تفسير سورة البقرة

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة البقرة
مدنية إلا آية ٢٨١ فنزلت بمنى في حجة الوداع.
وآياتها مائتان وست وثمانون وهي أول سورة نزلت بالمدينة.

سورة البقرة
مدنية إلا آية ٢٨١ فنزلت بمنى في حجة الوداع وآياتها مائتان وست وثمانون وهي أول سورة نزلت بالمدينة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة البقرة) الم اختلف فيه وفي سائر حروف الهجاء في أوائل حروف السور، وهي: المص، والر، والمر، وكهيعص، وطه، وطسم، وطس، ويس، وص، وق، وحم، وحم عسق، ون. فقال قوم: لا تفسر لأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا الله، قال أبو بكر الصديق: لله في كل كتاب سرّ، وسرّه في القرآن فواتح السور، وقال قوم تفسر، ثم اختلفوا فيها، فقيل: هي أسماء الله، وقيل: أشياء أقسم الله بها، وقيل: هي حروف مقطعة من كلمات: فالألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ومثل ذلك في سائرها، وإعراب هذه الحروف يختلف بالاختلاف في معناها فيتصور أن تكون في موضع رفع أو نصب أو خفض. فالرفع على أنها مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر، والنصب على أنها مفعول بفعل مضمر، والخفض على قول من جعلها مقسما بها كقولك:
الله لأفعلن ذلِكَ الْكِتابُ هو هنا القرآن، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ وهو الصحيح الذي يدل عليه سياق الكلام ويشهد له مواضع من القرآن.
والمقصود منها إثبات أن القرآن من عند الله كقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السجدة: ٢] يعني القرآن باتفاق، وخبر ذلك: لا ريب فيه، وقيل: خبره الكتاب فعلى هذا «ذلك الكتاب» جملة مستقلة فيوقف عليه لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر في اعتقاد أهل الحق، ولم يعتبر أهل الباطل، وخبر لا ريب:
فيه، فيوقف عليه، وقيل: خبرها محذوف فيوقف على «لا ريب». والأول أرجح لتعيّنه في قوله: «لا ريب» في مواضع أخر.
فإن قيل: فهلا قدم قوله فيه على الريب كقوله: «لا فيها غول» ؟ فالجواب: أنه إنما قصد نفي الريب عنه. ولو قدم فيه: لكان إشارة إلى أن ثمّ كتاب آخر فيه ريب، كما أن «لا فيها غول» إشارة إلى أن خمر الدنيا فيها غول، وهذا المعنى يبعد قصده فلا يقدم الخبر.
هُدىً هنا بمعنى الإرشاد لتخصيصه بالمتقين، ولو كان بمعنى البيان لعم كقوله: هُدىً لِلنَّاسِ. وإعرابه: خبر ابتداء، أو مبتدأ وخبره: فيه، عند ما يقف على لا ريب، أو منصوب على الحال والعامل فيه الإشارة لِلْمُتَّقِينَ مفتعلين من التقوى، وقد تقدّم معناه في الكتاب، فنتكلم عن التقوى في ثلاثة فصول.
الأوّل: في فضائلها المستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة: الهدى كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] والنصرة، لقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [النحل: ١٢٨] والولاية لقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: ١٨] والمحبة لقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [براءة:
٤] والمغفرة لقوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: ٢٩] والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق: ٢] الآية وتيسير الأمور لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: ٤] وغفران الذنوب وإعظام الأجور لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق: ٥] وتقبل الأعمال لقوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: ٢٧] والفلاح لقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة: ١٨٩] والبشرى لقوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
[يونس: ٦٤] ودخول الجنة لقوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:
٣٤] والنجاة من النار لقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: ٧٢].
الفصل الثاني: البواعث على التقوى عشرة: خوف العقاب الأخروي، وخوف العقاب الدنيوي، ورجاء الثواب الدنيوي، ورجاء الثواب الأخروي، وخوف الحساب، والحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة، والشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيبة، وصدق المحبة لقول القائل: -
تعصي الإله وأنت تظهر حبه... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته... إن المحب لمن يحب مطيع
ولله درّ القائل: -
قالت وقد سألت عن حال عاشقها:... لله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت: لو كان يظن الموت من ظمإ... وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد
الفصل الثالث: درجات التقوى خمس: أن يتقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فيه قولان: يؤمنون بالأمور المغيبات كالآخرة وغيرها، فالغيب على
69
هذا بمعنى الغائب إما تسمية بالمصدر كعدل، وإما تخفيفا في فعيل: كميت، والآخر:
يؤمنون في حال غيبهم، أي باطنا وظاهرا، وبالغيب: على القول الأوّل: يتعلق بيؤمنون، وعلى الثاني: في موضع الحال، ويجوز في الذين أن يكون خفضا على النعت، أو نصبا على إضمار فعل، أو رفعا على أنه خبر مبتدأ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامتها: علمها من قولك: قامت السوق «١»، وشبه ذلك، والكمال: المحافظة عليها في أوقاتها، بالإخلاص لله في فعلها، وتوفية شروطها، وأركانها، وفضائلها، وسننها، وحضور القلب الخشوع فيها، وملازمة الجماعة في الفرائض والإكثار من النوافل. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فيه ثلاثة أقوال: الزكاة لاقترانها مع الصلاة، والثاني: أنه التطوّع، والثالث: العموم، وهو الأرجح:
لأنه لا دليل على التخصيص، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ هل هم المذكورون قبل فيكون من عطف الصفات، أو غيرهم وهم من أسلم من أهل الكتاب، فيكون عطفا للمغايرة، أو مبتدأ وخبره الجملة بعد بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن كأبي جهل، فإن كان الذين للجنس: فلفظها عام يراد به الخصوص، وإن كان للعهد فهو إشارة إلى قوم بأعيانهم، وقد اختلف فيهم فقيل: المراد من قتل ببدر من كفار قريش، وقيل: المراد حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديان سَواءٌ خبر إن وأَنْذَرْتَهُمْ فاعل به لأنه في تقدير المصدر، وسواء مبتدأ، وأنذرتهم خبره أو العكس وهو أحسن، ولا يُؤْمِنُونَ على هذه الوجوه: استئنافا للبيان، أو للتأكيد، أو خبر بعد خبر، أو تكون الجملة اعتراضا، ولا يؤمنون الخبر، والهمزة فيء أنذرتهم لمعنى التسوية قد انسلخت من معنى الاستفهام خَتَمَ الآية تعليل لعدم إيمانهم، وهو عبارة عن إضلالهم، فهو مجاز وقيل: حقيقة، وأن القلب كالكف ينقبض مع زيادة الضلال إصبعا إصبعا حتى يختم عليه، والأوّل أبرع، وعَلى سَمْعِهِمْ معطوف على قلوبهم، فيوقف عليه، وقيل الوقف على قلوبهم، والسمع راجع إلى ما بعده، والأوّل أرجح لقوله: «وختم على سمعه وقلبه» [الجاثية: ٢٣] غِشاوَةٌ مجاز باتفاق، وفيه دليل على وقوع المجاز في القرآن خلافا لمن منعه، ووحد السمع لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع ومِنَ النَّاسِ أصل الناس أناس لأنه مشتق من الإنس
(١). المراد بإقامة الصلاة: عدم التهاون بها. راجع تفسير الطبري.
70
وهو اسم جمع وحذفت الهمزة مع لام التعريف تخفيفا مَنْ يَقُولُ إن كان اللام في الناس للجنس فمن موصوفة وإن جعلتها للعهد فمن موصولة، وأفرد الضمير في يقول رعيا للفظ:
ومن وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ هم المنافقون، وكانوا جماعة من الأوس والخزرج، رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، يظهرون الإسلام ويسرّون الكفر، ويسمى الآن من كان كذلك:
زنديقا، وهم في الآخرة مخلدون في النار، وأما في الدنيا إن لم تقم عليهم بينة فحكمهم كالمسلمين في دمائهم وأموالهم، وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان، فمذهب مالك:
القتل، دون الاستتابة، ومذهب الشافعي الاستتابة وترك القتل، فإن قيل: كيف جاء قولهم «آمنا» جملة فعلية «وما هم بمؤمنين» جملة اسمية فهلا طابقتها؟ فالجواب: أن قولهم «١» «وما هم بمؤمنين» أبلغ وآكد في الإيمان عنهم من لو قال: ما آمنوا، فإن قيل: لم جاء قولهم: آمنا مقيدا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين مطلقا؟ فالجواب أنه يحتمل وجهين: التقييد فتركه لدلالة الأوّل عليه، والإطلاق، وهو أعم في سلبهم من الإيمان
يُخادِعُونَ أي يفعلون فعل المخادع، ويرومون الخدع بإظهار خلاف ما يسرون، وقيل:
معناه يخدعون رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، والأوّل أظهر وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أنفسهم أي وبال فعلهم راجع عليهم، وقرئ: وما يخدعون بفتح الياء من غير ألف «٢» من خدع وهو أبلغ في المعنى، لأنه يقال خادع إذا رام الخداع، وخدع إذا تم له وَما يَشْعُرُونَ حذف معموله أي: لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يحتمل أن يكون حقيقة، وهو الألم الذي يجدونه من الخوف وغيره، وأن يكون مجازا بمعنى الشك أو الحسد فَزادَهُمُ يحتمل الدعاء والخبر يَكْذِبُونَ بالتشديد أي يكذبون الرسول صلّى الله عليه واله وسلّم وقرئ: بالتخفيف أي يكذبون «٣» في قولهم آمنا لا تُفْسِدُوا أي بالكفر والنميمة وإيقاع الشر وغير ذلك إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يحتمل أن يكون جحود الكفر لقولهم آمنا، أو اعتقاد أمنهم على إصلاح كَما آمَنَ النَّاسُ أصحاب النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والكاف يحتمل أن تكون للتشبيه أو للتعليل، وما يحتمل أن تكون كافة كما هي وربما أن تكون مصدرية أَنُؤْمِنُ إنكار منهم وتقبيح هُمُ السُّفَهاءُ ردّ عليهم وإناطة السفه بهم، وكذلك هم المفسدون، وجاء بالألف واللام ليفيد حصر السفه
(١). الأصح أن يقول: قوله بإعادة الضمير إلى الله.
(٢). وهي قراءة حفص عن عاصم المشهورة في مصر وبلاد المشرق وانظر كتاب الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص: ٦٨.
(٣). وهي قراءة حفص عن عاصم المشهورة في مصر وبلاد المشرق وانظر كتاب الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص: ٦٨.
والفساد فيهم، وأكده بإن وبألا التي تقتضي الاستئناف وتنبيه المخاطب
قالُوا آمَنَّا كذبوا خوفا من المؤمنين خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ هم رؤساء الكفر، وقيل: شياطين الجن، وهو بعيد. وتعدّي خلا بإلى ضمن معنى مشوا وذهبوا أو ركنوا، وقيل: إلى بمعنى مع، أو بمعنى الباء وجه قولهم إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بجملة اسمية مبالغة وتأكيد، بخلاف قولهم: آمنا، فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فيه ثلاثة أقوال:
تسمية للعقوبة باسم الذنب: كقوله «ومكروا ومكر الله» وقيل: يملي لهم بدليل قوله:
«ويمدّهم» وقيل يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزأ بهم كما جاء في سورة الحديد: ١٣ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً الآية وَيَمُدُّهُمْ يزيدهم، وقيل يملي لهم، وقد ذكروا يعمهون اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ عبارة عن تركهم الهدى مع تمكنهم منه ووقوعهم في الضلالة، فهو مجاز بديع فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ترشيح للمجاز، لمّا ذكر الشر ذكر ما يتبعه من الربح والخسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز أيضا لأن الرابح أو الخاسر هو التاجر وَما كانُوا مُهْتَدِينَ في هذا الشراء، أو على الإطلاق. وقال الزمخشري: نفى الربح في قوله: فما ربحت، ونفى سلامة رأس المال في قوله: وما كانوا مهتدين مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ إن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم فالكاف للتشبيه وإن كان المثل بمعنى التشبيه فالكاف زائدة اسْتَوْقَدَ أي أوقد، وقيل: طلب الوقود على الأصل في استفعل فَلَمَّا أَضاءَتْ إن تعدّى فما حوله مفعول به، وإن لم يتعدّ فما زائدة أو ظرفية ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي أذهبه، وهذه الجملة جواب لما محذوف تقديره: طفيت النار، وذهب الله بنورهم: جملة مستأنفة والضمير عائد على المنافقين، فعلى هذا يكون «الذي» على بابه من الإفراد، والأرجح أنه أعيد ضمير الجماعة لأنه لم يقصد بالذي: واحد بعينه إنما المقصود التشبيه بمن استوقد نارا سواء كان واحدا أو جماعة، ثم أعيد الضمير بالجمع ليطابق المشبه، لأنهم جماعة، فإن قيل: ما وجه تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمت؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وعذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده، والثاني: أن استخفاء كفرهم كالنور، وفضيحتهم كالظلمة، والثالث: أنّ ذلك فيمن آمن منهم ثم كفر، فإيمانه نور، وكفره بعده ظلمة، ويرجح هذا قوله: «ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا» فإن قيل: لم قال:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل: أذهب الله نورهم، مشاكلة لقوله: فَلَمَّا أَضاءَتْ فالجواب:
أن إذهاب النور أبلغ لأنه إذهاب للقليل والكثير، بخلاف الضوء فإنه يطلق على الكثير
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ يحتمل أن يراد به المنافقون، والمستوقد المشبه بهم، وهذه الأوصاف مجاز عبارة عن عدم انتفاعهم بسمعهم وأبصارهم وكلامهم، وليس المراد فقد الحواس فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إن أريد به المنافقون: فمعناه لا يرجعون إلى الهدى، وإن أريد به أصحاب النار: فمعناه أنهم متحيرون في الظلمة، لا يرجعون ولا يهتدون إلى الطريق أَوْ كَصَيِّبٍ عطف على الذي استوقد، والتقدير: أو كصاحب صيب، أو للتنويع لأن هذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين، والصيب: المطر، وأصله صيوب، ووزنه فعيل، وهو مشتق من قولك صاب يصوب، وفي قوله مِنَ السَّماءِ إشارة إلى قوته وشدّة انصبابه، قال ابن مسعود: إنّ رجلين من المنافقين هربا إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر وأيقنا بالهلاك، فعزما على الإيمان، ورجعا إلى النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وحسن إسلامهما، فضرب الله ما أنزل فيهما مثلا للمنافقين، وقيل: المعنى تشبيه المنافقين في حيرتهم في الدين وفي خوفهم على أنفسهم بمن أصابه مطر فيه ظلمات ورعد وبرق، فضلّ عن الطريق وخاف الهلاك على نفسه، وهذا التشبيه على الجملة، وقيل: إنّ التشبيه على التفصيل، فالمطر مثل للقرآن أو الإسلام، والظلمات مثل لما فيه من الإشكال على المنافقين، والرعد مثل لما فيه من الوعيد والزجر لهم، والبرق مثل لما فيه من البراهين الواضحة، فإن قيل: لم قال رعد وبرق بالإفراد، ولم يجمعه كما جمع ظلمات؟ فالجواب: أن الرعد والبرق مصدران، والمصدر لا يجمع، ويحتمل أن يكونا اسمين وجمعهما «١» لأنهما في الأصل مصدران يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ أي من أجل الصواعق، قال ابن مسعود: كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم، لئلا يسمعوا القرآن في مجلس النبي صلّى الله عليه واله وسلّم. فهو على هذا حقيقة في المنافقين، والصواعق على هذا ما يكرهون من القرآن، والموت هو ما يتخوفونه فهما مجازان، وقيل: لأنه راجع لأصحاب المطر المشبه بهم فهو حقيقة فيهم، والصواعق على هذا حقيقة، وهي التي تكون من المطر من شدة الرعد، ونزول قطعة نار والموت أيضا حقيقة. وقيل: إنه راجع للمنافقين على وجه التشبيه لهم في خوفهم بمن جعل أصابعه في آذانه من شدة الخوف من المطر والرعد، فإن قيل: لم قال أصابعهم ولم يقل أناملهم والأنامل هي التي تجعل في الآذان؟ فالجواب أن ذكر الأصابع أبلغ لأنها أعظم من الأنامل، ولذلك جمعها مع أن الذي يجعل في الآذان السبابة خاصة وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي لا يفوتونه بل هم تحت قهره، وهو قادر على عقابهم
(١). ربما كان الأصل: ولم يجمعهما.
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ إن رجع الضمير إلى أصحاب المطر وهم الذين شبه بهم المنافقين:
فهو بيّن في المعنى، وإن رجع إلى المنافقين: فهو تشبيه بمن أصابه البرق على وجهين:
أحدهما: تكاد براهين القرآن تلوح لهم كما يضيء البرق، وهذا مناسب لتمثيل البراهين بالبرق حسبما تقدم، والآخر: يكاد زجر القرآن ووعيده يأخذهم كما يكاد البرق يخطف أبصار أصحاب المطر المشبه بهم كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم يمشون بضوء البرق إذا لاح لهم، وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى أنه يلوح لهم من الحق ما يقربون به من الإيمان وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم إذا زال عنهم الضوء وقفوا متحيرين لا يعرفون الطريق، وإن رجع إلى المنافقين: فالمعنى أنه إذا ذهب عنهم ما لاح لهم من الإيمان: ثبتوا على كفرهم، وقيل:
إنّ المعنى كلما صلحت أحوالهم في الدنيا قالوا هذا دين مبارك فهذا مثل الضوء، وإذا أصابتهم شدّة أو مصيبة عابوا الدين وسخطوا: فهذا مثل الظلمة، فإن قيل: لم قال مع الإضاءة كلما، ومع الظلام إذا؟ فالجواب أنهم لما كانوا حراصا على المشي ذكر معه كلما، لأنها تقتضي التكرار والكثرة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الآية: إن رجع إلى أصحاب المطر: فالمعنى لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد وأبصارهم بالبرق، وإن رجع إلى المنافقين: فالمعنى لو شاء الله لأوقع بهم العذاب والفضيحة، وجاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم وأبصارهم، والباء للتعدية كما هي في قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية لما قدّم اختلاف الناس في الدين وذكر ثلاث طوائف: المؤمنين، والكافرين والمنافقين:
أتبع ذلك بدعوة الخلق إلى عبادة الله، وجاء بالدعوة عامة للجميع لأنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بعث إلى جميع الناس اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يدخل فيه الإيمان به سبحانه وتوحيده وطاعته، فالأمر بالإيمان به لمن كان جاحدا، والأمر بالتوحيد لمن كان مشركا، والأمر بالطاعة لمن كان مؤمنا لَعَلَّكُمْ يتعلق بخلقكم: أي خلقكم لتتقوه كقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] أو بفعل مقدّر من معنى الكلام أي:
دعوتكم إلى عبادة الله لعلكم تتقون، وهذا أحسن. وقيل: يتعلق بقوله: «اعبدوا» وهذا ضعيف. وإن كانت لعل للترجي فتأويله أنه في حق المخلوقين، جريا على عادة كلام العرب، وإن كانت للمقاربة أو التعليل فلا إشكال، والأظهر فيها أنها لمقاربة الأمر نحو: عسى، فإذا قالها الله: فمعناها أطباع العباد، وهكذا القول فيها حيث ما وردت في كلام الله تعالى:
الْأَرْضَ فِراشاً تمثيل لما كانوا يقعدون وينامون عليها كالفراش فهو مجاز وكذلك السماء بناء مِنَ الثَّمَراتِ من للتبعيض أو لبيان الجنس، لأنّ الثمرات هو المأكول من الفواكه وغيرها
74
والباء في به سببية، أو كقولك: كتبت بالقلم لأنّ الماء سبب في خروج الثمرات بقدرة الله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لا ناهية أو نافية، وانتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء في جواب اعبدوا، والأوّل أظهر أَنْداداً «١» يراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله جلّ وعلا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حذف مفعوله مبالغة وبلاغة أي: وأنتم تعلمون وحدانيته بما ذكر لكم من البراهين، وفي ذلك بيان لقبح كفرهم بعد معرفتهم بالحق، ويتعلق قوله بلا تجعلوا بما تقدّم من البراهين، ويحتمل أن يتعلق بقوله: «اعبدوا» والأوّل أظهر.
فوائد ثلاث
الأولى: هذه الآية ضمنت دعوة الخلق إلى عبادة الله بطريقين: أحدهما: إقامة البراهين بخلقتهم وخلقة السموات والأرض والمطر والسموات. والآخر: ملاطفة جميلة بذكر ما لله عليهم من الحقوق ومن الإنعام، فذكر أوّلا ربوبيته لهم، ثم ذكر خلقته لهم وآبائهم، لأنّ الخالق يستحق أن يعبد، ثم ذكر ما أنعم الله به عليهم من جعل الأرض فراشا والسماء بناء، ومن إنزال المطر، وإخراج الثمرات، لأنّ المنعم يستحق أن يعبد ويشكر، وانظر قوله: جعل لكم، ورزقا لكم: يدلك على ذلك لتخصيصه ذلك بهم في ملاطفة وخطاب بديع.
الثانية: المقصود الأعظم من هذه الآية: الأمر بتوحيد الله وترك ما عبد من دونه لقوله في آخرها: فلا تجعلوا لله أندادا، وذلك هو الذين يترجم عنه بقولنا: لا إله إلّا الله، فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد، وقول لا إله إلّا الله تكون في القرآن ذكر المخلوقات «٢»، والتنبيه على الاعتبار في الأرض والسموات والحيوان والنبات والرياح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار، وذلك أنها تدلّ بالعقل على عشرة أمور. وهي: أنّ الله موجود، لأنّ الصنعة دليل على الصانع لا محالة، وأنه واحد لا شريك له، لأنه لا خالق إلّا هو أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: ١٧] وأنه حيّ قدير عالم مريد، لأنّ هذه الصفات الأربع من شروط الصانع. إذ لا تصدر صنعة عمن عدم صفة منها، وأنه قديم لأنه صانع للمحدثات، فيستحيل أن يكون مثلها في الحدوث، وأنه باق، لأنّ ما ثبت قدمه استحال عدمه، وأنه حكيم، لأنّ آثار حكمته ظاهرة في إتقانه للمخلوقات وتدبيره للملكوت، وأنه رحيم، لأن في كل ما خلق منافع لبني آدم سخر لهم ما في السموات وما في الأرض. وأكثر ما يأتي ذكر المخلوقات في القرآن في معرض الاستدلال على وجوده تعالى وعلى وحدانيته، فإن قيل لم قصر الخطاب بقوله لعلكم تتقون على
(١). جمع ند ومعناه: النظير، والشبيه.
(٢). ربما في الكلام نقص. والله أعلم.
75
المخاطبين دون الذين من قبلهم، مع أنه أمر الجميع بالتقوى؟ فالجواب: أنه لم يقصره عليهم ولكنه غلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ، والمراد الجميع، فإن قيل: هلا قال لعلكم تعبدون مناسبة لقوله اعبدوا؟ فالجواب أنّ التقوى غاية العبادة وكمالها، فكان قوله: لعلكم تتقون أبلغ وأوقع في النفوس
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ الآية إثبات لنبوّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم بإقامة الدليل على أنّ القرآن جاء به من عند الله، فلما قدّم إثبات الألوهية أعقبها بإثبات النبوّة، فإن قيل: كيف قال إن كنتم في ريب، ومعلوم أنهم كانوا في ريب وفي تكذيب؟
فالجواب أنه ذكر حرف إن إشارة إلى أنّ الريب بعيد عند العقلاء في مثل هذا الأمر الساطع البرهان، فلذلك وضع حرف التوقع والاحتمال في الأمر الواقع، لبعد وقوع الريب وقبحه عند العقلاء وكما قال تعالى لا رَيْبَ فِيهِ عَلى عَبْدِنا هو النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والعبودية على وجهين: عامة، وهي التي بمعنى الملك، وخاصة وهي التي يراد بها التشريف والتخصيص، وهي من أوصاف أشراف العباد. ولله در القائل:
لا تدعني إلّا بيا عبدها... فإنّه أشرف أسمائي
فَأْتُوا بِسُورَةٍ أمر يراد به التعجيز مِنْ مِثْلِهِ الضمير عائد على ما أنزلنا وهو القرآن، ومن لبيان الجنس، وقيل يعود على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فمن على هذا: لابتداء الغاية من بشر مثله، والأول أرجح لتعيينه في يونس وهود، وبمعنى مثله في فصاحته وفيما تضمنه من العلوم والحكم العجيبة والبراهين الواضحة شُهَداءَكُمْ آلهتكم أو أعوانكم أو من يشهد لكم مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله، وقيل: هو من الدين الحقير، فهو مقلوب اللفظ وَلَنْ تَفْعَلُوا اعتراض بين الشرط وجوابه فيه مبالغة وبلاغة، وهو إخبار ظهير «١» مصداقه في الوجود إذ لم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن، مع فصاحة العرب في زمان نزوله، وتصرفهم في الكلام، وحرصهم على التكذيب، وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى، وقد اختلف في عجز الخلق عنه على قولين:
أحدهما: أنه ليس في قدرتهم الإتيان بمثله وهو الصحيح، والثاني: أنه كان في قدرتهم وصرفوا عنه، والإعجاز حاصل على الوجهين، وقد بيّنا سائر وجوه إعجازه في المقدّمة فَاتَّقُوا النَّارَ أي فآمنوا لتنجوا من النار، وعبر باللازم عن ملازمه، لأن ذكر النار أبلغ في التفخيم والتهويل والتخويف وَقُودُهَا حطبها الْحِجارَةُ قال ابن مسعود: هي حجارة الكبريت لسرعة اتقادها وشدّة حرها وقبح رائحتها، وقيل الحجارة المعبودة، وقيل الحجارة على الإطلاق أُعِدَّتْ دليل على أنها قد خلقت، وهو مذهب الجماعة وأهل السنة، خلافا لمن قال: إنها تخلق يوم القيامة، وكذلك الجنة
وَبَشِّرِ يحتمل أن تكون خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أو خطابا لكل
(١). والصواب: ظهر.
