَوْلُ عَلْقَمَةَ:
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ أَيْ: أَعْطَيْتَ مَنْ أَرَدْتَ بِلَا تَمْيِيزٍ كَرَمًا.
سَلَفَ: مَضَى وَانْقَضَى، وَمِنْهُ سَالِفُ الدَّهْرِ أَيْ مَاضِيهِ.
عَادَ عَوْدًا: رَجَعَ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ، وَأَنْشَدَ:
تَعُدُّ فِيكُمُ جَزْرَ الْجَزُورِ رِمَاحُنَا وَيَرْجِعْنَ بِالْأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ
الْمَحْقُ: نُقْصَانُ الشَّيْءِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَمِنْهُ: الْمَحَاقُ فِي الْهِلَالِ، يُقَالُ: مَحَقَهُ اللَّهُ فَانْمَحَقَ وَامْتَحَقَ أَنْشَدَ اللَّيْثُ:
يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ كَرُّ الْجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ مَا قَبْلَهَا وَارِدٌ فِي تَفْضِيلِ الْإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ
703
يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ طِيبِ مَا كَسَبَ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْخَبِيثِ. فَذُكِرَ نَوْعٌ غَالِبٌ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ: خَبِيثٌ، وَهُوَ: الرِّبَا، حَتَّى يَمْتَنِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِمَا كَانَ مِنْ رِبًا، وَأَيْضًا فَتَظْهَرُ مُنَاسَبَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَاتِ فِيهَا نُقْصَانُ مَالٍ، وَالرِّبَا فِيهِ زِيَادَةُ مَالٍ، فَاسْتَطْرَدَ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ إِلَى ذِكْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ التَّضَادِّ، وَأَبْدَى لِأَكْلِ الرِّبَا صُورَةً تَسْتَبْشِعُهَا الْعَرَبُ عَلَى عَادَتِهَا فِي ذِكْرِ مَا اسْتَغْرَبَتْهُ وَاسْتَوْحَشَتْ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «١» وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَقَوْلِ الْآخَرِ:
خَيْلًا كَأَمْثَالِ السَّعَالِي شُرَّبًا وَقَوْلِ الْآخَرِ:
بَخِيلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ وَالْأَكْلُ هُنَا قِيلَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ خُصُوصِ الْأَكْلِ، وَأَنَّ الْخَبَرَ: عَنْهُمْ، مُخْتَصٌّ بِالْآكِلِ الربا، وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنْ مُعَامَلَةِ الرِّبَا وَأَخْذِهِ بِالْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ غَالِبُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا «٢» وَقِيلَ: الرِّبَا هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْحَرَامِ، لَا يَخُصُّ الرِّبَا الَّذِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا الرِّبَا الشَّرْعِيِّ. وَقَرَأَ العدوي: الربو، بالواو قيل: وَهِيَ لُغَةُ الْحِيرَةِ، وَلِذَلِكَ كَتَبَهَا أَهْلُ الْحِجَازِ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُمْ تَعَلَّمُوا الْخَطَّ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى لُغَةِ مَنْ وَقَفَ عَلَى أَفْعَى بِالْوَاوِ، فَقَالَ: هذه أفعو، فأجرى الْقَارِئُ الْوَصْلَ إِجْرَاءَ الْوَقْفِ.
وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: أَنَّ بَعْضَهُمْ قَرَأَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ بَعِيدَةٌ، لِأَنْ لَا يُوجَدُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ اسْمٌ آخِرُهُ وَاوٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، بَلْ مَتَى أَدَّى التَّصْرِيفُ إِلَى ذَلِكَ قُلِبَتْ تِلْكَ الْوَاوُ يَاءً وَتِلْكَ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، وَقَدْ أُوِّلَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: فِي أَفْعَى: أَفْعُو، فِي الْوَقْفِ. وَأَنَّ الْقَارِئَ إِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَضْبُطْ حَرَكَةَ الْبَاءِ، أَوْ سَمَّى قُرْبَهَا مِنَ الضَّمَّةِ ضَمًّا.
وَ: لَا يَقُومُونَ، خَبَرٌ عَنْ: الَّذِينَ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ التَّصَانِيفِ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، إِذْ يُتَكَلَّفُ إِضْمَارُ خَبَرٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَظَاهِرُ هَذَا الْإِخْبَارِ أَنَّهُ إخبار عن الذين
(١) سورة الصافات: ٣٧/ ٦٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٦١.
704
يَأْكُلُونَ الرِّبَا، وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ وَوَعِيدٌ عَنِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا مُسْتَحِلِّينَ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ:
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ وَقَوْلِهِ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «١» ومن اخْتَارَ حَرْبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَهَذَا الْقِيَامُ الَّذِي فِي الْآيَةِ قِيلَ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَجُبَيْرٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ فِي الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَالْمَجَانِينِ، عُقُوبَةً لَهُمْ وَتَمْقِيتًا عِنْدَ جَمْعِ الْمَحْشَرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ سِيَمًا لَهُمْ يُعْرَفُونَ بِهَا، ويقوي بهذا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْعَلُ مَعَهُ شَيْطَانٌ يَخْنُقُهُ كَأَنَّهُ يَخْبِطُ فِي الْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا، فَجُوزِيَ فِي الْآخِرَةِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ. وَقَدْ أُثِرَ
فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَكْلَةَ الرِّبَا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ، وَذَكَرَ حَالَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا قَامُوا تَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَيُصْرَعُونَ، وَفِي طَرِيقٍ أَنَّهُ رَأَى بُطُونَهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْآيَةِ فَيُحْتَمَلُ تَشْبِيهُ حَالِ الْقَائِمِ بِحِرْصٍ وَجَشَعٍ إِلَى تِجَارَةِ الرِّبَا بِقِيَامِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ الطَّمَعَ وَالرَّغْبَةَ يَسْتَفِزُّهُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَعْضَاؤُهُ، كَمَا يَقُومُ الْمُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ يَخْلِطُ فِي هَيْئَةِ حَرَكَاتِهِ، إِمَّا مِنْ فَزَعٍ أَوْ غَيْرِهِ قَدْ جُنَّ. هَذَا وَقَدْ شَبَّهَ الْأَعْشَى نَاقَتَهُ فِي نَشَاطِهَا بِالْجُنُونِ فِي قَوْلِهِ:
وَتُصْبِحُ عَنْ غَبِّ السُّرَى وَكَأَنَّهَا أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ
لَكِنْ مَا جَاءَتْ بِهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ يُضَعِّفُ هَذَا التَّأْوِيلَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ حَسَنٌ، إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوْ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ.
وَ: مَا، الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: كَقِيَامِ الَّذِي، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إِلَّا كَمَا يَقُومُهُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ. قِيلَ: مَعْنَاهُ كَالسَّكْرَانِ الَّذِي يَسْتَجِرْهُ الشَّيْطَانُ فيقع ظهرا لبطن، وَنَسَبَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ مُطِيعٌ لَهُ فِي سُكْرِهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَخَبَّطُ الْإِنْسَانَ، فَقِيلَ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ هُوَ مِنْ فِعْلِ الشيطان
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٧٩.
705
بِتَمْكِينِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ:
ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ لِمَا يُحْدِثُهُ فِيهِ مِنْ غَلَبَةِ السُّوءِ أَوِ انْحِرَافِ الْكَيْفِيَّاتِ وَاحْتِدَادِهَا فَتَصْرَعُهُ، فَنُسِبَ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازًا تَشْبِيهًا بِمَا يَفْعَلُهُ أَعْوَانُهُ مَعَ الَّذِينَ يَصْرَعُونَهُمْ، وَقِيلَ: أُضِيفَ إِلَى الشَّيْطَانِ عَلَى زَعَمَاتِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُ الْإِنْسَانَ فَيَصْرَعُهُ، فَوَرَدَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ، يَقُولُونَ: رَجُلٌ مَمْسُوسٌ، وَجُنَّ الرَّجُلُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَرَأَيْتُهُمْ لَهُمْ فِي الْجِنِّ قِصَصٌ وَأَخْبَارٌ وَعَجَائِبُ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَإِنْكَارِ الْمُشَاهَدَاتِ. انْتَهَى.
وَتَخَبَّطَ هُنَا: تَفَعَّلَ، مُوَافِقٌ لِلْمُجَرَّدِ، وَهُوَ خَبَطَ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي: تَفَعَّلَ، نَحْوَ:
تَعَدَّى الشَّيْءَ وَعَدَّاهُ إِذَا جَاوَزَهُ.
مِنَ الْمَسِّ، الْمَسُّ الْجُنُونُ يُقَالُ: مَسَّ فَهُوَ مَمْسُوسٌ وَبِهِ مَسٌّ. أَنْشَدَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أُعَلِّلُ نَفْسِي بِمَا لَا يَكُونُ كَذِي الْمَسِّ جُنَّ وَلَمْ يَخْنُقِ
وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَسِّ بِالْيَدِ، كَأَنَّ الشَّيْطَانَ يَمَسُّ الْإِنْسَانَ فَيُجِنُّهُ، وَسُمِّيَ الْجُنُونُ مَسًّا كَمَا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُهُ وَيَطَأُهُ بِرِجْلِهِ فَيُخَيِّلُهُ، فَسُمِّيَ الْجُنُونُ خَبْطَةٌ، فَالتَّخَبُّطُ بِالرِّجْلِ وَالْمَسُّ بِالْيَدِ، وَيَتَعَلَّقُ: مِنَ الْمَسِّ، بِقَوْلِهِ: يَتَخَبَّطُهُ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَرَفْعِ مَا يَحْتَمِلُهُ يَتَخَبَّطُهُ مِنَ الْمَجَازِ إِذْ هُوَ ظَاهَرٌ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْمَسِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّخَبُّطِ الْإِغْوَاءُ وَتَزْيِينُ الْمَعَاصِي، فَأَزَالَ قَوْلُهُ: مِنَ الْمَسِّ، هَذَا الِاحْتِمَالَ. وَقِيلَ: يتعلق: بيقوم، أَيْ: كَمَا يَقُومُ مِنْ جُنُونِهِ الْمَصْرُوعُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنَ الْمَسِّ؟
قُلْتُ: بلا يَقُومُونَ، أَيْ: لَا يَقُومُونَ مِنَ الْمَسِّ الَّذِي بِهِمْ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمَصْرُوعُ.
انْتَهَى.
وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ فِي شَرْحِ الْمَسِّ أَنَّهُ الْجُنُونُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي تَعَلُّقِ: مِنَ الْمَسِّ، بِقَوْلِهِ: لَا يَقُومُونَ، ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ شَرَحَ الْمَسَّ بِالْجُنُونِ، وَكَانَ قَدْ شَرَحَ أَنَّ قِيَامَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَهُنَاكَ لَيْسَ بِهِمْ جُنُونٌ وَلَا مَسٌّ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُكَنَّى بِالْمَسِّ الَّذِي هُوَ الْجُنُونُ عَنْ أَكْلِ
706
الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ مِنْ قُبُورِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِ الرِّبَا إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ التَّصْرِيحُ بِهِ أَوْلَى مِنَ الْكِنَايَةِ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَسِّ، إِذِ التَّصْرِيحُ بِهِ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ: مَا، بَعْدَ: إِلَّا، لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا، إِلَّا إِنْ كَانَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلِذَلِكَ مَنَعُوا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «١» بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا «٢» وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا أَرْسَلْنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ الْمَخْصُوصِ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَكُونُ مُبْتَدَأً، وَالْمَجْرُورُ الْخَبَرُ، أَيْ: ذَلِكَ الْقِيَامُ كائن بسبب أَنَّهُمْ، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: قِيَامُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَصْلًا بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَمُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ: بِأَنَّهُمْ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ جَوَازُ ذَلِكَ لِحَذْفِ الْمَصْدَرِ، فَلَمْ يَظْهَرْ قُبْحٌ بِالْفَصْلِ بِالْخَبَرِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَلِكَ الْعِقَابُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ، وَالْعِقَابُ هُوَ ذَلِكَ الْقِيَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَكْلِهِمُ الرِّبَا، أَيْ ذَلِكَ الْأَكْلِ الَّذِي اسْتَحَلُّوهُ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْبَيْعَ مِثْلُ الرِّبَا، أَيْ: مُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الرِّبَا وَالْبَيْعِ، وَشَبَّهُوا الْبَيْعَ وَهُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى جَوَازِهِ بِالرِّبَا وَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يَعْكِسُوا تَنْزِيلًا لِهَذَا الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مِنَ الرِّبَا مَنْزِلَةَ الْأَصْلِ الْمُمَاثِلِ لَهُ الْبَيْعُ، وَهَذَا مِنْ عَكْسِ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
قَالَهُ ذو الرمّة:
ورمل كأروال الْعَذَارَى قَطَعْتُهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِ الْمُوَلِّدِيَنَ، كَمَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ هانىء:
كَأَنَّ ضِيَاءَ الشَّمْسِ غُرَّةُ جَعْفَرٍ رَأَى الْقِرْنَ فَازْدَادَتْ طَلَاقَتُهُ ضِعْفًا
وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا حَلَّ دَيْنُهُ عَلَى غَرِيمِهِ طَالَبَهُ، فَيَقُولُ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي الْمَالِ، فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ وَيَقُولَانِ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا الزِّيَادَةُ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ بِالرِّبْحِ، أَوْ عِنْدَ الْمَحَلِّ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: كَانَتْ ثَقِيفُ أَكْثَرَ الْعَرَبِ رِبًا، فَلَمَّا نُهُوا عَنْهُ قَالُوا: إِنَّمَا هُوَ مثل البيع.
(١) سورة النحل: ١٦/ ٤٤.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٤٣.
707
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا. ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ إِذْ سَاوَوْا بَيْنَهُمَا، وَالْحُكْمُ فِي الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا يُعَارَضُ فِي حُكْمِهِ وَلَا يُخَالَفُ فِي أَمْرِهِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَا يصح، إذ جعل الدَّلِيلَ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ هُوَ: أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْبَيْعَ عِوَضٌ وَمُعَوَّضٌ لَا غَبْنٌ فِيهِ، وَالرِّبَا فِيهِ التَّغَابُنُ وَأَكْلُ الْمَالِ البطل، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا مُقَابِلَ لَهَا مِنْ جِنْسِهَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الثَّمَنَ مُقَابَلٌ بِالْمُثَمَّنِ..
قَالَ جَعْفَرُ الصَّادِقُ: حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا لِيَتَقَارَضَ النَّاسُ
، وَقِيلَ: حَرَّمَ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِلْأَمْوَالِ، مُهْلِكٌ لِلنَّاسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا مِنْ كَلَامِهِمْ، فَكَانُوا قَدْ عَرَفُوا تَحْرِيمَ اللَّهِ الرِّبَا فَعَارَضُوهُ بِآرَائِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْهُمْ.
وَالظَّاهِرُ: عُمُومُ الْبَيْعِ وَالرِّبَا فِي كُلِّ بَيْعٍ، وَفِي كُلٍّ رِبًا، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِنْ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْبُيُوعِ وَإِحْلَالِ بَعْضِ الرِّبَا، وَقِيلَ: هُمَا مُجْمَلَانِ، فَلَا يُقْدَمُ عَلَى تَحْلِيلِ بَيْعٍ وَلَا تَحْرِيمِ رِبًا إِلَّا بِبَيَانٍ، وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْعَامِ وَالْمُجْمَلِ، وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، وَمُجْمَلٌ دَخَلَهُ التَّفْسِيرُ، وَتَقَاسِيمُ الْبَيْعِ وَالرِّبَا وَتَفَاصِيلُهُمَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ كَمَا قَالُوا فِي الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ: فَلَهُ مَا سَلَفَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ بِالرِّبَا لَيْسَ لَهُ مَا سَلَفَ، بَلْ يَنْقُضُ وَيَرُدُّ فِعْلُهُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، لَكِنَّهُ يَأْخُذُ بِطَرَفٍ مِنْ وَعِيدِ هَذِهِ الْآيَةِ.
فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ حَذْفُ تَاءِ التَّأْنِيثِ مِنْ: جَاءَتْهُ، لِلْفَصْلِ، وَلِأَنَّ تَأْنِيثَ الْمَوْعِظَةِ مَجَازِيٌّ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَالْحَسَنُ: فَمَنْ جَاءَتْهُ بِالتَّاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَتَلَتْ عَائِشَةُ هَذِهِ الآية سَأَلَتْهَا الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَبْقَعَ، زَوْجُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ شِرَائِهَا جَارِيَةً بِسِتِّمَائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَكَانَتْ قَدْ بَاعَتْهُ إِيَّاهَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَمَا شَرَيْتِ وَمَا اشْتَرَيْتِ، فَأَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَقَالَتِ الْعَالِيَةُ: أَرَأَيْتِ إِنْ لَمْ آخُذْ مِنْهُ إِلَّا رَأْسَ مَالِي؟ فَتَلَتِ الْآيَةَ عَائِشَةُ. وَالْمَوْعِظَةُ: التَّحْرِيمُ، أَوِ: الْوَعِيدُ، أَوِ: الْقُرْآنُ، أَقْوَالٌ. وَيَتَعَلَّقُ: من ربه، بجاءته، أَوْ: بِمَحْذُوفٍ، فَيَكُونُ صِفَةً لِمَوْعِظَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ فِيهِ تَعْظِيمُ الْمَوْعِظَةِ إِذْ جَاءَتْهُ مِنْ رَبِّهِ، النَّاظِرُ لَهُ فِي مَصَالِحِهِ، وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ تَأْنِيسٌ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ. إِذِ الرَّبُّ فِيهِ إِشْعَارٌ بِإِصْلَاحِ عَبْدِهِ، فَانْتَهَى تَبَعَ النَّهْيِ، وَرَجَعَ عَنِ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا، أَوْ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ مِنَ
708
الِاكْتِسَابِ فَلَهُ مَا سَلَفَ أَيْ مَا تَقَدَّمَ لَهُ أخذه من الربا لا تبعة عَلَيْهِ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ، وَمَنْ كَانَ يَتَّجِرُ هُنَالِكَ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْكُفَّارِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فَمَعْنَاهُ: فَلَهُ مَا سَلَفَ، قَبْلَ التَّحْرِيمِ.
وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: أَمْرُهُ، عَائِدٌ عَلَى الْمُنْتَهِي، إِذْ سِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّأْنِيسِ لَهُ وَبَسْطِ أَمَلِهِ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ: أَمْرُهُ إِلَى طَاعَةٍ وَخَيْرٍ، وَمَوْضِعِ رَجَاءٍ، وَالْأَمْرُ هُنَا لَيْسَ فِي الرِّبَا خَاصَّةً، بَلْ وَجُمْلَةُ أَمُورِهِ، وَقِيلَ: فِي الْجَزَاءِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَقِيلَ: فِي الْعَفْوِ وَالْعُقُوبَةِ، وَقِيلَ: أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يَحْكُمُ فِي شَأْنِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا إِلَى الَّذِينَ عَامَلَهُمْ، فَلَا يُطَالِبُونَهُ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ لِقَبُولِهِ الْمَوْعِظَةَ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى: مَا سَلَفَ، أَيْ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ، وَإِسْقَاطُ التَّبَعَةِ فِيهِ، وَقِيلَ:
يَعُودُ عَلَى ذِي الرِّبَا، أَيْ: فِي أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى الِانْتِهَاءِ، أَوْ يُعِيدَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ. قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَمُقَاتِلٌ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الرِّبَا أَيْ فِي إِمْرَارِ تَحْرِيمِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: فِي عَفْوِ اللَّهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُ، قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ.
وَمَنْ عادَ إِلَى فِعْلِ الرِّبَا، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْبَيْعَ مِثْلُ الرِّبَا، قَالَ سُفْيَانُ: وَمَنْ عَادَ إِلَى فِعْلِ الرِّبَا حَتَّى يَمُوتَ فَلَهُ الْخُلُودُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ خَبَرًا: لِمَنْ، وَحَمْلُ فِيهَا عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَالْخُلُودُ خُلُودُ تَأْبِيدٍ، أَوْ فِي مُسْلِمٍ عَاصٍ فَخُلُودُهُ دوام مكثه لا التأييد.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى تَخْلِيدِ الْفُسَّاقِ. انْتَهَى. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي: أَنَّ الفاسق يخلد في النار أَبَدًا وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا،
وَوَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وَصَحَّ أَنَّ أَكْلَ الرِّبَا مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ
وَرُوِيَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله، وَسَأَلَ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ رَجُلٌ رَأَى سَكْرَانَ يَتَقَافَزُ، يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَمَرَ، فَقَالَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إِنْ كَانَ يَدْخُلُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ شَرٌّ مِنَ الْخَمْرِ، أَتُطَلَّقُ امْرَأَتُهُ؟
فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ، بَعْدَ أَنْ رَدَّهُ مَرَّتَيْنِ: امْرَأَتُكَ طَالِقٌ، تَصَفَّحْتُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَشَرَّ مِنَ الرِّبَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ آذَنَ فِيهِ بِالْحَرْبِ.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أَيْ: يَذْهَبُ بِبَرَكَتِهِ وَيَذْهَبُ الْمَالُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ، رَوَاهُ أَبُو
709
صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَعَاقِبَتُهُ إِلَى قَلٍّ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مِحَاقَهُ إِبْطَالُ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِنْ صَدَقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ وَجِهَادٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ قِيلَ: الْإِرْبَاءُ حَقِيقَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَزِيدُهَا وَيُنَمِّيهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبَرَكَةِ، وَكَثْرَةِ الْأَرْبَاحِ فِي الْمَالِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ تَضَاعُفُ الْحَسَنَاتِ وَالْأُجُورِ الْحَاصِلَةِ بِالصَّدَقَةِ، كَمَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.
وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ،
وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُمَحِّقُ وَيُرَبِّي، مِنْ: مَحَقَ وَرَبَّى مُشَدَّدًا.
وَفِي ذِكْرِ الْمَحْقِ وَالْإِرْبَاءِ بَدِيعُ الطِّبَاقِ، وَفِي ذِكْرِ الرِّبَا وَيُرَبَّى بَدِيعُ التَّجْنِيسِ الْمُغَايِرِ.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فِيهِ تَغْلِيظُ أَمْرِ الرِّبَا وَإِيذَانٌ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَافِرِ وَالْآثِمِ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْكَافِرَ، تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ أَمْرِ الرِّبَا وَمُخَالَفَةِ اللَّهِ وَقَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا إِلَّا مُبَالِغٌ فِي الْكُفْرِ، مَبَالِغٌ فِي الْإِثْمِ.
وَذَكَرَ الْأَثِيمَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّوْكِيدِ مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: ذَكَرَ الْأَثِيمَ لِيَزُولَ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي: كَفَّارٍ، إِذْ يَقَعُ عَلَى الزَّارِعِ الَّذِي يَسْتُرُ الْأَرْضَ. انْتَهَى.
وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، إذ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ الْكَافِرَ، وَالْكَافِرُونَ، وَالْكَفَّارَ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ عَلَى الزَّارِعِ فَبِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ، كَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ «١».
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ مُحْسِنًا صَالِحًا، بَلْ يُرِيدُهُ مُسِيئًا فَاجِرًا، وَيَحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ تَوْفِيقَ الْكُفَّارِ الْأَثِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ تَأْوِيلَاتٌ مُسْتَكْرَهَةٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَفْرَطَ فِي تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ، وَحَمَّلَهُ مِنَ الْمَعْنَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَغَيْرُ صَحِيحِ الْمَعْنَى، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ التَّوْفِيقَ عَلَى الْعُمُومِ وَيُحَبِّبُهُ، وَالْمُحِبُّ فِي الشَّاهِدِ يَكُونُ مِنْهُ مَيْلٌ إِلَى الْمَحْبُوبِ، وَلُطْفٌ بِهِ، وَحِرْصٌ عَلَى حِفْظِهِ وَتَظْهَرُ دَلَائِلُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ وُجُودَ ظُهُورِ الْكَافِرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ مَزِيَّةُ الْحُبِّ بِأَفْعَالٍ تَظْهَرُ عَلَيْهِ، نَحْوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّاهِدِ، وَتِلْكَ الْمَزِيَّةُ مَوْجُودَةٌ لِلْمُؤْمِنِ. انتهى كلامه.
(١) سورة الحديد: ٥٧/ ٢٠.
710
وَالْحُبُّ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ الْمَيْلُ الطَّبِيعِيُّ، مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَابْنُ فُورَكٍ جَعَلَهُ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، فَيَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ، وَابْنُ عَطِيَّةَ جَعَلَهُ بِمَعْنَى اللُّطْفِ وَإِظْهَارِ الدَّلَائِلِ، فَيَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٧ الى ٢٨١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ آكِلِ الرِّبَا، وَحَالَ مَنْ عَادَ بَعْدَ مَجِيءِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَنَّهُ كَافِرٌ أَثِيمٌ، ذَكَرَ ضِدَّ هَؤُلَاءِ لِيُبَيِّنَ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ، وَقَالَ مَكِّيٌّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ أَكْلِ الرِّبَا وَآمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. انْتَهَى. وَنَصَّ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَا مُنْدَرَجَيْنِ فِي عُمُومِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، كَانَتْ لَهُمْ دُيُونُ رِبًا عَلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ مَنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَقِيلَ: فِي عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: فِي عُثْمَانَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسْلِفَانِ فِي الرِّبَا، وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَتَقَاضَوْا رِبَاهُمْ، فَنَزَلَتْ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: فَلَهُ مَا سَلَفَ «١» وَكَانَ الْمَعْنَى: فَلَهُ مَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، أَيْ: لا تبعة
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٧٥. [.....]