76
أحد، ورجّح الزمخشري هذا لأنه أفخم الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دليل على أن الإيمان خلاف العمل لعطفه عليه، خلافا لمن قال: الإيمان اعتقاد، وقول، وعمل، وفيه دليل على أن السعادة بالإيمان مع الأعمال، خلافا للمرجئة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تحت أشجارها وتحت مبانيها، وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل وهكذا تفسيره وقع، وروي أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً من الأولى: للغاية أو للتبعيض أو لبيان الجنس، ومن الثانية: لبيان الجنس، مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا، بدليل قولهم: «إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين» [الطور: ٢٦] في الدنيا، فإن ثمر الجنة أجناس ثمر الدنيا، وإن كانت خيرا منها في المطعم والمنظر وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أي يشبه ثمر الدنيا في جنسه، وقيل يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في المطعم، والضمير المجرور يعود على المرزوق الذي يدل عليه المعنى مُطَهَّرَةٌ من الحيض وسائر الأقذار، ويحتمل أن يريد طهارة الطيب وطيب الأخلاق لا يَسْتَحْيِي تأوّل قوم أن معناه لا يترك، لأنهم زعموا أنّ الحياء مستحيل على الله لأنه عندهم انكسار يمنع من الوقوع في أمر، وليس كذلك وإنما هو كرم وفضيلة تمنع من الوقوع فيما يعاب، ويردّ عليهم قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «إنّ الله حيي كريم يستحي من العبد إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا» «١» أَنْ يَضْرِبَ سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت، عاب الكفار على ذلك، وقيل: المثلين المتقدّمين في المنافقين تكلموا في ذلك فنزلت الآية ردّا عليهم «٢» مَثَلًا ما بَعُوضَةً إعراب بعوضة مفعول بيضرب، ومثلا حال، أو: مثلا مفعول، وبعوضة بدل منه أو عطف بيان، أو هما مفعولان بيضرب لأنها على هذا المعنى تتعدّى إلى مفعولين، وما صفة للنكرة أو زائدة فَما فَوْقَها في الكبر، وقيل: في الصغر، والأول أصح فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لأنه لا يستحيل على الله أن يذكر ما شاء، ولأن ذكر تلك الأشياء فيه حكمة: وضرب أمثال، وبيان للناس، ولأنّ الصادق جاء بها من عند الله ماذا أَرادَ اللَّهُ لفظه الاستفهام، ومعناه الاستبعاد والاستهزاء والتكذيب، وفي إعراب ماذا: وجهان أن تكون ما مبتدأ، وذا خبره وهي موصولة، وأن تكون كلمة مركبة في موضع نصب على المفعول بأراد، ومثلا منصوب على الحال أو التمييز يُضِلُّ بِهِ من كلام الله جوابا للذين قالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا، وهو أيضا تفسير لما أراد الله
(١). ذكره المناوي في التيسير وعزاه لأحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وإسناده جيد عن سلمان الفارسي. [.....]
(٢). في الكلام تشويش ولعل الصواب: سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت عاب الكفار على ذلك [وقالوا: ما بال العنكبوت والذباب يذكران] فنزلت الآية عليهم. راجع الطبري في تفسير الآية المذكورة.
77
بضرب المثل من الهدى والضلال
عَهْدَ اللَّهِ مطلق في العهود وكذلك ما بعده من القطع والفساد، ويحتمل أن يشار بنقض عهد الله إلى اليهود، لأنهم نقضوا العهد الذي أخذ الله عليهم في الإيمان بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ويشار بقطع ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إلى قريش لأنهم قطعوا الأرحام التي بينهم وبين المؤمنين، ويشار بالفساد في الأرض إلى المنافقين لأن الفساد من أفعالهم، حسبما تقدّم في وصفهم مِيثاقِهِ الضمير للعهد أو لله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ موضعها الاستفهام، ومعناها هنا: الإنكار والتوبيخ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً أي معدومين أي: في أصلاب الآباء، أو نطفا في الأرحام فأحياكم أي أخرجكم إلى الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ الموت المعروف ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء، وقيل: الحياة الأولى حين أخرجهم من صلب آدم لأخذ العهد، وقيل: في الحياة الثانية إنها في القبور، والراجح القول الأول لتعينه في قوله: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الحج: ٦٦].
فوائد ثلاثة
الأولى: هذه الآية في معرض الردّ على الكفار، وإقامة البرهان على بطلان قولهم، فإن قيل: إنما يصح الاحتجاج عليهم بما يعترفون به، فكيف يحتج عليهم بالبعث وهم منكرون له؟
فالجواب أنه ألزموا من ثبوت ما اعترفوا به من الحياة والموت ثبوت البعث، لأن القدرة صالحة لذلك كله. الثانية: قوله وَكُنْتُمْ أَمْواتاً في موضع الحال، فإن قيل: كيف جاز ترك قد وهي لازمة مع الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال فالجواب: أنه قد جاء بعد الماضي مستقبل، والمراد مجموع الكلام. كأنه يقول: وحالهم هذه. فلذلك لم تلزم قد. الثالثة: عطف فأحياكم بالفاء لأنّ الحياة إثر العدم ولا تراخي بينهما، وعطف ثم يميتكم وثم يحييكم بثم للتراخي الذي بينهما خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ دليل على إباحة الانتفاع بما في الأرض ثُمَّ اسْتَوى أي قصد لها والسماء هنا جنس ولأجل ذلك أعاد عليها بعد ضمير الجماعة فسوّاهنّ أي أتقن خلقهن: كقوله: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار: ٧]، وقيل جعلهنّ سواء.
(فائدة) هذه الآية تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض، وقوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: ٣٠] ظاهره خلاف ذلك، والجواب من وجهين: أحدهما: أنّ الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض، والآخر: تكون ثم لترتيب الأخبار
لِلْمَلائِكَةِ جمع ملك واختلف في وزنه فقيل: فعل فالميم أصلية، ووزن ملائكة على هذا
مفاعلة وقيل: هي من الألوكة وهي الرسالة، فوزنه مفعل ووزنه مألك ثم حذفت الهمزة ووزن ملائكة على هذا مفاعلة، ثم قلبت وأخرت الهمزة فصار مفاعلة وذلك بعيد خَلِيفَةً هو آدم عليه السلام لأنّ الله استخلفه في الأرض، وقيل ذريته لأنّ بعضهم يخلف بعضا، والأوّل أرجح، ولو أراد الثاني لقال خلفاء أَتَجْعَلُ فِيها الآية: سؤال محض لأنهم استبعدوا أن يستخلف الله من يعصيه، وليس فيه اعتراض لأنّ الملائكة منزهون عنه، وإنما علموا أنّ بني آدم يفسدون بإعلام الله إياهم بذلك، وقيل: كان في الأرض جنّ فأفسدوا، فبعث الله إليهم ملائكة فقتلتهم. فقاس الملائكة بني آدم عليهم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ اعتراف، والتزام للتسبيح لا افتخار بِحَمْدِكَ أي حامدين لك والتقدير: نسبح متلبسين بحمدك، فهو في موضع الحال وَنُقَدِّسُ لَكَ يحتمل أن تكون الكاف مفعولا، ودخلت عليها اللام كقولك. ضربت لزيدا، وأن يكون المفعول محذوفا، أي نقدسك على معنى: ننزهك أو نعظمك، وتكون اللام في ذلك للتعليل أي لأجلك، أو يكون التقدير: نقدس أنفسنا أي نطهرها لك ما لا تَعْلَمُونَ أي ما يكون في بني آدم من الأنبياء والأولياء وغير ذلك من المصالح والحكمة الْأَسْماءَ كُلَّها أي أسماء بني آدم وأسماء أجناس الأشياء كتسمية القمر والشجر وغير ذلك ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي عرض المسميات، وبيّن أشخاص بني آدم وأجناس الأشياء أَنْبِئُونِي أمر على وجه التعجيز إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم: إنّ الخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وقيل: إن كنتم صادقين في جواب السؤال والمعرفة بالأسماء لا عِلْمَ لَنا اعتراف أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ أي أنبئ الملائكة بأسماء ذريتك أو بأسماء أجناس الأشياء اسْجُدُوا لِآدَمَ السجود على وجه التحية وقيل: عبادة لله، وآدم كالقبلة فسجدوا روي أنّ من أوّل من سجد إسرافيل، ولذلك جازاه الله بولاية اللوح المحفوظ إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل عند من قال: إنه كان ملكا. ومنقطع عند من قال:
كان من الجن «١» اسْتَكْبَرَ لقوله: أنا خير منه وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قيل: كفر بإباءته من السجود، وذلك بناء على أن المعصية كفر. والأظهر: أنه كفر باعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم، وليس كفره كفر جحود لاعترافه بالربوبية
وَزَوْجُكَ هي حواء خلقها الله من ضلع آدم، ويقال زوجة، وزوج هنا أفصح الْجَنَّةَ هي جنة الخلد عند الجماعة وعند
(١). وهو الأصح لأن الملائكة منزهون عن المعصية.
أهل السنة، خلافا لمن قال: هي غيرها لا تَقْرَبا النهي عن القرب يقتضي النهي عن الأكل بطريق الأولى، وإنما نهى عن القرب سدّا للذريعة، فهذا أصل في سدّ الذرائع الشَّجَرَةَ قيل هي شجرة العنب، وقيل شجرة التين «١»، وقيل الحنطة، وذلك مفتقر إلى نقل صحيح، واللفظ مبهم فَتَكُونا عطف على تقربا، أو نصب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النهي فَأَزَلَّهُمَا متعدّ من أزل القدم، وأزالهما بالألف من الزوال عَنْها الضمير عائد على الجنة، أو على الشجرة فتكون عن سببية على هذا.
فائدة: اختلفوا في أكل آدم من الشجرة فالأظهر أنه كان على وجه النسيان: لقوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] وقيل سكر من خمر الجنة فحينئذ أكل منها، وهذا باطل لأن خمر الجنة لا تسكر، وقيل: أكل عمدا وهي معصية صغرى، وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر، وقيل: تأوّل آدم أن النهي: كان عن شجرة معينة فأكل من غيرها من جنسها، وقيل: لما حلف له إبليس صدقه لأنه ظنّ أنه لا يحلف أحد كذبا اهْبِطُوا خطاب لآدم وزوجه وإبليس بدليل: بعضكم لبعض عدوّ مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار وهو في مدّة الحياة، وقيل في بطن الأرض بعد الموت وَمَتاعٌ ما يتمتع به إِلى حِينٍ إلى الموت فَتَلَقَّى أي أخذ وقيل على قراءة الجماعة «٢»، وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع الكلمات، فتلقى على هذا من اللقاء كَلِماتٍ هي قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، بدليل ورودها في الأعراف: ٢٣ وقيل غير ذلك اهْبِطُوا كرر ليناط به ما بعده، ويحتمل أن يكون أحد الهبوطين من السماء، والآخر من الجنة، وأن يكون هذا الثاني لذرية آدم لقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ إن شرطية وما زائدة للتأكيد، والهدى هنا: يراد به كتاب الله ورسالته فَمَنْ تَبِعَ شرط، وهو جواب الشرط الأوّل، وقيل: فلا خوف جواب الشرطين
يا بَنِي إِسْرائِيلَ لما قدم دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم: دعا بني إسرائيل خصوصا وهم اليهود، وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب سيقول السفهاء فتارة دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر العقوبات التي عاقبهم بها.
فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء، وهي: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:
٤٩]، وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: ٥٠]، وبَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة: ٥٦]،
(١). ورد في الأبريز للسيد عبد العزيز الدباغ أنها شجرة التين بغير شك.
(٢). في الكلام نقص والله أعلم.
80
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ [البقرة: ٥٧]، وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [البقرة: ٥٧]، ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ [البقرة: ٥٢]، فَتابَ عَلَيْكُمْ [البقرة: ٥٤]، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة: ٥٨]، وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة: ٥٣]، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة: ٦٠].
وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء: قولهم سمعنا وعصينا، واتخذتم العجل، وقالوا أرنا الله جهرة، وبدل الذين ظلموا ولن نصبر على طعام واحد، ويحرفونه، وتوليتم من بعد ذلك، وقست قلوبكم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق.
وذكر من عقوباتهم عشرة أشياء: ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ويعطوا الجزية، واقتلوا أنفسكم، وكونوا قردة، وأنزلنا عليهم رجزا من السماء، وأخذتكم الصاعقة، وجعلنا قلوبهم قاسية، وحرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وهذا كله جزاء لآبائهم المتقدمين، وخوطب [به] المعاصرون لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم لأنهم متبعون لهم راضون بأحوالهم، وقد وبخ العاندين لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم بتوبيخات أخر، وهي: كتمانهم أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم مع معرفتهم به، ويحرّفون الكلم ويقولون هذا من عند الله، وتقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، وحرصهم على الحياة وعداوتهم لجبريل واتباعهم للسحر، وقولهم نحن أبناء الله، وقولهم يد الله مغلولة.
نِعْمَتِيَ اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع، ومعناه: عام في جميع النعم التي على بني إسرائيل مما اشترك فيه معهم غيرهم أو اختصهم به كالمن والسلوى، وللمفسرين فيه أقوال تحمل على أنها أمثلة، واللفظ يعم النعم جميعا بِعَهْدِي مطلق في كل ما أخذ عليهم من العهود وقيل: الإيمان بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وذلك قويّ لأنه مقصود الكلام بِعَهْدِكُمْ دخول الجنة وَإِيَّايَ مفعول بفعل مضمر مؤخر لانفصال الضمير، وليفيد الحصر يفسره فارهبون، ولا يصح أن يعمل فيه فارهبون لأنه قد أخذ معموله، وكذلك إياي فاتقون بِما أَنْزَلْتُ يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي مصدّقا للتوراة، وتصديق القرآن للتوراة وغيرها، وتصديق محمد صلّى الله عليه واله وسلّم للأنبياء والمتقدمين له ثلاث معان: أحدها: أنهم أخبروا به ثم ظهر كما قالوا فتبين صدقهم في الإخبار به، والآخر: أنه صلّى الله عليه واله وسلّم أخبر أنهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب، فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم، والثالث: أنه وافقهم فيما في كتبهم من التوحيد وذكر الدار الآخرة وغير ذلك من عقائد الشرائع فهو مصدق لهم لاتفاقهم في الإيمان بذلك وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ الضمير عائد على القرآن، وهذا نهي عن المسابقة إلى الكفر به، ولا يقتضي إباحة الكفر في ثاني حال لأن هذا مفهوم معطل بل يقتضي الأمر بمبادرتهم إلى الإيمان به لما يجدون من ذكره، ولما يعرفون من علامته، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا:
81
الاشتراء هنا استعارة في الاستبدال: كقوله: اشتروا الضلالة بالهدى، والآيات هنا هي الإيمان بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والثمن القليل ما ينتفعون به في الدنيا من بقاء رئاستهم، وأخذ الرشا على تغيير أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وغير ذلك، وقيل:
كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك، واحتج الحنفية بهذه الآية على منع الإجارة على تعليم القرآن
الْحَقَّ بِالْباطِلِ الحق هنا يراد به نبوّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والباطل الكفر به، وقيل: الحق التوراة، والباطل ما زادوا فيها. وَتَكْتُمُونَ معطوف على النهي، أو منصوب بإضمار أن في جواب النهي، والواو بمعنى الجمع، والأوّل أرجح، لأنّ العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين، بخلاف النصب بالواو، فإنه إنما يقتضي النهي عن الجمع بين الشيئين، لا النهي عن كل واحد على انفراده وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون أنه حق الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ يراد بها صلاة المسلمين وزكاتهم، فهو يقتضي الأمر بالدخول في الإسلام وَارْكَعُوا خصص الركوع بعد ذكر الصلاة لأنّ صلاة اليهود بلا ركوع فكأنه أمر بصلاة المسلمين التي فيها الركوع، وقيل: اركعوا للخضوع والانقياد مَعَ الرَّاكِعِينَ مع المسلمين فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دينهم، وقيل: الأمر بالصلاة مع الجماعة.
أَتَأْمُرُونَ تقريع وتوبيخ لليهود بِالْبِرِّ عام في أنواعه فوبخهم على أمر الناس وتركهم له، وقيل: كان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر باتباع محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ولا يتبعونه، وقال ابن عباس: بل كانوا يأمرون باتباع التوراة، ويخالفون في جحدهم منها صفة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم تَنْسَوْنَ أي تتركون، وهذا تقريع تَتْلُونَ الْكِتابَ حجة عليهم أَفَلا تَعْقِلُونَ توبيخ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قيل:
معناه استعينوا بها على مصائب الدنيا، وقد روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» «١» ونعي إلى ابن عباس أخوه فقام إلى الصلاة فصلّى ركعتين وقرأ الآية، وقيل: استعينوا بهما على طلب الآخرة، وقيل: الصبر هنا الصوم، وقيل: الصلاة هنا الدعاء وَإِنَّها الضمير عائد على العبادة التي تضمنها الصبر والصلاة، أو على الاستعانة أو على الصلاة لَكَبِيرَةٌ أي شاقة صعبة يَظُنُّونَ هنا: يتيقنون عَلَى الْعالَمِينَ أي أهل زمانهم، وقيل: تفضيل من وجه مّا هو كثرة الأنبياء وغير ذلك
(١). ذكره المناوي في التيسير ج ٢ ص ٢٤٥ بلفظ: «كان إذا حزبه أمر صلى» وعزاه لأحمد وأبي داود عن حذيفة بن اليمان.
لا تَجْزِي لا تغني. وشيئا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف، والجملة في موضع الصفة، وحذف الضمير أي فيه وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ليس نفي الشفاعة مطلقا، فإنّ مذهب أهل الحق ثبوت الشفاعة لسيدنا محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: ٢٥٥] ولقوله: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: ٣] ولقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: ٢٣] وانظر ما ورد أنّ رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم يستأذن في الشفاعة فيقال له: اشفع تشفع. فكل ما ورد في القرآن من نفي الشفاعة مطلقا يحمل على هذا لأنّ المطلق يحمل على المقيد، فليس في هذه الآيات المطلقة دليل للمعتزلة على نفي الشفاعة عَدْلٌ هنا فدية وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ جمع لأنّ النفس المذكورة يراد بها نفوس وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تقديره: اذكروا إذ نجيناكم أي: نجينا آباءكم، وجاء الخطاب للمعاصرين للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم منهم لأنهم ذرّيتهم وعلى دينهم ومتبعون لهم، فحكمهم كحكمهم، وكذلك فيما بعد هذا من تعداد النعم، لأن الإنعام على الآباء إنعام على الأبناء، ومن ذكر مساويهم لأنّ ذرّيتهم راضون بها مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ المراد من فرعون واله، وحذف لدلالة المعنى، وآل فرعون هم جنوده وأشياعه وآل دينه لا قرابته خاصة، ويقال إنّ اسمه الوليد بن مصعب، وهو من ذرّية عمليق، ويقال فرعون لكل من ولي مصر، وأصل آل: ثم هل أبدلت من الهاء همزة وأبدل من الهمزة ألف.
فائدة: كل ما ذكره في هذه الصور من الأخبار معجزات للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم لأنه أخبر بها من غير تعلم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يلزمونهم به، وهو استعارة من السوم في البيع، وفسر سوء العذاب بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ولذلك لم يعطفه هنا، وأما حيث عطفه في سورة إبراهيم فيحتمل أن يراد بسوء العذاب غير ذلك بل فيكون عطف مغايرة، أو أراد به ذلك، وعطف لاختلاف اللفظة، وكان سبب قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل «١» وقيل إنّ آل فرعون تذاكروا وعد الله لإبراهيم بأن يجعل في ذرّيته ملوكا وأنبياء فحسدوهم على ذلك، وروي أنه وكل بالنساء رجالا يحفظون من تحمل منهنّ، وقيل: بل وكّل على ذلك القوابل، ولأجل هذا قيل معنى يستحيون: يفتشون الحياة ضدّ الموت فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فصلناه وجعلناه فرقا اثنى عشر طريقا، على عدد الأسباط، والباء سببية أو للمصاحبة، والبحر المذكور هنا: هو بحر القلزم «٢»
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً هي شهر ذي القعدة وعشر ذي الحجة، وإنما
(١). ويعرف الآن بالبحر الأحمر.
(٢). في الكلام هنا نقص، وتكملته من الطبري: أن فرعون رأى رؤيا هالته فعبرها له الكهنة بأنه: يولد في بني إسرائيل غلام يكون هلاك فرعون على يده. فأمر عند ذلك بذبح الصبيان من مواليد بني إسرائيل كما هو مشهور.
خصّ الليالي بالذكر لأنّ العام بها «١»، والأيام تابعة لها، والمراد أربعين ليلة بأيامها اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ اتخذتموه إلها، فحذف لدلالة المعنى مِنْ بَعْدِهِ أي بعد غيبته في الطور الْكِتابَ هنا التوراة وَالْفُرْقانَ أي المفرق بين الحق والباطل، وهو صفة للتوراة، عطف عليها لاختلاف اللفظ، وقيل الفرقان هنا فرق البحر، وقيل آتينا موسى التوراة وآتينا محمدا الفرقان «وهذا بعيد لما فيه من الحذف من غير دليل عليه فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي يقتل بعضكم بعضا كقوله: «سلموا على أنفسكم»، وروي أنّ الظلام ألقي عليهم فقتل بعضهم بعضا، حتى بلغ القتلى سبعون ألفا فعفى الله عنهم. وإنما خص هنا اسم الباري لأنّ فيه توبيخا للذين عبدوا العجل كأنه يقول كيف عبدتم غير الذي برأكم، ومعنى الباري:
الخالق فَتابَ عَلَيْكُمْ قبله محذوف لدلالة الكلام عليه، وهو فحوى الخطاب، أي:
ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ تعدى باللام لأنه تضمن معنى الانقياد جَهْرَةً عيانا الصَّاعِقَةُ الموت، وكانوا سبعين وهم الذين اختارهم موسى وحملهم إلى الطور، فسمعوا كلام الله، ثم طلبوا الرؤية فعوقبوا لسوء أدبهم، وجراءتهم على الله، وَظَلَّلْنا أي جعلنا الغمام فوقهم كالظلة يقيهم حرّ الشمس، وكان ذلك في التيه، وكذا أنزل عليه فيه المنّ والسلوى تقدّم في اللغات «٢» كُلُوا معمول لقول محذوف هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس، وقيل أريحاء، وقيل قريب من بيت المقدس فَكُلُوا جاء هنا بالفاء التي للترتيب، لأن الأكل بعد الدخول، وجاء في الأعراف بالواو بعد قوله:
اسكنوا، لأنّ الدخول لا يتأتى معه السجود، وقيل متواضعين حِطَّةٌ تقدّم في اللغات وَسَنَزِيدُ أي نزيدهم أجرا إلى المغفرة
فَبَدَّلَ روي أنه قالوا: حنطة، وروي: حبة في شعرة الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني المذكورين، وضع الظاهر موضع المضمر لقصد ذمّهم بالظلم،
(١). لأن اليوم يبدأ عند العرب من غروب الشمس، فالليل يشمل النهار، والله أعلم.
(٢). راجع المقدمة الثانية لفظة: سلوى.
وكرره زيادة في تقبيح أمرهم رِجْزاً روي أنهم أصابهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا اسْتَسْقى طلب السقيا لما عطشوا في التيه الْحَجَرَ كان مربعا ذراعا في ذراع: تفجر من كل جهة ثلاث عيون، وروي أنّ آدم كان أهبطه من الجنة، وقيل هو جنس غير معين، وذلك أبلغ في الإعجاز فَانْفَجَرَتْ قبله محذوف تقديره: فضربه فانفجرت مَشْرَبَهُمْ أي موضع شربهم، وكانوا اثني عشر سبطا لكل سبط عين كُلُوا أي من المنّ والسلوى، واشربوا من الماء المذكور فُومِها هي الثوم، وقيل: الحنطة أَدْنى من الدنيء الحقير، وقيل: أصله أدون، ثم قلب بتأخير عينه وتقديم لامه مِصْراً قيل البلد المعروف وصرف لسكون وسطه «١». وقيل: هو غير معين فهو نكرة لما روي أنهم نزلوا بالشام. ضُرِبَتْ أي قضى عليهم بها، وألزموها. وجعله الزمخشري استعارة من ضرب القبة لأنها تعلو الإنسان وتحيط به الْمَسْكَنَةُ الفاقة، وقيل: الجزية ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة والغضب، والباء للتعليل بِآياتِ اللَّهِ الآيات المتلوات أو العلامات بِغَيْرِ الْحَقِّ معلوم أنه لا يقتل نبي إلّا بغير حق، وذلك أفصح [وقرأ نافع وحده: النبيئين].
فائدة: قال هنا بِغَيْرِ الْحَقِّ بالتعريف باللام للعهد، لأنه قد تقررت الموجبات لقتل النفس، وقال في الموضع الآخر من آل عمران «بغير حق» بالتنكير لاستغراق النفي، لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم.
ذلِكَ بِما عَصَوْا يحتمل أن يكون تأكيدا للأول، وتكون الإشارة بذلك إلى القتل والكفر، والباء للتعليل. أي اجترءوا على الكفر وقتل الأنبياء لما انهمكوا في العصيان والعدوان
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الآية. قال ابن عباس: نسختها وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: ٨٥] وقيل معناها: أن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانا صحيحا فله أجره، فيكون في حق المؤمنين الثبات إلى الموت، وفي حق غيرهم الدخول في الإسلام، فلا نسخ، وقيل: إنها فيمن كان قبل بعث النبي صلّى الله عليه واله وسلّم فلا نسخ مَنْ آمَنَ مبتدأ، خبره: فلهم أجرهم. والجملة خبر أن، أو من آمن
(١). أي لكون حرف الصاد ساكنا.
بدل، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خبر أن وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ لما جاء موسى بالتوراة أبوا أن يقبلوها فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم: إن لم تأخذوها وقع عليكم بِقُوَّةٍ جدّ في العلم بالتوراة أو العمل بها اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اصطادوا فيه الحوت وكان محرما عليهم كُونُوا قِرَدَةً عبارة عن مسخهم، وخاسئين صفة أو خبر ثان، ومعناه مبعدين كما يخسأ الكلب فَجَعَلْناها الضمير للفعلة وهي المسخ نَكالًا أي عقوبة لما تقدّم من ذنوبهم وما تأخر، وقيل: عبرة لمن تقدّم ومن تأخر أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قصتها أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبه ليرثه، وادّعى على قوم أنهم قتلوه، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل ببعضها، ففعلوا فقام وأخبر بمن قتله، ثم عاد ميتا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً جفاء وقلة أدب، وتكذيب فارِضٌ مسنة بِكْرٌ صغيرة عَوانٌ متوسطة بَيْنَ ذلِكَ أي بين ما ذكر، ولذلك قال ذلك مع الإشارة إلى شيئين: صَفْراءُ من الصفرة المفروقة، وقيل سوداء:
وهو بعيد، والظاهر صفراء كلها. وقيل: القرن والظلف فقط، وهو بعيد فاقِعٌ شديد الصفرة تَسُرُّ النَّاظِرِينَ لحسن لونها، وقيل لسمنها ومنظرها كله لا ذَلُولٌ غير مذللة للعمل تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تحرثها وهو داخل تحت النفي على الأصح وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ لا يسقى عليها مُسَلَّمَةٌ من العمل أو من العيوب لا شِيَةَ لا لمعة غير الصفرة، وهو من وشى ففاؤه واو محذوفة كعدة الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ العامل في الضرب جئت بالحق، وقيل: العامل فيه مضمر تقديره الآن تذبحوها، والأول أظهر فإن كان قولهم: أتتخذنا هزوا: هكذا فهذا تصديق وإن كان غير ذلك، فالمعنى الحق المبين وَما كادُوا لعصيانهم وكثرة سؤالهم، أو لغلاء البقرة، فقد جاء بأنها كانت ليتيم وأنهم اشتروها بوزنها ذهبا، أو لقلة وجود تلك الصفة، فقد روي أنهم لو ذبحوا أدنى بقرة أجزأت عنهم، ولكنه شدّدوا فشدّد عليهم
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً هو أوّل قصة البقرة فمرتبته التقديم (إن الله
86
يأمركم) قال الزمخشري: إنما أخر لتعدّد توبيخهم لقصتين وهما: ترك المسارعة إلى الأمر، وقتل النفس ولو قدّم لكان قصة واحدة بتوبيخ واحد فَادَّارَأْتُمْ أي اختلفتم وهو من المدارأة أي المدافعة ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من أمر القتيل ومن قتله اضْرِبُوهُ
القتيل أو قريبه بِبَعْضِها
مطلقا، وقيل: الفخذ وقيل: اللسان، وقيل: الذنب كَذلِكَ
إشارة إلى حياة القتيل، واستدلال بها على الإحياء للبعث، وقبله محذوف لا بدّ منه تقديره: ففعلوا ذلك فقام القتيل.
فائدة: استدل المالكية بهذه القصة على قبول قول المقتول: فلان قتلني، وهو ضعيف، لأن هذا المقتول قام بعد موته ومعاينة الآخرة، وقصته معجزة للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فلا يتأتى أن يكذب المقتول، بخلاف غيره، واستدلوا أيضا بها على أن: القاتل لا يرث، ولا دليل فيها على ذلك «١» قَسَتْ قُلُوبُكُمْ: خطابا لبني إسرائيل مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي بعد إحياء القتيل وما جرى في القصة من العجائب، وذلك بيان لقبح قسوة قلوبهم بعد ما رأوا تلك الآيات أَوْ أَشَدُّ عطف على موضع الكاف أو خبر ابتداء، أي: هي أشدّ، وأو هنا إما للإبهام أو للتخيير: كأن علم حالها مخيّر بين أن يشبهها بالحجارة، أو بما هو أشدّ قسوة كالحديد، أو التفضيل أي: فهم أقسى مع أن فعل القسوة ينبني منه أفعل، لكون أشدّ أدلّ على فرط القسوة وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ الآية تفضيل الحجارة على قلوبهم يَهْبِطُ أي يتردّى من علو إلى أسفل، والخشية عبارة عن انقيادها، وقيل: حقيقة وأن كل حجر يهبط فمن خشية الله أَفَتَطْمَعُونَ خطاب المؤمنين أن يُؤْمِنُوا يعني: اليهود، وتعدّى باللام لما تضمن معنى الانقياد فَرِيقٌ مِنْهُمْ السبعون الذي يسمع كلام الله على الطور ثم حرفوه، وقيل: بنو إسرائيل حرفوا التوراة مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بيان لقبح حالهم قالوا آمنا قالها رجل ادعى الإسلام من اليهود، وقيل: قالوها ليدخلوا إلى المؤمنين ويسمعوا إلى أخبارهم أَتُحَدِّثُونَهُمْ توبيخ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فيه ثلاثة أوجه بما حكم عليهم من العقوبات، وبما في كتبهم من ذكر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وبما فتح الله عليهم من الفتح والإنعام، وكل وجه حجة عليهم، ولذلك قالوا: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ قيل: في الآخرة وقيل: أي في حكم ربكم
(١). القاتل لا يرث بنص حديث نبوي: ليس لقاتل شيء. رواه أحمد عن عمر بن الخطاب.
87
وما أنزل في كتابه، فعنده بمعنى حكمه أَفَلا تَعْقِلُونَ من بقية كلامهم توبيخا لقولهم
وَلا يَعْلَمُونَ الآية من كلام الله ردّا عليهم وفضيحة لهم وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أي الذين لا يقرءون ولا يكتبون فهم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ والمراد قوم من اليهود وقيل: من المجوس وهذا غير صحيح، لأنّ الكلام كله عن اليهود إِلَّا أَمانِيَّ تلاوة بغير فهم، أو أكاذيب، وما تتمناه النفوس بِأَيْدِيهِمْ تحقيق لافترائهم ثَمَناً قَلِيلًا عرض الدنيا من الرياسة والرشوة وغير ذلك مما يكسبون من الدنيا أو هي الذنوب أَيَّاماً مَعْدُودَةً أربعين يوما عدد عبادتهم العجل وقيل سبعة أيام أَتَّخَذْتُمْ الآية: تقرير يقتضي إبطال بَلى تحقيق لطول مكثهم في النار، لقولهم ما لا يعلمون مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً الآية: في الكفار لأنها ردّ على اليهود، ولقوله بعدها وَالَّذِينَ آمَنُوا فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة في النار لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ جواب لقسم يدل عليه الميثاق، وقيل: خبر بمعنى النهي، ويرجحه قراءة لا يعبدون وقيل: الأصل بأن: لا تَعْبُدُونَ ثم حذفت الباء وأن وَبِالْوالِدَيْنِ يتعلق بإحسان، أو بمحذوف تقديره: أحسنوا، ووكد بإحسانا وَذِي الْقُرْبى القرابة الْيَتامى جمع يتيم:
وهو من فقد والده قبل البلوغ، واليتيم من سائر الحيوان من فقد أمه، وجاء الترتيب في هذه الآية بتقديم الأهم، فقدم الوالدين لحقهما الأعظم، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم، ثم اليتامى لقلة حيلتهم، ثم المساكين لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ لا يسفك بعضكم دم بعض، وإعرابه مثل لا تعبدون وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ لا يخرج بعضكم بعضا ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق واعترفتم بلزومه وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بأخذ الميثاق عليكم
هؤُلاءِ منصوب على التخصيص بفعل مضمر، وقيل: هؤلاء مبتدأ وخبره أنتم وتقتلون حالا لازمة تم بها المعنى تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ كانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير: حلفاء الخزرج، وكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، ويتقيه من موضعه إذا ظفر به تَظاهَرُونَ أي
88
تتعاونون تُفادُوهُمْ قرئ بالألف وحذفها والمعنى واحد. وكذلك أسارى بالألف وحذفها «١» جمع أسير وَهُوَ مُحَرَّمٌ الضمير للإخراج من ديارهم، وهو مبتدأ وخبره محرّم وإِخْراجُهُمْ بدل، والضمير للأمر والشأن، وإخراجهم: مبتدأ، ومحرّم خبره، والجملة خبر الضمير أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ فداؤهم الأسارى موافقة لما في كتبهم وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ القتل والإخراج من الديار مخالفة لما في كتبهم خِزْيٌ الجزية أو الهزيمة لقريظة والنضير وغيرهم، أو مطلق وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي جئنا من بعده بالرسل، وهو مأخوذ من القفا أي جاء بالثاني في قفا الأول الْبَيِّناتِ المعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك بِرُوحِ الْقُدُسِ جبريل، وقيل الإنجيل، وقيل الاسم الذي كان يحيى به الموتى، والأول أرجح لقوله قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ولقوله صلّى الله عليه واله وسلّم لحسان:
اللهم أيده بروح القدس «٢» تَقْتُلُونَ جاء مضارعا مبالغة لأنه أيد استحضاره في النفوس، أو لأنهم حاولوا قتل محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لولا أنّ الله عصمه غُلْفٌ جمع أغلف: أي عليها غلاف، وهو الغشاء فلا تفقه بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ردّا عليهم، وبيان أن عدم فقههم بسبب كفرهم فَقَلِيلًا أي إيمانا قليلا ما يُؤْمِنُونَ ما زائدة، ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أو على أصلها لأن من دخل منهم في الإسلام قليل، أو لأنهم آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو القرآن مُصَدِّقٌ تقدم أن له ثلاثة معان يَسْتَفْتِحُونَ أي ينتصرون على المشركين، إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، وقيل: يستفتحون أي يعرفون الناس النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والسين على هذا للمبالغة كما في استعجب واستسخر، وعلى الأول للطلب فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا القرآن والإسلام ومحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، قال المبرّد: كفروا جوابا لما الأولى والثانية، وأعيدت الثانية لطول الكلام، ولقصد التأكيد، وقال الزّجّاج: كفروا جوابا
(١). أي: أسرى.
(٢). أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب ٦٨/ ١١٦/ ١ عن أبي هريرة.
89
لما الثانية، وحذف جواب الأولى للاستغناء عنه لذلك، وقال الفرّاء جواب لما الأولى فلما، وجواب الثانية كفر عَلَى الْكافِرِينَ أي عليهم يعني اليهود، ووضع الظاهر موضع المضمر ليدل أن اللعنة بسبب كفرهم، واللام للعهد أو للجنس، فيدخلون فيها مع غيرهم من الكفار بئسما فاعل بئس مضمر، وما مفسرة له، وأن يكفروا: هو المذموم وقال الفرّاء: بئسما مركب كحبّذا وقال الكاسي: ما مصدرية أي اشتراكهم فهي فاعلة
اشْتَرَوْا هنا بمعنى باعوا أَنْ يَكْفُرُوا في موضع خبر ابتداء، أو مبتدأ كاسم المذموم في بئس أو مفعول من أجله، أو بدل من الضمير في به بِما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن أو التوراة لأنهم كفروا بما فيها من ذكر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم أَنْ يُنَزِّلَ في موضع مفعول من أجله مِنْ فَضْلِهِ القرآن والرسالة مَنْ يَشاءُ يعني محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والمعنى أنهم إنما كفروا حسدا لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم لما تفضل الله عليه بالرسالة بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ لعبادتهم العجل، أو لقولهم: عزير ابن الله، أو لغير ذلك من قبائحهم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن بِما وَراءَهُ أي بما بعده وهو القرآن فَلِمَ تَقْتُلُونَ ردّا عليهم فيما ادّعوا من الإيمان بالتوراة، وتكذيب لهم، وذكر الماضي بلفظ المستقبل إشارة إلى ثبوته، فكأنه دائم لما رضي هؤلاء به إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرطية بمعنى القدح في إيمانهم، وجوابها يدل عليه ما قبل، أو نافية فيوقف قبلها والأوّل أظهر بِالْبَيِّناتِ يعني المعجزات: كالعصا، وفلق البحر، وغير ذلك اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ذكر هنا على وجه ألزم لهم، والإبطال بقولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) وكذلك رفع الطور، وذكر قبل هذا على وجه تعداد النعم لقوله: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [البقرة: ٥٢] وعطفه بثم في الموضعين إشارة إلى قبح ما فعلوه من ذلك مِنْ بَعْدِهِ الضمير لموسى عليه لسلام: أي من بعد غيبته في مناجاة الله على جبل الطور سَمِعْنا وَعَصَيْنا أي:
سمعنا قولك وعصينا أمرك، ويحتمل أن يكونوا قالوه بلسان المقال، أو بلسان الحال وَأُشْرِبُوا عبارة عن تمكن حب العجل في قلوبهم، فهو مجاز، تشبيها بشرب الماء، أو بشرب الصبغ في الثوب وفي الكلام محذوف أي أشربوا حب العجل وقيل: إن موسى برد العجل بالمبرد ورمى برادته في الماء فشربوه، فالشرب على هذا حقيقة، ويردّ هذا قوله: في
قلوبهم بِكُفْرِهِمْ الباء سببية للتعليل، أو بمعنى المصابة يَأْمُرُكُمْ إسناد الأمر إلى إيمانهم، فهو مجاز على وجه التهكم، فهو كقولهم أصلاتك تأمرك؟ [هود: ٨٧] كذلك إضافة الإيمان إليهم إِنْ كُنْتُمْ شرط أو نفي
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ بالقلب أو اللسان أو باللسان خاصة، وهذا أمر على وجه التعجيز والتبكيت، لأنه من علم أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وروي أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، وقيل: إن ذلك معجزة للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم دامت طول حياته وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ إن قيل: لم قال في هذه السورة: ولن يتمنوه، وفي سورة الجمعة: ولا يتمنونه فنفى هنا بلن، وفي الجمعة بلا، فقال أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير، الجواب أنه لما كان الشرط في المغفرة مستقبلا وهو قوله إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً جاء جوابه بلن التي تخص الاستقبال ولما كان الشرط في الجمعة حالا، وهو قوله إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ جاء جوابه بلا: التي تدخل على الحال، أو تدخل على المستقبل بِما قَدَّمَتْ أي لسبب ذنوبهم وكفرهم عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تهديد لهم وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فيه وجهان: أحدهما: أن يكون عطفا على ما قبله فيوصل به، ولمعنى أن اليهود أحرص على الحياة من الناس ومن الذين أشركوا، فحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، وخص الذين أشركوا بالذكر بعد دخولهم في عموم الناس لأنهم لا يؤمنون بالآخرة بإفراط حبهم للحياة الدنيا. والآخر أن يكون من الذين أشركوا ابتداء كلام فيوقف على ما قبله، والمعنى: من الذين أشركوا قوم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فحذف الموصوف، وقيل: أراد به المجوس، لأنهم يقولون لملوكهم عش ألف سنة، والأوّل أظهر لأنّ الكلام إنما هو في اليهود، وعلى الثاني يخرج الكلام عنهم وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ الآية: فيها وجهان أحدهما: أن يكون هو عائد على أحدهم، وأن يعمر فاعل لمزحزحه، والآخر: أن يكون هو للتعمير وأن يعمر بدل
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية: سببها أنّ اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: جبريل عدوّنا لأنه ملك الشدائد والعذاب فلذلك لا نؤمن به، ولو جاءك ميكائيل لآمنا بك لأنه ملك الأمطار والرحمة فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ فيه وجهان: الأوّل فإنّ الله نزل جبريل، والآخر فإن جبريل نزل القرآن، وهذا أظهر، لأنّ قوله: مصدّقا لما بين يديه من أوصاف القرآن، والمعنى: الردّ على اليهود بأحد وجهين: أحدهما من كان عدوّا لجبريل فلا ينبغي له أن يعاديه لأنه نزله على قلبك فهو مستحق للمحبة، ويؤكد هذا قوله وهدى وبشرى،
والثاني: من كان عدوّا لجبريل فإنما عاداه لأنه نزله على قلبك، فكان هذا تعليل لعداوتهم لجبريل وَجِبْرِيلَ، وَمِيكالَ ذكرا بعد الملائكة تجديدا للتشريف والتعظيم أَوَكُلَّما الواو للعطف، قال الأخفش: زائدة نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ نزلت في مالك بن الصيف اليهودي وكان قد قال: والله ما أخذ علينا عهد أن نؤمن بمحمد رسول يعني محمدا صلّى الله عليه واله وسلّم كِتابَ اللَّهِ يعني القرآن أو التوراة لما فيها من ذكر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم أو المتقدّمين ما تَتْلُوا هو من القراءة أو الأتباع عَلى مُلْكِ أي في ملك أو عهد ملك سليمان وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تبرئة له مما نسبوه إليه، وذلك أنّ سليمان عليه السلام دفن السحر ليذهبه فأخرجوه بعد موته، ونسبوه إليه، وقالت اليهود: إنما كان سليمان ساحرا، وقيل: إنّ الشياطين استرقوا السمع وألقوه إلى الكهان، فجمع سليمان ما كتبوا من ذلك ودفنه، فلما مات قالوا: ذلك علم سليمان وما كفر سليمان بتعليم السحر وبالعمل به أو بنسبته إلى سليمان عليه السلام وَما أُنْزِلَ نفي أو عطف على السحر عليهما، إلّا أنّ ذلك يردّه آخر الآية، وإن كانت معطوفة بمعنى الذي فالمعنى أنهما أنزل عليهما ضرب من السحر ابتلاء من الله لعباده، أو ليعرف فيحذر، وقرئ الملكين «بكسر اللام» وقال الحسن:
هما علجان، فعلى هذا يتعين أن تكون ما غير نافية بِبابِلَ موضع معروف هارُوتَ وَمارُوتَ اسمان علمان بدل من الملكين أو عطف بيان إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي محنة، وذلك تحذير من السحر فَلا تَكْفُرْ أي بتعليم السحر، ومن هنا أخذ مالك أنّ الساحر: يقتل كفرا يُفَرِّقُونَ زوال العصمة أو المنع من الوطء يَضُرُّهُمْ أي في الآخرة عَلِمُوا أن اليهود والشياطين: أي اشتغلوا به، وذكر الشراء، لأنهم كانوا يعطون الأجرة عليه شَرَوْا هنا بمعنى باعوا
لَمَثُوبَةٌ من الثواب وهو جواب: لَوْ أَنَّهُمْ وإنما جاء جوابها بجملة اسمية وعدل عن الفعلية لما في ذلك من الدلالة على إثبات الثواب واستقراره. وقيل:
الجواب محذوف أي لأثيبوا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ في الموضعين نفي لعلمهم لا تَقُولُوا راعِنا
كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله راعنا، وذلك من المراعاة أي: راقبنا وانظرنا، فكان اليهود يقولونها: ويعنون بها معنى الرعونة على وجه الإذاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وربما كانوا يقولونها على معنى النداء، فنهى الله المسلمين أن يقولوا هذه الكلمة لاشتراك معناها بين ما قصده المسلمون وقصده اليهود، فالنهي سدّا للذريعة، وأمروا أن يقولوا: انظرنا، لخلوّه عن ذلك الاحتمال المذموم، فهو من النظر والانتظار، وقيل: إنما نهى الله المسلمين عنها لما فيها من الجفاء وقلة التوقير وَاسْمَعُوا عطف على قولوا، لا على معمولها. والمعنى: الأمر بالطاعة والانقياد ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا جنس يعم نوعين: أهل الكتاب، والمشركين من العرب، ولذلك فسره بهما، ومعنى الآية أنهم: لا يحبون أن ينزل الله خيرا على المسلمين مِنْ خَيْرٍ من للتبعيض، وقيل: زائدة لتقدم النفي في قوله: ما يودّ بِرَحْمَتِهِ قيل: القرآن وقيل: النبوة وللعموم أولى، ومعنى الآية: الردّ على من كره الخير للمسلمين ما نَنْسَخْ نزل حكمه ولفظه أو أحدهما، وقرئ بضم النون أي نأمر بنسخه أَوْ نُنْسِها من النسيان، وهو ضدّ الذكر: أي ينساها النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بإذن الله كقوله سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: ٦/ ٧] أو بمعنى الترك: أي نتركها غير منزلة: أي غير منسوخة، وقرئ بالهمز بمعنى التأخير: أن نؤخر إنزالها أو نسخها بِخَيْرٍ في خفة العمل، أو في الثواب قَدِيرٌ استدلال على جواز النسخ لأنه من المقدورات، خلافا لليهود لعنهم الله فإنهم أحالوه «١» على الله. وهو جائز عقلا، وواقع شرعا فكما نسخت شريعتهم ما قبلها، نسخها ما بعدها تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ أي تطلبوا الآيات، ويحتمل السؤال عن العلم، والأوّل أرجح لما بعده، فإنه شبهه بسؤالهم لموسى، وهو قولهم له أرنا الله جهرة
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي تمنوا، ونزلت الآية في حيي بن أخطب وأمية بن ياسر، وأشباههما من اليهود، الذين كانوا يحرصون على فتنة المسلمين، ويطمعون أن يردّوهم عن الإسلام حَسَداً مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال، والعامل في ما قبله، فيجب وصله معه، وقيل:
هو مصدر، والعامل فيه محذوف تقديره: يحسدونكم حسدا، فعلى هذا يوقف على ما قبله،
(١). أحالوه: أي اعتبروه محالا لا يمكن حصوله. [.....]
93
والأوّل أظهر وأرجح مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ يتعلق بحسدا وقيل: بيودّ فَاعْفُوا منسوخ بالسيف بِأَمْرِهِ يعني إباحة قتالهم أو وصول آجالهم وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ الآية: أي قالت اليهود:
لن يدخل الجنة إلّا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلّا من كان نصرانيا هُوداً يعني اليهود، وهذه الكلمة جمع هائد أو مصدر وصف به، وقال الفرّاء: حذفت منه يا هودا على غير قياس أَمانِيُّهُمْ أكاذيبهم أو ما يتمنونه هاتُوا أمر على وجه التعجيز، والردّ عليهم، وهو من: هاتي، يهاتي، ولم ينطق به، وقيل: أصله آتوا، وأبدل من الهمزة هاء بَلى إيجاب لما نفوا أي يدخلها من ليس يهوديا، ولا نصرانيا مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي دخل في الإسلام وأخلص، وذكر الوجه لشرفه والمراد جملة الإنسان وَقالَتِ الْيَهُودُ الآية: سببها: اجتماع نصارى نجران مع يهود المدينة فذمّت كل طائفة الأخرى وَهُمْ يَتْلُونَ تقبيح لقولهم مع تلاوتهم الكتاب الذين لا يَعْلَمُونَ المشركون من العرب لأنهم لا كتاب لهم مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ لفظه الاستفهام ومعناه: لا أحد أظلم منه حيث وقع قريش منعت الكعبة، أو النصارى منعوا بيت المقدس أو على العموم خائِفِينَ في حق قريش لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحج بعد هذا العام مشرك «١» في حق النصارى حربهم عند بيت المقدس أو الجزية خِزْيٌ في حق قريش غلبتهم وفتح مكة، وفي حق النصارى: فتح بيت المقدس أو الجزية فَأَيْنَما تُوَلُّوا في الحديث الصحيح أنهم صلوا ليلة في سفر إلى غير القبلة بسبب الظلمة فنزلت، وقيل: هي في نفل المسافر حيث ما توجهت به دابته، وقيل: هي راجعة إلى ما قبلها: أي إن منعتم من مساجد الله فصلوا حيث كنتم، وقيل: إنها احتجاج على من أنكر تحويل القبلة، فهي كقوله بعد هذا: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية والقول الأوّل هو الصحيح، ويؤخذ منه أن من أخطأ القبلة، فلا تجب عليه الإعادة، وهو مذهب مالك وَجْهُ اللَّهِ المراد به هنا رضاه كقوله: ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي رضاه، وقيل: معناه الجهة التي وجهه إليها، وأما قوله:
(١). رواه أحمد في مسنده عن أبي بكر الصديق ص ٤ رقم ٤.