711
عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ: مَا سَلَفَ، أَيْ: مَا تَقَدَّمَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ وَبَيْنَ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ إِنْشَاءَ عَقْدٍ رِبَوِيٍّ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، أَزَالَ تَعَالَى هَذَا الْاحْتِمَالَ بِأَنْ أَمَرَ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ السَّابِقَةِ، قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَأَنَّ مَا بَقِيَ فِي الذِّمَّةِ مِنَ الرِّبَا هُوَ كَالْمُنْشَأِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ، وَنَادَاهُمْ بِاسْمِ الْإِيمَانِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْأَمْرِ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، وَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ، إِذْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ أَمَرَ ثَانِيًا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا.
وَفُتِحَتْ عَيْنُ: وَذَرُوا، حَمْلًا عَلَى: دَعَوْا، وَفُتِحَتْ عَيْنُ: دَعَوْا، حَمْلًا عَلَى: يَدَعُ، وَفُتِحَتْ فِي يَدَعُ، وَقِيَاسُهَا الْكَسْرُ، إِذْ لَامُهُ حَرْفُ حَلْقٍ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مَا بَقَا، بِقَلْبِ الْيَاءِ أَلِفًا، وَهِيَ لُغَةٌ لِطَيِّءٍ، وَلِبَعْضِ الْعَرَبِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ التَّمِيمِيُّ:
زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إنسان عينه يفيض بمغمور مِنَ الْمَاءِ مُتَّأَقِ
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ: مَا بَقِي، بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرُكَ مَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَى عَلَى الْأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الْأَبَاعِرَا
وَقَالَ جَرِيرٌ:
هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيَ لَكُمْ مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ شَرْطٌ مَجَازِيٌّ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُرِيدُ إِقَامَةَ نَفْسِهِ:
إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا! قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، أَوْ بِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ صَحَّ إِيمَانُكُمْ، يَعْنِي أَنَّ دَلِيلَ صِحَّةِ الإيمان وثباثه امْتِثَالُ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ، لِأَنَّهُ إِذَا تَوَقَّفَتْ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يُجَامِعُهَا الصِّحَّةُ مَعَ فِعْلِهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَهُوَ مُدَّعَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ بِمَعْنَى إِذْ أَيْ إِذْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، أَنَّ: إِنَّ، تَكُونُ بِمَعْنَى: إِذْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ وَلَا يَثْبُتُ فِي اللُّغَةِ، وَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ يُرَادُ بِهِ الِاسْتِدَامَةُ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ، وَكَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَكَامَلُ إِذَا أَصَرَّ الْإِنْسَانُ عَلَى كَبِيرَةٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤْمِنًا بِالْإِطْلَاقِ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، هَذَا وَإِنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ لَا يَدْخُلُ الْعَمَلُ فِي مُسَمَّاهَا، وَقِيلَ: الْإِيمَانُ مُتَغَايِرٌ بِحَسَبِ متعلقه، فمعنى الأول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَمَعْنَى الثَّانِي: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِقُلُوبِكُمْ.
712
وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: يا أيها الذي آمَنُوا بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ، إِذْ لَا يَنْفَعُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِهَذَا، قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ الْآيَةِ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبَّاسٍ، وَعُثْمَانَ، أَوْ فِي عَبَّاسٍ، وَخَالِدٍ، أَوْ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ ثَقِيفٍ وَلَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ قَبْلَ الْإِيمَانِ آمَنُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَقِيلَ: هُوَ شَرْطٌ مَحْضٌ فِي ثَقِيفٍ عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ صَحِيحٍ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلِ اسْتِدَامَةِ الْإِيمَانِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ أَبَا السَّمَاكِ، وَهُوَ الْعَدَوِيُّ، قَرَأَ هُنَا: مِنَ الرِّبُو، بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِرَاءَتَهُ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا «١» وَشَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا.
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: شُذَّ هَذَا الْحَرْفُ فِي أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْخُرُوجُ مِنَ الْكَسْرِ إِلَى الضَّمِّ بِنَاءً لَازِمًا، وَالْآخَرُ: وُقُوعُ الْوَاوِ بَعْدَ الضَّمَّةِ فِي آخِرِ الِاسْمِ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ إِلَّا في الفعل، نحو: يغزو، وَيَدْعُو.
وَأَمَّا ذُو، الطَّائِيَّةُ بِمَعْنَى: الَّذِي فَشَاذَّةٌ جَدًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَيِّرُ وَاوَهَا إِذَا فَارَقَ الرَّفْعَ، فَتَقُولُ: رَأَيْتُ ذَا قَامَ. وَجْهُ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ فَخَّمَ الْأَلِفَ انْتَحَى بِهَا الْوَاوُ الَّتِي الْأَلِفُ بَدَلٌ مِنْهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَهِيَ بِالْجُمْلَةِ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ.
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: بِنَاءً لَازِمًا، أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَارِضًا نَحْوَ: الْحِبْكُ، فَكَسْرَةُ الْحَاءِ لَيْسَتْ لَازِمَةً، وَمِنْ قولهم الردؤ، فِي الْوَقْفِ، فَضَمَّةُ الدَّالِ لَيْسَتْ لَازِمَةً، وَلِذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي أَبْنِيَةِ كَلَامِهِمْ فِعْلٌ لَا فِي اسْمٍ وَلَا فِعْلٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ إلا في الفعل، نحو: يَغْزُو، فَهَذَا كَمَا ذَكَرَ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ:
لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ، لَمْ يَكُنْ نَاقِضًا لِمَا ذَكَرُوا، وَنَقُولُ: إِنَّ الضَّمَّةَ الَّتِي فِيمَا قَبْلَ الْآخِرِ إِمَّا هِيَ لِلِاتِّبَاعِ، فَلَيْسَ ضَمَّةٌ تَكُونُ فِي أَصْلِ بِنْيَةِ الْكَلِمَةِ كَضَمَّةِ يَغْزُو.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ظَاهِرُهُ: فَإِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، وَسُمِّيَ التَّرْكُ فِعْلًا، وَإِذَا أُمِرُوا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا لزم مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِتَرْكِ إِنْشَاءِ الرِّبَا عَلَى طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى. وَقَالَ الرَّازِيُّ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُعْتَرِفِينَ بتحريمه فأذنوا بحرب
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٧٥.
713
من الله ورسوله، ومن ذَهَبَ إِلَى هَذَا قَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِشَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ خَرَجَ مِنَ الْمِلَّةِ كَمَا لَوْ كَفَرَ بِجَمِيعِهَا.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ الْبُرْجُمِيِّ، وَابْنِ غَالِبٍ عَنْهُ: فَآذَنُوا، أَمْرٌ مِنْ: آذَنَ الرُّبَاعِيِّ بِمَعْنَى: أَعْلَمُ، مِثْلَ قَوْلِهِ: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ «١».
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: فَأْذَنُوا، أَمْرٌ مِنْ: أَذِنَ، الثُّلَاثِيِّ، مِثْلَ قَوْلِهِ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «٢».
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فَأَيْقِنُوا بِحَرْبٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا هُوَ لِمَنْ صَدَرَتِ الْآيَةُ بِذِكْرِهِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا، فَعَلَى هَذَا الْمُحَارَبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْإِعْلَامُ أَوِ الْعِلْمُ بِالْحَرْبِ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّهْدِيدِ دُونَ حَقِيقَةِ الْحَرْبِ، كَمَا
جَاءَ: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدَ آذَنَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»
. وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ الْحَرْبِ.
وَنَقُولُ: الْإِصْرَارُ عَلَى الرِّبَا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، قَبَضَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَعَزَّرَهُ وَحَبَسَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ التَّوْبَةُ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، حَارَبَهُ كَمَا تُحَارَبُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى مَنْ يَكُونُ مُسْتَبِيحًا لِلرِّبَا، مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَإِنْ لَمْ تَنْتَهُوا حَارَبَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَأَنْتُمْ حَرْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَيْ: أَعْدَاءٌ.
وَالْحَرْبُ دَاعِيَةُ الْقَتْلِ، وَقَالُوا: حَرْبُ اللَّهِ النَّارُ، وَحَرْبُ رَسُولِهِ السَّيْفُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ: «يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ». وَالْبَاءُ فِي بِحَرْبٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْقَصْرِ لِلْإِلْصَاقِ، تَقُولُ: أَذِنَ بِكَذَا، أَيْ: عَلِمَ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى فَاسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ مِنَ الْأُذُنِ، وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ، لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ. انْتَهَى.
وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ تُقَوِّي قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِالْقَصْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ عِنْدِي مِنَ الْإِذْنِ، وَإِذَا أَذِنَ الْمَرْءُ فِي شَيْءٍ فَقَدْ قَرَّرَهُ وَبَنَى مَعَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قَرِّرُوا الْحَرْبَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الله ورسوله.
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠٩.
(٢) سورة النبأ: ٧٨/ ٣٨.
714
وَيَلْزَمُهُمْ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ مُسْتَدْعَو الْحَرْبَ وَالْبَاغُونَ، إِذْ هُمُ الْآذِنُونَ فِيهَا، وَبِهَا، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ حَرْبُ اللَّهِ، وَتَيَقُّنُهُمْ لِذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. فَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْبَاءَ فِي: بِحَرْبٍ ظَرْفِيَّةٌ. أَيْ: فَأْذَنُوا فِي حَرْبٍ، كَمَا تَقُولُ أُذِنَ فِي كَذَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سَوَّغَهُ وَمَكَّنَ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَمَنْ قَرَأَ فَآذَنُوا بِالْمَدِّ، فَتَقْدِيرُهُ: فَأَعْلِمُوا مَنْ لَمْ بنته عَنْ ذَلِكَ بِحَرْبٍ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْمَفْعُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ «١» وَإِذَا أُمِرُوا بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ عَلِمُوا هُمْ لَا مَحَالَةَ، قَالَ: فَفِي إِعْلَامِهِمْ عَلِمَهُمْ، وَلَيْسَ فِي عِلْمِهِمْ إِعْلَامُهُمْ غَيْرَهُمْ.
فَقِرَاءَةُ الْمَدِّ أَرْجَحُ، لِأَنَّهَا أَبْلُغُ وَآكُدُ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: قِرَاءَةُ الْقَصْرِ أَرْجَحُ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِهِمْ، وَإِنَّمَا أُمِرُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْمَدِّ بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْقِرَاءَتَانِ عِنْدِي سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ مَحْصُورٌ، لِأَنَّهُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَذَرْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، فَإِنْ قِيلَ: فَأْذَنُوا، فَقَدْ عَمَّهُمُ الْأَمْرُ. وَإِنْ قِيلَ: فَآذِنُوا، بِالْمَدِّ فَالْمَعْنَى: أَنْفُسَكُمْ، أَوْ: بَعْضَكُمْ بَعْضًا. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تَقْتَضِي فَسَحًا لَهُمْ فِي الِارْتِيَاءِ وَالتَّثَبُّتِ، فَأَعْلِمُوا نُفُوسَكُمْ هَذَا، ثُمَّ انْظُرُوا فِي الْأَرْجَحِ لَكُمْ: تَرْكِ الرِّبَا أَوِ الْحَرْبِ. انْتَهَى.
وَرُوِيَ: أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَتْ ثَقِيفٌ: لَا يَدَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَمِنْ، فِي قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَفِيهِ تَهْوِيلٌ عَظِيمٌ، إِذِ الْحَرْبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُطِيقُهُ أَحَدٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ حُرُوبِ اللَّهِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا قِيلَ بِحَرْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ قُلْتُ: كَانَ هَذَا أَبْلَغَ لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَأْذَنُوا بِنَوْعٍ مِنَ الْحَرْبِ عَظِيمٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَانَ أَبْلَغَ لِأَنَّ فِيهَا نَصًّا بِأَنَّ الْحَرْبَ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَارِبُهُمْ، وَلَوْ قِيلَ: بِحَرْبِ اللَّهِ، لَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ مُضَافَةً لِلْفَاعِلِ، فَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُحَارِبَ لَهُمْ، وَأَنْ تَكُونَ مُضَافَةً لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونُوا هُمُ الْمُحَارِبِينَ اللَّهَ. فَكَوْنُ اللَّهِ مُحَارِبَهُمْ أَبْلَغُ وَأَزْجَرُ فِي الْمَوْعِظَةِ مِنْ كونهم محاربين الله.
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠٩.
715
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أَيْ: إِنْ تُبْتُمْ من الربا ورؤوس الْأَمْوَالِ: أُصُولُهَا، وَأَمَّا الْأَرْبَاحُ فَزَوَائِدُ وَطَوَارِئُ عَلَيْهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ يَتُوبُوا كَفَرُوا بِرَدِّ حُكْمِ اللَّهِ وَاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فيصير مالهم فيأ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى رؤوس الْأَمْوَالِ مَعَ مَا قَبْلَهُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّهُ: إِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَلَيْسَ لَهُمْ رؤوس أَمْوَالِهِمْ، وَتَسْمِيَةُ أَصْلِ الْمَالِ رَأْسًا مَجَازٌ.
لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالثَّانِي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: لَا تَظْلِمُونَ الْغَرِيمَ بِطَلَبِ زِيَادَةٍ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا تُظْلَمُونَ أَنْتُمْ بِنُقْصَانِ رَأْسِ الْمَالِ، وَقِيلَ: بِالْمَطْلِ. وَقَرَأَ أَبَانُ، وَالْمُفَضَّلُ، عَنْ عَاصِمٍ الأول مبنيا للمفعول، والثاني مبينا لِلْفَاعِلِ وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّهَا تُنَاسِبُ قَوْلَهُ: وَإِنْ تُبْتُمْ، فِي إِسْنَادِ الْفِعْلَيْنِ إِلَى الْفَاعِلِ، فَتَظْلِمُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ أُشَكِلَ بِمَا قَبْلَهُ.
وَالْجُمْلَةُ يَظْهَرُ أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ وَإِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا اقْتَصَرُوا على رؤوس الْأَمْوَالِ كَانَ ذَلِكَ نَصَفَةً، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي: لَكُمْ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا فِي حَرْفِ الْجَرِّ مِنْ شَوْبِ الْفِعْلِ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ.
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ شَكَا بَنُو الْمُغِيرَةِ الْعُسْرَةَ وَقَالُوا: أَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرَكَ الْغَلَّاتُ، فَأَبَوْا أَنْ يُؤَخَّرُوا، فَنَزَلَتْ. قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ بَيْعِ مَنْ أَعْسَرَ بِدَيْنٍ، وَقِيلَ: أُمِرَ بِهِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ نَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَالْعُسْرَةُ ضِيقُ الْحَالِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمَالِ، وَمِنْهُ: جَيْشُ الْعُسْرَةِ، وَالنَّظِرَةُ:
التَّأْخِيرُ، وَالْمَيْسَرَةُ: الْيُسْرُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ذُو عُسْرَةٍ، عَلَى أَنَّ: كَانَ، تَامَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ، وَأَبِي عَلِيٍّ، وَإِنْ وَقَعَ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِكُمْ ذُو عُسْرَةٍ، وَأَجَازَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ أَنْ تَكُونَ: كَانَ، نَاقِصَةً هُنَا.
وَقُدِّرَ الْخَبَرُ: وَإِنْ كَانَ مِنْ غُرَمَائِكُمْ ذُو عُسْرَةٍ فَحُذِفَ الْمَجْرُورُ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ، وَقُدِّرَ أَيْضًا:
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ لَكُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَحَذْفُ خَبَرِ كَانَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا لِعِلَّةٍ ذَكَرُوهَا فِي النَّحْوِ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: ذَا عُسْرَةٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: مُعْسِرًا.
وَحَكَى الدَّانِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ أَبِي عَلِيٍّ إِنَّ فِي كَانَ اسْمُهَا
716
ضَمِيرًا تَقْدِيرُهُ: هُوَ، أَيْ: الْغَرِيمُ، يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ، لِأَنَّ الْمُرَابِيَ لَا بُدَّ له ممن يرابيه.
وقرىء: وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ. وَحَكَى الَمَهْدَوِيُّ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ: فَإِنْ كَانَ، بِالْفَاءِ، فَمَنْ نَصَبَ ذَا عُسْرَةٍ أَوْ قَرَأَ معسرا، وذلك بعد: إن كَانَ، فَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الرِّبَا. وَمَنْ رَفَعَ فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا سِيقَتْ فِي أَهْلِ الرِّبَا، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ.
وَقِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْإِيسَارُ، وَأَنَّ الْعَدَمَ طَارِئٌ جَاذِبٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُثْبَتَ.
فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَنَظِرَةٌ، عَلَى وَزْنٍ نَبِقَةٍ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: بِسُكُونِ الظَّاءِ وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ، يَقُولُونَ فِي: كَبَدَ كَبِدَ. وَقَرَأَ عَطَاءُ: فَنَاظِرَةٌ، عَلَى وَزْنِ: فَاعِلَةٌ وَخَرَّجَهُ الزَّجَّاجُ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ «١» وَكَقَوْلِهِ: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ «٢» وَكَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ «٣» وَقَالَ: قَرَأَ عَطَاءُ: فَنَاظِرَةٌ، بِمَعْنَى: فَصَاحِبُ الْحَقِّ نَاظِرَهُ، أَيْ: مُنْتَظِرُهُ، أَوْ:
صَاحِبُ نَظِرَتِهِ، عَلَى طَرِيقَةِ النَّسَبِ، كَقَوْلِهِمْ: مَكَانٌ عَاشِبٌ، وَبَاقِلٌ، بِمَعْنَى: ذُو عُشْبٍ وَذُو بَقْلٍ. وَعَنْهُ: فَنَاظِرَهُ، عَلَى الْأَمْرِ بِمَعْنَى: فَسَامَحَهُ بِالنَّظِرَةِ، وَبَاشَرَهُ بِهَا. انْتَهَى. وَنَقَلَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: جَعَلَاهُ أَمْرًا، وَالْهَاءُ ضَمِيرُ الْغَرِيمِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: فَنَاظِرُوهُ، أَيْ:
فَأَنْتُمْ نَاظِرُوهُ. أَيْ: فَأَنْتُمْ مُنْتَظِرُوهُ.
فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ، وَمَنْ جَعَلَهُ اسْمَ مَصْدَرٍ أَوْ مَصْدَرًا فَهُوَ يَرْتَفِعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف تقديره: فَالْأَمْرُ وَالْوَاجِبُ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ نَظِرَةٌ مِنْهُ لِطَلَبِ الدَّيْنِ مِنَ الْمَدِينِ إِلَى مَيْسَرَةٍ مِنْهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ: مَيْسُرَةٍ، بِضَمِّ السِّينِ، وَالضَّمُّ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ قَلِيلٌ كَمَقْبُرَةٍ، وَمَشْرُفَةٍ، وَمَسْرُبَةٍ. وَالْكَثِيرُ مَفْعَلَةٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى اللُّغَةِ الْكَثِيرَةِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: إِلَى مَيْسُورِهِ، عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْغَرِيمِ، وَهُوَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ مَصْدَرٌ كَالْمَعْقُولِ وَالْمَجْلُودِ فِي قَوْلِهِمْ: ما له معقول
(١) سورة الواقعة: ٥٦/ ٢.
(٢) سورة القيامة: ٧٥/ ٢٥.
(٣) سورة غافر: ٤٠/ ١٩.
717
وَلَا مَجْلُودٌ، أَيْ: عَقْلٌ وَجَلْدٌ، وَلَمْ يُثْبِتْ سِيبَوَيْهِ مَفْعُولًا مُصَدَّرًا، وَقَرَأَ عَطَاءُ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى مَيْسُرِهِ، بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا ضمير الغريم. وقرىء كَذَلِكَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَخَرَجَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ التَّاءِ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ. كَقَوْلِهِ:
وَأَخْلَفُوكَ عِدَّ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا أَيْ: عِدَّةَ، وَهَذَا أَعْنِي حذف التاء لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ، هُوَ مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَدَّاهُمْ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: أَنْ مُفْعَلًا لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ، فَأَمَّا فِي الْجَمْعِ فَقَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنَى مَأْلُكًا أَنَّهُ قَدْ طال حبسي وانتظار
وَفِي قَوْلِ جَمِيلٍ:
بُثَيْنَ الْزَمِي لَا إِنَّ لَا إِنْ لَزِمْتِهِ عَلَى كَثْرَةِ الْوَاشِينَ أَيُّ مَعُونِ
فَمَأْلُكٌ وَمَعُونٌ جَمْعُ مَأْلُكَةٍ وَمَعُونَةٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فِعَالِ مَكْرُمِ هَذَا تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيٍّ، وَتَأَوَّلَ أَبُو الْفَتْحِ عَلَى أَنَّهَا مُفْرَدَةٌ حُذِفَ مِنْهَا التَّاءُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ:
لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَفْعِلٌ، يَعْنِي فِي الْآحَادِ، كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، وَحُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ: مَهْلَكٌ، مُثَلَّثُ اللَّامِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ أَنْ يَكُونَ: مَفْعِلٌ، وَاحِدًا وَلَا يُخَالِفُ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ، إِذْ يُقَالُ:
لَيْسَ فِي الْكَلَامِ كَذَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْهُ حَرْفٌ أَوْ حَرْفَانِ، كَأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالْقَلِيلِ، وَلَا يُجْعَلُ لَهُ حُكْمٌ.
وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْخِلَافِ: أَهَذَا الْإِنْظَارُ يَخْتَصُّ بِدَيْنِ الرِّبَا؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٍ، أَمْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُعْسِرٍ بِدَيْنِ رَبًا أَوْ غَيْرِهِ؟ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ،
مِنْهَا: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، وَوَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظَلَّهُ».
وَمِنْهَا: «يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا عَمِلْتُ لَكَ خَيْرًا قَطُّ أُرِيدُكَ بِهِ إِلَّا أَنَّكَ رَزَقْتَنِي مَالًا فَكُنْتُ أُوسِعُ عَلَى الْمُقْتِرِ، وَأَنْظُرُ الْمُعْسِرَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكَ. فَتَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي»
. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: تَصَدَّقُوا عَلَى الْغَرِيمِ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ بِبَعْضِهِ خَيْرٌ مِنَ
718
الْإِنْظَارِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيٌّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا فَالْإِنْظَارُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِنْظَارَ لِلْمُعْسِرِ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ الدَيْنِ، فَالْحَمْلُ عَلَى فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْلَى. وَلِأَنَّ: أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ وَصْفِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ:
حُصُولُ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَدَبُوا إِلَى أَنْ يتصدقوا برؤوس أَمْوَالِهِمْ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَنْ تَصَدَّقُوا، بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الصَّادِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: تَصَدَّقُوا، بِحَذْفِ التَّاءِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: تَتَصَدَّقُوا، بِتَاءَيْنِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِدْغَامُ تَخْفِيفٌ. وَالْحَذْفُ أَكْثَرُ تَخْفِيفًا.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: يُرِيدُ الْعَمَلَ، فَجَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمَ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُونَ فَضْلَ التَّصَدُّقِ عَلَى الْإِنْظَارِ وَالْقَبْضِ، وَقِيلَ: تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ أَصْلُحُ لَكُمْ.
قِيلَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، قَالَهُ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، لأن الْجُمْهُورُ قَالُوا: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فَقِيلَ: قَبْلَ مَوْتِهِ بِتِسْعِ لَيَالٍ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ. وَرُوِيَ: بِثَلَاثِ سَاعَاتٍ،
وَقِيلَ: عاش بعدها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا
. وَقِيلَ: أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
وَرَوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «اجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ».
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: اجْعَلْهَا عَلَى رَأْسِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى: وَاتَّقُوا يَوْمًا، فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي «١».
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ، وَأَبُو عَمْرٍو: تُرْجَعُونَ، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَخَبَرُ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ: يُرْجَعُونَ، عَلَى مَعْنَى يَرْجِعُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى رَفَقَ بِالْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يُوَاجِهَهُمْ بِذِكْرِ الرَّجْعَةِ إِذْ هِيَ مِمَّا تَتَفَطَّرُ لَهُ الْقُلُوبُ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاتَّقُوا، ثُمَّ رَجَعَ فِي ذِكْرِ الرَّجْعَةِ إِلَى الْغَيْبَةِ رِفْقًا بِهِمْ. انْتَهَى.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تُرَدُّونَ، بِضَمِّ التَّاءِ، حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:
يَرُدُّونَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: تصيرون. انتهى.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٤٨.
719
قَالَ الْجُمْهُورُ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْيَوْمِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ يَوْمُ الْمَوْتِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَالْمَعْنَى إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَفَصْلِ قَضَائِهِ.
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أَيْ تُعْطَى وَافِيًا جَزَاءً مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَفِيهِ نَصٌّ عَلَى تَعَلُّقِ الْجَزَاءِ بِالْكَسْبِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ.