94
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: ٢٧] فهو من المتشابه الذي يجب التسليم له من غير تكييف، ويردّ علمه إلى الله، وقال الأصوليون: هو عبارة عن الذات أو عن الوجود، وقال بعضهم: هو صفة ثابتة بالسمع
وَقالُوا اتَّخَذَ قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت الصابئون وبعض العرب:
الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ تنزيه له عن قولهم بَلْ لَهُ الآية ردّ عليهم لأنّ الكل ملكه، والعبودية تنافي النبوة قانِتُونَ أي طائعون منقادون بَدِيعُ السَّماواتِ أي مخترعها وخالقها ابتداء وإذا قضى أمرا أي قدّره وأمضاه، قال ابن عطية: يتحد في الآية المعنيان، فعلى مذهب أهل السنة: قدر في الأزل وأمضى فيه، وعلى مذهب المعتزلة: أمضى عند الخلق والإيجاد، قلت: لا يكون قضى هنا بمعنى قدّر، لأن القدر قديم، وإذا: تقتضي الحدوث والاستقبال، وذلك يناقض القدم، وإنما قضى هنا بمعنى: أمضى أو فعل أو وجد كقوله: فقضاهنّ سبع سموات، وقد قيل إنه بمعنى ختم الأمر، وبمعنى حكم، والأمر هنا بمعنى الشيء، وهو واحد الأمور، وليس بمصدر أمر يأمر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قال الأصوليون: هذا عبارة عن نفوذ قدرة الله تعالى: وليس بقول حقيقي، لأنه إن كان قول:
كن خطابا للشيء في حال عدمه، لم يصح لأن المعدوم لم يخاطب، وإن كان خطابا في حال وجوده لأنه قد كان، وتحصيل الحاصل غير مطلوب. وحمله المفسرون على حقيقته، وأجابوا عن ذلك بأربعة أجوبة: أحدها: أن الشيء الذي يقول له: كن فيكون هو موجود في علم الله وإنما يقول له: كن ليخرجه إلى العيان لنا، والثاني: أن قوله: كن لا يتقدّم على وجود الشيء ولا يتأخر عنه. قاله الطبري، والثالث: أنّ ذلك خطابا لمن كان موجودا على حالة، فيأمر بأن يكون على حالة أخرى كإحياء الموتى، ومسخ الكفار، وهذا ضعيف. لأنه تخصيص من غير مخصص. والرابع: أن معنى يقول له: يقول من أجله، فلا يلزم خطابه:
والأوّل أحسن هذه الأجوبة، وقال ابن عطية: تلخيص المعتقد في هذه الآية أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، فيكون رفع على الاستثناء، قال سيبويه: معناه فهو يكون، قال غيره: يكون عطف على يقول، واختاره الطبري، وقال ابن عطية: وهو فاسد من جهة المعنى، ويقتضي أن القول مع التكوين والوجود، وفي هذا نظر
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هم هنا وفي الموضع الأول كفار العرب على الأصح، وقيل: هم اليهود والنصارى لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ لولا هنا عرض، والمعنى أنهم قالوا: لن نؤمن حتى يكلمنا الله أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي دلالة من المعجزات كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: ٩] وما بعده كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني اليهود والنصارى على القول: بأن
الذين لا يعلمون كفار العرب، وأما على القول بأن الذين لا يعلمون اليهود والنصارى، فالذين من قبلهم هم أمم الأنبياء المتقدمين تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ الضمير للذين لا يعلمون، وللذين من قبلهم، وتشابه قلوبهم في الكفر أو في طلب ما لا يصح أن يطلب، وهو كقولهم: لولا يكلمنا الله قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أخبر تعالى أنه قد بين الآيات لعنادهم إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والمراد بالحق التوحيد، وكل ما جاءت به الشريعة بَشِيراً وَنَذِيراً تبشر المؤمنين بالجنة، وتنذر الكافرين بالنار، وهذا معناه حيث وقع وَلا تُسْئَلُ بالجزم نهي «١»، وسببها أن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم سأل عن حال آبائه في الآخرة فنزلت، وقيل: إن ذلك على معنى التهويل كقولك: لا تسأل عن فلان لشدّة حاله، وقرأ غير نافع بضم التاء واللام: أي لا تسأل في القيامة عن ذنوبهم مِلَّتَهُمْ ذكرها مفردة وإن كانت ملتين لأنهما متفقتان في الكفر، فكأنهما ملة واحدة قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى لا ما عليه اليهود والنصارى، والمعنى: أن الذي أنت عليه يا محمد هو الهدى الحقيقي لأنه هدى من عند الله بخلاف ما يدّعيه اليهود والنصارى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ جمع هوى، ويعني به ما هم عليه من الأديان الفاسدة والأقوال المضلة لأنهم اتبعوها بغير حجة بل بهوى النفوس والضمير لليهود والنصارى، والخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد علم الله أنه لا يتبع أهواءهم، ولكن قال ذلك على وجه التهديد لو وقع ذلك، فهو على معنى الفرض والتقدير، ويحتمل أن يكون خطابا له صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني المسلمين، والكتاب على هذا: القرآن، وقيل: هم من أسلم من بني إسرائيل، والكتاب على هذا التوراة، ويحتمل العموم، ويكون الكتاب اسم جنس يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرءونه كما يجب من التدبر له والعمل به، وقيل: معناه يتبعونه حق إتباعه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والأوّل أظهر، فإن التلاوة وإن كانت تقال بمعنى القراءة، وبمعنى الاتباع فإنه أظهر في معنى القراءة، لا سيما إذا كانت تلاوة الكتاب، ويحتمل أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، ويكون الخبر أولئك يؤمنون، وهذا أرجح، لأن مقصود الكلام الثناء عليهم بالإيمان، أو إقامة الحجة بإيمانهم على غيرهم ممن لم يؤمن يا بَنِي إِسْرائِيلَ الآية: تقدّم الكلام على نظيرتها
وَإِذِ ابْتَلى أي
(١). على قراءة المؤلف رحمه الله.
96
اختبر، فالعامل في إذ فعل مضمر تقديره أذكر، وقوله بِكَلِماتٍ قيل: مناسك الحج، وقيل: خصال الفطرة العشرة، وهي: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، وقص الأظافر، ونتف الإبطين، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، وقيل هي ثلاثون خصلة: عشرة ذكرت في براءة من قوله: التائبون العابدون، وعشرة في الأحزاب من قوله: إن المسلمين والمسلمات، وعشرة في المعارج من قوله: إلّا المصلين فَأَتَمَّهُنَّ أي عمل بهنّ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي استفهام أو رغبة عَهْدِي الإمامة الْبَيْتَ الكعبة مَثابَةً اسم مكان من قولك: ثاب إذا رجع، لأنّ الناس يرجعون إليه عاما بعد عام وَاتَّخِذُوا بالفتح إخبار عن المتبعين لإبراهيم عليه السلام، وبالكسر إخبار لهذه الأمّة «١»، وافق قول عمر رضي الله عنه: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى «٢»، وقيل أمر لإبراهيم وشيعته، وقيل لبني إسرائيل فهو على هذا عطف على قوله: اذكروا نعمتي، وهذا بعيد مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ هو الحجر الذي صعد به حين بناء الكعبة، وقيل المسجد الحرام وَعَهِدْنا عبارة عن الأمر والوصية طَهِّرا بَيْتِيَ عبارة عن بنيانه بنية خالصة كقوله: أسس على التقوى، وقيل: المعنى طهراه عن عبادة الأصنام لِلطَّائِفِينَ هم الذين يطوفون بالكعبة، وقيل: الغرباء القادمون على مكة، والأوّل أظهر وَالْعاكِفِينَ هم المعتكفون في المسجد، وقيل: المصلون، وقيل: المجاورون من الغرباء، وقيل: أهل مكة، والعكوف في اللغة: اللزوم بَلَداً يعني مكة آمِناً أي مما يصيب غيره من الخسف والعذاب، وقيل: آمنا من إغارة الناس على أهله، لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض، وكانوا لا يتعرضون لأهل مكة، وهذا أرجح لقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [القصص: ٥٧]، فإن قيل: لم قال في البقرة بَلَداً آمِناً فعرّف في إبراهيم [٣٥] ونكّر في البقرة؟ أجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة الجواب الأوّل: قاله أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير، وهو أنه تقدّم في البقرة ذكر البيت في قوله: القواعد من البيت «٣»، وذكر البيت يقتضي بالملازمة ذكر البلد الذي هو فيه، فلم يحتج إلى تعريف، بخلاف آية إبراهيم، فإنها لم يتقدم قبلها ما يقتضي ذكر البلد ولا المعرفة به، فذكره بلام التعريف.
(١). كما هي قراءة حفص.
(٢). روى الإمام ابن جرير في تفسيره عن أنس بن مالك قول عمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لو اتخذت المقام مصلّى فنزل قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا...
(٣). الواقع أن القواعد من البيت ستأتي في الآية التالية مباشرة.
97
الجواب الثاني قاله السهيلي: وهو أن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم كان بمكة حين نزلت آية إبراهيم، لأنها مكية فلذلك قال فيه: البلد بلام التعريف التي للحضور: كقولك: هذا الرجل، وهو حاضر، بخلاف آية البقرة، فإنها مدنية، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يعرفها بلام الحضور، وفي هذا نظر لأن ذلك الكلام حكاية عن إبراهيم عليه السلام، فلا فرق بين نزوله بمكة أو المدينة «الجواب الثالث» قاله بعض المشارقة [وهو] أنه قال:
هذا بلدا آمنا قبل أن يكون بلدا، فكأنه قال اجعل هذا الموضع بلدا آمنا، وقال: هذا البلد بعد ما صار بلدا. وهذا يقتضي أن إبراهيم دعا بهذا الدعاء مرتين، والظاهر أنه مرة واحدة حكي لفظه فيها على وجهين مَنْ آمَنَ بدل بعض من كل ومن كفر أي قال الله وأرزق من كفر لأنّ الله يرزق في الدنيا المؤمن والكافر
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا على حذف القول أي يقولان ذلك وَأَرِنا مَناسِكَنا علمنا موضع الحج وقيل: العبادات فِيهِمْ أي في ذرّيتنا رَسُولًا مِنْهُمْ هو محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ولذلك قال صلّى الله عليه واله وسلّم: أنا دعوة أبي إبراهيم «١» والضمير المجرور لذرية إبراهيم وإسماعيل وهم العرب الذين من نسل عدنان، وأما الذين من قحطان فاختلف هل هم من ذرّية إسماعيل أم لا آياتِكَ هنا القرآن وَالْحِكْمَةَ هنا هي السنة وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الكفر والذنوب سَفِهَ نَفْسَهُ منصوب على التشبيه بالمفعول به، وقيل: الأصل في نفسه ثم حذف الجار فانتصب وقيل: تمييز وَوَصَّى بِها أي بالكلمة والملة ويعقوب بالرفع عطف على إبراهيم، فهو موصي، وقرئ بالنصب عطفا على نبيه فهو موصى أَمْ كُنْتُمْ أم هنا منقطعة معناها الاستفهام والإنكار، وإسماعيل كان عمه، والعم يسمى أبا وَقالُوا كُونُوا أي قالت اليهود كونوا هودا وقالت النصارى كونوا نصارى بَلْ مِلَّةَ منصوب بإضمار فعل
لا نُفَرِّقُ أي لا نؤمن بالبعض دون
(١). رواه الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى العرباض بن سارية.
98
البعض، وهذا برهان، لأن كل من أتى بالمعجزة فهو نبيّ فالكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم تناقض فَسَيَكْفِيكَهُمُ وعد ظهر مصداقه فقتل بني قريظة وأجلى بني النضير وغير ذلك صِبْغَةَ اللَّهِ أي دينه وهو استعارة من صبغ الثوب وغيره، ونصبه على الإغراء، وعلى المصدر من المعاني المتقدمة، أو بدل من ملة إبراهيم كَتَمَ شَهادَةً من الشهادة بأن الأنبياء على الحنيفية مِنَ اللَّهِ يتعلق بكتم أو كأن المعنى شهادة تخلصت له من الله.
سَيَقُولُ ظاهره الإعلام بقولهم قبل وقوعه، إلّا أن ابن عباس قال: نزلت بعد قولهم السُّفَهاءُ هنا اليهود أو المشركون أو المنافقون ما وَلَّاهُمْ أي ما ولى المسلمين عَنْ قِبْلَتِهِمُ الأولى وهي بيت المقدس إلى الكعبة لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ردّا عليهم لأنّ الله يحكم ما يريد، ويولي عباده حيث شاء، لأنّ الجهات كلها له وَكَذلِكَ بعد ما هديناكم جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي تشهدون يوم القيامة بإبلاغ الرسل إلى قومهم عَلَيْكُمْ شَهِيداً أي بأعمالكم، قال عليه الصلاة والسلام أقول كما قال أخي عيسى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة: ١١٧] الآية، فإن قيل: لم قدّم المجرور في قوله عليكم شهيدا وأخره في قوله: شهداء على الناس؟ فالجواب: أنّ تقديم المعمولات «١» يفيد الحصر، فقدّم المجرور في قوله: عليكم شهيدا: لاختصاص شهادة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بأمته، ولم يقدّمه في قوله شهداء على الناس لأنه لم يقصد الحصر الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها فيها قولان: أحدهما: أنها الكعبة، وهو قول ابن عباس.
والآخر: هو بيت المقدس، وهو قول قتادة وعطاء والسدّي، وهذا مع ظاهر قوله: كنت عليها لأنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم انصرف عنه إلى الكعبة،
(١). المعمول: اصطلاح لدى أهل النحو وهو ما عدا الفعل والفاعل.
99
وأما قول ابن عباس: فتأويله بوجهين: الأوّل: أنّ: كنت بمعنى أنت، والثاني: قيل: إن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم صلّى إلى الكعبة قبل بيت المقدس، وإعراب الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها مفعول بجعلنا، أو صفة للقبلة، ومعنى الآية على القولين: اختبار وفتنة للناس بأمر القبلة، وأما على قول قتادة: فإن الصلاة إلى بيت المقدس فتنة للعرب، لأنهم كانوا يعظمون الكعبة، أو فتنة لمن أنكر تحويلها، وتقديره على هذا: ما جعلنا صرف القبلة، أمّا على قول ابن عباس: فإنّ الصلاة إلى الكعبة فتنة لليهود لأنهم يعظمون بيت المقدس، وهم مع ذلك ينكرون النسخ، فأنكروا صرف القبلة، أو فتنة لضعفاء المسلمين حتى رجع بعضهم عن الإسلام حين صرفت القبلة لِنَعْلَمَ أي العلم الذي تقوم به الحجة على العبد وهو إذا ظهر في الوجود ما علمه الله يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ عبارة عن الارتداد عن الإسلام، وهو تشبيه بمن رجع يمشي إلى وراء وَإِنْ كانَتْ إن مخففة من الثقيلة واسم كان ضمير الفعلة وهي التحوّل عن القبلة إِيمانَكُمْ قيل صلاتكم إلى بيت المقدس واستدل به من قال إنّ الأعمال من الإيمان، وقيل: معناه ثبوتكم على الإيمان حين انقلب غيركم بسبب تحويل القبلة
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ كان النبي صلّى الله عليه واله وسلّم يرفع رأسه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالصلاة إلى الكعبة شَطْرَ الْمَسْجِدِ جهة وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ خبر يتضمن النهي ووحدت قبلتهم، وإن كانت جهتين لاتحادهم في البطلان وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لأنّ اليهود لعنهم الله يستقبلون المغرب والنصارى المشرق يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون القرآن أو النبي صلّى الله عليه واله وسلّم أو أمر القبلة كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ مبالغة في وصف المعرفة، وقال عبد الله بن سلام معرفتي بالنبي صلّى الله عليه واله وسلّم أشدّ من معرفتي بابني لأنّ ابني قد يمكن فيه الشك لِكُلٍ
أي لكل أحد أو لكل طائفةجْهَةٌ
أي جهة، ولم تحذف الواو لأنه ظرف مكان، وقيل: إنه مصدر، وثبت فيه الواو على غير قياس وَمُوَلِّيها
أي موليها وجهه وقرئ مولاها أي ولّاه الله إليها والمعنى أن الله جعل لكل أمة قبلةاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
أي بادروا إلى الأعمال الصالحات أْتِ بِكُمُ اللَّهُ
أي
يبعثكم من قبوركم
فَوَلِّ وَجْهَكَ الأمر كرر للتأكيد أو ليناط به ما بعده لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ الآية: معناها أنّ الصلاة إلى الكعبة تدفع حجة المعترضين من الناس، فإن أريد اليهود فحجتهم أنهم يجدون في كتبهم أنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم يتحوّل إلى الكعبة، فلما صلّى إليها لم تبق لهم حجة على المسلمين، وإن أريد قريش فحجتهم أنهم قالوا: قبلة آبائه أولى به إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي من يتكلم بغير حجة ويعترض التحوّل إلى الكعبة، والاستثناء متصل لأنه استثناء من عموم الناس. ويحتمل الانقطاع على أن يكون استثناء ممن له حجة، فإن الذين ظلموا هم الذين ليس لهم حجة وَلِأُتِمَّ متعلق بمحذوف أي فعلت ذلك لأتمّ، أو معطوف على لئلّا يكون كَما أَرْسَلْنا متعلق بقوله لأتمّ، أو بقوله فاذكروني والأول أظهر، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.
قال: سعيد بن المسيب: معناه اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب وقيل اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحو ذلك، وقد أكثر المفسرون، لا سيما المتصوّفة في تفسير هذا الموضع بألفاظ لها معاني مخصوصة، ولا دليل على التخصيص، وبالجملة فهذه الآية بيان لشرف الذكر وبينها قول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم كما يرويه عن ربه: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه: ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ: ذكرته في ملأ خير منهم» «١».
والذكر ثلاثة أنواع: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وبهما معا، واعلم أن الذكر أفضل الأعمال على الجملة، وإن ورد في بعض الأحاديث تفضيل غيره من الأعمال: كالصلاة وغيرها فإنّ ذلك لما فيها من معنى الذكر والحضور مع الله تعالى.
والدليل على فضيلة الذكر من ثلاثة أوجه الأوّل النصوص الواردة بتفضيله على سائر الأعمال، قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله» «٢». وسئل رسول الله صلّى الله
(١). متفق عليه وعزاه المناوي في الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية للبيهقي عن أبي هريرة وروى مسلم بعضه عن أنس.
(٢). رواه الترمذي عن أبي الدرداء ص ٤٥٩ ج ٥.
عليه واله وسلّم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ذكر الله، قيل الذكر أفضل أم الجهاد في سبيل الله؟
فقال: لو ضرب المجاهد بسيفه في الكفار حتى ينقطع سيفه ويختضب دما: لكان الذاكر أفضل منه «١». الوجه الثاني: أنّ الله تعالى حيث ما أمر بالذكر، أو أثنى على الذكر: اشترط فيه الكثرة، فقال: اذكروا الله ذكرا كثيرا، والذاكرين الله كثيرا، ولم يشترط ذلك في سائر الأعمال الوجه الثالث: أنّ للذكر مزية هي له خاصة وليست لغيره: وهي الحضور في الحضرة العلية، والوصول إلى القرب بالذي عبر عنه ما ورد في الحديث من المجالسة والمعية، فإنّ الله تعالى يقول: أنا جليس من ذكرني «٢»، ويقول: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» متفق عليه من حديث أبي هريرة. وفي رواية البيهقي: وأنا معه حين يذكرني.
وللناس في المقصد بالذكر مقامان: فمقصد العامة اكتساب الأجور، ومقصد الخاصة القرب والحضور، وما بين المقامين بون بعيد. فكم بين من يأخذ أجره وهو من وراء حجاب، وبين من يقرب حتى يكون من خواص الأحباب.
واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة: فمنها التهليل، والتسبيح، والتكبير، والحمد، والحوقلة، والحسبلة، وذكر كل اسم من أسماء الله تعالى، والصلاة على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والاستغفار، وغير ذلك. ولكل ذكر خاصيته وثمرته. وأما التهليل: فثمرته التوحيد: أعني التوحيد الخاص فإنّ التوحيد العام حاصل لكل مؤمن، وأما التكبير: فثمرته التعظيم والإجلال لذي الجلال، وأما الحمد والأسماء التي معناها الإحسان والرحمة كالرحمن الرحيم والكريم والغفار وشبه ذلك: فثمرتها ثلاث مقامات، وهي الشكر، وقوة الرجاء، والمحبة. فإنّ المحسن محبوب لا محالة. وأما الحوقلة والحسبلة: فثمرتها التوكل على الله والتفويض إلى الله، والثقة بالله: وأما الأسماء التي معناها الاطلاع والإدراك كالعليم والسميع والبصير والقريب وشبه ذلك: فثمرتها المراقبة. وأما الصلاة على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: فثمرتها شدّة المحبة فيه، والمحافظة على اتباع سنته، وأما الاستغفار: فثمرته الاستقامة على التقوى، والمحافظة على شروط التوبة مع إنكار القلب بسبب الذنوب المتقدّمة.
ثم إنّ ثمرة الذكر التي تجمع الأسماء والصفات مجموعة في الذكر الفرد وهو قولنا:
الله، الله. فهذا هو الغاية وإليه المنتهى
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أي بمعونته
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ قيل إنها نزلت في الشهداء المقتولين
(١). رواه الترمذي في كتاب الدعاء ص ٤٥٨ ج ٥ عن أبي سعيد الخدري وأوله: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات، قلت ومن الغازين في سبيل الله؟ قال لو ضرب».
(٢). قال عنه العجلوني في كشف الخفاء: رواه البيهقي في الشعب عن أبي بن كعب أوله: قال موسى عليه السلام يا رب: أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك؟ فقيل له يا موسى: أنا... ».
في غزوة بدر، وكانوا أربعة عشر رجلا لما قتلوا حزن عليهم أقاربهم، فنزلت الآية مبينة لمنزلة الشهداء عند الله وتسلية لأقاربهم، ولا يخصها نزولها فيهم بل حكمها على العموم في الشهداء وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نختبركم، وحيث ما جاء الاختبار في حق الله فمعناه: أن يظهر في الوجود ما في علمه، لتقوم الحجة على العبد، وليس كاختبار الناس بعضهم بعضا، لأن الله يعلم ما كان وما يكون، والخطاب بهذا الابتلاء للمسلمين، وقيل: لكفار قريش، والأول أظهر لقوله بعد هذا وبشر الصابرين بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ من الأعداء وَالْجُوعِ بالجدب وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بالخسارة وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ بالجوانح، وقيل ذلك كله بسبب الجهاد إِنَّا لِلَّهِ اللام للملك، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء راجِعُونَ تذكروا الآخرة لتهون عليهم مصائب الدنيا، وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قال: من أصابته مصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها أخلف الله له خيرا مما أصابه. قالت أمّ سلمة فلما مات زوجي أبو سلمة قلت ذلك فأبدلني الله به رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم [أخرجه أحمد عن أم سلمة ج ٦ ص ٣٥٨].
فائدة: ورد ذكر الصبر من القرآن في أكثر من سبعين موضعا، وذلك لعظمة موقعه في الدين. قال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر محصور من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلّا الصبر فإنه لا يحصر أجره، لقوله تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: ١٠]. وذكر الله للصابرين ثمانية أنواع من الكرامة: أوّلها: المحبة، قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: ١٤٦]. والثاني: النصر قال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٣]. والثالث: غرفات الجنة،. قال: يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الفرقان: ٧٥] والرابع: الأجر الجزيل قال: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الفرقان: ٤] والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، ففيها البشارة، قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [الزمر: ١٠] والصلاة والرحمة والهداية أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ والصابرون على أربعة أوجه: صبر على البلاء، وهو منع النفس من التسخيط والهلع والجزع. وصبر على النعم وهو تقييدها بالشكر، وعدم الطغيان، وعدم التكبر بها. وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها. وصبر عن المعاصي بكف النفس عنها، وفوق الصبر التسليم وهو ترك الاعتراض والتسخيط ظاهرا، وترك الكراهة باطنا، وفوق التسليم: الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب محبوب
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ جبلان صغيران بمكة مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي معالم دينه واحدها شعيرة أو شعارة فَلا جُناحَ عَلَيْهِ إباحة للسعي بين
103
الصفا والمروة، والسعي بينهما واجب عند مالك والشافعي، وإنما جاء بلفظ يقتضي الإباحة لأن بعض الصحابة امتنعوا من السعي بينهما، لأنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له أساف، وعلى المروة صنم يقال له نائلة، فخافوا أن يكون السعي بينهما تعظيما للصنمين، فرفع الله ما وقع في نفوسهم من ذلك، ثم إنّ السعي بينهما للسنّة، قالت عائشة رضي الله عنها، «سن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم السعي بين الصفا والمروة، وليس لأحد تركه، وقيل: إنّ الوجوب يؤخذ من قوله «شعائر الله» وهذا ضعيف لأنّ شعائر الله: منها واجبة، ومنها مندوبة، وقد قيل: إنّ السعي مندوب يَطَّوَّفَ أصله يتطوف ثم أدغمت التاء في الطاء وهذا الطواف يراد به السعي سبعة أشواط وَمَنْ تَطَوَّعَ عاما في أفعال البر، وخاصة في الوجوب من السنة أو معنى التطوّع بحج بعد حج الفريضة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم في الكتاب التوراة هنا اللَّاعِنُونَ الملائكة والمؤمنون، وقيل: المخلوقات إلّا الثقلين، وقيل: البهائم لما يصيبهم من الجدب لذنوب الكاتمين للحق وبينوا أي شرط في توبتهم أن يبينوا لأنهم كتموا وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ هم المؤمنون فهو عموم يراد به الخصوص، لأنّ المؤمنين هم الذين يعتد بلعنهم للكافرين، وقيل يلعنهم جميع الناس خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة، وقيل في النار وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ من أنظر إذا أخر، أي لا يؤخرون عن العذاب ولا يمهلون أو من نظر لقوله: «لا ينظر إليهم» إلّا أن يتعدّى بإلى وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ الواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى: أحدها: أنه لا ثاني له فهو نفي للعدد، والآخر: أنه لا شريك له، والثالث: أنه لا يتبعض ولا ينقسم، وقد فسر المراد به هنا في قوله لا إله إلّا هو.
واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات الأولى: توحيد عامة المسلمين وهو الذي يعصم النفس من الهلك في الدنيا، وينجي من الخلود في النار في الآخرة وهو نفي الشركاء والأنداد، والصاحبة والأولاد، والأشباه والأضداد. الدرجة الثانية: توحيد الخاصة، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن، وإنما مقام الخاص في التوحيد يغني «١» في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله والتوكل عليه وحده واطراح جميع الخلق، فلا يرجو إلّا الله، ولا يخاف أحدا سواه إذ ليس يرى فاعلا إلّا إياه
(١). لعل مراد المؤلف رحمه الله: يقع أو يحصل. والله أعلم.
104
ويرى جميع الخلق في قبضة القهر ليس بيدهم شيء من الأمر، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب، والدرجة الثالثة ألّا يرى في الوجود إلّا الله وحده فيغيب عن النظر إلى المخلوقات، حتى كأنها عنده معدومة. وهذا الذي تسميه الصوفية مقام الفناء بمعنى الغيبة عن الخلق حتى أنه قد يفنى عن نفسه، وعن توحيده: أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية ذكر فيها ثمانية أصناف من المخلوقات تنبيها على ما فيها من العبر والاستدلال على التوحيد المذكور قبلها في قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي اختلاف وصفهما من الضياء والظلام والطول والقصر، وقيل إن أحدهما يخلف الآخر بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من التجارة وغيرها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ إرسالها من جهات مختلفة، وهي الجهات الأربع، وما بينهما وبصفات مختلفة فمنها ملقحة للشجر، وعقيم، وصر، وللنصر، وللهلاك.
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين: إحداهما: المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة، والأخرى: المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربانيون، والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإنّ سائر مقامات الصالحين: كالخوف، والرجاء، والتوكل، وغير ذلك فهي مبنية على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، وأن الراجي إنما يرجو منفعة نفسه بخلاف المحبة فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة، واعلم أنّ سبب محبة الله معرفته فتقوى المحبة على قدر قوّة المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإنّ الموجب للمحبة أحد أمرين: وكلاهما إذا اجتمع في شخص من خلق الله تعالى كان في غاية الكمال. الموجب الأوّل الحسن والجمال، والآخر الإحسان والإجمال، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع، فإنّ الإنسان بالضرورة يحب كل ما يستحسن، والإجمال مثل جمال الله في حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تروق العقول وتهيج القلوب، وإنما يدرك جمال الله تعالى بالبصائر، لا بالأبصار، وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر وإنعامه عليهم باطن وظاهر، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: ٣٤]، ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو في الحقيقة منه، وهو المستحق للمحبة وحده.
واعلم أنّ محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح من الجدّ في طاعته والنشاط لخدمته، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه والأنس بذكره، والاستيحاش من غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل من يحبه الله وإيثاره على كل من سواه، قال الحارث المحاسبي: المحبة تسليمك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك، ثم موافقته سرا وجهرا، ثم علمك بتقصيرك في حبه ولو ترى «١» من رؤية العين والذين ظلموا مفعول، وجواب لو محذوف وهو العامل في أن التقدير لو ترى الذين ظلموا لعلمت أنّ القوّة لله أو لعلموا أنّ القوّة لله، ويرى بالياء، وهو على هذه القراءة من رؤيا القلب، والذين ظلموا فاعل، وأن القوّة مفعول يرى، وجواب لو محذوف والتقدير لو يرى الذين ظلموا أنّ القوّة لله لندموا، ولاستعظموا ما حل بهم
إِذْ تَبَرَّأَ بدل من إذ يرون، أو استئناف والعامل فيه محذوف وتقديره اذكر الَّذِينَ اتُّبِعُوا هم الآلهة أو الشياطين أو الرؤساء من الكفار والعموم أولى الْأَسْبابُ هنا الوصلات من الأرحام والمودّات أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ أي سيادتهم «٢» وقيل حسنتهم إذا لم تقبل منهم أو ما عملوا لآلهتهم كُلُوا أمر محمول على الإباحة حَلالًا حال مما في الأرض، أو مفعول بكلوا أو صفة لمفعول محذوف أي: شيئا حلالا طَيِّباً يحتمل أن يريد الحلال خُطُواتِ الشَّيْطانِ ما يأمر به، وأصله من خطوت الشيء. وقال المنذر بن سعيد: يحتمل أن يكون من الخطيئة ثم سهلت همزته، وقرئ بضم الطاء وإسكانها وهي لغتان بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ المعاصي وَأَنْ تَقُولُوا الإشراك وتحريم الحلال كالبحيرة وغير ذلك أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ ردّا على قولهم: بل نتبع الآية في كفار العرب. وقيل في اليهود: أنهم يتبعونهم ولو كانوا لا يَعْقِلُونَ فدخلت همزة الإنكار على واو الحال وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية: في معناها قولان: الأوّل تشبيه الذين كفروا بالبهائم لقلة فهمهم وعدم استجابتهم لمن يدعوهم، ولا بد في هذا من محذوف، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون المحذوف أوّل الآية والتقدير
(١). حسب قراءة المؤلف وهي قراءة نافع وأما في المصحف فحسب قراءة حفص: يرى.
(٢). كذا في الأصل ولعل الصواب: سيئاتهم. [.....]
مثل داعي الذين كفروا إلى الإيمان كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ أي يصيح بِما لا يَسْمَعُ وهي البهائم التي لا تسمع إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ولا يعقل معنى، والآخر: أن يكون المحذوف بعد ذلك، والتقدير: مثل الذين كفروا كمثل مدعوّ الذي ينعق. ويكون دعاء ونداء على الوجهين مفعولا: يسمع والنعيق: هو زجر الغنم، والصياح عليها، فعلى هذا القول شبه الكفار بالغنم وداعيهم بالذي يزجرها وهو يصيح عليها، الثاني: تشبيه الذين كفروا في دعائهم، وعبادتهم لأصنامهم بمن ينعق بما لا يسمع، لأنّ الأصنام لا تسمع شيئا، ويكون دعاء ونداء على هذا منعطف: أي أن الداعي يتعب نفسه بالدعاء أو النداء لمن لم يسمعه من غير فائدة، فعلى هذا شبه الكفار بالنعق صم وما بعده راجع إلى الكفار وذلك غير التآويل الأول ورفعوا على إضمار مبتدأ واشكروا الآية: دليل على وجوب الشكر لقوله:
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ الْمَيْتَةَ ما مات حتف أنفه، وهو عموم خص منه الحوت «١» والجراد، وأجاز مالك أكل الطافي من الحوت، ومنعه أبو حنيفة، ومنع مالك الجراد حتى تسيب في بيوتها بقطع عضو منها أو وضعها في الماء وغير ذلك، وأجازه عبد الحكم دون ذلك وَالدَّمَ يريد المسفوح لتقييده بذلك في سورة الأنعام، ولا خلاف في إباحة ما خالط اللحم من الدم وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ هو حرام سواء ذكّي أو لم يذكّ، وكذلك شحمه بإجماع، وإنما خص اللحم بالذكر، لأنه الغالب في الأكل ولأن الشحم تابع له، وكذلك من حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما حنث بخلاف العكس وَما أُهِلَّ بِهِ أي: صيح لأنهم كانوا يصيحون باسم من ذبح له، ثم استعمل في النية في الذبح لِغَيْرِ اللَّهِ الأصنام وشبهها اضْطُرَّ بالجوع أو بالإكراه، وهو مشتق من الضرورة ووزنه افتعل، وأبدل من التاء طاء غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قيل: باغ على المسلمين، وعاد عليهم، ولذلك لم يرخص مالك في رواية عنه للعاصي بسفره أن يأكل لحم الميتة، والمشهور عنه الترخيص له، وقيل: غير باغ باستعمالها من غير اضطرار وقيل: باغ أي متزايد على إمساك رمقه. ولهذا لم يجز الشافعي للمضطر أن يشبع من الميتة. قال مالك: بل يشبع ويتزوّد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ رفع للحرج، ويجب على المضطر أكل الميتة لئلا يقتل نفسه بالجوع وإنما تدل الآية على الإباحة لا على الوجوب، وقد اختلف هل يباح له ميتة بني آدم أم لا، فمنعه مالك وأجازه الشافعي لعموم الآية
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ اليهود ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ أي أكلهم للدنيا يقودهم إلى النار،
(١). بلغة المغرب يشمل أنواع السمك.
107
فوضع السبب موضع المسبب، وقيل: يأكلون النار في جهنم حقيقة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عبارة عن غضبه عليهم، وقيل: لا يكلمهم بما يحبون وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يثني عليهم فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب من جرأتهم على ما يقودهم إلى النار أو من صبرهم على عذاب النار في الآخرة، وقيل: إنها استفهام، وأصبرهم بمعنى صبرهم، وهذا بعيد، وإنما حمل قائله عليه اعتقاده أن التعجب مستحيل على الله لأنه استعظام خفي سببه، وذلك لا يلزم فإنه في حق الله غير خفي السبب ذلِكَ إشارة إلى العذاب ورفعه بالابتداء أو بفعل مضمر بِأَنَّ اللَّهَ الباء سببية نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن هنا بِالْحَقِّ أي بالواجب، أو بالإخبار الحق أي الصادق، والباء فيه سببية أو للمصاحبة الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ اليهود والنصارى، والكتاب على هذا التوراة والإنجيل، وقيل: الذين اختلفوا العرب، والكتاب على هذا القرآن، ويحتمل جنس الكتاب في الموضعين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي بعيد من الحق والاستقامة.
لَيْسَ الْبِرَّ الآية: خطاب لأهل الكتاب لأن المغرب قبلة اليهود، والمشرق قبلة النصارى: أي إنما البر التوجه إلى الكعبة، وقيل خطاب للمؤمنين أي ليس البر الصلاة خاصة، بل البر جميع الأشياء المذكورة بعد هذا وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ لا يصح أن يكون خبرا عن البر فتأويله: لكن صاحب البر من آمن، أو لكن البرّ برّ من أمن أو يكون البر مصدرا وصف به وَآتَى الْمالَ صدقة التطوّع، وليست بالزكاة لقوله بعد ذلك: وآتى الزكاة عَلى حُبِّهِ الضمير عائد على المال لقوله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية وهو الراجح من طريق المعنى. وعود الضمير على الأقرب وهو على هذا تتميم وهو من أدوات البيان، وقيل يعود على مصدر آتى، وقيل على الله ذَوِي الْقُرْبى وما بعده ترتيب بتقديم الأهم فالأهم، والأفضل لأنّ الصدقة على القرابة صدقة وصلة بخلاف من بعدهم. ثم اليتامى لصغرهم وحاجتهم ثم المساكين للحاجة خاصة، وابن السبيل الغريب، وقيل الضعيف، والسائلين وإن كانوا غير محتاجين، وفي الرقاب عتقها وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ أي العهد مع الله ومع الناس وَالصَّابِرِينَ نصب على المدح بإضمار فعل فِي الْبَأْساءِ الفقر وَالضَّرَّاءِ المرض وَحِينَ الْبَأْسِ القتال صَدَقُوا في القول والفعل والعزيمة
108
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ أي شرع لكم، وليس بمعنى فرض، لأنّ ولي المقتول مخيّر بين القصاص والدية والعفو، وقيل: بمعنى فرض أي: فرض على القاتل الانقياد للقصاص، وعلى ولي المقتول أن لا يتعداه إلى غيره كفعل الجهلة. وعلى الحاكم التمكين من القصاص الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ظاهره اعتبار التساوي بين القاتل والمقتول في الحرية والذكورية، ولا يقتل حر بعبد، ولا ذكر بأنثى إلّا أن العلماء أجمعوا على قتل الذكر بالأنثى، وزاد قوم: أن يعطى أولياؤها حينئذ نصف الدية لأولياء الرجل المقتصّ منه خلافا لمالك وللشافعي وأبو حنيفة، وأما قتل الحرّ بالعبد فهو مذهب أبي حنيفة خلافا لمالك والشافعي، فعلى هذا لم يأخذ أبو حنيفة بشيء من ظاهر الآية لا في الذكورية ولا في الحرية لأنها عنده منسوخة، وأخذ مالك بظاهرها في الحرية كما في الذكورية، وتأويلها عنده: أن قوله: الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد عموم يدخل فيه: الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى والأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى، ثم تكرر قوله: والأنثى بالأنثى:
تأكيد للتجديد، لأنّ بعض العرب إذا قتل منهم أنثى قتلوا بها ذكرا تكبرا وعدوانا، وقد يتوجّه قول مالك على نسخ جميعها، ثم يكون عدم قتل الحرّ بالعبد من السنة، وهو قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «لا يقتل حرّ بعبد» «١»، والناسخ لها على القول بالنسخ: عموم قوله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: ٤٥] على أن هذا ضعيف، لأنه إخبار عن حكم بني إسرائيل فَمَنْ عُفِيَ لَهُ الآية: فيها تأويلان: أحدهما: أن المعنى من قتل فعفي عنه فعليه أداء الدية بإحسان، وعلى أولياء المقتول اتباعه بها على وفاء، فعلى هذا: من كناية عن القاتل، وأخيه هو المقتول أو واليه، وعفي من العفو من القصاص، وأصله أن يتعدى بعن، وإنما تعدّى هنا باللام لأنه كقولك: تجاوزت لفلان عن ذنبه، وعلى الثاني: من أعطيته الدية فعليه اتباع المعروف، وعلى القاتل أداء بإحسان، فعلى هذا: من كناية عن أولياء المقتول، وأخيه هو القاتل أو عاقلته، وعفي بمعنى يسّر: كقوله: خذ العفو أي ما تيسر، ولا إشكال في تعدّي عفى باللام على هذا المعنى ذلِكَ تَخْفِيفٌ إشارة إلى جواز أخذ الدية، لأن بني إسرائيل لم يكن عندهم دية. وإنما هو القصاص فَمَنِ اعْتَدى أي قتل قاتل وليه بعد أن أخذ منه الدية عَذابٌ أَلِيمٌ القصاص منه وقيل: عذاب الآخرة وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ بمعنى قولهم: القتل أنفى للقتل أي أن القصاص يردع الناس عن القتل، وقيل: المعنى أن القصاص أقل قتلا، لأنه قتل واحد بواحد، بخلاف ما كان في
(١). ذكره المناوي في التفسير وعزاه للبيهقي عن ابن عباس وقال: وبه أخذ الشافعي والجمهور وضعفه الذهبي وابن حجر وغيرهما.
الجاهلية من اقتتال قبيلتي القاتل والمقتول، حتى يقتل بسبب ذلك جماعة
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كانت فرضا قبل الميراث ثم نسختها آية الميراث مع قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «لا وصية لوارث» «١» وبقيت الوصية مندوبة لمن لا يرث من الأقربين، وقيل:
معناها الوصية بتوريث الوالدين والأقربين على حسب الفرائض، فلا تعارض بينها وبين المواريث، ولا نسخ، والأوّل أشهر كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أي: فرض، والقصد بقوله:
كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وبقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ تسهيل الصيام على المسلمين، وملاطفة جميلة، والذي كتب على الذين من قبلنا الصيام مطلقا، وقيل: كتب على الذين من قبلنا رمضان فبدلوه أَيَّاماً منصوب بالصيام وهو مصدر أو بمحذوف، ويبعد انتصابه بتتقون فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً الآية: إباحة للفطر مع المرض والسفر، وقد يجب الفطر إذا خاف الهلاك، وفي الكلام عند الجمهور محذوف يسمى فحوى الخطاب، والتقدير: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعليه عدّة من أيام أخر، ولم يفعل الظاهرية «٢» بهذا المحذوف فرأوا أنّ صيام المسافر والمريض لا يصح، وأوجبوا عليه عدّة من أيام أخر، وإن صام في رمضان، وهذا منهم جهل بكلام العرب، وليس في الآية ما يقتضي تحديد السفر، وبذلك قال الظاهرية، وحدّه في مشهور مذهب مالك: أربعة برد «٣» وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قيل: يطيقونه من غير مشقة فيفطرون ويكفرون. ثم نسخ جواز الإفطار بقوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، وقيل: يطيقونه بمشقة كالشيخ الهرم، فيجوز له الفطر فلا نسخ على هذا، فَمَنْ تَطَوَّعَ أي صام ولم يأخذ بالفطر والكفارة، وذلك على القول بالنسخ، وقيل تطوّع بالزيادة في مقدار الإطعام، وذلك على القول بعدم النسخ.
شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر أو بدل من الصيام أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان، ثم نزل به جبريل على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بطول عشرين سنة، وقيل: المعنى أنزل في
(١). الحديث جزء من خطبة حجة الوداع وقد رواه أحمد عن عمرو بن خارجة ج ٤ ص ٢٥٦.
(٢). أتباع الإمام داود الظاهري وابن حزم منهم أي مرحلتين وتقدران في أيامنا بمسافة ٧٠ كلم.
(٣). أتباع الإمام داود الظاهري وابن حزم منهم أي مرحلتين وتقدران في أيامنا بمسافة ٧٠ كلم.
110
شأنه القرآن: كقولك أنزل القرآن في فلان، وقيل: المعنى ابتدأ فيه إنزال القرآن هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى أي: أن القرآن هدى للناس، ثم هو مع ذلك من مبينات الهدى، وذلك أن الهدى على نوعين: مطلق وموصوف بالبينات، فالهدى الأوّل هنا على الإطلاق، وقوله من البينات والهدى أي: وهو من الهدى المبين، فهو من عطف الصفات كقولك:
فلان عالم وجليل من العلماء فَمَنْ شَهِدَ أي كان حاضرا غير مسافر، والشهر منصوب على الظرفية، واليسر والعسر على الإطلاق، وقيل: اليسر الفطر في السفر، والعسر الصوم فيه وَلِتُكْمِلُوا متعلق بمحذوف تقديره شرع، أو عطف على اليسر الْعِدَّةَ الأيام التي أفطر فيها وَلِتُكَبِّرُوا التكبير يوم العيد أو مطلقا أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ مقيد بمشيئة الله، وموافقة القدر، وهذا جواب من قال: كيف لا يستجاب الدعاء مع وعد الله بالاستجابة فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي امتثال ما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة أُحِلَّ لَكُمْ الآية: كان الأكل والجماع محرّما بعد النوم في ليل رمضان، فجرت لذلك قصة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولصرمة بن مالك «١»، فأحلهما الله تخفيفا على عباده الرَّفَثُ هنا الجماع، وإنما تعدّى بإلى لأنه في معنى الإفضاء هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ تشبيه بالثياب، لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر، وهذا تعليل للإباحة تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي تأكلون وتجامعون بعد النوم في رمضان فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ أي غفر ما وقعتم فيه من ذلك، وقيل: رفع عنكم ذلك الحكم بَاشِرُوهُنَّ إباحة ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قيل: الولد يبتغى بالجماع، وقيل: الرخصة في الأكل والجماع لمن نام في ليل رمضان بعد منعه مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض لا للأسود لأنّ الفجر ليس له سواد، والخيط هنا استعارة:
يراد بالخيط الأبيض بياض الفجر، وبالخيط الأسود: سواد الليل، وروي أن قوله من الفجر: نزل بعد ذلك بيانا لهذا المعنى، لأنّ بعضهم جعل خيطا أبيض وخيطا أسود تحت وسادته، وأكل حتى تبين له، فقال له النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: إنما هو بياض النهار وسواد الليل إِلَى اللَّيْلِ أي إلى أوّل الليل، وهو غروب الشمس. فمن أفطر قبل ذلك
(١). في الطبري: أبو قيس بن صرمة من الخزرج. وقيل: صرمة بن أنس أو أبي أنس.
111
فعليه القضاء والكفارة، ومن شك هل غربت أم لا فأفطر، فعليه القضاء والكفارة وأيضا وقيل القضاء فقط، وقالت عائشة رضي الله عنها: «إلى الليل» يقتضي المنع من الوصال، وقد جاء ذلك في الحديث وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ تحريم للمباشرة حين الاعتكاف، قال الجمهور:
المباشرة هنا الجماع فما دونه. وقيل الجماع فقط، فِي الْمَساجِدِ دليل على جواز الاعتكاف في كل مسجد خلافا لمن قال: لا اعتكاف إلّا في المسجد الحرام، ومسجد المدينة، وبيت المقدس: وفيه أيضا دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلّا في المساجد، لا في غيرها خلافا لمن أجازه في غيرها من مفهوم الآية حُدُودُ اللَّهِ أحكامه التي أمر بالوقوف عندها فَلا تَقْرَبُوها أي لا تقربوا مخالفتها، واستدل بعضهم به على سدّ الذرائع لأنّ المقصود النهي عن المخالفة للحدود لقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: ٢٢٩]، ثم نهى هنا عن مقاربة المخالفة سدّا للذريعة
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ أي لا يأكل بعضكم مال بعض بِالْباطِلِ كالقمار، والغصب، وجحد الحقوق وغير ذلك وَتُدْلُوا عطف على: لا تأكلوا، أو نصب بإضمار أن وهو من: أدلى الرجل بحجته إذا قام بها، والمعنى: نهى عن أن يحتج بحجة باطلة، ليصل بها إلى أكل مال الناس، وقيل:
نهى عن رشوة الحكام بأموال للوصول إلى أكل أموال الناس، فالباء على الأوّل سببية، وعلى الثاني للإلصاق بِالْإِثْمِ الباء سببية أو للمصاحبة، والإثم على القول الأوّل في تدلوا: إقامة الحجة الباطلة كشهادة الزور، والأيمان الكاذبة، وعلى القول الثاني: الرشوة.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ سببها أنهم سألوا عن الهلال، وما فائدته ومخالفته لحال الشمس، والهلال ليلتان من أوّل الشهر، وقيل: ثلاث، ثم يقال له قمر مَواقِيتُ جمع ميقات لمحل الديون والأكرية «١» والقضاء والعدد وغير ذلك. ثم ذكر الحج اهتماما بذكره، وإن كان قد دخل في المواقيت للناس وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية: كان قوم إذا رجعوا من الحج لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، وإنما يدخلون من ظهورها، ويقولون: لا يحول بيننا وبين السماء شيء فنزلت الآية:
إعلاما بأنّ ذلك ليس من البر، وإنما ذكر ذلك بعد ذكر الحج لأنه كان عندهم من تمام الحج، وقيل: المعنى ليس البر أن تسألوا عن الأهلة وغيرها مما لا فائدة لكم فيه، فتأتون الأمور على غير ما يجب، فعلى هذا البيوت وأبوابها وظهورها استعارة: يراد بالبيوت المسائل، وبظهورها السؤال عما لا يفيد، وأبوابها السؤال عما يحتاج إليه الْبِرَّ مَنِ اتَّقى تأويله مثل البر من آمن.
(١). جمع كراء أي إجارة وجمعها أجور، والعدد جمع: عدّة.
الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ كان القتال غير مباح في أوّل الإسلام، ثم أمر بقتال الكفار الذين يقاتلون المسلمين دون من لم يقاتل، وذلك مقتضى هذه الآية، ثم أمر بقتال جميع الكفار في قوله: قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فهذه الآية منسوخة، وقيل:
إنها محكمة وأنّ المعنى: قاتلوا الرجال الذين هم بحال من يقاتلونكم، دون النساء والصبيان الذين لا يقاتلونكم، والأوّل أرجح وأشهر وَلا تَعْتَدُوا أي بقتال من لم يقاتلكم على القول الأول، وبقتال النساء والصبيان على القول الثاني وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكة، لأن قريشا أخرجوا منها المسلمين وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي فتنة المؤمن عن دينه أشدّ عليه من قتله، وقيل: كفر الكفار أشدّ من قتل المؤمنين لهم في الجهاد عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ منسوخ بقوله: حيث وجدتموهم، وهذا يقوّي نسخ الذين يقاتلونكم فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فأسلموا بدليل قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ. وإنما يغفر للكافر إذا أسلم لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا يبقى دين كفر الشَّهْرُ الْحَرامُ الآية: نزلت لما صدّ الكفار النبي صلّى الله عليه واله وسلّم عن دخول مكة للعمرة، عام الحديبية في شهر ذي الحجة، فدخلها في العام الذي بعده في شهر ذي القعدة، أي: الشهر الحرام الذي دخلتم فيه مكة بالشهر الحرام الذي صددتم فيه عن دخولها وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي حرمة الشهر والبلد حين دخلتموها قصاص بحرمة الشهر، والبلد حين صددتم عنها فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ تسمية للعقوبة باسم الذنب، أي: قاتلوا من قاتلكم، ولا تبالوا بحرمة من صدّكم عن دخول مكة تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قال أبو أيوب الأنصاري: المعنى لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد، وقيل: لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العيلة وقيل: لا تقنطوا من التوبة، وقيل:
لا تقتحموا المهالك، والباء في بأيديكم زائدة، وقيل: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي: أكملوهما إذا ابتدأتم عملهما، قال ابن عباس: إتمامهما إكمال المناسك. وقال عليّ: إتمامهما أن تحرم بهما من دارك، ولا حجة فيه لمن أوجب العمرة لأن الأمر إنما هو بالإتمام لا بالابتداء فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ المشهور في اللغة: أحصره المرض، بالألف، وحصره العدوّ. وقيل: بالعكس، وقيل: هما بمعنى واحد، فقال
113
مالك: أحصرتم هنا بالمرض على مشهور اللغة، فأوجب عليه الهدي «١» ولم يوجبه على من حصره العدوّ، وقال الشافعي وأشهب: «٢» يجب الهدي على من حصره العدو، وعمل الآية على ذلك، واستدلا بنحر النبي صلّى الله عليه واله وسلّم الهدي بالحديبية، وقال أبو حنيفة: يجب الهدي على المحصر بعدوّ وبمرض فَمَا اسْتَيْسَرَ أي فعليكم ما استيسر من الهدي وذلك شاة، وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ خطابا للمحصر وغيره فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً الآية: نزلت في كعب بن عجرة حين رآه النبي صلّى الله عليه واله وسلّم فقال له:
لعلك يؤذيك هوامّ رأسك: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام وأطعم ستة مساكين أو أنسك بشاة «٣»، فمعنى الآية: أن من كان في الحج واضطره مرض أو قمل إلى حلق رأسه قبل يوم النحر جاز له حلقه وعليه صيام أو صدقة أو نسك حسبما تفسر في الحديث، وقاس الفقهاء على حلق الرأس سائر الأشياء التي يمنع الحاج منها إلّا الصيد، والوطء، وقصر الظاهرية ذلك على حلق الرأس، ولا بدّ في الآية من مضمر لا ينتقل الكلام عنه، وهو المسمى فحوى الخطاب، وتقديرها: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق رأسه فعليه فدية فَإِذا أَمِنْتُمْ أي من المرض على قول مالك، ومن العدوّ على قول غيره، والمعنى: إذا كنتم بحال أمن سواء تقدم مرض أو خوف عدوّ أو لم يتقدم فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ التمتع عند مالك وغيره: هو أن يعتمر الإنسان في أشهر الحج، ثم يحج من عامه، فهو قد تمتع بإسقاط أحد السفرين للحج أو العمرة، وقال عبد الله بن الزبير: التمتع هو أن يحصر عن الحج بعدوّ حتى يفوته الحج، فيعتمر عمرة يتحلل بها من إحرامه، ثم يحج من قابل قضاء لحجته، فهو قد تمتع بفعل الممنوعات من الحج، في وقت تحلله بالعمرة إلى الحج القابل، وقيل: التمتع هو قران الحج والعمرة فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وقتها من إحرامه إلى يوم عرفة فإن فاته صام أيام التشريق إِذا رَجَعْتُمْ إلى بلادكم أو في الطريق تِلْكَ عَشَرَةٌ فائدته أن السبع تصام بعد الثلاثة فتكون عشرة، ورفع لئلا يتوهم أن السبعة بدل من الثلاثة، وقيل: هو مثل الفذلكة وهو قول الناس بعد الأعداد فذلك كذا، وقيل: كاملة في الثواب لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني غير أهل مكة وذي طوى بإجماع، وقيل: أهل الحرم كله، وقيل: من كان دون الميقات، وقوله ذلك. إشارة إلى الهدي أو الصيام: أي إنما يجب
(١). الهدي: هو ما يهدى من الإبل وغيرها ينحر في الحرم.