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ: لَا يُنْقَصُونَ مِمَّا يَكُونُ جَزَاءَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَا يُزَادُونَ عَلَى جَزَاءِ الْعَمَلِ السَّيْءِ مِنَ الْعِقَابِ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ أَوَلًا فِي: كَسَبَتْ، عَلَى لَفْظِ: النَّفْسِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، عَلَى الْمَعْنَى لِأَجْلِ فَاصِلَةِ الْآيِ، إِذْ لَوْ أَتَى وَهِيَ لَا تُظْلَمُ لَمْ تَكُنْ فَاصِلَةٌ، وَمَنْ قَرَأَ: يُرْجَعُونَ، بِالْيَاءِ فَتَجِيءُ: وَهُمْ، عَلَيْهِ غَائِبًا مَجْمُوعًا لِغَائِبٍ مجموع.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٢ الى ٢٨٦]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
720
تَدَايَنَ: تَفَاعَلَ مِنَ الدَّيْنِ، يُقَالُ: دَايَنْتُ الرَّجُلَ عَامَلْتُهُ بِدَيْنٍ مُعْطِيًا أَوْ آخِذًا، كَمَا تَقُولُ: بَايَعْتُهُ إِذَا بِعْتَهُ أَوْ بَاعَكَ. قَالَ رُؤْبَةُ:
دَايَنْتُ أَرَوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضًا
وَيُقَالُ: دِنْتُ الرَّجُلَ إِذَا بِعْتَهُ بَدَيْنٍ، وَادَّنْتُ أَنَا أَيْ: أَخَذْتُ بِدَيْنٍ.
أَمْلَ وَأَمْلَى لُغَتَانِ: الْأُولَى لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَبَنِي أَسَدٍ، وَالثَّانِيَةُ لِتَمِيمٍ، يُقَالُ: أَمْلَيْتُ وَأَمْلَلْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَيْ: أَلْقَيْتُ عَلَيْهِ مَا يَكْتُبُهُ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِعَادَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ
وَقِيلَ: الْأَصْلُ أَمْلَلْتُ، أَبْدَلَ مِنَ اللَّامِ يَاءً لِأَنَّهَا أَخَفُّ.
الْبَخْسُ: النَّقْصُ، يُقَالُ مِنْهُ: بَخَسَ يَبْخَسُ، وَيُقَالُ بِالصَّادِّ، وَالْبَخْسُ: إِصَابَةُ الْعَيْنِ، وَمِنْهُ: اسْتُعِيرَ بَخْسُ حَقِّهِ، كَقَوْلِهِمْ: عَوَّرَ حَقَّهُ، وَتَبَاخَسُوا فِي الْبَيْعِ تَغَابَنُوا، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَبْخَسُ صَاحِبَهُ عَنْ مَا يُرِيدُهُ مِنْهُ بِاحْتِيَالِهِ.
السَّأَمُ وَالسَّآمَةُ: الْمَلَلُ مِنَ الشَّيْءِ وَالضَّجَرُ مِنْهُ، يُقَالُ مِنْهُ: سَئِمَ يَسْأَمُ.
721
الصَّغِيرُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَغُرَ يَصْغُرُ، وَمَعْنَاهُ قِلَّةُ. الْجُرْمِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي أَيْضًا.
الْقِسْطُ: بِكَسْرِ الْقَافِ: الْعَدْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ أَيْ عَدَلَ، وَبِفَتْحِ الْقَافِ:
الْجَوْرُ، وَيُقَالُ مِنْهُ: قَسَطَ الرَّجُلُ أَيْ جَارَ، وَالْقِسْطُ بِالْكَسْرِ أَيْضًا: النَّصِيبُ.
الرَّهْنُ: مَا دُفِعَ إِلَى الدَّائِنِ عَلَى اسْتِيثَاقِ دَيْنِهِ، وَيُقَالُ: رَهَنَ يَرْهَنُ رَهْنًا، ثُمَّ أُطْلِقَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْمَرْهُونِ، وَيُقَالُ: رَهَنَ الشَّيْءَ دَامَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
اللَّحْمُ وَالْخُبْزُ لَهُمْ رَاهِنٌ وَقَهْوَةٌ رَاوُوقُهَا سَاكِبُ
وَأَرْهَنُ لَهُمُ الشَّرَابَ: دَامَ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَرَهَنَهُ، أَيْ: أَدَامَهُ، وَيُقَالُ: أَرْهَنَ فِي السِّلْعَةِ إِذَا غَالَى بِهَا حَتَّى أَخَذَهَا بِكَثِيرِ الثَّمَنِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
يَطْوِي ابْنُ سَلْمَى بِهَا مِنْ رَاكِبٍ بَعْرًا عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ
الْعِيدُ: بَطْنٌ مِنْ مَهْرٍ، وَإِبِلٌ مَهَرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالنَّجَابَةِ، وَيُقَالُ، مِنَ الرَّهْنِ الَّذِي هُوَ مِنَ التَّوْثِقَةِ:
أَرْهَنَ إِرْهَانًا. قَالَ هَمَّامُ بْنُ مُرَّةَ:
فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكَا
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ، وَالزَّجَّاجُ: يُقَالُ فِي الرَّهْنِ رَهَنْتُ وَأَرْهَنْتُ. وقال الأعشى:
حتى يقيدك مِنْ بَنِيهِ رَهِينَةً نَعْشٌ وَيَرْهَنُكَ السِّمَاكُ الْفَرْقَدَا
وَتَقُولُ: رَهَنْتُ لِسَانِي بِكَذَا، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: أَرْهَنْتُ، وَلَمَّا أُطْلِقَ الرَّهْنُ عَلَى الْمَرْهُونِ صَارَ اسْمًا، فَكُسِرَ تَكْسِيرَ الْأَسْمَاءِ وَانْتَصَبَ بِفِعْلِهِ نَصْبَ الْمَفَاعِيلِ، فَرَهَنْتُ رَهْنًا كَرَهَنْتُ ثَوْبًا.
الْإِصْرُ: الْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ، وَالْآصِرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْأَمْرُ الرَّابِطُ مِنْ ذِمَامٍ، أَوْ قَرَابَةٍ، أَوْ عَهْدٍ، وَنَحْوُهُ. وَالْإِصَارُ: الْحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الْأَحْمَالُ وَنَحْوُهَا، يُقَالُ: أَصَرَ يَأْصِرُ أَصْرًا، وَالْإِصْرُ، بِكَسْرٍ الْهَمْزَةِ الِاسْمُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَوِيَ الْأُصْرُ بضمها وقد قرىء بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمْ وَالْحَامِلَ الْإِصْرَ عَنْهُمْ بعد ما عَرِقُوا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ خَاصَّةً، يَعْنَى: أَنَّ سَلَمَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ السَّبَبَ، ثُمَّ هِيَ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدُّيُونِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبِتَرْكِ الرِّبَا، وَكِلَاهُمَا
722
يَحْصُلُ بِهِ تَنْقِيصُ الْمَالِ، نَبَّهَ عَلَى طَرِيقٍ حَلَالٍ فِي تَنْمِيَةِ الْمَالِ وَزِيَادَتِهِ، وَأَكَّدَ فِي كَيْفِيَّةِ حِفْظِهِ، وَبَسَطَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمَرَ فِيهَا بِعِدَّةِ أَوَامِرَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَذَكَرَ قَوْلَهُ: بِدَيْنٍ، لِيَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا مِنْ:
تَدَايَنْتُمْ، أَوْ لِإِزَالَةِ اشْتِرَاكِ: تَدَايَنَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ تُدَايِنُوا، أَيْ جَازَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا قَالَ:
بِدَيْنٍ، دَلَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى. أَوْ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ دَيْنٍ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ سَلَمٍ أَوْ بَيْعٍ.
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَيْسَ هَذَا الْوَصْفُ احْتِرَازًا مِنْ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَكُونُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، بَلْ لَا يَقَعُ الدَّيْنُ إِلَّا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَأَمَّا الآجال المجهولة فلا تجوز، وَالْمُرَادُ بِالْمُسَمَّى الْمُوَقَّتُ الْمَعْلُومُ، نحو التوقيت بالنسبة وَالْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَى الْحَصَادِ، أَوْ إِلَى الدِّيَاسِ، أَوْ رُجُوعِ الْحَاجِّ، لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ، و: إلى أَجَلٍ، مُتَعَلِّقٌ: بِتَدَايَنْتُمْ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: بِدَيْنٍ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
فَاكْتُبُوهُ أَمَرَ تَعَالَى بِكِتَابَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْثَقُ وَآمَنُ مِنَ النِّسْيَانِ، وَأَبْعَدُ مِنَ الْجُحُودِ.
وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ، وَأَهَّلُ الظَّاهِرِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ يُحْفَظُ بِهِ الْمَالُ، وَتُزَالُ بِهِ الرِّيبَةَ، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ وَحِفْظِهِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ خَلِيفَةُ اللِّسَانِ، وَاللِّسَانَ خَلِيفَةُ الْقَلْبِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وَقَالَ الرَّبِيعُ وَجَبَ بِقَوْلِهِ:
فَاكْتُبُوهُ، ثُمَّ خُفِّفَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ.
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَهَذَا الْأَمْرُ قِيلَ: عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ، قَالَ عَطَاءٌ، وَغَيْرُهُ: يَجِبُ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، أَيْضًا: إِذَا لَمْ يُوجَدْ كَاتِبٌ سِوَاهُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ وَاجِبٌ مَعَ الْفَرَاغِ. وَاخْتَارَ الرَّاغِبُ أَنَّ الصَّحِيحَ كَوْنُ الْكِتَابَةِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَالَ: الْكِتَابَةُ فِيمَا بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، فقد تجب على الكتابة إِذَا أَتَوْهُ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ النَّافِلَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى فَاعِلِهَا، فَقَدْ يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ تَبْيِينُهَا إِذَا أَتَاهُ مُسْتَفْتٍ.
وَمَعْنَى: بَيْنَكُمْ، أَيْ: بَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَالْمُسْتَدِينِ، وَالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَالْمُقْرِضِ
723
وَالْمُسْتَقْرِضِ، وَالتَّثْنِيَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْمُتَعَامِلِينَ لأن يُتَّهَمُ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِذَا كَانَتْ وَاقِعَةً بَيْنَهُمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَّلِعًا عَلَى مَا سَطَرَهُ الْكَاتِبُ.
وَمَعْنَى: بِالْعَدْلِ، أَيْ: بِالْحَقِّ وَالْإِنْصَافِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وَلَا فِي قَلَمِهِ مَيْلٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ: بِالْعَدْلِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بالعدل، متعلق بكاتب صِفَةٌ لَهُ، أَيْ: بِكَاتِبٍ مَأْمُونٍ عَلَى مَا يَكْتُبُ، يَكْتُبُ بِالسَّوِيَّةِ وَالِاحْتِيَاطِ، لَا يَزِيدُ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكْتُبَ، وَلَا يَنْقُصُ. وَفِيهِ أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا عَالِمًا بِالشُّرُوطِ، حَتَّى يَجِيءَ مَكْتُوبُهُ مُعَدَّلًا بِالشَّرْعِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ بِتَخَيُّرِ الْكَاتِبِ، وَأَنْ لَا يَسْتَكْتِبُوا إِلَّا فَقِيهًا دَيِّنًا.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَكْتُبْ، وَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِكَاتِبٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكْتُبَ وَثِيقَةً إِلَّا الْعَدْلُ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكْتُبُهَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُتَحَوِّطُ إِذَا أَقَامُوا فِقْهَهَا، أَمَّا أَنَّ الْمُنْتَخَبِينَ لِكَتْبِهَا لَا يَجُوزُ لِلْوُلَاةِ أَنْ يَتْرُكُوهُمْ إِلَّا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ فَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبُ الْعَدْلِ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي مَعْنَى بِالْعَدْلِ: أَنْ يَكُونَ مَا يَكْتُبُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا يُرْفَعُ إِلَى قَاضٍ فَيَجِدُ سَبِيلًا إِلَى إِبْطَالِهِ بِأَلْفَاظٍ لَا يَتَّسِعُ فِيهَا التَّأْوِيلُ، فَيَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إِلَى التَّوَقُّفِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَلْيَكْتُبْ، بِكَسْرِ لَامِ الْأَمْرِ، وَالْكَسْرُ الْأَصْلُ.
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ نَهَى الْكَاتِبُ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ.
وَ: كَاتِبٌ، نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ، فتعم. وأن يَكْتُبَ مَفْعُولُ: وَلَا يَأْبَ، وَمَعْنَى: كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، أَيْ: مِثْلَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ كِتَابَةِ الْوَثَائِقِ، لَا يُبَدِّلُ وَلَا يُغَيِّرُ، وَفِي ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى بَذْلِ جُهْدِهِ فِي مُرَاعَاةِ شُرُوطِهِ مِمَّا قَدْ لَا يَعْرِفُهُ الْمُسْتَكْتِبُ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمِنَّةِ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَيَكُونُ: عَلَّمَ، بِمَعْنَى: أَعْلَمَ، وَقِيلَ:
الْمَعْنَى كَمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ، فَتَكُونُ الْكَافُ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ: لِأَجْلِ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «١» أَيْ: لِأَجْلِ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ. وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ الْكَافِ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، وتتعلق الكاف بقوله:
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٧٧.
724
فَلْيَكْتُبْ، وَهُوَ قَلَقٌ لِأَجْلِ الْفَاءِ، وَلِأَجْلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، لَكَانَ النَّظْمُ:
فَلْيَكْتُبْ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيمِ مَا هُوَ مُتَأَخِّرٌ فِي الْمَعْنَى.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ: كَمَا، مُتَعَلِّقًا بِمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ، أَيْ: كَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعِلْمِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَأْبَ هُوَ، وَلِيُفَضِلْ كَمَا أُفَضِلَ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَتَكُونُ الْكَافُ فِي هَذَا الْقَوْلِ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ، كَانَ قَوْلُهُ: وَلَا يَأْبَ، نَهْيًا عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ الْمُقَيَّدَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الْكِتَابَةِ، لَا يُعْدَلُ عَنْهَا، أَمْرَ تَوْكِيدٍ. وَإِذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ الْمُقَيَّدَةِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ: وَلَا يَأْبَ، منسوخ بقوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ.
فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَيْ: فَلْيَكْتُبِ الْكَاتِبُ، وَلْيُمْلِلْ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ، وَالْمُسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ.
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، فِيمَا يُمْلِيهِ وَيُقَرِّبُهُ، وَجُمِعَ بَيْنَ اسْمِ الذَّاتِ وَهُوَ: اللَّهُ، وَبَيْنَ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ: الرَّبُّ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الذَّاتِ مَنْطُوقًا عَلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ. لِيَذْكُرَهُ تَعَالَى كَوْنَهُ مُرَبِّيًا لَهُ، مُصْلِحًا لِأَمْرِهِ، بَاسِطًا عَلَيْهِ نِعَمَهُ. وَقُدِّمَ لَفْظُ: اللَّهَ، لِأَنَّ مُرَاقَبَتَهُ مِنْ جِهَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ أَسْبَقُ مِنْ جِهَةِ النِّعَمِ.
وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً أَيْ: لَا يَنْقُصْ بِالْمُخَادَعَةِ أَوِ الْمُدَافَعَةِ، وَالْمَأْمُورُ بِالْإِمْلَالِ هُوَ الْمَالِكُ لِنَفْسِهِ. وَفَكُّ الْمُضَاعَّفَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيُمْلِلِ، لُغَةُ الْحِجَازِ، وذلك في ماسكن آخِرُهُ بِجَزْمٍ، نَحْوُ هَذَا، أَوْ وَقْفٍ نَحْوُ: أَمْلِلْ، وَلَا يُفَكُّ فِي رَفْعٍ ولا نصب. وقرىء: شيئا بِالتَّشْدِيدِ.
فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً قَالَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الْجَاهِلُ بِالْأُمُورِ وَالْإِمْلَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: الصَّغِيرُ. وَضُعِّفَ هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَصْدُقُ السَّفِيهُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: أَنَّهُ الْمُبَذِّرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
الْمُبَذِّرُ لِمَالِهِ الْمُفْسِدِ لِدِينِهِ. وَرَوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهُ الْأَحْمَقُ، وَقِيلَ: الَّذِي يَجْهَلُ قَدْرَ الْمَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ تَبْذِيرِهِ وَلَا يَرْغَبُ فِي تَثْمِيرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَاهِلُ بِالْإِسْلَامِ.
أَوْ ضَعِيفاً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَابْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ الْعَاجِزُ، وَالْأَخْرَسُ، وَمَنْ بِهِ حُمْقٌ- وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: الْأَحْمَقُ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ الصَّغِيرُ. وَقِيلَ:
725
الْمَدْخُولُ الْعَقْلِ، النَّاقِصُ الْفِطْرَةِ. وَقَالَ الشَّيْخُ: الْكَبِيرُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْعَاجِزُ عَنِ الْإِمْلَاءِ لِعَيٍّ أَوْ لِخَرَسٍ.
أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَيٍّ أَوْ خَرَسٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَقِيلَ: بِجُنُونٍ، وَقِيلَ: بِجَهْلٍ بِمَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لِصِغَرٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ تَبَايُنُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَمَنْ زَعَمَ زِيَادَةَ: أَوْ، فِي قَوْلِهِ: أَوْ ضَعِيفًا، أَوْ زِيَادَتَهَا فِي هَذَا، وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ، فَقَوْلُهُ سَاقِطٌ، إِذْ: أَوْ، لَا تُزَادُ، وَأَنَّ السَّفَهَ هُوَ تَبْذِيرُ الْمَالِ وَالْجَهْلُ بِالتَّصَرُّفِ، وَأَنَّ الضَّعْفَ هُوَ فِي الْبَدَنِ لِصِغَرٍ أَوْ إِفْرَاطِ شَيْخٍ يَنْقُصُ مَعَهُ التَّصَرُّفُ، وَأَنَّ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِ الْإِمْلَاءَ لِعَيٍّ. أَوْ خَرَسٍ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هِيَ القدرة على الإملاء. وَهَذَا الشَّرْحُ أَكْثَرُهُ عَنِ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ تَعَالَى ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ تَقَعُ نَوَازِلُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَيَتَرَتَّبُ الْحَقُّ لَهُمْ فِي كُلِّ جِهَاتٍ سِوَى الْمُعَامَلَاتِ: كَالْمَوَارِيثِ إِذَا قُسِّمَتْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالسَّفِيهُ الْمُهَلْهَلِ الرَّأْيِ فِي الْمَالِ الَّذِي لا يحسن الأخذ ولا الإعطاء، وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَخْلُو مِنْ حَجْرِ وَلِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ، وَذَلِكَ وَلَيُّهُ. وَالضَّعِيفُ الْمَدْخُولُ الْعَقْلِ النَّاقِصُ الْفِطْرَةِ، وَوَلِيُّهُ وَصِيٌّ أَوْ أَبٌ، وَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ الْغَائِبَ عَنْ مَوْضِعِ الْإِشْهَادِ إِمَّا لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَلِيُّهُ وَكِيلُهُ، وَالْأَخْرَسُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوِ الثَّلَاثَةُ فِي شَخْصٍ. انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وَهُوَ تَوْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنُ فِي: أَنْ يُمِلَّ، وَفِيهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّ فِي التَّأْكِيدِ بِهِ رَفْعُ الْمَجَازِ الَّذِي كَانَ يَحْتَمِلُهُ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الضَّمِيرِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ.
وقرىء شَاذًّا بِإِسْكَانِ هَاءِ: هُوَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهَا مَا يَنْفَصِلُ، إِجْرَاءً لِلْمُنْفَصِلِ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَاللَّامِ، نَحْوُ: وَهُوَ، فَهُوَ، لَهُوَ. وَهَذَا أَشَذُّ مِنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:
ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ ثُمَّ شَارَكَتْ فِي كَوْنِهِ لِلْعَطْفِ، وَأَنَّهَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَيَتِمُّ الْمَعْنَى.
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. الضَّمِيرُ فِي وَلِيُّهُ عَائِدٌ عَلَى أَحَدِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنَ عَطِيَّةَ لِلْوَلِيِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ مِنْ وَصِيٍّ إِنْ كَانَ سَفِيهًا أَوْ صَبِيًّا، أَوْ وَكِيلٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ، أَوْ تُرْجُمَانَ يُمِلُّ عَنْهُ وَهُوَ يُصَدِّقُهُ.
وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَلِيِّهِ يَعُودُ عَلَى الْحَقِّ، فَيَكُونُ الْوَلِيُّ هُوَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ.
726
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَيْفَ تَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ عَلَى شَيْءٍ وَيُدْخِلُ مَالًا فِي ذِمَّةِ السَّفِيهِ، بِإِمْلَاءِ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ، هَذَا شَيْءٌ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ.
قَالَ الرَّاغِبُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْحَقِّ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُؤَثِّرُ إِذْ هُوَ مُدَّعٍ.
وَ: بِالْعَدْلِ، مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَلْيُمْلِلْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلْحَالِ، وَفِي قَوْلِهِ:
بِالْعَدْلِ، حَثٌّ عَلَى تَحَرِّيهِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، وَالْمَوْلَى عَلَيْهِ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ السَّفِيهِ، وَعَلَى قِيَامِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفَاتِ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَأَمْوَالِهِ.
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ أَيْ: اطْلُبُوا لِلْإِشْهَادِ شَهِيدَيْنِ، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ لِلطَّلَبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقَةُ أَفْعَلَ أَيْ: وَأَشْهِدُوا، نَحْوُ: اسْتَيْقَنَ مُوَافِقُ أَيْقَنَ، وَاسْتَعْجَلَهُ بِمَعْنَى أَعْجَلَهُ. وَلَفَظُ: شَهِيدٍ، لِلْمُبَالَغَةِ، وَكَأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِأَنْ يَسْتَشْهِدُوا مَنْ كَثُرَتْ مِنْهُ الشَّهَادَةُ، فَهُوَ عَالِمٌ بِمَوَاقِعِ الشَّهَادَةِ وَمَا يَشْهَدُ فِيهِ لِتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأُمِرُوا بِطَلَبِ الْأَكْمَلِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَدَالَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنَ الشَّخْصِ عِنْدَ الْحُكَّامِ إِلَّا وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَهُمْ.
مِنْ رِجَالِكُمْ، الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمُ الْمُصَدَّرُ بِهِمُ الْآيَةُ، فَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رِجَالِكُمْ، دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَشْهَدُ الْكَافِرُ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ، وَاشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الشَّاهِدَيْنِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ: يَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَقِيلَ عَنْهُ: يَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: شَهَادَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ جَارِيَةٌ جَائِزَةٌ
. وَرَوَى الْمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمَمْلُوكِ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ:
أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ صَالِحٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، وَابْنِ عَبَّاسٍ، والحسن.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ لَا تُعْتَبَرُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ
727
وَأَصْحَابُهُ الثَّلَاثَةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ: عُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، قَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَحْدَهَا بِشُرُوطٍ ذُكِرَتْ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ اشْتِرَاطُ الرُّجُولِيَّةِ فَقَطْ فِي الشَّاهِدَيْنِ.
فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَعْمَى، فَفِي جَوَازِ شَهَادَتِهِ خِلَافٌ. ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
، وَالْحَسَنِ، وابن جبير، وإياس بن مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا عَلِمَ قَبْلَ الْعَمَى جَازَتْ، أَوْ بَعْدَهُ فَلَا. وَقَالَ زُفَرُ:
لَا يَجُوزُ، إِلَّا فِي النَّسَبِ، يَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ. وَقَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ: شَهَادَتُهُ جائزة.
قال مالك، والليث: تجوز، وَإِنْ عَلِمَهُ حَالَ الْعَمَى إِذَا عَرَفَ الصَّوْتَ فِي الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ شَهِدَ بِزِنَا أَوْ حَدِّ قَذْفٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ.
وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَخْرَسَ، فَقِيلَ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِإِشَارَةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ طَارِئًا أَمْ أَصْلِيًّا، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ.
وَإِنْ كَانَ أَصَمَّ، فَلَا تُقْبَلُ فِي الْأَقْوَالِ، وَتُقْبَلُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْحَوَاسِّ.
وَلَوْ شَهِدَ بَدَوِيٌّ عَلَى قَرَوِيٍّ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِلَّا فِي الْجِرَاحِ.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: لَا تَجُوزُ فِي الْحَضَرِ إِلَّا فِي وَصِيَّةِ الْقَرَوِيِّ فِي السَّفَرِ وَفِي الْبَيْعِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الشَّهِيدَيْنِ أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ: إِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْحَقِّ، أَوْ قَصَدَ أَنْ لَا يَشْهَدَ رَجُلَيْنِ لِغَرَضٍ لَهُ، وَكَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ نَاقِصَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِشْهَادُ الْمَرْأَتَيْنِ إِلَّا مَعَ عَدَمِ الرِّجَالِ، وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: يَكُونَا، عَائِدٌ عَلَى: شَهِيدَيْنِ، بِوَصْفِ الرُّجُولِيَّةِ، وَتَكُونُ: كَانَ، تَامَّةً، وَيَكُونُ: رَجُلَيْنِ، مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدِ، كَقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ «١» عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ.