(٢). هو أحد علماء المالكية أخذ عن مالك واسمه أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي المصري توفي ٢٠٤ هـ بمصر.
(٣). رواه البخاري ج ٢/ ٢٠٨ كتاب المحصر.
114
الهدي أو الصيام بدلا منه على الغرباء، لا على أهل مكة، وقيل: ذلك إشارة إلى التمتع.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ التقدير: أشهر الحج أشهر، أو الحج في أشهر وهي: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، وقيل: العشر الأول منه، وينبني على ذلك أن من أخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة: فعليه دم على القول بالعشر الأول، ولا دم عليه على قول بجميع الشهر، واختلف فيمن أحرم بالحج قبل هذه الأشهر، فأجازه مالك على كراهة. ولم يجزه الشافعي وداود لتعيين هذا الاسم كذلك فكأنها كوقت الصلاة فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي ألزم بالحج نفسه فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ الرفث: الجماع، وقيل الفحش من الكلام، والفسوق: المعاصي، والجدال: المراء مطلقا، وقيل: المجادلة في مواقيت الحج، وقيل: النسيء الذي كانت العرب تفعله وَتَزَوَّدُوا قيل: احملوا زادا في السفر، وقيل:
تزوّدوا للآخرة بالتقوى، وهو الأرجح لما بعده فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي التجارة في أيام الحج أباحها الله تعالى، وقرأ ابن عباس: فضلا من ربكم في مواسم الحج أَفَضْتُمْ اندفعتم جملة واحدة مِنْ عَرَفاتٍ اسم علم للموقف، والتنوين فيه في مقابلة النون في جمع المذكر لا تنوين صرف، فإن فيه التعريف والتأنيث الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أي المزدلفة، والوقوف بها سنة كَما هَداكُمْ الكاف للتعليل وَإِنْ كُنْتُمْ إن مخففة من الثقيلة، ولذلك جاء اللام في خبرها مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل الهدى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فيه قولان: أحدهما: أنه أمر للجنس وهم قريش ومن تبعهم كانوا يقفون بالمزدلفة لأنها حرم، ولا يقفون بعرفة مع سائر الناس لأنها حلّ، ويقولون: نحن أهل الحرم لا نقف إلّا بالحرم، فأمرهم الله تعالى أن يقفوا بعرفة مع الناس ويفيضوا منها، وقد كان النبي صلى الله عليه واله وسلّم قبل ذلك يقف مع الناس بعرفة توفيقا من الله تعالى له، والقول الثاني: أنها خطاب لجميع الناس، ومعناها: أفيضوا من المزدلفة إلى منى، فثم: على هذا القول على بابها من الترتيب، وأما على القول الأوّل فليست للترتيب، بل للعطف خاصة، قال الزمخشري: هي كقولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم، فإن معناها التفاوت بين ما قبلها وما بعدها وأن ما بعدها أوكد قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فرغتم من أعمال الحج كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ لأن الإنسان كثيرا ما يذكر آباءه، وقيل: كانت العرب يذكرون
آباءهم مفاخرة عند الجمرة، فأمروا بذكر الله عوضا من ذلك
آتِنا فِي الدُّنْيا كان الكفار إنما يدعون بخير الدنيا خاصة، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة حَسَنَةً قيل: العمل الصالح وقيل:
المرأة الصالحة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً الجنة نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يحتمل أن تكون من سببية أي لهم نصيب من الحسنات التي اكتسبوها، والنصيب على هذا الثواب سَرِيعُ الْحِسابِ فيه وجهان: أحدهما أن يراد به سرعة مجيء يوم القيامة، لأن الله لا يحتاج إلى عدّة ولا فكرة وقيل لعليّ رضي الله عنه: كيف يحاسب الله الناس على كثرتهم؟ قال كما يرزقهم على كثرتهم فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، والذكر فيها:
التكبير في أدبار الصلوات، وعند الجمار وغير ذلك فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أي انصرف في اليوم الثاني من أيام التشريق وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى اليوم الثالث فرمى فيه بقية الجمار، وأما المتعجل فقيل: يترك رمي الجمار اليوم «١»، وقيل: يقدّمها في اليوم الثاني فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في الموضعين، قيل إنه إباحة للتعجل والتأخر، وقيل: إنه إخبار عن غفران الإثم وهو الذنب للحاج، سواء تعجل أو تأخر لِمَنِ اتَّقى أما على القول بأن معنى: فلا إثم عليه الإباحة، فالمعنى أن الإباحة في التعجيل والتأخر لمن اتقى أن يأثم فيهما، فقد أبيح له ذلك من غير إثم، وأمّا على القول: بأن معنى فلا إثم عليه إخبار بغفران الذنوب، فالمعنى أن الغفران إنما هو لمن اتقى الله في حجه، كقوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» «٢» فاللام متعلقة إمّا بالغفران أو بالإباحة المفهومين من الآية مَنْ يُعْجِبُكَ الآية قيل نزلت في الأخنس بن شريق، فإنه أظهر الإسلام، ثم خرج فقتل دواب المسلمين وأحرق لهم زرعا، وقيل: في المنافقين، وقيل: عامة في كل من كان على هذه الصفة فِي الْحَياةِ متعلق بقوله:
يعجبك: أي يعجبك ما يقول أي يعجبك ما يقول في أمر الدنيا ويحتمل أن يتعلق بيعجبك وَيُشْهِدُ اللَّهَ أي يقول: الله أعلم أنّه لصادق. أَلَدُّ الْخِصامِ شديد الخصومة تَوَلَّى أدبر بجسده أو أعرض بقلبه، وقيل: صار واليا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ على القول بأنها في الأخنس، فإهلاك الحرث حرقه الزرع، وإهلاك النسل قتله الدواب، وعلى القول
(١). الثالث.
(٢). أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة ج ٢ ص ٦٤٠.
بالعموم: فالمعنى مبالغته في الفساد، وعبّر عن ذلك بإهلاك الحرث والنسل لأنهما قوام معيشة ابن آدم، فإنّ الحرث هو الزرع والفواكه وغير ذلك من النبات، والنسل هو الإبل والبقر والغنم وغير ذلك مما يتناسل
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ المعنى: أنه لا يطيع من أمره بالتقوى تكبرا والباء يحتمل أن تكون سببية أو بمعنى مع. وقال الزمخشري: هي كقولك:
أخذ الأمير الناس بكذا أي ألزمهم إياه، فالمعنى حملته العزة على الإثم مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي يبيعها، قيل: نزلت في صهيب. وقيل: على العموم، وبيع النفس في الهجرة أو الجهاد، وقيل: في تغيير المنكر، وأنّ الذي قبلها فيمن غيّر عليه فلم ينزجر السِّلْمِ بفتح السين المسالمة، والمراد بها هنا عقد الذمة بالجزية، والأمر على هذا لأهل الكتاب، وخوطبوا بالذين آمنوا لإيمانهم بأنبيائهم وكتبهم المتقدمة، وقيل: هو الإسلام، وكذلك هو بكسر السين «١»، فيكون الخطاب لأهل الكتاب، وعلى معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام، وقيل: إنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا وأرادوا أن يعظموا السبت كما كانوا فالمعنى على هذا: ادخلوا في الإسلام، واتركوا سواه ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين على معنى الأمر بالثبوت عليه، والدخول في جميع شرائعه من الأوامر والنواهي كَافَّةً عموم في المخاطبين، في شرائع الإسلام فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تهديد لمن زل بعد البيان هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ تأويله عند المتأوّلين: يأتيهم عذاب الله في الآخرة، أو أمره في الدنيا، وهي عند السلف الصالح من المتشابه يجب الإيمان بها من غير تكييف ويحتمل أن لا تكون من المتشابه لأنّ قوله: ينظرون بمعنى يطلبون بجهلهم كقولهم: لولا يكلمنا الله فِي ظُلَلٍ جمع ظلة وهي: ما علاك من فوق، فإن كان ذلك لأمر الله فلا إشكال وإن كان لله فهو من المتشابه الْغَمامِ السحاب وَقُضِيَ الْأَمْرُ فرغ منه، وذلك كناية عن وقوع العذاب.
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ: على وجه التوبيخ لهم، وإقامة الحجة عليهم مِنْ آيَةٍ معجزات موسى، أو الدلالات على نبوّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم وَمَنْ يُبَدِّلْ وعيد
وَيَسْخَرُونَ كفار قريش سخروا من فقراء المسلمين كبلال وصهيب وَالَّذِينَ اتَّقَوْا
(١). كما هي رواية حفص عن عاصم الكوفي.
هم المؤمنون الذين سخر الكفار منهم فَوْقَهُمْ أي أحسن حالا منهم، ويحتمل فوقية المكان، لأنّ الجنة في السماء يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ إن أراد في الآخرة، ف مِنَ كناية عن المؤمنين، والمعنى ردّ على الكفار أي إن رزق الله الكفار في الدنيا، فإن المؤمنين يرزقون في الآخرة، وإن أراد في الدنيا فيحتمل أن يكون مِنَ كناية عن المؤمنين أي سيرزقهم، ففيه وعد لهم، وأن تكون كناية عن الكافرين أي أنّ رزقهم في الدنيا بمشيئة الله، لا على وجه الكرامة لهم بِغَيْرِ حِسابٍ إن كان للمؤمنين فيحتمل أن يريد بغير تضييق ومن حيث لا يحتسبون، أو لا يحاسبون عليه، وإن كان للكفار فمن غير تضييق أُمَّةً واحِدَةً أي متفقين في الدين، وقيل: كفارا في زمن نوح عليه السلام، وقيل: مؤمنين ما بين آدم ونوح، أو من كان مع نوح في السفينة وعلى ذلك يقدر: فاختلفوا بعد اتفاقهم، ويدل عليه أمّة واحدة فاختلفوا الْكِتابَ هنا: جنس أو في كل نبيّ وكتابه وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ الضمير المجرور يعود على الكتاب، أو على الضمير المجرور المتقدم، وقال الزمخشري: يعود على الحق، وأما الضمير في أوتوه، فيعود على الكتاب، المعنى: تقبيح الاختلاف بين الذين أوتوا الكتاب بعد أن جاءتهم البينات بَغْياً أي حسدا أو عدوانا، وهو مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني أمّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي للحق لما اختلفوا فيه فما بمعنى الذي وقبلها مضاف محذوف، والضمير في اختلفوا لجميع الناس، يريد اختلافهم في الأديان، فهدى الله المؤمنين لدين الحق، وتقدير الكلام: فهدى الله الذين آمنوا لإصابة ما اختلف فيه الناس من الحق، ومن في قوله من الحق لبيان الجنس أي جنس ما وقع فيه الخلاف بِإِذْنِهِ قيل: بعلمه، وقيل بأمره.
أَمْ حَسِبْتُمْ: خطاب للمؤمنين على وجه التشجيع لهم، والأمر بالصبر على الشدائد وَلَمَّا يَأْتِكُمْ أي لا تدخلوا الجنة حتى يصيبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم مَثَلُ الَّذِينَ أي حالهم وعبّر عنه بالمثل لأنه في شدته يضرب به المثل وَزُلْزِلُوا بالتخويف والشدائد ألا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يحتمل أن يكون جوابا للذين قالوا: متى نصر الله؟ وأن يكون إخبارا مستأنفا، وقيل: إن الرسول قال ذلك لما قال الذين معه: متى نصر الله
فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إن أريد بالنفقة الزكاة، فذلك منسوخ والصواب أن المراد التطوّع
118
فلا نسخ، وقدم في الترتيب الأهم فالأهم، وورد السؤال على المنفق، والجواب عن مصرفه لأنه كان المقصود بالسؤال، وقد حصل الجواب عن المنفق في قوله: من خير.
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ: إن كان فرضا على الأعيان فنسخه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: ١٢٢] فصار القتال فرض كفاية، وإن كان على الكفاية فلا نسخ كُرْهٌ مصدر ذكر للمبالغة، أو اسم مفعول كالخبز بمعنى المخبوز وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا حض على القتال.
الشَّهْرِ الْحَرامِ: جنس وهو أربعة أشهر: رجب، وذو القعدة وذو الحجة، والمحرم قتال فيه بدل من الشهر وهو مقصود السؤال قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ «١» أي ممنوع ثم نسخه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وذلك بعيد فإن حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ عموم في الأمكنة لا في الأزمنة، ويظهر أن ناسخه وقاتلوا المشركين كافة بعد ذكر الأشهر الحرم، فكان التقدير: قاتلوا فيها، ويدل عليه: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: ٣٦]، ويحتمل أن يكون المراد وقوع القتال في الشهر الحرام: أي إباحته حسبما استقر في الشرع، فلا تكون الآية منسوخة، بل ناسخة لما كان في أوّل الإسلام، ومن تحريم القتال في الأشهر الحرم وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ابتداء، وما بعده معطوف عليه، وأكبر عند الله خبر الجميع، أي أن هذه الأفعال القبيحة التي فعلها الكفار: أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام الذي عيّر به الكفار المسلمين سرية عبد الله بن جحش، حين قاتل في أوّل يوم من رجب، وقد قيل:
إنه ظن أنه آخر يوم من جمادى وَالْمَسْجِدِ عطف على سبيل الله حَتَّى يَرُدُّوكُمْ قال الزمخشري: حتى هنا للتعليل فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ذهب مالك على أن المرتد يحبط عمله بنفس الارتداد، سواء رجع إلى الإسلام، أو مات على الارتداد. ومن ذلك انتقاض وضوئه، وبطلان صومه، وذهب الشافعي إلى أنه: لا يحبط إلّا إن مات كافرا لقوله:
فيمت وهو كافر، وأجاب المالكية بقوله حبطت أعمالهم جزاء على الردة، وقوله:
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء على الموت على الكفر، وفي ذلك نظر إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
(١). كبير هنا بمعنى أمر كبير، أي منكر. راجع الطبري. [.....]
119
الآية: نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه
الْخَمْرِ كل مسكر من العنب وغيره وَالْمَيْسِرِ القمار، وكان ميسر العرب بالقداح في لحم الجزور، ثم يدخل في ذلك النرد والشطرنج وغيرهما، وروي أن السائل عنهما كان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إِثْمٌ كَبِيرٌ نص في التحريم وأنهما من الكبائر «١»، لأن الإثم حرام لقوله: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم [الأعراف: ٣٣] خلافا لمن قال: إنما حرمتها آية المائدة لا هذه الآية وَمَنافِعُ في الخمر التلذذ والطرب، وفي القمار: الاكتساب به. ولا يدل ذكر المنافع على الإباحة قال ابن عباس: المنافع قبل التحريم، والإثم بعده وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ تغليبا للإثم على المنفعة، وذلك أيضا بيان للتحريم قُلِ الْعَفْوَ أي السهل من غير مشقة، وقراءة الجماعة بالنصب بإضمار فعل مشاكلة للسؤال، على أن يكون ما مبتدأ، وذا خبره تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي في أمرهما وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى كانوا قد تجنبوا اليتامى تورّعا، فنزلت إباحة مخالطتهم بالإصلاح لهم، فإن قيل: لم جاء ويسألونك بالواو ثلاث مرات، وبغير واو ثلاث مرات قبلها؟ فالجواب: أن سؤالهم عن المسائل الثلاث الأولى وقع في أوقات مفترقة فلم يأت بحرف عطف وجاءت الثلاثة الأخيرة بالواو لأنها كانتا متناسقة وَاللَّهُ يَعْلَمُ تحذير من الفساد، وهو أكل أموال اليتامى لَأَعْنَتَكُمْ لضيّق عليكم بالمنع من مخالطتهم، قال ابن عباس: لأهلككم بما سبق من أكلكم لأموال اليتامى
وَلا تَنْكِحُوا أي لا تتزوّجوا، والنكاح مشترك بين الوطء والعقد الْمُشْرِكاتِ عبّاد الأوثان من العرب، فلا تتناول اليهود ولا النصارى المباح نكاحهن في المائدة، فلا تعارض بين الموضعين، ولا نسخ، خلافا لمن قال: آية المائدة نسخت هذه، ولمن قال:
هذه نسخت آية المائدة فمنع نكاح الكتابيات، ونزول الآية بسبب مرثد الغنوي أراد أن يتزوّج امرأة مشركة وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ أي أمة لله، حرّة كانت أو مملوكة وقيل: أمة مملوكة خير من حرّة مشركة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ في الجمال والمال وغير ذلك وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أي لا تزوّجوهم نساءكم. وانعقد الإجماع على أن الكافر لا يتزوّج مسلمة، سواء كان كتابيا أو غيره، واستدل المالكية على وجوب الولاية في النكاح بقوله: ولا
(١). هذه الآية تمهيد للتحريم بدليل استمرار بعض المسلمين على تناولها حتى نزلت آية المائدة: ٩٠ والله أعلم.
تنكحوا المشركين لأنه أسند نكاح النساء إلى الرجال وَلَعَبْدٌ أي عبد لله، وقيل: مملوك أُولئِكَ المشركات والمشركون يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ إلى الكفر الموجب إلى النار بِإِذْنِهِ أي بإرادته أو علمه.
وَيَسْئَلُونَكَ سأل عن ذلك عباد بن بشر وأسيد بن حضير قال لرسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ألا نجامع النساء في المحيض، خلافا لليهود هُوَ أَذىً مستقذر، وهذا تعليل لتحريم الجماع في المحيض فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ اجتنبوا جماعهن وقد فسر ذلك الحديث بقوله لتشدّ عليها إزارها، وشأنك بأعلاها حَتَّى يَطْهُرْنَ أي ينقطع عنهن الدم فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن بالماء، وتعلق الحكم بالآية الأخيرة عند مالك والشافعي، فلا يجوز عندهما وطء حتى تغتسل، وبالغاية الأولى عند أبي حنيفة فأجاز الوطء عند انقطاع الدم وقبل الغسل، وقرئ حتى يطّهرن بالتشديد، ومعنى هذه الآية بالماء، فتكون الغايتان بمعنى واحد، وذلك حجة لمالك مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قبل المرأة التَّوَّابِينَ من الذنوب الْمُتَطَهِّرِينَ بالماء أو من الذنوب حَرْثٌ لَكُمْ أي موضع حرث، وذلك تشبيه للجماع في إلقاء النطفة وانتظار الولد: بالحرث في إلقاء البذر وانتظار الزرع أَنَّى شِئْتُمْ أي: كيف شئتم من الهيئات أو من شئتم، لا أين شئتم لأنه يوهم الإتيان في الدبر، وقد افترى من نسب جوازه إلى مالك، وقد تبرأ هو من ذلك وقال: إنما الحرث في موضع الزرع وقدموا لِأَنْفُسِكُمْ أي الأعمال الصالحة عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أي لا تكثروا الحلف بالله فتبدلوا اسمه، وأن تبروا على هذا علة للنهي، فهو مفعول من أجله: أي نهيتم عن كثرة الحلف كي تبروا، وقيل المعنى: لا تحلفوا على أن تبرّوا وتتقوا، وافعلوا البرّ والتقوى دون يمين، فأن تبروا على هذا هو المحلوف عليه، والعرضة على هذين القولين كقولك: فلان عرضة لفلان إذا أكثر التعرّض له، وقيل: عرضة ما منع، من قولك: عرض له أمر حال بينه وبين كذا، أي لا تمتنعوا بالحلف بالله من فعل البر والتقوى، ومن ذلك يمين أبي بكر الصديق أن لا ينفق على مسطح، فأن تبروا على هذا: علة لامتناعهم فهو مفعول من أجله، أو مفعول بعرضة، لأنها بمعنى مانع
بِاللَّغْوِ الساقط وهو عند مالك قولك نعم والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير قصد، وفاقا للشافعي، وقيل أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه وفاقا لأبي حنيفة وقال ابن عباس: اللغو الحلف حين الغضب، وقيل: اللغو اليمين على المعصية، والمؤاخذة العقاب أو وجوب الكفارة
بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي قصدت، فهو على خلاف اللغو، وقال ابن عباس: هو اليمين الغموس، وذلك أن يحلف على الكذب متعمدا، وهو حرام إجماعا، وليس فيه كفارة عند مالك خلافا للشافعي يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يحلفون على ترك وطئهن وإنما تعدى بمن. لأنه تضمن معنى البعد منهن، ويدخل في عموم قوله الذين: كل حالف حرّا كان أو عبدا، إلّا أنّ مالك جعل مدّة إيلاء العبد شهرين، خلافا للشافعي، ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافا للشافعي في قصر الإيلاء على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية، ولا يكون موليا عند مالك والشافعي، إلّا إذا حلف على مدّة أكثر من أربعة أشهر، وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدا، فإذا انقضت الأربعة الأشهر: وقف المولي عند مالك والشافعي، فإما فاء وإلّا طلّق، فإن أبى الطلاق: طلق عليه الحاكم، وقال أبو حنيفة: إذا انقضت الأربعة الأشهر: وقع الطلاق دون توقيف، ولفظ الآية يحتمل القولين فَإِنْ فاؤُ رجعوا إلى الوطء وكفّروا عن اليمين غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يغفر ما في الأيمان من إضرار المرأة عَزَمُوا الطَّلاقَ العزيمة على قول مالك: التطليق أو الإباية فيطلق عليه الحاكم، وعند أبي حنيفة: ترك الفيء حتى تنقضي الأربعة الأشهر، والطلاق في الإيلاء رجعيّ عند مالك، بائن عند الشافعي وأبي حنيفة وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بيان للعدة، وهو عموم مخصوص خرجت منه الحامل بقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: ٤]. واليائسة والصغيرة بقوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية [الأحزاب: ٤٩]. والتي لم يدخل بها بقوله: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب:
٤٩] فيبقى حكمها في المدخول بها، وهي سن من تحيض وقد خص مالك منها الأمة، فجعل عدّتها قرءين ويتربصن خبر بمعنى الأمر ثَلاثَةَ قُرُوءٍ انتصب ثلاثة على أنه مفعول به هكذا قال الزمخشري، وقروء: جمع قرء وهو مشترك في اللغة بين الطهر والحيض، فحمله مالك والشافعي على الطهر لقول عائشة: الأقراء هي الأطهار، وحمله أبو حنيفة على الحيض لأنه الدليل على براءة الرحم، وذلك مقصود العدّة، ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ يعني الحمل والحيض، وبعولتهن جمع بعل، وهو هنا الزوج فِي ذلِكَ أي في زمان العدّة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ من الاستمتاع وحسن المعاشرة دَرَجَةٌ في الكرامة وقيل: الإنفاق وقيل: كون الطلاق بيده
الطَّلاقُ مَرَّتانِ بيان لعدد الطلاق الذي يرتجع منه
دون زوج آخر، وقيل: بيان لعدد الطلاق الذي يجوز إيقاعه، وهو طلاق السنة فَإِمْساكٌ ارتجاع، وهو مرفوع بالابتداء أو بالخبر بِمَعْرُوفٍ حسن المعاشرة وتوفية الحقوق أَوْ تَسْرِيحٌ هو تركها حتى تنقضي العدّة فتبين منه بِإِحْسانٍ المتعة «١»، وقيل: التسريح هنا الطلقة الثالثة بعد الاثنتين، وروي في ذلك حديث ضعيف وهو بعيد لأنّ قوله تعالى بعد ذلك فَإِنْ طَلَّقَها هو الطلقة الثالثة، وعلى ذلك يكون تكرارا، والطلقة الرابعة لا معنى لها وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الآية: نزلت بسبب ثابت بن قيس: اشتكت منه امرأته لرسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم فقال لها أتردّين عليه حديقته، قالت: نعم فدعاه فطلقها على ذلك. وحكمها على العموم. وهو خطاب للأزواج في حكم الفدية، وهي الخلع، وظاهرها أنه: لا يجوز الخلع إلّا إذا خاف الزوجان أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وذلك إذا ساء ما بينهما وقبحت معاشرتهما.
ثم إنّ المخالعة على أربعة أحوال: الأوّل: أن تكون من غير ضرر من الزوج ولا من الزوجة: فأجازه مالك وغيره لقوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ الآية [النساء: ٤] ومنعها قوم لقوله تعالى: إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله، والثاني: أن يكون الضرر منهما جميعا فمنعه مالك في المشهور لقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء: ١٩] وأجازه الشافعي لقوله تعالى إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ والثالث: أن يكون الضرر من الزوجة خاصة، فأجازه الجمهور لظاهر هذه الآية، والرابع:
أن يكون الضرر من الزوج خاصة: فمنعه الجمهور لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الآية [النساء: ٢٠] وأجازه أبو حنيفة مطلقا، وقوله في ذلك مخالف للكتاب والسنة فَإِنْ خِفْتُمْ خطاب للحكام والمتوسطين في هذا الأمر
فَإِنْ طَلَّقَها هذه هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين المذكورتين في قوله: الطلاق مرتان حتى تنكح زوجا غيره أجمعت الأئمة على أن النكاح هنا هو العقد مع الدخول والوطء، لقوله صلّى الله عليه واله وسلّم للمطلقة ثلاثا حين أرادت الرجوع إلى مطلقها قبل أن يمسها الزوج الآخر: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك «٢» وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد يحلها دون وطء، وهو قول مرفوض لمخالفته للحديث، وخرقه للإجماع، وإنما تحل عند مالك إذا كان النكاح صحيحا لا شبهة فيه، والوطء مباحا في غير حيض ولا إحرام ولا اعتكاف ولا صيام، خلافا لابن الماجشون في الوطء غير المباح، وأما نكاح المحلل فحرام، ولا يحل
(١). المقصود بها إعطاء المطلقة شيئا من المال أو الملابس تخفيفا لصدمة الطلاق.