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ارْتِفَاعُ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ محذوف، أي: فلشاهد، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَشْهَدُونَ، أَوْ: فَاعِلٌ، أَيْ فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ، أَوْ:
مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ فَلْيُسْتَشْهَدْ، وَقِيلَ: الْمَحْذُوفُ فَلْيَكُنْ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ تَامَّةً، فَيَكُونُ رَجُلٌ فَاعِلًا، وَأَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، وَيَكُونُ خَبَرُهَا مَحْذُوفًا وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَصْحَابَنَا
(١) سورة النساء: ٤/ ١٧٦.
728
لَا يُجِيزُونَ حَذْفَ خَبَرِ كَانَ لَا اقْتِصَارًا وَلَا اخْتِصَارًا. وقرىء شَاذًّا: وَامْرَأَتَانِ، بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ سَكَّنَهَا تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَجَاءَ نَظِيرُ تَخْفِيفِ هَذِهِ الْهَمْزَةِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَقُولُونَ جَهْلًا لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأَنَّ رَقُوبُ
يُرِيدُ: وَأَنَا رَقُوبٌ، قِيلَ: خَفَّفَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا ثُمَّ هَمْزَةً بَعْدَ ذلك، قالوا: الخأتم، والعألم.
وظاهر الآية يقتضي جواز شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ الرَّجُلِ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُدَايَنَاتِ، وَهِيَ كُلُّ عَقْدٍ وَقَعَ عَلَى دَيْنٍ سَوَاءٌ كَانَ بَدَلًا أَمْ بُضْعًا، أَمْ مَنَافِعَ أَمْ دَمَ عَمْدٍ، فَمَنِ ادَّعَى خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ الْعُقُودِ مِنَ الظَّاهِرِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ إِلَّا الرَّجُلُ، وَيَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْعِتْقُ، وَلَا تَجُوزُ فِي النِّكَاحِ وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا قَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي يُقَادُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي نِكَاحٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حُيَيٍّ:
لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْحُدُودِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تَجُوزُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْحُدُودَ.
وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَجُوزُ فِي الْحُدُودِ وَلَا الْقِصَاصِ، وَلَا الطَّلَاقِ وَلَا النِّكَاحِ، وَلَا الْأَنْسَابِ وَلَا الْوَلَاءِ وَلَا الْإِحْصَانِ، وَتَجُوزُ فِي الْوِكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِتْقٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ إِلَّا فِي الدَّيْنِ. وَقَالَ عُمَرُ، وَعَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: تَجُوزُ فِي الْعِتْقِ، وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: تَجُوزُ فِي الْعَقْدِ
. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَتُقْبَلُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ. وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَتِهِنَّ مُفْرَدَاتٍ فَلَا خِلَافَ فِي قَبُولِهَا فِي: الْوِلَادَةِ، وَالْبَكَارَةِ، وَالِاسْتِهْلَالِ، وَفِي عُيُوبِ النِّسَاءِ الْإِمَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَخْصُوصٌ بِالنِّسَاءِ.
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شهادة الواحدة العادلة فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِذْ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ مُفْرَدَةٌ.
729
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ قِيلَ: هَذَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: رِجَالِكُمْ، عَلَى تَكْرِيرِ الْعَامِلِ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَوْصُوفِ، فَيَكُونُ قَدِ انْتَفَى هَذَا الْوَصْفُ عَنْ شَهِيدَيْنِ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصَاصِ بِالشَّهِيدَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَعَرِيَ عَنْهُ: رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَالَّذِي يَظْهُرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا، أَيْ: وَاسْتَشْهِدُوا مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، لِيَكُونَ قَيْدًا فِي الْجَمِيعِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ ذِكْرِ الْجَمِيعِ، وَالْخِطَابُ فِي تَرْضَوْنَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فِي الشُّهُودِ مَنْ لَا يَرْضَى، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَحْمُولِينَ عَلَى الْعَدَالَةِ حَيْثُ تَثْبُتُ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ بِكِيرٍ وَغَيْرُهُ: الْخِطَابُ لِلْحُكَّامِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَلَبِّسُ بِهَذِهِ الْقَضَايَا هُمُ الْحُكَّامُ، وَلَكِنْ يَجِيءُ الْخِطَابُ عَامًّا وَيَتَلَبَّسُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْكَفَاءَةِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مِمَّنْ لَمْ يَطْعَنْ فِي فَرْجٍ وَلَا بَطْنٍ، وَفَسَّرَ قَوْلُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفِ امْرَأَةً وَلَا رَجُلًا، وَلَمْ يَطْعَنْ فِي نَسَبٍ. وَرُوِيَ: مَنْ لَمْ يُطْعَنْ عَلَيْهِ فِي فَرْجٍ وَلَا بَطْنٍ، وَمَعْنَاهُ:
لَا يُنْسَبُ إِلَى رِيبَةٍ، وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ ابْنُ زِنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ لَمْ تُعْرَفْ لَهُ خَرِبَةٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَنْ لَا رِيبَةَ فِيهِ. وَقَالَ الْخَصَّافُ: مَنْ غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّآتِهِ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.
وَقِيلَ: الْمَرَضِيُّ مِنَ الشُّهُودِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ عَشْرُ خِصَالٍ: أَنْ يَكُونَ حُرًّا، بَالِغًا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، عَالِمًا بِمَا يَشْهَدُ بِهِ، لَا يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَضَرَّةً، وَلَا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَلَا بِتَرْكِ الْمُرُوءَةِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ.
وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْحُدُودُ، وَمَا يَجِبُ فِيهَا مِنَ الْعَظَائِمِ، وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَأَخْلَاقُ الْبِرِّ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَعَاصِي الصِّغَارِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ عَبْدٌ مِنْ ذَنْبٍ، وَلَا تُقْبَلْ شَهَادَةُ مَنْ ذُنُوبُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَخْلَاقِ الْبِرِّ، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالشَّطْرَنْجِ يُقَامِرُ عَلَيْهَا، وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ وَيُطَيِّرُهَا، وَلَا تَارِكِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي جَمَاعَةٍ اسْتِخْفَافًا أَوْ مَجَانَةً أَوْ فِسْقًا، لَا أَنْ تَرَكَهَا عَلَى تَأْوِيلٍ، وَكَانَ عَدْلًا، وَمَنْ يُكْثِرُ الْحَلِفَ بِالْكَذِبِ، وَلَا مُدَاوِمٍ عَلَى تَرْكِ رَكْعَتِيِ الْفَجْرِ، وَلَا مَعْرُوفٍ بِالْكَذِبِ الْفَاحِشِ، وَلَا مُظْهِرِ شَتِيمَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَتَّامِ النَّاسِ وَالْجِيرَانِ، وَلَا مَنِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ، وَلَا مُتَّهَمٍ بِسَبِّ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَقُولُوا: سَمِعْنَاهُ يَشْتُمُ.
730
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْعُدُولِ، إِلَّا صِنْفًا مِنَ الرَّافِضَةِ وَهُمُ الْخَطَّابِيَّةُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْخَوَارِجِ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ الْحَرُورِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَنَا، فَإِذَا خَرَجُوا اسْتَحَلُّوا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ:
لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْبَخِيلِ. وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ الْأَشْرَافِ بِالْعِرَاقِ وَلَا الْبُخَلَاءِ، وَلَا التُّجَّارِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ، وَعَنْ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ، أَنَّهُ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ يَأْكُلُ الطِّينَ وَيَنْتِفُ لِحْيَتَهُ. وَرَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَهَادَةَ مَنْ يَنْتِفُ عُنْفَقَتَهُ وَيُخْفِي لِحْيَتَهُ. وَرَدَّ شُرَيْحٌ شَهَادَةَ رَجُلٍ اسْمُهُ رَبِيعَةُ وَيُلَقَّبُ بِالْكُوَيْفِرِ، فَدُعِيَ: يَا رَبِيعَةُ، فَلَمْ يُجِبْ، فَدُعِيَ: يَا رَبِيعَةُ الْكُوَيْفِرُ، فَأَجَابَ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: دُعِيتَ بِاسْمِكَ فَلَمْ تُجِبْ، فَلَمَّا دُعِيتَ بِالْكُفْرِ أَجَبْتَ! فَقَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ! إِنَّمَا هُوَ لَقَبٌ. فَقَالَ لَهُ: قُمْ، وَقَالَ لِصَاحِبِهِ:
هَاتِ غَيْرَهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ أَصْحَابِ الْحُمْرِ، يَعْنِي: النَّخَّاسِينَ. وَعَنْ شُرَيْحٍ: لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ صَاحِبِ حَمَّامٍ، وَلَا حَمَّالٍ، وَلَا ضَيِّقِ كُمِ الْقَبَاءِ، وَلَا مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ مَجَانَةٌ، وَلَا شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ، وَلَا لَاعِبٍ بِالْحَمَامِ يُطَيِّرُهُنَّ، وَرَدَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى شَهَادَةَ الْفَقِيرِ، وَقَالَ: لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَحْمِلَهُ فَقْرُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ السُّؤَالِ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ، وَتَجُوزُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ.
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: إِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ الْمَعْصِيَةَ وَعَدَمَ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَعَنْهُ: إِذَا كَانَ أَكْثَرُ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ، وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَى كَبِيرَةٍ، فَهُوَ عَدْلٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُفَسَّرَ الْمُرُوءَةُ بِالتَّصَاوُنِ، وَالسَّمْتِ الْحَسَنِ، وَحِفْظِ الْحُرْمَةِ، وَتَجَنُّبِ السَّخْفِ، وَالْمُجُونِ، لَا تُفَسَّرُ بِنَظَافَةِ الثَّوْبِ، وَفَرَاهَةِ الْمَرْكُوبِ، وَجَوْدَةِ الْآلَةِ، وَالشَّارَةِ الْحَسَنَةِ. لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ رِيبَةٌ، هَلْ يَسْأَلُ عَنْهُ الْحَاكِمُ إِذَا شَهِدَ؟ فَفِي كِتَابِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظِنِّينًا أَوْ قَرَابَةً. وَكَانَ الْحَسَنُ، لَمَّا وَلِيَ الْقَضَاءَ، يُجِيزُ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ يَجْرَحُ الشَّاهِدَ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: إِنْ طَعَنَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِيهِمْ سَأَلْتُ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو يُوسُفَ: يُسْأَلُ عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُطْعَنْ فِيهِمْ في السرّ والعلانية، ويزكيهم في العلانية. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْضَى بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: إِنَّمَا كَانَ الْوَالِيُّ يَقُولُ لِلْخَصْمِ: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَنْ يُخْرِجُ
731
شَهَادَتَهُمْ فَأْتِ بِهِ، وَإِلَّا أَجَزْنَا شَهَادَتَهُمْ عَلَيْكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْأَلُ عَنْهُ فِي السِّرِّ، فَإِذَا عَدَلَ سَأَلَ عَنْ تَعْدِيلِهِ فِي الْعَلَانِيَةِ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ اعْتِبَارِ نَفِيِ التُّهْمَةِ عَنِ الشَّاهِدِ إِذَا كَانَ عَدْلًا، فَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْبَتِّيِّ، قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ، وَالْأَبُ لِابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ، وَعَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ لِابْنِهِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ لَهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الأجير لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تَجُوزُ مُطْلَقًا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: تَجُوزُ إِذَا كَانَ لَا يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ مَنْفَعَةً.
وَمَنْ ردت شَهَادَتُهُ لِمَعْنًى، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَهَلْ تُقْبَلُ تِلْكَ الشَّهَادَةُ فِيهِ؟
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا تُقْبَلُ إِذَا رُدَّتْ لِفِسْقٍ أَوْ زَوْجِيَّةٍ، وَتُقْبَلُ إِذَا رُدَّتْ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ صَبِيٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ إِنْ رُدَّتْ لِرِقٍّ أَوْ صَبِيٍّ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِثْلَ هَذَا.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الشُّهُودَ فِي الدُّيُونِ رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، فَلَا يُقْضَى بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَكَمِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَضَى به عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَقَالَ الْحَكَمُ: أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِهِ مُعَاوِيَةُ.
وَاخْتُلِفَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَقِيلَ، قَالَ: هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ لَا بُدَّ مِنْ شَهِيدَيْنِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا أَعْرِفُهُ، وَإِنَّهَا الْبِدْعَةُ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَاهُ مُعَاوِيَةَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا وَلِيَ الْقَضَاءَ حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ:
يُحْكَمُ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، وَعَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي الزِّيَادِ، وَرَبِيعَةَ.
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى قَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ: إِنْ تَضِلْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، جَعَلَهَا حَرْفَ شَرْطٍ. فَتُذَكِّرُ، بِالتَّشْدِيدِ وَرَفْعِ الرَّاءِ وَجَعْلِهِ جَوَابَ الشَّرْطِ.
732
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ: أَنْ، وَهِيَ النَّاصِبَةُ، وَفَتْحِ رَاءِ فَتُذَكِّرَ عَطْفًا عَلَى: أَنْ تَضِلَّ وَسَكَّنَ الذَّالَ وَخَفَّفَ الْكَافَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَفَتَحَ الذَّالَ، وَشَدَّدَ الْكَافَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ.
وَقَرَأَ الْجُحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عِمْرَانَ: تُضَلُّ، بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، بِمَعْنَى: تَنْسَى، كَذَا حَكَى عَنْهُمَا الدَّانِيُّ. وَحَكَى النِّقَاشُ عَنِ الْجُحْدَرِيِّ: أَنْ تَضِلَّ، بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ، بِمَعْنَى أَنْ تَضِلَّ الشَّهَادَةُ، تَقُولُ: أَضْلَلَتِ الْفَرَسُ والبعير إذا اذهبا فَلَمْ تَجِدْهُمَا.
وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَاهِدٌ: فَتُذَكِّرَ، بِتَخْفِيفِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ، وَرَفَعِ الرَّاءِ، أَيْ فَهِيَ: تُذْكِرُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ أسلم: فتذاكر، من المذاكرة.
وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ عَلَى قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِكَوْنِهِ صِفَةً لِلْمُذَكِّرِ، وَهُمَا الْمَرْأَتَانِ. انْتَهَى. كَانَ قَدْ قُدِّمَ أَنَّ قَوْلَهُ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ فَصَارَ نَظِيرَ:
جَاءَنِي رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عُقَلَاءَ حُبْلَيَانِ، وَفِي جَوَازِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ نَظَرٌ، بَلِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَقْيِسَةُ تَقْدِيَمَ حُبْلَيَانِ عَلَى عُقَلَاءَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَعْرَبَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، بَدَلًا مِنْ:
رِجَالِكُمْ، وَعَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَشْهِدُوا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: وَامْرَأَتَانِ، لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ بِأَجْنَبِيٍّ، وَأَمَّا: أَنْ تَضِلَّ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنْ تَضِلَّ عَلَى تَنْزِيلِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْإِضْلَالُ.
مَنْزِلَةَ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ، وَهُوَ الْإِذْكَارُ، كَمَا يَنْزِلُ الْمُسَبِّبُ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ لِالْتِبَاسِهِمَا وَاتِّصَالِهِمَا، فَهُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: لِأَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى إِنْ ضَلَّتْ، وَنَظِيرُهُ:
أَعْدَدْتُ الْخَشَبَةَ أَنْ يَمِيلَ الْحَائِطُ فَأُدَعِّمَهُ، وَأَعْدَدْتُ السِّلَاحَ أَنْ يَطْرُقَ الْعَدُوُّ فَأَدْفَعَهُ، لَيْسَ إِعْدَادُ الْخَشَبَةِ لِأَجْلِ الْمَيْلِ إِنَّمَا إِعْدَادُهَا لِإِدْعَامِ الْحَائِطِ إِذَا مَالَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مُخَالَفَةَ أَنْ تَضِلَّ، لِأَجْلِ عَطْفٍ فَتُذَكِّرَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ النَّحَاسُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلَّ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا غَلَطٌ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى كَرَاهَةَ أَنْ تُذْكَرَ. وَمَعْنَى الضَّلَالِ هُنَا هُوَ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلشَّهَادَةِ لِنِسْيَانٍ أَوْ غَفْلَةٍ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ، وَهُوَ مِنَ الذِّكْرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ أَنَّ قِرَاءَةَ التَّخْفِيفِ، فَتُذَكِرُ، مَعْنَاهُ:
733
تُصَيِّرُهَا ذَكَرًا فِي الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ نِصْفُ شَهَادَةٍ، فَإِذَا شَهِدَتَا صَارَ مَجْمُوعُ شَهَادَتِهِمَا كَشَهَادَةِ ذَكَرٍ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَا يُحْسَنُ فِي مُقَابَلَةِ الضَّلَالِ إِلَّا الذِّكْرُ. انْتَهَى.
وَمَا قَالَاهُ صَحِيحٌ، وَيَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى، تَقُولُ: أَذْكَرَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ مُذَكِّرٌ إِذَا وُلَدَتِ الذُّكُورَ، وَأَمَّا: أَذَكَرَتِ الْمَرْأَةُ، أَيْ: صَيَّرَتْهَا كَالذَّكَرِ، فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ: أُذَكِّرُ، بِمَعْنَى صَيَّرَهَا ذَكَرًا فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ التَّصْيِيرَ ذَكَرًا شَامِلٌ لِلْمَرْأَتَيْنِ، إِذْ تَرْكُ شَهَادَتِهِمَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ ذَكَرٍ فَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا أَذْكَرَتِ الْأُخْرَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، إذ لم تصر شَهَادَتُهُمَا وَحْدَهَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ ذَكَرٍ.
وَلَمَّا أُبْهِمَ الْفَاعِلُ فِي: أَنْ تَضِلَّ، بِقَوْلِهِ: إِحْدَاهُمَا، أُبْهِمَ الْفَاعِلُ فِي: فَتُذَكِّرَ، بِقَوْلِهِ:
إِحْدَاهُمَا، إِذْ كُلٌّ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهَا الضَّلَالُ، وَالْإِذْكَارُ، فَلَمْ يرد: بإحداهما، مُعَيَّنَةً.
وَالْمَعْنَى: إِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ أَذْكَرَتْهَا هَذِهِ، وَإِنْ ضَلَّتْ هَذِهِ أَذْكَرَتْهَا هَذِهِ، فَدَخَلَ الْكَلَامُ مَعْنَى الْعُمُومِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ ضَلَّ مِنْهُمَا أَذَكَرَتْهَا الْأُخْرَى، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ بَعْدَ: فَتُذَكِّرَ، الْفَاعِلَ مُظْهَرًا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَضْمَرَ الْمَفْعُولَ لِيُكُونَ عَائِدًا عَلَى إِحْدَاهُمَا الْفَاعِلِ بتضل، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ: الْأُخْرَى، هُوَ الْفَاعِلُ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى. وَأَمَّا عَلَى التَّرْكِيبِ الْقُرْآنِيِّ فَالْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ: إِحْدَاهُمَا، فاعل تذكر، والأخرى هُوَ الْمَفْعُولُ، وَيُرَادُ بِهِ الضَّالَّةُ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الِاسْمَيْنِ مَقْصُورٌ، فَالسَّابِقُ هُوَ الْفَاعِلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: إِحْدَاهُمَا، مَفْعُولًا، وَالْفَاعِلُ هُوَ الْأُخْرَى لِزَوَالِ اللَّبْسِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُذَكِّرَةَ لَيْسَتِ النَّاسِيَةَ، فَجَازَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ وَيَتَأَخَّرَ الْفَاعِلُ، فَيَكُونُ نَحْوُ: كَسَرَ الْعَصَا مُوسَى، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَدْ وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الْمَفْعُولِ، فَيَتَعَيَّنُ إِذْ ذَاكَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ هُوَ: الْأُخْرَى، وَمَنْ قَرَأَ: أَنْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَ: فَتُذَكِرُ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، قِيلَ: وَقَالَ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، الْمَعْنَى: أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ عَلَى طِبَاعِ النِّسَاءِ لِكَثْرَةِ الْبَرْدِ وَالرُّطُوبَةِ، وَاجْتِمَاعُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى النِّسْيَانِ أَبْعَدُ فِي الْعَقْلِ مِنْ صُدُورِ النِّسْيَانِ عَنِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، فَأُقِيمَتِ الْمَرْأَتَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ، حَتَّى إِنَّ إِحْدَاهُمَا لَوْ نَسِيَتْ ذَكَّرَتْهَا الْأُخْرَى، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَفْضِيلِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ.
734
وَ: تُذَكِّرَ، يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى الشَّهَادَةَ، وَفِي قَوْلِهِ فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرْطِ جَوَازِ إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ ذِكْرُ الشَّاهِدِ لَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى الْخَطِّ، إِذِ الْخَطُّ وَالْكِتَابَةُ مَأْمُورٌ بِهِ لِتَذَكُّرِ الشَّهَادَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «١» وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا فَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا كَتَبَ خَطَّهُ بِالشَّهَادَةِ فَلَا يَشْهَدُ حَتَّى يَذْكُرَهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، إِذَا عَرَفَ خَطَّهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ شَهِدَ، وَلَا يَذْكُرُ عَدَدَ الدَّرَاهِمِ، فَإِنَّهُ لَا يَشْهَدُ.
وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا قَالَ قَتَادَةُ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَطُوفُ فِي الْحِرَاءِ الْعَظِيمِ، فِيهِ الْقَوْمُ، فَلَا يَتْبَعُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إِذَا مَا دُعُوا لَهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا النَّهْيُ لَيْسَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ. قَالَهُ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ، وَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ إِذَا كَانُوا قَدْ شَهِدُوا قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَلَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَرَوَى النِّقَاشُ: هَكَذَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا عَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ فَيَكُونُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ: هِيَ فِي التَّحَمُّلِ وَالْإِقَامَةِ إِذَا كَانَ فَارِغًا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْآيَةُ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، جَمَعَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَنْدُوبُونَ إِلَى مُعَاوَنَةِ إِخْوَانِهِمْ، فَإِذَا كَانَتِ الْفُسْحَةُ فِي كَثْرَةِ الشُّهُودِ، وَالْأَمْنِ مِنْ تَعْطِيلِ الْحَقِّ، فَالْمَدْعُوُّ مَنْدُوبٌ، وَلَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ لِأَدْنَى عُذْرٍ وَأَنْ يَتَخَلَّفَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ، وَخِيفَ تَعْطِيلُ الْحَقِّ أَدْنَى خَوْفٍ، قَوِيَ النَّدْبُ وَقَرُبَ مِنَ الْوُجُوبِ. وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ يَذْهَبُ وَيَتْلَفُ بِتَأَخُّرِ الشَّاهِدِ عَنِ الشَّهَادَةِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مُحَصَّلَةً. وَكَانَ الدُّعَاءُ إِلَى أَدَائِهَا، فَإِنَّ هَذَا الطَّرَفَ آكَدُ، لِأَنَّهَا قِلَادَةٌ فِي الْعُنُقِ وَأَمَانَةٌ تَقْتَضِي الأداء. انتهى.
(١) سورة الزخرف: ٤٣/ ٨٦.
735
وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ لَمَّا نَهَى عَنِ امْتِنَاعِ الشُّهُودِ إِذَا مَا دُعُوا لِلشَّهَادَةِ، نَهَى أَيْضًا عَنِ السَّآمَةِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ ضَبْطٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَتَحْرِيضٌ عَلَى أَنْ لَا يَقَعَ النِّزَاعُ، لِأَنَّهُ مَتَى ضُبِطَ بِالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ قَلَّ أَنْ يَحْصُلَ وَهْمٌ فِيهِ أَوْ إِنْكَارٌ، أَوْ مُنَازَعَةٌ فِي مِقْدَارٍ أَوْ أَجَلٍ أَوْ وَصْفٍ، وَقُدِّمَ الصَّغِيرُ اهْتِمَامًا بِهِ، وَانْتِقَالًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى. وَنَصَّ عَلَى الْأَجَلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِهِ، فَكُتِبَ كَمَا يُكْتَبُ أَصْلُ الدَّيْنِ وَمَحَلُّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ذِكْرِ الْمَحَلِّ، وَنَبَّهَ بِذِكْرِ الْأَجَلِ عَلَى صِفَةِ الدَّيْنِ وَمِقْدَارِهِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ بَعْضُ أَوْصَافِهِ، وَالْأَجْلُ هُنَا هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُتَدَايِنَانِ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.
وَقَالَ الْمَاتِرِيدِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ السَلَمِ فِي الثِّيَابِ، لِأَنَّ مَا يُؤْكَلُ أَوْ يُوزَنُ لَا يُقَالُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْعَدَدِيِّ وَالذَّرْعِيِّ. انْتَهَى.
وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَ: إِذِ الصِّغَرُ، والكبر هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْجُرْمُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي مِقْدَارٍ وَيْبَةٍ، أَوْ فِي مِقْدَارِ عِشْرِينَ أَرَدْبًا، صَدَقَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ حُقٌّ صَغِيرٌ وَدَيْنٌ صَغِيرٌ، وَعَلَى الثَّانِي أَنَّهُ دَيْنٌ كَبِيرٌ وَحُقٌّ كَبِيرٌ.
قِيلَ: وَمَعْنَى: وَلَا تَسْأَمُوا، أَيْ لَا تَكْسَلُوا، وَعَبَّرَ بِالسَّأَمِ عَنِ الْكَسَلِ، لِأَنَّ الْكَسَلَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: «لَا يَقُلِ الْمُؤْمِنُ كَسَلْتُ»
، وَكَأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
«١» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَضْجَرُوا، وَ: أَنْ تَكْتُبُوا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّ سَئِمَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ثَمَانِينَ عَامًا لَا أبك لَكَ يَسْأَمِ
وَقِيلَ: يَتَعَدَّى سَئِمَ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَيَكُونُ: أَنْ تَكْتُبُوهُ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَئِمَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرِّ قَوْلُهُ:
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي: تَكْتُبُوهُ، عَائِدٌ عَلَى الدَّيْنِ، لِسَبْقِهِ، أَوْ عَلَى الْحَقِّ لِقُرْبِهِ، وَالدَّيْنُ هُوَ الْحَقُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَانَ مَنْ كَثُرَتْ دُيُونُهُ يَمَلُّ مِنَ الْكِتَابَةِ، فَنُهُوا عن ذلك.
(١) سورة النساء: ٤/ ١٤٢.
736
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْكِتَابِ، وَ: أَنْ تَكْتُبُوهُ، مُخْتَصَرًا أَوْ مُشَبَّعًا، وَلَا يُخَلُّ بِكِتَابَتِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ بُعْدٌ.
وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: وَلَا يَسْأَمُوا، بِالْيَاءِ وَكَذَلِكَ: أَنْ يَكْتُبُوهُ، وَالظَّاهِرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ عَائِدًا عَلَى الشُّهَدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ، فَيَعُودُ عَلَى الْمُتَعَامِلِينَ أَوْ عَلَى الْكِتَابِ. وَانْتِصَابُ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي: أَنْ تَكْتُبُوهُ، وَأَجَازَ السَّجَاوَنْدِيُّ نَصْبُ: صَغِيرًا، عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِكَانَ مُضْمَرَةً، أَيْ: كَانَ صَغِيرًا، وَلَيْسَ مَوْضِعَ إِضْمَارِ كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ: إِلَى أَجَلِهِ، بِمَحْذُوفٍ لَا تَكْتُبُوهُ لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِ الْكِتَابَةِ إِلَى أَجَلِ الدَّيْنِ، إِذْ يَنْقَضِي فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، فَلَيْسَ نَظِيرَ: سِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ تَكْتُبُوهُ مُسْتَقِرًّا فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلِ حُلُولِهِ.
ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْكِتَابَةُ، وَقِيلَ الْكِتَابَةُ وَالِاسْتِشْهَادُ وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الضَّبْطُ، وَ: أَقْسَطُ، أَعْدَلُ قِيلَ: وَفِيهِ شُذُوذٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الرُّبَاعِيِّ الَّذِي عَلَى وَزْنِ: أَفْعَلَ، يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ أَيْ عَدْلَ، وَمِنْهُ وَأَقْسِطُوا، وَقَدْ رَامُوا خُرُوجَهُ عَنِ الشُّذُوذِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، بِأَنْ يَكُونَ: أَقْسَطُ، مِنْ قَاسِطٍ عَلَى طَرِيقَةِ النَّسَبِ بِمَعْنَى: ذِي قِسْطٍ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: انْظُرْ هَلْ هُوَ مِنْ قَسُطَ بِضَمِّ السِّينِ، كَمَا تَقُولُ: أَكْرَمُ مِنْ كَرُمَ.
انْتَهَى. وَقِيلَ: مِنَ الْقِسْطِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْعَدْلُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ لَمْ يَشْتَقْ مِنْهُ فِعْلٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِقْسَاطِ، لِأَنَّ أَفْعَلَ لَا يُبْنَى مِنَ الْإِفْعَالِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مِمَّ بُنِيَ أَفْعَلَا التَّفْضِيلِ. أَعْنِي: أَقْسَطَ. وَأَقْوَمُ؟
قُلْتُ: يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ مِنْ أَقْسَطَ وَأَقَامَ. انْتَهَى.
لَمْ يَنُصْ سِيبَوَيْهِ عَلَى أن أفعل التفضيل. بني مَنْ أَفْعَلَ، إِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ نَصَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ يَكُونُ مِنْ: فَعَلَ وَفَعِلَ وَفَعُلَ وَأَفْعَلَ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ أَفْعَلَ الَّذِي لِلتَّعَجُّبِ يُبْنَى مِنْ أَفْعَلَ، وَنَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَا يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ لِلتَّعَجُّبِ يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَمَا انْقَاسَ فِي التَّعَجُّبِ: انْقَاسَ فِي التَّفْضِيلِ، وَمَا شُذَّ فِيهِ شُذَّ فِيهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي بِنَاءِ أَفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: الْجَوَازِ، وَالْمَنْعِ، والتفضيل. بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ فَلَا يُبْنَى مِنْهُ أَفْعَلُ لِلتَّعَجُّبِ، أَوْ لَا تَكُونُ لِلنَّقْلِ،
737
فَيُبْنَى مِنْهُ. وَزُعِمَ أَنَّ هذا مذهب سيبويه، وتؤول قَوْلُهُ: وَأَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُ أَفْعَلَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِغَيْرِ النَّقْلِ، وَمَنَ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا ضَبَطَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ. وَأَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَيَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ فِعْلُ التَّعَجُّبِ عَلَى أَفْعَلَ، وَبِنَاؤُهُ مِنْ: فَعَلَ وَفَعِلَ وَفَعُلَ وَعَلَى أَفْعَلَ وَحُجَجُ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَقْسَطَ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا مِنْ قَسَطَ الثُّلَاثِيِّ بِمَعْنَى عَدَلَ.
قَالَ ابْنُ السَّيِّدِ فِي (الِاقْتِضَابِ) مَا نصبه: حَكَى ابْنُ السَّكِّيتِ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: قَسَطَ جَارَ، وَقَسَطَ عَدَلَ، وَأَقْسَطَ بِالْأَلِفِ عَدَلَ لَا غَيْرَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّاعِ: قَسَطَ قُسُوطًا وَقِسْطًا، جَارَ وَعَدَلَ ضِدَّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ شَاذًّا.
وَمَعْنَى: أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. أَعْدَلُ فِي حُكْمِ اللَّهِ أَنْ لَا يَقَعَ التَّظَالُمُ.
وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ إِنْ كَانَ مَنْ أَقَامَ فَفِيهِ شُذُوذٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَمَنْ جَعَلَهُ مَبْنِيًّا مِنْ قَامَ بِمَعْنَى اعْتَدَلَ فَلَا شُذُوذَ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ إِنَّهُ جَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَقَامَ، وَقَالَ أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ مِنْ قَوِيِّمٍ. انْتَهَى.
وَعَدَّ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِي التَّعَجُّبِ مَا أَقْوَمَهُ فِي الشُّذُوذِ، وَجَعَلَهُ مَبْنِيًّا مَنِ استقام، ويتعلق: للشهادة، بأقوم، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَفْعُولٌ كَمَا تَقُولُ: زِيدٌ أَضْرَبُ لِعَمْرٍو مِنْ خَالِدٍ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِهِ اللَّامِ وَالنَّصْبُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ.
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا وَقَدْ تُؤَوَّلُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: تَضْرِبُ الْقَوَانِسَ ومعنى: أقوم لِلشَّهَادَةِ، أَثْبَتُ وَأَصَحُّ.
وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أَيْ أَقْرَبُ لِانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ. وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: أَنْ لَا يَرْتَابُوا بِالْيَاءِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَحَسَّنَ حذفه كونه أَفْعَلَ الَّذِي لِلتَّفْضِيلِ وَقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وَتَقْدِيُرُهُ: الْكَتْبُ أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ وَأَدْنَى لِكَذَا مِنْ عَدَمِ الْكَتْبِ، وَقُدِّرَ: أَدْنَى، لِأَنْ: لَا تَرْتَابُوا، وَإِلَى أَنْ لَا تَرْتَابُوا، و: من أَنْ لَا تَرْتَابُوا. ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَبَقِيَ مَنْصُوبًا أَوْ مَجْرُورًا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ.
وَنَسَقُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، إِذْ بدىء أَوَّلًا بِالْأَشْرَفِ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ: فِي حُكْمِ اللَّهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبِعَ مَا أُمِرَ بِهِ، إِذِ اتِّبَاعُهُ هُوَ مُتَعَلِّقُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ،
738
وَبُنِيَ لِقَوْلِهِ: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ هُوَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَجَاءَ بِالْيَاءِ. وَأَدْنَى أَلَّا يَرْتَابُوا لِأَنَّ انْتِفَاءَ الرِّيبَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي الْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ، فَعَنْهُمَا تَنْشَأُ أَقْرَبِيَّةُ انْتِفَاءِ الرِّيبَةِ، إِذْ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ فِي أَنْ لَا يَقَعَ رِيبَةٌ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَصَّلُ إِلَّا بِالْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ غَالِبًا، فَيُثْلِجُ الصَّدْرَ بِمَا كَتَبَ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ.
وَ: تَرْتَابُوا، بُنِيَ افْتَعَلَ مِنَ الرِّيبَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي قَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ «١» قِيلَ:
وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا تَرْتَابُوا بِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقَّ أَنْ يُنْكِرَ، وَقِيلَ: أَنْ لَا تَرْتَابُوا بِالشَّاهِدِ أَنْ يَضِلَّ، وَقِيلَ: فِي الشَّهَادَةِ وَمَبْلَغِ الْحَقِّ وَالْأَجْلِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَقْرَبُ لِنَفْيِ الشَّكِّ لِلشَّاهِدِ وَالْحَاكِمِ وَالْمُتَعَامِلِينَ، وَمَا ضُبِطَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ لَا يَكَادُ يَقَعُ فِيهِ شَكٌّ وَلَا لَبْسٌ وَلَا نِزَاعٌ.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها فِي التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُعَجَّلُ وَلَا يَدْخُلُهُ أَجْلٌ مَنْ بَيْعٍ وَثَمَنٍ وَالثَّانِي: مَا يُجَوِّزُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْعُرُوضِ الْمَنْقُولَةِ، وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ إِنَّمَا هُوَ فِي قَلِيلٍ: كَالْمَطْعُومِ، بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ. وَلِهَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ: هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ تَأْخُذُهُ وَتُعْطِي.
وَفِي مَعْنَى الْإِدَارَةِ، قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَنَاوَلُونَهَا مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ. وَالثَّانِي يَتَبَايَعُونَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالْإِدَارَةُ تَقْتَضِي التَّقَابُضَ وَالذَّهَابَ بِالْمَقْبُوضِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّبَاعُ وَالْأَرْضُ، وَكَثِيرُ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا تُقَوِّي الْبَيْنُونَةَ، وَلَا يُعَابُ عَلَيْهَا حُسْنُ الْكَتْبِ وَالْإِشْهَادِ فِيهَا، وَلَحِقَتْ بِمُبَايَعَةِ الدِّيُونِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْكِتَابَةُ فِي التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَهُمْ شَاقَّةً، رُفِعَ الْجُنَاحُ عَنْهُمْ فِي تَرْكِهَا، وَلِأَنَّ مَا بِيعَ نَقْدًا يَدًا بِيَدٍ لَا يَكَادُ يَحْتَاجُ إِلَى كِتَابَةٍ، إِذْ مَشْرُوعِيَّةُ الْكِتَابَةِ إِنَّمَا هِيَ لِضَبْطِ الدِّيُونِ، إِذْ بِتَأْجِيلِهَا يَقَعُ الْوَهْمُ فِي مِقْدَارِهَا وَصِفَتِهَا وَأَجْلِهَا، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي مُبَايَعَةِ التَّاجِرِ يَدًا بِيَدٍ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ، مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مَا بِيعَ لِغَيْرِ أَجْلِ مُنَاجَزَةٍ لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ الدِّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ قَرِيبًا. وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ: تِجَارَةً حَاضِرَةً، بِنَصْبِهِمَا عَلَى أَنَّ كَانَ نَاقِصَةً، التَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ أَيْ التِّجَارَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنْ يَكُونَ: تَكُونَ، تَامَّةً. وَ: تجارة، فاعل بتكون،
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢. وآل عمران: ٣/ ٩ و ٢٥ والنساء: ٤/ ٨٧ والأنعام: ٦/ ١٢، ويونس: ١٠/ ٣٧ والإسراء: ١٧/ ٩٩. والسجدة: ٣٢/ ٢. والشورى: ٤٢/ ٧. والجاثية: ٤٥/ ٢٦.
.
739
وأجاز بعضهم أن تكون نَاقِصَةٌ وَخَبُرُهَا الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ. وَنَفْيُ الْجُنَاحِ هُنَا مَعْنَاهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَيْكُمْ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، إِذِ الْكِتَابَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ وَاجِبَةٌ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْوُجُوبِ فَمَعْنَى: لَا جُنَاحَ، لَا إِثْمَ.
وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ هَذَا أَمْرٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَى التَّبَايُعِ مُطْلَقًا، نَاجِزًا أَوْ كَالِئًا، لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَأَبْعَدُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنِ الِاخْتِلَافِ، وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ، لَمَّا رُخِّصَ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ أُمِرُوا بِالْإِشْهَادِ.
قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْجُحْدَرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، وَالْحَكَمِ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ ذَلِكَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخْعِيُّ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالطَّبَرِيُّ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ عَزِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَلَوْ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ أَوِ اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ، أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، أو ثلاثة دَرَاهِمَ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَحْلُ لِمُسْلِمٍ إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ، وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ لَا عَلَى الْحَتْمِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَهَذَا قَوْلُ الْكَافَّةِ.
وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هَذَا نَهْيٌ، وَلِذَلِكَ فُتِحَتِ الرَّاءُ لِأَنَّهُ مَجْزُومٌ. وَالْمُشَدَّدُ إِذَا كَانَ مَجْزُومًا كَهَذَا كَانَتْ حَرَكَتُهُ الْفُتْحَةَ لِخِفَّتِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أُدْغِمَ لَزِمَ تَحْرِيكُهُ، فَلَوْ فُكَّ ظَهَرَ فِيهِ الْجَزْمُ.
وَاحْتَمَلَ هَذَا الْفِعْلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فَيَكُونُ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ قَدْ نُهِيَا أَنْ يَضَارَّا أَحَدًا بِأَنْ يَزِيدَ الْكَاتِبُ فِي الْكِتَابَةِ، أَوْ يُحَرِّفَ. وَبِأَنْ يَكْتُمَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ، أَوْ يُغَيِّرَهَا أَوْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَدَائِهَا. قَالَ معناه الحسن، وطاووس، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَاخْتَارَهُ: الزَّجَّاجُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ بِمَنْ يُحَرِّفُ الْكِتَابَةَ، وَيَمْتَنِعُ مِنَ الشَّهَادَةِ، حَتَّى يُبْطِلَ الْحَقَّ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْلَى مِنْهُ بِمَنْ أَبْرَمَ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ، فِيمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَالْآثِمُ وَالْفَاسِقُ مُتَقَارِبَانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعطاء: بِأَنْ يَقُولَا: عَلَيْنَا شُغْلٌ وَلَنَا حَاجَةٌ.
740
وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَنُهِيَ أَنْ يُضَارَّهُمَا أَحَدٌ بِأَنْ يُعَنَّتَا، وَيَشُقَّ عَلَيْهِمَا فِي تَرْكِ أَشْغَالِهِمَا، وَيُطْلَبُ مِنْهُمَا مَا لَا يَلِيقُ فِي الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ قَالَ مَعْنَاهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وطاووس، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ قِرَاءَةُ عُمَرَ: وَلَا يُضَارَرْ، بِالْفَكِّ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى. رَوَاهَا الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ لِأَنَّ الْخِطَابَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَكْتُوبِ لَهُ، وَلِلْمَشْهُودِ لَهُ، وَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ وَالْكَاتِبِ خَطَّابٌ تَقَدَّمَ، إِنَّمَا رَدَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، فَالنَّهْيُ لَهُمْ أَبْيَنُ أَنْ لَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ فَيَشْغَلُونَهُمَا عَنْ شُغْلِهِمَا، وَهُمْ يَجِدُونَ غَيْرَهُمَا. وَرُجِّحَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خِطَابًا لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ لَقِيلَ:
وَإِنْ تَفْعَلَا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمَا، وَإِذَا كَانَ خِطَابًا لِلْمُدَايِنِينَ فَالْمَنْهِيُّونَ عَنِ الضِّرَارِ هُمْ، وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ الرَّاءَ الْأُولَى مَكْسُورَةٌ، وَحَكَى عَنْهُمْ أَيْضًا فَتْحَهَا، وَفَكَّ الْفِعْلِ. وَالْفَكُّ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْإِدْغَامُ لُغَةِ تَمِيمٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: وَلَا يُضَارْ، بِجَزْمِ الرَّاءِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ جَمَعَ بَيْنَ ثَلَاثِ سَوَاكِنَ، لَكِنَّ الْأَلِفَ لِمَدِّهَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُتَحَرِّكِ، فَكَأَنَّهُ بَقِيَ سَاكِنَانِ، وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ. ثُمَّ أَجْرَيَا الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: وَلَا يُضَارِرْ، بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأَوْلَى وَالْفَكِّ، كَاتِبًا وَلَا شَهِيدًا بِالنُّصْبِ أَيْ:
لَا يَبْدَأْهُمَا صَاحِبُ الْحَقِّ بِضَرَرٍ.
وَوُجُوهُ الْمُضَارَّةِ لَا تَنْحَصِرُ، وَرَوَى مُقْسَمٌ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَرَأَ: وَلَا يُضَارِّ، بِالْإِدْغَامِ وَكَسْرِ الرَّاءِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: وَلَا يُضَارُّ، بِرَفْعِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْسِينُ مَجِيءُ النَّهْيِ بِصُورَةِ النَّفْيِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ مَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، فَإِذَا بَرَزَ فِي صُورَةِ النَّفْيِ كَانَ أَبْلَغُ، لِأَنَّهُ صَارَ مِمَّا لَا يَقَعُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ.
وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَفْعُولَ: تَفْعَلُوا، الْمَحْذُوفَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يُضَارَّ، وَإِنْ تَفْعَلُوا لِمُضَارَّةٍ أَوِ الضِّرَارِ فَإِنَّهُ، أَيْ الضِّرَارِ، فُسُوقٌ بِكُمْ أَيْ: مُلْتَبِسٌ بِكُمْ، أَوْ تَكُونُ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً، أَيْ: فِيكُمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ، إِذْ جُعِلُوا مَحَلًّا لِلْفِسْقِ.
وَالْخِطَابُ فِي: تَفْعَلُوا، عَائِدٌ عَلَى الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: وَلَا يُضَارَّ، قَدْ قُدِّرَ
741
مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَأَمَّا إِذَا قُدِّرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فَالْخِطَابُ لِلْمَشْهُودِ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، أَوْ تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ التَّكَالِيفِ، فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، أَيْ: خُرُوجٌ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ: فِي تَرْكِ الضِّرَارِ، أَوْ: فِي جَمِيعِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيِهِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ خِطَابًا عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ، أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الْفِسْقِ.
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ هَذِهِ جُمْلَةُ تَذْكِرٍ بِنِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَشْرَفَهَا: التَّعْلِيمُ لِلْعُلُومِ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَقِيلَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي: وَاتَّقُوا، تَقْدِيرُهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ مَضْمُونًا لَكُمُ التَّعْلِيمُ وَالْهِدَايَةُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُقَدَّرَةً. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ، أَعْنِي: الْحَالَ، ضَعِيفٌ جَدًّا، لِأَنَّ الْمُضَارِعَ الْوَاقِعُ حَالًا، لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَاوُ الْحَالِ إِلَّا فِيمَا شَذَّ مِنْ نَحْوِ: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى الشُّذُوذِ.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى إِحَاطَتِهِ تَعَالَى بِالْمَعْلُومَاتِ، فَلَا يَشِذُّ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَفِيهَا إِشْعَارٌ بِالْمُجَازَاةِ لِلْفَاسِقِ وَالْمُتَّقِي، وَأُعِيدَ لَفْظُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ عَلَى طَرِيقِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ، جُعِلَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى رَبْطٍ بِالضَّمِيرِ، بَلِ اكْتُفِيَ فِيهَا بِرَبْطِ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى وَاحِدٍ، فَالْأُولَى: حَثٌّ عَلَى التَّقْوَى، وَالثَّانِيَةُ: تَذَكُّرٌ بِالنِّعَمِ، وَالثَّالِثَةُ: تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ الْوَعْدُ، فَإِنَّ مَنِ اتَّقَى عَلَّمَهُ اللَّهُ، وَكَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ بَعْضُ الْمُتَطَوِّعَةِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَتَجَافَوُنَّ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ، مِنَ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ، إِذَا ذُكِرَ لَهُ الْعِلْمُ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ، قَالُوا: قَالَ اللَّهُ: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَمِنْ أَيْنَ تُعْرَفُ التَّقْوَى؟ وَهَلْ تُعْرَفُ إِلًّا بِالْعِلْمِ؟.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. مَفْهُومُ الشَّرْطِ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الِاسْتِيثَاقِ بِالرَّهْنِ، وَأَخْذَهُ فِي الْحَضَرِ، وَعِنْدَ وِجْدَانِ الْكَاتِبِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ جَوَازَ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ السَّفَرِ وَفُقْدَانِ الْكَاتِبِ، وَقَدْ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ وَالِائْتِمَانَ إِنَّمَا هُوَ فِي السَّفَرِ، وَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَنْبَغِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنُقِلَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا لَا يُجَوِّزَانِ الِارْتِهَانَ إِلَّا فِي حَالِ السَّفَرِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، وَمَعَ وُجُودِ الْكَاتِبِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ السَّفَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلْإِعْذَارِ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ فُقْدَانِ
742
الْكَاتِبِ، وَإِعْوَازِ الْإِشْهَادِ، فَأَقَامَ التَّوَثُّقَ بِالرَّهْنِ مَقَامَ الْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَنَبِّهْ بِالسَّفَرِ عَلَى كُلِّ عُذْرٍ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ الْكَاتِبُ فِي الْحَضَرِ كَأَوْقَاتِ الِاشْتِغَالِ وَاللَّيْلِ
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْنَ دِرْعَهُ فِي الْحَضَرِ
، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لَا يُرَادُ مَفْهُومُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَاتِبًا، عَلَى الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو العالية: كِتَابًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، أَوْ جَمْعُ كَاتِبٍ. كَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ. وَنَفْيُ الْكَاتِبِ يَقْتَضِي نَفْيُ الْكِتَابَةِ، وَنَفْيُ الْكِتَابَةِ يَقْتَضِي أَيْضًا نُفِيَ الْكُتُبِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: كُتَّابًا، عَلَى الْجَمْعِ اعْتِبَارًا بِأَنَّ كُلَّ نَازِلَةٍ لَهَا كَاتِبٌ، وَرَوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: كُتُبًا جَمْعُ كِتَابٍ، وَجُمِعَ اعْتِبَارًا بِالنَّوَازِلِ أَيْضًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَرِهَانٌ، جَمْعُ رَهْنٍ نَحْوُ: كَعْبٍ وَكِعَابٍ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو:
فَرُهُنٌ، بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ. وَرَوِيَ عَنْهُمَا تَسْكِينُ الْهَاءِ. وَقَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ غَيْرُهُمَا، فَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ رِهَانٍ، وَرِهَانٌ جَمْعُ رَهَنٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ. وَجَمْعُ الْجَمْعِ لَا يَطَّرِدُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ رَهْنٍ، كَسَقْفٍ، وَمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْهَاءِ فَهُوَ تَخْفِيفٌ مِنْ رُهُنٍ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، نَحْوُ: كُتْبٍ فِي كُتُبٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: لَا أَعْرِفُ الرِّهَانَ إِلَّا فِي الْخَيْلِ لَا غَيْرَ، وَقَالَ يُونُسُ: الرُّهْنُ وَالرِّهَانُ عَرَبِيَّانِ، وَالرُّهْنُ فِي الرُّهُنِ أَكْثَرُ، وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْلِ أَكْثَرُ. انْتَهَى. وَجَمْعُ فُعُلٍ عَلَى فُعْلٍ قَلِيلٌ، وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ: رُهْنٌ، قَوْلُ الْأَعْشَى:
آلَيْتُ لَا يُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا رُهْنًا فَيُفْسِدَهُمْ كَرُهْنٍ أَفْسَدَا
وَقَالَ بِكَسْرِ: رِهْنٍ، عَلَى أَقَلَّ الْعَدَدِ لَمْ أَعْلَمْهُ جَاءَ، وَقِيَاسُهُ: أَفْعُلٍ، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا بِالْكَثِيرِ عَنِ الْقَلِيلِ. انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: مَقْبُوضَةٌ، اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى صِحَّةِ قَبَضِ الْمُرْتَهِنِ، وَقَبَضِ وَكِيلِهِ، وَأَمَّا قَبْضُ عَدْلٍ يُوضَعُ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَيْسَ بِقَبْضٍ، فَإِنْ وَقْعَ الرَّهْنُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَمْ يَقَعِ الْقَبْضُ، فَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: يَلْزَمُ الرَّهْنُ بِالْعَقْدِ، وَيُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى دَفْعِ الرَّهْنِ لِيَحُوزَهُ الْمُرْتَهِنُ، فَالْقَبْضُ عِنْدَ مَالِكٍ شَرْطٌ فِي كَمَالِ فَائِدَتِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ.