(٢). الحديث مشهور وقد رواه الطبري في تفسيره للآية بسنده: إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
الزوجة لزوجها عند مالك، خلافا لأبي حنيفة والمعتبر في ذلك نية المحلل لا نية المرأة، ولا المحلل له، وقال قوم: من نوى التحليل منهم أفسد فَإِنْ طَلَّقَها يعني هذا الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوجة والزوج الأوّل أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي أوامره فيما يجب من حقوق الزوجة وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية خطاب للأزواج، وهي نهي عن أن يطول الرجل العدّة على المرأة مضارة منه لها، بل يرتجع قرب انقضاء العدّة، ثم يطلق بعد ذلك، ومعنى فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ في هذا الموضع: قاربن انقضاء العدّة، وليس المراد انقضاؤها، لأنه ليس بيده إمساك حينئذ، ومعنى أمسكوهنّ راجعوهنّ بمعروف هنا قبل: هو الإشهاد وقيل: النفقة وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية: هذه الأخرى خطاب للأولياء، وبلوغ الأجل هنا: انقضاء العدّة فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي لا تمنعوهن أن ينكحن أزواجهن أي:
يراجعن الأزواج الذين طلقوهن، قال السهيلي: نزلت في معقل بن يسار كان له أخت، فطلقها زوجها ثم أراد مراجعتها وأرادت هي مراجعته، فمنعها أخوها، وقيل: نزلت في جابر بن عبد الله وذلك أنّ رجلا طلق أخته وتركها حتى تمت عدتها، ثم أراد مراجعتها فمنعها جابر وقال: تركتها وأنت أملك بها، لا زوّجتكها أبدا، فنزلت الآية، والمعروف هنا: العدل، وقيل: الإشهاد، وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في نكاح وليته خلافا لأبي حنيفة ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، ولكل واحد على حدته، ولذلك وحد ضمير الخطاب ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ خطابا للمؤمنين والإشارة إلى ترك العضل، ومعنى أزكى أطيب للنفس، ومعنى أطهر: أي للدين والعرض
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ خبر بمعنى الأمر، وتقتضي الآية حكمين: الحكم الأوّل: من يرضع الولد؟
المرأة يجب عليها إرضاع ولدها ما دامت في عصمة والده، وإن كان والده قد مات وليس للولد مال: لزمها رضاعه في المشهور، وقيل أجرة رضاعه على بيت المال، وإن كانت مطلقة طلاقا بائنا: لم يلزمها رضاعه، لقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: ٦] إلّا أن تشاء هي فهي أحق به بأجرة المثل، فإن لم يقبل الطفل غيرها وجب عليها إرضاعه، وقال أبو ثور: يلزمها على الإطلاق لظاهر الآية وحملها على الوجوب، الحكم الثاني: مدة الرضاع وقد ذكرها في قوله: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وإنما وصفهما
بكاملين لأنه يجوز أن يقال في حول وبعض آخر: حولين، فرفع ذلك الاحتمال، وأباح الفطام قبل تمام الحولين بقوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ واشترط أن يكون الفطام عن تراضي الأبوين بقوله: فَإِنْ أَرادا فِصالًا الآية، فإن لم يكن على الولد ضرر في الفطام فلا جناح عليهما، ومن دعا منهما إلى تمام الحولين: فذلك له، وأما بعد الحولين فمن دعا منهما إلى الفطام فذلك له، وقال ابن العباس: إنما يرضع حولين من مكث في البطن ستة أشهر، فمن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا، وإن مكث تسعة فرضاعه إحدى وعشرون، لقوله تعالى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ في هذه النفقة والكسوة: قولان: أحدهما: أنها أجرة رضاع الولد، أوجبها الله للأم على الوالد، وهو قول الزمخشري وابن العربي، الثاني: أنها نفقة الزوجات على الإطلاق، وقال منذر بن سعيد البلوطي: هذه الآية نص في وجوب نفقة الرجل على زوجته، وعلى هذا حملها ابن الفرس بِالْمَعْرُوفِ أي: على قدر حال الزوج في ماله، والزوجة في منصبها، وقد بين ذلك بقوله لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
[الانعام: ١٥٢] لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها قرئ بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي، وبرفعهما على الخبر، ومعناها النهي، ويحتمل على كل واحد من الوجهين أن يكون الفعل مسندا إلى الفاعل، فيكون ما قبل الآخر مكسورا قبل الإدغام، أو يكون مسندا إلى المفعول، فيكون مفتوحا، والمعنى على الوجهين: النهي عن إضرار أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد، ويدخل في عموم النهي: وجوه الضرر كلها والباء في قوله بولدها وبولده: سببية، والمراد بقوله ولا مولود له الوالد، وإنما ذكره بهذا اللفظ إعلاما بأنّ الولد ينسب له لا للأم وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ اختلف في الوارث فقيل: وارث المولود له، وقيل: وارث الصبي لو مات، وقيل: هو الصبي نفسه، وقيل: من بقي من أبويه، واختلف في المراد بقوله: مثل ذلك فقال مالك وأصحابه: عدم المضارة، وذلك يجري مع كل قول في الوارث لأن ترك الضرر واجب على كل أحد وقيل المراد أجرة الرضاع في النفقة والكسوة ويختلف هذا القول بحسب الإختلاف في الوارث، فأما على القول بأنّ الوارث هو الصبي فلا إشكال لأن أجرة رضاعه في ماله، وأما على سائر الأقوال، فقيل: إن الآية منسوخة فلا تجب أجرة الرضاع على أحد غير الوالد، وقيل: إنها محكمة فتجب أجرة الرضاع على وارث الصبي لو مات، أو على وارث الوالد، وهو قول قتادة والحسن البصري وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا إباحة لاتخاذ الغير إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي دفعتم أجرة الرضاع
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً الآية: عموم في كل متوفى
125
عنها، سواء توفي زوجها قبل الدخول أو بعده، إلّا الحامل فعدتها وضع حملها، سواء وضعته قبل الأربعة الأشهر والعشر أو بعدها عند مالك والشافعي وجمهور العلماء، وقال عليّ بن أبي طالب: عدتها أبعد الأجلين، وخص مالك من ذلك الأمة فعدّتها في الوفاة شهران وخمس ليال، ويتربصن: معناه عن التزويج، وقيل: عن الزينة فيكون أمرا بالإحداد، وإعراب الذين مبتدأ، وخبره: يتربصن على تقدير أزواجهم يتربصن، وقيل التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، وقال الكوفيون: الخبر عن الذين متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزويج والزينة بِالْمَعْرُوفِ هنا إذا كان غير منكر وقيل معناه الإشهاد وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ الآية: إباحة التعريض بخطبة المرأة المعتدّة، ويقتضي ذلك النهي عن التصريح، ثم أباح ما يضمر في النفس بقوله: أو أكننتم في أنفسكم عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي تذكروهنّ في أنفسكم وبألسنتكم لم يخف عليكم وقيل: أي ستخطبونهنّ إن لم تنتهوا عن ذلك لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي لا تواعدوهنّ في العدة خفية بأن تتزوّجوهنّ بعد العدة، وقال مالك فيمن يخطب في العدّة ثم يتزوّج بعدها: فراقها أحب إليّ، ثم يكون خاطبا من الخطاب، وقال ابن القاسم: يجب فراقها إلّا أن تقولوا قولا معروفا استثناء منقطع، والقول المعروف: هو ما أبيح من التعريض: كقوله: إنكم لأكفاء كرام، وقوله: إنّ الله سيفعل معك خيرا، وشبه ذلك وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ الآية: نهي عن عقد النكاح قبل تمام العدّة، والكتاب هنا:
القدر الذي شرع فيه من المدّة، ومن تزوّج امرأة في عدّتها يفرق بينهما اتفاقا، فإن دخل بها حرمت عليه على التأبيد عند مالك خلافا للشافعي وأبي حنيفة. لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ الآية: قيل: إنها إباحة للطلاق قبل الدخول، ولما نهي عن التزويج بمعنى الذوق، وأمر بالتزويج طلبا للعصمة ودوام الصحبة ظنّ قوم أنّ من طلق قبل البناء وقع في المنهي عنه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك، وقيل: إنها في بيان ما يلزم من الصداق والمتعة في الطلاق قبل الدخول، وذلك أنّ من طلق قبل الدخول فإن كان لم يفرض لها صداقا وذلك في نكاح التفويض: فلا شيء عليه من الصداق لقوله: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية، والمعنى: لا طلب عليكم بشيء من الصداق، ويؤمر بالمتعة لقوله تعالى: ومتعوهنّ وإن كان قد فرض لها: فعليه نصف الصداق لقوله تعالى: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ولا متعة عليه، لأنّ المتعة إنما ذكرت فيما لم يفرض لها بقوله: أو تفرضوا أو فيه بمعنى الواو وَمَتِّعُوهُنَّ أي أحسنوا إليهنّ، وأعطوهنّ شيئا عند الطلاق، والأمر بالمتعة
126
مندوب عند مالك، وواجب عند الشافعي عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ أي يمتع كل واحد على قدر ما يجد، والموسع الغني، الْمُقْتِرِ الضّيق الحال، وقرئ بإسكان دال قدره وفتحها، وهما بمعنى واحد وبالمعروف هنا: أي لا حمل فيه ولا تكلف على أحد الجانبين حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ تعلق الشافعي في وجوب المتعة بقوله: حقا، وتعلق مالك بالندب في قوله: على المحسنين لأنّ الإحسان تطوّع بما لا يلزم
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ بيان أن المطلقة قبل البناء لها نصف الصداق إذا كان فرض لها صداق مسمى، بخلاف نكاح التفويض إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ النون فيه نون جماعة النسوة: يريد المطلقات، والعفو هنا بمعنى الإسقاط، أي للمطلقات قبل الدخول نصف الصداق، إلّا أن يسقطنه، وإنما يجوز إسقاط المرأة إذا كانت مالكة أمر نفسها أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ قال ابن عباس ومالك وغيرهما: هو الوالي الذي تكون المرأة في حجره كالأب في ابنته المحجورة، والسيد في أمته، فيجوز له أن يسقط نصف الصداق الواجب لها بالطلاق قبل الدخول، وأجاز شريح إسقاط غير الأب من الأولياء، وقال علي بن أبي طالب والشافعي:
الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، وعفوه أن يعطي النصف الذي سقط عنه من الصداق، ولا يجوز عندهما أن يسقط الأب النصف الواجب لابنته، وحجة مالك أن قوله الذي بيده عقدة النكاح في الحال والزوج ليس بيده بعد الطلاق عقدة النكاح وحجة الشافعي قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإن الزوج إذا تطوّع بإعطاء النصف الذي لا يلزمه فذلك فضل، وأما إسقاط الأب لحق ابنته فليس فيه تقوى لأنه إسقاط حق الغير وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قيل إنه يعني إسقاط المرأة نصف صداقها أو دفع الرجل النصف الساقط عنه، واللفظ أعم من ذلك وَالصَّلاةِ الْوُسْطى جدّد ذكرها بعد دخولها في الصلاة اعتناء بها وهي الصبح عند مالك وأهل المدينة، والعصر عند عليّ بن أبي طالب لقوله: صلى الله عليه واله وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر «١»، وقيل: هي الظهر وقيل المغرب، وقيل هي: العشاء الآخرة، وقيل: الجمعة، وسميت وسطى لتوسطها في عدد الركعات، وعلى القول بأنها المغرب لأنها بين الركعتين والأربع، أو لتوسط وقتها، وعلى القول بأنها الصبح لأنها متوسطة بين الليل والنهار، وعلى القول بأنها الظهر أو الجمعة لأنها في وسط النهار، أو لفضلها من الوسط: وهو الخيار، وعلى هذا يجري اختلاف الأقوال فيها وَقُومُوا لِلَّهِ معناه في صلاتكم قانِتِينَ هنا ساكتين وكانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت، قاله ابن مسعود، وزيد بن أرقم، وقيل: خاشعين، وقيل: طول القيام
(١). الحديث مشهور وقد أخرجه أحمد في مسنده عن علي بن أبي طالب وغيره ج ١ ص ١٣٨.
فَإِنْ خِفْتُمْ أي من عدوّ أو سبع أو غير ذلك مما يخاف منه على النفس فَرِجالًا جمع راجل أي على رجليه أَوْ رُكْباناً جمع راكب: أي: صلوا كيف ما كنتم من ركوب أو غيره، وذلك في صلاة المسايفة «١»، ولا تنقص منها عن ركعتين في السفر، وأربع في الحضر عند مالك فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية: قيل المعنى: إذا زال الخوف فصلوا الصلاة التي علمتموها وهي التامة، وقيل إذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم هذه الصلاة التي تجزئكم في حال الخوف، فالذكر على القول الأوّل في حال الصلاة، وعلى الثاني بمعنى الشكر وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ هذه الآية منسوخة ومعناها:
أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تقيم في منزله سنة وينفق عليها من ماله، وذلك وصية لها ثم نسخ إقامتها سنة بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع أو الثمن الذي لها في الميراث حسبما ذكر في سورة النساء، وإعراب وصية مبتدأ، وأزواجهم خبر، أو مضمر تقديره: فعليهم وصية، وقرئت بالنصب على المصدر، تقديره: ليوصوا وصية، ومتاعا نصب على المصدر غَيْرَ إِخْراجٍ أي ليس لأولياء الميت إخراج المرأة فإن خرجت معناه إذا كان الخروج من قبل المرأة فلا جناح على أحد فيما فعلت في نفسها من تزوّج وزينة وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ عام في إمتاع كل مطلقة، وبعمومه أخذ أبو ثور، واستثنى الجمهور المطلقة قبل الدخول، وقد فرض لها بالآية المتقدمة منه، واستثنى مالك المختلعة والملاعنة حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يدل على وجوب المتعة وهي الإحسان للمطلقات. لأن التقوى واجبة ولذلك قال بعضهم: نزلت مؤكدة للمتعة لأنه نزل قبلها حقا على المحسنين، فقال رجل:
فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع، فنزلت: حقا على المتقين.
أَلَمْ تَرَ رؤية قلب إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد فخافوا الموت بالقتال، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، وقيل: بل فرّوا من الطاعون وَهُمْ أُلُوفٌ جمع ألف، قيل ثمانون ألفا، وقيل: ثلاثون ألفا، وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: هو من الألفة، وهو ضعيف فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا عبارة عن إماتتهم، وقيل: إن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا ثم
(١). هكذا وجدت في الطبري أيضا ثم بينها بقوله: فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا. هذا في المطاردة.
أحياهم ليستوفوا آجالهم وَقاتِلُوا خطاب لهذه الأمّة، وقيل: للذين أماتهم الله ثم أحياهم مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ استفهام يراد به الطلب والحض على الإنفاق، وذكر لفظ القرض تقريبا للأفهام لأن المنفق ينتظر الثواب كما ينتظر المسلف ردّ ما أسلف، وروي أن الآية نزلت في أبي الدحداح حين تصدّق بحائط لم يكن له غيره قَرْضاً حَسَناً أي خالصا طيبا من حلال من غير منّ ولا أذى فَيُضاعِفَهُ قرئ بالتشديد والتخفيف، وبالرفع على الاستئناف أو عطفا على يقرض، وبالنصب في جواب الاستفهام أَضْعافاً كَثِيرَةً عشرة فما فوقها إلى سبعمائة يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ إخبار يراد به الترغيب في الإنفاق.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ رؤية قلب، وكانوا قوما نالهم الذلة من أعدائهم، فطلبوا الإذن في القتال فلما أمروا به كرهوه لِنَبِيٍّ لَهُمُ قيل اسمه شمويل، وقيل شمعون هَلْ عَسَيْتُمْ أي: قاربتم، وأراد النبي المذكور أن يتوثق منهم، ويجوز في السين من عسيتم الكسر والفتح، وهو أفصح ولذلك انفرد نافع بالكسر، وأما إذا لم يتصل بعسى ضمير فلا يجوز فيها إلّا الفتح طالُوتَ مَلِكاً قال وهب بن منبه أوحى الله إلى نبيهم إذا دخل عليك رجل فنشّ «١» الدهن الذي في القرن فهو ملكهم، وقال السدّي: أرسل الله إلى نبيهم عصا، وقال له إذا دخل عليك رجل على طول هذه العصا فهو ملكهم فكان ذلك طالوت وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ روي أنه كان دباغا ولم يكن من بيت الملك، والواو في قوله ونحن واو الحال والواو في قوله: ولم يؤت لعطف الجملة على الأخرى بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ كان عالما بالعلوم وقيل: بالحروب وكان أطول رجل يصل إلى منكبه وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ رد عليهم في اعتقادهم أن الملك يستحق بالبيت أو المال
أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ كان هذا التابوت قد تركه موسى عند يوشع فجعله يوشع في البرية، فبعث الله ملائكة حملته
(١). نشّ بمعنى: خرج منه صوت كصوت اللحم عند ما يقلى.
فجعلته في دار طالوت، وفيه قصص كثيرة غير ثابتة فِيهِ سَكِينَةٌ قيل رمح فيه رأس ووجه كوجه الإنسان، وقيل طست من ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء وقيل رحمة، وقيل وقار وبقية قال ابن عباس: هي عصا موسى ورضاض الألواح، وقيل: العصا والنعلان وقيل:
ألواح من التوراة آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ يعني: أقاربهما، قال الزمخشري: يعني الأنبياء من بني إسرائيل، ويحتمل أن يريد موسى وهارون، وأقحم الأهل فَصَلَ طالُوتُ أي خرج من موضعه إلى الجهاد بِنَهَرٍ قيل هو نهر في فلسطين فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ الآية:
اختبر طاعتهم بمنعهم من الشرب باليد إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً رخص لهم في الغرفة باليد، وقرئ بفتح الغين وهو المصدر، وبضمها هو الاسم فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا قيل: كانوا ثمانين ألفا فشربوا منه كلهم إلّا ثلاثمائة وبضعة عشر: عدد أصحاب بدر، فأما من شرب فاشتد عليه العطش، وأما من لم يشرب فلم يعطش بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ كان كافرا عدوّا لهم وهو ملك العمالقة، يظنون أي يوقنون وهم أهل البصائر من أصحابه قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ كان داود في جند طالوت فقتل جالوت، فأعطاه الله ملك بني إسرائيل، وفي ذلك قصص كثيرة غير صحيحة وَالْحِكْمَةَ هنا النبوّة والزبور، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ صنعة الدروع، ومنطق الطيور، وغير ذلك وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ الآية: منه على العباد بدفع بعضهم ببعض، وقرئ دفاع بالألف، ودفع بغير ألف، والمعنى متفق.
تِلْكَ الرُّسُلُ الإشارة إلى جماعتهم فَضَّلْنا نص في التفضيل في الجملة من غير تعيين مفضول: كقوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «لا تخيروا بين الأنبياء» «١»، «ولا تفضلوني على يونس بن متى» «٢» : فإنّ معناه النهي عن تعيين المفضول، لأنه تنقيص له،
(١). رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري ج ٣ ص ٤٠.
(٢). وجدت في مسند أحمد حديثا عن عبد الله بن جعفر وابن عباس ونصه: ما ينبغي لنبي أن يقول: إني خير من يونس بن متى.
وذلك غيبة ممنوعة، وقد صرح صلّى الله عليه واله وسلّم بفضله على جميع الأنبياء بقوله «أنا سيد ولد آدم» «١» لا بفضله على واحد بعينه، فلا تعارض بين الحديثين مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ موسى عليه السلام وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قيل: هو محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لتفضيله على الأنبياء بأشياء كثيرة، وقيل: هو إدريس لقوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم:
٥٧] فالرفعة على هذا في المسافة وقيل: هو مطلق في كل من فضله الله منهم مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الأنبياء، والمعنى: بعد كل نبيّ لا بعد الجميع وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا كرره تأكيدا وليبنى عليه ما بعده أَنْفِقُوا يعم الزكاة والتطوّع لا بَيْعٌ فِيهِ أي:
لا يتصرف أحد في ماله، والمراد: لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق في الدنيا ويدخل فيه نفي الفدية لأنه بشراء الإنسان نفسه وَلا خُلَّةٌ أي مودّة نافعة لأن كل أحد يومئذ مشغول بنفسه وَلا شَفاعَةٌ أي ليس في يوم القيامة شفاعة إلّا بإذن الله فهو في الحقيقة رحمة من الله للمشفوع فيه، وكرامة للشافع ليس فيها تحكم على الله، وعلى هذا يحمل ما ورد من نفي الشفاعة في القرآن أعني أن لا تقع إلّا بإذن الله فلا تعارض بينه وبين إثباتها، وحيث ما كان سياق الكلام في أهوال يوم القيامة، والتخويف بها نفيت الشفاعة على الإطلاق، ومبالغة في التهويل. وحيث ما كان سياق الكلام تعظيم الله نفيت الشفاعة إلّا بإذنه وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال هكذا، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ هذه آية الكرسي وهي أعظم آية في القرآن حسبما ورد في الحديث، وجاء فيها فضل كبير في الحديث الصحيح وفي غيره لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ تنزيه لله تعالى عن الآفات البشرية، والفرق بين السنة والنوم: أن السنة هي ابتداء النوم لا نفسه: كقول القائل:
في عينه سنة وليس بنائم
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ استفهام مراد به نفي الشفاعة إلّا بإذن الله، فهي في الحقيقة راجعة إليه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الضمير عائد على من يعقل ممن
(١). أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة ٢/ ٧١٥.
تضمنه قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ والمعنى: يعلم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم، وقال مجاهد: ما بين أيديهم الدنيا وما خلفهم الآخرة مِنْ عِلْمِهِ من معلوماته أي لا يعلم عباده من معلوماته إلّا ما شاء هو أن يعلموه وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، وهو أعظم من السموات والأرض، وهو بالنسبة إلى العرش كأصغر شيء، وقيل: كرسيه علمه. وقيل: كرسيه ملكه وَلا يَؤُدُهُ أي لا يشغله ولا يشق عليه لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ المعنى: أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته، بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه، دون إكراه ويدل على ذلك قوله: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه، وقيل: معناها الموادعة، وأن لا يكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام ثم نسخت بالقتال، وهذا ضعيف لأنها مدنية وإنما آية المسالمة وترك القتال بمكة بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى العروة في الأجرام هي:
موضع الإمساك وشدّ الأيدي، وهي هنا تشبيه واستعارة في الإيمان لَا انْفِصامَ لَها لا انكسار لها ولا انفصال يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ جمع الطاغوت هنا وأفرد في غير هذا الموضع فكأنه اسم جنس لما عبد من دون الله، ولمن يضل الناس من الشياطين وبني آدم الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ هو نمروذ الملك وكان يدّعي الربوبية فقال لإبراهيم: من ربك؟ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فقال نمروذ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ وأحضر رجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، فقال قد أحييت هذا وأمت هذا، فقال له إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ أي انقطع وقامت عليه الحجة، فإن قيل: لم انتقل إبراهيم عن دليله الأوّل إلى هذا الدليل الثاني، والانتقال علامة الانقطاع؟ فالجواب: أنه لم ينقطع، ولكنه لما ذكر الدليل الأوّل وهو الإحياء والإماتة كان له حقيقة، وهو فعل الله ومجازا وهو فعل غيره فتعلق نمروذ بالمجاز غلطا منه أو مغالطة، فحينئذ انتقل إبراهيم إلى الدليل الثاني لأنه لا مجاز له، ولا يمكن الكافر عدول عنه أصلا
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ تقديره: أو رأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه لأنّ كلتيهما كلمتا تعجب،
ويجوز أن يحمل على المعنى كأنه يقول: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مرّ على قرية وهذا المارّ قيل إنه عزير، وقيل الخضر، فقوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ ليس إنكارا للبعث ولا استبعادا ولكنه استعظام لقدرة الذي يحيي الموتى، أو سؤال عن كيفية الإحياء وصورته، لا شك في وقوعه، وذلك مقتضى كلمة أنّى فأراه الله ذلك عيانا ليزداد بصيرة، وقيل: بل كان كافرا وقالها إنكارا للبعث واستبعادا، فأراه الله الحياة بعد الموت في نفسه، وذلك أعظم برهان وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي خالية من الناس، وقال السدّي:
سقطت سقوفها وهي العروش، ثم سقطت الحيطان على السقف أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ ظاهر هذا اللفظ إحياء هذه القرية بالعمارة بعد الخراب، ولكن المعنى إحياء أهلها بعد موتهم لأنّ هذا الذي يمكن فيه الشك والإنكار ولذلك أراه الله الحياة بعد موته، والقرية كانت بيت المقدس لما أخربها بختنصر، وقيل: قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف كَمْ لَبِثْتَ سؤال على وجه التقرير قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقل مدّة موته، قيل: أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قبل الغروب من يوم آخر بعد مائة عام فظنّ أنه يوم واحد، ثم رأى بقية من الشمس فخاف أن يكذب في قوله: يوما فقال: أو بعض يوم فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ قيل كان طعامه تينا وعنبا وأنّ شرابه كان عصيرا ولبنا لَمْ يَتَسَنَّهْ معناه: لم يتغير، بل بقي على حاله طول مائة عام، وذلك أعجوبة إلهية، واللفظ يحتمل أن يكون مشتقا من السنة، لأنّ لامها هاء، فتكون الهاء في يتسنه أصلية. أي لم يتغير السنون ويحتمل أن يكون مشتقا من قولك تسنن الشيء إذا فسد، ومنه الحمأ المسنون، ثم قلبت النون حرف علة كقولهم: قصيت أظفاري، ثم حذف حرف العلة للجازم، والهاء على هذا هاء السكت وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ قيل: بقي حماره حيا طول المائة عام، دون علف ولا ماء، وقيل: مات ثم أحياه الله، وهو ينظر إليه وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ التقدير: فعلنا بك هذا لتكون آية للناس، وروى أنه قام شابا على حالته يوم مات فوجد أولاده وأولادهم شيوخا وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ هي عظام نفسه، وقيل: عظام الحمار على القول بأنه مات ننشرها بالراء نحييها، وقرئ بالزاي، ومعناه نرفعها للإحياء قالَ أَعْلَمُ بهمزة قطع وضم الميم أي: قال الرجل ذلك اعترافا، وقرئ بألف وصل، والجزم على الأمر أي قال له الملك ذلك
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ الآية: قال الجمهور: لم يشك إبراهيم في إحياء الموتى، وإنما طلب المعاينة، لأنه رأى دابة قد أكلتها السباع والحيات
فسأل ذلك السؤال، ويدل على ذلك قوله: كيف، فإنها سؤال عن حال الإحياء وصورته لا عن وقوعه وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي بالمعاينة أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قيل هي الديك، والطاوس، والحمام، والغراب، فقطعها وخلط أجزاءها ثم جعل من المجموع جزءا على كل جبل، وأمسك رأسها بيده، ثم قال: تعالين بإذن الله فتطايرت تلك الأجزاء حتى التأمت، وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته تسعى حتى وضعت أجسادها في رؤوسها وطارت بإذن الله فَصُرْهُنَّ أي ضمهن، وقيل: قطّعهن على كل جبل، قيل: أربعة جبال، وقيل سبعة، وقيل: الجبال التي وصل إليها حينئذ من غير حصر بعدد فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظاهره الجهاد، وقد يحمل على جميع وجوه البر كَمَثَلِ حَبَّةٍ كل ما يزرع ويقتات وأشهره: القمح» وفي الكلام حذف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة أو يقدر في آخر الكلام كمثل صاحب حبة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ بيان أن الحسنة بسبعمائة كما جاء في الحديث أن رجلا جاء بناقة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أي يزيده على سبعمائة وقيل هو تأكيد وبيان للسبعمائة، والأول أرجح، لأنه ورد في الحديث ما يدل عليه الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الآية:
قيل نزلت في عثمان، وقيل في عليّ وقيل في عبد الرحمن بن عوف مَنًّا وَلا أَذىً المن. ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، والأذى السب قول معروف هو ردّ السائل بجميل من القول: كالدعاء له والتأنيس وَمَغْفِرَةٌ عفو عن السائل إذا وجد منه جفاء، وقيل: مغفرة من الله لسبب الردّ الجميل، والمعنى: تفضيل عدم العطاء إذا كان بقول معروف ومغفرة، على العطاء الذي يتبعه أذى
لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ عقيدة أهل السنة أن السيئات لا تبطل الحسنات فقالوا في هذه الآية: إنّ الصدقة التي يعلم من صاحبها أنه يمن أو يؤذي لا تقبل منه، وقيل: إنّ المن والأذى دليل على أن نيته لم تكن خالصة، فلذلك بطلت صدقته كَالَّذِي يُنْفِقُ تمثيل لمن يمنّ ويؤذي بالذي ينفق رياء وهو غير مؤمن فَمَثَلُهُ أي مثل المرائي في نفقته كحجر عليه تراب يظنه من يراه أرضا منبتة طيبة، فإذا أنزل عليها المطر انكشف التراب، فيبقى الحجر لا منفعة فيه، فكذلك المرائي يظن أن له أجرا، فإذا كان يوم القيامة انكشف سره ولم تنفعه نفقته صَفْوانٍ حجر كبير وابِلٌ
مطر كثير صَلْداً أملس لا يَقْدِرُونَ أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم وَتَثْبِيتاً أي تيقنا وتحقيقا للثواب لأن أنفسهم لها بصائر تحملهم على الإنفاق، ويحتمل أن يكون معنى التثبيت أنهم يثبتون أنفسهم على الإيمان باحتمال المشقة في بذل المال، وانتصاب ابتغاء على المصدر في موضع الحال وعطف عليه وتثبيتا، ولا يصح في تثبيتا أن يكون مفعولا من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت فامتنع ذلك في المعطوف عليه وهو ابتغاء كَمَثَلِ حَبَّةٍ تقديره: كمثل صاحب حبة أو يقدر ولا مثل نفقة الذي ينفقون بِرَبْوَةٍ لأن ارتفاع موضع الجنة أطيب لتربتها وهوائها فَطَلٌّ الطل الرقيق الخفيف، فالمعنى يكفي هذه الجنة لكرم أرضها أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ الآية: مثل ضرب للإنسان يعمل صالحا، حتى إذا كان عند آخر عمره ختم له بعمل السوء، أو مثل للكافر أو المنافق أو المرائي المتقدّم ذكره آنفا أو ذي المن والأذى، فإنّ كل واحد منهم يظن أنه ينتفع بعمله، فإذا كان وقت حاجة إليه لم يجد شيئا، فشبههم الله بمن كانت له جنة، ثم أصابتها الجائحة المهلكة، أحوج ما كان إليها لشيخوخته، وضعف ذريته، قالوا في قوله: وأصابه الكبر للحال إِعْصارٌ أي ريح فيها سموم محرقة مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ والطيبات هنا عند الجمهور: الجيد غير الرديء، فقيل: إنّ ذلك في الزكاة فيكون واجبا وقيل: في التطوع فيكون مندوبا لا واجبا لأنه كما يجوز التطوع بالقليل يجوز بالرديء وَمِمَّا أَخْرَجْنا من النبات والمعادن وغير ذلك وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي لا تقصدوا الرديء منه تنفقون في موضع الحال وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ الواو للحال. والمعنى: أنكم لا تأخذونه في حقوقكم وديونكم، إلّا أن تتسامحوا بأخذه وتغمضوا من قولك: أغمض فلان عن بعض حقه: إذا لم يستوفه وإذا غض بصره الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ الآية: دفع لما يوسوس به الشيطان من خوف الفقر، ففي ضمن ذلك حض على الإنفاق، ثم بين عداوة الشيطان بأمره بالفحشاء، وهي المعاصي، وقيل: الفحشاء البخل، والفاحش عند العرب البخيل، قال ابن عباس: في الآية اثنتان من الشيطان واثنتان من الله، والفضل هو الرزق والتوسعة
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ قيل:
هي المعرفة بالقرآن، وقيل: النبوة، وقيل: الإصابة في القول والعمل وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الآية. ذكر نوعين، وهما ما يفعله الإنسان تبرعا، وما يفعله بعد إلزامه نفسه بالنذر، وفي قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وعد بالثواب، وقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وعيد لمن يمنع الزكاة أو ينفق لغير الله إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ هي التطوع عند الجمهور لأنها يحسن إخفاؤها وإبداء الواجبة كالصلوات فَنِعِمَّا هِيَ ثناء على الإظهار، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء وما من نعما في موضع نصب تفسير للمضمر والتقدير: فنعم شيء إبداؤها لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ قيل: إنّ المسلمين كانوا لا يتصدقون على أهل الذمة، فنزلت الآية مبيحة للصدقة على من ليس على دين الإسلام، وذلك في التطوع، وأما الزكاة فلا تدفع لكافر أصلا، فالضمير في هداهم على هذا القول للكافر، وقيل: ليس عليك أن تهديهم لما أمروا به من الانفاق، وترك المن والأذى والرياء، والانفاق من الخبيث، إنما عليك أن تبلغهم والهدى بيد الله فالضمير على هذا للمسلمين وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أي إن منفعته لكم لقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت: ٤٦] وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ قيل: إنه خبر عن الصحابة أنهم لا ينفقون إلّا ابتغاء وجه الله، ففيه تزكية لهم وشهادة بفضلهم، وقيل: ما تنفقون نفقة تقبل منكم إلّا ابتغاء وجه الله، ففي ذلك حض على الإخلاص لِلْفُقَراءِ متعلق بمحذوف تقديره: الانفاق للفقراء وهم هنا المهاجرون أُحْصِرُوا حبسوا بالعدو، وبالمرض فِي سَبِيلِ اللَّهِ يحتمل الجهاد والدخول في الإسلام ضَرْباً فِي الْأَرْضِ هو التصرف في التجارة وغيرها يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ أي يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء لقلة سؤالهم. والتعفف هنا هو عن الطلب. ومن سببية، وقال ابن عطية: لبيان الجنس تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ علامة وجوههم وهي ظهور الجهد والفاقة، وقلة النعمة. وقيل: الخشوع وقيل: السجود لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً الإلحاف: هو الإلحاح في السؤال، والمعنى: أنهم إذا سألوا يتلطفون ولا يلحون، وقيل: هو نفي السؤال والإلحاح معا وباقي الآية وعد
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً تعميم
136
لوجوه الإنفاق وأوقاته، قال ابن عباس: نزلت في عليّ فإنه تصدق بدرهم بالليل وبدرهم بالنهار وبدرهم سرا وبدرهم علانية. وقال أبو هريرة: نزلت في علف الخيل الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي ينتفعون به، وعبر عن ذلك بالأكل لأنه أغلب المنافع. وسواء من أعطاه أو من أخذه، والربا في اللغة الزيادة، ثم استعمل في الشريعة في بيوعات ممنوعة أكثرها راجع إلى الزيادة، فإنّ غالب الربا في الجاهلية قولهم للغريم: أتقضي أم تربي، فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه، ثم إن الربا على نوعين: ربا النسيئة، وربا التفاضل وكلاهما يكون في الذهب والفضة، وفي الطعام. فأما النسيئة فتحرم في بيع الذهب بالذهب وبيع الفضة بالفضة وفي بيع الذهب بالفضة، وهو الصرف، وفي الطعام «١» بالطعام مطلقا، وأما التفاضل: فإنما يحرم في بيع الجنس الواحد بجنسه من النقدين ومن الطعام، ومذهب مالك أنه يحرم التفاضل في المقتات المدخر من الطعام، ومذهب الشافعي أنه يحرم في كل طعام، ومذهب أبي حنيفة أنه يحرم في المكيل والموزون من الطعام وغيره لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ أجمع المفسرون أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلّا كالمجنون، ويتخبطه يتفعله من قولك: خبط يخبط، والمس الجنون، ومن تتعلق بيقوم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ تعليل للعقاب الذي يصيبهم، وإنما هذا للكفار، لأن قولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا: ردّ على الشريعة وتكذيب للإثم وقد يأخذ العصاة بحظ من هذا الوعيد، فإن قيل: هلا قيل إنما الربا مثل البيع، لأنهم قاسوا الربا على البيع في الجواز، فالجواب: أن هذا مبالغة، فإنهم جعلوا الربا أصلا حتى شبهوا به البيع وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ عموم يخرج منه البيوع الممنوعة شرعا، وقد عددناها في الفقه ثمانين نوعا وَحَرَّمَ الرِّبا ردّ على الكفار وإنكار للتسوية بين البيع والربا، وفي ذلك دليل على أن القياس يهدمه النص، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم تحليل الله وتحريمه فَلَهُ ما سَلَفَ أي له ما أخذ من الربا، أي لا يؤاخذ بما فعل منه قبل نزول التحريم وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ الضمير عائد على صاحب الربا، والمعنى أن الله يحكم فيه يوم القيامة، فلا تؤاخذوه في الدنيا، وقيل: الضمير عائد على الربا، والمعنى أن أمر الربا إلى الله في تحريم أو غير ذلك وَمَنْ عادَ الآية: يعني من عاد إلى فعل الربا وإلى القول: إنما البيع مثل الربا،
(١). الطعام في اللغة هو الحبوب كالقمح والشعير.
137
ولذلك حكم عليه بالخلود في النار، لأن ذلك القول لا يصدر إلّا من كافر، فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة لكونها في الكفار
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ينقصه ويذهبه وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ينميها في الدنيا بالبركة، وفي الآخرة بمضاعفة الثواب كَفَّارٍ أَثِيمٍ أي من يجمع بين الكفر والإثم بفعل الربا، وهذا يدل على أن الآية في الكفار وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا سبب الآية أنه كان بين قريش وثقيف ربا في الجاهلية، فلما فتح رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم مكة قال في خطبته: «كل ربا كان في الجاهلية موضوع» «١»، ثم إنّ ثقيف أرسلت تطلب الربا الذي كان لهم على قريش، فأبوا من دفعه وقالوا: قد وضع الربا.
فتحاكموا إلى عتّاب بن أسيد أمير مكة، فكتب بذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم فنزلت الآية إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط لمن خوطب به من قريش وغيرهم فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ أي إن لم تنتهوا عن الربا حوربتم ومعنى فأذنوا: اعلموا، وقرئ بالمد [آذنوا] أي أعلموا غيركم، ولما نزلت قالت ثقيف: لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ أي لا تظلمون بأخذ زيادة على رؤوس أموالكم، ولا تظلمون بالنقص منها وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ كان تامة بمعنى حضر ووقع، وقرئ ذا عسرة، أي إن كان الغريم ذا عسرة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ حكم الله للمعسر بالإنظار إلى أن يوسر، وقد كان قبل ذلك يباع فيما عليه، ونظرة مصدر، معناه: التأخير، وهو مرفوع على أنه خبر ابتداء تقديره فالجواب: نظرة أو مبتدأ، وميسرة أيضا مصدر وقرئ بضم السين وفتحها وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ندب الله إلى الصدقة على المعسر بإسقاط الدين عنه فذلك أفضل من إنظاره، وباقي الآية وعظ، وقيل إنّ آخر آية نزلت آية الربا، وقيل بل قوله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، الآية. وقيل آية الدين المذكورة بعد
إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ أي إذا عامل بعضكم بعضا بدين، وإنما ذكر الدين وإن كان مذكورا في تداينتم ليعود عليه الضمير في اكتبوه وليزول الاشتراك الذي في تداينتم، إذ يقال لمعنى الجزاء إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى دليل على أنه لا يجوز إلى أجل مجهول، وأجاز مالك البيع إلى الجذاذ والحصاد، لأنه
(١). تحريم الربا كان ضمن خطبة حجة الوداع فانظرها في كتب السيرة وموضوع يعني: باطل.
138
معروف عند الناس، ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، قال ابن عباس: نزلت الآية في السلم خاصة يعني: أن سلّم أهل المدينة كان سبب نزولها، قال مالك وهذا يجمع الدين كله، يعني: أنه يجوز التأخير في السلم والسلف وغيرهما فَاكْتُبُوهُ ذهب قوم إلى أن كتابة الدين واجبة بهذه الآية، وقال قوم: إنها منسوخة لقوله: فإن أمن بعضكم بعضا وقال قوم:
إنها على الندب وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ قال قوم: يجب على الكاتب أن يكتب، وقال قوم نسخ ذلك بقوله: ولا يضار كاتب ولا شهيد، وقال آخرون: يجب عليه إذا لم يوجد كاتب سواه، وقال قوم: إنّ الأمر بذلك على الندب، ولذلك جاز أخذ الأجرة على كتب الوثائق بِالْعَدْلِ يتعلق عند ابن عطية بقوله: وليكتب، وعند الزمخشري بقوله: كاتب فعلى الأوّل: تكون الكتابة بالعدل، وإن كان الكاتب غير مرضيّ، وعلى الثاني: يجب أن يكون الكاتب مرضيا في نفسه، قال مالك: لا يكتب الوثائق إلّا عارف بها، عدل في نفسه مأمون وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ نهي عن الإباية، وهو يقوّي الوجوب كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ يتعلق بقوله أن يكتب، والكاف للتشبيه أي: يكتب مثل ما علمه الله أو للتعليل: أي ينفع الناس بالكتابة كما علمه الله لقوله: أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: ٧٧] وقيل: يتعلق بقوله بعدها فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ يقال أمللت الكتاب، وأمليته، فورد هنا على اللغة الواحدة، وفي قوله تملي عليه على الأخرى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لأنّ الشهادة إنما هي باعترافه، فإن كتب الوثيقة دون إملاله، ثم أقرّ بها جاز وَلا يَبْخَسْ أمر الله بالتقوى فيما يملي، ونهاه عن البخس وهو نقص الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ السفيه الذي لا يحسن النظر في ماله، والضعيف الصغير وشبهه، والذي لا يستطيع أن يمل الأخرس وشبهه وَلِيُّهُ أبوه، أو وصيه، والضمير عائد على الذي عليه الحق وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ نص في رفض شهادة الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم، ولذلك أجاز ابن حنبل شهادتهم، ومنعها مالك والشافعي لنقص الرق فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ قال قوم: لا تجوز شهادة المرأتين إلّا مع الرجال، وقال معنى الآية: إن لم يكونا أي إن لم يوجدا وأجاز الجمهور أن المعنى إن لم يشهد رجلان، فرجل وامرأتان، وإنما يجوز عند مالك شهادة الرجل والمرأتين في الأموال لا في غيرها، وتجوز شهادة المرأتين دون رجل، فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والاستهلال، وعيوب النساء، وارتفع رجل بفعل مضمر تقديره: فليكن رجل، فهو فاعل، أو تقديره: فليستشهد رجل فهو مفعول لم يسم فاعله، أو بالابتداء تقديره: فرجل وامرأتان يشهدون مِمَّنْ تَرْضَوْنَ صفة للرجل والمرأتين، وهو مشترط أيضا في الرجلين الشاهدين، لأن الرضا مشترط في الجميع وهو
139
العدالة، ومعناها اجتناب الذنوب الكبائر، وتوقي الصغائر مع المحافظة على المروءة أَنْ تَضِلَّ مفعول من أجله، والعامل فيه هو المقدر العامل في رجل وامرأتان والضلال في الشهادة هو نسيانها أو نسيان بعضها، وإنما جعل ضلال إحدى المرأتين مفعولا من أجله، وليس هو المراد، لأنه سبب لتذكير الأخرى لها وهو المراد، فأقيم السبب مقام المسبب، وقرئ: إن تضل: بكسر الهمزة على الشرط، وجوابه الفاء في فتذكر، ولذلك رفعه من كسر الهمزة، ونصبه من فتحها على العطف، وقرئ تذكر بالتشديد والتخفيف، والمعنى واحد وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ أي لا يمتنعون إِذا ما دُعُوا إلى أداء الشهادة، وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، واتفق العلماء أن أداء الشهادة واجب إذا دعي إليها، وقيل: إذا دعوا إلى تحصيل الشهادة وكتبها. وقيل: إلى الأمرين وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ أي لا تملوا من الكتابة إذا ترددت وكثرت، سواء كان الحق صغيرا أو كبيرا، ونصب صغيرا على الحال ذلِكُمْ إشارة إلى الكتابة أَقْسَطُ من القسط وهو العدل (وأقوم) بمعنى أشد إقامة، وينبني أفعل فيهما من الرباعي وهو قليل وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى عدم الشك في الشهادة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً أن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، لأن الكلام المتقدم في الدين المؤجل، والمعنى: إباحة ترك الكتابة في التجارة الحاضرة، وهو ما يباع بالنقد وغيره، تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ يقتضي القبض والبينونة وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ذهب قوم إلى وجوب الإشهاد على كل بيع صغيرا أو كبيرا، وهم الظاهرية، خلافا للجمهور. وذهب قوم إلى أنه منسوخ بقوله: فإن أمن بعضكم بعضا، وذهب قوم إلى أنه على الندب وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يحتمل أن يكون كاتب فاعلا على تقدير كسر الراء المدغمة من يضارّ، والمعنى على هذا نهي للكاتب والشاهد أن يضارّ صاحب
الحق أو الذي عليه الحق بالزيادة فيه أو النقصان منه، أو الامتناع من الكتابة أو الشهادة، ويحتمل أن يكون كاتب مفعولا لم يسم فاعله على تقدير فتح الراء المدغمة، ويقوي ذلك قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، «لا يضارر» بالتفكيك وفتح الراء، والمعنى: النهي عن الإضرار بالكاتب والشاهد بإذايتهما بالقول أو بالفعل وَإِنْ تَفْعَلُوا أي إن وقعتم في الإضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ حال بكم وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ إخبار على وجه الامتنان، وقيل: معناه الوعد بأن من اتقى علمه الله وألهمه وهذا المعنى صحيح، ولكن لفظ الآية لا يعطيه، لأنه لو كان كذلك لجزم يعلمكم في جواب اتقوا
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ الآية: لما
140
أمر الله تعالى بكتب الدين: جعل الرهن توثيقا للحق، عوضا عن الكتابة، حيث تتعذر الكتابة في السفر، وقال الظاهرية: لا يجوز الرهن إلّا في السفر لظاهر الآية. وأجازه مالك وغيره في الحضر لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رهن درعه بالمدينة فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع العلماء على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله. وأجاز مالك والجمهور وضعه على يد عدل، والقبض للرهن شرط في الصحة عند الشافعي وغيره، لقوله تعالى: مَقْبُوضَةٌ وهو عند مالك شرط كمال لا صحة فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً الآية: أي إن أمن صاحب الحق المدين لحسن ظنه به، فليستغن عن الكتابة وعن الرهن، فأمر أولا بالكتابة، ثم بالرهن ثم بالائتمان، فللدين ثلاثة أحوال ثم أمر المديان بأداء الأمانة، ليكون عند ظن صاحبه به وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ محمول على الوجوب فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ معناه: قد تعلق به الإثم اللاحق من المعصية في كتمان الشهادة، وارتفع آثم بأنه خبر إن، وقلبه فاعل به، ويجوز أن يكون قلبه مبتدأ، وآثم خبره، وإنما أسند الإثم إلى القلب وإن كان جملة الكاتم هي الآثمة، لأن الكتمان من فعل القلب، إذ هو يضمرها، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية: مقتضاها المحاسبة على ما في نفوس العباد من الذنوب، سواء أبدوه أم أخفوه، ثم المعاقبة على ذلك لمن يشاء الله أو الغفران لمن شاء الله، وفي ذلك إشكال لمعارضته لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها» «١»، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة: أنه لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا هلكنا إن حوسبنا على خواطر أنفسنا، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا سمعنا وأطعنا»، فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: لا يكلف الله نفسا إلّا وسعها، فكشف الله عنهم الكربة، ونسخ بذلك هذه الآية، وقيل: هي في معنى كتم الشهادة وإبدائها، وذلك محاسب به، وقيل يحاسب الله خلقه على ما في نفوسهم، ثم يغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين والمنافقين، والصحيح التأويل الأوّل لوروده في الصحيح، وقد ورد أيضا عن ابن عباس وغيره، فإن قيل: إنّ الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ، فالجواب: أنّ النسخ إنما وقع في المؤاخذة والمحاسبة وذلك حكم يصح دخول النسخ فيه، فلفظ الآية خبر، ومعناها حكم فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ قرئ بجزمهما عطفا على يحاسبكم وبرفعهما «٢» على تقدير فهو يغفر
(١). أخرجه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٥٦١ وفيه: ما لم تكلم به.
(٢). قرأ عاصم وابن عامر بالرفع والباقون بالجزم عطفا على: يحاسبكم.
141
آمَنَ الرَّسُولُ الآية سببها ما تقدّم في حديث أبي هريرة: لما قالوا سمعنا وأطعنا مدحهم الله بهذه الآية، وقدّم ذلك قبل كشف ما شق عليهم وَالْمُؤْمِنُونَ عطف على الرسول أو مبتدأ، فعلى الأوّل يوقف على المؤمنون وعلى الثاني يوقف على من ربّه والأوّل أحسن كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ إن كان المؤمنون معطوفا فكل عموم في الرسول والمؤمنون، وإن كان مبتدأ فكل عموم في المؤمنين ووحد الضمير في آمن على معنى أن كل واحد منهم آمن وَكُتُبِهِ قرئ «١» بالجمع أي كل كتاب أنزله الله، وقرئ بالتوحيد يريد القرآن أو الجنس لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ التقدير يقولون: لا نفرّق، والمعنى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وبين غيره في الإيمان بل نؤمن بجميعهم، ولسنا كاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا حكاية عن قول المؤمنين على وجه المدح لهم غُفْرانَكَ مصدر، والعامل فيه مضمر ونصبه على المصدرية تقديره اغفر غفرانك، وقيل على المفعولية تقديره: نطلب غفرانك وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إقرار بالبعث مع تذلل وانقياد، وهنا تمت حكاية كلام المؤمنين
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إخبار من الله تعالى برفع تكليف ما لا يطاق، وهو جائز عقلا عند الأشعرية ومحال عقلا عند المعتزلة، واتفقوا على أنه لم يقع في الشريعة لَها ما كَسَبَتْ أي من الحسنات وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ أي من السيئات، وجاءت العبارة بلها في الحسنات لأنها مما ينتفع بالعبد به، وجاءت بعليها في السيئات لأنها مما يضر العبد، وإنما قال في الحسنات كسبت وفي الشرّ اكتسبت، لأنّ في الاكتساب ضرب من الاعتمال والمعالجة، حسبما تقتضيه صيغة افتعل فالسيئات فاعلها يتكلف مخالفة أمر الله، ويتعدّاه بخلاف الحسنات، فإنه فيها على الجادّة من غير تكلف أو لأنّ السيئات يجدّ في فعلها لميل النفس إليها، فجعلت لذلك مكتسبة، ولما لم يكن الإنسان في الحسنات كذلك: وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أي قولوا ذلك في دعائكم ويحتمل أن يكون ذلك من بقية حكاية قولهم كما حكى عنهم قولهم: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، والنسيان هنا هو ذهول القلب على الإنسان، والخطأ غير العمد فذلك معنى قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» «٢» وقد كان يجوز أن يأخذ به لولا أنّ الله رفعه وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً التكاليف الصعبة، وقد كانت لمن تقدّم من الأمم كقتل أنفسهم، وقرض أبدانهم، ورفعت عن هذه الأمة. قال تعالى: ويضع عنهم إصرهم. وقيل الإصر المسخ قردة وخنازير
(١). قرأ حمزة والكسائي: وكتابه بالافراد والباقون بالجمع. [.....]
(٢). قال المناوي في التيسير: رواه الطبراني عن ثوبان وهو حديث حسن وقيل بضعفه ولكنه يتقوى بكثرة شواهده.
142
وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ هذا الدعاء دليل على جواز تكليف ما لا يطاق لأنه لا يدعى برفع ما لا يجوز أن يقع. ثم إنّ الشرع دفع وقوعه. وتحقيق ذلك أنّ ما لا يطاق. أربعة أنواع:
الأوّل: عقلي محض: كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن. فهذا جائز وواقع بالاتفاق. والثاني: عاديّ كالطيران في الهواء. والثالث: عقلي وعادي: كالجمع بين الضدّين، فهذان وقع الخلاف في جواز التكليف بهما، والاتفاق على عدم وقوعه، والرابع تكليف ما يشق ويصعب، فهذا جائز اتفاقا، فقد كلفه الله من تقدّم من الأمم، ورفعه عن هذه الأمّة وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ألفاظ متقاربة المعنى وبينها من الفرق أنّ العفو ترك المؤاخذة بالذنب، والمغفرة تقتضي مع ذلك الستر، والرحمة تجمع ذلك مع التفضل بالإنعام مَوْلانا ولينا وسيدنا.
143
Icon