743
وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِمْرَارِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا رَدَّهُ بِعَارِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بَطَلَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رَدَّهُ بِعَارِيَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ لَمْ يَبْطُلْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ مُطْلَقًا.
وَالظَّاهِرُ مِنِ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ ذَاتًا مُتَقَوِّمَةً يَصِحُّ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا، وَيَتَهَيَّأُ فِيهَا الْقَبْضُ أَوِ التَّخْلِيَةُ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجُوزُ رَهْنُ مَا فِي الذِّمَّةِ. وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ:
يَجُوزُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْغَرَرِ، مِثْلُ: الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالْأَجِنَّةِ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي رَهْنِ الْمَشَاعِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ فِيمَا يُقَسَّمُ وَفِيمَا لَا يُقَسَّمُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يَجُوزُ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا يُقَسَّمُ.
وَمَعْنَى: عَلَى سَفَرٍ، أَيْ: مُسَافِرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ.
وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: وَلَمْ تَجِدُوا، أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نصب. ويحتمل أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى خَبَرِ كَانَ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، وَارْتِفَاعُ: فَرِهَانٌ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَالْوَثِيقَةُ رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ.
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أَيْ: إِنْ وَثِقَ رَبُّ الدَّيْنِ بِأَمَانَةِ الْغَرِيمِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا إِشْهَادٍ وَلَا رَهْنٍ، فَلْيُؤَدِّ الْغَرِيمُ أَمَانَتَهُ، أَيْ مَا ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَإِنْ أُومِنَ، رُبَاعِيًّا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: آمَنَهُ النَّاسُ، هَكَذَا نَقَلَ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ أَبِيِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَقَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَإِنِ ائْتَمَنَ، افْتَعَلَ مِنَ الْأَمْنِ، أَيْ: وَثَقَ بِلَا وَثِيقَةِ صَكٍّ، وَلَا رَهْنٍ.
وَالضَّمِيرُ فِي: أَمَانَتَهُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى رَبِّ الدَّيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الَّذِي اؤْتُمِنَ. وَالْأَمَانَةُ: هُوَ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَلْيُؤَدِّ دَيْنَ أَمَانَتِهِ. وَاللَّامُ فِي: فَلْيُؤَدِّ، لِلْأَمْرِ، وَهُوَ لِلْوُجُوبِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الدُّيُونِ، وَثُبُوتِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ وَجَبْرِهِ الْغُرَمَاءَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ هَمْزَةِ: فَلْيُؤَدِّ، وَاوًا نَحْوُ: يُوَجَلُ وَيُوَخَّرُ وَيُوَاخَذُ، لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا.
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: الَّذِي اؤْتُمِنَ، بِرَفْعِ الْأَلِفِ، وَيُشِيرُ بِالضَّمَّةِ إِلَى الْهَمْزَةِ.
744
قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ غَلَطٌ. وَرَوَى سُلَيْمٌ عَنْ حَمْزَةَ إِشْمَامَ الْهَمْزَةِ الضَّمَّ، وَفِي الْإِشَارَةِ وَالْإِشْمَامِ الْمَذْكُورَيْنِ نَظَرٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَوَرْشٌ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً، كَمَا أُبْدِلَتْ فِي بِئْرٍ وَذِئْبٍ، وَأَصْلُ هَذَا الْفِعْلِ: أُؤْتُمِنَ، بِهَمْزَتَيْنِ: الْأُولَى هَمْزَةُ الْوَصْلِ، وَهِيَ مَضْمُومَةٌ. والثاني: فَاءُ الْكَلِمَةِ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ، فَتُبَدَلُ هَذِهِ وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا، وَلِاسْتِثْقَالِ اجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ، فَإِذَا اتَّصَلَتِ الْكَلِمَةُ بِمَا قَبْلَهَا رَجَعَتِ الْوَاوُ إِلَى أَصْلِهَا مِنَ الْهَمْزَةِ، لِزَوَالِ مَا أَوْجَبَ إِبْدَالَهَا. وَهِيَ هَمْزَةُ الْوَصْلِ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ جَازَ إِبْدَالُهَا يَاءً لِذَلِكَ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي شَاذِّهِ: الِلَّذِتُّمِنَ، بِإِدْغَامِ التَّاءِ الْمُبَدَلَةِ مِنَ الْهَمْزَةِ قِيَاسًا عَلَى: اتَّسَرَ، فِي الِافْتِعَالِ مِنَ الْيُسْرِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لأن التاء منقلبة عَنِ الْهَمْزَةِ فِي حُكْمِ الْهَمْزَةِ، وَاتَّزَرَ عَامِّيٌّ، وَكَذَلِكَ رُيَّا فِي رُؤْيَا. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وأن اترز عَامِّيٌّ يَعْنِي: أَنَّهُ مِنْ إِحْدَاثِ الْعَامَّةِ، لَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ، قَدْ ذَكَّرَهُ غَيْرُهُ، أَنَّ بَعْضَهُمْ أَبَدَلَ وَأَدْغَمَ، فَقَالَ: اتَّمَنَ وَاتَّزَرَ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ رُيَّا فِي رُؤْيَا، فَهَذَا التَّشْبِيهُ إِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى قَوْلِهِ: واتزر عَامِّيٌّ، فَيَكُونُ إِدْغَامُ رُيَّا عَامِّيًّا. وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، أَيْ:
وَكَذَلِكَ إِدْغَامُ: رُيَّا، لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَدْ حَكَى الْإِدْغَامَ فِي رُيَّا الْكِسَائِيُّ.
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أَيْ عَذَابَ اللَّهِ فِي أَدَاءِ مَا ائْتَمَنَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَجَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: اللَّهَ رَبَّهُ، تَأْكِيدًا لْأَمْرِ التَّقْوَى فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ كَمَا جَمَعَهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فَأَمَرَ بِالتَّقْوَى حِينَ الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ، وَحِينَ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الدَّيْنِ، فَاكْتَنَفَهُ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى حِينَ الْأَخْذِ وَحِينَ الْوَفَاءِ.
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ هَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، أَلَا تَرَى إِلَى الْوَعِيدِ لِمَنْ كَتَمَهَا؟ وَمَوْضِعُ النَّهْيِ حَيْثُ يَخَافُ الشَّاهِدُ ضَيَاعَ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ حَيْثُ مَا اسْتُشْهِدَ، وَيُخْبِرَ حَيْثُ مَا اسْتُخْبِرَ. وَلَا تَقُلْ: أَخْبِرْ بِهَا عَنِ الْأَمِيرِ، بَلْ أَخْبِرْهُ بِهَا لَعَلَّهُ يَرْجِعُ وَيَرْعَوِي.
وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: وَلَا يَكْتُمُوا، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.
وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ كَتْمُ الشَّهَادَةِ هُوَ إِخْفَاؤُهَا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَائِهَا، وَالْكَتْمُ
745
مِنْ مَعَاصِي الْقَلْبِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِلْمٌ قَامَ بِالْقَلْبِ، فَلِذَلِكَ عَلَّقَ الْإِثْمَ بِهِ. وَهُوَ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ: (أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ). وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْجَارِحَةِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا أَبْلَغُ وَآكَدُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: أَبْصَرَتْهُ عَيْنِي؟ وَسَمِعَتْهُ أُذُنِي؟ وَوَعَاهُ قَلْبِي؟ فَأُسْنِدَ الْإِثْمُ إِلَى الْقَلْبِ إِذْ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْإِثْمِ، وَمَكَانُ اقْتِرَافِهِ، وَعَنْهُ يُتَرْجِمُ اللِّسَانُ. وَلِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ الْكِتْمَانَ مِنَ الْآثَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَأَفْعَالُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ أَفْعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَهِيَ لَهَا كَالْأُصُولِ الَّتِي تَتَشَعَّبُ مِنْهَا، لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: آثِمٌ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: أَثِمَ قَلْبُهُ، وَ: قَلْبُهُ، مَرْفُوعٌ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَ: آثِمٌ، خَبَرُ: إِنَّ، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ:
آثِمٌ، خَبَرًا مُقَدَّمًا، وَ: قَلْبُهُ، مُبْتَدَأٌ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ: إِنَّ، وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُجِيزُهُ الْكُوفِيُّونَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَعْنِي: آثم ابتداء وقلبه فَاعِلٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى أَدَاةِ نَفْيٍ وَلَا أَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ، نَحْوُ: أقائم الزيدان؟ وأ قائم الزَّيْدُونَ؟ وَمَا قَائِمٌ الزَّيْدَانِ؟ لَكِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ، إِذْ يُجِيزُ: قَائِمٌ الزَّيْدَانِ؟ فَيَرْفَعُ الزَّيْدَانِ بَاسِمِ الْفَاعِلِ دُونَ اعْتِمَادٍ عَلَى أَدَاةِ نَفْيٍ وَلَا اسْتِفْهَامٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ:
قَلْبُهُ، بَدَلًا عَلَى بَدَلِ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، يَعْنِي: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَكِنِ فِي: آثِمٌ، وَالْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ.
وَقَرَأَ قَوْمٌ: قَلْبَهُ، بِالنَّصْبِ، ونسبها ابن عطية إلى ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ. وَقَالَ: قَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ عَلَى التَّفْسِيرِ يَعْنِي التَّمْيِيزَ، ثُمَّ ضُعِّفَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَعْرِفَةٌ. وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَ مَجِيءَ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً. وَقَدْ خَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهِهِ، وَمَثَلِهِ مَا أَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَاتِهَا مُدَارَةَ الْأَخْفَافِ مُجْمَرَاتِهَا
غلب الدفار وعفريناتها كَوْمُ الذُّرَى وَادِقَّةُ سِرَاتِهَا
وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ جَائِزٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ مَمْنُوعٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ جَائِزٌ فِي الشِّعْرِ لَا فِي الْكَلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ اسْمِ إِنَّ بدل بعض من كل، وَلَا مُبَالَاةَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ بِالْخَبَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَقَدْ فَصَلُوا
746
بِالْخَبَرِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، نَحْوُ: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ الْعَاقِلُ، نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْعَامِلَ فِي النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتَ وَاحِدٌ، فَأَحْرَى فِي الْبَدَلِ، لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ هُوَ غَيْرُ الْعَامِلِ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ.
وَنَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ ابْنَ أَبِي عَبْلَةَ قَرَأَ: أَثَمَ قَلْبَهُ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ وَالْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الثَّاءِ، جعله فعلا ماضيا. وقلبه بِفَتْحِ الْبَاءِ نَصْبًا عَلَى المفعول بأثم، أَيْ: جَعَلَهُ آثِمًا.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ بِمَا تَعْمَلُونَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا عَلَى وَجْهِهَا. وَفِي الْجُمْلَةِ تَوَعُّدٌ شَدِيدٌ لِكَاتِمِ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمُجَازَاةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْعِلْمِ يَعُمُّ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ.
وَقَرَأَ السَّلْمِيُّ: بِمَا يَعْمَلُونَ، بِالْيَاءِ جَرْيًا عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَلَا يَكْتُمُوا، بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ.
التَّجْنِيسَ الْمُغَايِرَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَفِي قَوْلِهِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ. وَفِي قَوْلِهِ: اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ.
والتجنيس الممائل فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا.
وَالتَّأْكِيدَ في قوله: تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، وَفِي قَوْلِهِ: وليكتب بينكم كاتب، إِذْ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ:
تَدَايَنْتُمْ، قَوْلُهُ: بِدَيْنٍ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، قَوْلُهُ: كَاتِبٌ.
وَالطِّبَاقَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ، لِأَنَّ الضَّلَالَ هُنَا بِمَعْنَى النِّسْيَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا.
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ.
وَالِاخْتِصَاصُ فِي قَوْلِهِ: كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ، وَفِي قوله:
أقسط عند الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ.
وَالتَّكْرَارَ فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وليكتب، وأن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، فَلْيَكْتُبْ، وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ، وفي قوله: فليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. كَرَّرَ الْحَقَّ لِلدُّعَاءِ
747
إِلَى اتِّبَاعِهِ، وَأَتَى بِلَفْظَةِ عَلَى لِلْإِعْلَامِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا وَاسْتِعْلَاءً، وَفِي قَوْلِهِ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. وَفِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ.
وَالْحَذْفَ فِي قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، حَذَفَ مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: مُسَمًّى، أَيْ بَيْنِكُمْ فَلْيَكْتُبِ الْكَاتِبُ، أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَةَ وَالْخَطَّ، فَلْيَكْتُبْ كِتَابَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فِي إِمْلَائِهِ سَفِيهًا فِي الرَّأْيِ أَوْ ضَعِيفًا فِي الْبَيِّنَةِ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمَلَّ هُوَ لَخَرَسٍ أَوْ بُكْمٍ فَلْيَمْلَلِ الدَّينَ وَلِيُّهُ عَلَى الْكَاتِبِ، وَاسْتَشْهِدُوا إِذَا تَعَامَلْتُمْ مِنْ رِجَالِكُمُ الْمُعَيَّنِينَ لِلشَّهَادَةِ الْمَرَضِيِّينَ، فَرَجُلٌ مَرْضِيٌّ وَامْرَأَتَانِ مَرْضِيَّتَانِ مِنَ الشُّهَدَاءِ الْمَرْضِيِّينَ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى الشَّهَادَةَ، وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ مِنْ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ أَدَائِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ إِذَا مَا دُعُوا أَيْ دُعَائِهِمْ صَاحِبَ الْحَقِّ لِلتَّحَمُّلِ، أَوْ لِلْأَدَاءِ إِلَى أَجَلِهِ الْمَضْرُوبِ بَيْنَكُمْ، ذَلِكُمُ الْكِتَابُ أَقْسَطُ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ الْمَرَضِيَّةِ أَنْ لَا تَرْتَابُوا فِي الشَّهَادَةِ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ، وَلَا تَحْتَاجُونَ إِلَى الْكُتُبِ وَالْإِشْهَادِ فِيهَا، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ شَاهِدَيْنِ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ أَيْ صَاحِبِ الْحَقِّ، أَوْ: لَا يُضَارُّ صَاحِبُ الْحَقِّ كَاتِبًا وَلَا شَهِيدًا، ثُمَّ حُذِفَ وَبُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، وَأَنْ تَفْعَلُوا الضَّرَرَ، وَاتَّقَوْا عَذَابَ اللَّهِ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ الصَّوَابَ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَبِيلِ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا يُتَوَثَّقُ بِكِتَابَتِهِ، فَالْوَثِيقَةُ رَهْنٌ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَأَعْطَاهُ مَالًا بِلَا إِشْهَادٍ وَلَا رَهْنٍ أَمَانَتَهُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ وَلَا مَطَلٍ، وَلْيَتَّقِ عَذَابَ اللَّهِ، وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ عَنْ طَالِبِهَا.
وَتَلْوِينَ الْخِطَابِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى الْغَيْبَةِ، فِي قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ، وَلْيَكْتُبْ، وَمِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ، وَأَشْهِدُوا. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ:
وَلَا يُضَارَّ، ثُمَّ إِلَى الْحُضُورِ بقوله: ولا تكمتوا الشَّهَادَةَ، ثُمَّ إِلَى الْغَيْبَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْتُمْهَا، ثُمَّ إِلَى الْحُضُورِ بِقَوْلِهِ: بِمَا تَعْمَلُونَ.
وَالْعُدُولُ مِنْ فَاعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ، فِي قَوْلِهِ: شَهِيدَيْنِ، وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ.
وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَكْتُبْ، وَلْيُمْلِلِ، أَوِ الْإِمْلَالُ، بِتَقْدِيمِ الْكِتَابَةِ قَبْلُ، وَمِنْ ذَلِكَ: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، التَّقْدِيرُ وَاسْتَشْهِدُوا مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، وَمِنْهُ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ.
انْتَهَى مَا لَخَّصْنَاهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ. وَفِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَا لَا يَخْفَى: مِنَ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ لِلْمُتَدَايِنِينَ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِلْكَاتِبِ
748
بِالْكِتَابَةِ بِالْعَدْلِ، وَمِنَ النَّهْيِ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَمِنْ أَمْرِهِ ثَانِيًا بِالْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِمْلَالِ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ لِوَلِيِّهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِشْهَادِ، وَمِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي مَنْ يَشْهَدُ وَفِي وَصْفِهِ، وَمِنَ النَّهْيِ لِلشُّهُودِ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنَ الشَّهَادَةِ إِذَا مَا دُعُوا إِلَيْهَا، وَمِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمَلَلِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا، وَمِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الضَّبْطِ بِالْكِتَابَةِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ التَّبَايُعِ، وَمِنَ النَّهْيِ لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ عَنْ ضِرَارِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ وَيَكْتُبُ، ومن التنبيه على أن الضِّرَارَ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ فُسُوقٌ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَمِنَ الْإِذْكَارِ بِنِعْمَةِ التَّعَلُّمِ، وَمِنَ التَّهْدِيدِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنِ الِاسْتِيثَاقِ فِي السَّفَرِ وَعَدَمِ الْكَاتِبِ بِالرَّهْنِ الْمَقْبُوضِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِأَدَاءِ أَمَانَةِ مَنْ لَمْ يَسْتَوْثِقْ بِكَاتِبٍ وَشَاهِدٍ وَرَهْنٍ، وَمِنَ الْأَمْرِ لِمَنِ اسْتَوْثَقَ بِتَقْوَى اللَّهِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالْأَمَانَةِ، وَمِنَ النَّهْيِ عَنْ كَتْمِ الشَّهَادَةِ، وَمِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنْ كَاتَمَهَا مُرْتَكِبُ الْإِثْمِ، وَمِنَ التَّهْدِيدِ آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَصِيَانَتِهَا عَنِ الضَّيَاعِ، وَقَدْ قَرَنَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالنُّفُوسِ وَالدِّمَاءِ،
فَقَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
وَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ»
. وَلِصِيَانَتِهَا وَالْمَنْعِ مِنْ إِضَاعَتِهَا، وَمِنَ التَّبْذِيرِ فِيهَا كَانَ حَجْرُ الْإِفْلَاسِ، وَحَجْرُ الْجُنُونِ، وَحَجْرُ الصِّغَرِ، وَحَجْرُ الرِّقِّ، وَحَجْرُ الْمَرَضِ، وَحَجْرُ الِارْتِدَادِ.
لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَإِقَامَتِهَا، وَرَوَاهُ مُجَاهِدٌ وَمُقْسِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ مُقَاتِلٌ، وَالْوَاقِدِيُّ: نَزَلَتْ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمُنَاسَبَتُهَا ظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَتَمَ الشَّهَادَةَ فَإِنَّ قَلْبَهُ آثِمٌ، ذَكَرَ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، فَكَتَمَهُ أَوْ أَبْدَاهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُ بِهِ، فَفِيهِ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ كَتَمَ الشَّهَادَةَ، وَلَمَّا عَلَّقَ الْإِثْمَ بِالْقَلْبِ ذَكَرَ هُنَا الْأَنْفُسَ، فَقَالَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَنَاسَبَ ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ خَاتِمَةً لِهَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى ضَمَّنَهَا أَكْثَرَ عِلْمِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مِنْ: دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَالْمَعَادِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَيْضِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْخُلْعِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالرَّضَاعَةِ، وَالرِّبَا، وَالْبَيْعِ، وَكَيْفِيَّةِ الْمُدَايَنَةِ. فَنَاسَبَ تَكْلِيفُهُ إِيَّانَا بِهَذِهِ الشَّرَائِعِ أَنْ يَذَكَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكٌ لما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ يُلْزِمُ مَنْ شَاءَ مِنْ مَمْلُوكَاتِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ تَعَبُّدَاتِهِ وَتَكْلِيفَاتِهِ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ مَحَلَّ اعْتِقَادِهَا إِنَّمَا هُوَ الْأَنْفَسُ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنَ
749
النِّيَّاتِ، وَثَوَابَ مُلْتَزِمِهَا وَعِقَابَ تَارِكِهَا إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، نَبَّهَ عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ الَّتِي بِهَا تَقَعُ الْمُحَاسَبَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَصِفَةُ الْمُلْكِ تَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَذِكْرُ الْمُحَاسَبَةِ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِالْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ، فَحَصَلَ بِذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ غَايَةُ الْوَعْدِ لِلْمُطِيعِينَ، وَغَايَةُ الْوَعِيدِ لِلْعَاصِينَ.
وَالظَّاهِرُ فِي: اللَّامُ، أَنَّهَا لِلْمُلْكِ، وَكَانَ مَلِكًا لَهُ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُنْشِئُ لَهُ، الْخَالِقُ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِلَّهِ تَدْبِيرُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَخَصَّ السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا يُرَى مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدَّمَ السموات لِعِظَمِهَا، وَجَاءَ بِلَفْظِ: مَا، تَغْلِيبًا لِمَا لَا يَعْقِلُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا حَوَتْهُ إِنَّمَا هُوَ جَمَادٌ وَحَيَوَانٌ، لَا يَعْقِلُ، وَأَجْنَاسُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْعَاقِلُ فَأَجْنَاسُهُ قَلِيلَةٌ إِذْ هِيَ ثَلَاثَةٌ: إِنْسٌ وَجِنٌّ وَمَلَائِكَةٌ.
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ظَاهِرُ: مَا، الْعُمُومُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَالَتَيْنِ مِنَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِبْدَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ إِبْدَاءً وَإِخْفَاءً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ لَا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ نَاشِئًا عَنْ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ، بَلْ هُوَ سَابِقٌ بِعِلْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ الْإِيجَادِ، وَبَعْدَ الْإِيجَادِ، وَبَعْدَ الْإِعْدَامِ. بِخِلَافِ عِلْمِ الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ إِلَّا بَعْدَ إِيجَادِهِ، فَعِلْمُهُ مُحَدَّثٌ. وَقَدْ خُصِّصَ هَذَا الْعُمُومُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةٍ، أَعْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكَاتِمَ لَهَا الْمَخْفِي مَا فِي نَفْسِهِ مُحَاسَبٌ، وَقِيلَ: مِنَ الِاحْتِيَالِ لِلرِّبَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُ بِمَا تَجْنِ الْقُلُوبُ، قَوْلُهُ:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ «١».
وَبَعْدُ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْجَهْلَ أَفْعَالُ الْقَلْبِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: بَيَّنَ أَنَّ أَفْعَالَ الْقُلُوبِ كَأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ فِي أَنَّ الْوَعِيدَ يَتَنَاوَلُهَا، وَيَعْنِي مَا يَلْزَمُ إِظْهَارُهُ إِذَا خَفِيَ، وَمَا يلزم كتماته إِذَا ظَهَرَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُقُوقُ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ مَا يَخْطُرُ بِالْقَلْبِ مِمَّا قَدْ رَفَعَ فِيهِ الْمَأْثَمَ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِلَى مَا يَهْجِسُ فِي النَّفْسِ أَشَارَ، وَاللَّهُ أَعْلَمَ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوُزَ لِأُمَّتَي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا وَلَمْ تَعْمَلْ بِهِ وَتَكَلُّمْ»
وَقَالَ: «إِنْ تُظْهِرُوا الْعَمَلَ أَوْ تسروه».
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٥. [.....]
750
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يُحَاسِبُ عِبَادَهُ عَلَى مَا يُخْفُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَعَلَى مَا يُبْدُونَهُ، فَيَغْفِرُ لِلْمُسْتَحِقِّ وَيُعَذِّبُ الْمُسْتَحِقَّ. وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ يُسْتَحَقَّانِ بِالْعَزْمِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ إِذَا كَانَتْ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ السُّوءِ وَهَذَا حَسَنٌ لِأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ذِكْرُ الْغُفْرَانِ وَالتَّعْذِيبِ، لَكِنْ ذَيَّلَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، لِمَنِ اسْتَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا أُظْهِرَ مِنْهُ، أَوْ أُضْمِرَ. وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مَنِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ بِالْإِصْرَارِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْغُفْرَانَ قَدْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَتُبْ، فَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «١».
ثُمَّ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ الْوَسْوَاسُ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الْخُلُوُّ مِنْهُ، وَلَكِنْ مَا اعْتَقَدَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ تَلَاهَا فَقَالَ: لَئِنْ أَخَذَنَا اللَّهُ بِهَذَا لَنَهْلَكَنَّ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشَجُهُ، فَذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَدْ وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا مِثْلَ مَا وَجَدَ، فَنَزَلَ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي أَنْفُسِكُمْ، يَقْتَضِي قُوَّةَ اللَّفْظِ أَنَّهُ مَا تَقَرَّرَ فِي النَّفْسِ وَاعْتُقِدَ وَاسْتَصْحَبَ الْفِكْرَ فِيهِ، وَأَمَّا الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا فَلَيْسَتْ فِي النَّفْسِ إِلَّا عَلَى تَجَوُّزٍ.
انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ هَذَا تَخْصِيصًا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْوَسْوَسَةَ وَالْهَوَاجِسَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ: مَا، فِي قَوْلِهِ: مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُحَكَمَةٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا وَمَا لَمْ يَعْمَلُوا مِمَّا ثَبَتَ فِي نُفُوسِهِمْ وَنَوُوهُ وَأَرَادُوهُ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَأْخُذُ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَقِيلَ:
الْعَذَابُ الَّذِي يَكُونُ جَزَاءً لِلْخَوَاطِرِ هُوَ مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَآلَامُهَا وَسَائِرُ مَكَارِهِهَا. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عَائِشَةَ.
وَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْخَوَاطِرُ، أَشْفَقَ الصَّحَابَةُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ ما أراد
(١) سورة النساء: ٢/ ٤٨ و ١١٦.
751
بِهَا وَخَصَّصَهَا، وَنَصَّ عَلَى حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَالْخَوَاطِرُ لَيْسَ دَفْعُهَا فِي الْوُسْعِ، وَكَانَ فِي هَذَا فَرَجُهُمْ وَكَشْفُ كَرْبِهِمْ.
وَالْآيَةُ خَبَرٌ، وَالنَّسْخُ لَا يُدْخَلُ الْأَخْبَارَ، وَانْجَزَمَ: يُحَاسِبُكُمْ، عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالْمُحَاسَبَةِ إِذْ مِنْ جُمْلَةِ تَفَاسِيرِ الْحَسِيبِ: الْعَالِمُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَقِيلَ: الْجَزَاءُ مَشْرُوطٌ بِالْمَشِيئَةِ أَوْ بِعَدَمِ الْمُحَاسَبَةِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يُحَاسِبُكُمْ إِنْ شَاءَ أَوْ يُحَاسِبُكُمْ إِنْ لَمْ يَسْمَحْ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَزِيدُ، وَيَعْقُوبُ، وَسَهْلٌ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ، بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْقَطْعِ، وَيَجُوزُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
وَالْآخَرُ: أَنْ يُعْطَفَ جُمْلَةٌ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى الْجَوَابِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو حَيْوَةَ بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى إِضْمَارِ: إِنْ، فَيَنْسَبِكُ مِنْهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مِنَ الْحِسَابِ، تَقْدِيرُهُ: يَكُنْ مُحَاسَبَةٌ فَمَغْفِرَةٌ وَتَعْذِيبٌ، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ قَدْ جَاءَتْ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ
ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سَنَامُ
يُرْوَى بِجَزْمِ: وَنَأْخُذُ، وَرَفْعِهِ وَنَصْبِهِ. وَقَرَأَ الْجَعْفِيُّ، وَخَلَّادٌ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: يُغْفَرُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُرْوَى أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: هِيَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ:
يُحَاسِبُكُمْ، فَهِيَ تَفْسِيرٌ لِلْمُحَاسَبَةِ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، بَلْ هُمَا مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ، وَمِثَالُ الْجَزْمِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْجَزَاءِ قَوْلُهُ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «١».
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى هَذَا الْبَدَلِ التَّفْصِيلُ لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ التَّفْصِيلَ أَوْضَحُ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، أَوْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأَسَهُ. وَأُحِبُّ زَيْدًا عَقْلَهَ، وَهَذَا الْبَدَلُ وَاقِعٌ فِي الْأَفْعَالِ وُقُوعِهِ فِي الْأَسْمَاءِ لِحَاجَةِ الْقَبِيلَيْنِ إِلَى الْبَيَانِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ بَعْضُ مناقشة.
أَوَّلًا: فَلِقَوْلِهِ: وَمَعْنَى هَذَا الْبَدَلِ التَّفْصِيلُ لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، وليس الغفران والعذاب
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٨.
752
تَفْصِيلًا لِجُمْلَةِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا هُوَ تِعْدَادُ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَحُصْرِهَا، بِحَيْثُ لَا يَشُذُّ شَيْءٌ مِنْهَا، وَالْغُفْرَانُ وَالْعَذَابُ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْمُحَاسَبَةِ، فَلَيْسَتِ الْمُحَاسَبَةُ تَفْصِلُ الْغُفْرَانِ وَالْعَذَابِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِقَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَدَلَ الْبَعْضِ وَالْكُلِّ، وَبَدَلَ الِاشْتِمَالِ: هَذَا الْبَدَلُ وُقُوعُهُ فِي الْأَسْمَاءِ لِحَاجَةِ الْقَبِيلَيْنِ إِلَى الْبَيَانِ. أَمَّا بَدَلُ الِاشْتِمَالِ فَهُوَ يُمْكِنُ، وَقَدْ جَاءَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِمَا هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ يَكُونُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّفْيُ انْتَفَتْ جَمِيعُ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَأَمَّا بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ فَلَا يُمْكِنُ فِي الْفِعْلِ، إِذِ الْفِعْلُ لَا يَقْبَلُ التَّجَزِي، فَلَا يُقَالُ فِي الْفِعْلِ: لَهُ كُلٌّ وَبَعْضٌ إِلًّا بِمَجَازٍ بَعِيدٍ، فَلَيْسَ كَالِاسْمِ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ بَدَلِ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، إِذِ الْبَارِي تَعَالَى وَاحِدٌ فَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَبَعَّضُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَدْ ذَكَرَ قِرَاءَةَ الْجَزْمِ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَقْرَأُ الْجَازِمُ؟.
قُلْتُ: يُظْهَرُ الرَّاءَ وَيُدْغِمُ الْبَاءَ، وَمُدْغِمُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ لَاحِنٌ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا، وَرَاوِيهِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُخْطِئٌ مَرَّتَيْنِ، لِأَنَّهُ يُلْحِنُ وَيَنْسُبُ إِلَى أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا يُؤْذِنُ بِجَهْلٍ عَظِيمٍ، وَالسَّبَبُ فِي نَحْوِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قِلَّةُ ضَبْطِ الرُّوَاةِ، وَالسَّبَبُ فِي قِلَّةِ الضَّبْطِ قِلَّةُ الدِّرَايَةِ، وَلَا يَضْبُطُ نَحْوَ هَذَا إِلَّا أَهْلُ النَّحْوِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَذَلِكَ عَلَى عَادَتِهِ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْقُرَّاءِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَ أَنَّ مُدْغِمُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ لَاحِنٌ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا إِلَى آخِرِهِ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا النَّحْوِيُّونَ، فَذَهَبَ الْخَلِيلُ، وَسِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الرَّاءِ فِي اللَّامِ مِنْ أَجْلِ التَّكْرِيرِ الَّذِي فِيهَا، وَلَا فِي النُّونِ. قَالَ أبو سعيد. ولانعلم أَحَدًا خَالَفَهُ إِلَّا يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيُّ، وَإِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَأَنَّهُ كَانَ يُدْغِمُ الرَّاءَ فِي اللَّامِ مُتَحَرِّكَةٌ مُتَحَرِّكًا مَا قَبْلَهَا، نَحْوُ: يَغْفِرُ لِمَنْ «١» الْعُمُرِ لِكَيْلا «٢» وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ «٣» فَإِنَّ سَكَنَ مَا قَبْلَ الرَّاءِ أَدْغَمَهَا فِي اللَّامِ فِي مَوْضِعِ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ، نَحْوُ الْأَنْهارُ لَهُمْ «٤» والنَّارُ لِيَجْزِيَ «٥» فَإِنِ انْفَتَحَتْ وَكَانَ ما قبلها حرف مدولين أو غيره لم
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٨٤، وآل عمران: ٣/ ١٢٩ والمائدة: ٤/ ١٨ و ٤٠. والفتح: ٤٨/ ١٤.
(٢) سورة الحج: ٢٢/ ٥.
(٣) سورة النساء: ٤/ ٦٤.
(٤) سورة النحل: ١٦/ ٣١.
(٥) سورة إبراهيم: ١٤/ ٥٠ و ٥١.
753
يَدْغِمْ نَحْوُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ «١» والْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ «٢» ولَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ «٣» وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها «٤» فَإِنْ سَكَنَتِ الرَّاءُ أَدْغَمَهَا فِي اللَّامِ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ إِلَّا مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِلَا خِلَافٍ عَنْهُ، عَنِ الْيَزِيدِيِّ، عَنْهُ: أَنَّهُ أَظْهَرَهَا، وَذَلِكَ إِذَا قَرَأَ بِإِظْهَارِ الْمِثْلَيْنِ، وَالْمُتَقَارِبَيْنِ الْمُتَحَرِّكَيْنِ لَا غَيْرَ، عَلَى أَنَّ الْمَعْمُولَ فِي مَذْهَبِهِ بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا عَلَى الْإِدْغَامِ نَحْوُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ انْتَهَى. وَأَجَازَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَحَكَيَاهُ سَمَاعًا، وَوَافَقَهُمَا عَلَى سَمَاعِهِ رِوَايَةً وَإِجَازَةً أَبُو جَعْفَرٍ الرَّوَاسِيُّ، وَهُوَ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ أَبُو عَمْرٍو عَلَى الْإِدْغَامِ رِوَايَةً وَإِجَازَةً، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَتَابَعَهُ يَعْقُوبُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ حَسَّانَ. وَالْإِدْغَامُ وَجْهٌ مِنَ الْقِيَاسِ، ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّكْمِيلِ لِشَرْحِ التَّسْهِيلِ) مِنْ تَأْلِيفِنَا، وَقَدِ اعْتَمَدَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْقُرَّاءِ مِنَ الْإِدْغَامِ الَّذِي مَنَعَهُ الْبَصْرِيُّونَ يَكُونُ ذَلِكَ إِخْفَاءً لَا إِدْغَامًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْقُرَّاءِ أَنَّهُمْ غَلَطُوا، وَمَا ضَبَطُوا، وَلَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْإِخْفَاءِ وَالْإِدْغَامِ، وَعَقْدَ هَذَا الرَّجُلُ بَابًا قَالَ: هَذَا بَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ مَا أَدْغَمَتِ الْقُرَّاءُ مِمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِدْغَامُهُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ لَيْسَ مَحْصُورًا فِيمَا نَقَلَهُ البصريون فقط، والقراآت لَا تَجِيءُ عَلَى مَا عَلِمَهُ الْبَصْرِيُّونَ وَنَقَلُوهُ، بَلِ الْقُرَّاءُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَكَادُونَ يَكُونُونَ مِثْلَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى نَقْلِ إدغام الراء في اللام كَبِيرُ الْبَصْرِيِّينَ وَرَأْسُهُمْ: أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ. وَكُبَرَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ:
الرَّوَّاسِيُّ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَجَازُوهُ وَرَوُوهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى عِلْمِهِمْ وَنَقْلِهِمْ، إِذْ مَنْ عَلِمَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إِنَّ رَاوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُخْطِئٌ مَرَّتَيْنِ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ صَوَابٌ، وَالَّذِي رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ الرُّوَاةُ، وَمِنْهُمْ: أَبُو مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيُّ وَهُوَ إِمَامٌ فِي النَّحْوِ إِمَامٌ في القراآت إِمَامٌ فِي اللُّغَاتِ.
قَالَ النِّقَاشُ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَنْزَعُ عَنْهُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ إِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ الْعَظِيمَ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى الصَّغِيرِ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَقَالُوا: كَلَّفُوا أَمْرَ الْخَوَاطِرِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يطاق.
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٢١.
(٢) سورة الإنفطار: ٨٢/ ١٣، والمطففين: ٨٣/ ٢٢.
(٣) سورة فاطر: ٣٥/ ٢٩ و ٣٠.
(٤) سورة النحل: ١٦/ ٨.
754
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا غَيْرُ بَيِّنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الْخَوَاطِرِ تَأْوِيلًا تَأَوَّلَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ تَكْلِيفًا.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ وَالتَّعْذِيبَ لِمَنْ يَشَاءُ، عَقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْقُدْرَةِ، إِذْ مَا ذُكِرَ جُزْءٌ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْقُدْرَةِ.
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ أَشْفَقُوا مِنْهَا، ثُمَّ تَقَرَّرَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا «١» فَرَجَعُوا إِلَى التَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَقَدَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رِفْقِهِ بِهِمْ، وَكَشْفِهِ لِذَلِكَ الْكَرْبِ الَّذِي أَوْجَبَهُ تَأْوِلَهُمْ، فَجَمَعَ لَهُمْ تَعَالَى التَّشْرِيفَ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَرَفَعِ الْمَشَقَّةَ فِي أَمَرِ الْخَوَاطِرِ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الطَّاعَةِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا جَرَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ: ذَمِّهِمْ وَتَحْمِيلِهِمُ الْمَشَقَّاتِ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْجَلَاءِ، إِذْ قالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا «٢» وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مَنْ نِقَمِهِ. انْتَهَى هَذَا، وَهُوَ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ.
وَظَهَرَ بِسَبَبِ النُّزُولِ مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، وَلِمَا كَانَ مُفْتَتَحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَأَنَّهُ هَدًى لِلْمُتَّقِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ، كَانَ مُخْتَتَمُهَا أَيْضًا مُوَافِقًا لِمُفْتَتَحِهَا.
وَقَدْ تَتَبَّعْتُ أَوَائِلَ السُّوَرِ الْمُطَوَّلَةِ فَوَجَدْتُهَا يُنَاسِبُهَا أَوَاخِرُهَا، بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَنْخَرِمُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَسَأُبَيِّنُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي آخِرِ كُلِّ سُورَةٍ سُورَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَبْدَعِ الْفَصَاحَةِ، حَيْثُ يَتَلَاقَى آخِرُ الْكَلَامِ الْمُفْرِطُ فِي الطُّولِ بِأَوَّلِهِ، وَهِيَ عَادَةٌ لِلْعَرَبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُظُمِهِمْ، يَكُونُ أَحَدُهُمْ آخِذًا فِي شَيْءٍ، ثُمَّ يَسْتَطْرِدُ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ إِلَى آخَرَ، هَكَذَا طَوِيلًا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مَا كَانَ آخِذًا فِيهِ أَوَّلًا. وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ سَهَلَ عَلَيْهِ مُنَاسَبَةُ مَا يَظْهَرُ ببادئ النظم أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: آمَنَ الرَّسُولُ
قَالَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمَا جِبْرِيلُ، وَسَمِعَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَالْبَقَرَةُ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا هاتين الآيتين.
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٨٥ والنساء: ٤/ ٤٦.
(٢) سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢/ ٩٣.
755
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ: إِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِمَا بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي إِيمَانِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَهِدَ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالشَّكُّ فِيهِ شَكٌّ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الرَّسُولُ، هِيَ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَتُهُ مِنَ اللَّهِ بِهَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ، وَمَا أَنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: مِنَ الْعَقَائِدِ، وَأَنْوَاعِ الشَّرَائِعِ، وَأَقْسَامِ الْأَحْكَامِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي غَيْرِهِ. آمَنَ بِأَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَقَدَّمَ الرَّسُولَ لِأَنَّ إِيمَانَهُ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ وَإِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ إِيمَانِهِ، إِذْ هُوَ الْمَتْبُوعُ وَهُمُ التَّابِعُونَ فِي ذَلِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: «يَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ».
وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ، مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: الرَّسُولُ، وَيُؤَيِّدُهُ
قِرَاءَةُ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ: وَآمَنَ الْمُؤْمِنُونَ
، فَأَظْهَرَ الْفِعْلُ الَّذِي أَضْمَرَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ:
كُلٌّ، لِشُمُولِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّهِ، وَيَكُونُ:
الْمُؤْمِنُونَ، مُبْتَدَأً، وَ: كُلٌّ، مُبْتَدَأً ثَانٍ لِشُمُولِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً. وَ: آمَنَ بِاللَّهِ، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ: كُلٌّ، وَالْجُمْلَةُ، مِنْ: كُلٌّ وَخَبَرِهِ، فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّابِطُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ تَقْدِيرُهُ: كُلٌّ مِنْهُمْ آمَنَ، كَقَوْلِهِمُ:
السَّمْنُ مَنَوَانٌ بِدِرْهَمٍ، يُرِيدُونَ: مِنْهُ بِدِرْهَمٍ، وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ: التَّصْدِيقُ بِهِ، وَبِصِفَاتِهِ، وَرَفَضُ الْأَصْنَامِ، وَكُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ. وَالْإِيمَانُ بِمَلَائِكَتِهِ هُوَ اعْتِقَادُ وَجُودِهِمْ، وَأَنَّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ، وَرَفْضِ مُعْتَقَدَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِمْ، وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَضَمَّنَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من ذَلِكَ، وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُمْ لِعِبَادِهِ.
وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بالله هو الْمَرْتَبَةُ الْأَوْلَى، وَهِيَ الَّتِي يَسْتَبِدُّ بِهَا الْعَقْلُ إِذْ وجود الصانع يقربه كُلٌّ عَاقِلٍ، وَالْإِيمَانُ بِمَلَائِكَتِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ، لِأَنَّهُمْ كَالْوَسَائِطِ بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ، وَالْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ هُوَ الْوَحْيُ الَّذِي يَتَلَقَّنُهُ الْمَلَكُ مِنَ اللَّهِ، يُوصِلُهُ إِلَى الْبِشْرِ، هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ، وَالْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ يَقْتَبِسُونَ أَنْوَارَ الْوَحْيِ فَهُمْ مُتَأَخِّرُونَ فِي الدَّرَجَةِ عَنِ الْكُتُبِ، هِيَ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شيء من هَذَا
756
التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ «١» وَقِيلَ: الْكَلَامُ فِي عِرْفَانِ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَعُرْفَانِ الْخَيْرِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَاسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ بِالْعِلْمِ، وَالْقُوَّةِ العملية يفعل الخيرات، والأولى أشرف، فبدىء بِهَا، وَهُوَ: الْإِيمَانُ الْمَذْكُورُ، وَالثَّانِيَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَقِيلَ: لِلْإِنْسَانِ مَبْدَأٌ وَحَالٌ وَمَعَادٍ، فَالْإِيمَانُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَبْدَأِ، وَ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالِ، وَ: غُفْرَانَكَ، وَمَا بَعْدَهُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعَادِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: وَكِتَابِهِ، عَلَى التَّوْحِيدِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: وَكُتُبِهِ، عَلَى الْجَمْعِ.
فَمَنْ وَحَّدَ أَرَادَ كُلَّ مَكْتُوبٍ، سُمِّيَ الْمَفْعُولُ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِهِمْ: نَسْجُ الْيَمَنِ أَيْ: مَنْسُوجُهُ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْإِفْرَادَ لَيْسَ كَإِفْرَادِ الْمَصَادِرِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْكَثِيرُ، كَقَوْلِهِ وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً «٢» وَلَكِنَّهُ، كَمَا تُفْرَدُ الْأَسْمَاءَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ، نَحْوُ: كَثُرَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ، وَمَجِيئُهَا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَكْثَرُ مِنْ مَجِيئِهَا مُضَافَةً، وَمِنَ الْإِضَافَةِ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «٣»
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا»
. يُرَادُ بِهِ: الْكَثِيرُ، كَمَا يُرَادُ بِمَا فِيهِ لَامُ التَّعْرِيفِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَعُمُّ أَكْثَرَ مِنَ الْمُفْرَدِ الْمُضَافِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكِتِابِهِ، يُرِيدُ الْقُرْآنَ. أَوِ الْجِنْسَ، وَعَنْهُ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ الْوَاحِدُ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمْعِ؟.
قُلْتُ: لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِالْوَاحِدِ الْجِنْسُ، وَالْجِنْسِيَّةُ، قَائِمَةٌ فِي وَحَدَانِ الْجِنْسِ كُلِّهَا، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا الْجَمْعُ فَلَا يُدْخِلُ تَحْتَهُ إِلَّا مَا فِيهِ الْجِنْسِيَّةُ مِنَ الْجُمُوعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا أُضِيفَ أَوْ دَخَلَتْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ الْجِنْسِيَّةُ صَارَ عَامًّا، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ دَلَالَةٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ عَبِيدِي، يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ عَبْدٍ عَبْدٍ، وَدَلَالَةُ الْجَمْعِ أَظْهَرُ فِي الْعُمُومِ مِنَ الْوَاحِدِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَمِ الْإِضَافَةُ، بَلْ لَا يُذْهَبُ إِلَى الْعُمُومِ فِي الْوَاحِدِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ، كَأَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ يُوَصَفُ بِالْجَمْعِ، نَحْوُ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «٤» و: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ، أَوْ قَرِينَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ نَحْوُ: نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَقْصَى حَالِهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْجَمْعِ العام إذا
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٨٥، والنساء: ٤/ ٤٦. [.....]
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ١٤.
(٣) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣٤.
(٤) سورة العصر: ١٠٣/ ٢ و ٣.
757
أربد بِهِ الْعُمُومُ، وَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: آمَنَ، فَأُفْرِدَ كَقَوْلِهِ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ «١».
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: وَكُتْبِهِ وَرُسْلِهِ، بِإِسْكَانِ التَّاءِ وَالسِّينِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ نَافِعٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: وَرُسْلِهِ، بِإِسْكَانِ السِّينِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ.
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالنُّونِ، وَقَدَّرَهُ: يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَقُولُ لَا نُفَرِّقُ، لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ. وَعَنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ: يَقُولُ، على اللفظ، و: يقولون، عَلَى الْمَعْنَى بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَمَوْضِعُ هَذَا الْمُقَدَّرِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خبر لكل.
وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، وَيَعْقُوبُ، ونص رواة أبي عمرو: لا يُفَرِّقُ، بِالْيَاءِ عَلَى لَفْظِ: كُلٌّ.
قَالَ هَارُونُ: وَهِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يُفَرِّقُونَ، حُمِلَ عَلَى مَعْنَى:
كُلٌّ بَعْدَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَيْسُوا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ ظُهُورُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى وِفْقِ الدَّعْوَى فَاخْتِصَاصُ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ مُتَنَاقِضٌ، لَا مَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عَدَمُ التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ، وَ: أَحَدٍ، هُنَا هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالنَّفْيِ، وَمَا أَشْبَهَهُ؟ فَهِيَ لِلْعُمُومِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ: مِنْ، عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «٢» وَالْمَعْنَى بَيْنَ آحَادِهِمْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِيكَتْ دَوْكًا لَا يَرْهَبُونَ أَحَدًا رَأَوْكَا
قال بعضهم: وأحد، قِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى جَمِيعٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَيَبْعُدُ عِنْدِي هَذَا التَّقْدِيرُ، لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي كَوْنَهُمْ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ بَعْضِ الرُّسُلِ. والمقصود بالنفي هو هذا، لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مَا كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ كُلِّ الرُّسُلِ، بَلِ الْبَعْضُ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَاطِلٌ، بَلْ مَعْنَى الآية: لا يفرق أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي النُّبُوَّةِ. انْتَهَى. وفيه
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٤.
(٢) سورة الحاقة: ٦٩/ ٤٧.
758
بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَلَا يَعْنِي مَنْ فَسَّرَهَا: بِجَمِيعِ، أَوْ قَالَ: هِيَ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ، إِلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِهَا الْعُمُومَ نَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ، أَيْ: مَا قَامَ فَرْدٌ فَرْدٌ مِنَ الرِّجَالِ، مَثَلًا، وَلَا فَرْدٌ فَرْدٌ مِنَ النِّسَاءِ، لَا أَنَّهُ نَفَى الْقِيَامَ عَنِ الْجَمِيعِ، فَيَثْبُتُ لِبَعْضٍ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا حُذِفَ فِيهِ الْمَعْطُوفُ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ، فَيَكُونُ أحد هنا بمعنى واحد، لَا أَنَّهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْعُمُومِ فِي النَّفْيِ. وَمِنْ حَذْفِ الْمَعْطُوفِ:
سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أَيْ وَالْبَرْدَ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَمَا كَانَ بَيْنَ الْخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِمًا أبو حجر إلا ليال قَلَائِلُ
أَيْ: بَيْنَ الْخَيْرِ وَبَيْنِي، فَحَذَفَ، وَبَيْنِي، لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ.
وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ: سَمِعْنَا قَوْلَكَ وَأَطَعْنَا أَمْرَكَ، وَلَا يُرَادُ مُجَرَّدُ السَّمَاعِ، بَلِ الْقَبُولُ وَالْإِجَابَةُ. وَقَدَّمَ: سَمِعْنَا، عَلَى: وَأَطَعْنَا، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ طَرِيقُهُ السَّمْعُ، وَالطَّاعَةُ بَعْدَهُ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا هَذَا دَهْرَهَ.
غُفْرانَكَ رَبَّنا أَيْ: مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّكَ، أَوْ لِأَنَّ عِبَادَتَنَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِكَ تَقْصِيرٌ.
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إِقْرَارٌ بِالْمَعَادِ. أَيْ: وَإِلَى جَزَائِكَ الْمَرْجِعُ، وَانْتِصَابُ: غُفْرَانَكَ، عَلَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَعْمَلُ فِيهَا الْفِعْلُ مُضْمَرًا، التَّقْدِيرُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: اغْفِرْ لَنَا غُفْرَانَكَ، قَالَ السَّجَاوَنْدِيُّ: وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِلزَّجَّاجِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: غُفْرَانَكَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلِهِ، يُقَالُ: غُفْرَانَكَ لَا كُفْرَانَكَ، أَيْ: نَسْتَغْفِرُكَ وَلَا نَكْفُرُكَ. فَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: الْجُمْلَةُ طَلَبِيَّةٌ، وَعَلَى الثَّانِي: خَبَرِيَّةٌ.
وَاضْطَرَبَ قَوْلُ ابْنِ عُصْفُورٍ فِيهِ، فَمَرَّةٌ قَالَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَمَرَّةٌ قَالَ: هُوَ مَنْصُوبٌ يُلْتَزَمُ إِضْمَارُهُ. وَعَدَّهُ مَعَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَأَخَوَاتِهَا. وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ انْتِصَابَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ: نَطْلُبُ، أَوْ: نَسْأَلُ غُفْرَانَكَ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمُ الرَّفْعَ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، أَيْ: غُفْرَانُكَ بغيتنا.
والمصير: اسْمُ مَصْدَرٍ مَنْ صَارَ يَصِيرُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى: مَفْعِلٍ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي بِنَاءِ الْمَفْعِلِ مِمَّا عَيْنُهُ يَاءٌ نَحْوُ: يَبِيتُ، وَيَعِيشُ، وَيَحِيضُ، وَيَقِيلُ، وَيَصِيرُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ كَالصَّحِيحِ، نَحْوُ: يَضْرِبُ، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ بِالْفَتْحِ، يَكُونُ
759
لِلْمَصْدَرِ بِالْفَتْحِ، وَلِلْمَكَانِ وَالزَّمَانِ نَحْوُ: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً «١» أَيْ: عَيْشًا، فَيَكُونُ:
الْمَحِيضُ بِمَعْنَى الْحَيْضِ، وَالْمَصِيرُ بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ، عَلَى هَذَا شَاذًّا. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّخْيِيرِ فِي الْمَصْدَرِ بَيْنَ أَنْ تَبْنِيَهُ عَلَى مَفْعِلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، أَوْ: مَفْعَلٍ بِفَتْحِهَا، وَأَمَّا الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ فَبِالْكَسْرِ. ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الزَّجَّاجُ، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى السَّمَاعِ، فَحَيْثُ بَنَتِ الْعَرَبُ الْمَصْدَرَ عَلَى مَفْعِلٍ أو مَفْعِلٍ أَوْ مَفْعَلٍ اتَّبَعْنَاهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَحْوَطُ.
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ الْعِبَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ إِلَّا مَا هُوَ فِي وُسْعِ الْمُكَلَّفِ، وَمُقْتَضَى إِدْرَاكِهِ وَبِنِيَّتِهِ، وَانْجَلَى بِهَذَا أَمْرُ الْخَوَاطِرِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الْآيَةَ، وَظَهَرَ تَأْوِيلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «٢» لِأَنَّهُ كَانَ فِي إِمْكَانِ الْإِنْسَانِ وَطَاقَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَرَ مِنَ الْخَمْسِ، وَيَصُومَ أَكْثَرَ مِنَ الشَّهْرِ، وَيَحُجَّ أَكْثَرَ مِنْ حِجَّةٍ. وَقِيلَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: وَقَالُوا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا قَالُوا: كَيْفَ لَا نَسْمَعُ ذَلِكَ، وَلَا نُطِيعُ؟ وَهُوَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُنَا إِلَّا مَا فِي وُسْعِنَا؟ وَالْوُسْعُ دُونَ الْمَجْهُودِ فِي الْمَشَقَّةِ، وَهُوَ مَا يَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ.
وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ ليكلف. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُكَلِّفُ، يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ.
أَحَدُهُمَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عِبَادَةً أَوْ شَيْئًا. انْتَهَى. فَإِنْ عَنَى أَنَّ أَصْلَهُ كَذَا، فَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا وُسْعَهَا، اسْتِثْنَاءٌ مُفْرَغٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ مَحْذُوفٌ فِي الصِّنَاعَةِ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلِ الثَّانِي هُوَ وُسْعَهَا، نَحْوُ: مَا أَعْطَيْتُ زَيْدًا إِلَّا دِرْهَمًا، وَنَحْوُ: مَا ضَرَبْتُ إِلَّا
(١) سورة النبأ: ٧٨/ ١١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٨٥.
760
زَيْدًا. هَذَا فِي الصِّنَاعَةِ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ: مَا أَعْطَيْتُ زَيْدًا شيئا إلّا درهما.
و: ما ضربت أحدا إلا زَيْدًا.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: إِلَّا وُسْعَها جَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا. وَأَوَّلُوهُ عَلَى إِضْمَارِ: مَا، الْمَوْصُولَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَوْصُولُ الْمَفْعُولَ الثَّانِي لِيُكَلِّفَ، كَمَا أَنَّ وُسْعَهَا فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ حَيْثُ حَذْفُ الْمَوْصُولِ دُونَ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَوْصُولٌ آخَرُ يُقَابِلُهُ، كَقَوْلِ حَسَّانَ:
فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أَيْ: وَمَنْ يَنْصُرُهُ، فَحَذَفَ: مِنْ، لِدَلَالَةِ: مِنَ، الْمُتَقَدِّمَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَاسَ حَذْفُ الْمَوْصُولِ، لِأَنَّهُ وَصِلَتَهُ كَالْجُزْءِ الْوَاحِدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولُ: يُكَلِّفُ، الثَّانِي مَحْذُوفًا، لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَيَكُونَ: وُسْعَهَا، جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، التَّقْدِيرُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا شَيْئًا إِلَّا وَسْعَهَا، أَيْ: وَقَدْ وَسِعَهَا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ أَوْلَى مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُولِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ، فِيهِ تَجَوُّزٌ لِأَنَّهُ مَقْلُوبٌ، وَكَانَ وَجْهُ اللَّفْظِ: إِلَّا وَسِعَتْهُ. كَمَا قَالَ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «١» وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً «٢» وَلَكِنْ يَجِيءُ هَذَا مِنْ بَابِ: أَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وفي فِي الْحَجَرِ.
انْتَهَى.
وَتَكَلَّمَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنَا فِي تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ يُبْحَثُ فِيهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ.
لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. أَيْ: مَا كَسَبَتْ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَاكْتَسَبَتْ مِنَ السَّيِّئَاتِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَالْخَوَاطِرُ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ، وَالْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ «٣» وَقَالَ: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها «٤» وَقَالَ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ «٥» وَقَالَ: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا «٦».
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٥.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٩٨.
(٣) سورة المدثر: ٧٤/ ٣٨.
(٤) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٤.
(٥) سورة البقرة: ٢/ ٨١.
(٦) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٥٨.
761
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: الِاكْتِسَابُ أَخَصُّ مِنَ الْكَسْبِ، لِأَنَّ الْكَسْبَ يَنْقَسِمُ إِلَى كَسْبٍ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَالِاكْتِسَابُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِنَفْسِهِ. يُقَالُ: كَاسِبُ أَهْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: مُكْتَسِبُ أَهْلِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَلْقَيْتَ كَاسِبَهَمْ فِي قَعْرٍ مُظْلِمَةٍ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَنْفَعُهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَيَضُرُّهَا مَا اكْتَسَبَتْ مِنْ شَرٍّ، لَا يُؤَاخِذُ غَيْرَهَا بِذَنْبِهَا وَلَا يُثَابُ غَيْرُهَا بِطَاعَتِهَا.
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ خَصَّ الْخَيْرَ بِالْكَسْبِ وَالشَّرَّ بِالِاكْتِسَابِ؟
قُلْتُ: فِي الاكتساب اعتمال، فاما كَانَ الشَّرُّ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَهِيَ مُنْجَذِبَةٌ إِلَيْهِ، وَأَمَّارَةٌ بِهِ، كَانَتْ فِي تَحْصِيلِهِ أَعْمَلُ وَأَجَدُّ، فَجُعِلَتْ لِذَلِكَ مُكْتَسَبَةً فِيهِ. وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فِي بَابِ الْخَيْرِ وَصُفِتْ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الِاعْتِمَالِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَرَّرَ فِعْلَ الْكَسْبِ، فَخَالَفَ بَيْنَ التَّصْرِيفِ حُسْنًا لِنَمَطِ الْكَلَامِ، كَمَا قَالَ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «١» هَذَا وَجْهٌ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي هَذَا أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ مِمَّا تُكْتَسَبُ دُونَ تَكَلُّفٍ، إِذْ كَاسِبُهَا عَلَى جَادَّةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسْمِ شَرْعِهِ، وَالسَّيِّئَاتُ تُكْتَسَبُ بِبِنَاءِ الْمُبَالِغَةِ إِذْ كَاسِبُهَا يَتَكَلَّفُ فِي أَمْرِهَا خرق حجاب نهي الله تَعَالَى، وَيَتَخَطَّاهُ إِلَيْهَا، فَيَحْسُنُ فِي الْآيَةِ مَجِيءُ التَّصْرِيفَيْنِ احْتِرَازًا لِهَذَا الْمَعْنَى. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَحَصَلَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَابْنِ عَطِيَّةَ: أَنْ الشَّرَّ وَالسَّيِّئَاتَ فِيهَا اعْتِمَالٌ، لَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ الِاعْتِمَالِ هُوَ اشْتِهَاءُ النَّفْسِ وَانْجِذَابُهَا إِلَى مَا تُرِيدُهُ، وَابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ مُتَكَلِّفٌ، خَرَقَ حِجَابَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ لَا يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ إِلَّا بِتَكَلُّفٍ، وَنَحَا السَّجَاوَنْدِيُّ قَرِيبًا مِنْ مَنْحَى ابْنِ عَطِيَّةَ، وَقَالَ: الِافْتِعَالُ الِالْتِزَامُ، وَشَرُّهُ يَلْزَمُهُ، وَالْخَيْرُ يُشْرِكُ فِيهِ غَيْرَهُ بِالْهِدَايَةِ وَالشَّفَاعَةِ.
وَالِافْتِعَالُ: الِانْكِمَاشُ، وَالنَّفْسُ تَنْكَمِشُ فِي الشَّرِّ انْتَهَى. وَجَاءَ: فِي الْخَيْرِ، بِاللَّامِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُفْرَحُ بِهِ وَيُسَرُّ، فَأُضِيفَ إِلَى مُلْكِهِ. وَجَاءَ: فِي الشَّرِّ، بِعَلَى مِنْ حَيْثُ هُوَ أَوْزَارُ وَأَثْقَالُ، فَجَعَلَتْ قَدْ عَلَتْهُ وَصَارَ تَحْتَهَا، يَحْمِلُهَا. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: لِي مَالٌ وَعَلَيَّ دَيْنٌ.
رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ، أَيْ: قولوا في
(١) سورة الطارق: ٨٦/ ١٧. [.....]
762
دُعَائِكُمْ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا، وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ، إِذِ الدَّاعِي يُشَاهِدُ نَفْسَهُ فِي مَقَامِ الْحَاجَةِ وَالذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ، وَيُشَاهِدُ رَبَّهُ بِعَيْنِ الِاسْتِغْنَاءِ وَالْإِفْضَالِ، فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَافْتُتِحَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، إِيذَانًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ مِنْ رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ مُرَبِّيهِمْ، وَمُصْلِحُ أَحْوَالِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ دَاخِلُونَ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ، وَلَمْ يَأْتِ لَفْظُ: رَبَّنَا، فِي الْجُمَلِ الطَّلَبِيَّةِ أَخِيرًا لِأَنَّهَا نَتَائِجُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي دَعَوْا فِيهَا: بِرَبِّنَا، وَجَاءَتْ مُقَابَلَةُ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنَ الثلاث السوابق جملة، فقال لَا تُؤاخِذْنا بِقَوْلِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَقَابَلَ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. بِقَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لَنا وَقَابَلَ قَوْلَهَ وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ بِقَوْلِهِ: وَارْحَمْنا لِأَنَّ مِنْ آثَارِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ الْعَفْوَ، وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ حَمْلِ الْإِصْرِ عَلَيْهِمُ الْمَغْفِرَةُ، وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ الرَّحْمَةُ.
وَمَعْنَى: الْمُؤَاخَذَةُ، الْعَاقِبَةُ. وَفَاعِلُ هُنَا بمعنى الفعل المجرد، نحو: أَخَذَ، لِقَوْلِهِ:
فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «١» وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَاعِلٌ، وَقِيلَ: جَاءَ بِلَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ أَمْكَنَ مِنْ نَفْسِهِ، وَطَرَقَ السَّبِيلَ إِلَيْهَا بِفِعْلِهِ، فَصَارَ مَنْ يُعَاقِبُ بذنبه كَالْمُعِينِ لِنَفْسِهِ فِي إِيذَائِهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ الْمُذْنِبَ بِالْعُقُوبَةِ، وَالْمُذْنِبَ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ رَبَّهُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ، إِذْ لَا يَجِدُ مَنْ يُخَلِّصُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ يَتَمَسَّكُ الْعَبْدُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْهُ بِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِلَفْظِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالنِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ: عَدَمُ الذِّكْرِ، وَالْخَطَأِ مَوْضُوعَانِ عَنِ الْمُكَلَّفِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِمَا، فَقَالَ عَطَاءٌ: نَسِينَا: جهلنا، وأخطأنا: تَعَمَّدْنَا، وَقَالَ قُطْرُبٌ، وَالطَّبَرِيُّ: نسينا: تركنا وأخطأنا.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَصَدْنَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: أَخْطَأْنَا فِي التَّأْوِيلِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ أَخْطَأَ: سها وخطيء تَعَمَّدَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالنَّاسُ يَلْحُونَ الْأَمِيرَ إِذَا هُمْ خَطَئُوا الصَّوَابَ وَلَا يُلَامُ الْمُرْشِدُ
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ النِّسْيَانَ هُنَا وَالْأَخْطَاءَ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يُؤَاخَذُ الْمُكَلَّفُ بِهِمَا، وَتَجَوَّزَ عَنْهُمَا إِنْ صَدَرَا مِنْهُ، وَإِيَّاهُ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ النيسان وَالْخَطَأَ وَالْمُرَادُ بِهِمَا مَا هُمَا مَنْسِيَّانِ عَنْهُ مِنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِغْفَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ؟ «٢» والشيطان
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٠.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٦٣.
763
لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ النِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا يُوَسْوِسُ، فَتَكُونُ وَسْوَسَتُهُ سَبَبًا لِلتَّفْرِيطِ الَّذِي مِنْهُ النِّسْيَانُ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّقِينَ لِلَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ، فَمَا كَانَتْ تَفْرُطُ مِنْهُمْ فَرْطَةٌ إِلَّا عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، فَكَانَ وَصْفُهُمْ بِالدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِيذَانًا بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِمْ عَمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ فَمَا مِنْهُمْ سَبَبُ مُؤَاخَذَةٍ إِلَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ حَاصِلٌ لَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، لِاسْتِدَامَتِهِ وَالِاعْتِدَادِ بِالنِّعْمَةِ فِيهِ.
انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي النِّسْيَانِ الْغَالِبِ وَالْخَطَأِ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ نِسْيَانِهَا وَخَطَئِهَا».
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَغَالُوا. قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ.
فَظَاهِرُ قَوْلَيْهِمَا، يَعْنِي قَتَادَةَ وَالسُّدِّيَّ مَا صَحَّحَتْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا كُشِفَ عَنْهُمْ مَا خَافُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أُمِرُوا بِالدُّعَاءِ فِي دَفْعِ ذَلِكَ النَّوْعِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ طَاقَةِ الْإِنْسَانِ دَفْعُهُ، وَذَلِكَ فِي النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقِيلَ: النِّسْيَانُ فِيهِ وَمِنْهُ مَا لَا يُعْذَرُ فَالْأَوَّلُ، كَنِسْيَانِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، فَمِثْلُ هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَهُوَ مَا إِذَا تُرِكَ التَّحَفُّظَ وَأُعْرِضَ عَنْ أَسْبَابِ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: هَذَا دُعَاءٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ مِمَّا تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ فَلَا تُؤَاخَذُ بِهِ، وَقِيلَ: الْمُؤَاخَذَةُ بِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَقْلًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ اسْتَدَامَ التَّذَكُّرَ، فَحِينَئِذٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا اسْتِدَامَةُ التَّذَكُّرِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، فَحَسُنَ الدُّعَاءُ بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ حَمْلَ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ عَلَى مَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ قَبِيحٌ طَلَبُهُ وَالدُّعَاءُ بِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ الْعَمْدُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، فَيَكُونُ النِّسْيَانُ تَرْكَ الْفِعْلِ، وَالْخَطَأُ الْفِعْلَ. وَقَدْ أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِطَلَبِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِمَا، فَهُوَ أَمْرٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِعْطَائِهِ إِيَّاهُمْ هَذَا الْمَطْلُوبَ.
رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
764
وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالرَّبِيعُ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْإِصْرُ: الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: الْإِصْرُ: الذَّنْبُ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَلَا تَوْبَةَ مِنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ:
الْإِصْرُ: الْأَمْرُ الْغَلِيظُ الصَّعْبُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْإِصْرُ: الْمَسْخُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقِيلَ: الْإِثْمُ.
حَكَاهُ ثَعْلَبٌ. وَقِيلَ: فَرْضٌ يَصْعُبُ أَدَاؤُهُ، وَقِيلَ: تَعْجِيلُ الْعُقُوبَةِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِحْنَةٌ تَفْتِنُنَا كَالْقَتْلِ وَالْجَرْحِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْجَعْلِ لِمَنْ يَكْفُرُ سَقْفًا مِنْ فِضَّةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْعِبْءُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ، أَيْ يَحْبِسُهُ مَكَانَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، اسْتُعِيرَ لِلتَّكْلِيفِ الشَّاقِّ مِنْ نَحْوِ: قَتْلِ النَّفْسِ، وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. انْتَهَى.
قَالَ الْقَفَّالُ: مَنْ نَظَرَ فِي السِّفْرِ الْخَامِسِ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، وَقَفَ عَلَى مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَلِيظِ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، وَرَأَى الْأَعَاجِيبَ الْكَثِيرَةَ.
وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَلَا تُحَمِّلْ، بِالتَّشْدِيدِ، وَ: آصَارًا، بِالْجَمْعِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ:
أُصْرًا، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ. وَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، الْمُرَادُ بِهِ الْيَهُودُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَالنَّصَارَى.
رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ قَالَ قَتَادَةُ: لَا تُشَدِّدْ عَلَيْنَا كَمَا شَدَّدَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تُحَمِّلْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا لَا نُطِيقُ. وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا تَمْسَخْنَا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَقَالَ مَكْحُولٌ، وَسَلَّامُ بْنُ سَابُورَ: الَّذِي لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ الْغُلْمَةُ، وَحَكَاهُ النَّقَّاشُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَمَكْحُولٍ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غُلْمَةٍ لَيْسَ لَهَا عِدَّةٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْحُبُّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ: الْعِشْقُ، وَقِيلَ: الْقَطِيعَةُ. وَقِيلَ: شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ.
رَوَى وَهَبٌ أَنَّ أَيُّوبَ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، قِيلَ لَهُ: مَا كَانَ أَشَقُّ عَلَيْكَ فِي بَلَائِكَ: قَالَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ
قَالَ الشَّاعِرُ:
أَشْمَتِّ بِيَ الْأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتِنِي وَالْمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ
وَقَالَ السُّدِّيُّ: التَّغْلِيظُ وَالْأَغْلَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ التَّحْرِيمِ. وَقِيلَ: عَذَابُ النَّارِ. وَقِيلَ: وَسَاوِسُ النَّفْسِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ التَّفَاسِيرُ عَلَى أَنَّهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، لَا عَلَى سَبِيلِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ.
وَ: مَا، فِي قَوْلِهِ مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ عَامٌّ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي تِلْكَ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا فَشَبَّهَ الْإِصْرَ
765
بِالْإِصْرِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُنَا سَأَلُوا أَنْ لَا يُحَمِّلَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِصْرِ السَّابِقِ لِتَخْصِيصِهِ بِالتَّشْبِيهِ. وَعُمُومِ هَذَا، وَالتَّشْدِيدُ فِي: وَلَا تُحَمِّلْنَا، لِلتَّعْدِيَةِ.
وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً لِلتَّكْثِيرِ فِي حَمَّلَ: كَجَرَحْتُ زَيْدًا وَجَرَّحْتُهُ، وَقِيلَ: مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ النَّازِلَةِ بِمَنْ قَبْلَنَا، طَلَبُوا أَوَّلًا أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ثُمَّ ثَانِيًا طَلَبُوا أَنْ يُعْفِيَهُمْ عَمَّا نَزَلَ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. انْتَهَى.
وَالطَّاقَةُ الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ، وَهِيَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الْمَصَادِرِ، وَالْقِيَاسُ طَاقَةٌ، فَهُوَ نَحْوُ: جابة، من أجاب، و: غارة، مِنْ أَغَارَ. فِي أَلْفَاظٍ سُمِعَتْ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا.
فَلَا يُقَالُ: أَطَالَ طَالَةً، وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْنِيَ بِمَا لَا طَاقَةَ، مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْنِيَ بِالطَّاقَةِ مَا فِيهِ الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَطَاعًا حَمْلُهَا.
فَبِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ إِلَى الْعُقُوبَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى التَّكَالِيفِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى لَا تُحَمِّلْنَا حَمْلًا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ، وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ. خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا يُعْقَلُ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ يُبْغِضُهُ: مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُطِيقٌ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ لَكِنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ «١».
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، طَلَبُوا الْعَفْوَ وَهُوَ الصَّفْحُ عَنِ الذَّنْبِ: وَإِسْقَاطُ الْعِقَابِ، ثُمَّ سَتْرُهُ عَلَيْهِمْ صَوْنًا لَهُمْ مِنْ عَذَابِ التَّخْجِيلِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي سَتْرَهُ فَيُقَالُ: عَفَا عَنْهُ إِذَا وَقَّفَهُ عَلَى الذَّنْبِ ثُمَّ أَسْقَطَ عَنْهُ عُقُوبَةَ ذَلِكَ الذَّنْبِ، فَسَأَلُوا الْإِسْقَاطَ لِلْعُقُوبَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ، إِذْ فِيهِ التَّعْذِيبُ الْجُسْمَانِيُّ وَالنَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِتَجَلِّي الْبَارِئِ تَعَالَى لَهُمْ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَفْوُ إِزَالَةُ الذَّنْبِ بِتَرْكِ عُقُوبَتِهِ، وَالْغُفْرَانُ سَتْرُ الذَّنْبِ وَإِظْهَارُ الْإِحْسَانِ بَدَلَهُ، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَغْطِيَةِ ذَنْبِهِ، وَكَشْفِ الْإِحْسَانِ الَّذِي غَطَّى بِهِ. وَالرَّحْمَةُ إِفَاضَةُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ أبلغ من
(١) سورة هود: ١١/ ٢٠.
766
الثَّانِي. انْتَهَى. وَقِيلَ: وَاعْفُ عَنَّا مِنَ الْمَسْخِ، وَاغْفِرْ لَنَا عَنِ الْخَسْفِ مِنَ الْقَذْفِ، وَقِيلَ:
اعْفُ عَنَّا مِنَ الْأَفْعَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا مِنَ الْأَقْوَالِ، وَارْحَمْنَا بِثِقَلِ الْمِيزَانِ. وَقِيلَ: وَاعْفُ عَنَّا فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَاغْفِرْ لَنَا فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ، وَارْحَمْنَا فِي أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَخْصِيصَاتٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.
أَنْتَ مَوْلانا الْمَوْلَى مَفْعَلٌ مِنْ وَلِيَ يَلِي، يَكُونُ لِلْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. أَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَالِكُ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ فِي وُجُوهِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، أَوِ السَّيِّدُ، أَوِ النَّاصِرُ، أَوِ ابْنُ الْعَمِّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مُحَامِلِهِ، فَأَصْلُهُ الْمَصْدَرُ، سُمِّيَ بِهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْاسْمِيَّةُ، وَوَلِيَتْهُ الْعَوَامِلُ.
فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَدْخَلَ الْفَاءَ إِيذَانًا بِالسَّبَبِيَّةِ. لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْلَاهُمْ، وَمَالِكَ تَدْبِيرِهِمْ، وَأَمْرِهِمْ، يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ النُّصْرَةُ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ الشُّجَاعُ فَقَاتِلْ، وَأَنْتَ الْكَرِيمُ فَجُدْ عَلَيَّ. أَيْ: أَظْهِرْنَا عَلَيْهِمْ بِمَا تُحْدِثُ فِي قُلُوبِنَا مِنَ الْجُرْأَةِ وَالْقُوَّةِ، وَفِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوْرِ وَالْجُبْنِ.
وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَصَاحَةِ وَضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا: الطِّبَاقُ فِي وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَالطِّبَاقُ الْمَعْنَوِيُّ فِي: لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ لِأَنَّ: لَهَا، إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ، وَ: عَلَيْهَا، إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ ضَرَرٌ. وَالتَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ: وَما فِي الْأَرْضِ كَرَّرَ: مَا، تَنْبِيهًا وَتَوْكِيدًا. وَفِي قَوْلِهِ: بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَفِي قَوْلِهِ: مَا كَسَبَتْ وَمَا اكْتَسَبَتْ. إِذَا قُلْنَا أَنِّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِذْ كَانَ يَعْنِي: لَهَا مَا كَسَبَتْ. وَالتَّجْنِيسُ الْمُغَايِرُ فِي: آمَنَ والْمُؤْمِنُونَ. وَالْحَذْفُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ. وَاللَّهُ أعلم.
767
Icon